المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته: - شرح العقيدة الطحاوية - بتخريج الألباني

[ابن أبي العز - ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الناشر [[

- ‌ترجمة ابن أبي العز الحنفي:

- ‌ترجمة الإمام الطحاوي "صاحب العقيدة

- ‌مقدمة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني:

- ‌مقدمة الشارح:

- ‌وجوب الإيمان بما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إيمانا عاما مجملا على كل أحد:

- ‌التعريف بالإمام أبي جعفر الطحاوي:

- ‌التوحيد ومعناه:

- ‌أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل:

- ‌المراتب الثلاثة التي لا بد منها في كل خطاب

- ‌الفرق بين الإرادة الدينية والإرادة الكونية:

- ‌وجوب الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته:

- ‌القرآن كلام الله تعالى:

- ‌رؤية الله تعالى لأهل الجنة والرد على المخالفين

- ‌تأويل المعتزلة نصوص الكتاب والسنة تحريف للكلام عن موضعه:

- ‌معنى التأويل في كلام السنة:

- ‌الحوض الذي أكرم الله به رسوله صلى الله عليه وسلم:

- ‌الميثاق الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ:

- ‌أسباب الخير ثلاثة "الإيجاد والإعداد والإمداد

- ‌الإيمان باللوح والقلم:

- ‌العرش والكرسي حق:

- ‌وجوب الإيمان بالملائكة والنبين والكتب المنزلة:

- ‌أهل القبلة مسلمون مؤمنون:

- ‌تعريف الإيمان واختلاف الناس فيه:

- ‌الإيمان بالقدر خيره وشره

- ‌الحج وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إلى قيام الساعة

- ‌الإيمان بعذاب القبر ونعيمه

- ‌الإيمان بالبعث والجزاء والآيات الدالة على معاد البدن عند القيامة الكبرى

- ‌العرض والحساب:

- ‌أفعال العباد خلق لله وكسب من العباد:

- ‌في دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات:

- ‌نحب أصحاب رسول الله من غير افراط:

- ‌ نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ

- ‌أشرطة الساعة:

- ‌يجب رد جميع الأمور المتنازع فيها إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌أنواع الاختلاف

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته:

‌الميثاق الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ:

قَوْلُهُ: "وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ".

ش: قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 172]. أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي أَخْذِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عليه السلام، وَتَمْيِيزِهِمْ إِلَى أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَإِلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ، وَفِي بَعْضِهَا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ:

فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن اللَّهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عليه السلام بنعمان يوم عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا، قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، شَهِدْنَا

إِلَى قَوْلِهِ: الْمُبْطِلُونَ" 1. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ"، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِجَّاهُ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْهَا، فَقَالَ:"إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عليه السلام، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" [إِنَّ اللَّهَ عز وجل] إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلَ [بِهِ] الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَ بِهِ النَّارَ"2. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ".

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم

1 صحيح، لطرقه وشواهده وهو مخرج في "الصحيحة""1623".

2 صحيح لغيره، إلا مسح الظهر، فلم أجد له شاهدا "الضعيفة""3070".

ص: 240

مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ، قَالَ:[رَبِّ]، كَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا انْقَضَى عمر آدم، جاء ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ قَالَ: فَجَحَدَ! فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ، فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ"1. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا"2. وَأَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين أيضا.

وذكر أحاديث أخرى أَيْضًا كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهُ، وَمَيَّزَ بَيْنَ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْأَجْسَادِ3. وَهَذِهِ الْآثَارُ لَا تَدُلُّ عَلَى سَبْقِ الْأَرْوَاحِ الْأَجْسَادَ4 سَبْقًا مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا، وَغَايَتُهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى أن باريها وَفَاطِرَهَا سُبْحَانَهُ صَوَّرَ النَّسَمَةَ وَقَدَّرَ خَلْقَهَا وَأَجَلَهَا

1 صحيح، وجدت له أربعة طرق، بعضها عند ابن أبي عاصم في "السنة""204، 205 بتحقيقي طبع المكتب الإسلامي".

2 صحيح، متفق عليه، وهو في "المسند""3/ 127، 129" طبع المكتب الإسلامي.

3 قال عفيفي: انظر المسألة 18 من كتاب "الروح" لابن القيم، و"تفسير ابن كثير" عند قوله تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآيات من سورة الأعراف.

4 في الأصل: أو الأجساد.

ص: 241

وَعَمَلَهَا، وَاسْتَخْرَجَ تِلْكَ الصُّوَرَ مِنْ مَادَّتِهَا، ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَيْهَا، وَقَدَّرَ خُرُوجَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا خُلِقَتْ خَلْقًا مُسْتَقِرًّا وَاسْتَمَرَّتْ مَوْجُودَةً نَاطِقَةً كُلُّهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يُرْسِلُ مِنْهَا إِلَى الْأَبْدَانِ جُمْلَةً بَعْدَ جُمْلَةٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ. فَهَذَا لَا تَدُلُّ الْآثَارُ عَلَيْهِ. نَعَمِ، الرَّبُّ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مِنْهَا جُمْلَةً بَعْدَ جُمْلَةٍ، [كَمَا قَالَهُ] عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ بِهِ التَّقْدِيرُ1 أَوَّلًا، فَيَجِيءُ الْخَلْقُ الْخَارِجِيُّ مُطَابِقًا لِلتَّقْدِيرِ السَّابِقِ، كَشَأْنِهِ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَإِنَّهُ قَدَّرَ لَهَا أَقْدَارًا وَآجَالًا، وَصِفَاتٍ وهيآت، ثُمَّ أَبْرَزَهَا إِلَى الْوُجُودِ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ التَّقْدِيرِ السَّابِقِ. فَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْقَدَرِ السَّابِقِ، وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَخْرَجَ أَمْثَالَهُمْ وَصُوَرَهُمْ وَمَيَّزَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. وَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ، فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثَيْنِ مَوْقُوفَيْنِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهم. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِنَّمَا هُوَ فِطْرَتُهُمْ2 عَلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا تَقَدَّمَ [كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ] فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. وَمَعْنَى قَوْلِهِ "شَهِدْنَا": أَيْ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا أَنَّكَ رَبُّنَا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَشْهَدَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: "شَهِدْنَا" مِنْ قول الملائكة، [و] الوقف عَلَى قَوْلِهِ "بَلَى". وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا: هُوَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِ بَنِي آدَمَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَمَا عَدَاهُ احْتِمَالٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ ظَاهِرُ الْآيَةِ لِلْأَوَّلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ سِوَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ أَعَادَهُمْ، كَالثَّعْلَبِيِّ وَالْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ نَصَبَ لَهُمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَشَهِدَتْ بِهَا عُقُولُهُمْ وَبَصَائِرُهُمُ الَّتِي رَكَبَّهَا اللَّهُ فِيهِمْ، كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ، كَالْوَاحِدِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنْ نَسَبَ الرَّازِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالثَّانِيَ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَعْنِي أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّ الْأَخْذَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدم، وإنما ذكر الأخذ من

1 في الأصل: التدبير.

2 في الأصل: فطرهم.

ص: 242

ظَهْرِ آدَمَ وَالْإِشْهَادَ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَفِي بَعْضِهَا الْأَخْذُ وَالْقَضَاءُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَبَعْضَهُمْ إِلَى النَّارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَفِي بَعْضِهَا الأخذ وإراء آدَمَ إِيَّاهُمْ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا إِشْهَادٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالَّذِي فِيهِ الْإِشْهَادُ -عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَالَهَا أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ- مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصَّحِيحِ غَيْرَ الْحَاكِمِ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ عَلَى الصحيحين" والحاكم معروف التساهل رحمه الله.

وَالَّذِي فِيهِ الْقَضَاءُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَبَعْضَهُمْ إِلَى النَّارِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ. وَذَلِكَ شَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهِ الْقَدَرِيَّةُ الْمُبْطِلُونَ الْمُبْتَدِعُونَ.

وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَالنِّزَاعُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَوْلَا مَا الْتَزَمْتُهُ مِنَ الِاخْتِصَارِ لَبَسَطْتُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، وَمَا قِيلَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، وَمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ وَدَلَالَةِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْكِلَةٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهَا، فَنَذْكُرُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ، حَسَبَ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ. فَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِ بَنِي آدَمَ بَعْضَهُمْ مِنْ بعض، ومعنى {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]. دَلَّهُمْ عَلَى تَوْحِيدِهِ، لِأَنَّ كُلَّ بَالِغٍ يَعْلَمُ ضرورة أن له ربا واحدا [سبحانه وتعالى] قَالَ: فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ:{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ، ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَفَّالُ وَأَطْنَبَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ [سبحانه وتعالى] أَخْرَجَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَادِ، وَإِنَّهُ جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَا عَلِمَتْ بِهِ مَا خَاطَبَهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.

وَأَقْوَى مَا يَشْهَدُ لِصِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ! الَّذِي فِيهِ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أن تشرك بي1. ولكن قد روي

1 صحيح، وهو الذي قبله، والطريق الأخرى عند مسلم "8/ 134، 135" وكذا البخاري "4/ 239" ولا منافاة بينها وبين التي قبلها، لأن زيادة الثقة مقبولة، كما لا يخفى، وفي هذا الحديث زيادات أخرى وقد جمعتها في الحديث وخرجته في "سلسلة الأحاديث الصحيحة""رقم "172" ثم تبينت أن الطريق الأخرى ليست هي التي عند الشيخين، وإنما هي عند أحمد والحاكم بإسناد صحيح على شرط مسلم باللفظ الذي ذكره المؤلف حرفا بحرف، وهي في الصحيحة "3008".

ص: 243

مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ فَلَمْ تَفْعَلْ، فَيُرَدُّ إِلَى النَّارِ. وَلَيْسَ فِيهِ: فِي ظَهْرِ آدَمَ. وَلَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى إِخْرَاجُهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.

بَلِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مُتَضَمِّنٌ1 لِأَمْرَيْنِ عَجِيبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُ النَّاسِ تَكَلَّمُوا حِينَئِذٍ وَأَقَرُّوا بِالْإِيمَانِ وَأَنَّهُ بِهَذَا تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ آدَمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: مِنْ ظُهُورِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ ظَهْرِهِ، وَهَذَا بَدَلُ بَعْضٍ، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَهُوَ أَحْسَنُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: ذُرِّيَّاتِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ: ذُرِّيَّتَهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: "وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ"، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ ذَاكِرًا لِمَا شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَذْكُرُ شَهَادَتَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ -كَمَا تَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ- لَا يَذْكُرُ شَهَادَةً قَبْلَهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا الْإِشْهَادِ إِقَامَةٌ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ:{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} ، وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّسَاءِ: 165]. السَّادِسُ: تَذْكِيرُهُمْ بِذَلِكَ، لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ:{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 172]، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْإِخْرَاجِ لَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كُلِّهُمْ وَإِشْهَادِهِمْ جَمِيعًا ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَهَذَا لَا يَذْكُرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الْأَعْرَافِ: 173]، فَذَكَرَ حِكْمَتَيْنِ فِي هَذَا الْإِشْهَادِ2: لِئَلَّا يَدَّعُوا الْغَفْلَةَ، أَوْ يَدَّعُوا التَّقْلِيدَ، فَالْغَافِلُ لَا شُعُورَ لَهُ، وَالْمُقَلِّدُ مُتَّبِعٌ فِي تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ. وَلَا تَتَرَتَّبُ هَاتَانِ الْحِكْمَتَانِ إِلَّا عَلَى مَا قَامَتْ بِهِ الحجة من الرسل والفطرة. الثامن: قوله:

1 في الأصل: يتضمن.

2 في الأصل: الأخذ الإشهاد.

ص: 244

{أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173]، أي توعدهم1 بجحودهم وشركهم لما قالوا ذَلِكَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بِمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لُقْمَانَ: 25]، فَهَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي أَشْهَدَهُمْ2 عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَضْمُونِهَا، وَذَكَّرَتْهُمْ بِهَا رُسُلُهُ، بِقَوْلِهِمْ:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إِبْرَاهِيمَ: 10]. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا آيَةً، وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لمدلولها، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فَقَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الْأَعْرَافِ: 174]، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، فَمَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، لَا يُولَدُ مَوْلُودٌ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْفِطْرَةِ، هَذَا أَمْرٌ مفروغ منه، لا تبديل ولا تغيير. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ تَفَطَّنَ لِهَذَا ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنْ هَابُوا مُخَالَفَةَ [ظَاهِرِ] تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ أَعَادَهُمْ. وَكَذَلِكَ حَكَى الْقَوْلَيْنِ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَمَالَ إِلَيْهِ3.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالرُّبُوبِيَّةِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ، وَالشِّرْكَ حَادِثٌ طَارِئٌ، وَالْأَبْنَاءُ تَقَلَّدُوهُ4 عَنِ الْآبَاءِ، فَإِذَا احْتَجُّوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّ الْآبَاءَ أَشْرَكُوا وَنَحْنُ جَرَيْنَا عَلَى عَادَتِهِمْ كَمَا يَجْرِي النَّاسُ عَلَى عَادَةِ آبَائِهِمْ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَنْتُمْ كُنْتُمْ مُعْتَرِفِينَ5 بِالصَّانِعِ، مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ ربكم لا شريك له، وقد

1 في الأصل: لو عذبهم.

2 في الأصل: أشهد.

3 قال الشيخ عفيفي: انظر المسألة 18 من "الروح" لابن القيم.

4 في الأصل: يقلدون.

5 في الأصل: مقرون.

ص: 245

شَهِدْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّ شَهَادَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هِيَ إِقْرَارُهُ بِالشَّيْءِ لَيْسَ إِلَّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النِّسَاءِ: 135]. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِكَذَا، بَلْ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ، فَلِمَ عَدَلْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ الَّذِي شَهِدْتُمْ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَى الشِّرْكِ؟ بَلْ عَدَلْتُمْ عَنِ الْمَعْلُومِ الْمُتَيَقَّنِ إِلَى مَا لَا يُعْلَمُ لَهُ حَقِيقَةٌ، تَقْلِيدًا لِمَنْ لَا حُجَّةَ مَعَهُ، بِخِلَافِ اتِّبَاعِهِمْ فِي الْعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّ تِلْكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ مَا يُعْلَمُ بِهِ فَسَادُهَا، وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لَكُمْ، بِخِلَافِ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَهُ وَعُدُولَكُمْ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ.

فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الصَّبِيُّ عَنْ أَبَوَيْهِ هُوَ: دِينُ التَّرْبِيَةِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الطِّفْلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ كَافِلٍ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِهِ أَبَوَاهُ، وَلِهَذَا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّ الطِّفْلَ1 مَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى دِينِهِمَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا الدِّينُ لَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ -عَلَى الصَّحِيحِ- حَتَّى يَبْلُغَ وَيَعْقِلَ وَتَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَحِينَئِذٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ: دِينَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ بِعَقْلِهِ هُوَ أَنَّهُ دِينٌ صَحِيحٌ، فَإِنْ كَانَ آبَاؤُهُ مُهْتَدِينَ، كَيُوسُفَ الصِّدِّيقِ مَعَ آبَائِهِ، قَالَ:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يُوسُفَ: 38]، وَقَالَ لِيَعْقُوبَ بَنُوهُ:{نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [الْبَقَرَةِ: 133]، وَإِنْ كَانَ الْآبَاءُ مُخَالِفِينَ الرُّسُلَ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ الرُّسُلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8]، الآية2.

فَمَنِ اتَّبَعَ دِينَ آبَائِهِ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ، بَلْ يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ إِلَيْهِ، فَهَذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 110].

وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، يَتْبَعُ أَحَدُهُمْ أَبَاهُ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنِ اعْتِقَادٍ وَمَذْهَبٍ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَيْسَ هُوَ فِيهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، بَلْ هو

1 في الأصل: على.

2 وتمامها: {

إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

ص: 246

مِنْ مُسْلِمَةِ الدَّارِ، لَا مُسْلِمَةِ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ لَهُ فِي قَبْرِهِ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ.

فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ هَذَا الْمَحِلَّ، وَلْيَنْصَحْ نَفْسَهُ، وَلْيَقُمْ مَعَهُ، وَلْيَنْظُرْ مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ؟ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، فَإِنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، فَإِنَّهُ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطَرِ، وَأَقْرَبُ مَا يَنْظُرُ فِيهِ الْمَرْءُ1 أَمْرُ نَفْسِهِ لَمَّا كَانَ نُطْفَةً، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [وَالتَّرَائِبُ]: عِظَامُ الصَّدْرِ2، ثُمَّ صَارَتْ تِلْكَ النُّطْفَةُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، وَانْقَطَعَ عَنْهَا تَدْبِيرُ الْأَبَوَيْنِ وَسَائِرِ الْخَلَائِقِ، وَلَوْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى لَوْحٍ أَوْ طَبَقٍ، وَاجْتَمَعَ حُكَمَاءُ الْعَالَمِ عَلَى أَنْ يُصَوِّرُوا مِنْهَا شَيْئًا لَمْ يَقْدِرُوا، وَمُحَالٌ تَوَهُّمُ عَمَلِ الطَّبَائِعِ فِيهَا، لِأَنَّهَا مَوَاتٌ عَاجِزَةٌ، وَلَا تُوصَفُ بِحَيَاةٍ، وَلَنْ يَتَأَتَّى مِنَ الْمَوَاتِ فِعْلٌ وَتَدْبِيرٌ، فَإِذَا تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ وَانْتِقَالِ هَذِهِ النُّطْفَةِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، عَلِمَ بِذَلِكَ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، فَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّ لَهُ رَبًّا أَوْجَدَهُ، كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَهُ؟ وَكُلَّمَا تَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ ازْدَادَ يَقِينًا وَتَوْحِيدًا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ.

قَوْلُهُ: "وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النار، جملة واحدة، فلا يزداد فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ".

ش: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْأَنْفَالِ: 75]. {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 40]. فَاللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَزَلًا وَأَبَدًا، لَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمَهُ بِالْأَشْيَاءِ جهالة، وما كان ربك نسيا، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قال: كنا في جنازة في بقيع الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ رَأْسَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ:"مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً"، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العمل؟

1 في الأصل: من.

2 في الأصل: الصدور.

ص: 247

فَقَالَ: "مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ". ثُمَّ قَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ"، ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [اللَّيْلِ: 5 - 10] 1، خَرَّجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".

قَوْلُهُ: "وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ".

ش: تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"، وَعَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ، فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟ قَالَ:"لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ"، قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ زُهَيْرٌ: ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَسَأَلْتُ. مَا قَالَ؟ فَقَالَ:"اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ"2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" 3، خَرَّجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَزَادَ الْبُخَارِيُّ: "وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ". وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ

1 متفق عليه، وهو مخرج في "ظلال الجنة""171".

2 أخرجه مسلم في "القدر""8/ 48" وأحمد أيضا "3/ 292 - 293" وصححه ابن حبان "1808 و1809".

3 متفق عليه، وهو مخرج في "الظلام""216".

ص: 248

فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا"1. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ الْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "التَّمْهِيدِ": قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ تَخْرِيجِ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنَ الْكَلَامِ فِيهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآثَارِ وَاعْتِقَادِهَا وَتَرْكِ الْمُجَادَلَةِ فِيهَا، وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ.

وَقَوْلُهُ: "وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 23]. فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ".

ش: أَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ أَوْجَدَ وَأَفْنَى، وَأَفْقَرَ وَأَغْنَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَأَضَلَّ وَهَدَى، قال عليّ كرم الله وجهه ورضي الله عنه: القدر سر الله فلا نكشفه، وَالنِّزَاعُ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ مَشْهُورٌ.

وَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ أَفْعَالَ الْعِبَادِ. قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 49]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 2] وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَيَشَاؤُهُ، وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ، فَيَشَاؤُهُ كَوْنًا، وَلَا يَرْضَاهُ دِينًا.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَزَعَمُوا: أَنَّ اللَّهَ شَاءَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَكِنَّ الكافر شاء الكفر، فردوا إِلَى هَذَا لِئَلَّا يَقُولُوا: شَاءَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَعَذَّبَهُ عَلَيْهِ! وَلَكِنْ صَارُوا: كَالْمُسْتَجِيرِ مِنَ الرمضاء بالنار! 2. فإنهم هربوا من شياء

1 متفق عليه، وهو مخرج أيضا في "الظلال""175 و176".

2 صدر البيت: المستجير بعمر عند كربته.

ص: 249

فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه يلزم أَنَّ مَشِيئَةَ الْكَافِرِ غَلَبَتْ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ الْإِيمَانَ مِنْهُ -عَلَى قَوْلِهِمْ- وَالْكَافِرَ شَاءَ الْكُفْرَ، فَوَقَعَتْ مَشِيئَةُ الْكَافِرِ دُونَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى!! وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ.

رَوَى اللَّالَكَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْمَكِّيِّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَيْنَا يُكَذِّبُ بِالْقَدَرِ، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَيْهِ، وهو يومئذ قد عمي، فَقَالُوا لَهُ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ لَأَعَضَّنَّ أَنْفَهُ حَتَّى أَقْطَعَهُ، وَلَئِنْ وَقَعَتْ رَقَبَتُهُ بِيَدَيَّ لَأَدُقَّنَّهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول:"كأني بنساء بني فهر1 يطفن بالخزرج، تصطفق ألياتهن مشركات، هذا أَوَّلُ شِرْكٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لينتهين بِهِمْ سُوءُ رَأْيِهِمْ حَتَّى يُخْرِجُوا اللَّهَ مِنْ أَنْ يُقَدِّرَ الْخَيْرَ، كَمَا أَخْرَجُوهُ مِنْ أَنْ يُقَدِّرَ الشَّرَّ"2. قَوْلُهُ: وَهَذَا أَوَّلُ شِرْكٍ فِي الْإِسْلَامِ، إِلَى آخِرِهِ، مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ: "الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ"3. وروى عمرو بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفِينَةٍ، وَصَحِبَنَا فِيهَا قَدَرِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ، فَقَالَ الْقَدَرِيُّ لِلْمَجُوسِيِّ: أَسْلِمْ، قَالَ الْمَجُوسِيُّ: حَتَّى يُرِيدَ اللَّهُ فَقَالَ الْقَدَرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُرِيدُ! قَالَ الْمَجُوسِيُّ: أَرَادَ اللَّهُ وَأَرَادَ الشَّيْطَانُ، فَكَانَ مَا أَرَادَ الشَّيْطَانُ! هَذَا شَيْطَانٌ قَوِيٌّ!! وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: فَأَنَا مَعَ أَقْوَاهُمَا!! وَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى حَلْقَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ إِنَّ نَاقَتِي سُرِقَتْ فَادْعُوا الله أن يردها عليّ،

1 بالفاء وهم بطن من قيس غيلان كما في "الأنساب" للسمعاني.

2 ضعيف، وعلته العلاء بن الحجاج، فإنه في عداد المجهولين، ولم يوثقه أحد، حتى ولا ابن حبان! بل ضعفه الأزدي، كما قال الذهبي، وتضعيفه وإن كان مغموزا فيه، فهو معتبر ههنا لأنه لم يخالف بذلك توثيق أحد، ولذلك فإن تحسين الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى لمثل هذا إسناد من تساهله الذي عرف به عند أهل العلم بهذا الشأن، وقد أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة""79".

3 ضعيف موقوفا ومرفوعا، أما الموقوف فرواه اللالكائي في "شرح السنة""1/ 142/ 1، 6/ 262/ 2" وفيه من لم يسم، وأما المرفوع، فرواه بنحوه الطبراني في "الأوسط" وفيه هانئ بن المتوكل وهو ضعيف، وهو مخرج في "الضعيفة""4072".

ص: 250

فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ لَمْ تُرِدْ أَنْ تُسْرَقَ نَاقَتُهُ فَسُرِقَتْ، فَارْدُدْهَا عَلَيْهِ! فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا حَاجَةَ لِي فِي دُعَائِكَ! قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: أَخَافُ -كَمَا أَرَادَ أَنْ لَا تُسْرَقَ فَسُرِقَتْ- أَنْ يُرِيدَ رَدَّهَا فَلَا تُرَدُّ!! وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي عِصَامٍ الْقَسْطَلَّانِيِّ1: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَنِي الْهُدَى وَأَوْرَدَنِي الضَّلَالَ ثُمَّ عَذَّبَنِي، أَيَكُونُ مُنْصِفًا؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو عِصَامٍ: إِنْ يَكُنِ الْهُدَى شَيْئًا هُوَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعَهُ مَنْ يَشَاءُ.

وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السَّجْدَةِ: 13]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يُونُسَ: 99]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِيرِ: 30]. {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الدَّهْرِ: 30]. وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْأَنْعَامِ: 39]. وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الْأَنْعَامِ: 125].

وَمَنْشَأُ الضَّلَالِ: مِنَ التَّسْوِيَةِ بين: المشيئة، والإرادة، وبين: المحبة، والرضى، فسوى الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ: الْكَوْنُ كُلُّهُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَيَكُونُ مَحْبُوبًا مَرْضِيًّا. وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ: لَيْسَتِ الْمَعَاصِي مَحْبُوبَةً لِلَّهِ وَلَا مَرْضِيَّةً لَهُ، فَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً وَلَا مَقْضِيَّةً، فَهِيَ خارجة عن مشيئته وخلقه، وقد دل

1 دخل عبد الجبار الهمداني أحد شيوخ المعتزلة على الصاحب ابن عباد وعند أبو إسحاق الإسفراييني أحد أئمة السنة فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، فقال الأستاذ فورا: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يعصى؟ قال الأستاذ: أيعصي ربنا قهرا؟ فقال القاضي: أرأيت أن منعني الهدى وقضى عليّ بالردى أحسن إليّ أم أساء؟ فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك فقد أساء وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء، فبهت القاضي عبد الجبار، وفي "تاريخ الطبري" "8/ 125" أن عيلان قال لميمون بن مهران بحضرة هشام بن عبد الملك الذي أتى به ليناقشه: أشاء الله أن يعصى؟ فقال له ميمون: أفعصي كارها.

ص: 251

عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ: الْمَشِيئَةِ، وَالْمَحَبَّةِ. الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْفِطْرَةُ الصَّحِيحَةُ. أَمَّا نُصُوصُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ مِنَ الْكِتَابِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا، وَأَمَّا نُصُوصُ المحبة والرضى، فَقَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [الْبَقَرَةِ: 205]. {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزُّمَرِ: 7]، وَقَالَ تَعَالَى عَقِيبَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْكِبْرِ:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الْإِسْرَاءِ: 38]، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ"1. وَفِي "الْمُسْنَدِ": "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ" 2. وكان من دعائه: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكِ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ"3. فَتَأَمَّلْ ذكر استعاذته بصفة الرضى مِنْ صِفَةِ السُّخْطِ، وَبِفِعْلِ الْمُعَافَاةِ مِنْ فِعْلِ العقوبة. فالأول: الصفة، والثاني: أثرها الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَبَطَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَمَا أَعُوذُ مِنْهُ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، وَمَا أَعُوذُ بِهِ مِنْ رِضَاكَ وَمُعَافَاتِكَ هُوَ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرْضَى عَنْ عَبْدِكَ وَتُعَافِيَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ وَتُعَاقِبَهُ، فَإِعَاذَتِي مِمَّا أَكْرَهُ وَمَنْعُهُ أَنْ يَحِلَّ بِي، هِيَ بِمَشِيئَتِكَ أَيْضًا، فَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ كُلُّهُ بِقَضَائِكَ وَمَشِيئَتِكَ، فَعِيَاذِي بِكَ مِنْكَ، وَعِيَاذِي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَرَحْمَتِكَ مِمَّا يَكُونُ بِحَوْلِكَ وقولك وَعَدْلِكَ وَحِكْمَتِكَ، فَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ غَيْرِكَ وَلَا أَسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ شَيْءٍ صَادِرٍ عَنْ غَيْرِ مَشِيئَتِكَ، بَلْ هُوَ مِنْكَ. فَلَا يَعْلَمُ مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَارِفِ وَالْعُبُودِيَّةِ، إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ عُبُودِيَّتِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُرِيدُ اللَّهُ أَمْرًا وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ؟ وَكَيْفَ يَشَاؤُهُ ويكونه؟ وكيف يجمع إِرَادَتُهُ لَهُ وَبُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ؟ قِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي افْتَرَقَ النَّاسُ لِأَجْلِهِ فِرَقًا، وَتَبَايَنَتْ طُرُقُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ نَوْعَانِ: مُرَادٌ لنفسه، ومراد لغيره.

1 صحيح متفق عليه، البخاري، في "الاستقراض"، ومسلم في "الأقضية".

2 صحيح، رواه أحمد وغيره بسند صحيح، وهو مخرج في "إرواء الغليل""564".

3 صحيح، وتقدم "برقم 72"، وهو مخرج في صحيح أبي داود "823".

ص: 252

فَالْمُرَادُ لِنَفْسِهِ، مَطْلُوبٌ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، فَهُوَ مُرَادُ إِرَادَةِ الْغَايَاتِ وَالْمَقَاصِدِ، وَالْمُرَادُ لِغَيْرِهِ، قَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا لِمَا يُرِيدُ، وَلَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً إِلَى مَقْصُودِهِ وَمُرَادِهِ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ نَفْسُهُ وَذَاتُهُ، مُرَادٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ قَضَاؤُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مُرَادِهِ، فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ: بُغْضُهُ، وَإِرَادَتُهُ، وَلَا يَتَنَافَيَانِ، لِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقِهِمَا، وَهَذَا كَالدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، إِذَا عَلِمَ الْمُتَنَاوِلُ لَهُ أَنَّ فِيهِ شِفَاءَهُ، وَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ، إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِي قَطْعِهِ بَقَاءَ جَسَدِهِ، وَكَقَطْعِ الْمَسَافَةِ الشَّاقَّةِ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا تُوصِلُ إِلَى مُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ، بَلِ الْعَاقِلُ يَكْتَفِي فِي إِيثَارِ هَذَا الْمَكْرُوهِ وَإِرَادَتِهِ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَنْهُ عَاقِبَتُهُ، فَكَيْفَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ الشَّيْءَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِرَادَتَهُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، وَكَوْنِهِ سَبَبًا إِلَى أَمْرٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ من فوقه. مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ خَلَقَ إِبْلِيسَ، الَّذِي هُوَ مادة الفساد الْأَدْيَانِ وَالْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِشَقَاوَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادِ، وَعَمَلِهِمْ بِمَا يُغْضِبُ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى1 وَهُوَ السَّاعِي فِي وُقُوعِ خِلَافِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى مَحَابَّ كَثِيرَةٍ لِلرَّبِّ تَعَالَى تَرَتَّبَتْ عَلَى خَلْقِهِ، وَوُجُودُهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ عدمها، منها: أنه يظهر لِلْعِبَادِ قُدْرَةُ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْمُتَضَادَّاتِ المتقابلات، فخلق هذا الذَّاتَ، الَّتِي هِيَ أَخْبَثُ الذَّوَاتِ وَشَرُّهَا، وَهِيَ سبب كل شر، في مقابلة ذات جبرائيل، الَّتِي هِيَ مِنْ أَشْرَفِ الذَّوَاتِ وَأَطْهَرِهَا وَأَزْكَاهَا، وَهِيَ مَادَّةُ كُلِّ خَيْرٍ، فَتَبَارَكَ خَالِقُ هَذَا وَهَذَا. كَمَا ظَهَرَتْ قُدْرَتُهُ فِي خَلْقِ اللَّيْلِ والنهار، والدواء والداء، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَذَلِكَ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ وَمُلْكِهِ وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابلها بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَجَعَلَهَا مَحَالَّ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَخُلُوُّ الْوُجُودِ عَنْ بَعْضِهَا بِالْكُلِّيَّةِ تَعْطِيلٌ لِحِكْمَتِهِ وَكَمَالِ تصرفه وتدبير ملكه، وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْقَهْرِيَّةِ، مِثْلِ: الْقَهَّارِ، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع العقاب، وَذِي الْبَطْشِ الشَّدِيدِ، وَالْخَافِضِ، وَالْمُذِلِّ. فَإِنَّ هَذِهِ

1 قال عفيفي: انظر "مدارج السالكين" 1/ 252 - 255 طبع السنة المحمدية. انظر كتاب "مشاهد الخلق في المعصية" للإمام ابن القيم، تحقيق الأستاذ نذير عتمه. طبع المكتب الإسلامي.

ص: 253

الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ كَمَالٌ، لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُتَعَلَّقِهَا، وَلَوْ كَانَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَسَتْرِهِ وَتَجَاوُزِهِ عَنْ حَقِّهِ وَعِتْقِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ، فَلَوْلَا خَلْقُ مَا يَكْرَهُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى ظُهُورِ آثَارِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْحِكَمُ وَالْفَوَائِدُ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ:"لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ"1. وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَاءِ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ، فَإِنَّهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا، فَلَا يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا يُنْزِلُهُ غَيْرَ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا كَمَالُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَخِبْرَتِهِ، فَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، وَأَعْلَمُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِقَبُولِهَا وَيَشْكُرُهُ عَلَى انْتِهَائِهَا إِلَيْهِ، وَأَعْلَمُ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَلَوْ قُدِّرَ عَدَمُ الْأَسْبَابِ الْمَكْرُوهَةِ، لَتَعَطَّلَتْ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ، وَلَفَاتَتْ مَصَالِحُ عَدِيدَةٌ، وَلَوْ عُطِّلَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ لِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ، لَتَعَطَّلَ الْخَيْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا كَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ2، الَّتِي فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا هُوَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الشَّرِّ، وَمِنْهَا: حُصُولُ الْعُبُودِيَّةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي لَوْلَا خَلْقُ إِبْلِيسَ لَمَا حَصَلَتْ، فَإِنَّ عُبُودِيَّةَ الْجِهَادِ مِنْ أَحَبِّ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَلَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالات لِلَّهِ سُبْحَانَهُ [وَتَعَالَى] وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ، وَعُبُودِيَّةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعُبُودِيَّةُ الصَّبْرِ وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى وَإِيثَارِ مَحَابِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَعُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَعُبُودِيَّةُ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ أَنْ يُجِيرَهُ مِنْ عَدُّوِهِ وَيَعْصِمَهُ مِنْ كَيْدِهِ وَأَذَاهُ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ إِدْرَاكِهَا.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُ وُجُودُ تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟

1 أخرج مسلم "8/ 94" عن أبي هريرة، وأبي أيوب نحوه، وهما مخرجان في "الصحيحة""968 و969"، وله فيه شواهد "967 و970".

2 قال عفيفي: انظر هذا الاعتراض وتفصيل جوابه في ص193/ 198 من "مدارج السالكين" و282/ 283 من كتاب "الداء والدواء" والمسمى "الجواب الكافي" للإمام ابن القيم، فإنه وفي هذا المقام حقه.

ص: 254

فَهَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ! وَهُوَ فَرْضُ وُجُودِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ، كَفَرْضِ وُجُودِ الِابْنِ بِدُونِ الْأَبِ. وَالْحَرَكَةِ بِدُونِ الْمُتَحَرِّكِ، وَالتَّوْبَةِ بِدُونِ التَّائِبِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ مُرَادَةً لِمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْحِكَمِ، فَهَلْ تَكُونُ مَرْضِيَّةً مَحْبُوبَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، أَمْ هِيَ مَسْخُوطَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ؟ هَذَا السُّؤَالُ يَرِدُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهَلْ يكون محبا لها من جهة إفضالها إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهَا لِذَاتِهَا؟ وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَسُوغُ له الرضى بِهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ أَيْضًا؟ فَهَذَا سُؤَالٌ لَهُ شَأْنٌ.

فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَدَمِ، أَعْنِي عَدَمَ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شَرٌّ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ الْمَحْضِ فَلَا شَرَّ فِيهِ. مِثَالُهُ: أَنَّ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ وَجُودَهَا خَيْرٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا الشَّرُّ بِقَطْعِ مَادَّةِ الْخَيْرِ عَنْهَا، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ مُتَحَرِّكَةً، فَإِنْ أُعِينَتْ بِالْعِلْمِ وَإِلْهَامِ الْخَيْرِ تَحَرَّكَتْ بِهِ، وَإِنْ تُرِكَتْ تَحَرَّكَتْ بِطَبْعِهَا إِلَى خِلَافِهِ، وَحَرَكَتُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ: خَيْرٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ شَرًّا بِالْإِضَافَةِ، لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ ظُلْمٌ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، فَلَوْ وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا، فَعُلِمَ أَنَّ جِهَةَ الشَّرِّ فِيهِ نِسْبِيَّةٌ إِضَافِيَّةٌ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ الْمَوْضُوعَةُ فِي مَحَالِّهَا خَيْرًا فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحِلِّ الَّذِي حَلَّتْ بِهِ، لَمَا أَحْدَثَتْ فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَتِ الطَّبِيعَةُ قَابِلَةً لِضِدِّهِ مِنَ اللَّذَّةِ مُسْتَعِدَّةً لَهُ، فَصَارَ ذَلِكَ الْأَلَمُ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَهُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِلِ حَيْثُ وَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ شَرًّا مَحْضًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالِاعْتِبَارَاتِ، فَإِنَّ حِكْمَتَهُ تأبى ذلك، فلا يكون فِي جَنَابِ الْحَقِّ تَعَالَى أَنْ يُرِيدَ شَيْئًا يَكُونُ فَسَادًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَا مَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مَا، هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، بَلْ كُلُّ مَا إِلَيْهِ فَخَيْرٌ، وَالشَّرُّ إِنَّمَا حَصَلَ لِعَدَمِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا، فَتَأَمَّلْهُ. فَانْقِطَاعُ نِسَبْتِهِ إِلَيْهِ هُوَ1 الَّذِي صَيَّرَهُ شَرًّا.

فَإِنْ قِيلَ: لَمْ تَنْقَطِعْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ خَلْقًا وَمَشِيئَةً؟ قِيلَ: هُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ، فَإِنَّ وُجُودَهُ هُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ، وَالشَّرُّ الَّذِي فِيهِ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ بِالْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، حَتَّى يُنْسَبَ إِلَى مَنْ بيده الخير.

1 في أصل مخطوطتنا: هذا، وله وجهه غير أن هذا أوضح.

ص: 255