المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أهل القبلة مسلمون مؤمنون: - شرح العقيدة الطحاوية - بتخريج الألباني

[ابن أبي العز - ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الناشر [[

- ‌ترجمة ابن أبي العز الحنفي:

- ‌ترجمة الإمام الطحاوي "صاحب العقيدة

- ‌مقدمة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني:

- ‌مقدمة الشارح:

- ‌وجوب الإيمان بما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إيمانا عاما مجملا على كل أحد:

- ‌التعريف بالإمام أبي جعفر الطحاوي:

- ‌التوحيد ومعناه:

- ‌أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل:

- ‌المراتب الثلاثة التي لا بد منها في كل خطاب

- ‌الفرق بين الإرادة الدينية والإرادة الكونية:

- ‌وجوب الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته:

- ‌القرآن كلام الله تعالى:

- ‌رؤية الله تعالى لأهل الجنة والرد على المخالفين

- ‌تأويل المعتزلة نصوص الكتاب والسنة تحريف للكلام عن موضعه:

- ‌معنى التأويل في كلام السنة:

- ‌الحوض الذي أكرم الله به رسوله صلى الله عليه وسلم:

- ‌الميثاق الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ:

- ‌أسباب الخير ثلاثة "الإيجاد والإعداد والإمداد

- ‌الإيمان باللوح والقلم:

- ‌العرش والكرسي حق:

- ‌وجوب الإيمان بالملائكة والنبين والكتب المنزلة:

- ‌أهل القبلة مسلمون مؤمنون:

- ‌تعريف الإيمان واختلاف الناس فيه:

- ‌الإيمان بالقدر خيره وشره

- ‌الحج وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إلى قيام الساعة

- ‌الإيمان بعذاب القبر ونعيمه

- ‌الإيمان بالبعث والجزاء والآيات الدالة على معاد البدن عند القيامة الكبرى

- ‌العرض والحساب:

- ‌أفعال العباد خلق لله وكسب من العباد:

- ‌في دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات:

- ‌نحب أصحاب رسول الله من غير افراط:

- ‌ نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ

- ‌أشرطة الساعة:

- ‌يجب رد جميع الأمور المتنازع فيها إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌أنواع الاختلاف

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌أهل القبلة مسلمون مؤمنون:

‌أهل القبلة مسلمون مؤمنون:

قَوْلُهُ: "وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَهُ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ".

ش: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَهُوَ الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا"1. وَيُشِيرُ الشَّيْخُ رحمه الله بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِارْتِكَابِ الذَّنْبِ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَهْلَ قِبْلَتِنَا، مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَيَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي، مَا لَمْ يُكَذِّبْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ. وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَالْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ، وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ.

قَوْلُهُ: "وَلَا نَخُوضُ فِي اللَّهِ، وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ".

ش: يُشِيرُ الشَّيْخُ رحمه الله إِلَى الْكَفِّ عَنْ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْبَاطِلِ، وَذَمِّ عِلْمِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْإِلَهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النَّجْمِ: 23]. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، أَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْطِقَ في ذات بِشَيْءٍ، بَلْ يَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: مَنْ أَلْزَمْتُهُ الْقِيَامَ مَعَ أَسْمَائِي وَصِفَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْأَدَبَ، وَمَنْ كَشَفْتُ لَهُ حَقِيقَةَ ذَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْعَطَبَ، فَاخْتَرِ الْأَدَبَ أَوِ الْعَطَبَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَشَفَ لِلْجَبَلِ عَنْ ذَاتِهِ سَاخَ الْجَبَلُ وَتَدَكْدَكَ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى عَظَمَةِ الذَّاتِ. قَالَ الشِّبْلِيُّ: الِانْبِسَاطُ بِالْقَوْلِ مَعَ الْحَقِّ تَرْكُ الْأَدَبِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ. مَعْنَاهُ: لَا نُخَاصِمُ أَهْلَ الْحَقِّ بِإِلْقَاءِ شُبُهَاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ عَلَيْهِمْ، الْتِمَاسًا لِامْتِرَائِهِمْ وَمَيْلِهِمْ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَى الْبَاطِلِ، وَتَلْبِيسِ الْحَقِّ، وَإِفْسَادِ دين الإسلام.

1 أخرجه البخاري في الصلاة من حديث أنس إلا أنه قال: "له ما للمسلم وعليه ما على المسلم". وأخرجه أبو داود وغيره عنه نحوه. وهو مخرج في "الصحيحة""303".

ص: 313

قَوْلُهُ: "وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ".

ش: فَقَوْلُهُ وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: أَنَّا لَا نَقُولُ فِيهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الزَّيْغِ وَاخْتَلَفُوا، وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: أَنَّا لَا نُجَادِلُ فِي الْقِرَاءَةِ الثَّابِتَةِ، بَلْ نَقْرَؤُهُ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ وَصَحَّ. وَكُلٌّ من المعنيين حق. [و] يَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْمَعْنَى الثَّانِي، مَا رُوِيَ عَنْ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ خِلَافَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهَةَ، وَقَالَ:"كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ، لَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اختلفوا فهلكوا" رواه مسلم1. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الِاخْتِلَافِ الَّذِي فِيهِ جَحْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ مَا مَعَ صَاحِبِهِ مِنَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ كِلَا الْقَارِئَيْنِ كَانَ مُحْسِنًا فِيمَا قَرَأَهُ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا، وَلِهَذَا قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه، لِعُثْمَانَ رضي الله عنه: أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تَخْتَلِفْ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ، فَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ اجْتِمَاعًا سَائِغًا، وَهُمْ مَعْصُومُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكٌ لِوَاجِبٍ2، وَلَا فِعْلٌ لِمَحْظُورٍ، إِذْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ جَائِزَةً لَا وَاجِبَةً، رُخْصَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ جَعَلَ الِاخْتِيَارَ إِلَيْهِمْ فِي أَيِّ حَرْفٍ اخْتَارُوهُ، كَمَا أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مَنْصُوصًا؛ وَلِهَذَا كَانَ تَرْتِيبُ مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَكَذَلِكَ مُصْحَفُ غَيْرِهِ، وَأَمَّا تَرْتِيبُ آيَاتِ السُّوَرِ فَهُوَ تَرْتِيبٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يقدموا آية على آية، بخلاف السور.

1 صحيح، ولم يروه مسلم، بل تفرد به البخاري دونه، أخرجه في "الخصومات" و"الأنبياء" ومن الغريب تصدير الشارح إياه بقوله:"روي" المشعر بضعفه في اصطلاح المحدثين! وهذا أمر تساهل فيه أكثر المتأخرين كما نبه عليه النووي وغيره.

2 في الأصل: واجب.

ص: 314

فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ وَتَتَقَاتَلُ إِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ جَمَعَهُمُ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ التَّرَخُّصَ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، فَلَمَّا تَذَلَّلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ، وَكَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ يَسِيرًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَوْفَقُ لَهُمْ، أَجْمَعُوا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْمُصْحَفَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُهْمَلَ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى نَقْلِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَتَرْكِ مَا سِوَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْجَوَابِ، وَهُوَ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا لَا وَاجِبًا، أَوْ أَنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ كَانَ يُجَوِّزُ الْقِرَاءَةَ بِالْمَعْنَى! فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، وإنما قال: قد نظرت إلى القرأة1 فَرَأَيْتُ قِرَاءَتَهُمْ مُتَقَارِبَةً، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ: هَلُمَّ، وَأَقْبِلْ، وَتَعَالَ، فَاقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَنْ لَا نُجَادِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، فَكَيْفَ بِمُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؟ فَإِنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنَاظَرَ مَنْ لَمْ يَظْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَلَيْسَ إِذَا أَخْطَأَ يُقَالُ: إِنَّهُ كَافِرٌ، قَبْلَ أَنْ تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي حَكَمَ الرَّسُولُ بِكُفْرِ مَنْ تَرَكَهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَفَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأِ والنسيان، ولهذا ذم السلف أهل الأهواء، وذكر [وا] أَنَّ آخِرَ أَمْرِهِمُ السَّيْفَ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةُ بَيَانٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: وَنَرَى الْجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَابًا، وَالْفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا.

وَقَوْلُهُ: وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا.

وَقَوْلُهُ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]، هو جبرائيل عليه السلام، سُمِّيَ رُوحًا لِأَنَّهُ حَامِلُ الْوَحْيِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ إِلَى الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ أَمِينٌ حَقُّ أَمِينٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ

1 في الأصل: القراء.

ص: 315

الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاءِ: 193 - 195]. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التَّكْوِيرِ: 19 - 21]. وَهَذَا وصف جبرائيل بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الْحَاقَّةِ: 40 - 41] الْآيَاتِ. فَإِنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.

وَقَوْلُهُ: فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ، تَصْرِيحٌ بِتَعْلِيمِ جبرائيل إِيَّاهُ، إِبْطَالًا لِتَوَهُّمِ الْقَرَامِطَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ تَصَوَّرَهُ فِي نَفْسِهِ إِلْهَامًا.

وَقَوْلُهُ: وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَقَدْ خَالَفَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ سَلَفَ الْأُمَّةِ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أنه كَلَامُ اللَّهِ بِالْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، بَلْ قَوْلُهُ: وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، مُجْرًى عَلَى إِطْلَاقِهِ. أَنَّا لَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ خِلَافَهُمْ زَيْغٌ وَضَلَالٌ وَبِدْعَةٌ.

قَوْلُهُ: "وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ، وَلَا نَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ".

ش: أَرَادَ بِأَهْلِ الْقِبْلَةِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، [مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قال وأخبر مصدقين]، يشير الشيخ رحمه الله [بهذا الكلام] إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْخَوَارِجِ الْقَائِلِينَ بِالتَّكْفِيرِ بِكُلِّ ذَنْبٍ.

وَاعْلَمْ -رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا- أَنَّ بَابَ التَّكْفِيرِ وَعَدَمِ التَّكْفِيرِ، بَابٌ عَظُمَتِ الْفِتْنَةُ وَالْمِحْنَةُ فِيهِ، وَكَثُرَ فِيهِ الِافْتِرَاقُ، وَتَشَتَّتَتْ فِيهِ الْأَهْوَاءُ وَالْآرَاءُ، وَتَعَارَضَتْ فِيهِ دَلَائِلُهُمْ. فَالنَّاسُ فِيهِ، فِي جِنْسِ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، الْمُخَالِفَةِ لِلْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَوِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِمْ، عَلَى طَرَفَيْنِ وَوَسَطٍ، مِنْ جِنْسِ الِاخْتِلَافِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْعَمَلِيَّةِ.

فَطَائِفَةٌ تَقُولُ: لَا نُكَفِّرُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَحَدًا، فَتَنْفِي التَّكْفِيرَ نَفْيًا عَامًّا، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَكْفَرُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى

ص: 316

بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ يُظْهِرُ بَعْضَ ذَلِكَ حَيْثُ يُمْكِنُهُمْ، وَهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَأَيْضًا: فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ أَظْهَرَ إِنْكَارَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ كَافِرًا مُرْتَدًّا، وَالنِّفَاقُ وَالرِّدَّةُ مظنتها الْبِدَعُ وَالْفُجُورُ، كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، بِسَنَدِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً أَهْلُ الْأَهْوَاءِ، وَكَانَ يَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الْأَنْعَامِ: 68]. وَلِهَذَا امْتَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّا لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ، بَلْ يُقَالُ: لَا نُكَفِّرُهُمْ بِكُلِّ ذَنْبٍ، كَمَا تَفْعَلُهُ1 الْخَوَارِجُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ النَّفْيِ الْعَامِّ وَنَفْيِ الْعُمُومِ. وَالْوَاجِبُ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْعُمُومِ، مُنَاقَضَةً لِقَوْلِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِكُلِّ ذَنْبٍ. وَلِهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- قَيَّدَهُ الشَّيْخُ رحمه الله [بِقَوْلِهِ]: مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا النَّفْيُ الْعَامُّ لكل ذنب [من] الذُّنُوبُ الْعَمَلِيَّةُ لَا الْعِلْمِيَّةُ. وَفِيهِ إِشْكَالٌ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَكْتَفِ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ، وَلَا فِي الْعِلْمِيَّاتِ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ دُونَ الْعَمَلِ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ مَقْصُورًا عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ، بَلْ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ أَصْلٌ لِعَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَأَعْمَالُ الْجَوَارِحِ تَبَعٌ. إِلَّا أَنْ يُضَمَّنَ قَوْلُهُ: يَسْتَحِلُّهُ بِمَعْنَى: يَعْتَقِدُهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: وَلَا نَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ

إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ. فَهَؤُلَاءِ فِي طَرَفٍ، وَالْخَوَارِجُ فِي طَرَفٍ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ نُكَفِّرُ الْمُسْلِمَ بِكُلِّ ذَنْبٍ، أَوْ بِكُلِّ ذَنَبٍ كَبِيرٍ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ يَحْبَطُ إِيمَانُهُ كُلُّهُ بِالْكَبِيرَةِ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ. لَكِنَّ الْخَوَارِجَ يَقُولُونَ: يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ! وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ، وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ!! وَبِقَوْلِهِمْ بِخُرُوجِهِ مِنَ الْإِيمَانِ أَوْجَبُوا لَهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ! وطوائف من أهل

1 في الأصل: يفعله.

ص: 317

الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، لَكِنْ فِي الِاعْتِقَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مُتَأَوِّلًا، فَيَقُولُونَ: يَكْفُرُ كُلُّ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ وَغَيْرِهِ، أَوْ يَقُولُونَ: يَكْفُرُ كُلُّ مُبْتَدِعٍ، وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْإِثْبَاتِ الْعَامِّ أُمُورٌ عظيمة، فثان النُّصُوصَ الْمُتَوَاتِرَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ [مِثْقَالُ] ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَنُصُوصُ الْوَعْدِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا هَؤُلَاءِ تُعَارِضُ نُصُوصَ الْوَعِيدِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا أُولَئِكَ، وَالْكَلَامُ فِي الْوَعِيدِ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ: وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْبِدَعَ هِيَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُؤْمِنًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، لَكِنْ تَأَوَّلَ تَأْوِيلًا أَخْطَأَ فِيهِ، إِمَّا مُجْتَهِدًا وَإِمَّا مُفْرِطًا مُذْنِبًا، فَلَا يقال. إن إيمانه حبط لمجرد ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا نَقُولُ: لَا يَكْفُرُ، بَلِ الْعَدْلُ هُوَ الْوَسَطُ، وَهُوَ: أَنَّ الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ الْمُبْتَدَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ نَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ، أَوْ إِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ، أَوِ الْأَمْرَ بِمَا نَهَى عَنْهُ، أَوِ النَّهْيَ عَمَّا أَمَرَ بِهِ، يُقَالُ فِيهَا الْحَقُّ، وَيُثْبَتُ لَهَا الْوَعِيدُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَيُبَيَّنُ أَنَّهَا كُفْرٌ، وَيُقَالُ: مَنْ قَالَهَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَمَا يُذْكَرُ من الوعيد في الظلم في النفس وَالْأَمْوَالِ، وَكَمَا قَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشَاهِيرِ بِتَكْفِيرِ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ [وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، أَنَّهُ قَالَ: نَاظَرْتُ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله مُدَّةً، حَتَّى اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُهُ: أَنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَهُوَ كَافِرٌ]. وَأَمَّا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ، إِذَا قِيلَ: هَلْ تَشْهَدُونَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ كَافِرٌ؟ فَهَذَا لَا نَشْهَدُ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَمْرٍ تَجُوزُ مَعَهُ الشَّهَادَةُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَغْيِ أَنْ يُشْهَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يَرْحَمُهُ بَلْ يُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ، فَإِنَّ هَذَا حُكْمُ الْكَافِرِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ:"بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْبَغْيِ"، وَذَكَرَ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانِ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ. فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رقيبا؟ فقال:

ص: 318

وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لَا يدخلك [ال له] الْجَنَّةَ فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدَيَّ قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: والذي نفسي بيده، لتكلم بكلمة أو بقت دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ" 1. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ؛ وَلِأَنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا مَغْفُورًا له، [ويمكن أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ]، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِيمَانٌ عَظِيمٌ وَحَسَنَاتٌ أَوْجَبَتْ لَهُ رَحْمَةَ اللَّهِ، كَمَا غَفَرَ لِلَّذِي قَالَ: إِذَا مِتُّ فَاسْحَقُونِي ثم اذروني، ثُمَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ لِخَشْيَتِهِ2، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَمْعِهِ وَإِعَادَتِهِ، أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذَا التَّوَقُّفَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نُعَاقِبَهُ فِي الدُّنْيَا، لِمَنْعِ بِدْعَتِهِ، وَأَنْ نَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي نَفْسِهِ كُفْرًا قِيلَ: إِنَّهُ كُفْرٌ وَالْقَائِلُ لَهُ يَكْفُرُ بِشُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا [إِذَا] صَارَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُكَفَّرَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُظْهِرِينَ الْإِسْلَامَ إِلَّا مَنْ يَكُونُ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا، وَكِتَابُ اللَّهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ صَنَّفَ الْخَلْقَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كُفَّارٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يقرون بالشهادتين، وصنف المؤمنون بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَصِنْفٌ أَقَرُّوا بِهِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَانَ مُقِرًّا بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا زِنْدِيقًا، وَالزِّنْدِيقُ هُوَ الْمُنَافِقُ.

وَهُنَا يَظْهَرُ غَلَطُ الطَّرَفَيْنِ، فَإِنَّهُ مَنْ كَفَّرَ كُلَّ مَنْ قَالَ الْقَوْلَ الْمُبْتَدَعَ فِي الْبَاطِنِ، يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَقْوَامًا لَيْسُوا فِي الْبَاطِنِ مُنَافِقِينَ، بَلْ هُمْ فِي الْبَاطِنِ يُحِبُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ كَانُوا مُذْنِبِينَ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ [رضي الله عنه]، عَنْ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ: عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ: حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكان

1 حسن كما قال المؤلف رحمه الله تعالى، وفيه عكرمة بن عمار، احتج به مسلم، وفيه ضعف.

2 صحيح أخرجه البخاري وغيره.

ص: 319

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ جلده في الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ! مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه، [فوالله ما علمت]، إنه يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" 1 وَهَذَا أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فِي طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ وَأَئِمَّةٍ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَفِيهِمْ بَعْضُ مَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّةِ أَوِ الْمُرْجِئَةِ أَوِ الْقَدَرِيَّةِ أَوِ الشِّيعَةِ أَوِ الْخَوَارِجِ، وَلَكِنَّ الْأَئِمَّةَ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا يَكُونُونَ قَائِمِينَ بِجُمْلَةِ تِلْكَ الْبِدْعَةِ، بَلْ بِفَرْعٍ مِنْهَا، وَلِهَذَا انْتَحَلَ أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ لِطَوَائِفَ2 مِنَ السَّلَفِ الْمَشَاهِيرِ. فَمِنْ عُيُوبِ أَهْلِ الْبِدَعِ تَكْفِيرُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمِنْ مَمَادِحِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ يُخَطِّئُونَ وَلَا يُكَفِّرُونَ.

وَلَكِنْ بَقِيَ هُنَا إِشْكَالٌ يَرِدُ عَلَى كَلَامِ الشَّيْخِ رحمه الله، وَهُوَ: أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ سَمَّى بَعْضَ الذُّنُوبِ كُفْرًا، قَالَ اللَّهُ:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [الْمَائِدَةِ: 44]. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ 3 فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"4. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"5. وَ "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا" 6. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا مِنْ حديث ابن عمر رضي الله عنه. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ [خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ] خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا؛ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"7. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَا يزني الزاني حين يزني وهو

1 وهو في "الحدود" من "البخاري".

2 في الأصل: الطوائف.

3 في الأصل: المؤمن.

4 وهو في "الإيمان" من "الصحيحين". وانظر "صحيح الجامع الصغير""3589 و3596".

5 أخرجه الشيخان، وهو مخرج في "غاية المرام""443".

6 أخرجه الشيخان.

7 أخرجه الشيخان.

ص: 320

مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ" 1. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ"2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ، أَوْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ"3. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ" 4. رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "ثِنْتَانِ في أمتي [بهم] كفر: الطعن في الأنساب، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ"5. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا قَالَتِ الْخَوَارِجُ، إِذْ لَوْ كَفَرَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ لَكَانَ مُرْتَدًّا يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يُقْبَلُ عَفْوُ وَلِيِّ الْقِصَاصِ، وَلَا تَجْرِي الْحُدُودُ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ! وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْلُومٌ بُطْلَانُهُ وَفَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ مَعَ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ. فَإِنَّ قَوْلَهُمْ بَاطِلٌ أَيْضًا، إِذْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [الْبَقَرَةِ: 178]، إِلَى أَنْ قَالَ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [الْبَقَرَةِ: 178]. فَلَمْ يُخْرِجِ الْقَاتِلَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَجَعَلَهُ أَخًا لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ، وَالْمُرَادُ أُخُوَّةُ الدِّينِ بِلَا رَيْبٍ. وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الْحُجُرَاتِ: 9]، إِلَى أَنْ قَالَ:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 10]. وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَالْقَاذِفَ لَا يُقْتَلُ، بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ،

1 أخرجه الشيخان.

2 أخرجه مسلم.

3 صحيح وهو مخرج في "آداب الزفاف" ص31 ط3.

4 صحيح وتقدم.

5 صحيح، رواه مسلم "1/ 58" بلفظ: "اثنتان في الناس

" والباقي مثله.

ص: 321

فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَدٍّ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ الْيَوْمَ مَظْلَمَةٌ مِنْ عِرْضٍ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ"1. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَثَبَتَ أَنَّ الظَّالِمَ يَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ يَسْتَوْفِي الْمَظْلُومُ مِنْهَا حَقَّهُ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟ " قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، قَالَ:"الْمُفْلِسُ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وله حسنات أمثال الجبال، [فيأتي] وقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَأَخَذَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هُودٍ: 115]. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ إِسَاءَتِهِ يَعْمَلُ3 حَسَنَاتٍ تَمْحُو سَيِّئَاتِهِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.

وَالْمُعْتَزِلَةُ مُوَافِقُونَ لِلْخَوَارِجِ هُنَا فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، لَكِنْ قَالَتِ الْخَوَارِجُ. نُسَمِّيهِ كَافِرًا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: نُسَمِّيهِ فَاسِقًا، فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ فَقَطْ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَيْضًا مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ، لَا كَمَا يَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ، وَلَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ! وَإِذَا اجْتَمَعَتْ نُصُوصُ الْوَعْدِ الَّتِي اسْتَدَلَّتْ بِهَا الْمُرْجِئَةُ، وَنُصُوصُ الْوَعِيدِ التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة، تبينت لَكَ فَسَادُ الْقَوْلَيْنِ! وَلَا فَائِدَةَ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ سِوَى أَنَّكَ تَسْتَفِيدُ مِنْ كَلَامِ كُلِّ طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى.

1 أخرجه البخاري في "المظالم" و"الرقاق" من حديث أبي هريرة دون قوله: "ثم ألقي .. " وكذلك رواه أحمد "2/ 435 و506" ولم أره في "صحيح مسلم". وانظر "أحكام الجنائز""ص4".

2 رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، وهو مخرج في "الصحيحة""847".

3 في الأصل: يفعل.

ص: 322

ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أَهْلِ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا خِلَافًا لَفْظِيًّا، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادٌ، وَهُوَ: أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ الْكُفْرُ عَلَى مَرَاتِبَ، كُفْرًا دُونَ كُفْرٍ؟ كَمَا اخْتَلَفُوا: هَلْ يَكُونُ الْإِيمَانُ عَلَى مَرَاتِبَ، إِيمَانًا دُونَ إِيمَانٍ؟ وَهَذَا اخْتِلَافٌ نَشَأَ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ: هَلْ هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، أَمْ لَا؟ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ كَافِرًا نُسَمِّيهِ كَافِرًا، إِذْ مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزِلَ اللَّهُ كَافِرًا، وَيُسَمِّيَ رَسُولُهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ كَافِرًا، وَلَا نُطْلِقُ عَلَيْهِمَا اسْمَ الْكُفْرِ، وَلَكِنْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، قَالَ: هُوَ كُفْرٌ عَمَلِيٌّ لَا اعْتِقَادِيٌّ، وَالْكُفْرُ عِنْدَهُ عَلَى مَرَاتِبَ، كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، كَالْإِيمَانِ عِنْدَهُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَلَا يَدْخُلُ الْعَمَلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ، وَلَا يَزِيدَانِ وَلَا يَنْقُصَانِ، قَالَ: هُوَ كُفْرٌ مَجَازِيٌّ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، إِذِ الْكُفْرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي تَسْمِيَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِالْإِيمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 143]، أَيْ صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِنَّهَا سُمِّيَتْ إِيمَانًا مَجَازًا، لِتَوَقُّفِ صِحَّتِهَا عَنِ الْإِيمَانِ، أَوْ لِدِلَالَتِهَا عَلَى الْإِيمَانِ، إِذْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِ مُؤَدِّيهَا مُؤْمِنًا. وَلِهَذَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا صَلَّى صَلَاتَنَا. فَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ، إِذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهَمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ، وَلَكِنَّ الْأَقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ، كالخوارج والمعتزلة. ولكن أراد ما في ذلك التعصب على من يضادهم، وَإِلْزَامُهُ لِمَنْ يُخَالِفُ قَوْلَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ، وَالتَّشْنِيعُ عَلَيْهِ! وَإِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِالْعَدْلِ فِي مُجَادَلَةِ الْكَافِرِينَ، وَأَنْ يُجَادَلُوا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَكَيْفَ لَا يَعْدِلُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْخِلَافِ؟! قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] الآية.

وَهُنَا أَمْرٌ يَجِبُ أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ، وَهُوَ: أَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً: كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَيَكُونُ كُفْرًا: إِمَّا مَجَازِيًّا، وَإِمَّا كُفْرًا أَصْغَرَ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الْحَاكِمِ: فَإِنَّهُ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، أَوِ اسْتَهَانَ بِهِ مَعَ تيقنه أنه

ص: 323

حُكْمُ اللَّهِ: فَهَذَا كَفْرٌ أَكْبَرُ1. وَإِنِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَعَلِمَهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَعَدَلَ عَنْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، فَهَذَا عَاصٍ، وَيُسَمَّى كَافِرًا كُفْرًا مَجَازِيًّا، أَوْ كُفْرًا أَصْغَرَ، وَإِنْ جَهِلَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهَا، مَعَ بَذْلِ جُهْدِهِ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ في معرفة الحكم وأخطأه، فهذا مخطىء، لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ.

وَأَرَادَ الشَّيْخُ رحمه الله بِقَوْلِهِ: وَلَا نَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ مُخَالَفَةَ الْمُرْجِئَةِ. وَشُبْهَتُهُمْ كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْأَوَّلِينَ، فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِمْ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا من ذلك، فإن قدامة بن عبد الله شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا هُوَ وَطَائِفَةٌ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الْمَائِدَةِ: 93] الْآيَةَ. فَلَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، اتَّفَقَ هُوَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنِ اعْتَرَفُوا بِالتَّحْرِيمِ جُلِدُوا، وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى اسْتِحْلَالِهَا قُتِلُوا. وَقَالَ عُمَرُ لِقُدَامَةَ: أَخْطَأَتِ اسْتُكَ الْحُفْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوِ اتَّقَيْتَ وَآمَنْتَ وَعَمِلْتَ الصَّالِحَاتِ لَمْ تَشْرَبِ الْخَمْرَ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَكَانَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: فَكَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟ فَأَنْزِلُ الله هَذِهِ الْآيَةَ، بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ مَنْ طَعِمَ الشَّيْءَ فِي الْحَالِ الَّتِي لَمْ يُحَرَّمْ فِيهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ الْمُصْلِحِينَ، كَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ فَعَلُوا [ذلك يذمون] على أَنَّهُمْ أَخْطَأُوا وَأَيِسُوا مِنَ التَّوْبَةِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى قُدَامَةَ يَقُولُ لَهُ: {حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ

1 قال الشيخ أحمد شاكر: وهذا مثل ما ابتلي به الذين درسوا القوانين الأوروبية، من رجال الأمم الإسلامية، ونسائها أيضا! الذين أشربوا في قلوبهم حبها، والشغف بها، والذب عنها، وحكموا بها، وأذاعوها، بما ربوا من تربية أساسها صنع المبشرين الهدامين أعداء الإسلام، ومنهم من يصرح، ومنهم من يتوارى. ويكادون يكونون سواء. فإن لله وإنا إليه راجعون.

1 في الأصل: حكم.

ص: 324

اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غَافِرٍ: 1 - 3]. مَا أَدْرِي أَيُّ ذَنْبَيْكَ أَعْظَمُ؟ اسْتِحْلَالُكَ الْمُحَرَّمَ أَوَّلًا؟ أَمْ يَأْسُكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ثَانِيًا؟ وَهَذَا الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ.

قَوْلُهُ: "وَنَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، وَلَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نُقَنِّطُهُمْ".

ش: وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْتَقِدَ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ رحمه الله فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 57]. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 175]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41]. {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]. {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150]. وَمَدَحَ أَهْلَ الْخَوْفِ، فَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 57 - 58]. إلى قوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 61]. وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة} [الْمُؤْمِنُونَ: 60]، هو الَّذِي يَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُ؟ قَالَ:"لَا، يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ"1. قَالَ الْحَسَنُ رضي الله عنه: عَمِلُوا -وَاللَّهِ- بِالطَّاعَاتِ، وَاجْتَهَدُوا فِيهَا، وَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَخَشْيَةً، وَالْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا. انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 218] ، فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ رَجَاءَهُمْ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ؟ فَالرَّجَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حكمة الله تعالى،

1 حديث حسن، وقد خرجته في "الأحاديث الصحيحة""162".

ص: 325

شرعة وقدرته1 وَثَوَابُهُ وَكَرَامَتُهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أَرْضٌ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ مَغَلِّهَا مَا يَنْفَعُهُ، فَأَهْمَلَهَا وَلَمْ يَحْرُثْهَا وَلَمْ يَبْذُرْهَا، وَرَجَا أَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مَغَلِّهَا مِثْلَ مَا يَأْتِي مَنْ حَرَثَ وَزَرَعَ وَتَعَاهَدَ الْأَرْضَ، لَعَدَّهُ النَّاسُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ! وَكَذَا لَوْ رَجَا وَحَسَّنَ ظَنَّهُ أَنْ يَجِيئَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ! أَوْ يَصِيرَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَحِرْصٍ تَامٍّ! وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ فِي الْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، مِنْ غَيْرِ طَاعَةٍ وَلَا تَقَرُّبٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ أُمُورًا: أَحَدُهَا: مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ. الثَّانِي: خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ. الثَّالِثُ: سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَأَمَّا رَجَاءٌ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمَانِيِّ، وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ وَالْأَمَانِيُّ شَيْءٌ آخَرُ، فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ، وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إِذَا خَافَ أَسْرَعَ السَّيْرَ، مَخَافَةَ الْفَوَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]. فَالْمُشْرِكُ لَا تُرْجَى لَهُ الْمَغْفِرَةُ، لِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُ الْمَغْفِرَةَ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الذُّنُوبِ في مشيئة الله، إن شاء غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ. وَفِي مُعْجَمِ الطبراني: الدواوين عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ: دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48، 116]. وديوان لا يترك الله منه شيئا، مَظَالِمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ2.

وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ رحمه الله: وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ. وَلَكِنْ ثَمَّ أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ: أَنَّ الْكَبِيرَةَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخَوْفِ وَالِاسْتِعْظَامِ لَهَا مَا يُلْحِقُهَا بِالصَّغَائِرِ، وقد يقرن بِالصَّغِيرَةِ مِنْ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ وَتَرْكِ الْخَوْفِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِهَا مَا يُلْحِقُهَا بِالْكَبَائِرِ، وَهَذَا أمر مرجعه إلى ما

1 في الأصل: وقدره.

2 ضعيف، ولم يروه الطبراني بل أحمد "6/ 240"، والحاكم "4/ 575 - 276" وقال:"صحيح الإسناد"! ورده الذهبي بقوله: "قلت: صدقة ضعفوه، وابن بابنوس فيه جهالة".

ص: 326

يَقُومُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ، وَالْإِنْسَانُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ.

[وَأَيْضًا]: فَإِنَّهُ قَدْ يُعْفَى لِصَاحِبِ الْإِحْسَانِ1 الْعَظِيمِ مَا لَا يُعْفَى لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ فَاعِلَ السَّيِّئَاتِ يسقط عَنْهُ عُقُوبَةُ جَهَنَّمَ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ، عُرِفَتْ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: السَّبَبُ الْأَوَّلُ: التَّوْبَةُ، قال تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم: 60، الفرقان: 70]. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160]، وغيرها. وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ، وَهِيَ الْخَالِصَةُ، لَا يَخْتَصُّ بِهَا ذَنْبٌ دُونَ ذَنْبٍ، لَكِنْ هَلْ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ عَامَّةً؟ حَتَّى لَوْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَأَصَرَّ عَلَى آخَرَ لَا تُقْبَلُ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُقْبَلُ. وَهَلْ يَجُبُّ الْإِسْلَامُ مَا قَبْلَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا؟ أَمْ لَا بُدَّ مَعَ الْإِسْلَامِ مِنَ التَّوْبَةِ مِنْ غَيْرِ الشِّرْكِ؟ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا، هَلْ يُؤَاخَذُ بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي كُفْرِهِ مِنَ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ؟ أَمْ لَا بُدَّ أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ مَعَ إِسْلَامِهِ؟ أَوْ يَتُوبَ تَوْبَةً عَامَّةً مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؟ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ مَعَ الْإِسْلَامِ، وَكَوْنُ التَّوْبَةِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا، مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ. وَلَيْسَ شَيْءٌ يَكُونُ سَبَبًا لِغُفْرَانِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ إِلَّا التَّوْبَةَ، قال تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمَرِ: 53]، وَهَذَا لِمَنْ تَابَ، وَلِهَذَا قَالَ:{لَا تَقْنَطُوا} ، وَقَالَ بَعْدَهَا:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] الآية. السَّبَبُ الثَّانِي: الِاسْتِغْفَارُ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الْأَنْفَالِ: 33]. لَكِنَّ الِاسْتِغْفَارَ تَارَةً يُذْكَرُ وَحْدَهُ، وَتَارَةً يُقْرَنُ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ ذكره وحده دخلت مَعَهُ التَّوْبَةُ، كَمَا إِذَا ذُكِرَتِ التَّوْبَةُ وَحْدَهَا شَمَلَتْ الِاسْتِغْفَارَ. فَالتَّوْبَةُ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِغْفَارَ، وَالِاسْتِغْفَارُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْآخَرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا عِنْدُ اقْتِرَانِ إِحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، فَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا مَضَى، وَالتَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ وَطَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا يخافه في المستقبل

1 في الأصل: السيئات.

ص: 327

مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا: الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ، إِذَا ذُكِرَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ شَمِلَ الْآخَرَ، وَإِذَا ذُكِرَا مَعًا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى. قَالَ تَعَالَى:{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [الْمَائِدَةِ: 89]. {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [الْمُجَادَلَةِ: 4]. {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 271]. لَا خِلَافَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَمَّا أُفْرِدَ شَمِلَ الْمُقِلَّ وَالْمُعْدِمَ، وَلَمَّا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ} [التوبة: 60] الآية، كَانَ الْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا الْمُقِلَّ، وَالْآخَرِ الْمُعْدِمَ، عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ: الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ، وَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى، وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ. وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا [الْمَعْنَى]: الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، فَإِنَّ الْكُفْرَ أَعَمُّ، فَإِذَا ذُكِرَ الْكُفْرُ شَمِلَ النِّفَاقَ، وَإِنْ ذُكِرَا مَعًا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ1، عَلَى مَا يَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْحَسَنَاتُ: فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، والسيئة بمثلها، فالويل لمن [غلبت] آحاده عشراته وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هُودٍ: 114]. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم. "وَأَتْبَعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا"2. السَّبَبُ الرَّابِعُ: الْمَصَائِبُ الدُّنْيَوِيَّةُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ، وَلَا غَمٍّ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كُفِّرَ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" 3. وَفِي الْمُسْنَدِ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النِّسَاءِ: 123]، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَزَلَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ4، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟ فَقَالَ:"يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ يُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ فَذَلِكَ ما تجزون به"5.

1 قال عفيفي: انظر أسباب سقوط العقوبة عن العبد ص487/ 501 من الفتاوي.

2 حديث حسن، وهو مخرج في "الروض النضير""855".

3 متفق عليه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة معا.

4 في الأصل: للظهر.

5 ضعيف الإسناد، صحيح المعنى، قال أحمد شاكر في تعليقه هنا: حديث أبي بكر هذا في "المسند" برقم: 68 بشرحنا. ولكن أوله هناك أن أبا بكر قال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فكل سوء عملناه جزينا به؟ ليس فيه قوله هنا: "نزلت قاصمة الظهر

"، وهو حديث ضعيف، إسناده منقطع. وكان الأجدر بالشارح أن يذكر حديث =

ص: 328

فَالْمَصَائِبُ نَفْسُهَا مُكَفِّرَةٌ، وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا يُثَابُ الْعَبْدُ، وبالسخط يأثم. والصبر والسخط أَمْرٌ آخَرُ غَيْرُ الْمُصِيبَةِ، فَالْمُصِيبَةُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ لَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، وَهِيَ جَزَاءٌ مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ عَلَى ذَنْبِهِ، وَيُكَفِّرُ ذَنْبَهُ بِهَا، وَإِنَّمَا يُثَابُ الْمَرْءُ وَيَأْثَمُ عَلَى فِعْلِهِ، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الأجر قَدْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ عَمَلٍ مِنَ الْعَبْدِ، بَلْ هَدِيَّةٌ مِنَ الْغَيْرِ، أَوْ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 40]. فَنَفْسُ الْمَرَضِ جَزَاءٌ وَكَفَّارَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَكَثِيرًا مَا يُفْهَمُ مِنَ الْأَجْرِ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَدْلُولَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ لَازِمِهِ. السَّبَبُ الْخَامِسُ: عَذَابُ الْقَبْرِ. وسيأتي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّبَبُ السَّادِسُ: دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ. السَّبَبُ السَّابِعُ: مَا يُهْدَى إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، مِنْ ثَوَابِ صَدَقَةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ حَجٍّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّبَبُ الثَّامِنُ: أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشَدَائِدُهُ. السَّبَبُ التَّاسِعُ: مَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ": "أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا عَبَرُوا الصِّرَاطَ وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ"1. السَّبَبُ الْعَاشِرُ: شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ الشَّفَاعَةِ وَأَقْسَامِهَا. السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما قال

= أبي هريرة في "المسند": 7380 أنه لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكوا ذلك إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال لهم:"قاربوا وسددوا، فكل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها". وهو حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه "2/ 282"، وزاد في آخره:"والشوكة يشاكها". ولو رجع الشارح رحمه الله إلى تفسير شيخه ابن كثير في هذه الآية "2/ 856 - 590" لوجد حديث أبي هريرة، وأحاديث أخر في معناه، بعضها أصح إسنادا من حديث أبي بكر.

قلت: وهو في "مسند أبي بكر الصديق" للحافظ أبي بكر المروزي "رقم 20، 111" طبع المكتب الإسلامي تحقيق الأستاذ شعيب الأرناؤوط من طريقين ضعيفين عن الصديق رضي الله عنه.

1 هو طرف من حديث، أخرجه البخاري في "المظالم" و"الرقاق" وأحمد "3/ 13 و63 و74" من حديث أبي هريرة مرفوعا، ولم أره في صحيح مسلم، ولا عزاه السيوطي إليه.

ص: 329

تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ لِعِظَمِ جُرْمِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ إِلَى الْكِيرِ، لِيَخْلُصَ طِيبُ إِيمَانِهِ مِنْ خَبَثِ مَعَاصِيهِ، فَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، بَلْ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ1. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، امْتَنَعَ الْقَطْعُ لِأَحَدٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْأُمَّةِ، غَيْرَ مَنْ شَهِدَ لَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ، وَلَكِنْ نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: "وَالْأَمْنُ وَالْإِيَاسُ يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ".

ش: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ خَائِفًا رَاجِيًا، فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمَحْمُودَ الصَّادِقَ: مَا حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَإِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ خِيفَ مِنْهُ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ، وَالرَّجَاءُ الْمَحْمُودُ: رَجَاءُ رَجُلٍ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ رَاجٍ لِثَوَابِهِ، أَوْ رَجُلٍ أَذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ مِنْهُ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ رَاجٍ لِمَغْفِرَتِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 218]. أَمَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُتَمَادِيًا فِي التَّفْرِيطِ وَالْخَطَايَا، يَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ بِلَا عَمَلٍ، فَهَذَا هُوَ الْغُرُورُ وَالتَّمَنِّي وَالرَّجَاءُ الْكَاذِبُ. قَالَ: أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ رحمه الله: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ كَجَنَاحَيِ الطَّائِرِ، إِذَا اسْتَوَيَا اسْتَوَى الطَّيْرُ وَتَمَّ طَيَرَانُهُ، وَإِذَا نَقَصَ أَحَدُهُمَا وَقَعَ فِيهِ النَّقْصُ، وَإِذَا ذَهَبَا صَارَ الطَّائِرُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ أهل الخوف والرجاء بقوله:{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزُّمَرِ: 9] الْآيَةَ. وَقَالَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] الآية. فَالرَّجَاءُ يَسْتَلْزِمُ الْخَوْفَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَمْنًا، وَالْخَوْفُ يَسْتَلْزِمُ الرَّجَاءَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ قُنُوطًا وَيَأْسًا. وَكُلُّ أَحَدٍ إِذَا خِفْتَهُ هَرَبْتَ مِنْهُ، إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنَّكَ إِذَا خِفْتَهُ هَرَبْتَ إِلَيْهِ، فَالْخَائِفُ هَارِبٌ مِنْ رَبِّهِ إِلَى رَبِّهِ. وَقَالَ صَاحِبُ مَنَازِلُ السَّائِرِينَ رحمه الله: الرَّجَاءُ أَضْعَفُ مَنَازِلِ الْمُرِيدِ. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ، بَلِ الرجاء والخوف على

1 متفق عليه.

ص: 330

الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَشْرَفِ مَنَازِلِ الْمُرِيدِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ [بِي] مَا شَاءَ" 1، وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ" 2، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَجَاؤُهُ فِي مَرَضِهِ أَرْجَحَ مِنْ خَوْفِهِ، بِخِلَافِ زَمَنِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ خَوْفُهُ أَرْجَحَ مِنْ رَجَائِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ [وَحْدَهُ] فَهُوَ زِنْدِيقٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حروري، [وروي]: وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ فِي قَوْلِهِ:

لَوْ قد رأيت الصغير من عمل الخـ

ـير ثَوَابًا عَجِبْتَ مِنْ كِبَرِهْ

أَوْ قَدْ رَأَيْتَ الْحَقِيرَ مِنْ عَمِلَ الشَّـ

ـرِّ جَزَاءً أَشْفَقْتَ مِنْ حَذَرِهْ

قَوْلُهُ: "وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ".

ش: يُشِيرُ الشَّيْخُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِ بِخُرُوجِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ، وفيه تقرير لما قال أولا: لا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

1 متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ: "

وأنا معه إذا ذكرني

" الحديث، وقد مضى في الكتاب "برقم 355" معزوا لـ"الصحيح" أيضا، وعزوه إليه هنا خطأ، فإنه إنما رواه بهذا اللفظ الذي هنا عن أبي هريرة الإمام أحمد، وفيه ابن لهيعة، لكن له شاهد من حديث واثلة، رواه أحمد وغيره بسند صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي، وهو مخرج في "الصحيحة" تحت الحديث "1663".

2 رواه مسلم وغيره كما في "أحكام الجنائز""ص3".

ص: 331