الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم
في هذا إثبات علم الله عز وجل وسبق الكلام على علم الله، والأدلة، والمؤلف كرر قال: خلقهم بعلمه، ثم قال: لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم.
والمعنى أن علم الله سبحانه وتعالى سابق للمقادير ومراتب القدر كما هو معلوم أربع:
المرتبة الأولى: العلم الشامل لجميع الكائنات، علم الله الشامل لجميع الكائنات،.
الثانية: كتابته لها في اللوح المحفوظ.
الثالثة: إرادته ومشيئته.
الرابعة: خلقه وإيجاده.
هذه مراتب القدر من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقدر، والأدلة عليها كثيرة. قال الله -تعالى-:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) } هذا دليل على إثبات العلم والكتاب.
قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) } وللإرادة أدلة كثيرة كما سبق. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) } {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) } وللخلق والإيجاد أدلة كثيرة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ومن أنكر المرتبة الأولى، والثانية العلم والكتابة، فقد كفَّره أهل العلم؛ لأن من أنكر العلم نسب الله إلى الجهل.
وكانت القدرية الأولى ينكرون العلم والكتابة، وهم الذين قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا فمن أنكر العلم والكتابة فهم القدرية الأولى كفروا، فإنهم يكفرون بهذا؛ لأنهم ينسبون الله إلى الجهل، فقد انقرضت القدرية الأولى، وأما عامة القدرية فهم يثبتون العلم والكتابة وينكرون عموم الإرادة والمشيئة بجميع الكائنات حتى تشمل أفعال العباد، قالوا: إن أفعال العباد ما أرادها الله ولا خلقها. العباد هم الذين أرادوها وخلقوها.
وعلم الله -كما سبق- شامل للماضي والمستقبل والحاضر بل لما لم يكن أن لو كان كيف يكون كما قلنا {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) } بيَّن الله أنه يعلم حالهم لو ردوا. وأدلة العلم كثيرة الكتاب والسنة {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) } .
والدليل العقلي على ثبوت العلم لله عز وجل أنه يستحيل إيجاد هذه الأشياء مع الجهل العقل يحيل إيجاد الأشياء مع الجهل؛ ولأن الإيجاد يستلزم الإرادة، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد هو العلم فثبت علم الله في الشرع والعقل؛ في الشرع الأدلة كثيرة {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) } {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) } {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) } .
وكما سبق علم الله شامل لما مضى وللمستقبل وللحاضر ولما لم يكن أن لو كان كيف يكون والعقل أيضا دل على ثبوت العلم لله؛ لأنه يستحيل إيجاد الأشياء مع الجهل؛ ولأن الإيجاد يستلزم الإرادة، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد هو العلم. نعم.
من قسم مراتب القدر إلى ستة مراتب، وقسم المشيئة إلى مشيئة سابقة وحالية؟ وأضاف الأمر للمراتب؟
معروف عند أهل العلم أن المراتب أربعة والمشيئة واحدة.
المشيئة ما تنقسم، المشيئة واحدة، والإرادة تنقسم إلى قسمين،. وهذه معروفة أنها أربع، وشيخ الإسلام رحمه الله جعلها على درجتين، وكل درجة تتضمن مرتبتين، الدرجة الأولى العلم تتضمن مرتبة العلم والكتابة، والثانية الإرادة والإيجاد والخلق، أربع مراتب ما نعرف أن أحدا قسمها ستا. نعم.
وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته
في هذا أن الله سبحانه وتعالى أمر العباد بطاعته ونهاهم عن معصيته، ذكر هذا بعد الخلق والقدر، ذكر الشرط لبيان أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته وتوحيده وطاعته لما ذكر أن خلقهم أن الله -تعالى- خلق الخلق بعلمه قال:: وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، ففيه بيان أن الله خلق العباد لتوحيده وطاعته كما قال سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) } ومعنى يعبدون يوحدون، التوحيد بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، قال سبحانه:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) } الله -تعالى- خلق الخلق لعبادته وتوحيده وطاعته أمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، وهذه هي العبادة التي خلق الخلق من أجلها، العبادة أن تمتثل للأوامر وتجتنب النواهي وتقف عند الحدود، وتستقيم على دين الله، هذه هي العبادة التي خلق الخلق لتوحيد الله وطاعته، طاعة الأوامر، واجتناب النواهي، فعل الأوامر الواجبة والمستحبة، ترك النواهي المحرمة والمكروهة. نعم.
وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن
نعم هذا في بيان مشيئة الرب، وأن كل شيء يجري بتقديره ومشيئته، وأن مشيئة الله نافذة أما مشيئة العباد فهي تابعة لمشيئة الله عز وجل مشيئة الله نافذة، لا يتخلف ما شاءه الله كما يقولون:"ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن" كل شيء شاءه الله لا بد أن يوجد، وما لم يشأ الله وجوده فإنه لا يكون، كل شيء يجري بتقدير الله ومشيئته، ومشيئة الله نافذة وإرادته الكونية لا تتخلف، والمشيئة لا تنقسم إلى قسمين، إنما الذي ينقسم إلى قسمين الإرادة.
الإرادة تنقسم إلى قسمين:
إرادة كونية قدرية ترادف المشيئة وإرادة دينية شرعية ترادف المحبة والرضا، الإرادة الكونية مرادفة للمشيئة، والمشيئة لا تنقسم. ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء يجري بقضاء الله وقدره ومشيئته، ومشيئة الله نافذة، أما مشيئة العباد فقد تنفذ، وقد لا تنفذ؛ لأن مشيئة العباد تابعة لمشيئة الله كما قال الله سبحانه وتعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) } وقال -سبحانه-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) } .
وقال -سبحانه-: {* وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقال -سبحانه-: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) } وقال -سبحانه-: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} وقال -تعالى-: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) } وقال -سبحانه-: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} .
والإرادة الكونية هي مرادف المشيئة، المعنى واحد، فمشيئة الله نافذة أما مشيئة العباد فهي تابعة لمشيئة الله عز وجل فقد يشاء العبد شيئا لكن لا يقع؛ لأن الله لم يشأ وقوعه، وقد يشأ العبد شيئا فيقع؛ لأن الله أراد وقوعه فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل.
وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على الكفار احتجاجهم بالمشيئة كقوله عز وجل {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) } الآية من سورة الأنعام، وقال -سبحانه -:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا} {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا} {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) } الآية من سورة النحل.
وقال الله سبحانه وتعالى عن نوح: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) } فهؤلاء المشركون احتجوا بالمشيئة، فأنكر الله عليهم ذلك؛ لأنهم احتجوا بالمشيئة على محبة الله ورضاه، فاستدلوا بها على أن ما شاءه الله أحبه ورضيه، وأن المشيئة دليل على المحبة والرضا، ولولا أنه شاءه، لولا أنه أحبه ورضيه لما شاءه فأنكر الله عليهم ذلك؛ لأن الله قد يشاء الشيء ولا يرضاه ولا يحبه، أو أن الله أنكر عليهم أنهم جعلوا المشيئة دليلا على الرضا والمحبة أو أنهم عارضوا شرع الله ودينه في مشيئته، عارضوا قضاء الله وقدره بالشرط أو عارضوا دين الله وشرعه بالمشيئة {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} .
فأنكر الله عليهم ذلك فلا يعارَض ما شرعه الله بالمشيئة، المشيئة والإرادة الكونية لا يتخلف مرادها، والله حكيم فيما يقدره ويشاءه سبحانه وتعالى، فإذا قدر الله الشرك على العبد فله الحكمة البالغة، ولا يكون هذا حجة له في جواز الشرك، لو قدر الله المعصية على العبد فله الحكمة البالغة، ولا يكون هذا دليل الله على جواز المعصية، وعلى فعل المعصية فلهذا أنكر الله عليهم نعم.
يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا
هذا فعله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويعصم، ويعافي فضلا منه وإحسانا، ويضل ويبتلي عدلا منه وحكمة، هو يهدي ويعصم ويعافي فضلا، ويضل ويبتلي حكمة منه وعدلا سبحانه وتعالى، وهذه المسألة؛ وهي مسألة الهدى والضلال مسألة عظيمة من أهم مسائل القدر حتى إن العلامة ابن القيم رحمه الله قال: إنه قلب أبواب القدر؛ مسألة الهدى والضلال، هذه تسمى مسألة الهدى والضلال قلب أبواب القدر ومسائله.
وأراد المؤلف رحمه الله الطحاوي الرد على القدرية والمعتزلة الذين يقولون: إنه يجب على الله فعل الأصلح للعبد، يقولون: يجب على الله فعل الأصلح للعبد، وهي مسألة الهدى والضلال. والقدرية أنكروا أن يهدي الله أحدا أو أن يضل أحدا فقالوا: إن العبد هو الذي يهدي نفسه، وهو الذي يضل نفسه، أما الله فلا يهدي أحدا، ولا يضل أحدا، وأجابوا على النصوص قالوا معنى يهدي: يعنى يبين له الطريق الصواب ويسميه مهتديا، ومعنى يضله، أي يسميه ضالا، أو يحكم عليه بالإضلال بعد خلقه الإضلال من نفسه.
فهذه المسألة وهي مسألة الهدى والضلال مسألة عظيمة من مسائل القدر، ولا بد من بيان مراتب الهداية وأقسامها حتى يتبين هذا الباب.
مراتب الهداية أربعة:
المرتبة الأولى: الهداية العامة لكل مخلوق إلى ما يصلحه هداية الله العامة لكل مخلوق إلى مصالح معاشه، وما يقيمه هذه الهداية العامة عامة لكل مخلوق للآدميين والطيور والوحوش والصغار والكبار والأطفال، هداية الله العامة لكل مخلوق إلى ما يصلحه في معاشه وإلى ما يقيمه، ويدخل في ذلك: هداية الطيور إلى أوكارها، وهداية الأنعام إلى مراتعها، وهداية الطفل إلى ثدي أمه، وهداية الإنسان إلى ما يصلحه في معاشه وما يقيم به أمور حياته، هداه الله كيف يأكل، كيف يشرب، كيف ينكح.
الحيوانات هداها الله تعرف كيف تأكل وكيف تشرب وكيف تنكح أنثاها.
هي عامة شاملة للآدميين وللحيوانات وللوحوش وللطيور، قال الله- سبحانه وتعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) } هذه دليل الهداية العامة، وقال -سبحانه- في جواب موسى لفرعون:{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) } كل المخلوقات هداها الله إلى ما يصلحها في معاشها؛ فالإبل والبقر والغنم هداها الله كيف تأكل وكيف تذهب إلى الماء وتشرب كيف تذهب إلى المراعي. الطفل من حين سقوطه من بطن أمه هداه الله إلى أن يلتقم ثدي أمه هذه هي الهداية العامة، الطيور هداها الله إلى أوكارها جلب غذائها لصغارها {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) } هذه عامة للآدميين ولغيرهم وهذه ما أنكرها أحد.
النوع الثاني من الهداية: هداية البيان والدلالة والإرشاد والتعليم والدعوة والإبلاغ، التعليم والدعوة إلى ما يصلح الإنسان في معاده، وهذه خاصة بالآدميين خاصة بالمكلفين من الجن والأنس، هداية تسمى هداية البيان والدلالة والإرشاد والتعليم والدعوة إلى ما يصلح الإنسان في معاده يوم القيامة إلى ما يكون سببا في نجاته من النار وإيداعه بما أوجب الله عليه، وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه لا يعذب الله أحدا حتى تقوم عليه الحجة، وحتى يُهدى هذه الهداية وهي التي أرسل من أجلها الرسل وأنزل من أجلها الكتب قال سبحانه:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} يعني ما كان الله ليضلهم بعد أن هداهم وبين لهم طريق الخير فلما بين لهم طريق الخير وتركوه أضلهم عقوبة لهم، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} هذه هي هداية الدلالة والإرشاد.
وقال -سبحانه-: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} هديناهم يعني دللناهم طريق الخير وطريق الشر، {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فلما بين الله لهم طريق الخير وطريق الشر واستحبوا العمى على الهدى جاءتهم العقوبة {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) } .
وهذه هي هداية ثابتة للرسل والأنبياء والمصلحين والدعاة كلهم يقدرون عليها قال الله -تعالى- للنبي صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) } أي ترشد وتدل وتبلغ وتدعو، هذه هداية يقدر عليها الرسول عليه الصلاة والسلام ويقدر عليها الدعاة والمصلحون يهدون الناس هداية الدلالة والإرشاد والبيان والتبليغ والدعوة هذه خاصة بالمكلفين من الإنس والجن وليست للحيوانات ولا الطيور، هذه هداية يعني بيان وإرشاد الناس إلى الأمر الذي خلقوا له بيان ما أوجب الله عليهم من توحيده وطاعته وترك معصيته.
الله -تعالى- لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة حتى تقوم الحجة عليه وحتى يتبين له ما أوجب الله عليه، كما قال-تعالى-:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وقال -سبحانه-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) } إذا بعث الرسول وأرشد الناس ودلهم على ما أوجب الله عليهم من التوحيد والطاعة واجتناب المعصية قامت الحجة عليهم. إذا قامت الحجة بعد ذلك استحقوا العذاب، إذا لم يعملوا، هذه هداية والبيان والدلالة والإرشاد، وهذه المرتبة ما أنكرها المعتزلة.
النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام والتسديد وجعل الإنسان يقبل الحق ويرضاه ويختاره وخلق هداية القلب هذه خاصة بالله، لا يقدر عليها إلا الله، لا يقدر عليها أحد من الخلق لا الأنبياء ولا غيرهم وهذه هي المنفية عن النبي صلى الله عليه وسلم نفاها الله بقوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فهو لا يهدي يعني لا يخلق الهداية في القلب ولا يوفق ولا يلهم ولا يجعله يقبل الحق ويختاره ويرضاه إلا الله، ولو كانت هداية الدلالة والإرشاد لكان النبي صلى الله عليه وسلم أرشد من أحب ومن أبغض.
وقال سبحانه: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) } فالله -تعالى- يهدي ويضل، فالهداية والإضلال، بيد الله عز وجل والعبد هو الضال والمهتدي ولا بد في وقوع هذه الهداية من أمرين:
الأمر الأول: الهداية من الله، يعني يهديه الله.
والثاني: الاهتداء من العبد فإذا هداه الله واهتدى حصلت له الهداية بالتوفيق وكذلك الإضلال من الله، والعبد هو الضال إذا أضله الله فضل صار ضالا.
فالهداية والإضلال بيد الله عز وجل وقد اتفقت رسل الله وكتبه المنزلة على أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وهذه المسألة مسألة الهداية والإضلال مسألة عظيمة؛ لأن أفضل ما يقدره الله على العبد وأجل ما يقسمه له هو الهداية وأعظم ما يبتلي الله به العبد وأعظم مصيبة تصيبه هو أن يقدر الله عليه الإضلال، وكل نعمة فهي دون نعمة الهداية، وكل مصيبة هي دون مصيبة الإضلال، فلذلك كانت الهداية والإضلال بيد الله عز وجل.
هذه المرتبة أنكرها المعتزلة والقدرية أنكروها فأنكر عليهم أهل السنة وبدَّعُوهم وضللوهم، وهذا هو معنى قول المؤلف رحمه الله:"يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا ويضل من يشاء ويبتلي حكمة وعدلا ".
المعتزلة والقدرية قالوا: الهداية والإضلال بيد العبد وليس بيد الله الهداية والإضلال أنكروا هذه المرتبة. أنكر عليهم أهل السنة وقالوا: النصوص واضحة لأن الله سبحانه وتعالى بيده الهداية والإضلال قال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} لو كانت الهداية بيد العبد لما قيدها بالمشيئة {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} ولكن الله سبحانه وتعالى خص المؤمن بنعمة دينية دون الكافر، كما قال -سبحانه-:{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) } وقال -سبحانه-: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} .
هذه النعمة اختص الله بها المؤمنين اختصهم بنعمة دينية جعلهم يقبلون الحق ويرضون به ويختارونه وألهمهم إياه وخلق الهداية في قلوبهم فصاروا مهتدين. وله الفضل والإحسان. والكافر أضله الله خذله وأضله الله وابتلاه - كل ذلك -عدلا منه حكمة بالغة سبحانه وتعالى.
فالهداية والإضلال بيد الله عز وجل. فالمؤمن اختصه الله بهذه النعمة الدينية دون الكافر والكافر خذله الله. والمعتزلة والقدرية أنكروا هذه المرتبة، وقالوا: الهداية والإضلال بيد العبد، وتأولوا النصوص بقوله:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قالوا معناه: يهدي أي يسميه مهتديا ويبين لهم طريق الصواب فسروها بهداية الدلالة والإرشاد. ويضل من يشاء قالوا: يسميه ضالا أو يحكم عليه بالإضلال بعد أن يخلق الضلال من نفسه، وهذا من أبطل الباطل.
القدرية يضربون مثلا في هذا، والله -تعالى- قال:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} لكنهم يضربون مثلا يقولون: إن الله -تعالى- لم يهد أحدا ولم يضل أحدا، ولكن العبد هو الذي اختار الهداية بنفسه وخلق الهداية لنفسه، والكافر اختار الإضلال وخلق الإضلال لنفسه، واختار الإضلال لنفسه، والله -تعالى- لم يخص المؤمن بنعمة دينية ولم يخذل الكافر، وهذا مبني على شبهتهم السابقة.
وهو أن لو هدى هؤلاء وأضل هؤلاء لكان هذا جورا، والله عادل لا يجور، وسبق الجواب على هذه الشبهة، وأن الله له الحكمة البالغة فيما يقدره، وأن الله عاقبهم لما لم يستجيبوا للحق بعد ظهوره ووضوحه عاقبهم كما سبق في الآية {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} فلما بين لهم ما يتقون واتضح لهم الأمر فلم يقبلوه أضلهم الله عقوبة لهم، وقال -سبحانه-:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقال -سبحانه-: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) } .
فقالوا: مِثْلُ الله في ذلك مِثْلُ رجل له ابنان أعطى كل واحد منهما سيفا، وقال لهما جاهدا به في سبيل الله فالأول أطاع والده وجاهد به في سبيل الله والثاني عصى والده وجعل يستعرض رقاب المسلمين ويقتل المسلمين. هذا اختار طريق الحق، وهذا اختار طريق الضلال من نفسه، هذا من نفسه وهذا من نفسه، والله -تعالى- ما خص الأول بهداية ولا خص الثاني بالإضلال. وهذا من أبطل الباطل فمرتبة الهداية هداية التوفيق والتسليم هذه خاصة بالله عز وجل وهذه أنكرها المعتزلة والقدرية وهي خاصة بالله.
وأما الهداية الثانية -التي هي الدلالة والإرشاد- فهي حجة الله على خلقه، لا يعذب أحدا حتى يهديه هداية الدلالة والإرشاد كما سبق:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} {وَلَوْ شِئْنَا لآتينا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} .
والآيات والنصوص في بيانها كثيرة كقوله سبحانه وتعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَن اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) } .
والمرتبة الرابعة: الهداية إلى طريق الجنة والنار يوم القيامة، فالكفار يهديهم الله إلى النار، والمؤمنون يهديهم الله إلى الجنة، قال سبحانه وتعالى في الكفار:{* احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) } الآية من سورة الصافات.
وقال سبحانه في المؤمنين: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) } فهذه هداية بعد قتلهم يهديهم إلى طريق الجنة، ويصلح بالهم في إلغاء خصومهم وقبول أعمالهم، فهذه مراتب الهداية.
المرتبة الأولى الهداية العامة والمرتبة الرابعة ليس فيهما إشكال، إنما البحث في المرتبة الثانية، مرتبة الهداية الدلالة والإرشاد، وهداية التوفيق والتسديد، هذا محل النزاع والخلاف بينهم وبين أهل السنة.
أهل السنة يقسمون الهداية إلى قسمين: هداية دلالة وإرشاد، وهداية توفيق وإلهام.
والقدرية والمعتزلة ليس عندهم إلا هداية واحدة: هداية الدلالة والإرشاد. وهداية التوفيق يردونها إلى هداية البيان والإرشاد، وهذا من أبطل الباطل، وهذا مبني على أصلهم الفاسد وهو قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد على الله قالوا: يجب على الله فعل الأصلح للعبد. وما دام يجب على الله فعل الأصلح للعبد قالوا: فلا يمكن أن يهدي الله أحدا ولا أن يضل أحدا.
وهذا أيضا مبني على أصلهم الآخر، وهو القول بأن أفعال العباد مخلوقة لهم، فالعباد هم الذين خلقوا الهداية والضلال، هم الذين يخلقون الطاعات والمعاصي، ولو خص الله أحدا بالهداية وخذل أحدا لكان ظالما، والله عدل لا يجور.
وكما سبق أن الله له حكمة بالغة -كما سبق- في بيان حكمة الله في تقدير الكفر والمعاصي وغيرها، وأن الذي ينسب إلى الله إنما هو الخلق، وهو مبني على الحكمة، والذي ينسب إلى العبد هو المباشرة والكسب.
ولهذا فإن الهداية والإضلال بيد الله، فالله تعالى يهدي ويضل، والعبد يباشر فيكون هو المهتدي وهو الضال، العبد هو المهتدي وهو الضال، والله يهدي ويضل {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) } ولا بد فيها من أمرين: الهداية والإضلال، هذا من الله، والعبد من هواه، الاهتداء والضلال، المباشرة والكسب. نعم.
وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله
نعم كل العباد يتقلبون بين مشيئته وفضله كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) } هو سبحانه وتعالى يهدي من يشاء فضلا منه وإحسانا، ويضل من يشاء مشيئة وحكمة وعدلا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) } .
الله سبحانه وتعالى عليم بالمحال التي تصلح للهداية، عليم بالمحل الذي يصلح لغرس الكرامة فيهديه، وعليم بالمحل الذي لا يصلح لغرس الكرامة فلا يهديه.
وهو سبحانه وتعالى يتصرف في عباده، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، والله تعالى وضع الأشياء في مواضعها، ولا يكون الإنسان ظالما، ولا يكون أحد ظالما، ولا يكون الشخص ظالما إلا إذا منع الشخص مما يستحقه.
والله تعالى ما منع الكافر شيئا يستحقه، فالهداية والإضلال ملكه وبيده سبحانه وتعالى فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، يهدي من يشاء فضلا وإحسانا، ويضل من يشاء مشيئة وحكمة وعدلا.
والعباد والناس كلهم خلق الله وعبيده يتصرف فيهم، ولم يمنع أحدا شيئا له حتى يكون ظالما، فالظلم هو أن تمنع أحدا من حقه، أو تُحمّله أوزار غيره؛ ولهذا قال:{لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) } .
والظلم يختلف الناس في تفسيره، ولعله يأتي - إن شاء الله- في العقيدة بيان الظلم، حقيقة الظلم، وأقسامه، والأقوال فيه. نعم.
وهو متعال عن الأضداد والأنداد
نعم، الله تعالى متعال عن الأضداد والأنداد، "الأضداد" جمع ضِد وهو المخالف، و"الأنداد" جمع نِد وهو المِثل، فهو سبحانه لا مخالف له، (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) فلا يمكن أن يخالفه شيء، مشيئته نافذة، (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) ولا مثل له، كما قال سبحانه:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } فلا ضد له، ولا مخالف له، ولا مثل له سبحانه وتعالى. نعم.
لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره
"لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره"، لا يرد قضاء الله راد، إذا قضى الله شيئا فلا يرده أحد، لا بد من وقوعه، ولا معقب لحكمه، يعني لا يؤخر أحد حكم الله، بل لا بد أن ينفذ، ولا غالب لأمر الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الغالب، وهو الواحد القهار.
فلا يرد قضاء الله أحد ولا يؤخر حكمه، بل لا بد أن ينفذ قضاء الله، ولا بد أن ينفذ حكم الله في وقته، ولا يؤخره أحد، ولا يغلب أمر الله غالب؛ لأن الله إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، فلا يغلب أمر الله شيء؛ لأن الله هو الواحد القهار سبحانه وتعالى. نعم.
آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده
"آمنا" يعني صدقنا، صدقنا بذلك، واعتقدنا ذلك. "وأيقنا" من اليقين، وهو الاستقرار، يعني ثبت هذا في قلوبنا واستقر، فاليقين هو الاستقرار من يقن الماء إذا استقر في المكان.
والمعنى أن كل شيء يجري بقضاء الله وقدره وإرادته وتكوينه ومشيئته، مشيئة الله نافذة، وقدر الله جار ماض، وما أراده الله لا بد أن يكون، وما أراده الله فينا لا بد أن يوجد، آمنا بذلك وصدقنا، واستقر ذلك في قلوبنا؛ لأن هذا من الإيمان بقضاء الله وقدره، لا بد من ذلك كما سبق.
لا بد من الإيمان بعلم الله بالأشياء، وكتابتها في اللوح المحفوظ، وإرادته لكل من يوجد في هذا الكون، لا بد أن الله أراده، وخلقه، وإيجاده.
وهذا مكتوب قبل أن تخلق الخلائق بخمسين ألف سنة، كما ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق الله السموات الأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) . نعم.
وإن محمدا عبده المصطفى ونبيه المجتبى
وإن "وإن محمدا" إن عطف على قوله: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له". فالصواب "إن" كما سبق؛ لأن "إن" تكسر بعد القول. تقرأ الجملة الأولى: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، وإن محمدا عبده المصطفى ورسوله المجتبى" هذه معطوفة عليه، إن محمدا" معطوفة على "إن الله وحده لا شريك له". تقرأ الجملة الأولى علشان نصحح الخطأ الذي سبق قبل ليلتين، و"إن" مكسورة، تكسر بعد القول {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ} {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) } {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) } . نعم.
قال رحمه الله: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى.
نعم، عطف إثبات النبوة على إثبات التوحيد "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له". هذا إثبات التوحيد: توحيد الله في ربوبيته، وفي أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي ألوهيته وعبادته.
ثم قال: "وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى". المجتبى والمصطفى والمرتضى متقاربة، يعني أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني هو رسول الله، عبد الله ورسوله، اجتباه الله، واصطفاه، وارتضاه، واختصه بالرسالة والنبوة عليه الصلاة والسلام، واصطفاه على العالمين.
لا بد من الإيمان بهذا: بأن محمدا رسول الله، عبد الله ورسوله، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده، وأنه أفضل الأنبياء.
من لم يؤمن بهذا، وأنه رسول الله إلى العرب والعجم، والجن والإنس، من لم يؤمن بهذا فليس بمؤمن، ولو زعم أنه يوحد الله، وأنه يعبد الله، وأنه يوحد الله في ربوبيته، وفي أسمائه وصفاته وأفعاله، وهو لا يشهد أن محمدا رسول الله لا يصح إيمانه ولا توحيده، ولو قال زعم أنه يشهد أن لا إله إلا الله، ولكنه لا يشهد أن محمدا رسول الله لم يصح التوحيد، يكون كافرا.
شهادتان لا تصح إحداهما بدون الأخرى: من شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمدا رسول لم تقبل منه، ومن شهد أن محمدا رسول الله ولم يشهد أن لا إله إلا الله لم تقبل منه، لا بد من الشهادتين.
وإذا أطلقت إحداهما دخلت فيها الأخرى، إذا أطلقت إحداهما دخلت فيها الأخرى، وإذا اجتمعتا تُفسر الشهادة الأولى بتوحيد الله، والثانية الشهادة برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا نفى الله الإيمان عن أهل الكتاب: اليهود والنصارى؛ لأنهم لم يشهدوا أن محمدا رسول الله، وإن كانوا يزعمون أنهم مؤمنون بالله.
قال الله تعالى في سورة براءة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) } .
نفى عنهم الإيمان؛ لأنهم ما آمنوا بمحمد، ما شهدوا أن محمدا رسول الله، وإن كانوا يزعمون أنهم آمنوا بالله، وأنهم يعملون بكتبهم، لكن هذا الإيمان، الإيمان نفي عنهم، ما صح ولا اعتبر إيمانا؛ لأنهم لم يشهدوا أن محمدا رسول الله، فلا بد من الشهادة بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العربي المكي ثم المدني أنه رسول الله حقا، وأنه عبد الله ورسوله.
وقد جمع الله له بين العبودية والرسالة، وهذه أفضل المقامات، أكمل المقامات -مقامة العبد- العبودية والرسالة، وكلما حقق الإنسان العبودية لله كلما علت درجته ومرتبته عند الله.
ولا يمكن أن يخرج أحد عن العبودية أبدا، فالناس -بل جميع المخلوقات- معبدة لله العبودية العامة، قال سبحانه:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) } كل من في السموات والأرض يأتي معبدا، هذه العبودية العامة، ومعناها أن كل مخلوق تنفذ فيه مشيئة الله وقدرته وإرادته، لا يمتنع.
وأما العبودية الخاصة، فهذه خاصة بالمكلفين الذين يعبدون الله باختيارهم، يعبدون الله ويوحدونه من الجن والإنس والملائكة، هذه العبادة خاصة، وأكمل المقامات للنبي صلى الله عليه وسلم هي العبودية الخاصة والرسالة.
ولهذا وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم في أشرف المقامات بالعبودية والرسالة، وصف الله نبيه بالعبودية في أشرف المقامات.
والرسول عليه الصلاة والسلام أكثر الناس عبودية لله عز وجل مقام العبودية هو أكبر المقامات، ولا يخرج أحد عن عبودية الله، وكلما حقق الإنسان عبوديته لله كلما علت درجته ومرتبته.
ولما كان الأنبياء أكثر الناس عبودية لله كانوا أفضل الناس وأقرب الناس إلى ربهم عز وجل.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الناس في عبوديته؛ ولهذا وصفه الله بالعبودية في المقامات الشريفة:
وصفه بالعبودية في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} .
وصفه بالعبودية في مقام الدعوة إلى الله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) } .
وصفه بالعبودية في مقام الوحي: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) } .
وصفه بالعبودية في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} .
فهذه أكمل المقامات، أشرف المقامات، وصف الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعبودية، وهو أكمل الناس تحقيقا للعبودية عليه الصلاة والسلام، وهو أعبد الناس، وأتقى الناس، وأزهد الناس، وأخشع الناس، وأكرم الناس عليه الصلاة والسلام، وأكرم الناس، وأطوع الناس لربه عز وجل.
والنبوة في ثبوتها كلام للناس، كثير من أهل الكلام والنظر، كثير من أهل الكلام ومن أهل النظر يثبتون النبوة بالمعجزات، فيرون أن المعجزات هي الدليل على النبوة.
والمعجزات لا شك أنها من دلائل النبوة، لكن ليست دلائل النبوة محصورة في المعجزات، بل دلائل النبوة كثيرة، دلائل تدل على نبوة النبي كثيرة، منها المعجزات، وخوارق العادات التي يجريها الله على يد النبي، مثل الإسراء والمعراج.
وكذلك من أعظم المعجزات أيضا القرآن الكريم من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، ومنها نبع الماء بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، وتكثير الطعام، إخباره عن المغيبات، ما يخبره الله عز وجل من دلائل نبوته.
هذه من دلائل النبوة -المعجزات-، ولكن هناك أيضا دلائل كثيرة، حتى ألف العلماء مؤلفات كدلائل النبوة للبيهقي وغيره.
والناس يعرفون الصادق من الكاذب في أمورهم وأمور دنياهم، والنبوة يدعيها أصدق الناس، ويدعيها أكذب الناس، والناس يفرقون بين الصادق وبين الكاذب.
يعرفون الصادق من الكاذب في أخباره وأقواله وأفعاله، فلا بد أن يقول للناس كلاما، ولا بد أن يخبرهم بأخبار، ولا بد أن يفعل أشياء، فيعرف الناس الصادق من الكاذب.
بل إن الناس يعرفون الصادق من الكاذب في غير دعوى النبوة، فأنت تعرف الصادق من الكاذب في بيعه وشرائه، تعرف المهندس الصادق، تعرف الطبيب الصادق الناصح؛ ولهذا تجد بعض الناس يشترى من فلان لأنه صادق، ولا يشتري من فلان لأنه كاذب.
فإذا كان هذا في أمور الناس، يعرفون الصادق من الكاذب، فكيف لا يُعرف الصادق من الكاذب في دعوى النبوة؟!
فالنبي يعرف الناس صدقه فيما يخبر به من الأخبار، وبما يفعله من أمور كلها مشتملة على علوم وأحوال يتبين بها صدقه، فصدق النبي ووفائه ومطابقة أقواله لأفعاله دليل على نبوته.
ومن أمثلة ذلك: استدلال خديجة، استدلال خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم بما جبل الله نبيه على الصفات الحميدة على أنه الصادق، وبما جبله الله عليه من الأخلاق: الصدق والوفاء والشيم، بأن الله لا يخزيه؛ لأنه صادق.
لما جاءه جبريل في أول البعثة في صورته التي خلق عليها، وقد ملأ ما بين السماء والأرض، رعب النبي صلى الله عليه وسلم رعبا شديدا، وجاء إلى زوجه خديجة، وقال: خفت أن يختلج عقلي.
وهدَّأت من روعه وقالت: (كلا والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) فاستدلت بهذه الصفات العظيمة، وأن من جبله على هذه الصفات العظيمة لا يخزيه الله أبدا.
والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه صادق، ولكن يخشى أن يكون عرض له عارض سوء، فبينت له خديجة أنه لا يمكن أن يعرض له عارض سوء؛ لأن الله لما جبله على هذه الصفات الحميدة فلا يخزيه سبحانه وتعالى، هذا من الأدلة التي يستدل بها على نبوة النبي، ادعى النبوة، وصدقته خديجة في الحال، استدلت على صدقه بهذه الأعمال.
ومن ذلك أيضا: تصديق ورقة بن نوفل ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب من الإنجيل بالعربية، فجاءت خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها، وقالت: اسمع من ابن أخيك.
فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبره، فآمن به وصدقه في الحال، واعترف بنبوته، وقال:(هذا الناموس الذي كان يأتي موسى) الناموس هو صاحب السر، أو صاحب السر في الخير، وهو جبريل، هذا جبريل الذي ينزل على موسى، وآمن في الحال، وتمنى أن يكون جذعا، كان شيخا كبيرا قد عمي وطعن في السن، فتمنى أن يكون جذعا حين يخرجه قومه.
قال: (ليتني كنت جذعا حين يخرجك قومك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم أوَمُخرجيّ هم؟! قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي) .
فآمن رضي الله عنه فهو ممن آمن، جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، المقصود أن ورقة استدل بذلك على صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيضا هرقل ملك الروم لما كتب له النبي صلى الله عليه وسلم له الكتاب يدعوه إلى الإسلام كتب له:
(من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم أما بعد.. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن عليك إثم الأريسيين و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) } ) .
قال في أول الكتاب: (السلام على من اتبع الهدى) فاهتم هرقل بهذا الكتاب اهتماما عظيما، وسأل في بلده: هل يوجد أحد من العرب؟ -وكان أبو سفيان في ذلك الوقت في الشام في تجارة ومعه أصحابه- فقيل: نعم هاهنا. فقال: علي به.
فجيء بأبي سفيان ومعه قومه، ووضع أبا سفيان أمامه، ووضع أصحابه خلفه، وقال لترجمانه -ترجمة-: قل لهم: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل؟ فقالوا: أبو سفيان.
تقدم أبو سفيان وجعلهم خلفه، وقال لترجمانه: نسائل هذا الرجل مسائل فإن كذبني فكذبوه، ولهذا تحاشى أبو سفيان الكذب وهو في كفره وقال: لولا أن يؤثر علي الكذب لكذبت.
فسأله أسئلة استدل بها على صدق النبي صلى الله عليه وسلم واعترف بنبوته، قال له: كيف هذا الرجل؟ (كيف نسب هذا الرجل؟ قال: هو ذو حسب فينا) .
ثم أجاب لما سأله عشرة أسئلة أو أكثر، أكثر من عشرة أسئلة، أجاب على كل سؤال قال:(وكذلك الأنبياء تبعث في أحسابهم) .
وسأله قال: (هل في آبائه من ملك؟ قالوا: لا. فقال: لو كان في آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه) .
وسأله (هل أتباعه ضعفاء الناس أو أشرافهم؟ فقالوا: ضعفاؤهم. فقال: وكذلك أتباع الرسل في أول الأمر) .
وسأله (أتباعه هل يزيدون أو ينقصون؟ فقال: يزيدون. فقال: وكذلك أتباع الرسل) .
وسأله فقال: (هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قالوا: لا. قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب) .
وسأله (كيف الحرب بينكم وبينه؟ قالوا: سجال ندال عليه ويدالون علينا) يعني مرة ننتصر عليه، ومرة ينتصر علينا فقال:(كذلك الرسل تبتلى في أول أمرها ثم تكون لها العاقبة) .
وسأله (ماذا يأمركم؟ قال: يأمرنا بعبادة الله، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصلة والعفاف والصدق. قال: وكذلك الرسل) .
ثم قال لهم: (إن هذا هو النبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، لكن ما أظن أنه فيكم، ولو أستطيع أن أصل إليه لغسلت عن قدميه) لولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه وغسلت عن قدميه، (وإن كنت صادقا فسيملك موضع قدميَّ هاتين) .
ثم أُخرج أبو سفيان وقومه، فقال لهم أبو سفيان حين خرج:(لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر)"أَمِرَ" يعني عظم، لقد أَمِرَ يعني عظم شأنه، "ابن أبي كبشة" نسبة إلى أحد أجداده الغامضين من جهة الرضاع، وكانت العرب إذا كانت تكره الإنسان تنسبه إلى جد غامض.
قال أبو سفيان: (فما زلت موقنا أن الإسلام سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام وأنا كاره) .
فهذا هرقل استدل على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأدلة من غير خوارق العادات، من غير المعجزات.
وكذلك النجاشي رحمه الله ورضي عنه- لما جاءه الصحابة وهاجروا إليه سألهم، واستخبرهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم واستقرأهم القرآن فقرءوا عليه، فقال لهم:(إن هذا والذي آتى به موسى من مشكاة واحدة) .
وبهذا يتبين أن الأدلة على نبوة الأنبياء كثيرة، ليست خاصة بالمعجزات وخوارق العادات كما يزعمه بعض أهل الكلام والنظر من الأشاعرة وغيرهم، بل الأدلة -دلائل النبوة- كثيرة، منها المعجزات، ومنها خوارق العادات، ومنها معرفة حال الشخص وأخباره، يُعرف صدقه من أخباره، ومن أقواله، ومن أعماله، ومن وفائه وصدقه، ومن مطابقة أقواله لأعماله، كما سبق في هذه الأمثلة.
ولكن أهل الكلام في هذا يخصون دلائل النبوة بالمعجزات، حتى إن المعتزلة أنكروا خوارق العادات التي تجري على أيدي المؤمنين، وخوارق العادات التي تجري على أيدي السحرة، قالوا: حتى لا يلتبس النبي بغيره.
قالوا: خوارق العادات لا تجري إلا على أيدي نبي. أما خوارق السحرة أنكروها، مع أنها واقعة، وأنكروا الخوارق، كرامات الأولياء، قالوا: لو أثبتنا كرامات الأولياء وخوارق السحرة لالتبس النبي بغيره، ففرارا من ذلك أنكروا خوارق العادات، وقالوا: لا خوارق للعادة إلا على يد نبي.
وهذا من أبطل الباطل، وهذا من جهلهم، ظنوا أنه ليس هناك دليل على نبوة النبي إلا خوارق العادات والمعجزات، ودلائل النبوة كثيرة.
والأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- على مراتب ودرجات، فالرسل أفضل من الأنبياء، وهل هناك فرق بين النبي والرسول؟
نعم، هناك فرق بين النبي والرسول، من العلماء من قال: إن الفرق بين النبي والرسول أن كلا من النبي والرسول يوحى إليه، لكن الرسول يوحى إليه بشرع ويؤمر بتبليغه، والنبي يوحى إليه ولا يؤمر بتبليغه، فإذا أوحي إليه وأمر بتبليغه كان رسولا، وإن لم يأمر بتبليغه كان نبيا.
ولكن هذا قول مرجوح، والصواب أن الفرق بين النبي والرسول: أن الرسول هو الذي يرسل إلى أمة كافرة فيؤمن به بعضهم ويكفر به بعضهم، نوح عليه الصلاة والسلام أرسل إلى الكفار، آمن به بعضهم وكفر به بعضهم، هود رسول، صالح رسول.
والذين أرسلوا بشرائع يرسلون إلى أمم كافرة، وينزل عليهم شرائع، أوامر ونواهٍ، يؤمن به بعضهم، ويكفر به بعضهم، مثل نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أما النبي فهو الذي يرسل إلى قوم مؤمنين -ما يرسل إلى الكفار- يرسل إلى قوم مؤمنين، ويكلف بالعمل بشريعة سابقة، فمثلا آدم عليه الصلاة والسلام نبي، لكنه نبي إلى بنيه، ولم يقع الشرك في زمانه، وشيث نبي.
ولهذا كان نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد وقوع الشرك، فنوح أول رسول بعثه الله بعد وقوع الشرك، ولأنه أرسل إلى بنيه وإلى غير بنيه، أما آدم قبله، وكذلك أيضا شيث قبله، لكن ما وقع الشرك، وقعت المعاصي كما قتل قابيل أخاه هابيل.
ولهذا قال الله سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ} {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم وقع الشرك، هذا معنى قوله:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} .
وبالمثل داود وسليمان أنبياء؛ لأنهم كلفوا بالعمل بالتوراة جميعا إلى بني إسرائيل الذين جاءوا بعد موسى، داود وسليمان وزكريا ويحيى كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة حتى جاء عيسى، هؤلاء هم الأنبياء، فالأنبياء على هذا.
فالصواب الذي أقره وحكمه أهل العلم: أن الرسول هو الذي يبعث إلى أمة من أهل الشرائع الكبيرة، الذين يرسلون إلى أمم، إلى أمة كافرة، يؤمن به بعضهم ويكفر بعضهم.
والأنبياء هم الذين يوحى إليهم، ويرسلون إلى المؤمنين خاصة، ويكلفون بالعمل بشريعة سابقة.
وإلى هنا نكتفي، وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصادق، وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم.
سبق بالأمس الكلام على الفروق بين النبي وبين الرسول، وقلنا: إن الصواب أن الفرق بين النبي والرسول أن الرسول هو الذي يأتي بشريعة مستقلة، وأنه يرسل إلى قوم يؤمن به بعضهم ويكفر به بعضهم، كنوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-.
أما النبي فهو الذي يكلف بالعمل بشريعة سابقة، أو يرسل إلى مؤمنين، فأنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا بعد موسى عليه الصلاة والسلام كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة، ويسمون أنبياء، داود وسليمان وزكريا ويحيى إلى آخره حتى جاء عيسى، وعيسى عليه السلام جاء بشريعة مستقلة، وهو تابع أيضا لما جاء في التوراة، ولكنه خفف بعض الأحكام وقال:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} .
وجاء سؤال بالأمس في قصة يونس عليه الصلاة والسلام، وأنه أُرسل إلى أمة، وأنهم آمنوا، كان السؤال هل ينطبق هذا على يونس؟ نقول: نعم، ينطبق هذا على يونس؛ لأن يونس جاء بشريعة مستقلة.
وثانيا: أن يونس في الأول ردوا عليه دعوته، ردوا عليه دعوته فغاضبهم نبيهم يونس، وتركهم وذهب، وركب البحر وهو مغاضب {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) } فلما ذهب ندم قومه، وتمنوا رجوعه، لما رأوا أسباب العذاب تمنوا رجوعه، ثم أرسله الله إليهم مرة أخرى فآمنوا كما قال صلى الله عليه وسلم (أرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا) .
فهم في الأول صدوا، ما آمنوا أولا أنه جاء بشريعة مستقلة، ثانيا: أنهم أولا ردوا عليه دعوته، ثم آمنوا بعد ذلك، وثالثا: أن الله استثنى عليهم -هذه الأمة- لأن الله سبحانه وتعالى إذا جاءت أسباب العذاب وانعقدت أسباب العذاب فلا يفيد الإيمان بعد ذلك، كما قال الله سبحانه وتعالى:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) } .
إذا جاءت أسباب العذاب ونزل العذاب لا ينفع الإيمان، وكما حصل لفرعون فإن فرعون الذي ادعى الربوبية وقال {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) } لما نزل به العذاب آمن، لكن ما نفع، قال الله تعالى:{* وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) } .
فرعون الذي يقول للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) } قال: آمنت وأنا من المسلمين. لكن هل نفع؟ ما نفع قال الله: {آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) } لماذا؟ ما نفع لأن العذاب إذا نزل ما ينفع، إذا نزل العذاب وانعقدت أسباب العذاب ما ينفع الإيمان، كما في الآية الكريمة:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) } .
قوم يونس استثناهم الله، مستثنون، استثناهم الله، انعقدت أسباب العذاب وآمنوا، فصح منهم الإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} إذن قوم يونس مستثنون {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) } .
وبهذا يتبين أن أمة يونس ليست خارجة عن القاعدة، أرسلت بشريعة مستقلة، وردوا عليه دعوته في أول الأمر، ثم بعد ذلك آمنوا لما انعقدت أسباب العذاب، واستثناهم الله.
المسألة الرابعة: هناك أيضا من دلائل النبوة -دلائل النبوة كما سبق كثيرة- من دلائل النبوة: ما أبقاه الله تعالى من الآثار، من آثار الأمم، فإن الله تعالى أبقى آثار الأمم المهلَكة، فإن الله تعالى ينصر المؤمنين، ويؤيدهم على القوم الكافرين.
والكفار يهلكهم ويعاقبهم، وبقيت آثارهم متواترة، يعرفها الناس جميعا، متواترة كتواتر الطوفان الذي أغرق الله به قوم نوح، وغرق فرعون، وكذلك أيضا آثار الأمم المهلَكة كآثار قوم لوط، وقوم هود، وقوم صالح.
ولهذا في سورة الشعراء يقول الله تعالى بعد كل قصة، لما ذكر قصة موسى، ثم قصة إبراهيم، ثم قصة نوح، ثم قصة هود، ثم قصة صالح، ثم قصة لوط، ثم قصة شعيب قال:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) } .
ومن دلائل النبوة: ما اشتملت عليه الشرائع التي جاء بها الأنبياء من العلوم والأعمال والأحوال العظيمة، وما اشتملت عليه من الرحمة للخلق، ودعوتهم إلى ما فيه خلاصهم ونجاتهم، ودعوتهم إلى ترك ما فيه هلاكهم، هي مشتملة على علوم وأحوال وصفات إذا تخلق بها الناس وعملوا بها حصلت لهم السعادة، وتحذر مشتملة على التحذير من أسباب الهلاك، ومن الأخلاق السيئة، والأخلاق الرذيلة، فهذه من دلائل النبوة. نعم.