المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أشرطة الساعة: قَوْلُهُ: "وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ: مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَنُزُولِ عِيسَى - شرح العقيدة الطحاوية - بتخريج الألباني

[ابن أبي العز - ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الناشر [[

- ‌ترجمة ابن أبي العز الحنفي:

- ‌ترجمة الإمام الطحاوي "صاحب العقيدة

- ‌مقدمة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني:

- ‌مقدمة الشارح:

- ‌وجوب الإيمان بما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إيمانا عاما مجملا على كل أحد:

- ‌التعريف بالإمام أبي جعفر الطحاوي:

- ‌التوحيد ومعناه:

- ‌أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل:

- ‌المراتب الثلاثة التي لا بد منها في كل خطاب

- ‌الفرق بين الإرادة الدينية والإرادة الكونية:

- ‌وجوب الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته:

- ‌القرآن كلام الله تعالى:

- ‌رؤية الله تعالى لأهل الجنة والرد على المخالفين

- ‌تأويل المعتزلة نصوص الكتاب والسنة تحريف للكلام عن موضعه:

- ‌معنى التأويل في كلام السنة:

- ‌الحوض الذي أكرم الله به رسوله صلى الله عليه وسلم:

- ‌الميثاق الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ:

- ‌أسباب الخير ثلاثة "الإيجاد والإعداد والإمداد

- ‌الإيمان باللوح والقلم:

- ‌العرش والكرسي حق:

- ‌وجوب الإيمان بالملائكة والنبين والكتب المنزلة:

- ‌أهل القبلة مسلمون مؤمنون:

- ‌تعريف الإيمان واختلاف الناس فيه:

- ‌الإيمان بالقدر خيره وشره

- ‌الحج وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إلى قيام الساعة

- ‌الإيمان بعذاب القبر ونعيمه

- ‌الإيمان بالبعث والجزاء والآيات الدالة على معاد البدن عند القيامة الكبرى

- ‌العرض والحساب:

- ‌أفعال العباد خلق لله وكسب من العباد:

- ‌في دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات:

- ‌نحب أصحاب رسول الله من غير افراط:

- ‌ نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ

- ‌أشرطة الساعة:

- ‌يجب رد جميع الأمور المتنازع فيها إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌أنواع الاختلاف

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ ‌أشرطة الساعة: قَوْلُهُ: "وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ: مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَنُزُولِ عِيسَى

‌أشرطة الساعة:

قَوْلُهُ: "وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ: مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام مِنَ السَّمَاءِ، وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الْأَرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَا".

ش: عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ [تَبُوكَ]، وَهُوَ فِي قُبَّةٍ [مِنْ] أَدَمٍ، فَقَالَ:"اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانِ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا"1. وَرُوِيَ "رَايَةً"، بِالرَّاءِ وَالْغَيْنِ، وَهُمَا بِمَعْنًى. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا وَنَحْنُ نتذاكر الساعة، فقال:"ما تذاكرون؟ " قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، فَقَالَ:"إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حتى ترون [قبلها] عشر آيات"، [فذكر]:"الدُّخَانُ، وَالدَّجَّالُ، وَالدَّابَّةُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، ونزول عيسى بن مَرْيَمَ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمُشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ"2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إن اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى 3، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ" 4. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَأَنْذَرَ قَوْمَهُ الْأَعْوَرَ الدَّجَّالَ، أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَمَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَ فَ رَ" 5، فَسَّرَهُ فِي رِوَايَةٍ:"أَيْ كَافِرٌ". وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الجزية 6، ويفيض المال

1 صحيح، وهو مخرج في "فضائل الشام""ص23" و"ص62، الطبعة الرابعة" طبع المكتب الإسلامي.

2 صحيح مسلم "8/ 179" وأحمد أيضا "4/ 6 - 7".

3 قلت: في بعض الأحاديث: أنه أعور العين اليسرى، لكن حديث ابن عمر هذا أرجح لاتفاق الشيخين عليه كما قال الحافظ ابن حجر، وأشار إليه ابن عبد البر، على أن بعضهم حاول الجمع بما تراه مبسوطا في "الفتح""13/ 97"، فليراجعه من شاء.

4 صحيح، و"طافية" أي بارزة.

5 صحيح، رواه الترمذي "2/ 39" وقال:"حديث حسن صحيح". قلت: وهو على شرط الشيخين، ثم رأيته في "البخاري""7131" و"مسلم""8/ 195".

6 قال عفيفي: انظر أنواع الفراسة في ص482 - 495 ج2 من "مدارج السالكين".

ص: 500

حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"1. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 159] ، وَأَحَادِيثُ الدَّجَّالِ، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام، يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَيَقْتُلُهُ، وَيَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فِي أَيَّامِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ الدَّجَّالَ، فَيُهْلِكُهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ في ليلة واحدة ببركة دعائه عليهم: ويضيق هَذَا الْمُخْتَصَرُ عَنْ بَسْطِهَا.

وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّابَّةِ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النَّمْلِ: 82]. وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [الْأَنْعَامِ: 158] ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنُ [مَنْ] عَلَيْهَا، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ"2. وَرَوَى

1 صحيح ورواه مسلم أيضا "1/ 93 - 94"، وهو مخرج في "الصحيحة" برقم "2457"، واعلم أن أحاديث الدجال ونزول عيسى عليه السلام متواترة يجب الإيمان بها، ولا تغتر بمن يدعى فيها أنها أحاديث آحاد، فإنهم جهال بهذا العلم، وليس فيهم من تتبع طرقها ولو فعل لوجدها، متواترة كما شهد بذلك أئمة هذا العلم كالحافظ ابن حجر وغيره، ومن المؤسف حقا أن يتجرأ البعض على الكلام فيما ليس من اختصاصهم، لا سيما والأمر دين وعقيدة!

وإن من هؤلاء أخيرا المدعو عز الدين بليق في كتابه "موازين القرآن والسنة" الذي زعم فيه تقليدا لغيره ممن لا معرفة عنده بهذا العلم: "أن روايات نزول عيسى بعد الدجال إنما هي من رواية وهب بن منبه وكعب الأحبار" وهذا اختلاق محض، فلا وجود لهما في شيء منها مطلقا، وقد كنت قديما خرجت نحو أربعين حديثا ليس لهما فيها ذكر!

2 صحيح، ورواه مسلم أيضا "1/ 95" بلفظ: "فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ لا ينفع

" ، وهو رواية للبخاري بنحوه، وله عندهما شاهد من حديث أبي ذر.

ص: 501

مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا"1. أَيْ أَوَّلُ الْآيَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مَأْلُوفَةً، وَإِنْ كَانَ الدَّجَّالُ وَنُزُولُ عِيسَى عليه السلام مِنَ السَّمَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، كُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ مَأْلُوفَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ، مُشَاهَدَةُ مِثْلِهِمْ مَأْلُوفَةٌ، وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّابَّةِ بِشَكْلٍ غَرِيبٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ، ثُمَّ مُخَاطَبَتُهَا النَّاسَ وَوَسْمُهَا إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ أَوِ الْكُفْرِ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ، وَذَلِكَ أَوَّلُ الْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ، كَمَا أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، عَلَى خِلَافِ عَادَتِهَا الْمَأْلُوفَةِ، أَوَّلُ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ، وَقَدْ أَفْرَدَ النَّاسُ [في] أحاديث أشراط الساعة مُصَنَّفَاتٍ مَشْهُورَةٍ، يَضِيقُ عَلَى بَسْطِهَا هَذَا الْمُخْتَصَرُ.

قَوْلُهُ: "وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافًا، وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ".

ش: رَوَى مُسْلِمٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ أَتَى عرافا فسأله عن شيء، لم يقبل لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً"2. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ"، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ" 3. وَالْمُنَجِّمُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْعَرَّافِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حال السائل، فكيف بالمسئول؟ وفي "الصحيحين" و"مسند الْإِمَامِ أَحْمَدَ"، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكُهَّانِ؟ فَقَالَ: "لَيْسُوا بِشَيْءٍ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الكلمة من الحق يخطفها

1 صحيح مسلم "8/ 202".

2 صحيح، وهو مخرج في "غاية المرام""284".

3 صحيح، وهو مخرج في "آداب الزفاف" ص31 "الطبعة 3" و"غاية المرام""285".

ص: 502

الجني فيقرها في أذن وليه، فيخلطون فيها [أَكْثَرَ مِنْ] مِائَةِ كِذْبَةٍ"1. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ"2. وَحُلْوَانُهُ: الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ حَلَاوَتَهُ. وَيَدْخُلُ في هذا المعنى ما تعاطاه الْمُنَجِّمُ وَصَاحِبُ الْأَزْلَامِ الَّتِي يُسْتَقْسَمُ بِهَا، مِثْلَ الْخَشَبَةِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا "اب ج د" وَالضَّارِبُ بِالْحَصَى، وَالَّذِي يَخُطُّ فِي الرَّمْلِ، وَمَا تَعَاطَاهُ هَؤُلَاءِ حَرَامٌ، وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَالْبَغَوِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِمَا.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ زَيْدِ بْنِ خالد، قال: خطبنا رسول صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ:"أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال:" [قَالَ]: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، [وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بي، مؤمن بالكوكب] "3. وفي "صحيح مسلم" و"مسند الْإِمَامِ أَحْمَدَ"، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ" 4. وَالنُّصُوصُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ، بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَتَّسِعَ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهَا، وَصِنَاعَةُ التَّنْجِيمِ، الَّتِي مَضْمُونُهَا الْإِحْكَامُ وَالتَّأْثِيرُ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ بِالْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ أو التمريح بين القرى الفلكية والفوايل الْأَرْضِيَّةِ: صِنَاعَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ تَعَالَى:

1 صحيح، وهو في "المسند""6/ 87".

2 صحيح أخرجه مسلم من حديث رافع بن خديج دون الجملة الرابعة، وهي في "الصحيحين" من حديث أبي مسعود البدري مرفوعا بلفظ "نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن".

3 صحيح.

4 صحيح، وهو مخرج في "أحكام الجنائز""ص27" و"الأحاديث الصحيحة""734".

ص: 503

{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]، وَقَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النِّسَاءِ: 51]. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ: الْجِبْتُ السِّحْرُ1. وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ"، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ، فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: تَدْرِي مِمَّ هَذَا؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي، فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ2.

وَالْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَكُلِّ قَادِرٍ أَنْ يَسْعَى فِي إِزَالَةِ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ وَالْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ وَأَصْحَابِ الضرب بالرمل والحصى والقرع والقالات3، وَمِنْعِهِمْ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الْحَوَانِيتِ وَالطُّرُقَاتِ، أَوْ يَدْخُلُوا عَلَى النَّاسِ فِي مَنَازِلِهِمْ لِذَلِكَ، وَيَكْفِي مَنْ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَلَا يَسْعَى فِي إِزَالَتِهِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُهُ تَعَالَى:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الْمَائِدَةِ: 79]. وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينُ يَقُولُونَ الْإِثْمَ وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ، بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَثَبَتَ فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرِوَايَةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ4، أَنَّهُ قَالَ:"إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ"5.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْخَارِجَةَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَنْوَاعٌ: نَوْعٌ مِنْهُمْ: أَهْلُ تَلْبِيسٍ وَكَذِبٍ وَخِدَاعٍ، الَّذِينَ يُظْهِرُ أَحَدُهُمْ طَاعَةَ الْجِنِّ لَهُ، أَوْ يَدَّعِي الْحَالَ مِنْ أَهْلِ الْمُحَالِ، مِنَ المشايخ النصابين، والفقراء الكاذبين، وَالطُّرُقِيَّةِ الْمَكَّارِينَ، فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّلْبِيسِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ، كَمَنْ يَدَّعِي النبوة بمثل هذه

1 في الأصل: السحرة، وكلاهما مستقيم.

2 صحيح، وهو في "مناقب الأنصار""3842" مع شيء من الاختصار.

3 في الأصل: الفالات أو الغالات.

4 قال عفيفي: انظر ص422 ج2 من "مجموع الفتاوى" لابن تيمية.

5 صحيح، وهو مخرج في المشكاة" "5142".

ص: 504

الْخُزَعْبَلَاتِ، أَوْ يَطْلُبُ تَغْيِيرَ شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَنَوْعٌ يَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ وَالْحَقِيقَةِ، بِأَنْوَاعِ السِّحْرِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يُوجِبُونَ قَتْلَ السَّاحِرِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الصَّحَابَةِ، كَعُمَرَ وَابْنِهِ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ: هَلْ يُسْتَتَابُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُكَفَّرُ بِالسِّحْرِ؟ أَمْ يُقْتَلُ لسعيه في الأرض بالفساد؟ وقالت طائفة: إن قتل بالسحر يقتل، وَإِلَّا عُوقِبَ بِدُونِ الْقَتْلِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ كُفْرٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.

وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ: وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي مَوْتِ الْمَسْحُورِ وَمَرَضِهِ مِنْ غَيْرِ وُصُولِ شَيْءٍ ظَاهِرٍ إِلَيْهِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ، وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ دَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ خِطَابِهَا، أَوِ السُّجُودِ لَهَا، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهَا بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ اللِّبَاسِ وَالْخَوَاتِمِ وَالْبَخُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الشِّرْكِ، فَيَجِبُ غَلْقُهُ، بَلْ سَدُّهُ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَلِهَذَا قَالَ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصَّافَّاتِ: 88، 89]. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الْأَنْعَامِ: 76] الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الْأَنْعَامِ: 82]. وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كُلَّ رُقْيَةٍ وَتَعْزِيمٍ أَوْ قَسَمٍ، فِيهِ شِرْكٌ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِهِ، وَإِنْ أَطَاعَتْهُ بِهِ الْجِنُّ أَوْ غَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ كُلُّ كَلَامٍ فِيهِ كُفْرٌ لَا يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ لَا يُتَكَلَّمُ بِهِ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شِرْكٌ لَا يُعْرَفُ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا"1. وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِعَاذَةُ بِالْجِنِّ، فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الْجِنِّ: 6]. قَالُوا: كَانَ الْإِنْسِيُّ إِذَا نَزَلَ بِالْوَادِي يَقُولُ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ، فَيَبِيتُ فِي أَمْنٍ وجوار حتى يصبح، {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]، يعني الإنس للجن،

1 مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي.

ص: 505

بِاسْتِعَاذَتِهِمْ بِهِمْ، رَهَقًا، أَيْ إِثْمًا وَطُغْيَانًا وَجَرَاءَةً وَشَرًّا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ سُدْنَا الْجِنَّ، وَالْإِنْسَ! فَالْجِنُّ تَعَاظَمُ فِي أَنْفُسِهَا وَتَزْدَادُ كُفْرًا إِذَا عَامَلَتْهَا الْإِنْسُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سَبَأٍ: 40، 41]. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُخَاطِبُونَهُمْ بِهَذِهِ الْعَزَائِمِ، وَأَنَّهَا تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ ضَالُّونَ، وَإِنَّمَا تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ، وقد قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الْأَنْعَامِ: 128]. فَاسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِيُّ بِالْجِنِّيِّ: فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَإِخْبَارِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ: تَعْظِيمُهُ إِيَّاهُ، وَاسْتِعَانَتُهُ بِهِ، وَاسْتِغَاثَتُهُ وَخُضُوعُهُ لَهُ.

ونوع منهم بالأحوال الشيطانية، والكشوف ومخاطبته رِجَالِ الْغَيْبِ، وَأَنَّ لَهُمْ خَوَارِقَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ! وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُعِينُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ! وَيَقُولُ: إِنَّ الرَّسُولَ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَصَوْا! وَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ إِخْوَانُ الْمُشْرِكِينَ. وَالنَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِمْ [عَلَى] ثَلَاثَةِ أَحْزَابٍ: حِزْبٌ يُكَذِّبُونَ بِوُجُودِ رِجَالِ الْغَيْبِ، وَلَكِنْ قَدْ عَايَنَهُمُ [النَّاسُ]، [وَثَبَتَ عَمَّنْ عَايَنَهُمْ] أَوْ حَدَّثَهُ الثِّقَاتُ بِمَا رَأَوْهُ، وَهَؤُلَاءِ إِذَا رَأَوْهُمْ وَتَيَقَّنُوا وُجُودَهُمْ خَضَعُوا لَهُمْ، وَحِزْبٌ عَرَفُوهُمْ، وَرَجَعُوا إِلَى الْقَدَرِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ثَمَّ فِي الْبَاطِنِ طَرِيقًا إِلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ! وَحِزْبٌ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا وَلِيًّا خَارِجًا عَنْ دَائِرَةِ الرَّسُولِ، فَقَالُوا: يَكُونُ الرَّسُولُ هُوَ مُمِدًّا لِلطَّائِفَتَيْنِ، فَهَؤُلَاءِ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ جَاهِلُونَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَالْحَقُّ: أَنَّ هَؤُلَاءِ [مِنْ] أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ هُمُ الْجِنُّ، وَيُسَمَّوْنَ رِجَالًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الْجِنِّ: 6]. وَإِلَّا فَالْإِنْسُ يُؤْنَسُونَ، أَيْ يُشْهَدُونَ وَيُرَوْنَ، وَإِنَّمَا يَحْتَجِبُ الْإِنْسِيُّ أَحْيَانًا، لَا يَكُونُ دَائِمًا مُحْتَجِبًا عَنْ أبصار الإنس، ومن ظنهم أَنَّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ فَمِنْ غَلَطِهِ وَجَهْلِهِ، وَسَبَبُ الضلال

ص: 506

فِيهِمْ، وَافْتِرَاقِ هَذِهِ الْأَحْزَابِ الثَّلَاثَةِ، عَدَمُ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ. وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: الْفُقَرَاءُ يُسَلَّمُ إِلَيْهِمْ حَالُهُمْ! وَهَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ، بَلِ الْوَاجِبُ عَرْضُ أَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَمَا وَافَقَهَا قُبِلَ! وَمَا خَالَفَهَا رُدَّ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"1. وَفِي رِوَايَةٍ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ". فَلَا طَرِيقَةَ إِلَّا طَرِيقَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا حَقِيقَةَ إِلَّا حَقِيقَتُهُ، وَلَا شَرِيعَةَ إِلَّا شَرِيعَتُهُ، وَلَا عَقِيدَةَ إِلَّا عَقِيدَتُهُ، وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ [مِنَ الْخَلْقِ بَعْدَهُ] إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ إِلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُصَدِّقًا فِيمَا أَخْبَرَ، مُلْتَزِمًا لِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ، فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ، وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْأَبَدَانِ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْفَقَ من الغيب، وأخرج الذهب من الخشب2، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ مَاذَا عَسَى أَنْ يَحْصُلَ!! فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ، مَعَ تَرْكِهِ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ وَعَزْلِ الْمَحْظُورِ، إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، الْمُبْعِدَةِ لِصَاحِبِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، الْمُقَرِّبَةِ إِلَى سُخْطِهِ وَعَذَابِهِ، لَكِنْ مَنْ لَيْسَ يُكَلَّفُ مِنَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ، قَدْ رُفِعَ عَنْهُمُ الْقَلَمُ، فَلَا يُعَاقَبُونَ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْإِقْرَارِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَا يَكُونُونَ بِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ، وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ، لَكِنْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطُّورِ: 21].

فَمَنِ اعْتَقَدَ فِي بَعْضِ البُله أَوِ الْمُولَعِينَ3، مَعَ تَرْكِهِ لِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى مُتَّبِعِي طَرِيقَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ، مُخْطِئٌ فِي اعْتِقَادِهِ، فَإِنَّ ذَاكَ الْأَبْلَهَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ شيطانا زنديقا، أو

1 صحيح، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو مخرج في "الإرواء""88"، و"غاية المرام""5" ورواه ابن أبي عاصم في "السنة""52 و53".

2 في الأصل: الجيب.

3 في الأصل: المؤلفين.

ص: 507

زُوكاريا1 مُتَحَيِّلًا، أَوْ مَجْنُونًا مَعْذُورًا! فَكَيْفَ يُفَضَّلُ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، الْمُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ؟! أَوْ يُسَاوَى بِهِ؟! وَلَا يُقَالُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُتَّبِعًا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ تَارِكًا لِلِاتِّبَاعِ فِي الظَّاهِرِ؟ فَإِنَّ هَذَا خَطَأٌ أَيْضًا، بَلِ الْوَاجِبُ مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قَالَ يُونُسُ2 بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ: قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: إِنَّ صَاحِبَنَا اللَّيْثَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يمشي على الماء فلا تغتروا3 بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَصَّرَ اللَّيْثُ رحمه الله، بَلْ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَيَطِيرُ في الهواء، فلا تغتروا4 به حتى تعرضوا أمره على الكتاب.

وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "اطلعت على أهل الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْبُلْهَ"4، فَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي

1 قال الشيخ أحمد شاكر: هذه لفظة مولدة. وفي "شرح القاموس" 3: 240. الزواكرة. من يتلبس فيظهر النسك والعبادة، ويبطن الفسق والفساد"، نقله المقري في "نفح الطيب".

2 في الأصل: ويس، وفي المطبوعة، موسى، والصواب ما أثبتناه لما في تفسير ابن كثير ج1 ص78.

3 في الأصل: تعتبروا، وما أثبتناه أصح وأقوم وموافق لما في ابن كثير.

4 ضعيف، رواه أبو بكر الكلاباذي في "مفتاح المعاني""ق 275/ 1" وابن عساكر "12/ 345/ 2"، وقال:"قال ابن شاهين تفرد به مصعب بن ماهان" قلت: وهو صدوق كثير الخطأ، كما في "التقريب" قلت: لكن في الطريق إليه أحمد بن عيسى الخشاب، قال ابن عدي: له مناكير، ثم ساق له هذا الحديث وقال: فهذا باطل بهذا السند، ثم رواه ابن عدي "ق 166/ 2" وغيره من حديث أنس بن مالك مرفوعا:"أكثر أهل الجنة البله" وقال: "منكر بهذا الإسناد، لم يروه غير سلامة بن روح" قلت: وهو ضعيف لسوء حفظه، وتابعه سفيان بن عيينة عند أبي موسى المديني في "اللطائف" "ق 75/ 1" ولكنه قال:"حديث غريب جدا من حديث ابن عيينة عن الزهري، وإنما يعرف هذا من رواية سلامة بن روح".

وروي مرسلا من وجهين: الأول عن محمد بن المنكدر، فقال المعافى بن عمران في "الزهد" "ق 249/ 1": حدثنا محمد بن أبي حميد المدني عن محمد بن المنكدر مرفوعا به: والمدني هذا ضعيف كما في "التقريب". والآخر عن عمر بن عبد العزيز مرسلا مرفوعا به =

ص: 508

نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ إِنَّمَا خُلِقَتْ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ أَرْشَدَتْهُمْ عُقُولُهُمْ وَأَلْبَابُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَوْصَافِهِمْ فِي كِتَابِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَوْصَافِهِمُ الْبَلَهَ، الَّذِي هُوَ ضَعْفُ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ"1. وَلَمْ يَقُلِ الْبُلْهَ!

وَالطَّائِفَةُ الْمُلَامِيَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُلَامُونَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ نَحْنُ مُتَّبِعُونَ فِي الْبَاطِنِ، وَيَقْصِدُونَ إِخْفَاءَ الْمُرَائِينَ! رَدُّوا بَاطِلَهُمْ بِبَاطِلٍ آخَرَ!! وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يُصْعَقُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَنْغَامِ الْحَسَنَةِ، مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ! وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَدْعِيَ مَا يَكُونُ سَبَبَ زَوَالِ عَقْلِهِ! وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَوْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، بَلْ كَانُوا كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى:{إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الْأَنْفَالِ: 2]. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].

= وزاد: وأعلى عليين لأولى الألباب". رواه عبد الوهاب الكلابي في "حديثه" "ق 176/ 2" بسنده عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه، وعبد العزيز صدوق يخطئ كما في "التقريب" وفيه من لم أجد من ترجمه، وفي هذه الرواية رد على من قال إن هذه الزيادة لم يوجد لها أصل وأنها مدرجة من كلام أحمد بن أبي الحواري، فإن أحمد هذا ليس له ذكر في هذه الرواية، وإنما أطلت الكلام على هذا الحديث لأني رأيت الشيخ أحمد شاكر رحمه الله علق عليه بقوله: "ومجموع ما قيل فيه: إنه لا أصل له"! ولا أعلم أحدا من العلماء أطلق هذا القول على الحديث، وإنما قال ذلك بعضهم في الزيادة المذكورة كما تقدم وإذا كان مردودا فيها، فرده عن أصل الحديث أولى وأحرى، ولا يجوز في اصطلاح المحدثين أن يقال في حديث له سند واحد أو أكثر ولو كان ضعيفا: لا أصل له. فليعلم ذلك.

1 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس، والبخاري عن عمران، وهما مخرجان في "الضعيفة""2800" تحت حديث آخر وقع فيه زيادة منكرة.

ص: 509

وَأَمَّا الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْعُلَمَاءُ بِخَيْرٍ مِنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينَ، فَأُولَئِكَ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ، ثُمَّ زَالَتْ عُقُولُهُمْ، وَمِنْ عَلَامَةِ هَؤُلَاءِ، أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ فِي جُنُونِهِمْ نَوْعٌ مِنَ الصَّحْوِ، تَكَلَّمُوا بِمَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، [[وَيَهْذُونَ]] (*) بِذَلِكَ في حال زوال عقلهم. بخلاف [[غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَكَلَّمَ إِذَا حَصَلَ لَهُمْ نَوْعُ إِفَاقَةٍ بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَيَهْذُونَ بِذَلِكَ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِمْ. وَ]] (**) من كَانَ قَبْلَ جُنُونِهِ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا، لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ جُنُونِهِ مُزِيلًا لِمَا ثَبَتَ مِنْ كُفْرِهِ أَوْ فِسْقِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، يَكُونُ مَحْشُورًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَزَوَالُ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ أَوْ غَيْرِهِ، "سَوَاءٌ" سُمِّيَ صَاحِبُهُ مُولَعًا أَوْ مُتَوَلِّهًا لَا يُوجِبُ مَزِيدَ حال، [بل] حَالِ صَاحِبِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، لَا أَنَّهُ يَزِيدُهُ أَوْ يَنْقُصُهُ، وَلَكِنَّ جُنُونَهُ يَحْرِمُهُ الزِّيَادَةَ مِنَ الْخَيْرِ، كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الشَّرِّ، وَلَا يَمْحُو عَنْهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَهُ.

وَمَا يَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَنْغَامِ الْمُطْرِبَةِ، مِنَ الْهَذَيَانِ، وَالتَّكَلُّمِ لِبَعْضِ اللُّغَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلِسَانِهِ الْمَعْرُوفِ مِنْهُ!! فَذَلِكَ شَيْطَانٌ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ، كَمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ! وَكَيْفَ يَكُونُ زَوَالُ الْعَقْلِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ تَقَرُّبًا إِلَى وِلَايَةِ اللَّهِ، كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ؟! حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:

هُمْ مَعْشَرٌ حَلُّوا النِّظَامَ وَخَرَّقُوا الـ

ـسِّيَاجَ فَلَا فَرْضٌ لَدَيْهِمْ وَلَا نَفْلُ

مَجَانِينُ إِلَّا أَنَّ سِرَّ جُنُونَهُمْ

عَزِيزٌ عَلَى أَبْوَابِهِ يَسْجُدُ الْعَقْلُ

وَهَذَا كلام ضال، بل كافر، يظن أن "في" الجنون سِرًّا يَسْجُدُ الْعَقْلُ عَلَى بَابِهِ!! لِمَا رَآهُ مِنْ بَعْضِ الْمَجَانِينِ مِنْ نَوْعِ مُكَاشَفَةٍ، أَوْ تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك سبب مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، كَمَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ! فَيَظُنُّ هَذَا الضَّالُّ أَنَّ كُلَّ من خبل أَوْ خَرَقَ عَادَةً1 كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ!! وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ: 221، 222]. فَكُلُّ مَنْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عنده كذب وفجور.

1 في الأصل: كاشف أو خرق العادة.

(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: كان في الأصل (ويهتدون) وأثبتنا ما في مطبوعة وزارة الأوقاف السعودية، لأنه أقرب للصواب، والله أعلم

(**) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين المزدوجين ساقط من الأصل، وأثبته من مطبوعة وزارة الأوقاف السعودية

ص: 510

وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ بِالرِّيَاضَاتِ وَالْخَلَوَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الْجُمَعَ وَالْجَمَاعَاتِ، فَهُمُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، قَدْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ"1. وَكُلُّ مَنْ عَدَلَ عَنِ اتِّبَاعِ سُنَّةِ الرَّسُولِ، إِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا فَهُوَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ ضَالٌّ، وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ لَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رَفِيقًا، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.

وَأَمَّا من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليه السلام، فِي تَجْوِيزِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْوَحْيِ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، الَّذِي يَدَّعِيهِ بَعْضُ مَنْ عَدِمَ التَّوْفِيقَ، فَهُوَ مُلْحِدٌ زِنْدِيقٌ. فَإِنَّ مُوسَى عليه السلام لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إِلَى الْخَضِرِ، وَلَمْ يَكُنِ الْخَضِرُ مَأْمُورًا بِمُتَابَعَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: أَنْتَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ2، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ3 لَكَانَا مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَإِذَا نَزَلَ عِيسَى عليه السلام إِلَى الْأَرْضِ، إِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَالْخَضِرِ مَعَ مُوسَى، أَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ، فَلْيُجَدِّدْ إِسْلَامَهُ، وَلْيَشْهَدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ مُفَارِقٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مُفَرِّقٌ بَيْنَ زنادقة القوم وأهل

1 صحيح، لكنه لم يروه أحد من أهل "الصحيح" والمراد به البخاري أو مسلم، خلافا لما أفاده الشارح وإنما رواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم وصححه الحاكم على شرط مسلم، فوهم، وسنده حسن، وله شواهد في "الترغيب" وغيره.

2 هو قطعة من حديث الخضر مع موسى عليهما السلام، رواه البخاري في مواضع من "صحيحه" منها "الأنبياء".

3 كذا الأصل، وكأنه يشير إلى الحديث الذي ذكره شيخه ابن كثير في تفسير سورة "الكهف" بلفظ:"لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي". وهو حديث محفوظ، دون ذكر عيسى فيه، فإنه منكر عندي لم أره في شيء من طرقه، وهي مخرجة في "الإرواء""1589".

ص: 511

الاستقامة، وحرك تَرَ. وَكَذَا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْكَعْبَةَ تَطُوفُ بِرِجَالٍ مِنْهُمْ حَيْثُ كَانُوا!! فَهَلَّا خَرَجَتِ الْكَعْبَةُ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ فَطَافَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُحْصِرَ عَنْهَا، وَهُوَ يَوَدُّ مِنْهَا نَظْرَةً؟! وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ شَبَهٌ بِالَّذِينِ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ:{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [الْمُدَّثِّرِ: 52]، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

[قَوْلُهُ]: "وَنَرَى الْجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَابًا، وَالْفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا".

ش: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 103]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمُ} [آلِ عِمْرَانَ: 105]. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الْأَنْعَامِ: 159]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هُودٍ: 119]. فَجَعَلَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ مُسْتَثْنَيْنَ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الْبَقَرَةِ: 176]. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً -يَعْنِي الْأَهْوَاءَ- كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ"1. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي" ، فَبَيَّنَ أَنَّ عَامَّةَ الْمُخْتَلِفِينَ هَالِكُونَ إِلَّا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ [الشَّيْطَانَ] ذِئْبُ الْإِنْسَانِ، كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية، [والناحية]، فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَالْعَامَّةِ، وَالْمَسْجِدِ" 2. وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال لما نزل

1 صحيح، رواه أبو داود وغيره، وقد مضى "ص260"، وأما الرواية التي بعدها ففيها ضعف كما تقدم هناك.

2 صحيح الإسناد، وأقول الآن: كلا، ولا أدري كيف وقع هذا، فالسند ضعيف كما هو مبين في "تخريج المشكاة""184" ثم في الأحاديث "الضعيفة""3016" و"ضعيف الجامع الصغير""1477".

ص: 512