الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعنى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (1) - قِيلَ: حِفْظُهُمْ لَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيِ اللَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، يَشْهَدُ لِذَلِكَ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ:"يَحْفَظُونَه بِأَمْرِ اللَّهِ".
ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمَذْكُورَة أَنَّ الْمَلَائِكَة تَكْتُبُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ. وَكَذَلِكَ النِّيَّة؛ لِأَنَّهَا فِعْلُ الْقَلْبِ، فَدَخَلَتْ فِي عُمُومِ {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (2). وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَة فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَلَيْهِ سَيِّئَة، وَإِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَة فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَة، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَتِ الْمَلَائِكَة: ذَاكَ عَبْدُ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَة، وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ، فَقَالَ: ارْقُبُوه، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَة، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائي» ، خَرَّجَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ، الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ)
.
ش: قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (3). وَلَا تُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلَهُ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} (4)، وَقَوْلَهُ تَعَالَى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (5) -: لِأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَتَوَلَّى قَبْضَهَا وَاسْتِخْرَاجَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مَلَائِكَة الرَّحْمَة أَوْ مَلَائِكَة الْعَذَابِ، وَيَتَوَلَّوْنَهَا بَعْدَهُ، كُلُّ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَضَائِه وَقَدَرِه، وَحُكْمِه وَأَمْرِه، فَصَحَّتْ إِضَافَة التَّوَفِّي إِلَى كُلٍّ بِحَسَبِه.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حَقِيقَة النَّفْسِ مَا هِيَ؟ وَهَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ؟ أَوْ
(1) سورة الرَّعْدِ آية 11
(2)
سورة الِانْفِطَارِ آية 12
(3)
سورة السَّجْدَة آية 11
(4)
سورة الْأَنْعَامِ آية 61
(5)
سورة الزُّمَرِ آية 42
عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِه؟ أَوْ جِسْمٌ مُسَاكِنٌ لَهُ مُودَعٌ فِيهِ؟ أَوْ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ؟ وَهَلْ هِيَ الرُّوحُ أَوْ غَيْرُهَا؟ وَهَلِ الْأَمَّارَة، وَاللَّوَّامَة، وَالْمُطْمَئِنَّة - نَفْسٌ وَاحِدَة، أَمْ هِيَ ثَلَاثَة أَنْفُسٍ؟ وَهَلْ تَمُوتُ الرُّوحُ، أَوِ الْمَوْتُ لِلْبَدَنِ وَحْدَه؟ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ مُجَلَّدًا، وَلَكِنْ أُشِيرُ إِلَى الْكَلَامِ عَلَيْهَا مُخْتَصَرًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَقِيلَ: الرُّوحُ قَدِيمَة، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الرُّسُلُ عَلَى أَنَّهَا مُحْدَثَة مَخْلُوقَة مَصْنُوعَة مَرْبُوبَة مُدَبَّرَة. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَة مِنْ دِينِهِمْ، أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ، وَمَضَى عَلَى هَذَا الصَّحَابَة وَالتَّابِعُونَ، حَتَّى نَبَغَتْ نَابِغَة مِمَّنْ قَصُرَ فَهْمُه فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَزَعَمَ أَنَّهَا قَدِيمَة، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَأَمْرُه غَيْرُ مَخْلُوقٍ! وَبِأَنَّ اللَّهَ أَضَافَهَا إِلَيْهِ بقوله:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (1)، وَبِقَوْلِه:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (2)، كَمَا أَضَافَ إِلَيْهِ عِلْمَه وَقُدْرَتَه وَسَمْعَه وَبَصَرَه وَيَدَه. وَتَوَقَّفَ آخَرُونَ.
وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة أَنَّهَا مَخْلُوقَة. وَمِمَّنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ: مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي، وَابْنُ قُتَيْبَة وَغَيْرُهُمَا.
وَمِنَ الْأَدِلَّة عَلَى أَنَّ الرُّوحَ مَخْلُوقَة، قَوْلُهُ تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3)، فَهَذَا عَامٌّ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ بِوَجْه مَا، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهَا دَاخِلَة فِي مُسَمَّى اسْمِه. فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْإِلَه الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَعِلْمُه وَقُدْرَتُه وَحَيَاتُه وَسَمْعُه وَبَصَرُه وَجَمِيعُ صِفَاتِه - دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى اسْمِه فَهُوَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِه وَصِفَاتِه الْخَالِقُ، وَمَا سِوَاه مَخْلُوقٌ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَت هِيَ اللَّهَ، وَلَا صِفَة مِنْ صِفَاتِه، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَصْنُوعَاتِه. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (4) وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (5). وَالْإِنْسَانُ اسْمٌ لِرُوحِه
(1) سورة الْإِسْرَاءِ آية 85
(2)
سورة الْحِجْرِ آية 29
(3)
سورة الزُّمَرِ آية 62
(4)
سورة الدَّهْرِ آية 1
(5)
سورة مَرْيَمَ آية 9
وَجَسَدِه، وَالْخِطَابُ لِزَكَرِيَّا، لِرُوحِه وَبَدَنِه، وَالرُّوحُ تُوصَفُ بِالْوَفَاة وَالْقَبْضِ وَالْإِمْسَاكِ وَالْإِرْسَالِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمَخْلُوقِ الْمُحْدَثِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (1) - فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالْأَمْرِ الطَّلَبَ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ، وَالْمَصْدَرُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِضَافَتِهَا إليه بقوله: {مِنْ رُوحِي} (2) - فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَى اللَّهِ تعالى مِنَ نَوْعَانِ:
صِفَاتٌ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَة وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فَهَذِهِ إِضَافَة صِفَة إِلَى الْمَوْصُوفِ بِهَا، فَعِلْمُه وَكَلَامُه وَقُدْرَتُه وَحَيَاتُه صِفَاتٌ لَهُ، وَكَذَا وَجْهُه وَيَدُه سُبْحَانَهُ.
وَالثَّانِي: إِضَافَة أَعْيَانٍ مُنْفَصِلَة عَنْهُ، كَالْبَيْتِ وَالنَّاقَة وَالْعَبْدِ وَالرَّسُولِ وَالرُّوحِ، فَهَذِهِ إِضَافَة مَخْلُوقٍ إِلَى خَالِقِه، لَكِنَّهَا إِضَافَة تَقْتَضِي تَخْصِيصًا وَتَشْرِيفًا، يَتَمَيَّزُ بِهَا الْمُضَافُ عَنْ غَيْرِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ: هَلْ هِيَ مَخْلُوقَة قَبْلَ الْجَسَدِ أَمْ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمِيثَاقِ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِكَ.
وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ: مَا هِيَ؟ قِيلَ: هِيَ جِسْمٌ، وَقِيلَ: عَرَضٌ، وَقِيلَ: لَا نَدْرِي مَا الرُّوحُ، أَجَوْهَرٌ أَمْ عَرَضٌ؟ وَقِيلَ: لَيْسَ الرُّوحُ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنَ اعْتِدَالِ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، وَقِيلَ: هِيَ الدَّمُ الصَّافِي الْخَالِصُ مِنَ الْكَدَرِة وَالْعُفُونَاتِ، وَقِيلَ: هِيَ الْحَرَارَة الْغَرِيزِيَّة، وَهِيَ الْحَيَاة، وَقِيلَ: هُوَ جَوْهَرٌ بَسِيطٌ مُنْبَعثٌّ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، عَلَى جِهَة الْإِعْمَالِ لَهُ وَالتَّدْبِيرِ، وَهِيَ عَلَى مَا وُصِفَتْ مِنْ الِانْبِسَاطِ فِي الْعَالَمِ غَيْرُ مُنْقَسِمَة الذَّاتِ وَالْبِنْيَة، وَأَنَّهَا في كُلِّ حَيَوَانِ
(1) سورة الْإِسْرَاءِ آية 85
(2)
سورة الْحِجْرِ آية 29
الْعَالَمِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لَا غَيْرُ، وَقِيلَ: النَّفْسُ هِيَ النَّسِيمُ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ بِالتَّنَفُّسِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَلِلنَّاسِ فِي مُسَمَّى"الْإِنْسَانِ": هَلْ هُوَ الرُّوحُ فَقَطْ، أَوِ الْبَدَنُ فَقَطْ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا؟ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَة لَهُمْ فِي كَلَامِه: هَلْ هُوَ اللَّفْظُ، أَوِ الْمَعْنَى فَقَطْ، أَوْ هُمَا، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا؟ فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي النَّاطِقِ وَنُطْقِه. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْإِنْسَانَ اسْمٌ لَهُمَا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِقَرِينِة، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَة وَأَدِلَّة الْعَقْلِ: أَنَّ النَّفْسَ جِسْمٌ مُخَالِفٌ بِالْمَاهِيَّة لِهَذَا الْجِسْمِ الْمَحْسُوسِ، وَهُوَ جِسْمٌ نُورَانِي عُلْوِي، خَفِيفٌ حَي مُتَحَرِّكٌ، [يَنْفُذُ](1) فِي جَوْهَرِ الْأَعْضَاءِ، وَيَسْرِي فِيهَا سَرَيَانَ الْمَاءِ فِي الْوَرْدِ، وَسَرَيَانَ الدُّهْنِ فِي الزَّيْتُونِ، وَالنَّارِ فِي الْفَحْمِ. فَمَا دَامَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ صَالِحَة لِقَبُولِ الْآثَارِ الْفَائِضَة عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الْجِسْمِ اللَّطِيفِ، بَقِي ذَلِكَ الْجِسْمُ اللَّطِيفُ سَارِيًا فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَإفَادَتهَا هَذِهِ الْآثَارُ، مِنَ الْحِسِّ وَالْحَرَكَة الْإِرَادِيَّة، وَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ، بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْأَخْلَاطِ الْغَلِيظَة عَلَيْهَا، وَخَرَجَتْ عَنْ قَبُولِ تِلْكَ الْآثَارِ، فَارَقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ، وَانْفَصَلَ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (2)، الآية. فَفِيهَا الْإِخْبَارُ بِتَوَفِّيهَا وَإِمْسَاكِهَا وَإِرْسَالِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} (3) فَفِيهَا بَسْطُ الْمَلَائِكَة أَيْدِيَهُمْ لِتَنَاوُلِهَا، وَوَصْفُهَا بِالْإِخْرَاجِ وَالْخُرُوجِ، وَالْإِخْبَارُ بِعَذَابِهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ مَجِيئِهَا إِلَى رَبِّهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي}
(1) في الأصل: (يتنقل)، ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(2)
سورة الزُّمَرِ آية 42
(3)
سورة الْأَنْعَامِ آية 93
{يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} (1)، الآية. فَفِيهَا الْإِخْبَارُ بِتَوَفِّي النَّفْسِ بِاللَّيْلِ، وَبَعْثِهَا إِلَى أَجْسَادِهَا بِالنَّهَارِ، وَتَوَفِّي الْمَلَائِكَة لَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} {وَادْخُلِي جَنَّتِي} (2). فَفِيهَا وَصْفُهَا بِالرُّجُوعِ وَالدُّخُولِ
وَالرِّضَا. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَه الْبَصَرُ» . فَفِيهِ وَصْفُه بِالْقَبْضِ، وَأَنَّ الْبَصَرَ يَرَاه. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ بِلَالٍ:«قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ [حِينَ شَاءَ] (3) وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ» (4) ". وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «نَسَمَة الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ تَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّة» . وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ أَدِلَّة كَثِيرَةٌ مِنْ خِطَابِ مَلَكِ الْمَوْتِ لَهَا، وَأَنَّهَا تَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَة مِنْ فِي السِّقَاءِ، وَأَنَّهَا تَصْعَدُ وَيُوجَدُ مِنْهَا [مِنَ الْمُؤْمِنِ] كَأَطْيَبِ رِيحٍ، وَمِنَ الْكَافِرِ كَأَنْتَنِ رِيحٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ. وَعَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ السَّلَفُ وَدَلَّ الْعَقْلُ، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ خَالَفَ سِوَى الظُّنُونِ الْكَاذِبَة، وَالشُّبَه الْفَاسِدَة، الَّتِي لَا يُعَارَضُ بِهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْوَحْي وَالْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي مُسَمَّى النَّفْسِ وَالرُّوحِ: هَلْ هَمَّا مُتَغَايِرَانِ، أَوْ مُسَمَّاهُمَا وَاحِدٌ؟ فَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ النَّفْسَ تُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ، وَكَذَلِكَ الرُّوحُ، فَيَتَّحِدُ مَدْلُولُهُمَا تَارَة، وَيَخْتَلِفُ تَارَة. فَالنَّفْسُ تُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ، وَلَكِنْ غَالِبُ مَا تُسَمَّى نَفْسًا إِذَا كَانَتْ مُتَّصِلَة بِالْبَدَنِ، وَأَمَّا إِذَا أُخِذَتْ مُجَرَّدَة فَتَسْمِيَة الرُّوحِ أَغْلَبُ عَلَيْهَا. وَتُطْلَقُ عَلَى الدَّمِ، فَفِي الْحَدِيثِ:«مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَة لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ إِذَا مَاتَ فِيهِ» . وَالنَّفْسُ: الْعَيْنُ، يُقَالُ: أَصَابَتْ فُلَانًا نَفْسٌ، أي عَيْنٌ.
(1) سورة الْأَنْعَامِ آية 60
(2)
سورة الْفَجْرِ الآيات 27 - 30
(3)
سقطت من الأصل. والتصويب من البخاري (2/ 66 فتح الباري) وأبو داود 1/ 307 والنسائي 2/ 106 وأحمد 5/ 307. ن
(4)
سقطت من الأصل. والتصويب من البخاري (2/ 66 فتح الباري) وأبو داود 1/ 307 والنسائي 2/ 106 وأحمد 5/ 307. ن
وَالنَّفْسُ: الذَّاتُ، {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (1). {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الرُّوحُ فَلَا تُطْلَقُ عَلَى الْبَدَنِ، لَا بِانْفِرَادِه، وَلَا مَعَ النَّفْسِ. وَتُطْلَقُ الرُّوحُ على الْقُرْآنِ. وعلى جِبْرِائيلَ، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (3). {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (4). وَتُطْلَقُ الرُّوحُ عَلَى الْهَوَاءِ الْمُتَرَدِّدِ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَيْضًا.
وَأَمَّا مَا يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَه، فَهِيَ رُوحٌ أُخْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (5). وَكَذَلِكَ الْقُوَى الَّتِي فِي الْبَدَنِ، فَإِنَّهَا أَيْضًا تُسَمَّى أَرْوَاحًا، فَيُقَالُ: الرُّوحُ الْبَاصِرُ، وَالرُّوحُ السَّامِعُ، وَالرُّوحُ الشَّامُّ. وَتُطْلَقُ الرُّوحُ عَلَى أَخَصِّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ: قُوَّة الْمَعْرِفَة بِاللَّهِ وَالْإِنَابَة إِلَيْهِ وَمَحَبَّتُه وَانْبِعَاثُ الْهِمَّة إِلَى طَلَبِه وَإِرَادَتِه. وَنِسْبَة هَذِهِ الرُّوحِ إِلَى الرُّوحِ، كَنِسْبَة الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ، [فَلِلْعِلْمِ](6) رُوحٌ، [وَلِلْإِحْسَانِ](7) رُوحٌ، [وَلِلْمَحَبَّة](8) رُوحٌ، [وَلِلتَّوَكُّلِ](9) رُوحٌ، [وَلِلصِّدْقِ](10) رُوحٌ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذِهِ [الْأَرْوَاحِ](11). فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ فَيَصِيرُ [رُوحَانِيًّا](12)، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْقِدُهَا أَوْ أَكْثَرَهَا فَيَصِيرُ أَرْضِيًّا بَهِيمِيًّا.
وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ ثَلَاثَة أَنْفُسٍ: مُطْمَئِنَّة، وَلَوَّامَة، وَأَمَّارَة، قَالُوا: وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ، كَمَا قَالَ تعالى:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (13). {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (14). {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (15).
(1) سورة النِّور آية 61
(2)
سورة النّساء آية 29
(3)
سورة الشُّورَى آية 52
(4)
سورة الشُّعَرَاءِ آية 193
(5)
سورة الْمُجَادَلَة آية 22
(6)
في الأصل: (فالعلم)(والإحسان)(والمحبة)(والتوكل)(والصدق)(الروح)(روحيا). والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(7)
في الأصل: (فالعلم)(والإحسان)(والمحبة)(والتوكل)(والصدق)(الروح)(روحيا). والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(8)
في الأصل: (فالعلم)(والإحسان)(والمحبة)(والتوكل)(والصدق)(الروح)(روحيا). والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(9)
في الأصل: (فالعلم)(والإحسان)(والمحبة)(والتوكل)(والصدق)(الروح)(روحيا). والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(10)
في الأصل: (فالعلم)(والإحسان)(والمحبة)(والتوكل)(والصدق)(الروح)(روحيا). والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(11)
في الأصل: (فالعلم)(والإحسان)(والمحبة)(والتوكل)(والصدق)(الروح)(روحيا). والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(12)
في الأصل: (فالعلم)(والإحسان)(والمحبة)(والتوكل)(والصدق)(الروح)(روحيا). والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(13)
سورة الْفَجْرِ آية 27
(14)
سورة الْقِيَامَة آية 2
(15)
سورة يُوسُفَ آية 53
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا نَفْسٌ وَاحِدَة، لَهَا صِفَاتٌ، فَهِيَ أَمَّارَة بِالسُّوءِ، فَإِذَا عَارَضَهَا الْإِيمَانُ صَارَتْ لَوَّامَة، تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ صَاحِبَهَا، وَتَلُومُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَإِذَا قَوِي الْإِيمَانُ صَارَتْ مُطْمَئِنَّة. وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ سَرَّتْه حَسَنَتُه وَسَاءَتْه سَيِّئَتُه فَهُوَ مُؤْمِنٌ» . وقوله: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» ، الْحَدِيثَ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ تَمُوتُ الرُّوحُ أَمْ لَا؟ فَقَالَتْ طَائِفَة: تَمُوتُ؛ لِأَنَّهَا نَفْسٌ، وَكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة الْمَوْتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (1). وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (2). قَالُوا: وَإِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَة تَمُوتُ، فَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّة أَوْلَى بِالْمَوْتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تَمُوتُ الْأَرْوَاحُ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ لِلْبَقَاءِ، وَإِنَّمَا تَمُوتُ الْأَبْدَانُ. قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّة عَلَى نَعِيمِ الْأَرْوَاحِ وَعَذَابِهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَة إِلَى أَنْ يُرْجِعَهَا اللَّهُ فِي أَجْسَادِهَا.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَوْتُ النُّفُوسِ هُوَ مُفَارَقَتُهَا لِأَجْسَادِهَا وَخُرُوجُهَا مِنْهَا، فَإِنْ أُرِيدَ بِمَوْتِهَا هَذَا الْقَدْرُ، فَهِيَ ذَائِقَة الْمَوْتِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا تُعْدَمُ وَتَفْنَى بِالْكُلِّيَّة، فَهِيَ لَا تَمُوتُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، بَلْ هِيَ بَاقِيَة بَعْدَ خَلْقِهَا فِي نَعِيمٍ أَوْ فِي عَذَابٍ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّة {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (3)، وَتِلْكَ الْمَوْتَة هي مُفَارَقَة الأرُّواحِ لِلْأجَسَادِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَهْلِ النَّارِ:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} (4)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (5) - فَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَمْوَاتًا وَهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وفي
(1) سورة الرَّحْمَنِ الآيتان 26 - 27
(2)
سورة الْقَصَصِ آية 88
(3)
سورة الدُّخَانِ آية 56
(4)
سورة غَافِرٍ آية 11
(5)
سورة الْبَقَرَة آية 28