المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات: - شرح العقيدة الطحاوية - بتخريج الألباني

[ابن أبي العز - ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الناشر [[

- ‌ترجمة ابن أبي العز الحنفي:

- ‌ترجمة الإمام الطحاوي "صاحب العقيدة

- ‌مقدمة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني:

- ‌مقدمة الشارح:

- ‌وجوب الإيمان بما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إيمانا عاما مجملا على كل أحد:

- ‌التعريف بالإمام أبي جعفر الطحاوي:

- ‌التوحيد ومعناه:

- ‌أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل:

- ‌المراتب الثلاثة التي لا بد منها في كل خطاب

- ‌الفرق بين الإرادة الدينية والإرادة الكونية:

- ‌وجوب الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته:

- ‌القرآن كلام الله تعالى:

- ‌رؤية الله تعالى لأهل الجنة والرد على المخالفين

- ‌تأويل المعتزلة نصوص الكتاب والسنة تحريف للكلام عن موضعه:

- ‌معنى التأويل في كلام السنة:

- ‌الحوض الذي أكرم الله به رسوله صلى الله عليه وسلم:

- ‌الميثاق الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ:

- ‌أسباب الخير ثلاثة "الإيجاد والإعداد والإمداد

- ‌الإيمان باللوح والقلم:

- ‌العرش والكرسي حق:

- ‌وجوب الإيمان بالملائكة والنبين والكتب المنزلة:

- ‌أهل القبلة مسلمون مؤمنون:

- ‌تعريف الإيمان واختلاف الناس فيه:

- ‌الإيمان بالقدر خيره وشره

- ‌الحج وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إلى قيام الساعة

- ‌الإيمان بعذاب القبر ونعيمه

- ‌الإيمان بالبعث والجزاء والآيات الدالة على معاد البدن عند القيامة الكبرى

- ‌العرض والحساب:

- ‌أفعال العباد خلق لله وكسب من العباد:

- ‌في دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات:

- ‌نحب أصحاب رسول الله من غير افراط:

- ‌ نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ

- ‌أشرطة الساعة:

- ‌يجب رد جميع الأمور المتنازع فيها إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌أنواع الاختلاف

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌في دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات:

‌في دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات:

قوله: "وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم لِلْأَمْوَاتِ".

ش: اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَمْوَاتَ يَنْتَفِعُونَ مِنْ سَعْيِ الْأَحْيَاءِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ1. وَالثَّانِي: دُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ، وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ، عَلَى نِزَاعٍ فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ ثَوَابِ الْحَجِّ؛ فَعَنْ محمد بن الحسن: أَنَّهُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ، وَالْحَجُّ لِلْحَاجِّ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: ثَوَابُ الْحَجِّ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ إِلَى وُصُولِهَا، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ عَدَمُ وُصُولِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى عَدَمِ وُصُولِ شَيْءٍ الْبَتَّةَ، لَا الدُّعَاءِ وَلَا غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُمْ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَكِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْمِ: 39]. وَقَوْلِهِ: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54]. قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [الْبَقَرَةِ: 286]. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ"2. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِمَا كَانَ تَسَبَّبَ فِيهِ فِي الْحَيَاةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ تَسَبَّبَ فِيهِ فِي الْحَيَاةِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ، وَاسْتَدَلَّ الْمُقْتَصِرُونَ عَلَى وُصُولِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي [[تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ كَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ بِأَنَّ النَّوْعَ الَّذِي لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ بِحَالٍ، كَالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، - يَخْتَصُّ ثَوَابُهُ بِفَاعِلِهِ لَا يَتَعَدَّاهُ، كَمَا أَنَّهُ فِي الْحَيَاةِ لَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَنُوبُ فِيهِ عَنْ فَاعِلِهِ غَيْرُهُ، وَقَدْ]] (*) رَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "لَا يُصَلِّي أَحَدٌ

1 قال عفيفي: انظر ص335 ج1 من "مختصر الصواعق".

2 مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، وهو مخرج في "أحكام الجنائز"، "ص174".

(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: ما بين معكوفين مزدوجين وقع فيه - في المطبوع - سقط وتحريف وتغيير يحيل المعنى، فأثبتّ الصواب من مطبوعة وزارة الأوقاف السعودية، وهم صوبوه من كتاب «الروح» لابن القيم، المسألة السادسة عشرة

ص: 452

عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ"1.

وَالدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ مَا تَسَبَّبَ فِيهِ، الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الْحَشْرِ: 10]. فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ قَبْلَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاعِهِمْ بِاسْتِغْفَارِ الْأَحْيَاءِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ، وَالْأَدْعِيَةُ الَّتِي وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ مُسْتَفِيضَةٌ، وَكَذَا الدُّعَاءُ لَهُ بَعْدَ الدَّفْنِ، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ"2. وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمُ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولُوا: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ" 3. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ تَقُولُ إِذَا اسْتَغْفَرَتْ لِأَهْلِ4 الْقُبُورِ؟ قَالَ: "قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا [ومنكم] والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"5.

1 لا أعرف له أصلا مرفوعا، لا عند النسائي ولا عند غيره، وإنما رواه النسائي في "الكبري""4/ 43/ 1" والطحاوي في "مشكل الآثار""3/ 141" عن ابن عباس موقوفا عليه. وسنده صحيح.

2 صحيح، وهو مخرج في "أحكام الجنائز""ص155".

قال عفيفي: انظر ص33 ج1 من "مختصر الصواعق".

3 صحيح، وهو مخرج في "أحكام الجنائز""189 - 190".

4 قال عفيفي: انظر ص354 ج1 من "مختصر الصواعق".

5 صحيح وهو مخرج في "أحكام الجنائز""181 - 183".

ص: 453

وَأَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الصَّدَقَةِ1، فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَجُلًا أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ:"نَعَمْ"2. وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَلْ يَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطَيِ الْمِخْرَافِ صَدَقَةٌ عَنْهَا3. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي السُّنَّةِ.

وَأَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الصَّوْمِ، فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ"4. وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله قَالَ بِالْإِطْعَامِ عَنِ الْمَيِّتِ دُونَ الصِّيَامِ عَنْهُ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ5، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.

وَأَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الْحَجِّ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أفأحج عنها؟ قال:"حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بالوفاء"6. ونظائره أيضا كثيرة. واجتمع الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ يُسْقِطُهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَمِنْ غَيْرِ تَرِكَتِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أبي قتادة، حيث ضمن الدينارين عن

1 قال عفيفي: انظر المسألة السادسة عشر من كتاب "الروح" لابن القيم.

2 صحيح وهو مخرج في "أحكام الجنائز""172".

3 صحيح، وهو مخرج هناك "172".

4 صحيح، وهو مخرج هناك "169".

5 تقدم تخريجه، وقد عرفت أنه موقوف.

6 صحيح، وهو مخرج في "الإرواء""993"، قلت: وانظر تحقيق المراد منه في كلام ابن القيم في "أحكام الجنائز" في فصل ما ينتفع به الميت "ص170 - 171".

ص: 454

الْمَيِّتِ، فَلَمَّا قَضَاهُمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدَتُهُ"1. وَكُلُّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ حَقُّ الْعَامِلِ، فَإِذَا وَهَبَهُ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ هِبَةِ مَالِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَإِبْرَائِهِ لَهُ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ نَبَّهَ الشَّارِعُ بِوُصُولِ ثَوَابِ الصَّوْمِ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الصَّوْمَ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِهِ إِلَى الْمَيِّتِ، فَكَيْفَ بِالْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ عَمَلٌ وَنِيَّةٌ؟!

وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْمِ: 39]، قَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِأَجْوِبَةٍ: أَصَحُّهَا جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِسَعْيِهِ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ اكْتَسَبَ الْأَصْدِقَاءَ، وَأَوْلَدَ الْأَوْلَادَ، وَنَكَحَ الْأَزْوَاجَ، وَأَسْدَى الْخَيْرَ وَتَوَدَّدَ إِلَى النَّاسِ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ، وَدَعَوْا لَهُ، وَأَهْدَوْا لَهُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَثَرَ سَعْيِهِ، بَلْ دُخُولُ الْمُسْلِمِ مَعَ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَقْدِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي وُصُولِ نَفْعِ كُلٍّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى صَاحِبِهِ، فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيمَانَ سَبَبًا لِانْتِفَاعِ صَاحِبِهِ بِدُعَاءِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَعْيِهِمْ، فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ سَعَى فِي السَّبَبِ الَّذِي يُوصِلُ إِلَيْهِ ذَلِكَ.

الثَّانِي، وَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْفِ انْتِفَاعَ الرَّجُلِ بِسَعْيِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا نَفَى مِلْكَهُ لِغَيْرِ سَعْيِهِ، وبين الأمرين فرق لَا يَخْفَى، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا سَعْيَهُ، وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ مِلْكٌ لِسَاعِيهِ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَبْذُلَهُ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُبْقِيَهُ لِنَفْسِهِ.

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْمِ: 38، 39]. آيَتَانِ مُحْكَمَتَانِ، مُقْتَضِيَتَانِ عَدْلَ الرَّبِّ تَعَالَى: فَالْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا بِجُرْمِ غَيْرِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِجَرِيرَةِ غَيْرِهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ مُلُوكُ الدُّنْيَا. وَالثَّانِيَةُ تَقْتَضِي أنه لا يفلح إلا بعمله، لينقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه

1 حسن رواه الحاكم وغيره. وهو مخرج في "أحكام الجنائز""ص16".

ص: 455

وَمَشَايِخِهِ، كَمَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ الطَّمَعِ الْكَاذِبِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ لَا يَنْتَفِعُ إِلَّا بِمَا سَعَى.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [الْبَقَرَةِ: 286]. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54]. عَلَى أَنَّ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ عُقُوبَةُ الْعَبْدِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:{فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54].

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عمله" 1 فاستدلال ساقط، فإنه لم يقل انقطاع انْتِفَاعُهُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ انْقِطَاعِ عَمَلِهِ، وَأَمَّا عَمَلُ غَيْرِهِ فَهُوَ لِعَامِلِهِ، "فَإِنْ" وَهَبَهُ لَهُ وَصَلَ إِلَيْهِ ثَوَابُ عَمَلِ الْعَامِلِ، لَا ثَوَابَ عَمَلِهِ هُوَ، وَهَذَا كَالدَّيْنِ يُوَفِّيهِ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ، فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ مَا وَفَّى بِهِ2 الدَّيْنَ.

وَأَمَّا تَفْرِيقُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، فَقَدْ شَرَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَيِّتِ، كَمَا تَقَدَّمَ، مَعَ أَنَّ الصَّوْمَ لَا تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَابَةُ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِيدَ الْأَضْحَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ، فَقَالَ:"بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي" 3، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَدِيثُ الْكَبْشَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ فِي أَحَدِهِمَا:"اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا" 4، وَفِي الْآخَرِ:"اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالْقُرْبَةُ فِي الْأُضْحِيَّةِ إِرَاقَةُ الدَّمِ، وَقَدْ جَعَلَهَا لِغَيْرِهِ.

وَكَذَلِكَ عِبَادَةُ الْحَجِّ بَدَنِيَّةٌ، وَلَيْسَ [الْمَالُ] رُكْنًا فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَكِّيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ إِلَى عَرَفَاتٍ، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمَالِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، أَعْنِي أَنَّ الْحَجَّ غَيْرَ مُرَكَّبٍ مِنْ مَالٍ وَبَدَنٍ، بل بدني محض، كما قد نص

1 صحيح ومضى قريبا.

2 في الأصل: هذا.

3 صحيح لشواهده: انظر "المجمع""4/ 22 - 23"، ومن شواهده الذي بعده، ثم حققت في" الإرواء" أنه صحيح لذاته، فليراجعه من شاء الوقوف على الحقيقة "رقم 1138".

4 حسن، وهو في المسند" "6/ 391 - 392" وفي إسناه اختلاف بينته هناك.

ص: 456

عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَانْظُرْ إِلَى فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ: كَيْفَ قَامَ فِيهَا الْبَعْضُ عَنِ الْبَاقِينَ؟ وَلِأَنَّ هَذَا إِهْدَاءُ ثَوَابٍ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَنْهُ، وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ أُجْرَتَهُ لِمَنْ شَاءَ1.

وَأَمَّا اسْتِئْجَارُ قَوْمٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيُهْدُونَهُ لِلْمَيِّتِ!! فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ وَلَا أَمَرَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَلَا رَخَّصَ فِيهِ، وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى نَفْسِ التِّلَاوَةِ غَيْرُ جَائِزٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى التَّعْلِيمِ وَنَحْوِهُ، مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ تَصِلُ إِلَى الْغَيْرِ، وَالثَّوَابُ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْعَمَلُ لِلَّهِ، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ عبادة خالصة، فلا يكون [له من] ثَوَابُهُ مَا يُهْدَى إِلَى الْمَوْتَى!! وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ يَكْتَرِي مَنْ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيُهْدِي ثَوَابَ ذَلِكَ إِلَى الْمَيِّتِ، لَكِنْ إِذَا أَعْطَى لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُهُ وَيَتَعَلَّمُهُ مَعُونَةً لِأَهْلِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ، كَانَ هَذَا مِنْ جِنْسِ الصَّدَقَةِ عَنْهُ، فَيَجُوزُ. وَفِي الِاخْتِيَارِ: لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْطَى شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى قَبْرِهِ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأُجْرَةِ، انْتَهَى. وَذَكَرَ الزَّاهِدِيُّ فِي الغنية: أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ عِنْدَ قَبْرِهِ، فَالتَّعْيِينُ بَاطِلٌ.

وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَإِهْدَاؤُهَا لَهُ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، فَهَذَا يَصِلُ إِلَيْهِ، كَمَا يَصِلُ ثَوَابُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي السَّلَفِ، وَلَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَالْجَوَابُ: إِنْ كَانَ مُورِدُ هَذَا السُّؤَالِ مُعْتَرِفًا بِوُصُولِ ثَوَابِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالدُّعَاءِ، قِيلَ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؟ وَلَيْسَ كَوْنُ السَّلَفِ لَمْ يَفْعَلُوهُ حُجَّةً فِي عَدَمِ الْوُصُولِ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا هَذَا النَّفْيُ الْعَامُّ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْشَدَهُمْ إِلَى الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ دُونَ الْقِرَاءَةِ؟ قِيلَ: هُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْتَدِئْهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لَهُمْ، فَهَذَا سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ عَنْ مَيِّتِهِ فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا سَأَلَهُ عَنِ الصَّوْمِ عَنْهُ، فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ الصَّوْمِ -الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ نِيَّةٍ وَإِمْسَاكٍ- وَبَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ؟ فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُونَ فِي الإهداء إلى رسول صلى الله عليه وسلم؟

1 في هذا الكلام نظر لا يخفى على المتأمل، وقد حققت القول في المسألة بما يشرح الصدر، ويثلج القلب في الفصل المشار إليه آنفا "ص454 - 455"، فراجعه فإنه مهم.

ص: 457

قِيلَ: مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنِ اسْتَحَبَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ بِدْعَةً؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَهُ مِثْلُ أَجْرِ كُلِّ مَنْ عَمِلَ خَيْرًا مِنْ أُمَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَلَّ أُمَّتَهُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ.

وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُ، بِاعْتِبَارِ سَمَاعِهِ كَلَامَ اللَّهِ، فَهَذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وَلَا شَكَّ فِي سَمَاعِهِ1، وَلَكِنَّ انْتِفَاعَهُ بِالسَّمَاعِ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ ثَوَابَ الِاسْتِمَاعِ مَشْرُوطٌ بِالْحَيَاةِ، فَإِنَّهُ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ، وَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، بَلْ رُبَّمَا يَتَضَرَّرُ وَيَتَأَلَّمُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَمْتَثِلْ أَوَامِرَ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ الْخَيْرِ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقُبُورِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: هَلْ تُكْرَهُ، أَمْ لَا بَأْسَ بِهَا وَقْتَ الدَّفْنِ، وَتُكْرَهُ بَعْدَهُ؟ فَمَنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهَا، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، قَالُوا: لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ، لَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ، وَالْقِرَاءَةُ تُشْبِهُ الصَّلَاةَ، وَالصَّلَاةُ عِنْدَ الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ، وَمَنْ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا، كَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، اسْتَدَلُّوا بِمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُقْرَأَ عَلَى قَبْرِهِ وَقْتَ الدَّفْنِ بِفَوَاتِحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَوَاتِمِهَا2، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ1. وَمَنْ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا وَقْتَ الدَّفْنِ فَقَطْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَخَذَ بِمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ1. وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ، كَالَّذِينِ يَتَنَاوَبُونَ الْقَبْرَ لِلْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ، فَإِنَّهُ لَمْ تَأْتِ بِهِ السُّنَّةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ مِثْلَ ذَلِكَ أَصْلًا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَعَلَّهُ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.

[قَوْلُهُ]: "وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ".

ش: قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. {وَإِذَا

1 لم أره بلفظ "المهاجرين"، وإنما بلفظ "الأنصار"، ذكره ابن القيم وفي ثبوت ذلك عنهم نظر بينته في "أحكام الجنائز""ص193".

2 قلت: لا يصح إسناده، فيه من يجهل كما هو مبين في "أحكام الجنائز""ص192، طبع المكتب الإسلامي".

ص: 458

سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [الْبَقَرَةِ: 186]. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْخَلْقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ؛ أَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ دَعَاهُ لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، وَإِجَابَةُ اللَّهِ لِدُعَاءِ الْعَبْدِ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَإِعْطَاؤُهُ سُؤْلَهُ، مِنْ جِنْسِ رِزْقِهِ لَهُمْ، وَنَصْرِهِ لَهُمْ، وَهُوَ مِمَّا تُوجِبُهُ الرُّبُوبِيَّةُ لِلْعَبْدِ مُطْلَقًا، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً فِي حَقِّهِ وَمَضَرَّةً عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ كُفْرُهُ وَفُسُوقُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ" 1، وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ:

الرَّبُّ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ

وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: قَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الدُّعَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: الْوُجُودُ، فإن لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لَا يُدْعَى. الثَّانِي: الْغِنَى، فَإِنَّ الْفَقِيرَ لَا يُدْعَى. الثَّالِثُ: السَّمْعُ، فَإِنَّ الْأَصَمَّ لَا يُدْعَى. الرَّابِعُ: الْكَرَمُ، فَإِنَّ الْبَخِيلَ لَا يُدْعَى. الْخَامِسُ: الرَّحْمَةُ، فَإِنَّ الْقَاسِيَ لَا يُدْعَى. السَّادِسُ: الْقُدْرَةُ، فَإِنَّ الْعَاجِزَ لَا يُدْعَى. وَمَنْ يَقُولُ بِالطَّبَائِعِ يَعْلَمُ أَنَّ النَّارَ لَا يُقَالُ لها: كفي! ولا النجم يقال

1 صحيح، وهو مخرج في "المشكاة""2238" الطبعة الثانية.

كذا وقع في "الطبعة السادسة" من "شرح العقيدة الطحاوية"، ولكن في موضع آخر منها متقدم على هذا بصفحتين "516" ما نصه:"ضعيف الإسناد، فيه أبو صالح الخوزي، قال في "التقريب": "لين الحديث"، وأما الحاكم فقال في هذا الحديث "1/ 491": "صحيح الإسناد"، وسكت عليه الذهبي! وقال الترمذي: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه".

وليست في متناول يدي نسختي من "المشكاة" التي عليها التحقيق الثاني، لأقابل ما بينته وبين الضعيف المذكور، ثم أثبت هنا الصواب منهما، ويبدو لي الآن -والله أعلم- أن التضعيف هو المعتمد، فقد خرجت الحديث في "الضعيفة" برقم "4040"، وأحلت عليه في المجلد الأول منه "ص542" منبها على خطأ ما جاء في "ص29" منه من التحسين، فوجب التنبيه على ذلك كله، والمعصوم من عصمه الله تعالى.

ص: 459

لَهُ: أَصْلِحَ مِزَاجِي!! لِأَنَّ هَذِهِ عِنْدَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ طَبْعًا لَا اخْتِيَارًا، فَشَرَعَ الدُّعَاءَ وَصَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ لِيُبَيِّنَ كَذِبَ أَهْلِ الطَّبَائِعِ.

وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَالِيَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ [إِلَى] 1 أَنَّ الدُّعَاءَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ! قَالُوا: لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ الْإِلَهِيَّةَ إِنِ اقْتَضَتْ وُجُودَ الْمَطْلُوبِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ، وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ!! وَقَدْ يَخُصُّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ خَوَاصَّ الْعَارِفِينَ! وَيَجْعَلُ الدُّعَاءَ عِلَّةً فِي مَقَامِ الْخَوَاصِّ!! وَهَذَا مِنْ غَلَطَاتِ بَعْضِ الشُّيُوخِ، فَكَمَا أَنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بالضرورة العقلية، فإن منفعة الدعاء أمر أنشئت2 عَلَيْهِ تَجَارِبُ الْأُمَمِ، حَتَّى إِنَّ الْفَلَاسِفَةَ تَقُولُ: ضَجِيجُ الْأَصْوَاتِ فِي هَيَاكِلِ الْعِبَادَاتِ، بِفُنُونِ اللُّغَاتِ، يُحَلِّلُ مَا عَقَدَتْهُ الْأَفْلَاكُ الْمُؤَثِّرَاتُ!! هَذَا وَهُمْ مشركون.

وجواب الشبهة يمنع الْمُقَدِّمَتَيْنِ1: فَإِنَّ قَوْلَهُمْ عَنِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ: إِمَّا أن تقتضيه أولا، [فـ] ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ: أَنْ تَقْتَضِيَهُ بِشَرْطٍ لَا تَقْتَضِيهِ مَعَ عَدَمِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الدُّعَاءُ مِنْ شَرْطِهِ، كَمَا تُوجِبُ الثَّوَابَ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا تُوجِبُهُ مَعَ عَدَمِهِ، وَكَمَا تُوجِبُ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَا تُوجِبُهُ مَعَ عَدَمِهِمَا، وَحُصُولَ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ، وَالزَّرْعَ بِالْبَذْرِ، فَإِذَا قُدِّرَ وُقُوعُ الْمَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ، كَمَا [لَا] يُقَالُ لَا فَائِدَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْبَذْرِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ، كَمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْفِطْرَةِ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ، مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ: أَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ! وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نقصٌ فِي الْعَقْلِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْأَسْبَابِ كالكلية قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ، وَمَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالرَّجَاءِ، يَتَأَلَّفُ مِنْ وُجُوبِ التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى السَّبَبِ هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ وَرَجَاؤُهُ وَالِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِلٍّ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شُرَكَاءَ وَأَضْدَادٍ مَعَ هَذَا كُلِّهِ، فَإِنْ لَمْ يُسَخِّرْهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ لَمْ يسخر.

1 كذا الأصل، ولعل الصواب يمنع الحصر في المقدمتين، كما يدل عليه السياق.

2 في الأصل: متفق.

ص: 460

وَقَوْلُهُمْ: إِنِ اقْتَضَتِ الْمَشِيئَةُ الْمَطْلُوبَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ؟ قُلْنَا: بَلْ قَدْ تَكُونُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، مِنْ تَحْصِيلِ مَصْلِحَةٍ أُخْرَى عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ، وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ أُخْرَى عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ؟ قُلْنَا: بَلْ فِيهِ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ، مِنْ جَلْبِ مَنَافِعَ، وَدَفْعِ مَضَارَّ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بَلْ مَا يُعَجِّلُ لِلْعَبْدِ، مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ، وَإِقْرَارِهِ بِهِ، وَبِأَنَّهُ سُمَيْعٌ قَرِيبٌ قَدِيرٌ عَلِيمٌ رَحِيمٌ، وَإِقْرَارِهِ بِفَقْرِهِ إِلَيْهِ وَاضْطِرَارِهِ إِلَيْهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَالِبِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ إِعْطَاءُ اللَّهِ معللا بفعل العبد، كما يفعل مِنْ إِعْطَاءِ الْمَسْئُولِ لِلسَّائِلِ، كَانَ السَّائِلُ قَدْ أَثَّرَ فِي الْمَسْئُولِ حَتَّى أَعْطَاهُ؟! قُلْنَا: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي حَرَّكَ الْعَبْدَ إِلَى دُعَائِهِ، فَهَذَا الْخَيْرُ مِنْهُ، وَتَمَامُهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ، وَإِنَّمَا أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ، وَلَكِنْ إِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الم السجدة: 5]. فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير [الأمر]، ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ الَّذِي دَبَّرَهُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقْذِفُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ حَرَكَةَ الدُّعَاءِ، وَيَجْعَلُهَا سَبَبًا لِلْخَيْرِ الَّذِي يُعْطِيهِ إِيَّاهُ، كَمَا فِي الْعَمَلِ وَالثَّوَابِ، فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعَبْدَ لِلتَّوْبَةِ ثُمَّ قَبِلَهَا، [وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ ثُمَّ أَثَابَهُ]، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أَجَابَهُ، فَمَا أَثَّرَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، بَلْ هُوَ جَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ سَبَبًا لِمَا يَفْعَلُهُ، قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ: نَظَرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَوَجَدْتُ مَبْدَأَهُ مِنَ اللَّهِ، وَتَمَامَهُ عَلَى اللَّهِ، وَوَجَدْتُ مِلَاكَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ.

وَهُنَا سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَدْ يَسْأَلُ اللَّهَ فَلَا يُعْطَى شَيْئًا، أَوْ يُعْطَى غَيْرَ مَا سَأَلَ؟ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ، فِيهَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ مُحَقَّقَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ عَطِيَّةَ السُّؤَالِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا تَضَمَّنَتْ إِجَابَةَ الدَّاعِي، وَالدَّاعِي أَعَمُّ مِنَ السَّائِلِ، وَإِجَابَةُ الدَّاعِي أَعَمُّ مِنْ إِعْطَاءِ السَّائِلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ " 1، فَفَرْقٌ بَيْنَ

1 صحيح متواتر، ذكرت بعض طرقه "إرواء الغليل""450".

ص: 461

الدَّاعِي وَالسَّائِلِ، وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ وَالْإِعْطَاءِ، وَهُوَ فَرْقٌ بين العموم وَالْخُصُوصِ، كَمَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْمُسْتَغْفِرِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ السَّائِلِ، فَذَكَرَ الْعَامَّ ثُمَّ الْخَاصَّ ثُمَّ الْأَخَصَّ، وَإِذَا عَلِمَ الْعِبَادُ أَنَّهُ قَرِيبٌ، يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي، عَلِمُوا قُرْبَهُ مِنْهُمْ، وَتَمَكُّنَهُمْ مِنْ سُؤَالِهِ، وَعَلِمُوا عِلْمَهُ وَرَحْمَتَهْ وَقُدْرَتَهُ، فَدَعَوْهُ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ فِي حَالٍ، وَدُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ فِي حَالٍ، [وَجَمَعُوا بَيْنَهُمَا فِي حَالٍ]، إِذِ الدُّعَاءُ اسْمٌ يَجْمَعُ الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ، وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافِرٍ: 60] بِالدُّعَاءِ، الَّذِي هُوَ الْعِبَادَةُ، وَالدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غَافِرٍ: 60] يُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ.

الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ إِجَابَةَ دُعَاءِ السُّؤَالِ أَعَمُّ مِنْ إِعْطَاءِ عَيْنِ السُّؤَالِ، كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، أَوْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا، أَوْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:"اللَّهُ أَكْثَرُ" 1، فَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الدَّعْوَةِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْعُدْوَانِ مِنْ إِعْطَاءِ السُّؤَالِ مُعَجَّلًا، أَوْ مِثْلِهِ مِنَ الْخَيْرِ مُؤَجَّلًا، أَوْ يَصْرِفُ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ.

الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبٌ مُقْتَضٍ لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَالسَّبَبُ لَهُ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ، فَإِذَا حَصَلَتْ شُرُوطُهُ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، وَإِلَّا فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، بَلْ قَدْ يَحْصُلُ غَيْرُهُ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَاتِ، مِنَ الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا جَلْبُ مَنَافِعَ أَوْ دَفْعُ مَضَارَّ، فَإِنَّ الْكَلِمَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ فِي يَدِ الْفَاعِلِ، تختلف باختلاف قوته وما يعنيها، وَقَدْ يُعَارِضُهَا مَانِعٌ مِنَ الْمَوَانِعِ، وَنُصُوصُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ -الْمُتَعَارِضَةِ فِي الظَّاهِرِ- مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَكَثِيرًا مَا تَجِدُ أَدْعِيَةً دَعَا بِهَا قَوْمٌ

1 صحيح، ولكنه ليس في "صحيح مسلم" وإنما أخرجه أحمد وغيره من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه الحاكم والذهبي وهو كما قال، وإنما رواه مسلم من حديث أبي هريرة مختصرا، ورواه الترمذي مطولا، إلا أنه قال في الخصلة الثالثة:"وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا"، وهو منكر بهذا اللفظ ولذلك خرجته في "الضعيفة""4483" وذكرت تحته ما صح منه كحديث أبي سعيد هذا.

ص: 462

فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ، وَيَكُونُ قَدِ اقْتَرَنَ بِالدُّعَاءِ ضَرُورَةُ صَاحِبِهِ وَإِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ حَسَنَةٌ تَقَدَّمَتْ منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكر الحسنة، أَوْ صَادَفَ وَقْتَ إِجَابَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ، فَيَظُنُّ أَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ الدُّعَاءِ، فَيَأْخُذُهُ مُجَرَّدًا عَنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي قَارَنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّاعِي، وَهَذَا كَمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلٌ دَوَاءً نَافِعًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْبَغِي، فَانْتَفَعَ بِهِ، فَظَنَّ آخَرُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذَا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب، وكان غَالِطًا، وَكَذَا قَدْ يَدْعُو بِاضْطِرَارٍ عِنْدَ قَبْرٍ، فَيُجَابُ، فَيَظُنُّ أَنَّ السِّرَّ لِلْقَبْرِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ السِّرَّ لِلِاضْطِرَارِ وَصِدْقِ اللَّجْءِ1 إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَالْأَدْعِيَةُ وَالتَّعَوُّذَاتِ وَالرُّقَى بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ، وَالسِّلَاحُ بِضَارِبِهِ، لَا بِحَدِّهِ فَقَطْ، فَمَتَى كَانَ السِّلَاحُ سلاحا تاما والساعد قَوِيًّا، وَالْمَحَلُّ قَابِلًا، وَالْمَانِعُ مَفْقُودًا: حَصَلَتْ بِهِ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ، وَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَخَلَّفَ التَّأْثِيرُ، فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ صَالِحٍ، أَوِ الدَّاعِي لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فِي الدُّعَاءِ، أَوْ كَانَ ثَمَّ مَانَعٌ مِنَ الْإِجَابَةِ لَمْ يَحْصُلِ الْأَثَرُ.

قَوْلُهُ: "وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ، وَلَا غِنَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الحَيْن".

ش: كَلَامٌ حَقٌّ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ، وَالْحَيْنُ بِالْفَتْحِ: الْهَلَاكُ.

قَوْلُهُ: "وَاللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى، لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى".

ش: قَالَ تَعَالَى: {رضي الله عنهم} [المائدة: 119، والتوبة: 100، والمجادلة: 22، والبينة: 8]، {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الْفَتْحِ: 18] ، وَقَالَ تَعَالَى:{مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [الْمَائِدَةِ: 60]{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النِّسَاءِ: 93]{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 61] ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْغَضَبِ، وَالرِّضَى، وَالْعَدَاوَةِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالْحُبِّ، والبغض، ونحو ذلك من

1 "اللجء" -بفتح اللام وسكون الجيم- مصدر، كاللجوء.

ص: 463

الصِّفَاتِ، الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ، وَمَنْعُ التَّأْوِيلِ الَّذِي يَصْرِفُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا اللَّائِقَةِ1 بِاللَّهِ تَعَالَى، كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشيخ فيما تقدم بِقَوْلِهِ: إِذَا كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ، تَرْكَ التَّأْوِيلِ، وَلُزُومَ التَّسْلِيمِ، وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ2. وَانْظُرْ إِلَى جَوَابِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي صِفَةِ [الِاسْتِوَاءِ] كَيْفَ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها مَوْقُوفًا عَلَيْهَا، وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله فِيمَا تَقَدَّمَ: مَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ، زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ، وَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، فَقَوْلُ الشَّيْخِ رحمه الله: لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى، نَفْيُ التَّشْبِيهِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الرِّضَى إِرَادَةُ الْإِحْسَانِ، وَالْغَضَبَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ، فَإِنَّ هَذَا نَفْيٌ لِلصِّفَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يَشَاؤُهُ، وَيَنْهَى عَمَّا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَيُبْغِضُهُ وَيَغْضَبُ عَلَى فَاعِلِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ شَاءَهُ وَأَرَادَهُ، فَقَدْ يُحِبُّ عِنْدَهُمْ وَيَرْضَى مَا لَا يُرِيدُهُ، وَيَكْرَهُ ويسخط لِمَا أَرَادَهُ.

وَيُقَالُ لِمَنْ تَأَوَّلَ الْغَضَبَ وَالرِّضَى بإرادة الإحسان: لم تأولت ذلك؟ فلا بد أن يقول: إن الْغَضَبَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، وَالرِّضَى الْمَيْلُ وَالشَّهْوَةُ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى! فَيُقَالُ لَهُ: غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ فِي الْآدَمِيِّ أَمْرٌ يَنْشَأُ عَنْ صِفَةِ الْغَضَبِ، لَا أَنَّهُ الْغَضَبُ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ فِينَا، فَهِيَ مَيْلُ الْحَيِّ إِلَى الشَّيْءِ أَوْ إِلَى مَا يُلَائِمُهُ وَيُنَاسِبُهُ، فَإِنَّ الْحَيَّ مِنَّا لَا يُرِيدُ إِلَّا مَا يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَا يُرِيدُهُ وَمُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ، وَيَزْدَادُ بِوُجُودِهِ، وَيَنْتَقِصُ بِعَدَمِهِ. فَالْمَعْنَى الَّذِي صَرَفْتَ إِلَيْهِ اللَّفْظَ كَالْمَعْنَى الَّذِي صَرَفْتَهُ عَنْهُ سَوَاءٌ، فَإِنْ جَازَ هَذَا جَازَ ذَاكَ، وإن امتنع هذا امتنع ذاك.

1 في الأصل: اللائقة بما.

2 في الأصل: المرسلين.

3 قلت: لا يصح مرفوعا.

ص: 464

فَإِنْ قَالَ: [الْإِرَادَةُ] الَّتِي يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا مُخَالِفَةٌ لِلْإِرَادَةِ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً؟ قِيلَ لَهُ: فَقُلْ: إِنَّ الْغَضَبَ وَالرِّضَى الَّذِي يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ مُخَالِفٌ لِمَا يُوصَفُ بِهِ الْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً، فَإِذَا كَانَ مَا يَقُولُهُ فِي الْإِرَادَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، لَمْ يَتَعَيَّنِ التَّأْوِيلُ، بَلْ يَجِبُ تَرْكُهُ، لِأَنَّكَ تَسْلَمُ مِنَ التَّنَاقُضِ، وَتَسْلَمُ أَيْضًا مِنْ تَعْطِيلِ مَعْنَى أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ بِلَا مُوجِبٍ، فَإِنَّ صَرْفَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ حَرَامٌ، وَلَا يَكُونُ الْمُوجِبُ لِلصَّرْفِ مَا دَلَّهُ عَلَيْهِ عَقْلُهُ، إِذِ الْعُقُولُ مُخْتَلِفَةٌ، فَكَلٌّ يَقُولُ إِنَّ عَقْلَهُ دَلَّهُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْآخَرُ!

وَهَذَا الْكَلَامُ يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ نَفَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، لِامْتِنَاعِ مُسَمَّى ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى خلاف ما يعهده حتى صِفَةِ الْوُجُودِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْعَبْدِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَوُجُودَ الْبَارِي تَعَالَى كَمَا يَلِيقُ بِهِ، فَوُجُودُهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ، وَوُجُودُ الْمَخْلُوقِ لَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ، وَمَا سَمَّى بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ وَسَمَّى بِهِ مَخْلُوقَاتِهِ، مِثْلَ الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ، أَوْ سَمَّى بِهِ بَعْضَ صِفَاتِهِ، كَالْغَضَبِ وَالرِّضَى، وَسَمَّى بِهِ بَعْضَ صِفَاتِ عِبَادِهِ؛ فَنَحْنُ نَعْقِلُ بِقُلُوبِنَا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ، وَنَعْقِلُ أَيْضًا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ، وَنَعْقِلُ أَنَّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا، لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُشْتَرَكًا، إِذِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ الْكُلِّيُّ لَا يُوجَدُ مُشْتَرَكًا إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا مُعَيَّنًا مُخْتَصًّا، فَيَثْبُتُ [فِي] كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا يَلِيقُ بِهِ. بَلْ لَوْ قِيلَ: غَضَبُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ وَغَضَبُ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِكَيْفِيَّةِ غَضَبِ الْآدَمِيِّينَ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسُوا مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ، حَتَّى تَغْلِيَ دِمَاءُ قُلُوبِهِمْ كَمَا يَغْلِي دَمُ قَلْبِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ غَضَبِهِ. فَغَضَبُ اللَّهِ أَوْلَى.

وَقَدْ نَفَى الْجَهْمُ وَمَنْ وَافَقَهُ كُلَّ مَا وَصَفَ اللَّهَ بِهِ نَفْسَهُ، مِنْ كَلَامِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَأَسَفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، لَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُتَّصِفًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ!! وَعَارَضَ هَؤُلَاءِ مِنَ الصِّفَاتِيَّةِ ابْنُ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَقَالُوا: لَا يُوصَفُ اللَّهُ بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَصْلًا، بَلْ جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ صِفَاتٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ، قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ، فَلَا يَرْضَى فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا

ص: 465

يَغْضَبُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ:"إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ" 1، وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبُّ؟ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبُّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا"2. فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُحِلُّ رِضْوَانَهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَأَنَّهُ قَدْ يُحِلُّ رِضْوَانَهُ ثُمَّ يَسْخَطُ، كَمَا يُحِلُّ السَّخَطَ ثُمَّ يَرْضَى، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَحَلَّ عَلَيْهِمْ رِضْوَانًا لَا يَتَعَقَّبُهُ سَخَطٌ، وَهُمْ قَالُوا: لَا يَتَكَلَّمُ إِذَا شَاءَ، وَلَا يَضْحَكُ إِذَا شَاءَ، وَلَا يَغْضَبُ إِذَا شَاءَ، وَلَا يَرْضَى إِذَا شَاءَ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَجْعَلُوا الرِّضَى وَالْغَضَبَ وَالْحُبَّ وَالْبُغْضَ هُوَ الْإِرَادَةُ، أَوْ يَجْعَلُوهَا صِفَاتٍ أُخْرَى، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا بِمَشِيئَتِهِ وَلَا بِقُدْرَتِهِ، إذ لو تعلق بِذَلِكَ لَكَانَ مَحَلًا لِلْحَوَادِثِ!! فَنَفَى هَؤُلَاءِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةَ الذَّاتِيَّةَ بِهَذَا الْأَصْلِ، كَمَا نَفَى أُولَئِكَ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِمْ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْأَعْرَاضِ. وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ هِيَ أَفْعَالٌ، وَلَا تُسَمَّى حَوَادِثَ، كَمَا سُمِّيَتْ تِلْكَ صِفَاتٍ، وَلَمْ تُسَمَّ أَعْرَاضًا. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ رحمه الله لَمْ يَجْمَعِ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فِي الْمُخْتَصَرِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْتَنِ فِيهِ بِتَرْتِيبٍ، وَأَحْسَنُ مَا يُرَتَّبُ عَلَيْهِ كِتَابُ أُصُولِ الدِّينِ تَرْتِيبُ جَوَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ عليه السلام، حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ:"أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ [خَيْرِهِ وَشَرِّهِ] " 3، الْحَدِيثَ، فَيَبْدَأُ بِالْكَلَامِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، ثُمَّ بِالْكَلَامِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ وثم، إلى آخره.

1 متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد مضى لفظه بتمامه.

2 صحيح، وهو مخرج في "صحيح الجامع الصغير""1907".

3 متفق عليه، على ما سبق بيانه.

ص: 466