المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعريف الإيمان واختلاف الناس فيه: - شرح العقيدة الطحاوية - بتخريج الألباني

[ابن أبي العز - ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الناشر [[

- ‌ترجمة ابن أبي العز الحنفي:

- ‌ترجمة الإمام الطحاوي "صاحب العقيدة

- ‌مقدمة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني:

- ‌مقدمة الشارح:

- ‌وجوب الإيمان بما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إيمانا عاما مجملا على كل أحد:

- ‌التعريف بالإمام أبي جعفر الطحاوي:

- ‌التوحيد ومعناه:

- ‌أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل:

- ‌المراتب الثلاثة التي لا بد منها في كل خطاب

- ‌الفرق بين الإرادة الدينية والإرادة الكونية:

- ‌وجوب الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته:

- ‌القرآن كلام الله تعالى:

- ‌رؤية الله تعالى لأهل الجنة والرد على المخالفين

- ‌تأويل المعتزلة نصوص الكتاب والسنة تحريف للكلام عن موضعه:

- ‌معنى التأويل في كلام السنة:

- ‌الحوض الذي أكرم الله به رسوله صلى الله عليه وسلم:

- ‌الميثاق الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ:

- ‌أسباب الخير ثلاثة "الإيجاد والإعداد والإمداد

- ‌الإيمان باللوح والقلم:

- ‌العرش والكرسي حق:

- ‌وجوب الإيمان بالملائكة والنبين والكتب المنزلة:

- ‌أهل القبلة مسلمون مؤمنون:

- ‌تعريف الإيمان واختلاف الناس فيه:

- ‌الإيمان بالقدر خيره وشره

- ‌الحج وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إلى قيام الساعة

- ‌الإيمان بعذاب القبر ونعيمه

- ‌الإيمان بالبعث والجزاء والآيات الدالة على معاد البدن عند القيامة الكبرى

- ‌العرض والحساب:

- ‌أفعال العباد خلق لله وكسب من العباد:

- ‌في دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات:

- ‌نحب أصحاب رسول الله من غير افراط:

- ‌ نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ

- ‌أشرطة الساعة:

- ‌يجب رد جميع الأمور المتنازع فيها إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌أنواع الاختلاف

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌تعريف الإيمان واختلاف الناس فيه:

‌تعريف الإيمان واختلاف الناس فيه:

قَوْلُهُ: "وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ، وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ، وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ، وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالِفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازِمَةِ الْأَوْلَى".

ش: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ، اخْتِلَافًا كَثِيرًا: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَسَائِرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ رحمهم الله وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِلَى أَنَّهُ تَصْدِيقٌ بِالْجَنَانِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله: أَنَّهُ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ رُكْنٌ زَائِدٌ لَيْسَ بِأَصْلِيٍّ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رحمه الله، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه. وَذَهَبَ الْكَرَّامِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ! فَالْمُنَافِقُونَ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْوَعِيدَ الَّذِي أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ! وَقَوْلُهُمْ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصَّالِحِيُّ أَحَدُ رُؤَسَاءِ الْقَدَرِيَّةِ، إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ! وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ فَسَادًا مِمَّا قَبْلَهُ! فَإِنَّ لَازِمَهُ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ عَرَفُوا صِدْقَ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الْإِسْرَاءِ: 102]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النَّمْلِ: 14]. وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ، بَلْ كَافِرِينَ بِهِ، مُعَادِينَ لَهُ، وَكَذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا، فَإِنَّهُ قَالَ:

وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ

مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا

لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ

لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا

بَلْ إِبْلِيسُ يَكُونُ عِنْدَ الْجَهْمِ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ! فَإِنَّهُ لَمْ يَجْهَلْ رَبَّهُ، بَلْ هُوَ عَارِفٌ بِهِ، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الْحِجْرِ: 36]. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الْحِجْرِ: 39]{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]. وَالْكُفْرُ عِنْدَ الْجَهْمِ هُوَ الْجَهْلُ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَلَا أَحَدَ أَجْهَلُ مِنْهُ بِرَبِّهِ! فَإِنَّهُ جَعَلَهُ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ، وَسَلَبَ عَنْهُ جَمِيعَ صِفَاتِهِ، وَلَا جَهْلَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا، فَيَكُونُ كَافِرًا بِشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ! وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذَاهِبُ أُخَرُ، بِتَفَاصِيلَ وَقُيُودٍ، أَعْرَضْتُ

ص: 332

عَنْ ذِكْرِهَا اخْتِصَارًا، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ1 فِي تَبْصِرَةِ الْأَدِلَّةِ" وَغَيْرِهِ.

وَحَاصِلُ الْكُلِّ [يَرْجِعُ] إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ رحمهم الله، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ دُونَ الْجَوَارِحِ، كَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ رحمهم الله، أَوْ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنِ الْكَرَّامِيَّةِ، أَوْ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ، وَهُوَ إِمَّا الْمَعْرِفَةُ، كَمَا قَالَهُ الْجَهْمُ، أَوِ التَّصْدِيقُ كَمَا قَالَهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رحمه الله، وَفَسَادُ قَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ وَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ ظَاهِرٌ.

وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَئِمَّةِ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، اخْتِلَافٌ صُورِيٌّ. فَإِنَّ كَوْنَ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ لَازِمَةً لِإِيمَانِ الْقَلْبِ، أَوْ جُزْءًا مِنَ الْإِيمَانِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ: نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادُ اعْتِقَادٍ. وَالْقَائِلُونَ بِتَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، ضَمُّوا إِلَى هَذَا الْأَصْلِ أَدِلَّةً أُخْرَى، وَإِلَّا فَقَدَ نَفَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ عَنِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ وَالْمُنْتَهِبِ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ زَوَالَ اسْمِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، اتِّفَاقًا. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْعِبَادِ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ، وَأَعْنِي بِالْقَوْلِ: التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا الَّذِي يُعْنَى بِهِ عِنْدَ إِطْلَاقِ قَوْلِهِمُ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. لَكِنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ مِنَ الْعِبَادِ: هَلْ يَشْمَلُهُ اسْمُ الْإِيمَانِ؟ أَمِ الْإِيمَانُ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْقَوْلُ وَحْدَهُ، وَالْعَمَلُ مُغَايِرٌ لَهُ لَا يَشْمَلُهُ اسْمُ الْإِيمَانِ عِنْدَ إِفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا كَانَ مَجَازًا؟ هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ.

وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَأَقَرَّ بِلِسَانِهِ، وَامْتَنَعَ عَنِ الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ:[أَنَّهُ] عَاصٍ لِلَّهِ ورسوله، مستحق للوعيد، لَكِنْ فِيمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَعْمَالَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ مَنْ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ شَيْئًا وَاحِدًا فَإِيمَانِي كَإِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ

1 هو ميمون بن محمد بن محمد أبو المعين النسفي الحنفي عالم بالأصول والكلام كان بسمرقند وسكن بخارى، له كتب عدة "418 - 508".

ص: 333

الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ رضي الله عنهما! بَلْ قَالَ: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وَمِيكَائِيلَ عليهم السلام!! وَهَذَا غُلُوٌّ مِنْهُ، فَإِنَّ الْكُفْرَ مَعَ الْإِيمَانِ كَالْعَمَى مَعَ الْبَصَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبُصَرَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي قُوَّةِ الْبَصَرِ وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، و [من] يَرَى الْخَطَّ الثَّخِينَ، دُونَ الدَّقِيقِ1 إِلَّا بِزُجَاجَةٍ وَنَحْوِهَا، وَمَنْ يَرَى عَنْ قُرْبٍ زَائِدٍ عَلَى الْعَادَةِ، وَآخَرُ بِضِدِّهِ.

وَلِهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله: وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّسَاوِيَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَصْلِهِ2، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ وجه، بل تفاوت [درجات] نُورِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فِي قُلُوبِ أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى: فمن الناس من نور ["لا إله إلا الله"] فِي قَلْبِهِ كَالشَّمْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهَا فِي قَلْبِهِ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ، وَآخَرُ كَالْمِشْعَلِ الْعَظِيمِ، وَآخَرُ كَالسِّرَاجِ الْمُضِيءِ، وَآخَرُ كَالسِّرَاجِ الضَّعِيفِ؛ وَلِهَذَا تَظْهَرُ الْأَنْوَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَيْمَانِهِمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ، بِحَسَبَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَكُلَّمَا اشْتَدَّ نُورُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَعَظُمَ أَحْرَقَ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ بِحَسَبَ قُوَّتِهِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ رُبَّمَا وَصَلَ إِلَى حَالٍ لَا يُصَادِفُ شَهْوَةً وَلَا شُبْهَةً وَلَا ذَنْبًا إِلَّا أَحْرَقَهُ، وَهَذِهِ حَالُ الصَّادِقِ في توحيده، فسماء إيمانه قد حرس بِالرُّجُومِ مِنْ كُلِّ سَارِقٍ، وَمَنْ عَرَفَ هَذَا عَرَفَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ" 3، وَقَوْلِهِ:"لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 4، وَمَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى ظَنَّهَا بَعْضُهُمْ مَنْسُوخَةً، وَظَنَّهَا بَعْضُهُمْ قَبْلَ وُرُودِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى نَارِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الدُّخُولَ بِالْخُلُودِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَاصِلًا بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا

1 في الأصل: الرفيع.

2 في الأصل: العلم.

3 متفق عليه من حديث عتبان بن مالك.

4 متفق عليه، نحوه من حديث عتبان.

ص: 334

مِنَ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ تَحْتَ الْجَاحِدِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِهَا وَعَدَدِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ، وَتَأَمَّلْ حَدِيثَ الْبِطَاقَةِ الَّتِي تُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، وَيُقَابِلُهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَتَثْقُلُ الْبِطَاقَةُ، وَتَطِيشُ السِّجِلَّاتُ، فَلَا يُعَذَّبُ صَاحِبُهَا1. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مُوَحِّدٍ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الْبِطَاقَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ، وَتَأَمَّلْ مَا قَامَ بِقَلْبِ قَاتِلِ الْمِائَةِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، الَّتِي لَمْ تَشْغَلْهُ عِنْدَ السِّيَاقِ عَنِ السَّيْرِ إِلَى الْقَرْيَةِ، وَحَمَلَتْهُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ جَعَلَ يَنُوءُ بِصَدْرِهِ وَهُوَ يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَتَأَمَّلْ مَا قام بقلب البغي من الإيمان، حيث نَزَعَتْ مُوقَهَا وَسَقَتِ الْكَلْبَ مِنَ الرَّكِيَّةِ، فَغُفِرَ لَهَا، وَهَكَذَا الْعَقْلُ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ، وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، مُسْتَوُونَ فِي أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ غَيْرُ مَجَانِينَ، وَبَعْضُهُمْ أَعَقَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ الْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ، فَيَكُونُ إِيجَابٌ دُونَ إِيجَابٍ، وَتَحْرِيمٌ دُونَ تَحْرِيمٍ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ طَرَّدَ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ وَالْوُجُوبِ.

وَأَمَّا زِيَادَةُ الْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ: فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا وَجَبَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ خَبَرُهُ، كَمَا فِي حَقِّ النَّجَاشِيِّ وَأَمْثَالِهِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ بِالْعَمَلِ وَالتَّصْدِيقِ، الْمُسْتَلْزِمِ لِعَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ:[فَهُوَ] أَكْمَلُ مِنَ التَّصْدِيقِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُهُ، فَالْعِلْمُ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ صَاحِبُهُ أَكْمَلُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ اللَّازِمُ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْمَلْزُومِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ الْمُخْبَرُ كَالْمُعَايِنِ" 2، وَمُوسَى عليه السلام لَمَّا أُخْبِرَ أَنَّ قَوْمَهُ عَبَدُوا الْعِجْلَ لَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ عَبَدُوهُ أَلْقَاهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِشَكِّ مُوسَى فِي خَبَرِ الله،

1 صحيح، وهو من حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، وهو مخرج في الأحاديث الصحيحة "135" وغيره، وسيأتي لفظ الحديث في الكتاب برقم "567".

2 صحيح، أخرجه أحمد "1/ 215، 271" والطبراني والخطيب وغيرهم بسند صحيح بلفظ: "ليس الخبر كالمعاينة" وانظر "تخريج المشكاة""5738".

ص: 335

لَكِنَّ الْمُخْبَرَ، وَإِنْ جَزَمَ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ، فَقَدْ لا يتصور [المخبر به نفسه، كما يتصوره] إذا عَايَنَهُ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ على نبينا محمد وعليه:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [الْبَقَرَةِ: 260]. وَأَيْضًا: فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَالزَّكَاةُ مَثَلًا، يَجِبُ عَلَيْهِ [مِنَ] الْإِيمَانِ أَنْ يَعْلَمَ مَا أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره [الإيمان به] إِلَّا مُجْمَلًا، وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يُسْلِمُ، إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ الْمُجْمَلُ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِوُجُوبِهَا وَيُؤَدِّيَهَا، فَلَمْ يَتَسَاوَ النَّاسُ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ من الإيمان. ولا شك أن من قال بِقَلْبِهِ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ، الَّذِي لَا يَقْوَى عَلَى مُعَارَضَتِهِ شَهْوَةٌ وَلَا شُبْهَةٌ: لَا تَقَعُ مَعَهُ مَعْصِيَةٌ، وَلَوْلَا مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الشَّهْوَةِ وَالشُّبْهَةِ أَوْ إِحْدَاهُمَا لَمَا عَصَى، بَلْ يَشْتَغِلُ قَلْبُهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِمَا يُوَاقِعُهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، فَيَغِيبُ عَنْهُ التَّصْدِيقُ وَالْوَعِيدُ فَيَعْصِي. وَلِهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- قَالَ صلى الله عليه وسلم:"لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ" 1، الْحَدِيثَ. فَهُوَ حِينَ يَزْنِي يَغِيبُ عَنْهُ تَصْدِيقُهُ بِحُرْمَةِ الزِّنَا، وَإِنْ بَقِيَ أَصْلُ التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ يُعَاوِدُهُ. فَإِنَّ الْمُتَّقِينَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 201]. قَالَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالذَّنْبِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَدَعُهُ. وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ مَبْدَأُ السَّيِّئَاتِ، [فَإِذَا أَبْصَرَ رَجَعَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 202]، أَيْ: وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ تَمُدُّهُمُ الشَّيَاطِينُ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا الْإِنْسُ تُقْصِرُ عَنِ السَّيِّئَاتِ]، وَلَا الشَّيَاطِينُ تمسك عنهم، فإذا لم يبصر بقي قَلْبُهُ فِي عَمًى، وَالشَّيْطَانُ يَمُدُّهُ فِي غَيِّهِ، وَإِنْ كَانَ التَّصْدِيقُ فِي قَلْبِهِ لَمْ يَكْذِبْ، فَذَلِكَ النُّورُ وَالْإِبْصَارُ، وَتِلْكَ الْخَشْيَةُ وَالْخَوْفُ تَخْرُجُ مِنْ قَلْبِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُغْمِضُ عينه فَلَا يَرَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَى، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ، بِمَا يَغْشَاهُ مِنْ رَيْنِ الذُّنُوبِ، لَا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى

1 متفق عليه وقد مضى الحديث "برقم 373".

ص: 336

كَعَمَى الْكَافِرِ، وَجَاءَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ قَالَ: "إذا زنا العبد نزع منه الإيمان، فإذا تاب أعيد إليه"1.

إذا كَانَ النِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ نِزَاعًا لَفْظِيًّا، فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، سِوَى مَا يَحْصُلُ مِنْ عُدْوَانِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَالِافْتِرَاقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ مِنْ أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَنَحْوِهِمْ، وَإِلَى ظُهُورِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي، بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ حَقًّا كَامِلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَلِيٌّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ! فَلَا يُبَالِي بِمَا يَكُونُ مِنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَبِهَذَا الْمَعْنَى قَالَتِ الْمُرْجِئَةُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ! وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا. فَالْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه نَظَرَ إِلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ لُغَةً مَعَ أَدِلَّةٍ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ، وَبَقِيَّةُ الْأَئِمَّةِ رحمهم الله نَظَرُوا إِلَى حَقِيقَتِهِ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ ضَمَّ إِلَى التَّصْدِيقِ أَوْصَافًا وَشَرَائِطَ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَمِنْ أَدِلَّةِ الْأَصْحَابِ لأبي حنيفة رحمه الله: أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ، قَالَ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يُوسُفَ، 17]، أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى إِجْمَاعَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ حَقًّا لِلَّهِ، وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَمَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِقْرَارُ شَرْطُ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا، هَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّهُ ضِدُّ الْكُفْرِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالْجُحُودُ، وَهُمَا يَكُونَانِ بِالْقَلْبِ، فَكَذَا مَا يُضَادُّهُمَا. وَقَوْلُهُ:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النَّحْلِ: 106]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ هُوَ مَوْضِعُ الْإِيمَانِ، لَا اللِّسَانَ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، لَزَالَ كُلُّهُ بِزَوَالِ جُزْئِهِ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ عُطِفَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، قَالَ تَعَالَى:{آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] وغيرها، في مواضع من القرآن.

1 صحيح، أخرجه أبو داود والحاكم وصححه هو والذهبي، وهو مخرج في "الصحيحة""509".

ص: 337

وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِمَنْعِ التَّرَادُفِ بَيْنَ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ، وَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ يَصِحُّ فِي مَوْضِعٍ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يُوجِبُ التَّرَادُفَ مُطْلَقًا؟ وَكَذَلِكَ اعْتُرِضَ عَلَى دَعْوَى التَّرَادُفِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّرَادُفِ: أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ إِذَا صَدَّقَ: صَدَّقَهُ، وَلَا يُقَالُ: آمَنَهُ، وَلَا آمَنَ بِهِ، بَلْ يُقَالُ: آمَنَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ} [الْعَنْكَبُوتِ: 26]. {فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ} [يُونُسَ: 83]. وَقَالَ تَعَالَى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التَّوْبَةِ: 61]، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُعَدَّى بِالْبَاءِ وَالْمُعَدَّى بِاللَّامِ، فَالْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ بِهِ، وَالثَّانِي لِلْمُخْبِرِ. وَلَا يَرِدُ كَوْنُهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا؛ لِأَنَّ دُخُولَ اللَّامِ لِتَقْوِيَةِ الْعَامِلِ، [كَمَا إِذَا تَقَدَّمَ الْمَعْمُولُ، أَوْ كَانَ الْعَامِلُ] اسْمَ فَاعِلٍ، أَوْ مَصْدَرًا، عَلَى مَا عُرِفَ في موضعه، فالحاصل أنه لا يقال: قَدْ آمَنْتُهُ، وَلَا صَدَّقْتُ لَهُ، إِنَّمَا يُقَالُ: آمَنْتُ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: أَقْرَرْتُ لَهُ. فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِأَقْرَرْتُ، أَقْرَبَ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِصَدَّقْتُ، مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ فِي المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهد أَوْ غَيْبٍ، يُقَالُ لَهُ فِي اللُّغَةِ: صَدَقْتَ، كَمَا يُقَالُ لَهُ: كَذَبْتَ. فَمَنْ قَالَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا، قِيلَ لَهُ: صَدَقْتَ. وَأَمَّا لَفْظُ الْإِيمَانِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، فَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ: طَلَعَتِ الشَّمْسُ: صَدَّقْنَاهُ، وَلَا يُقَالُ: آمَنَّا لَهُ، فَإِنَّ فِيهِ أَصْلَ مَعْنَى الْأَمْنِ، وَالِائْتِمَانُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، فَالْأَمْرُ الْغَائِبُ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَفْظُ آمَنَ لَهُ، إِلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُقَابَلْ لَفْظُ الْإِيمَانِ قَطُّ بِالتَّكْذِيبِ كَمَا يُقَابَلُ لَفْظُ التَّصْدِيقِ، وَإِنَّمَا يُقَابَلُ بِالْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ، بَلْ لَوْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلَكِنْ لَا أَتَّبِعُكَ، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك: لكان كفرا أعظم، فعلم أن الايمان ليس التصديق فقط، ولا الكفر التَّكْذِيبَ فَقَطْ، بَلْ إِذَا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ تَكْذِيبًا، وَيَكُونُ مُخَالَفَةً وَمُعَادَاةً بِلَا تَكْذِيبٍ، فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، يَكُونُ تَصْدِيقًا وَمُوَافَقَةً وَانْقِيَادًا، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ، فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ جُزْءَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ. وَلَوْ سُلِّمَ التَّرَادُفُ، فَالتَّصْدِيقُ يَكُونُ بِالْأَفْعَالِ أَيْضًا. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنُ تَزْنِي، وَزِنَاهَا السَّمْعُ"، إِلَى أَنْ قَالَ: "وَالْفَرْجُ

ص: 338

يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ"1. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنَّهُ ما وقر في الصدور وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ، وَلَوْ كَانَ تَصْدِيقًا فَهُوَ تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا كَمَا قَدْ تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْلًا لِلَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرًا لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا بِإِيمَانٍ مُطْلَقٍ، بَلْ بِإِيمَانٍ خَاصٍّ، وَصَفَهُ وَبَيَّنَهُ. فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ، أَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِنَ التَّصْدِيقِ الْعَامِّ، فَلَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَهُ في العموم والخصوص، من غير تغير اللسان وَلَا قَلْبِهِ، بَلْ يَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُؤَلَّفًا مِنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، كَالْإِنْسَانِ الْمَوْصُوفِ بأنه حيوان ناطق؛ ولأن التَّصْدِيقَ التَّامَّ الْقَائِمَ بِالْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا وَجَبَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، فَإِنَّ هَذِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ التَّامِّ، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى انتفاء الملزوم، ونقول: إن هذه لوازم تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اللَّفْظِ تَارَةً، وَتَخْرُجُ عَنْهُ أُخْرَى، أَوْ إِنَّ اللَّفْظَ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، وَلَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِيهِ أَحْكَامًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، مَجَازٌ لُغَوِيٌّ، أَوْ أن يكون قد نقله الشارع2. وهذه الأقوال لمن سلك هذا الطريق.

وقالوا: إن الرسول قد وافقنا عَلَى مَعَانِي الْإِيمَانِ، وَعَلِمْنَا مِنْ مُرَادِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ مَنْ قِيلَ إِنَّهُ صَدَّقَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ بِالْإِيمَانِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا صَلَّى، وَلَا صَامَ، وَلَا أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا خَافَ اللَّهَ بَلْ كَانَ مُبْغِضًا لِلرَّسُولِ، مُعَادِيًا لَهُ يُقَاتِلُهُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، كَمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ رَتَّبَ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُمَا. فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:"الْإِيمَانُ بضع وسبعون شعبة، أعلاها قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ"3. وَقَالَ أَيْضًا صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" 4. وَقَالَ أيضا صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا"5.

1 متفق عليه وتقدم.

2 قال عفيفي: انظر ص290 - 296 من كتاب الإيمان ج7 من مجموع الفتاوى.

3 متفق عليه من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم باختلاف يسير، وهو مخرج في "الصحيحة""1769 - المجلد الرابع" وهو تحت الطبع.

4 متفق عليه، وهو طرف من الحديث الذي قبله.

5 صحيح، رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وأحمد وغيرهم.

ص: 339

وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ1. فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ أَصْلًا لَهُ شُعَبٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَكُلُّ شُعْبَةٍ مِنْهَا تُسَمَّى: إِيمَانًا، فَالصَّلَاةُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، وَالْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ، كَالْحَيَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، حَتَّى تَنْتَهِيَ هَذِهِ الشُّعَبُ إِلَى إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ الشُّعَبُ، مِنْهَا مَا يَزُولُ الإيمان بزوالها [إجماعا]، كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعا، كترك إماطة الأذى على الطَّرِيقِ، وَبَيْنَهُمَا شُعَبٌ مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا عَظِيمًا، مِنْهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ شُعْبَةِ الشَّهَادَةِ، وَمِنْهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ شُعْبَةِ إِمَاطَةِ الْأَذَى، وَكَمَا أَنَّ شُعَبَ الْإِيمَانِ إِيمَانٌ، فَكَذَا شُعَبُ الْكُفْرِ كُفْرٌ، فَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَثَلًا مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كُفْرٌ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ"2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: "لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ"، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ: فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ"3. وَمَعْنَاهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ أَصْلُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ، وَبَذْلُ الْمَالِ وَمَنْعُهُ هُوَ كَمَالُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَالَ آخِرُ الْمُتَعَلِّقَاتِ بِالنَّفْسِ، وَالْبَدَنُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْمَالِ، فَمَنْ كَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ وَآخِرُهُ كُلُّهُ لِلَّهِ، كَانَ اللَّهُ إِلَهَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ إِرَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ وقصده ورجاؤه، فيكون مستكملا الْإِيمَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل.

وسيأتي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ رحمه الله فِي شَأْنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم: وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ. فَسَمَّى حُبَّ الصحابة إيمانا، وبغضهم كفرا.

1 حسن. رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وأحمد والطبراني، وهو مخرج في "الصحيحة""341". والمراد "البذاذة" التواضع في اللباس، وترك التبجح به.

2 مسلم باللفظين، وهو مخرج في "تخريج مشكلة الفقر""66" و"صحيح أبي داود""1034".

3 صحيح. وهو مخرج في "تخريج المشكاة""30 - 31" و"الصحيحة""380".

ص: 340

وَمَا أَعْجَبَ مَا أَجَابَ بِهِ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ شُعَبِ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ: أَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ أو بضع وسبعون، فقد شهد الراوي بفعله نَفْسِهِ حَيْثُ شَكَّ فَقَالَ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، وَلَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشَّكُّ فِي ذَلِكَ! وَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ.

فَطَعَنَ فِيهِ بِغَفْلَةِ الرَّاوِي وَمُخَالَفَتِهِ الْكِتَابَ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الطَّعْنِ مَا أَعْجَبَهُ! فَإِنَّ تَرَدُّدَ الرَّاوِي بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ ضَبْطِهِ، مَعَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رحمه الله إِنَّمَا رَوَاهُ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ1. وَأَمَّا الطَّعْنُ بِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ، فَأَيْنَ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ؟! وَإِنَّمَا فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وِفَاقِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا الطَّعْنُ مِنْ ثَمَرَةِ شُؤْمِ التَّقْلِيدِ وَالتَّعَصُّبِ.

وَقَالُوا أَيْضًا: وَهُنَا أَصْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ قِسْمَانِ: قَوْلُ الْقَلْبِ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ، وقون اللِّسَانِ وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَالْعَمَلُ قِسْمَانِ: عَمَلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ نِيَّتُهُ وَإِخْلَاصُهُ، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ. فَإِذَا زَالَتْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ زَالَ الْإِيمَانُ بِكَمَالِهِ، وَإِذَا زَالَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ لَمْ يَنْفَعْ بَقِيَّةُ الأخر2، فَإِنَّ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ شَرْطٌ فِي اعْتِبَارِهَا وَكَوْنِهَا نَافِعَةً، وَإِذَا بَقِيَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَزَالَ الْبَاقِي فَهَذَا مَوْضِعُ الْمَعْرَكَةِ!!

وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ طَاعَةِ الْجَوَارِحِ عَدَمُ طَاعَةِ الْقَلْبِ، إِذْ لَوْ أَطَاعَ الْقَلْبُ وَانْقَادَ، لَأَطَاعَتِ الْجَوَارِحُ وَانْقَادَتْ، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ طَاعَةِ الْقَلْبِ وَانْقِيَادِهِ عَدَمُ التَّصْدِيقِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلطَّاعَةِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"3. فَمَنْ صَلَحَ قَلْبُهُ صَلَحَ جَسَدُهُ قَطْعًا، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ جُزْئِهِ

1 قلت: ورواه مسلم بلفظ: "بضع وسبعون" كما تقدم "برقم 406"، وهو الأرجح عندي كما هو مبين في المجلد المشار إليه من "الصحيحة".

2 في الأصل: الأجزاء.

3 هو طرف من حديث متفق عليه عن النعمان بن بشير، وهو مخرج في "غاية المرام في تخريج الحلال والحرام" برقم "20".

ص: 341

زَوَالُ كُلِّهِ، فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَمْ تَبْقَ مُجْتَمِعَةً كَمَا كَانَتْ، فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِهَا زَوَالُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ، فَيَزُولُ عَنْهُ الْكَمَالُ فَقَطْ.

وَالْأَدِلَّةُ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الْأَنْفَالِ:2]. {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مَرْيَمَ: 76]. {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} [الْمُدَّثِّرِ: 31]. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الْفَتْحِ: 4]{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آلِ عِمْرَانَ: 173]، وَكَيْفَ يُقَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا إِنَّ الزِّيَادَةَ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الْمُؤْمِنِ بِهِ؟ فَهَلْ فِي قول الناس:{قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] زِيَادَةُ مَشْرُوعٍ؟ وَهَلْ فِي إِنْزَالِ السَّكِينَةِ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ زِيَادَةُ مَشْرُوعٍ؟ وَإِنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم الْحُدَيْبِيَةِ لِيَزْدَادُوا طُمَأْنِينَةً وَيَقِينًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آلِ عِمْرَانَ: 167]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التَّوْبَةِ: 124 - 125]. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ رحمه الله، فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَأَبُو الْقَاسِمِ السَّابَاذِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا فَارِسُ بْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْعَابِدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُطِيعٍ، عن حماد بن سلمة عن أبي الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ وَفْدُ ثَقِيفٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ فَقَالَ:"لَا الْإِيمَانُ مُكَمَّلٌ فِي الْقَلْبِ، زيادته كفر، ونقصانه شرك"1. فقد سئل شيخنا عماد الدين ابن كثير رحمه الله عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّ الْإِسْنَادَ مِنْ أبي ليث إلى أبي

1 موضوع آفته أبو المهزم، فقد اتهمه شعبة كما ذكره الشارح وغيره، وأبو مطيع اتهم الجوزقاني والذهبي بالوضع كما في "اللسان"، ونحوه ما سأذكره عن ابن حبان.

ص: 342

مُطِيعٍ مَجْهُولُونَ لَا يُعْرَفُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّوَارِيخِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَمَّا أَبُو مُطِيعٍ، فَهُوَ: الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْبَلْخِيُّ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ1، وَالْعُقَيْلِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا أَبُو الْمُهَزِّمِ، الرَّاوِي عَنْ أَبِي هريرة، وقد تصحف على الكتاب، وَاسْمُهُ: يَزِيدُ بْنُ سُفْيَانَ، فَقَدْ ضَعَّفَهُ أَيْضًا، غَيْرُ وَاحِدٍ، وَتَرَكَهُ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوكٌ، وَقَدِ اتَّهَمَهُ شُعْبَةُ بِالْوَضْعِ، حَيْثُ قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حَدِيثًا!

وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النِّسَاءَ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" 2، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْكَمَالِ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، وَحَدِيثُ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَحَدِيثُ الشَّفَاعَةِ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَكَيْفَ يُقَالُ بَعْدَ هَذَا: إِنَّ إِيمَانَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ سَوَاءٌ؟! وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِمَعَانٍ أُخَرَ غَيْرِ الْإِيمَانِ؟! وَكَلَامُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ أَيْضًا، مِنْهُ: قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: مِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَاهَدَ إِيمَانُهُ وَمَا نَقَصَ مِنْهُ، وَمِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَيَزْدَادُ هُوَ أَمْ يَنْتَقِصُ، وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: هلموا نزدد إيمانا، فيذكرون الله تعالى عز وجل، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ زِدْنَا إِيمَانًا وَيَقِينًا وَفِقْهًا. وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه يَقُولُ لِرَجُلٍ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً3. وَمِثْلُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رضي الله عنه. وَصَحَّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ من كن فيه فقد استكمل

1 قال في "الضعفاء والمجروحين""1/ 250": "كان من رؤساء المرجئة، من يبغض السنن ومنتحليها، وهو الذي روى

" ثم ساق له هذا الحديث.

2 متفق عليه من حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه.

3 رواه ابن أبي شيبة في "الإيمان""رقم 105 و107 بتحقيقي" وكذا أبو عيد في "الإيمان""20" لسند صحيح عنه، وعلقه البخاري في "صحيحه""رقم 2 مختصر البخاري" طبع المكتب الإسلامي.

ص: 343

الْإِيمَانَ: إِنْصَافٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَالْإِنْفَاقُ مِنْ إِقْتَارٍ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ1 ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ، وَفِي هَذَا الْمِقْدَارِ كِفَايَةٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَأَمَّا كَوْنُ عَطْفِ الْعَمَلِ عَلَى الْإِيمَانِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ: فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ تَارَةً يذكر مطلقا عن العمل عن الْإِسْلَامِ، وَتَارَةً يُقْرَنُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَارَةً يُقْرَنُ بِالْإِسْلَامِ، فَالْمُطْلَقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَعْمَالِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] الآية. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] الآية. {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [الْمَائِدَةِ: 81]. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ" 2، الْحَدِيثَ. "لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا" 3. "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" 4. "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا" 5. وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: "فَلَيْسَ مِنَّا" أَيْ فَلَيْسَ مِثْلَنَا! فَلَيْتَ شِعْرِي فَمَنْ لَمْ يَغُشَّ يَكُونُ مِثْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ.

أَمَّا إِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَاعْلَمْ أَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذُكِرَ لَهُمَا، وَالْمُغَايَرَةُ

1 رواه ابن أبي شيبة في "الإيمان""رقم 131" بإسناد صحيح عنه موقوفا، وأورده البخاري في "الإيمان" معلقا مجزوما موقوفا، "رقم 9 مختصر البخاري" ورواه بعضهم مرفوعا، وهو خطأ، كما قال أبو زرعة وغيره، ذكره الحافظ في "الفتح""1/ 90 طبع مصطفى الحلبي"، وقال:"إلا أن مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع"، وهو مخرج في تعليقي على "الكلم الطيب""رقم التعليق 142 طبع المكتب الإسلامي".

2 متفق عليه من حديث أبي هريرة، ورواه ابن أبي شيبة "رقم 38 - 41 و73" عنه وعن عائشة وابن أبي أوفى.

3 رواه مسلم، وأبو عوانة في "صحيحيهما" وغيرهما، وصححه الترمذي، وهو مخرج في "الإرواء""777".

4 رواه مسلم وأبو عوانة في "صحيحيهما" وغيرهما، وصححه الترمذي والحاكم وهو مخرج في "الإرواء""1319".

5 رواه البخاري ومسلم.

ص: 344

عَلَى مَرَاتِبَ: أَعْلَاهَا: أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ، لَيْسَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ، وَلَا جُزْءًا مِنْهُ، وَلَا بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الْأَنْعَامِ: 1]. {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آلِ عِمْرَانَ: 3] ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ، وَيَلِيهِ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 42]. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [الْمَائِدَةِ: 92]. الثَّالِثُ: عَطْفُ بَعْضِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [الْبَقَرَةِ: 238]. {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [الْبَقَرَةِ: 98]، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ} [الْأَحْزَابِ: 7]. وَفِي مِثْلِ هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ، وَالثَّانِي: أَنَّ عَطْفَهُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِيهِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ مُنْفَرِدًا، كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ وَنَحْوِهُمَا، تَتَنَوَّعُ دِلَالَتُهُ بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ. الرَّابِعُ: عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غَافِرٍ: 3]. وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ الْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ، كَقَوْلِهِ:

فَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [الْمَائِدَةِ: 48] ، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِهِ.

فَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ فِي الْكَلَامِ يَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، نَظَرْنَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ: كَيْفَ وَرَدَ فِيهِ الْإِيمَانُ فَوَجَدْنَاهُ إِذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِلَفْظِ الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى، وَالدِّينِ، وَدِينِ الْإِسْلَامِ. ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الآيات. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، وَالْمُلَائِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، فَسَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَرَأَ:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] إلى آخر الآية، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَيْسَ عَنْ هَذَا سَأَلْتُكَ، فَقَالَ: جاء

ص: 345

رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فَقَرَأَ [عَلَيْهِ] الَّذِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ1، فَقَالَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ لِي، فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَرْضَى، قَالَ:"إِنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إِذَا عَمِلَ الْحَسَنَةَ سَرَّتْهُ وَرَجَا ثَوَابَهَا، وَإِذَا عَمِلَ السَّيِّئَةَ سَاءَتْهُ وَخَافَ عِقَابَهَا"2. وَكَذَلِكَ أَجَابَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذَا الْجَوَابِ. وَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: "آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ"3. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تَكُونُ إِيمَانًا بِاللَّهِ بِدُونِ إِيمَانِ الْقَلْبِ، لِمَا قَدْ أَخْبَرَ فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِيمَانِ الْقَلْبِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ مَعَ إِيمَانِ الْقَلْبِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَأَيُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فَوْقَ هَذَا الدَّلِيلِ؟ فَإِنَّهُ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِالْأَعْمَالِ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّصْدِيقَ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تُفِيدُ [مَعَ] الْجُحُودِ. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:"الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ"4. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُغَايِرَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ [فِي حَدِيثِ سُؤَالَاتِ جِبْرِيلَ، فِي مَعْنَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ] وَقَدْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم

1 قال عفيفي: انظر ص172 وما بعدها من كتاب "الأيمان".

2 ضعيف بهذا السياق والإسناد، وعلته الانقطاع، واختلاط المسعودي، لكن صح الحديث من رواية أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله رجل، فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: "إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك فأنت مؤمن"، قال: يا رسول الله ما الإثم؟ قال: "إذا حاك في صدرك شيء فدعه"، رواه الحاكم "1/ 14" وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، إنما هو على شرط مسلم وحده، فإن ممطورا لم يخرج له البخاري في صحيحه. الصحيحة "550".

3 أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

4 إسناده ضعيف، فيه علي بن مسعدة، قال العقيلي في "الضعفاء" قال البخاري:"فيه نظر" وقال عبد الحق الأزدي في "الأحكام الكبرى""ق 3/ 2": "حديث غير محفوظ".

ص: 346

دِينَكُمْ"1. فَجَعَلَ الدِّينَ هُوَ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَالْإِحْسَانَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ دِينَنَا يَجْمَعُ الثَّلَاثَةَ. لَكِنْ هُوَ دَرَجَاتٌ ثَلَاثَةٌ: فَمُسْلِمٌ، ثُمَّ مُؤْمِنٌ، ثُمَّ مُحْسِنٌ. وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْإِسْلَامِ قَطْعًا، كَمَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْإِحْسَانِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، لَا أَنَّ الْإِحْسَانَ يَكُونُ مُجَرَّدًا عَنِ الْإِيمَانِ. هَذَا مُحَالٌ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فَاطِرٍ: 32] ، وَالْمُقْتَصِدُ وَالسَّابِقُ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عُقُوبَةٍ، بِخِلَافِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ، وَهَكَذَا مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ مَعَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ، فَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَهُوَ أَعَمُّ من جهة نفسه وأخص من جهة أهله، وَالْإِيمَانُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَخَصُّ مِنَ جِهَةِ أَهْلِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَالْإِحْسَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ، وَالْإِيمَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ، وَالْمُحْسِنُونَ أَخَصُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ أَخَصُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا كَالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَالنُّبُوَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الرِّسَالَةِ، وَالرِّسَالَةُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهَا، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَا يَنْعَكِسُ.

وَقَدْ صَارَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَطَائِفَةٌ جَعَلَتِ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةَ، وَطَائِفَةٌ أَجَابُوا بِمَا أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ سُئِلَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، حَيْثُ فَسَّرَ الْإِسْلَامَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَالْإِيمَانَ [بِالْإِيمَانِ] بِالْأُصُولِ الْخَمْسَةِ2، وَطَائِفَةٌ جَعَلُوا الْإِسْلَامَ مُرَادِفًا لِلْإِيمَانِ، وَجَعَلُوا مَعْنَى قَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم:"الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ" 3، الْحَدِيثَ: شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ، مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، ثُمَّ قَالُوا الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ لشيء وَاحِدٌ، فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ هُوَ التَّصْدِيقَ! وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك

1 أخرجه مسلم من حديث ابن عمر، والبخاري من حديث أبي هريرة نحوه.

2 مسلم، وهو حديث جبريل المتقدم آنفا.

3 متفق عليه.

ص: 347

أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ" 1. وَفَسَّرَ الْإِسْلَامَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَالْإِيمَانَ بِالْإِيمَانِ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَةِ، فَلَيْسَ لَنَا إِذَا جمعنا بينهم أن نجيب بغير ما أجاب النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا إِذَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ، وَإِذَا أُفْرِدَ الْإِسْلَامُ فَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْإِسْلَامِ مُؤْمِنًا بِلَا نِزَاعٍ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ، وَهَلْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَلَا يُقَالُ لَهُ مُؤْمِنٌ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ.

وَكَذَلِكَ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامُ الْإِيمَانَ؟ فِيهِ النِّزَاعُ الْمَذْكُورُ، وَإِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ بِالْجَنَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَبِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يُونُسَ: 62، 63]. وَقَالَ تَعَالَى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الْحَدِيدِ: 21] وَأَمَّا اسْمُ الْإِسْلَامِ مُجَرَّدًا فَمَا عُلِّقَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ دُخُولُ الْجَنَّةِ، لَكِنَّهُ فَرَضَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ، وَبِهِ بَعَثَ النَّبِيِّينَ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 85].

فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَالَةَ اقْتِرَانِ الْإِسْلَامِ بِالْإِيمَانِ غَيْرُ حَالَةِ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَمَثَلُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَثَلِ الشَّهَادَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى، فَشَهَادَةُ الرِّسَالَةِ غَيْرُ شَهَادَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَهُمَا شَيْئَانِ فِي الْأَعْيَانِ وَإِحْدَاهُمَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ، كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ، لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا إِسْلَامَ لَهُ، وَلَا إِسْلَامَ لِمَنْ لَا إِيمَانَ [لَهُ]، إِذْ لَا يخل الْمُؤْمِنُ مِنْ إِسْلَامٍ بِهِ يَتَحَقَّقُ إِيمَانُهُ، وَلَا يَخْلُو الْمُسْلِمُ مِنْ إِيمَانٍ بِهِ يَصِحُّ إِسْلَامُهُ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِي كَلَامِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ، أَعْنِي فِي الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ، مِنْهَا: لَفْظُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَالْكُفْرُ إِذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا فِي وَعِيدِ الْآخِرَةِ دَخَلَ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الْمَائِدَةِ: 5]. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا كَانَ الْكَافِرُ مَنْ أَظْهَرَ كُفْرَهُ، وَالْمُنَافِقُ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِهِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَفْظُ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَفْظُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَفْظُ الفقير والمسكين، وأمثال ذلك.

1 متفق عليه من حديث ابن عباس، وهو طرف من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح صلاة الليل. انظر "صفة الصلاة".

ص: 348

وَيَشْهَدُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، قَوْلُهُ تَعَالَى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الْحُجُرَاتِ: 14] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ:{قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]: انْقَدْنَا بِظَوَاهِرِنَا، فَهُمْ مُنَافِقُونَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأُجِيبُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ، وَرُجِّحَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ كَامِلِي الْإِيمَانِ، لَا أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، كَمَا نَفَى الْإِيمَانَ عَنِ الْقَاتِلِ، وَالزَّانِي، وَالسَّارِقِ، وَمَنْ لا أمانة له. ويؤيد هذا سياق الآية، فَإِنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هُنَا فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَأَحْكَامِ بَعْضِ الْعُصَاةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الْحُجُرَاتِ: 14]، وَلَوْ كَانُوا مُنَافِقِينَ مَا نَفَعَتْهُمُ الطَّاعَةُ، ثُمَّ قَالَ:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الْحُجُرَاتِ: 15] الْآيَةَ، يَعْنِي -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِي الْإِيمَانِ، هُمْ هَؤُلَاءِ، لَا أَنْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ مُنْتَفٍ عَنْكُمُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ، يُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّهُ أَمَرَهُمْ، أَوْ أَذِنَ لَهُمْ، أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، وَالْمُنَافِقُ لَا يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانُوا مُنَافِقِينَ لَنَفَى عَنْهُمُ الْإِسْلَامَ، كَمَا نَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَمُنُّوا بِإِسْلَامِهِمْ، فَأَثْبَتَ لَهُمْ إِسْلَامًا، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَمُنُّوا بِهِ عَلَى رَسُولِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِسْلَامًا صَحِيحًا لَقَالَ: لَمْ تُسْلِمُوا، بَلْ أَنْتُمْ كَاذِبُونَ، كَمَا كَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ:{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [الْمُنَافِقُونَ: 1]. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَيَنْتَفِي بَعْدَ هَذَا التَّقْدِيرِ وَالتَّفْصِيلِ دَعْوَى التَّرَادُفِ، وَتَشْنِيعُ مَنْ أَلْزَمَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَوْ كَانَ [هُوَ] الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ لكان ينبغي أن لا يقابل بذلك، وَلَا يُقْبَلَ إِيمَانُ الْمُخْلِصِ! وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ تَنْظِيرُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَّ حَالَةَ الِاقْتِرَانِ غَيْرُ حَالَةِ الِانْفِرَادِ. فَانْظُرْ إِلَى كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 1، الْحَدِيثَ، فَلَوْ قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنْكَرُوا الرِّسَالَةَ:[مَا] كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ الْعِصْمَةَ، بَلْ

1 متفق عليه من حديث جمع من الصحابة، وهو حديث متواتر كما قال السيوطي، وقد خرجت طائفة من طرقه في "الأحاديث الصحيحة""407".

ص: 349

لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَائِمِينِ بِحَقِّهَا، وَلَا يَكُونُ قَائِمًا بِـ"لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" حَقَّ الْقِيَامِ، إِلَّا مَنْ صَدَّقَ بِالرِّسَالَةِ، وَكَذَا مَنْ شَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، [لَا يَكُونُ قَائِمًا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ حَقَّ الْقِيَامِ، إِلَّا مَنْ صَدَّقَ هَذَا الرسول في كل ما جاء به، فتضمنت التوحيد وإذا ضممت شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ] ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثبات التَّوْحِيدِ، وَمِنْ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِثْبَاتَ الرِّسَالَةِ، كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ: إِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الْأَحْزَابِ: 35]، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ" 1: كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ الْمُرَادِ مِنَ الْآخَرِ، وَكَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ"2. وَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا شَمِلَ مَعْنَى الْآخَرِ وَحُكْمَهُ، وَكَمَا فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَنَظَائِرِهِ، فَإِنَّ لَفْظَيِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ إِذَا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، فَهَلْ يُقَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [الْمَائِدَةِ: 89] ، أَنَّهُ يُعْطَى الْمُقِلُّ دُونَ الْمُعْدِمِ، أَوْ بِالْعَكْسِ؟ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 271].

وَيَنْدَفِعُ أَيْضًا تَشْنِيعُ مَنْ قَالَ: مَا حُكْمُ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُسْلِمْ؟ أَوْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُؤْمِنْ؟ فِي الدُّنْيَا والآخرة؟ فمن يثبت لِأَحَدِهِمَا حُكْمًا لَيْسَ بِثَابِتٍ لِلْآخَرِ ظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ! وَيُقَالُ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ تَشْنِيعِهِ: أَنْتَ تَقُولُ: الْمُسْلِمُ هُوَ الْمُؤْمِنُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الْأَحْزَابِ: 35] فَجَعَلَهُمَا غَيْرَيْنِ، وَقَدْ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مالك عَنْ فُلَانٍ وَاللَّهِ إِنِّي لِأَرَاهُ مُؤْمِنًا؟ قَالَ: "أَوْ مُسْلِمًا" 3، قَالَهَا ثَلَاثًا، فَأَثْبَتَ لَهُ الْإِسْلَامَ وَتَوَقَّفَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ، فَمَنْ قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ كَانَ مُخَالِفًا، وَالْوَاجِبُ رَدُّ مَوَارِدِ النِّزَاعِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ يَتَرَاءَى فِي بَعْضِ النُّصُوصِ مُعَارَضَةٌ، وَلَا مُعَارَضَةَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، ولكن الشأن في التوفيق، وبالله التوفيق.

1 متفق عليها، كما تقدم قريبا "ص348".

2 ضعيف كما سبق آنفا بالحديث "رقم 427".

3 متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص.

ص: 350

وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذَّارِيَاتِ: 35 - 36] عَلَى تَرَادُفِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُخْرَجَ كانوا متصفين بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاتِّصَافِ بِهِمَا تَرَادُفُهُمَا.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ لَمْ تَثْبُتْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْأَصْحَابِ، فَإِنَّ غَالِبَهَا سَاقِطٌ لَا يَرْتَضِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ! وَقَدْ حَكَى الطَّحَاوِيُّ حِكَايَةَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، [وَأَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ] لَمَّا رَوَى لَهُ حَدِيثَ: أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ1 إِلَى آخِرِهِ، قَالَ لَهُ: أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، قَالَ: الْإِيمَانُ، ثُمَّ جَعَلَ الْهِجْرَةَ وَالْجِهَادَ مِنَ الْإِيمَانِ؟ فَسَكَتَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَلَا تُجِيبَهُ يَا أَبَا حَنِيفَةَ؟ قَالَ: بِمَا أُجِيبُهُ؟ وَهُوَ يُحَدِّثُنِي بِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ هَذَا الِاخْتِلَافِ: مَسْأَلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ [أي] الرَّجُلَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُهُ بِاعْتِبَارٍ وَيَمْنَعُهُ بِاعْتِبَارٍ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.

أَمَّا مَنْ يُوجِبُهُ فَلَهُمْ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا مَاتَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَاةِ وَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي يعقبه الْكُفْرُ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ كَافِرًا: لَيْسَ بِإِيمَانٍ، كَالصَّلَاةِ الَّتِي أَفْسَدَهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْكَمَالِ، وَالصِّيَامِ الَّذِي في صَاحِبُهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَهَذَا مَأْخَذُ كَثِيرٍ مِنَ الْكُلَّابِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فِي الْأَزَلِ مَنْ كَانَ كَافِرًا إِذَا عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا، فَالصَّحَابَةُ مَا زَالُوا مَحْبُوبِينَ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ، وَإِبْلِيسُ وَمَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ مَا زَالَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكْفُرْ بَعْدُ! وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ السَّلَفِ، ولا كان يقول بهذا من

1 متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري، ولهما نحوه من حديث ابن عمرو. وانظر لفظهما إن شئت في "مختصر البخاري""8 و9".

ص: 351

يَسْتَثْنِي مِنَ السَّلَفِ فِي إِيمَانِهِ، وَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 31]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُحِبُّهُمْ إِنِ اتَّبَعُوا الرَّسُولَ، فَاتِّبَاعُ الرَّسُولِ شَرْطُ الْمَحَبَّةِ، وَالْمَشْرُوطُ يَتَأَخَّرُ عَنِ الشَّرْطِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ طَائِفَةٌ غَلَوْا فِيهِ، حَتَّى صَارَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَسْتَثْنِي فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، يَقُولُ: صَلَّيْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ! وَنَحْوَ ذَلِكَ، يَعْنِي الْقَبُولَ. ثُمَّ صَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: هَذَا ثَوْبٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ! هَذَا حَبْلٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ! فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ؟ يَقُولُونَ: نَعَمْ، لَكِنْ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أِنْ يُغَيِّرَهُ غَيَّرَهُ!! الْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَبَدَهُ كُلِّهِ، وَتَرْكَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ كُلِّهِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا مُؤْمِنٌ، بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ فَقَدْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ مِنَ الْأَبْرَارِ الْمُتَّقِينَ، الْقَائِمِينَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَتَرْكِ كُلِّ مَا نُهُوا عَنْهُ، فَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ! وَهَذَا مَعَ تَزْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ صَحِيحَةً، لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ إِنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَهَذَا مَأْخَذُ عَامَّةِ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ، وَإِنْ جَوَّزُوا تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ، بِمَعْنًى آخَرَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا لَا شَكَّ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} [الْفَتْحِ: 27]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم حِينَ وَقَفَ عَلَى الْمَقَابِرِ:"وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ"1. وَقَالَ أَيْضًا: "إِنِّي لِأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ" 2. وَنَظَائِرُ هَذَا.

وَأَمَّا مَنْ يُحَرِّمُهُ، فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي مُؤْمِنٌ، كَمَا أَعْلَمُ أَنِّي تَكَلَّمْتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَقَوْلِي: أَنَا مُؤْمِنٌ، كَقَوْلِي: أَنَا مُسْلِمٌ، فَمَنِ اسْتَثْنَى فِي إِيمَانِهِ فَهُوَ شَاكٌّ فِيهِ، وَسَمَّوُا الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي إِيمَانِهِمُ الشَّكَّاكَةَ. وَأَجَابُوا عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} [الْفَتْحِ: 27] ، بِأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك

1 أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها انظر "أحكام الجنائز وبدعها""ص189".

2 أخرجه مسلم، والبخاري نحوه.

ص: 352

فِيهِ! وَقِيلَ: لَتَدْخُلُنَّ جَمِيعُكُمْ أَوْ بَعْضُكُمْ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ! وَفِي كِلَا الْجَوَابَيْنِ نَظَرٌ: فَإِنَّهُمْ وَقَعُوا فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ، فَأَمَّا الْأَمْنُ وَالْخَوْفُ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ، مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، فَلَا شَكَّ فِي الدُّخُولِ، وَلَا فِي الْأَمْنِ، وَلَا فِي دُخُولِ الْجَمِيعِ أَوِ الْبَعْضِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ مَنْ يَدْخُلُ فَلَا شَكَّ فِيهِ أَيْضًا، فَكَانَ قَوْلُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُنَا تَحْقِيقًا لِلدُّخُولِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ فِيمَا عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا مَحَالَةَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا يَقُولُهَا لِشَكٍّ فِي إِرَادَتِهِ وَعَزْمِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِحُصُولِ مُرَادِهِ، وَأُجِيبَ بِجَوَابٍ آخَرَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ: أَنَّهُ قَالَ [ذَلِكَ] تَعْلِيمًا لَنَا كَيْفَ نَسْتَثْنِي إِذَا أَخْبَرْنَا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ1. وَفِي كَوْنِ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا مِنَ النَّصِّ، نَظَرٌ فَإِنَّهُ ما سيق الكلام إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ إِشَارَةِ النَّصِّ. وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِجَوَابَيْنِ آخَرَيْنِ بَاطِلَيْنِ، وَهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَلَكُ قَدْ قَالَهُ، فَأُثْبِتَ قُرْآنًا! أَوْ أن الرسول قاله!! فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله! فيدخل في وعيد مَنْ قَالَ:{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25]. نسأل الله العافية.

وَأَمَّا مَنْ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ وَتَرْكَهُ، فَهُمْ أَسْعَدُ بِالدَّلِيلِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا: فَإِنْ أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منه مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الْأَنْفَالِ 2 - 4]، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الْحُجُرَاتِ: 15]. فَالِاسْتِثْنَاءُ حِينَئِذٍ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَثْنَى وَأَرَادَ عَدَمَ عِلْمِهِ بِالْعَاقِبَةِ، وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَثْنَى تَعْلِيقًا لِلْأَمْرِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، لَا شَكًّا فِي إِيمَانِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ في القوة كما ترى.

1 قال عفيفي: انظر ص429 - 460 من "مجموع الفتاوى" والصفحة 336 - 393 من كتاب "الإيمان" طبع المكتب الإسلامي.

ص: 353

قَوْلُهُ: وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ، يُشِيرُ الشَّيْخُ رحمه الله بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ، الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْأَخْبَارَ قِسْمَانِ1: مُتَوَاتِرٌ وَآحَادٌ، فَالْمُتَوَاتِرُ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيَّ السَّنَدِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ قَطْعِيِّ الدِّلَالَةِ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ اللَّفْظِيَّةَ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ!! وَلِهَذَا قَدَحُوا فِي دِلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الصِّفَاتِ! قَالُوا: وَالْآحَادُ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهَا مِنْ جِهَةِ طَرِيقِهَا، وَلَا مِنْ جِهَةِ مَتْنِهَا! فَسَدُّوا عَلَى الْقُلُوبِ مَعْرِفَةَ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ، وَأَحَالُوا النَّاسَ عَلَى قَضَايَا وَهْمِيَّةٍ، وَمُقَدِّمَاتٍ خَيَالِيَّةٍ2، سَمَّوْهَا قواطع علقية، وَبَرَاهِينَ يَقِينِيَّةً!! وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ 3، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النُّورِ: 39، 40]. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ قَدَّمُوهَا عَلَى نُصُوصِ الْوَحْيِ، وَعَزَلُوا لِأَجْلِهَا النُّصُوصَ، فَأَقْفَرَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ الِاهْتِدَاءِ بِالنُّصُوصِ، وَلَمْ يَظْفَرُوا 4 بِالْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالنُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَوْ حَكَّمُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ لَفَازُوا بِالْمَعْقُولِ الصَّحِيحِ، الْمُوَافِقِ لِلْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.

بَلْ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أَرْبَابِ الْبِدَعِ يَعْرِضُ النُّصُوصَ عَلَى بِدْعَتِهِ، وَمَا ظَنَّهُ مَعْقُولًا: فَمَا وَافَقَهُ قَالَ: إِنَّهُ مُحْكَمٌ، وَقَبِلَهُ وَاحْتَجَّ بِهِ!! وَمَا خَالَفَهُ قَالَ: إِنَّهُ مُتَشَابِهٌ، ثُمَّ رَدَّهُ، وَسَمَّى رَدَّهُ تَفْوِيضًا! أَوْ حَرَّفَهُ، وَسَمَّى تَحْرِيفَهُ تَأْوِيلًا!! فَلِذَلِكَ اشْتَدَّ إِنْكَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ.

وَطَرِيقُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنْ لَا يَعْدِلُوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوه بمعقول،

1 قال عفيفي: انظر ص446 من كتاب "الإيمان".

2 في الأصل: خالية.

3 قال عفيفي: انظر ص450 من كتاب "الإيمان".

4 في الأصل: ولم يظفروا بقضايا.

ص: 354

وَلَا قَوْلِ فُلَانٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ رحمه الله، وَكَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله: سَمِعْتُ الْحُمَيْدِيَّ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ قَضَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال رجل لِلشَّافِعِيِّ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟! فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! تراني على وسطي زنار؟! أَقُولُ لَكَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟! وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ السَّلَفِ كَثِيرٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الْأَحْزَابِ: 36].

وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، عَمَلًا بِهِ وَتَصْدِيقًا لَهُ: يُفِيدُ الْعِلْمَ [الْيَقِينِيَّ] عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيِ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ، كَخَبَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه:"إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 1، وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ2، وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ:"لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا" 3، وَكَقَوْلِهِ:"يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" 4، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ خَبَرِ الَّذِي أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِبْلَةَ تَحَوَّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَيْهَا5.

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرْسِلُ رُسُلَهُ آحَادًا، وَيُرْسِلُ كُتُبَهُ مَعَ الْآحَادِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ يَقُولُونَ لَا نَقْبَلُهُ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التَّوْبَةِ: 33]. فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْفَظَ اللَّهُ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ.

وَلِهَذَا فَضَحَ اللَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، وَبَيَّنَ حَالَهُ لِلنَّاسِ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا سَتَرَ اللَّهُ أَحَدًا يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ عَبْدُ الله بن

1 متفق عليه، من حديث عمر، وهو أول حديث في "صحيح البخاري".

2 متفق عليه من حديث ابن عمر.

3 متفق عليه، وهو مخرج في "الإرواء" برقم "1882".

4 متفق عليه من حديث عائشة، وهو في "الإرواء" أيضا "1876".

5 متفق عليه من حديث البراء بن عازب وانظر لفظه وتخريجه في "صفة الصلاة".

ص: 355

الْمُبَارَكِ: لَوْ هَمَّ رَجُلٌ فِي الْبَحْرِ1 أَنْ يَكْذِبَ فِي الْحَدِيثِ، لَأَصْبَحَ وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: فُلَانٌ كَذَّابٌ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَلَكِنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ معظم أوقاته مشتغلا بالحديث، والبحث عن سير الرُّوَاةِ، لِيَقِفَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَشِدَّةِ حَذَرِهِمْ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالزَّلَلِ، وَكَانُوا بِحَيْثُ لَوْ قُتِلُوا لَمْ يُسَامِحُوا أَحَدًا فِي كَلِمَةٍ يَتَقَوَّلُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا فَعَلُوا هُمْ بِأَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ، وَقَدْ نَقَلُوا هَذَا الدين إلينا كما نقل إليهم، فهم تُرُكُ الْإِسْلَامِ2 وَعِصَابَةُ الْإِيمَانِ، وَهُمْ نُقَّادُ الْأَخْبَارِ، وَصَيَارِفَةُ الْأَحَادِيثِ. فَإِذَا وَقَفَ الْمَرْءُ عَلَى هَذَا مِنْ شَأْنِهِمْ، وَعَرَفَ حَالَهُمْ، وَخَبَرَ صِدْقَهُمْ وَوَرَعَهُمْ وَأَمَانَتَهُمْ ظَهَرَ لَهُ الْعِلْمُ فِيمَا نَقَلُوهُ وَرَوَوْهُ، وَمِنْ لَهُ عَقْلٌ وَمَعْرِفَةٌ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ لَهُمْ [مِنَ] الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ نَبِيِّهِمْ وَسِيرَتِهِ وَأَخْبَارِهِ، مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ بِهِ شُعُورٌ، فَضْلًا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لَهُمْ أَوْ مَظْنُونًا، كَمَا أَنَّ النُّحَاةَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ وَأَقْوَالِهِمَا مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ مِنْ كَلَامِ بُقْرَاطَ وَجَالِينُوسَ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَكُلُّ ذِي صَنْعَةٍ هُوَ أَخْبَرُ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَلَوْ سَأَلْتَ الْبَقَّالَ عَنْ أَمْرِ الْعِطْرِ، أَوِ الْعَطَّارَ عَنِ الْبَزِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ!! لَعُدَّ ذلك جهلا كبيرا.

وَلَكِنَّ النُّفَاةَ قَدْ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} مُسْتَنَدًا لَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَكُلَّمَا جَاءَهُمْ حَدِيثٌ يُخَالِفُ قَوَاعِدَهُمْ وَآرَاءَهُمْ، وَمَا وَضَعَتْهُ3 خَوَاطِرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ رَدُّوهُ بِـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، تَلْبِيسًا مِنْهُمْ وَتَدْلِيسًا عَلَى مَنْ هُوَ أَعْمَى قَلْبًا مِنْهُمْ، وَتَحْرِيفًا لِمَعْنَى الْآيِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَفَهِمُوا مِنْ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ مَا لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ، وَلَا فَهِمَهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، أَنَّهُ4 يَقْتَضِي إِثْبَاتُهَا التَّمْثِيلَ بِمَا5 للمخلوقين! ثم

1 في الأصل: السجن.

2 "ترك" بضم التاء المثناة والراء: جمع "تريكة" بفتح التاء وكسر الراء، وهي بيضة الحديد للرأس، يريد أنهم دروع الإسلام وحفظته.

3 في الأصل: وصفته.

4 في الأصل: أنها.

5 في الأصل: بها.

ص: 356

ثُمَّ اسْتَدَلُّوا عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ بِـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] تَحْرِيفًا لِلنَّصَّيْنِ!! وَيُصَنِّفُونَ الْكُتُبَ، وَيَقُولُونَ: هَذَا أُصُولُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَجَاءَ من عنده، ويقرءون كثيرا من القرآن ويخوضون مَعْنَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ لِمَعْنَاهُ الَّذِي بَيَّنَهُ الرَّسُولُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَعْنَاهُ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَقَصَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمْ لِنَعْتَبِرَ وَنَنْزَجِرَ عَنْ مِثْلِ طَرِيقَتِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 75]، إِلَى أَنْ قَالَ:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الْبَقَرَةِ: 78]. وَالْأَمَانِيُّ: التِّلَاوَةُ الْمُجَرَّدَةُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [الْبَقَرَةِ: 79] ، فَذَمَّهُمْ عَلَى نِسْبَةِ مَا كَتَبُوهُ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَى اكْتِسَابِهِمْ بِذَلِكَ، فَكِلَا الْوَصْفَيْنِ ذَمِيمٌ: أَنْ يَنْسِبَ إِلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنْ يَأْخُذَ بِذَلِكَ عِوَضًا مِنَ الدُّنْيَا مَالًا أَوْ رِيَاسَةً. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ الزَّلَلِ، فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.

وَيُشِيرُ الشَّيْخُ رحمه الله بِقَوْلِهِ: مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ إِلَى أَنَّ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَوْعَانِ: شَرْعٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَبَيَانٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ حَقٌّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ، وَقَوْلُهُ: وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِيقَةِ وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازِمَةِ الْأَوْلَى، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى بَدَلَ قَوْلِهِ: بِالْحَقِيقَةِ، فَفِي الْعِبَارَةِ الْأُولَى يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْكُلَّ مُشْتَرِكُونَ فِي أَصْلِ التَّصْدِيقِ، وَلَكِنَّ التَّصْدِيقَ يَكُونُ بَعْضُهُ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ بِقُوَّةِ الْبَصَرِ وَضَعْفِهِ، وَفِي الْعِبَارَةِ الْأُخْرَى يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَأَمَّا التَّصْدِيقُ فَلَا تَفَاوُتَ فِيهِ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ قُوَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

قَوْلُهُ: "وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ".

ش: قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63] الآية. الْوَلِيُّ: مِنَ الوَلاية بِفَتْحِ الْوَاوِ،

ص: 357

الَّتِي هِيَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ، وَقَدْ قَرَأَ حَمْزَةُ:"مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ"[الْأَنْفَالِ: 72] بكسرالواو، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ النُّصْرَةُ، وَبِالْكَسْرِ الْإِمَارَةُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَازَ الْكَسْرُ، لِأَنَّ فِي تَوَلِّي [بَعْضِ] الْقَوْمِ بَعْضًا جِنْسًا مِنَ الصِّنَاعَةِ وَالْعَمَلِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مَكْسُورٌ، مِثْلُ: الْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا. فَالْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى وَلِيُّهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ]} [البقرة: 257]، الآية. وَقَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 11]. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الْأَنْفَالِ: 72] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [الْمَائِدَةِ: 55، 56]. فَهَذِهِ النُّصُوصُ [كُلُّهَا] ثَبَتَ فِيهَا مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ وَلِيُّهُمْ وَمَوْلَاهُمْ، فَاللَّهُ يَتَوَلَّى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، وَيَرْضَى عَنْهُمْ وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ، وَمَنْ عَادَى لَهُ وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَهُ بِالْمُحَارَبَةِ، وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، لَيْسَتْ كَوِلَايَةِ الْمَخْلُوقِ للمخلوق لحاجة إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 111]. فَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ، بَلْ لِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا، خِلَافَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَتَوَلَّاهُ1 لِذُلِّهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى وَلِيٍّ يَنْصُرُهُ.

وَالْوِلَايَةُ أَيْضًا نَظِيرُ الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ مُرَادُ الشَّيْخِ: أَنَّ أَهْلَهَا فِي أَصْلِهَا سَوَاءٌ، وَتَكُونُ كَامِلَةً وَنَاقِصَةً، فَالْكَامِلَةُ تَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى

1 في الأصل: يتوالى.

ص: 358

فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، فَـ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ بِإِضْمَارِ أَمْدَحُ، أَوْ مَرْفُوعٌ بِإِضْمَارِ "هُمْ"، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِـ"إِنَّ"، وَأُجِيزَ فِيهِ الْجَرُّ، بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَالْوِلَايَةُ لِمَنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وَهُمْ أَهْلُ الْوَعْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ فِي مَحَابِّهِ وَمَسَاخِطِهِ، لَيْسَتْ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلَا صلاة، ولا تملق وَلَا رِيَاضَةٍ. وَقِيلَ: الَّذِينَ آمَنُوا مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ: لَهُمُ الْبُشْرَى، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِقَطْعِ الْجُمْلَةِ عَمَّا قَبْلَهَا، وَانْتِثَارِ نَظْمِ الْآيَةِ.

وَيَجْتَمِعُ فِي الْمُؤْمِنِ وِلَايَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَعَدَاوَةٌ مِنْ وَجْهٍ، كَمَا قَدْ يَكُونُ فِيهِ كُفْرٌ وَإِيمَانٌ، وَشِرْكٌ وَتَوْحِيدٌ، وَتَقْوَى وَفُجُورٌ، وَنِفَاقٌ وَإِيمَانٌ. وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا الْأَصْلِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَنِزَاعٌ مَعْنَوِيٌّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْبِدَعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّ مُوَافَقَةَ الشَّارِعِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِي الْمَعْنَى وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يُوسُفَ: 106]. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الْحُجُرَاتِ: 14]، الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ منهن كانت فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"1. وَفِي رِوَايَةٍ: "وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ" بَدَلَ: "وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَحَدِيثُ: شُعَبِ الْإِيمَانِ تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ"2. فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يُخَلَّدْ فِي النَّارِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ النِّفَاقِ، فَهُوَ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عَلَى قَدْرِ [مَا مَعَهُ] مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ. فَالطَّاعَاتُ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَالْمَعَاصِي مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ شُعَبِ الْكُفْرِ الْجَحُودَ، وَرَأْسُ شُعَبِ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: "ما

1 متفق عليه وقد تقدم.

2 متفق عليه.

ص: 359

مِنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعَتْ إِلَّا وَفِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ، لَا هُمْ يَدْرُونَ بِهِ، وَلَا هُوَ يَدْرِي بِنَفْسِهِ"1، فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ قَدْ يَكُونُونَ كُفَّارًا، وَقَدْ يَكُونُونَ فُسَّاقًا يَمُوتُونَ عَلَى الْفِسْقِ، وَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْكَامِلُونَ فَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يُونُسَ: 62 - 64] الآية، وَالتَّقْوَى هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}، إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 177] ، وَهُمْ قِسْمَانِ: مُقْتَصِدُونَ، وَمُقَرَّبُونَ. فَالْمُقْتَصِدُونَ: الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ. وَالسَّابِقُونَ: الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ، حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ" 2. وَالْوَلِيُّ: خِلَافُ3 الْعَدُوِّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَاءِ وَهُوَ الدُّنُوُّ وَالتَّقَرُّبُ، فَوَلِيُّ اللَّهِ: هُوَ مَنْ وَالَى اللَّهَ بِمُوَافَقَتِهِ مَحْبُوبَاتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَرْضَاتِهِ، وَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطَّلَاقِ: 2، 3]. قَالَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه: لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذر، لو عمل

1 باطل لا أصل له كما قال المؤلف.

2 صحيح لإخراج البخاري إياه، وإسناده قوي لغيره، له طرق وشواهد عدة، خرجتها في "الأحاديث الصحيحة""1640" لكن لفظ المبارزة ليس عند البخاري، وإنما هو عند غيره من حديث أبي أمامة بسند فيه ضعيفان، كما بينته هناك.

3 في الأصل: من القرب.

ص: 360

النَّاسُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَكَفَتْهُمْ"1، فَالْمُتَّقُونَ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمْ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، فَيَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَضَارَّ، وَيَجْلِبُ لَهُمُ الْمَنَافِعَ، وَيُعْطِيهِمُ اللَّهُ أَشْيَاءَ يَطُولُ شَرْحُهَا، مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ.

قَوْلُهُ: "وَأَكْرَمُهُمْ عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن".

ش: أراد أَكْرَمُ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْأَطْوَعُ لِلَّهِ وَالْأَتْبَعُ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ الْأَتْقَى، وَالْأَتْقَى هُوَ الْأَكْرَمُ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 13]، وَفِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ"2. وَبِهَذَا الدَّلِيلِ يَظْهَرُ ضَعْفُ تَنَازُعِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ التَّفْضِيلَ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالْحَقَائِقِ، فَالْمَسْأَلَةُ فَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا. فَإِنَّ التفضل عِنْدَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، لَا بِفَقْرٍ وَلَا غِنًى. وَلِهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: الْغِنَى وَالْفَقْرُ مَطِيَّتَانِ، لَا أُبَالِي أَيُّهُمَا رَكِبْتُ. وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15] الآية. فإن استويا، الْفَقِيرُ الصَّابِرُ وَالْغَنِيُّ الشَّاكِرُ فِي التَّقْوَى، اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ، وَإِنْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا فِيهَا فَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى لَا يُوزَنَانِ، وَإِنَّمَا يُوزَنُ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَحَالَ الْمَسْأَلَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ "نِصْفٌ" صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صَبْرٍ وَشُكْرٍ، وَإِنَّمَا أَخَذَ النَّاسُ فَرْعًا مِنَ الصَّبْرِ وَفَرْعًا مِنَ الشكر، وأخذوا في الترجيح، فجردوا غنيا

1 ضعيف، رواه أحمد والحاكم بسند فيه انقطاع.

2 صحيح، لكن عزوه للسنن وهم، فإنه لم يروه أحد منهم، وإنما هو في مسند الإمام أحمد، وقد كنت توقفت فيه قبل سنين، ثم يسر الله تعالى لي جمع كثير من طرقه، وحققت الكلام عليها، فتبين لي أنه صحيح بمجموعها، وأودعت تفصيل ذلك في الموضع المشار إليه، وعليه استجزت إيراده في كتابي الكبير "صحيح الجامع الصغير وزياداته"1780.

ص: 361

مُنْفِقًا مُتَصَدِّقًا بَاذِلًا مَالَهُ فِي وُجُوبِ الْقُرْبِ شَاكِرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ، وَفَقِيرًا مُتَفَرِّغًا لِطَاعَةِ اللَّهِ وَلِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ صَابِرًا عَلَى فَقْرِهِ.

وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: إِنَّ أَكْمَلَهُمَا أَطْوَعُهُمَا وَأَتْبَعُهُمَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا تَسَاوَتْ دَرَجَتُهُمَا.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ صَحَّ التَّجْرِيدُ، لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ مُعَافًى شَاكِرٌ، أَوْ مريض صابر، أو مُطَاعٌ شَاكِرٌ، أَوْ مُهَانٌ صَابِرٌ، أَوْ آمِنٌ شَاكِرٌ، أَوْ خَائِفٌ صَابِرٌ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ، مِنَ اللَّهِ تَعَالَى).

ش: تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ هِيَ أُصُولُ الدِّينِ، وَبِهَا أَجَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث جبرائيل الْمَشْهُورِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، حِينَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ أَعْرَابِيٍّ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: «أَنْ تشهد لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.

وَسَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.

وَسَأَلَهُ عَنِ الْإِحْسَانِ؟ فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» 1.

وَقَدْ ثَبَتَ كَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ «عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ تَارَةً بِسُورَتَيِ الْإِخْلَاصِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ الله أحد} الاخلاص.

وَتَارَةً بِآيَتَيِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ: الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية، وَالَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ، الآية» 2.

[و] «فسر صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، حَيْثُ قَالَ لَهُمْ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة

1 متفق عليه، وقد تقدم

2 مسلم

ص: 362

وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ"1. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ [أَنَّ] هَذِهِ الْأَعْمَالَ تَكُونُ إِيمَانًا بِاللَّهِ بِدُونِ إِيمَانِ الْقَلْبِ، لِمَا قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِيمَانِ الْقَلْبِ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ مَعَ إِيمَانِ الْقَلْبِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا.

وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ إِلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ تِلْكَ إِنَّمَا فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ، وَالْإِيمَانُ بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فنفي الْإِيمَانِ حَتَّى تُوجَدَ هَذِهِ الْغَايَةُ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ فَرْضٌ عَلَى النَّاسِ، فَمَنْ تركها كان من أهل الوعيد [و] لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ، الَّذِي وُعِدَ أَهْلُهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ. وَلَا يُقَالُ إِنَّ بَيْنَ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبرائيل وَتَفْسِيرِهِ إِيَّاهُ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ معارضة؛ لأنه فسر الإيمان في حديث جبرائيل بَعْدَ تَفْسِيرِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ الْأَعْمَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي تَفْسِيرِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ الْإِحْسَانَ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِيمَانِ الَّذِي قَدَّمَ تَفْسِيرَهُ قَبْلَ ذِكْرِهِ. بِخِلَافِ حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ ابْتِدَاءً، لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ تَفْسِيرُ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَتَأَتَّى عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رحمه الله مِنْ تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ، فَحَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مُشْكِلٌ عَلَيْهِ.

وَمِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْخِصَالِ الْخَمْسِ الَّتِي أَجَابَ "بِهَا" النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث جبرائيل الْمَذْكُورِ، فَلِمَ قَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ هَذِهِ الْخِصَالُ الْخَمْسُ؟ وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ هَذِهِ أَظْهَرُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمُهَا، وَبِقِيَامِهِ بِهَا يَتِمُّ اسْتِسْلَامُهُ، وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ قَيْدِ انْقِيَادِهِ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الدِّينَ الَّذِي هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مطلقا

1 متفق عليه.

ص: 363

الذي يجب لله "على" عِبَادَةً مَحْضَةً عَلَى الْأَعْيَانِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ من كان قادرا عليه، ليعبد الله مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَهَذِهِ هِيَ الْخَمْسُ، وَمَا سوى ذلك فإنما يجب بأسباب مصالح، فَلَا يَعْلَمُ وُجُوبَهَا جَمِيعُ النَّاسِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إِمَارَةٍ، وَحُكْمٍ، وَفُتْيَا، وَإِقْرَاءٍ، وَتَحْدِيثٍ، وَغَيْرِ ذلك، وأما ما يَجِبَ1 بِسَبَبِ حَقِّ الْآدَمِيِّينَ، فَيَخْتَصُّ بِهِ مَنْ وَجَبَ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَقَدْ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ مِنْ قضاء الديون، ورد الأمانات والغصوب، وَالْإِنْصَافِ مِنَ الْمَظَالِمِ، مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، وَحُقُوقِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى زَيْدٍ غَيْرُ الْوَاجِبِ عَلَى عَمْرٍو، بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا مَالِيًّا فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ لِلَّهِ، وَالْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ مَصَارِفُهَا، وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّةُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهَا الْغَيْرُ بِلَا إِذْنِهِ، وَلَمْ تُطْلَبْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا النِّيَّةُ، وَلَوْ أَدَّاهَا غَيْرُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَيُطَالَبُ بِهَا الْكُفَّارُ. وَمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالْكَفَّارَاتِ، هُوَ بِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، وَلِهَذَا كَانَ التَّكْلِيفُ شَرْطًا فِي الزَّكَاةِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

1 في الأصل: أن يجب.

ص: 364