الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأسئلة:
س: فضيلة الشيخ يكثر السؤال عن رؤية الملائكة ربهم في الدنيا.
ج: لا يرى الله أحد في الدنيا لا الملائكة ولا غيرهم ما يستطيع أحد يرى الله ما سمعت الحديث الذي مر مر ذا الحديث حديث أبي ذر: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) الملائكة خلق من خلقه أو لا؟ كذلك لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه الملائكة وغيرهم سبحانه وتعالى، الله -تعالى- لا يراه أحد في الدنيا في اليقظة، لكن في النوم يمكن أما في اليقظة فلا يراه أحد، ما يستطيع أحد، ولا يستطيع أحد أن يثبت لرؤية الله، لما تجلى الله للجبل ماذا حصل للجبل؟، تدكدك وهو صخر جبال، الجبل الأصم القاسي تدكدك، فكيف بالمخلوق الضعيف. نعم.
س: أحسن الله إليكم، هل ثبت في الكرسي حديث صحيح؛ لأن بعض العلماء يقول: إن أثر ابن عباس أخذه عن بني إسرائيل.
ج: نعم حديث قوله: (الكرسي هوعلمه) هذا ما في الصحيح، أما قوله:(الكرسي موضع القدمين) يحتمل نقله ولكن ليس بصحيح، العلماء اعتمدوا هذا، ولكن سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز ابن باز -وفقه الله- كان يرى أنه يحتمل أن يكون أخذه من بني إسرائيل، وعلى هذا نقول: الكرسي مخلوق دون العرش، العرش مخلوق والكرسي مخلوق، أما العلماء كالدارمي وغيره، فهم اعتمدوا ما ثبت عن ابن عباس، أنه قال:(الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله) نعم.
أما ما ورد عن ابن عباس أن الكرسي هو علمه، فهذا لم يثبت حقا ليس بصحيح الكرسي ليس هو العلم. نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول: إن التفكر في عظم خلق العرش والكرسي يورث الخشية لله تعالى، فهل يصح أن يجعل الإنسان في ذهنه صورة تخيلية لهما.
ج: ما دام الكرسي والعرش مخلوق ما يضر الكلام، لا ينبغي لك أن يعني تبحث في كنه الصفات، كنه ذات الرب كنه الصفات، أما المخلوقات لك أن تتصور ما تشاء، المخلوقات لا بأس مخلوق عظيم، لكن ما نعرف ما نعلم العرش مخلوق من أي شيء ما ندري ذات العرش، ما ندري ما ندري، هل هو حديد ولا ذهب ولا فضة ولا رصاص ولا هواء؟ ما ندري الله أعلم، إذا كان المخلوق ما ندري كيفية كنه ذلك، كيف بالخالق وكيف بصفاته، لكن تخيل أنه مخلوق عظيم، وأنه مقبب فوق العرش، وأنه سقف هذه المخلوقات إذا تخيلت ما يضرك التخيل، المخلوقات تخيل منها ما تشاء، لكن ليس لك أن يعني تشبه الخالق، وتمثل الخالق بشئ من مخلوقاته.
ولا تكيف ذاته ولا تكيف صفاته سبحانه وتعالى. نعم.
س: أحسن الله إليكم هل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لذاته أم لله تعالى. نعم.
ج: يقول هل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لذاته أو لله تعالى، محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله، تابعة لمحبة الله، الذي يجب لذاته هو الله سبحانه وتعالى، أما محبة الرسول فهي تابعة لمحبة الله، ومحبة المؤمنين كذلك، لكن محبة الرسول ينبغي أن تكون فوق محبة الأولاد فوق محبة النفس التي بين جنبيك، هكذا.
نعم هذا هو الأكمل، وهذا هو الأفضل، أما إذا أحب أحدا أكثر، يعني قدم محبة غيره على محبة الرسول، يكون هذا نقص، نقص وضعف في الإيمان كما توعد الله من قدم شيئا من ذلك {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) } فمن قدم محبة الأبناء أو الأباء أو التجارة أو المساكن على محبة الله ورسوله فهو فاسق ضعيف الإيمان، فالكمال أن تقدم محبة الله ورسوله على كل شيء. نعم.
س: أحسن الله إليكم يقول: إن العلو يختلف في الاتجاه بحسب كل إنسان على سطح الأرض فتكون جهة العلو في كل اتجاه ما هو توجيهكم لهذا القول.
ج: نعم العلو ما كان فوق السماوات والأرضين الأفلاك بل الأفلاك كلها مالها إلا جهتان جهة علو وجهة سفل مالها إلا جهتان مثل الأرض الآن الأرض كروية الشكل الأرض هكذا كروية الشكل مثل أيش، مثل الحبحب من كل جهة الحبحب لها جهتان جهة العلو وجهة السفل، فهذه جهة العلو من جميع الجهات، فأنت هنا وفيه شخص هنا هو يتصور أنك تحته
وأنت تتصور أنك تحته، وهو يتصور أنك تحته، وكلكم على في العلو، كلكم على وجه الأرض، أما السفل فهو المركز في وسط الأرض بحيث لو انخرق من هنا خرق، وانخرق من هنا خرق، ونزل من هنا ونزل من هنا التقت رجلاهما في مركز واضح، هذا إذ الأرض والسماء ما لها إلا جهتان، جهة العلو والسفل، أما المخلوق المتحرك أنا وأنت والمخلوقات المتحركة لها ستة، أنا لي ست جهات أمام وخلف ويمين وشمال وفوق وتحت، هذا يكون لمن هذا للمخلوقات المتحركة، أنا الآن المسجد الآن أمامي هنا، فإذا تغيرت صار هذا هو الخلف وهذا هو الأمام على حسب الحركة، وإذا تغيرت صار هذا الأمام وهذا الخلف.
المخلوقات المتحركة لها ست جهات فوق وتحت ويمين وشمال وأمام وخلف، أما المخلوقات الثابتة السماوات والأراضين والأفلاك كلها ما لها إلا جهتان العلو والسفل، فالعلو ما كان على سطحها جميع الجهات هذا هو العلو، والسفل محط الأثقال بحيث إنه لو كان إنسان هنا وإنسان هنا، ثم خرق خرق من هنا، وخرق خرق من هنا التقت رجلاهما في المركز الذي هو محط الأثقال واضح، هذا لكن هذا على وجه الأرض، وفيه آخر على وجه الأرض هنا، أنت تتصور أنه تحتك، وهو يتصور أنت تحته، والواقع أنت على وجه الأرض، وهو على وجه الأرض، أنت في العلو، وهو في العلو، لكن هذا تتصورأنه تحتك لماذا لأنك متحرك بحيث لو انتقلت من مكان لآخر جئت هنا، صار بالعكس فأنت تتصور أنه تحتك، وهو يتصور أنت تحته، والواقع أن كلا منكما في العلو واضح هذا، فالجهات الأفلاك السماوات والأرض ما لها إلا جهتان العلو والسفل، وأما الحيوانات المتحركة هي التي لها ست جهات: فوق وتحت وأمام وخلف ويمين وشمال، وفق الله الجميع لطاعته ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح وصلى الله على محمد وآله وسلم.
والأمن والإياس ينقلان عن الملة وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- "والأمن والإياس ينقلان من الملة وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة" المراد بالأمن الأمن من مكر الله، والمراد بالإياس اليأس من روح الله، ومن رحمة الله ينقلان عن الملة، يعني عن ملة الإسلام، يعني إن الأمن من مكر الله واليأس الأمن من مكر الله واليأس من روح الله كل منهما كفر ينقل عن الملة، وأما سبيل الحق وهو دين الإسلام بينهما بين الأمن والإياس وهو الخوف والرجاء الأمن، يعني من مكر الله والإياس يعني من روح الله ينقلان عن الملة، يعني يخرجان من ملة الإسلام، فيكون الآمن من مكر الله واليائس من روح الله خارجان من ملة الإسلام وسبيل الحق وهو دين الإسلام وتوحيد الله عز وجل بينهما بين الأمن من مكر الله وبين اليأس من روح الله لأهل القبلة، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله واليأس من روح الله) وقد قال تعالى في الأمن من مكر الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نائمون (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) } {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} يعني أهل القرى الكافرة، قال:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) } .
والمراد خسران كفر، لأن هذا في هذه الآيات في بيان القرى الكافرة، أفأمن أهل القرى الكافرة أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) } أي خسران كفر، وقد جاء فيها التعبير بالخاسرون، وأل للاستغراق يعني استغراق أنواع الخسر والخسران هو الكفر، فالآمن من مكر الله هو الذي لا يخاف الله، ليس عنده شيء من الخوف، فيأمن مكر الله، ويسترسل في المعاصي، ولا يبالي وأما اليائس من روح الله، فقد قال الله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه:{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) } فبين أن اليائس من رحمة الله كافر، لأنه ليس عنده رجاء ولا عمل لرحمة الله، بل هو متشائم قانط متشائم مسيئ للظن بالله.
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، والكفر هنا جاء بأل التي تفيد الإستغراق، والمعنى أنه أن اليائس كافر كفر أكبر، فأخبر الله ذلك أخبر الله عن يعقوب عليه الصلاة والسلام، وجاء شرعنا بإقراره، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم أن اليائس دون ذلك، وفي سورة الحجر قال الله تعالى:{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) } أخبر عن إبراهيم: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) } والقانط هو اليائس، فهو ضال ضلال كفر؛ لأن أل أيضا للاستغراق، وما ذاك إلا لأن اليائس من رحمة الله متشائم قانط، ليس عنده شيء من الرجاء ولا الأمل في رحمة الله وعفوه، فليس عنده شيء من الرجاء والأمن من مكر الله، ليس عنده شيء من الخوف لا يخاف الله، ولا يبالي الذي لا يخاف الله لا يعمل عملا صالحا، لا يكون عنده شيء من الخوف، وكذلك اليائس قانط متشائم يرى أنه هالك مسيء للظن بالله.
فاليائس اليائس من روح الله، يدعو الإنسان إلى عدم العمل؛ لأنه لا يرجو رحمة الله، فهو يرى أنه هالك، فلا فائدة في العمل، فلا يعمل وكذلك الآمن من مكر الله ليس عنده خوف، ليس عنده خوف يحسه على العمل، فالأمن من مكر الله إذا لم يكن عند الإنسان خوف، فلا يعمل ولا يبالي يفعل الجرائم والمنكرات ولا يبالي ولا يؤدي الواجبات، ولا ينتهي عن المحرمات؛ لأنه ليس عنده خوف يحجزه، وكذلك اليائس المتشائم يرى أنه هالك، وأنه لا يفيده أي عمل، فلا يعمل، فلا يؤدي الواجبات ولا ينتهي عن المحرمات، وإذا صدق اليائس من روح الله، إذا كان عنده إيمان وتصديق بالقلب.
وكذلك الآمن من مكر الله، لا يفيده التصديق بالقلب الإيمان والتصديق بالقلب لا يفيد وحده؛ لأنه لا بد لهذا التصديق من عمل يتحقق به، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، إبليس مصدق قال رب أنظرني فرعون مصدق وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم لكن لا يعمل إبليس لم يعمل ليس عنده عمل امتنع عن السجود وفرعون ليس عنده عمل، فكونه يعرف ربه بقلبه تصديق مجرد هو المعرفة، كونه يعرف ربه بقلبه ولا يعمل، لا يكون هذا إيمانا؛ لأن الإيمان والتصديق بالقلب، لا بد له من إنقياد من إنقياد بالجوارح بالعمل حتى يتحقق هذا الإيمان، كما أن الذي يعمل يصلي ويصوم ويحج، لا بد لهذا العمل من تصديق في الباطن يصحح هذه الأعمال، وإلا صار كإسلام المنافقين المنافق يعمل، ولكن ليس عنده إيمان يصحح عمله فبطل عمله وإبليس وفرعون كلا منهما مصدق بالباطن وعارف، لكن لم يتحقق هذا التصديق بعمل ليس عندهم عمل.
ولذلك صار اليائس من روح الله ما يعمل لأنه يرى أنه هالك، لا يؤدي الواجبات ولا يمتنع عن المحرمات، والآمن من مكر الله ليس عنده شيء من الخوف، فلا يعمل؛ لأنه لا ليس عنده شيء من الخوف إطلاقا، والذي ليس عنده شيء من الخوف لا يعمل لا يؤدي الواجبات، ولا يمتنع عن المحرمات، ولو زعم أنه يحب الله، وأنه مصدق، ما يكفي هذا لا بد من الخوف والرجاء، لا بد من الخوف حتى لا يكون الإنسان آمنا من مكر الله، ولا بد من الرجاء حتى لا يكون الإنسان يائسا من روح الله، فإذا فقد الخوف صار آمنا من مكر الله، وإذا فقد الرجاء صار يائسا من رحمة الله ولا يتم التوحيد والإيمان إلا بالمحبة والخوف والرجاء؛ ولهذا أثنى الله سبحانه وتعالى على عباده؛ لأنهم يعبدونه بالخوف والرجاء، قال سبحانه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) } ويرجون رحمته ويخافون، رجاء وخوف، وقال سبحانه {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} هذا الخوف والرجاء الطمع هو الرجاء {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) } وقال سبحانه لما ذكر الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل واليسع وهود، قال بعد ذلك:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} هذا الرجاء ورهبا هذا الخوف، فإذا فقد الخوف وفقد الرجاء لم يكن هناك إيمان لا يكون هناك إيمان، ولا يكون هناك توحيد، التوحيد والإيمان لا بد فيه من ثلاث أركان.
الركن الأول: المحبة في القلب، والمحبة ما تكون إلا عن تصديق.
والثاني: الخوف الذي يحجب الإنسان عن محارم الله وعن الشرك.
الركن الثالث: الرجاء الذي يحمل الإنسان إلى الطمع يدعو الإنسان إلى الطمع في ثواب الله وفي رحمة الله، فإذا لم يكن عنده خوف صار آمنا من مكر الله، لا يبالي بالمعاصي ولا بالكفر، وإذا كان يائسا من روح الله صار متشائما قانطا مسيئا للظن بالله، فلا يعمل لأنه يرى أن العمل لا يفيده، لأنه يرى أنه هالك وكونه يعبد الله بالتصديق بالحب فقط، هذا لا يكفي، ولهذا قال العلماء: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، هذه طريقة الصوفية من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، يعني خارجي من الخوارج خارجي، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، إذا لا بد من المحبة والخوف والرجاء، ولهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية:
وعبادة الرحمن غاية حبه *** مع ذل عابده هما له قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر *** ما دار قام حتى دارت القطبان
فإذا عبادة الرحمن هي العبادة غاية الحب مع غاية الذل، وغاية الحب مع غاية الذل لا بد فيها من العبادة، يعني يتعبد الله بغاية الذل مع غاية الحب، فالذليل هو الخاضع لله الخائف الذي يتعبد لله، وهو ذليل والآمن من مكر الله ما ليس عنده ذل ما عنده ذل كما أن اليائس من رحمة الله أيضا ليس عنده طمع في ثواب الله، فكيف يكون مؤمنا، ولهذا اختار الأمن من مكر الله ينقل عن ملة الإسلام وكذلك اليأس من روح الله ينقل من ملة الإسلام، والحق بينهما بين الخوف والرجاء سبيل الحق لأهل القبلة بين الرجاء والخوف، وأن تعبد الله بالحب والخوف والرجاء تكون خائفا من الله حتى لا تسترسل في المعاصي، وتكون راجيا رحمة الله وثوابه حتى لا تيأس من روح الله، فلا بد من التعبد لله بالمحبة والخوف والرجاء وهذا هو معنى قول المؤلف: والأمن والإياس ينقلان من ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة. نعم.
ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه
ولا يخرج العبد من الإيمان، إلا ولا يخرج العبد من الإيمان إلا أيش؟ إلا بجحود ما أدخله فيه، المعنى يقول: إنه لا يخرج العبد من الإيمان إلا إذا جحد الذي أدخله في الإيمان، ما الذي أدخله في الإيمان، الإيمان والتصديق لا يخرج العبد من الإيمان إلا إذا جحد الذي أدخله في الإيمان، وهو التصديق هكذا قال المؤلف، وهذا خطأ غلط عظيم، لأن معنى ذلك أن الإنسان لا يكفر إلا بالجحود لا يخرج من الإسلام إلا بالجحود، كما أنه لا يكون مؤمنا إلا بالتصديق، على ذلك يكون الإيمان هو التصديق في القلب والكفر هو الجحود في القلب، فإذا صدق صار مؤمنا وإذا جحد صار كافرا، والمؤلف أتى بصيغة الحصر، قال: لا يخرج من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه، المعنى لا يكون هناك كفر إلا بالجحود، وهذا خطأ مخالف لقول أهل السنة والجماعة، فالإيمان ليس خاصا بالتصديق الإيمان يكون بالتصديق بالقلب، ويكون بالنطق باللسان، ويكون بعمل الجوارح، والكفر كذلك الكفر لا يكون بالجحود فقط، كما قال المؤلف لا يخرج من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه، حصر أتى بصيغة الحصر، يعني لا يكون كفر إلا بالجحود جحود التصديق، وهذا خطأ جحود الإيمان، لأن الكفر يكون بالجحود بالقلب بإعتقاد القلب.
ويكون الكفر أيضا بالنطق باللسان، ويكون أيضا الكفر بالعمل بالجوارح، ويكون الكفر أيضا بالشك، ويكون أيضا الكفر بالترك والإعراض، ولهذا بوب العلماء في كل مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية والأحناف، بوبوا باب في كتب الفقه يسمونه باب حكم المرتد باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه، قالوا يكفر بعد إسلامه نطقا أو اعتقادا أو شكا أو فعلا، أو ترك.
فإذا يكون الكفر خمسة أنواع النوع الأول يكون باعتقاد القلب وجحوده، كما ذكر المؤلف يكون باعتقاد القلب وجحوده، كما لو اعتقد أن لله صاحبة أو ولدا، وكما لو جحد ربوبية الله، أو جحد أسماء الله أو جحد صفاته أو جحد أولوهيته وعبادته واستحقاقه للعبادة، أو جحد أمرا معلوما من الدين بالضرورة وجوبه، كأن جحد وجوب الصلاة أو جحد وجوب الزكاة أو جحد وجوب الصوم أو جحد وجوب الحج أو جحد أمرا معلوما من الدين بالضرورة تحريمه، كأن يجحد تحريم الزنا أو تحريم الربا أو تحريم شرب الخمر أو تحريم عقوق الوالدين أو تحريم قطيعة الرحم، يعني أمر مجمع عليه إذا أنكر شيئا منها فإنه يكون كافرا، كذلك لو جحد صفة من صفات الله أو اسم من أسمائه، أو جحد ربوبية الله، أو جحد اسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، أو جحد أولوهيته هذا جحود يكفر؛ لأنه جحد بقلبه، ويكفر أيضا بالنطق، وبالقول مثل لو سب الله لو سب الله، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو سب دين الإسلام كفر كفر بهذا النطق، ولو لم يجحد بقلبه، أو استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر بهذا الاستهزاء، والاستهزاء يكون باللسان، ولو لم يجحد بقلبه، ولو لم يعتقد، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن قوما كفروا بعد إيمانهم بالاستهزاء، قال الله عز وجل {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نخوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
أثبت لهم الكفر بعد الإيمان بهذا الإستهزاء بالقول، وكذلك أيضا يكون الكفر بالفعل كما لو سجد للصنم كفر بهذا السجود، أو داس مصحفا بقدميه، أو لطخه بالنجاسة يكفر بهذا العمل، يكفر بهذا العمل ولو لم يجحد ولو لم يعتقد بقلبه بهذا العمل بهذا السجود للصنم، كذلك يكون كافرا، كما أنه أيضا إذا دعا غير الله، أو ذبح لغير الله أو نذر لغير الله يكفر أيضا، بهذا العمل إذا ذبح لغير الله أو نذر لغير الله أو دعا الأموات وطلب منهم المدد، أو ركع لغير الله، أو سجد لغير الله، أو طاف بغير بيت الله تقربا لذلك الغير يكفر بهذا العمل، ولو لم يجحد، كذلك أيضا يكون الكفر بالشك، كما لو شك في ربوبية الله، أو شك في اسم من أسماء الله أو في صفة من صفاته، أو شك قي الملائكة، أو شك في الكتب المنزلة أو شك في الرسل، أو شك في الجنة، أو شك في النار، أو شك في البعث، أو شك في الصراط، أو في الميزان أو في الحوض يكفر بهذا الشك، كذلك أيضا يكون الكفر بالترك.
والإعراض كما لو أعرض عن دين الله، لا يتعلم دين الله ولا يعبد الله، كفر بهذا الإعراض أعرض عن دين الله لا يتعلم دينه، ولا يعبد الله كفر بهذا الإعراض، ولو لم يجحد قال الله -تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) } فتبين بهذا أن الكفر يكون بالجحود بالقلب، ويكون الكفر في القول وهو بالنطق باللسان، ويكون كفر بالفعل، ويكون كفر بالشك ويكون كفر بالإعراض والصمت.
كم نوع خمسة أنواع، لكن بشرط أن يكون الإنسان لم يفعل هذا ليس جاهلا جهلا يعذر فيه لو فعل الإنسان شيئا، وهو جاهل ما يدري كما لو عاش في بلاد بعيدة، ولا عرف أن الربا حرام، وأنكر تحريم الربا ما يكفر حتى يعرف يعرف، وتقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة كفر، أما إذا كان مثله لا يجهل هذا إنسان يعيش بين مسلمين، وأنكر ما يقبل منه، وقال أنا جاهل ما يقبل منه لا بد أن يكون مثله، يجهل هذا كذلك أيضا لا بد من القصد قصد الفعل، وقصد القول يقصد السجود للصنم، يقصد أن يتكلم بهذه الكلمة ولا يشترط أن يعتقد بقلبه، لو ما اعتقد بقلبه يشترط أن يكون قاصدا لهذا الفعل، أما إذا كان جرى على لسانه ما قصد، كقصة الرجل الذي فقد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فلما وجدها قال من شدة الدهشة، ومن شدة الفرحة، (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) يخاطب ربه، هل هذا قاصد ليس قاصد جرت على لسانه من غير قصد بسبب الدهشة، ما قصد القول لا بد أن يكون قاصدا لو جاء إنسان، ووضع رأسه أمام صنم، ما رأى الصنم، ولا علم أنه صنم ليستريح، جبهته ورأسه وجعه فوضعها، يؤلمه فوضعها على الأرض، ما قصد ما علم أنه الصنم هذا، ما قصد، لكن إذا قصد السجود للصنم كفر بهذا العمل، ولو لم يجحد بقلبه، انتبهوا لهذه المسألة العظيمة.
ترى فيه وفي أناس كثير الآن يقررون مذهب المرجئة، بعض العلماء الآن يقررون مذهب المرجئة، يقولون: لا يكون الكفر إلا بالقلب، ولا يكون الإيمان إلا بالقلب ويرجعون الجهل، ويرجعون النطق، يقولون: إذا سجد للصنم ما يكون كافرا، لكن هذا دليل على الكفر، دليل على ما في القلب إذا كان قلبه مكذبا صار كافرا، وإلا السجود ما هو كفر، السجود دليل على الكفر، إذا سب الله وسب الرسول، يقول هذا ليس بكفر، لكن دليل الكفر دليل على ما في قلبه، هذا قول المرجئة، يقول السجود نفس السجود كفر، ليس دليل على الكفر، نفس القول والسبب هو الكفر، نفس الشك كفر، انتبهوا لهذا.
فالذي يقول: إن القول دليل الكفر، أو يقول: السجود للصنم دليل الكفر، هذا قول المرجئة المرجئة ما يكون عندهم كفر إلا ما كان في القلب يرجعون إلى القلب والإيمان، لا يكون إلا في القلب والكفر لا يكون إلا في القلب، وهذا غلط، الإيمان يكون تصديق في القلب وقول باللسان، النطق بالشهادتين كما سيأتي -إن شاء الله- في صفحة الإيمان بعده، ويكون أيضا عمل بالجوارح وبالقلب.
والكفر أيضا كما سبق يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالعمل، ويكون بالشك، ويكون بالترك والإعراض هذه المسألة مسألة مهمة، ينبغي لطالب العلم أن يكون على بينة منها، هذا هو قول الصحابة والتابعين والأئمة والعلماء وجماهير أهل العلم، أما القول بأن الكفر لا يكون إلا بالجحود، والإيمان لا يكون إلا بالقلب هذا هو غلط، غلط فيها المرجئة.
والمرجئة طائفتان، كما سيأتي مرجئة محضة، الجهمية وغيرهم، ومرجئة الفقهاء وهم أبو حنيفة وأصحابه، كلهم غلطوا في هذا، والمؤلف الطحاوي مشى على قول المرجئة: الكفر لا يكون إلا بالقلب: والإيمان لا يكون إلا بالقلب، وهذا غلط كبير، وهناك من العلماء في العصر الحاضر من يقرر هذه المسألة في أشرطة وفي مؤلفات، يقررون مذهب المرجئة، يقولون: الإيمان لا يكون إلا بالقلب، والسجود للصنم إن هذا دليل على الكفر إذا كان القلب مكذبا صار كافرا، وإلا نفس السجود ما يكون كفرا، إذا سب الله وسب الرسول، هذا دليل على ما في قلبه ليس كفرا، ننظر إلى قلبه إن كان مكذبا جاحدا كفرناه، وإلا نقول هذا ليس بكفر هذا غلط كبير. نعم.
والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان
هذا قول الطحاوي، يقرر مذهب المرجئة، المرجئة يقولون: الإيمان لا يكون إلا بالتصديق بالجنان، يعني القلب، والإقرار باللسان فقط شيئان، أما أعمال القلوب أعمال الجوارح ما تدخل ليست من الإيمان، هذا هو المشهور عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله وأول من قال بالإرجاء شيخ أبي حنيفة حماد بن أبي سليمان من أهل الكوفة، هذا يسمى قول مرجئة الفقهاء.
والرواية الثانية عن الإمام أبي حنيفة أن الإيمان شيء واحد، وهو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان ركن زائد لا يستلزمه مسمى الإيمان، هذا تقرير لمذهب المرجئة، والناس اختلفوا في مسمى الإيمان اختلافا كثيرا، اختلفوا فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافا كثيرا.
وخلاصة الأقوال في هذه المسألة أنه ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وجمهور أهل السنة والأوزاعي وإسحاق ابن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين، وهو قول الصحابة والتابعين والأئمة والعلماء إلى أن الإيمان تصديق بالقلب بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، فالإيمان تصديق بالقلب ونطق باللسان وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، أربعة أشياء.
وأحيانا يقولون: الإيمان قول وعمل الإيمان قول وعمل والقول قسمان، والعمل قسمان، الإيمان قول وعمل قول القلب، وهو النطق والإقرار قول اللسان، وهو النطق والإقرار وقول القلب، وهو التصديق قول اللسان، وهو النطق، يشهد أن لا إله إلا الله وقول القلب وهو التصديق والإقرار وعمل القلب، وهو النية والإخلاص وعمل الجوارح، لا بد منهما قول مع عمل، فهو قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ولهذا يقول العلماء: تصديق بالجنان، يعني القلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، يعني الجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، هذا هو الحق الذي تدل عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي أجمع عليه الصحابة والتابعون والأئمة.
المذهب الثاني: مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله وكثير من أصحابه وحماد ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ذهبوا إلى ما ذكره الطحاوي من أن الإيمان شيئان الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، كما قال المؤلف: يكون الإيمان مكون من شيئين: إقرار باللسان وتصديق بالقلب، وهذه الرواية عليها جمهور أصحاب الإمام أبي حنيفة المذهب.
الثالث: ذهب بعض أصحاب أبي حنيفة، وهي رواية عن الإمام أبي حنيفة أيضا، وإليها ذهب أبو منصور الماتريدي: أن الإيمان تصديق بالقلب فقط، تصديق بالجنان، والإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلى، بل هو شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا، ولو لم يقر بلسانه، فهو مؤمن عند الله، هكذا يقولون هذا مذهب من؟ رواية عن الإمام أبي حنيفة ومذهب أبي حنيفة ومذهب الماتريدية، يقولون: الإيمان شيء واحد، التصديق بالقلب، والإقرار باللسان هو مطلوب، لكن ليس من الإيمان شرط لإجراء أحكام الإسلام، فإذا لم يقر بلسانه قتل، لكن إذا كان مصدق بقلبه، فهو مؤمن عند الله، ولو قتل؛ لأن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار هذا أيضا من الإيمان مطلوب لإجراء أحكام الإسلام، ولو لم ينطق يعني بالشهادتين، وهذا باطل.
المذهب الثالث أو المذهب الرابع: ذهب الكرامية اتباع محمد بن كرام إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، مذهب الكرامية الإيمان هو النطق باللسان فقط، قالوا ولو لم يصدق بقلبه، فهو مؤمن يكفي أن يقر بلسانه، لكن إذا لم يصدق بقلبه، فإنه يكون منافقا، فالمنافقون عند الكرامية مؤمنون كاملو الإيمان، لكن يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله، فعلى مذهب الكرامية إذا نطق بالشهادتين، وهو مكذب في الباطن يكون مؤمنا، ويخلد في النار، فيكون مخلدا في النار، وهو مؤمن على مذهب الكرامية، وهذا من أبطل الباطل، وهو ظاهر الفساد لأنه يلزم تخليد المؤمن الكامل الإيمان في النار.
المذهب الخامس: مذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسين الصالحي أحد رؤساء القدرية، ذهبوا إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب، أي معرفة الرب بالقلب، والكفر هو الجهل بالرب، يعني هو جهل الرب بالقلب، مذهب الجهم يقول الإيمان معرفة الرب بالقلب، إذا عرف ربه بقلبه، فهو مسلم، وإذا جهل ربه بقلبه فهو كافر، وهذا القول أظهر فسادا مما قبله أفسد ما قيل، وأظهر ما قيل في الفساد في مسمى الإيمان، هو مذهب الجهم ويلزم عليه، أي يلزم على مذهب الجهم أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا ربهم بقلوبهم، وعرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بصائر} وقال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) } فيكون إذا فرعون على مذهب الجهم مؤمن؛ لأنه عرف ربه بقلبه.
وأيضا أهل الكتاب اليهود والنصارى مؤمنون على مذهب الجهم؛ لأنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، فقال الله تعالى:{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} .
وهؤلاء كفرة بإجماع المسلمين، ومع ذلك يلزم على مذهب الجهم أن يكونوا مؤمنين كذلك أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم يكون مؤمنا عند الجهم، لأنه عرف ربه حيث قال في قصيدته المشهورة.
ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة *** لوجدتني سمحا في ذاك مبينا
بل إن إبليس يكون عند الجهم مؤمنا كامل الإيمان، فإنه لم يجهل ربه بل هو عارف بربه قال الله تعالى عن ابليس:{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) } {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) } إذا ابليس عارف بربه.
فيكون مؤمنا على مذهب الجهم، والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب، الكفر عند الجهم، هو أن يجهل ربه بقلبه، يقول العلماء:
ولا أحد أجهل من الجهل بربه، فإنه جعل ربه الوجود المطلق، ومعنى الوجود المطلق الذي لم يقيد باسم ولا صفة، لم يثبت وجودا لله الجهم إلا فى الذهن؛ لأنه سلب عن الله جميع الاسماء والصفات، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون الجهم كافرا بشهادته على نفسه يكون الجهم كافرا من تعريفه، نأخذ من تعريفه أنه كافر؛ لأنه عرف الكفر: هو الجهل بالرب ولا أحد أجهل منه بربه، حيث جعل ربه الوجود المطلق الذي لا اسم له ولا صفة، فيكون الجهم كافرا بشهادته على نفسه.
المذهب السادس: مذهب الخوارج يقولون: الإيمان جماع الطاعات كلها جميع الطاعات كلها إيمان، لكن من قصر في واحد منها كفر إذا عق والديه كفر، إذا شهد الزور كفر، إذا ترك طاعة من الطاعات خرج من الإيمان، ودخل في الكفر.
المذهب السابع: مذهب المعتزلة قالوا: الإيمان جماع الطاعات كلها، كما قال الخوارج، لكن قالوا من قصر عن شيء منها فهو فاسق، لا مؤمن ولا كافر.
المذهب الثامن: روى ابن القاسم عن مالك أن الإيمان يزيد، وتوقف في نقصانه، ولكن روى عنه عبد الرازق بن نافع أنه يزيد وينقص، وعلي هذا فمذهبه يوافق مذهب الجماعة من أهل الحديث، والحمد لله.
والخلاصة في المذاهب في مسمى الإيمان:
إنها ترجع إلي أن الإيمان هو إما أن يكون ما يكون بالقلب واللسان وسائر الجوارح، وهذا مذهب السلف والأئمة وأهل السنة والجماعة.
المذهب الثاني: ما يكون بالقلب واللسان دون الجوارح، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة وكثير من أصحابه، وهذا المشهور عن الإمام أبي حنيفة وهذا الذي ذكره الطحاوي.
المذهب الثالث: الإيمان ما يكون بالقلب وحده، وهو المعرفة وهذا مذهب الجهم أو التصديق، وهو مذهب الماتردية، ورواية عن الإمام أبي حنيفة، أو ما يكون باللسان، وهو مهذب الكرامية، طيب الأحناف الآن، الآن الأحناف أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإيمان هو التصديق، الآن النزاع الآن بين جمهور أهل السنة وبين أبي حنيفة وأصحابه.
أما المذاهب الأخرى باطلة معروفة، مذهب الخوارج ومذهب المعتزلة ومذهب الجهم هذه المذاهب باطلة، لكن الذي يحصل به اللبس والاشتباه ولا سيما في هذا الزمن اشتبه على كثير من طلبة العلم حتى صاروا يفتون بمذهب الجهم، بعض العلماء أو بعض المحدثين في هذا العصر يفتي بمذهب أبي حنيفة بمذهب المرجئة، ويقول الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، والكفر هو ما يكون إلا في القلب.
فلا بد لطالب العلم أن يكون على إلمام وبصيرة بشبه، لهم شبه من شبه الإمام أبي حنيفة، الأدلة التي استدلوا بها لهم أدلة، الدليل الأول للإمام أبي حنيفة للمرجئة على أن الإيمان لا يكون إلا بالقلب، قالوا: الإيمان في اللغة.
الدليل الأول: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، الدليل إذا قالوا: اللغة دليلهم، اللغة العربية معني الإيمان هو التصديق إذا لا يكون الإيمان إلا بالقلب، قالوا عندنا دليلنا اللغة، الإيمان هو التصديق بالقلب، قال الله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدق لنا، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك.
إذا الدليل الأول قالوا: عندنا المعني اللغوي للإيمان هو التصديق، والدليل الآية الكريمة:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدق، إذا الإيمان هو التصديق، فلا يكون التصديق إلا بالقلب، أما قول اللسان وأعمال الجوارح، فلا تدخل في مسمى الإيمان أجاب الجمهور عن هذا الدليل بجوابين أحدهما بالمنع، والثاني بالتسليم.
الجواب الأول بالمنع، قالوا: نمنع الترادف بين التصديق والإيمان، ولو صح الترادف في موضع، فلا يوجب ذلك الترادف مطلقا، إذ أن هناك فرقا بين الإيمان والتصديق من وجوه، أولا التعدية أنه يقال للمخبر إذا صدق المخبر في خبره صدقه، وصدق به، ولا يقال: آمنه ولا آمن به، بل يقال آمن له، كما في قوله تعالى:{* فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ} .
الثاني: العموم والخصوص بين الإيمان والتصديق، فإن التصديق أعم من الإيمان، والإيمان أخص منه، فإن التصديق يستعمل لغة في الخبر عن الشاهد والغائب، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب.
الوجه الثالث: أن لفظ التصديق يقابله التكذيب، وأما لفظ الإيمان فيقابله الكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل هو أعم من ذلك، يشمل الكفر عن تكذيب، وعن جهالة وعن عناد.
الجواب الثاني: جوابهم بالتسليم، قال أهل السنة: نسلم أن التصديق والإيمان مترادفان، لكن نقول:
أولا: التصديق يكون بالأفعال كما يكون بالأقوال، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه)
وقال الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في الصدور وصدقه الأعمال.
ثانيا: سلمنا أن الإيمان والتصديق مترادفان لكن الإيمان تصديق مخصوص، كما أن الصلاة وإن كانت دعاء، فهي دعاء مخصوص.
ثالثا: سلمنا أن الإيمان التصديق، لكن التصديق التام بالقلب مستلزما لأعمال القلب والجوارح.
رابعا: سلمنا أن الإيمان التصديق، لكن لفظ الإيمان باق على معنى التصديق لغة، لكن الشارع زاد في أحكامه.
خامسا: سلمنا أن الإيمان هو التصديق، لكن الشارع استعمل لفظ الإيمان في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية في معناه الشرعي، هو حقيقة شرعية.
سادسا: سلمنا أن الإيمان التصديق، لكن الشارع نقل لفظ الإيمان عن معناه اللغوي إلي معناه الشرعي، هذا كل الجواب عن الدليل الأول للأحناف.
الدليل الثاني للأحناف على أن الإيمان هو التصديق، ولا يكون إلا بالقلب، قالوا: الإيمان ضد الكفر، الإيمان هو ضد الكفر، والكفر هو التكذيب والجحود، والتكذيب والجحود لا يكون إلا بالقلب، فكذلك التصديق لا يكون إلا بالقلب، ويؤيد ذلك قول الله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فدلت الآية على أن القلب هو موضع الإيمان.
أجاب الجمهور قالوا: قولكم: إن الكفر هو التكذيب والجحود ممنوع، فإن الكفر لا يختص بالتكذيب والجحود، بل أن الكفر يكون تكذيبا ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط، ولا الكفر التكذيب والجحود فقط، فلو قال أنا أعلم أن الرسول صادق، ولكن لا أتبعه، بل أعاديه وأبغضه وأخالفه لكان كافرا، ولو لم يجحد كان كافرا أعظم الكفر.
الدليل الثالث: هو الدليل العقلي قال الأحناف الإيمان لو كان الإيمان مركبا من قول وعمل كما تقولون يا جمهور أهل السنة، لو كان الإيمان مركبا من قول وعمل لزال كله بزوال أجزائه، إذ الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة، فإنه إذا زال بعضها لم تبقى عشرة، وكذلك الأجسام المركبة، إذا زال أحد جزئيه زال عنه سوء التركيب، فإذا كان الإيمان مركبا من قول وعمل وتصديق وأعمال ظاهرة وباطنة لزم زواله بزوال بعضها.
أجاب الجمهور إن أردتم أن الحياة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت فمسلم، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء، بل يلزم زوال الكمال كما أن بدن الإنسان إذا ذهب منه إصبع أو يد أو رجل لم يكن ليخرج عن كونه إنسانا بالاتفاق، وإنما يقال إنسان ناقص، فكذلك الإيمان يبقي بعضه ويزول بعضه.
الدليل الرابع للأحناف: قالوا: إن الله تعالى فرق في كتابه بين الإيمان والعمل الصالح، فعطف العمل على الإيمان، والعطف يقتضي المغايرة، فقال تعالى في غير موضع:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فدل على أن العمل لا يكون داخلا في مسمى الإيمان.
أجاب الجمهور بأن اسم الإيمان ورد في النصوص على ثلاث حالات: تارة يذكر مطلقا عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فإذا ذكر الإيمان مطلقا دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة كما في حديث شعب الإيمان، وإذا قرن الإيمان بالعمل الصالح، وعطف عليه، فإن عطف الشيء على الشيء في القرآن وسائر الكلام يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع اشتراكهما في الحكم، والمغايرة على مراتب أعلاها أن يكونا متباينين. الثاني: أن يكون بينهما تلازم. الثالث: عطف بعض الشيء عليه. الرابع: عطف الشيء على الشيء باختلاف الصفتين، فهذا كله إذا قرن الإيمان بالعمل الصالح هناك أيضا.
من أدلتهم دليل أيضاً خامس للأحناف، وهو حديث أبي هريرة استدلوا بحديث أبي هريرة، قال:(جاء وفد ثقيف إلي رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص فقال لا الإيمان مكمل في القلب زيادته كفر ونقصانه شرك) ووجه الدلالة قالوا: هذا يدل على أن إيمان أهل السماوات والأرض سواء، وأن الإيمان الذي في القلوب، لا يتفاضل، وإنما التفاضل بينهم يكون بالعمل فقط.
أجاب الجمهور بأن هذا الحديث لو صح لكان فاصلا في النزاع، لكن هذا الحديث كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله من رواية أبي الليث السمرقندي إلى أبي المطيع إلى أبي المهزم، سئل عنه الشيخ عماد الدين بن كثير، فأجاب بأن الإسناد من أبي الليث إلى أبي المطيع مجهولون، لا يعرفون، وأبو المطيع هو الحسن بن عبد الله بن الصرفي البلخي، وقد ضعفه أحمد بن حنبل ويحي بن معين والبخاري وأبو داواد والنسائي وأبو حاتم الرازي وأبو حاتم محمد بن حبان البستي والعقيلي وابن عدي والدارقطني وعمرو بن على الخلاف، وأما أبو المهزم فقد ضعفه غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك، واتهمه شعبة بالوضع، حيث قال لو أعطي فلسين لحدثهم سبعين حديثا، فهذا الحديث باطل، بل هو موضوع، كيف يستدل الأحناف بمثل هذا وأهل السنة، استدلوا بأدلة كثيرة تدل على هذا، تدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان أدلة كثيرة، لا حصر لها منها قول الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} جعلهم مؤمنين بهذه الأعمال حصر المؤمنين بالذين توجل قلوبهم عند ذكر الله مع الأعمال، ومنها قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) }
ومنها قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } ومنها قوله صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) كل هذه شعب بضع وسبعون شعبة، كلها إيمان ومنها حديث وفد عبد القيس لما جاءوا إلي النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن الإيمان قال:(آمركم بالإيمان بالله وحده أتدرون ما الإيمان بالله وحده شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) جعل هذا كله من الإيمان.
حديث جبريل كذلك ذكر فيه الإيمان والإسلام، كذلك الأدلة كذلك من الأدلة الكثيرة التي تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، كقوله تعالى:{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}
{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) } من السنة قوله عليه الصلاة والسلام (النساء ناقصات عقل ودين) والدين إذا أطلق كالإيمان يشمل الإسلام كله، الأعمال كلها، وكذلك أيضا الأحاديث الأخرى والآثار عن الصحابة قول أبي الدرداء: من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينقص، ومنه قول عمر لأصحابه: هلموا نزدد إيمانا، فيذكرون الله تعالى، وكان ابن مسعود يقول في دعائه: اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها، وكان معاذ بن جبل يقول لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة، وكذلك روي مثله عن عبد الله بن رواحة، وصح عن عمار بن ياسر أنه قال:(ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه والإنفاق من إقتار وبذل السلام للعالم) ذكره البخاري في صحيحه معلقا، هذه كلها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص. نعم.
(والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان)
هذا مذهب أبي حنيفة وهو مذهب المرجئة، وهو قول باطل أن الصواب أن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، هذا هو الذي عليه الصحابة والتابعون وأهل السنة والجماعة.
وجميع ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الشرع والبيان كله حق
نعم. جميع ما صح من الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، نؤمن به ونصدق به ونقبله، ما صح ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وما شرعه الله في كتابه، وما شرعه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته كتحريم كل ذي ناب من السباع وتحريم كل ذي مخلب من الطير وغير ذلك، تحريم بيع الولاء وهبته، إلي غير ذلك مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم. نعم.
الناس لهم في تلقي النصوص طريقتان طريقة أهل السنة وطريقة أهل البدع، فمنهج أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والرافضة في تلقي الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة يقسمون الأخبار قسمين: متواتر وآحاد؛ فيقولون إن المتواتر وإن كان قطعي السند، فهو غير قطعي الدلالة؛ لأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين والعلم، ولهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات.
وأما الآحاد فقالوا: إنها أخبار الآحاد لا تفيد العلم واليقين، فلا يحتج بها من جهة متنها كما لا يحتج بها من جهة السند، فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسماءه وصفاته وأفعاله، ثم أحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية وبراهين يقينية، وأما أهل السنة فإنهم يتلقون النصوص ويقبلونها ولا يعدلون عن النص الصحيح ولا يعارضونه بمعقول من المعقولات ولا بقول فلان عملا بقول الله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} .
وخبر الواحد متي يفيد اليقين والعلم؟ يفيد خبر الواحد العلم اليقيني عند جماهير الأمة إذا تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا، وليس بين سلف الأمة في ذلك نزاع، وهو أحد قسمي المتواتر إذ المتواتر قسمان ما رواه جماعة كثيرون يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إلي أن ينتهي للمخبر عنه، وأسندوه إلي شيء محسوس سماع أو مشاهدة لا اجتهاد، والثاني خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، والتفصيل في هذا يأتي إن شاء الله، فيما بعد نعم.
والإيمان واحد وأهله في أصله سواء
وهذا باطل الإيمان ليس واحدا، وليس الناس فيه سواء، يقول الأحناف. يقولون: الإيمان سواء، وإيمان أهل السماء وأهل الأرض سواء، هذا من أبطل الباطل من يقول: إن جبريل مثل إيماننا، إيمان أبي بكر مثل إيمان بعض الناس، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (لو وزن إيمان أهل الأرض بإيمان أبي بكر لرجح) يقولون إيمان أهل السماء وأهل الأرض سواء، حتى قال بعض الفسقة: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، وإيماني كإيمان أبي بكر وعمر نعم. هذا من أبطل الباطل، والصواب أن الناس يتفاوتون تفاوتا عظيما في الإيمان، سواء هل إيمان الأنبياء والمرسلين مثل إيمان سائر الناس، هل إيمان الملائكة مثل إيمان سائر الناس، هل إيمان الصديق مثل إيمان الفاسق السكير العربيد، هذا ضعيف الإيمان الذي يشرب الخمر ويعق والديه ويسرق أموال الناس ويغش ويرابي، هذا إيمانه ضعيف، هل يكون هذا إيمانه مثل إيمان الصديق، مثل إيمان الصحابة مثل إيمان الأنبياء والمرسلين، هذا من أبطل الباطل نعم والإيمان أيش.
والإيمان واحد وأهله في أصله سواء.
نعم هذا باطل، الصواب أن الإيمان ليس واحدا، بل هو متفاوت. نعم.
والتفاضل بينهم بالخشية والتقي ومخالفة الهوي وملازمة الأولى
هكذا يقول الطحاوي يقول: التفاضل بين الناس ما هو في الإيمان الإيمان متساوون فيه، التفاضل بينهم بين المؤمنين بأعمال القلوب، وأما التصديق فلا تفاوت فيه، وفي بعض النسخ وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالحقيقة ومخالفة الهوى وملازمة الأولى، يشير إلي أن الكل مشتركون في أصل التصديق، ولكن التصديق يكون بعضهم أفضل من بعض وأثبت، وهذه الأسطر والعبارة في النسخة الثانية، والتفاضل بينهم بالخشية والتقوي، يعني يقول: لا تفاضل بين الناس في الإيمان، وإنما التفاضل يكون بينهم بأعمال القلوب، وهذا من أبطل الباطل، ليس التفاضل بأعمال القلوب فقط، بل التفاضل في الإيمان نفس التصديق، نفس الإيمان والتصديق يتفاضل الناس فيه، تفاضل بالتصديق، وفي أعمال القلوب وفي أعمال الجوارح، وعلى هذا هل لهذا الخلاف ثمرة، أو ليس له ثمرة؟ .
الخلاف بين الجمهور وبين الأحناف، هل له ثمرة أو ليس له ثمرة؟ الشارح ابن أبي العز يقول: الخلاف لفظي ليس له ثمرة، وقال لأن الجمهور، جمهور أهل السنة والأحناف اتفقوا على أن الأعمال واجبة، والواجبات واجبات، والمحرمات محرمات، وأن من فعل الواجبات، فهو قد أدى ما أوجب الله عليه وهو مثاب وممدوح، ومن فعل المحرمات، فإنه يستحق الوعيد، ويقام عليه الحد إذا كان ارتكب حدا، وهو مذموم، لكن الخلاف هل هذه الواجبات هل هي من الإيمان أو ليس من الإيمان؟ .
قال الجمهور: من الإيمان، وقال الأحناف: ليست من الإيمان، فالخلاف لفظي؛ لأنهم اتفقوا على أن الواجبات واجبات، والمحرمات محرمات، وأن من فعل الواجبات، أثابه الله، وهو ممدوح ومن فعل المحرمات يعاقب، ومستحق للوعيد، ويقام عليه الحد، لكن الخلاف إنما هو في التسمية، هل نسميها إيمانا؟ قال بذلك الجمهور، أولا نسميها إيمانا؟ واجب آخر قال بذلك الأحناف، هكذا قال شارح الطحاوية، يريد أن يجمع بين القولين، يقول: الخلاف في اللفظ ليس له ثمرة، بمعني أنه لا يترتب عليه فساد في العقيدة، صحيح لا يترتب عليه فساد في العقيدة، لكن الصواب أن الخلاف له آثار تترتب عليه غير اللفظ.
من هذه الآثار أولا: جمهور أهل السنة والجماعة وافقوا الكتاب والسنة في اللفظ والمعنى، فإن نصوصا كثيرة أدخلت الأعمال في مسمى الإيمان، جمهور أهل السنة وافقوا الكتاب والسنة في اللفظ والمعنى، وأما الأحناف ومرجئة الفقهاء فوافقوا الكتاب والسنة في المعنى، وخالفوهما في اللفظ ولا يجب للإنسان أن يخالف النصوص حتى في اللفظ، بل يجب على المسلم أن يتأدب مع النصوص مع كتاب الله وسنة رسول الله، يتأدب فلا يخالف النصوص لا لفظاً ولا معنى.
فأهل السنة تأدبوا مع النصوص، ووافقوا النصوص لفظا ومعنى، ومرجئة الفقهاء لم يتأدبوا مع النصوص وافقوا النصوص في المعنى، لكن خالفوهما في اللفظ هذه ثمرة.
ومن ثمرة الخلاف فتح الباب للمرجئة المحضة؛ لأن المرجئة كما قلت لكم طائفتان، المرجئة المحضة وهم من؟ الجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة بالقلب، والأعمال ليست واجبة، والمحرمات ليست محرمات، إذا صدق بقلبه، ولو فعل جميع المحرمات، وارتكب جميع المحرمات، وترك الواجبات لا يضره، هو كامل الإيمان، ويستردها من أول وهلة، مرجئة الفقهاء يقولون: الإيمان هو التصديق، لكن الأعمال واجبة الواجبات واجبات والمحرمات محرمات، يعاقب الإنسان ويذم.
من الثمرة الثانية أن مرجئة الفقهاء، وهم الأحناف فتحوا بابا للمرجئة المحضة، فدخلوا معهم، فتحوا بابا لم يستطيعوا إغلاقه وسده لما قال مرجئة الفقهاء: إن الأعمال ليست من الإيمان، فتحوا الباب للمرجئة المحضة، فقالوا: إن الأعمال ليست مطلوبة من أساسه، الواجبات لا ليست مطلوبة، والمحرمات لا يجب تركها، والواجبات لا يجب فعلها، من الذي فتح لهم الباب؟ مرجئة الفقهاء هذه من الآثار.
الثمرة الثالثة من آثار الخلاف بين الجمهور والأحناف: أن الأحناف ومرجئة المحضة فتحوا بابا للفسقة والعصاة، فدخلوا معهم، لما قال الأحناف: الأعمال ليست من الإيمان، قالوا: أن إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد، إيمان الأنبياء وإيمان الفساق واحد، فيأتي السكير العربيد، الذي يفعل الفواحش والمنكرات، فيقول إيماني كإيمان جبريل وميكائيل وكإيمان أبي بكر وعمر، فإذا قلت له أبو بكر يعمل الصالحات ويجتنب المحرمات وأنت تفعل ذلك قال هذا ليس محلا للخلاف محل الخلاف غير هذا ليس في الأعمال أنا مصدق وأبو بكر مصدق، فإيماننا واحد، أما كوني أفعل المحرمات، وأترك الواجبات، هذا شيء آخر، هذه مسألة أخرى غير الإيمان. من الذي فتح الباب لهم؟ مرجئة الفقهاء.
الثمرة الرابعة والمهمة: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فمرجئة الفقهاء من الأحناف يقولون: لا يجوز لك أن تستثني، حرام أن تقول أنا مؤمن إن شاء الله، لأنك تشك في إيمانك، تعرف نفسك أنك مصدق، فكيف تشك؟ فإذا قالوا: إن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله فهو شاك في إيمانه، من قال: أنا مؤمن إن شاء الله، فهو شاك في إيمانه؛ لأن الإيمان هو التصديق أن تعرف نفسك أنك مصدق كما تعرف نفسك، أنك تحب الرسول، وأنك تبغض اليهود، هل تشك في إيمانك؟ هل تشك في الشيء الموجود؟ .
قالوا: لا يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله، فهو شاك في إيمانه، ويسمون أهل السنة الشكاكة، أما أهل السنة والجماعة، هم قالوا: المسألة فيها تفصيل، يجوز الاستثناء في الإيمان في بعض الأحوال، ولا يجوز في بعض الأحوال، فإذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده الشك في أصل إيمانه، وهو التصديق فهذا ممنوع.
أما إذا قال: إن شاء الله، وقصده الاستثناء راجع إلي الأعمال أعمال الإيمان، الواجبات كثيرة، والمحرمات كثيرة، فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما أوجب الله عليه، ولا يجزم الإنسان بأنه ترك كل ما حرم الله عليه، ولا يزكي نفسه، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن الأعمال متشبعة كثيرة، لا يجزم بأنه أدى كل ما عليه، بل هو محل للتقصير والنقص، ولا يجزم بأنه ترك كل ما حرم الله عليه، بل قد يقترف شيئا من ذلك، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه لا يزكي نفسه؛ ولأن أعمال الإيمان متشعبة، فلا بأس أن يقول: إن شاء الله، كذلك إذا قال أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده تعليق الأمر بمشيئة الله للتبرك باسم الله، فلا حرج، وكذلك إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وأراد عدم علمه بالعاقبة، فلا بأس أما إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده الشك في أصل إيمانه، فهذا لا يجوز.
وبهذا يتبن أن الخلاف بين الأحناف والجمهور له ثمرة، كذلك أيضا مما يتعلق بالإيمان مسألة الإسلام أيضا الإسلام، والخلاف في مسماه، الناس اختلفوا في مسمى الإيمان على ثلاثة أقوال:
طائفة قالت: الإسلام هو الكلمة، أي الشهادتان، وهذا مروي عن الزهري، وبعض أهل السنة قالوا الإسلام هو الكلمة، والإيمان هو العمل، المذهب الثاني: طائفة قالوا الإسلام والإيمان مترادفان، وهذا مروي عن بعض أهل السنة، ويتزعمهم البخاري، وهو أيضا ذهب إليه الخوارج والمعتزلة.
المذهب الثالث: أن الإسلام هو العمل والإيمان هو التصديق والإقرار، جعلوا الإسلام هو الأعمال الظاهرة والإيمان الأعمال الباطنة، واستدلوا بحديث جبريل، والصواب في المسألة أن الإيمان والإسلام تختلف دلالتهما بحسب الإفراد والاقتران، فإذا أطلق الإسلام وحده دخل فيه الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، وإذا أطلق الإيمان وحده دخل فيه الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، وإذا اجتمعتا، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل، فإن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فسره بالأعمال الظاهرة، ولما سأله عن الإيمان فسره بالأعمال الباطنة.
هذا هو الصواب أن الإسلام إذا أطلق وحده دخل فيه الإيمان، والإيمان إذا أطلق وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة، أما الأدلة والمناقشات يأتي الكلام عليها إن شاء الله.
قلنا إن الناس في مسمى الإسلام لهم أقوال: القول الأول: من يقول: إن الإسلام هو الكلمة والإيمان هو العمل، يقول: مسمى الإسلام هو الكلمة، يعني الشهادتين، وهذا مروي عن الزهري وبعض أهل السنة، قالوا الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج هؤلاء بقول الله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} قالوا فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه هو المقتصد، هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم.
والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه، ولكن وجهة نظر الزهري هي أن من أتي بالشهادتين صار مسلما، يتميز عن اليهود والنصارى، تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين. والزهري لم يرد أن الإسلام الواجب هو الكلمة وحدها؛ فإن الزهري أجل من أن يخضع لذلك، ولهذا فإن أحمد رحمه الله في أحد أجوبته لم يجب بهذا، خوفا من أن يظن أن الإسلام ليس هو إلا الكلمة، وقد رد محمد بن نصر على من قال بهذا القول، فقال من زعم أن الإسلام هو الإقرار، وأن العمل ليس منه فقد خالف الكتاب والسنة، فإن النصوص كلها تدل على أن الأعمال من الإسلام كحديث جبريل، وفيه بني الإسلام على خمس، وذكر الأعمال الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج.
وأما الاستدلال بالآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فليس فيها ما يدل على أن الإسلام هو مجرد الشهادة، وإنما فيها تقسيم الناس إلي مسلم ومؤمن ومحسن، فهذا موافق لحديث جبريل.
المذهب الثاني القول الثاني القائلون من يقول: إن الإسلام مرادف للإيمان، وهذا يروي عن طائفة من أهل السنة ومنهم البخاري رحمه الله ذهب إلي هذا في صحيحه في كتاب الإيمان، وذهب إلي هذا أيضا الخوارج والمعتزلة، وعلى هذا فيكون يشمل الأعمال كلها، فالإسلام والإيمان عندهم واحد، وعلي هذا القول يذهب التفاوت والمقامات، احتج هؤلاء بقول الله تعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) } وجه الدلالة أن الله وصفهم بالإيمان والإسلام، وهم أهل بيت واحد، فدل على أنهما مترادفان، وأجيب بأن الآية لا حجة فيها لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما، وقالوا: إن حديث جبريل لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله) قالوا: معني أن تشهد أن لا إله إلا الله، قالوا: على التقدير تقدير شعائر الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله لا مسماه، لكن يجاب بأن الأصل عدم التقدير.
ومما أيضا يناقش به أهل هذا القول أنهم قالوا: الإسلام والإيمان مترادفان، ثم قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، وقالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد؛ فيكون الإسلام هو التصديق، وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة.
ومن شبههم أنهم قالوا: إن الله سمى الإيمان بما سمى به الإسلام، وسمى الإسلام بما سمى به الإيمان كما في حديث جبريل، وحديث وفد عبد القيس، فحديث جبريل فسر الإسلام بالأعمال، وفي حديث عبد القيس فسر الإيمان بالأعمال، فإنه سأل ما الإيمان؟ قال:(الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله، آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده، شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان) وأجيب بأن الإسلام إذا أطلق وحده دخل فيه الأعمال، والإيمان إذا أطلق وحده دخل فيه الأعمال، أما إذا اجتمعا فيفرق بينهما.
ومما يدل مما يشمل الفرق بين الإسلام والإيمان قول الله تعالى: {* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فنفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام، وهذا يدل على الفرق، وأما تسمية أحدهما بمسمى الآخر، فإنما يكون عند إفراد أحدهما، فيدخل فيه الآخر، وعند اجتماعهما يفرق بينهما، وأيضا يشهد الفرق بينهما حديث جبريل، فإنه فرق بينهما.
وأما اعتراضهم على الآية آية الحجرات على الاستدلال بالآية، بأنما نقول: أسلمنا انقدنا ظاهرا، فهم منافقون في الحقيقة؛ لأن الله نفى عنهم الإيمان، هذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية، وهو جواب البخاري رحمه الله أجاب بأن هذه الآية في المنافقين، لكن أجاب الجمهور بأن القول الآخر في الآية، وهو أرجح من القول الذي أخرجوه أنهم ليسوا مؤمنين كاملي الإيمان، بل هم ضعفاء الإيمان، لا أنهم منافقون كما نفي الإيمان عنهم، كما نفى عن القاتل والزاني والسارق ومن لا أمانة له.
ويؤيد هذا القول سياق الآية من وجوه، فإن سورة الحجرات من أولها إلي هنا في النهي عن المعاصي وأحكام بعض العصاة ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين، وكذلك أيضا ما قبل الآية وما بعدها حيث إن الله سبحانه وتعالى أثبت لهم الإيمان وأثبت لهم وقال:{لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ} أثبت لهم طاعة لله ولرسوله {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ}
والمنافقون ليس لهم طاعة، لا تعتبر طاعة وليس لهم عمل حتى ينقص ثوابهم، ثم قال في آخر الآيات {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} فأثبت لهم الإسلام ولو كانوا منافقين لما أثبت لهم الإسلام.
القول الثالث المذهب الثالث: قول بعض العلماء جعلوا الإسلام الأعمال الظاهرة والإيمان الأعمال الباطنة، واستدلوا بحديث جبريل حينما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأصول الخمسة، وأجيب بأن هذا عند الاقتران عند اقتران الإسلام بالإيمان.
والراجح والصواب في هذه المسألة أن مسمى الإسلام ومسمى الإيمان يختلف مسماهما عند الأفراد وعند الاقتران، فإذا قرن أحدهما بالآخر، فإنه فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل، وإذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر كما في حديث وفد عبد القيس إذا أطلق الإيمان وحده دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا أطلق الإسلام وحده شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة، كما حديث جبريل.
هذا هو الصواب وهو الراجح، وهذا هو التحقيق في هذه المسألة أن الدلالة تختلف بالتجريد والاقتران، ومن فهم هذا انجلت عنه إشكالات كثيرة في كثير من المواضع التي حاد عنها كثير من الطوائف، فإن الإسلام أصله هو الانقياد والطاعة والإيمان، أصله هو ما في القلب من الاعتقاد وحقيقة الفرق أن الإسلام دين، والدين مصدر دان يدين دينا، إذا خضع وذل.
ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده، فأصله في القلب هو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون ما سواه، والإسلام هو الاستسلام لله وهو الخضوع له والعبودية له، هكذا قال أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم فالإسلام في الأصل من باب العمل عمل القلب وعمل الجوارح، وأما الإيمان فأصله التصديق والإقرار، أصله تصديق وإقرار ومعرفة، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب.
والأصل فيه التصديق والعمل تابع له، فلهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بإيمان القلب وخضوعه وفسر الإسلام بالأعمال. نعم.
والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن
أعد قبل هذا من الأول.
والإيمان واحد وأهله في أصله سواء. والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى. والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن.
هذه مسألة مسألة الولاية نجريها على الإيمان المؤمنون كلهم أولياء الرحمن هذا مذهب المرجئة، وأما أهل السنة فيفصلون عندهم تفصيل في هذا يقولون فالمرجئة يقولون المؤمنون كلهم أولياء الرحمن، فالناس قسمان عند المرجئة، المؤمنون سواء كانوا مطيعين أو عصاة كلهم أولياء الرحمن، والكفار أعداء الله، فإذن الناس قسمان عدو وولي، فالكافر عدو الله، والمؤمن سواء كان مطيعا أو عاصيا ولي لله.
وأما جمهور أهل السنة فيفصلون يقولون الناس ثلاثة أقسام: عدو لله كامل العداوة، وهو الكافر، ثانيا: مؤمن ولي لله كامل الولاية، وهو المؤمن المطيع الذي أدي الواجبات وانتهي عن المحرمات، ثالثا: ولي لله بوجه وعدو لله بوجه وهو المؤمن العاصي، فهو ولي لله بحسب ما فيه من الإيمان والطاعات، وعدو لله بحسب ما فيه من المعاصي والتقصير في الواجبات.
وهذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهل تجتمع الولاية والعداوة في الشخص الواحد؟
نعم هذا أصل عظيم عند أهل السنة، وهي اجتماع الولاية والعداوة في الشخص الواحد، فيكون المؤمن وليا لله من وجه، وعدوا لله من وجه، وهذا أصل عظيم فيه نزاع لفظي بين أهل السنة وبين الجمهور، وفيه نزاع معنوي بين أهل السنة وأهل البدع، فالنزاع اللفظي بين الجمهور والأحناف يقولون: العاصي عدو لله من وجه وولي لله من وجه عند الجمهور.
والأحناف يقولون هو ولي لله، لكن المعاصي يعاقب عليها ويذم عليها أما النزاع بينهم وبين أهل البدع، فإن النزاع معنوي يترتب عليه فساد في الاعتقاد، فإن أهل السنة يقولون: العاصي، وإن كان عدوا لله من وجه إلا أنه لا يخرج من الإيمان، أما الخوارج فإنهم يقولون: العاصي يخرج من الإيمان، ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، فيكون في منزلة بين المنزلتين.
والمرجئة المحضة يقولون: العاصي كامل الإيمان، فالنزاع بينهم فإذا المؤمن العاصي عدو لله كامل العداوة عند الخوارج والمعتزلة، وعند أهل السنة ولي الله من وجه وعدو لله من وجه، وأما عند المرجئة المحضة فهو ولي لله كامل الولاية حتى لو فعل الكبائر ونواقض الإسلام إلا إذا جهل ربه بقلبه، والتفصيل في هذا يأتي إن شاء الله.
الطحاوي رحمه الله قرر أن الولاية مبنية على الإيمان وأن المؤمنين كلهم أولياء الرحمن، ولهذا قال والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وعلي هذا لا فرق بين المطيع والعاصي في الولاية، ولا تجتمع الولاية والعداوة في الشخص الواحد، بل يكون الناس قسمان قسم عدو لله، وهو الكافر وقسم ولي لله، وهو المؤمن المطيع والمؤمن العاصي هذا مذهب الأحناف ومرجئة الفقهاء، ولكن خالفهم في هذا جمهور أهل السنة في هذا الأصل، وقرروا أنه يجتمع في الشخص الواحد الولاية والعداوة من جهتين.
وهذا الأصل أصل عظيم وهو اجتماع الولاية والعداوة في الشخص الواحد، وهذا النزاع فيه نزاع لفظي بين أهل السنة أنفسهم، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع، فالنزاع الذي بين أهل السنة أنفسهم نزاع بين جمهور أهل السنة ومرجئة الفقهاء، فجمهور أهل السنة يقولون يجتمع في الشخص الواحد ولاية وعداوة، يكون وليا لله بحسب ما فيه من الإيمان والطاعات ويكون عدوا لله بحسب ما فيه من المعاصي.
وأما مرجئة الفقهاء فقالوا الناس قسمان، ولي لله وعدو لله، فالكافر عدو لله والمؤمن المطيع أو العاصي ولي لله، وأما أهل السنة والجماعة فقالوا. جمهور أهل السنة: الناس ثلاثة أقسام: عدو لله كامل العداوة، وهو الكافر وولي لله كامل الولاية، وهو المؤمن المطيع، وولي لله من وجه، وعدو لله من وجه، وهو المؤمن العاصي، وهذا مبني على مذهبهم في الإيمان والكفر، فذهب جمهور أهل السنة إلي أنه يجتمع في المؤمن ولاية من وجه وعداوة من وجه كما يكون فيه كفر وإيمان وشرك وتوحيد وتقوى وفجور ونفاق وإيمان.
فالناس يتفاضلون في ولاية الله بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى والولاية لم يتساو الناس في أصلها، فهي نظير الإيمان لم يتساو الناس في أصله، بل الولاية تزيد وتنقص، وتكون كاملة وناقصة، فالمطيع تزيد ولايته وتقواه، والعاصي تنقص ولايته وتقواه، كما أن الإيمان يزيد وينقص ويكون كاملا وناقصا، فالمطيع يزيد إيمانه ويقوى، والعاصي ينقص إيمانه ويضعف، كما أن الناس يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق؛ لأن الإيمان على مراتب إيمان دون إيمان، والكفر على مراتب كفر دون كفر، وأولياء الله هم المؤمنون المتقون وبحسب إيمان العبد وتقواه، تكون ولايته لله، فمن كان أكمل إيمانا وتقوى كان أكمل ولاية لله.
والأعمال داخلة في مسمى الإيمان، والأعمال داخلة في مسمى الكفر، استدل جمهور أهل السنة على هذا بأدلة كثيرة، منها قول الله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) } فأثبت لهم إيمانا مع الشرك، والمراد بالشرك الذي لا يخرج من الملة، وهو الأصغر فدل على اجتماعهما في المؤمن، ومنها قوله تعالى:{* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فأثبت لهم إسلاما، أي طاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم فدل على اجتماعهما، والمراد بالإيمان المنفي عنهم الإيمان المطلق الذي هو الكامل الذي يستحقون به الوعد الكريم من دخول الجنة والنجاة من النار، وإن كان معهم أصل الإيمان الذي يخرجهم من الكفر.
ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} وقال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) } وقال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} وقال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} وقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} فهذه الأدلة تدل على تفاضل الناس في الإيمان وفي الكفر والنفاق الذي هو مبني في تفاضلهم في ولاية الله وفي تفاضلهم في عداوة الله، وأن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه وقسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه.
ومن الأدلة ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أوتمن خان، وإذا عاهد غدر) فدل على أن من الناس من يكون معه إيمان وفيه شعبة من النفاق، وقال صلى الله عليه وسلم (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) فدل على أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لا يخلد في النار، وإن كان معه الكثير من النفاق، فهو يعذب في النار على قدر ما معه من النفاق أو الشرك أو الكفر، ثم يخرج من النار.
والمراد من الكفر والنفاق الشرك الأصغر، أما الأكبر فإنه ينافي الإيمان، ومنها ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر:(إنك امرؤ فيك جاهلية، فقال يا رسول الله، أعلى كبر سني. قال: نعم) وأبو ذر من خيار المؤمنين، ومع ذلك صار فيه شيء من الجاهلية، وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهم الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم) فدل على وجود هذه الخصال في المؤمنين من هذه الأمة.
وذكر البخاري عن ابن أبي مليكة أنه قال: (أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)
وفي صحيح مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) فدل على أنه يكون في المؤمن النفاق، وأنه قد يجتمعان في المؤمن قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} فجعل هؤلاء إلى الكفر أقرب منهم للإيمان، وهم مخلطون وكفرهم أقوى، وغيرهم يكون مخلطا وإيمانه أقوى، فهذه الأدلة كلها تدل على أنه يجتمع في الشخص الواحد شيء من شعب الإيمان، ومن شعب الكفر، ومن شعب النفاق، فيكون عدوا لله بحسب ما فيه من الشعب، ويكون وليا لله بحسب ما فيه من الإيمان.
أما مرجئة الفقهاء والأحناف، فقالوا لا يجتمع في المؤمن ولاية وعداوة كما لا يجتمع فيهم كفر وإيمان وشرك وتوحيد ونفاق وإيمان، حجتهم قالوا: لأن الكفر الحقيقي هو الجحود ولا يزيد ولا ينقص؛ لأنه شيء واحد، ولا يدخل العمل في المسمى، وماعداه فهو كفر مجازي غير حقيقي؛ لأن الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة، وليس هو على مراده كما أن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، فهو لا يزيد ولا ينقص، وما عداه، فهو إيمان مجازي سمي إيمانا؛ لتوقف صحته على الإيمان، أو لدلالته على الإيمان، أو للاستزادة من الإيمان؛ لأن الإيمان الحقيقي هو الذي يدخل في دائرة الإسلام، وهو التصديق، وليس على مراتب، فبنوا على ذلك ما ذهبوا إليه من أن الناس لا يتفاضلون في ولاية الله، بل المؤمنون متساوون في أصل الولاية، كما أنهم متساوون فيأصل الإيمان.
فالولاية نظير الإيمان أهلها في أصلها سواء، والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، والولاية لا تزيد ولا تنقص، لكنها تكون كاملة وناقصة، فالكاملة تكون للمؤمنين المتقين كما قال تعالى:{أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ} والناقصة تكون للمؤمنين العصاة الذين يقصرون في بعض الواجبات، أو يرتكبون بعض المحرمات، كما أن الناس لا يتفاضلون في عداوة الله؛ لأن الكفر ليس على مراحل، بل الكفر مرتبة واحدة، وهو الجحود، والكفار كلهم أعداء الله، فهم متساوون في أصل العداوة كما أنهم متساوون في أصل الكفر، ولكن هذا الخلاف هذا النزاع بين الجمهور جمهور أهل السنة وبين مرجئة الفقهاء، لا يترتب عليه فساد في الاعتقاد؛ لأن كلا من الطائفتين الجمهور ومرجئة الفقهاء اتفقوا على أن العاصي ومرتكب الكبيرة مذموم على رأسها، ومستحق للوعيد المترتب على ذلك الذم، كما وردت بذلك النصوص، ويجتمع فيه الطاعة والمعصية، وكذلك مرتكب الشرك والكفر والنفاق الأصغر مذموم على فعله، ويستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب، كما وافقوهم على أن فاعل الحسنات والطاعات محمود على طاعته، ويستحق الوعد الكريم الذي رتبته النصوص على تلك الطاعات والحسنات، لكن الخلاف بينهم في التسمية تسمية من قام به شعبة من شعب الكفر هل يسمي كافرا؟ .
قال بذلك الجمهور، ومنع من ذلك الأحناف، وفي تسمية من قام به شعبة من شعب الشرك مشركا، هل يسمي مشركا؟ قال بذلك الجمهور ومنع من ذلك الأحناف، وفي تسمية من قام به شعبة من شعب النفاق منافقا، فقالوا لا يجتمعون، قالوا مرجئة الفقهاء: لا يجتمع كفر وإيمان وشرك وتوحيد ونفاق وإيمان، وبالتالي لا يجتمع فيه ولاية ولا عداوة، فالنزاع لفظي، لكن له آثار تترتب عليه، كما سبق في باب مبحث الإيمان أن الأحناف خالفوا النصوص معنى، وإن وافقوها لفظا، وكذلك أيضا يترتب فتحوا الباب للمرجئة المحضة، فقالوا: إن الأعمال ليست واجبة، وفتحوا الباب للفساق.
وأيضا يترتب عليها الاستثناء في الإيمان، وفي الولاية أنا ولي لله إن شاء الله، الأحناف منعوا من ذلك قالوا: لا تقل: إن شاء الله، والجمهور فصلوا قالوا: إن أردت الشك في أصل ولايتك فلا، وأن لم ترد الشك، وأردت أن الأعمال المترتبة على أعمال الإيمان وأعمال الولاية كثيرة، لا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه فلا بأس من الاستثناء، أو أراد التبرك باسم الله، أو أراد عدم العلم بالعاقبة فلا بأس.
أما النزاع بين أهل السنة وأهل البدع، فهو نزاع معنوي يترتب عليه فساد في الاعتقاد هنا إذا جاءت البدع، انضم جمهور انضم الأحناف ومرجئة الفقهاء مع الجمهور، وصاروا صفا واحدا أمام أهل البدع، فيكون النزاع بين أهل السنة جمهورهم وأحنافهم مع أهل البدع نزاع معنوي، وذلك أن أهل البدع قالوا: لا يجتمع في المؤمن ولاية وعداوة كما لا يجتمع في المؤمن كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وهذا مبني على مذهبهم أن الناس لا يتفاضلون في الإيمان، ولا في الولاية لله، ولا في عداوتهم لله، بل هم متساوون في الإيمان، وفي الولاية وفي العداوة، لكن أختلفوا فذهب الخوارج والمعتزلة إلى أن من ارتكب كبيرة أو قامت فيه شعبة من شعب الكفر حبط إيمانه كله، ويخلد في النار، لكن قال الخوارج: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر.
وقالت المعتزلة: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، بل هو في منزلة بينهما يسمى فاسقا لا مؤمن ولا كافر، وذهبت المرجئة الغلاة إلي أن الكبائر وشعب الكفر لا تضر مع الإيمان ولا تؤثر فيه، بل المؤمن كامل الإيمان والتوحيد، فهو كامل الولاية، ولا يضره ارتكابه للكبائر وشعب الكفر شيئا، بل الناس قسمان مؤمن كامل الإيمان والولاية أو كافر وكافر كامل الكفر والعداوة، وأصل شبهة أهل البدع عموما في الإيمان الخوارج والمعتزلة والمرجئة والجهمية والماتريدية والكرامية، شبهتهم أن الإيمان شيء واحد، فلا يزول بعضه ويبقى بعضه، ولا يزيد ولا ينقص، بل إذا زال زال جميعه، وإذا ثبت ثبت جميعه؛ لأنه الحقيقة المركبة، والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، لكن الخوارج والمعتزلة يقولون: الإيمان يتبعض ويتعدد، لكنه شيء واحد إذا زال بعضه زال جميعه، وهو جماع الطاعات كلها.
وقالت المرجئة المحضة الكرامية والجهمية والماتريدية: الإيمان لا يتبعض ولا يتعدد، بل هو شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، ولا يذهب بعضه ويبقى بعضه لأنه في القلب فقط، وذهب مرجئة الفقهاء إلى أن الإيمان متعدد ومتبعض، لأنه تصديق وقول، لكنه شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص إذ هو في القلب واللسان، وإذا ذهب بعضه ذهب جميعه، وذهب جمهور أهل السنة والسلف إلى أن الإيمان متعدد، وليس شيئا واحدا؛ لأنه قول وتصديق وعمل بالجوارح ويزيد وينقص ويزول بعضه، ويبقى بعضه، ويجتمع في القلب إيمان وكفر وطاعة ومعصية، وبهذا انفصلوا عن جميع الطوائف، وبهذا يتبين أن نزاع أهل البدع عموما مع أهل السنة عموما نزاع معنوي، يترتب عليه فساد في الاعتقاد والله أعلم.
هذا هو الصواب أن المؤمنين قسمان: قسم ولي لله كامل الولاية، وهو المطيع، وقسم عدو لله من وجه، وولي لله من وجه، وهو المؤمن العاصي هذا هو الصواب الذي عليه جمهور أهل السنة. نعم.
(وأكرمهم عند الله أطوعهم واتبعهم للقرآن)
نعم هذا أكرم، أكرم المؤمنين أطوعهم وأتبعهم للقرآن، قال الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقال عليه الصلاة والسلام (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) وفي لفظ (لا فضل لعربي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى) أو كما جاء في الحديث، فلا شك أن أكرم الناس عند الله أتقاهم وأكثرهم إيمانا واتباعا للقرآن وللسنة. نعم.
والإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى
نعم هذه أركان الإيمان وأصول الإيمان كما جاء في حديث جبرائيل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، قال (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره من الله) هذا هو الإيمان هذه أصول الإيمان وأركان الإيمان، من لم يؤمن بهذه الأصول، من ترك واحدا منها أو من جحد واحدا منها خرج من دائرة الإيمان، ودخل في دائرة الكافرين، ويتبع هذه الأصول جميع شرائع الإسلام، كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكل ما جاء به الكتاب والسنة، لا بد من العمل به الواجبات لا بد أن تؤدى، والمحرمات تترك. نعم.
ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله
هكذا شأن المؤمن يؤمن بجميع ما جاء في الشرع بجميع الرسل بجميع الكتب وبجميع الملائكة {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ} كلهم الأنبياء والرسل كلهم من عند الله حق أرسلهم الله، والملائكة حق والكتب المنزلة حق. نعم.
والبعث والنشور حق، والجنة والنار حق، وأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق. نعم.
(ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به)
نعم قل هكذا هكذا الإيمان الإيمان يدعو صاحبه إلي هذا، لا بد من الإيمان بذلك كله. نعم.
وأهل الكبائر من أمة محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في النار، لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون
نعم. هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة أن أهل الكبائر إذا ماتوا لا يخلدون في النار، بل هم تحت مشيئة الله كما قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الشرك غير مغفور، وما دون الشرك فهو تحت المشيئة، ومحل النزاع في هذا هو الكبيرة التي مات عليها صاحبها من غير توبة، أما الكبيرة التي تاب منها، ليست محل نزاع من تاب تاب الله عليه، التوبة تجب ما قبلها من تاب قبل الموت توبة صدوق نصوح قبل الله توبته عامة، التوبة حتى من الشرك الذي هو أكبر الكبائر، من تاب من الشرك من تاب من عقوق الوالدين من تاب من الزنا من تاب من السرقة، لكن حقوق الناس لا بد من أدائها، لا بد من إصلاح التوبة من أداء حقوق الناس، قال الله تعالى:{* قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } .
أجمع العلماء على أن هذه الآية في التائبين، أما قول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} هذه في غير التائبين، لأن الله سبحانه وتعالى خص الشرك بعدم المغفرة وعلق ما دونه بالمشيئة، أما الآية السابقة في سورة الزمر، فإن الله أطلق وعمم، فدل على أنها في التائبين. نعم.
لكن ما هي الكبيرة التي إذا مات عليها من غير توبة يتوعد بالنار؟ الصغائر إذا مات الإنسان على الصغائر، فإن الصغائر تكفر، إذا اجتنب الإنسان الكبائر إذا اجتنب المسلم الكبائر، وأدى الفرائض كفر الله الصغائر فضلا منه وإحسانا قال سبحانه:{إِنْ تَجْتَنِبُوا tچح! $t6ں2 مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} يعني الصغائر {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) } أما الكبيرة إذا مات عليها من غير توبة، فهذا تحت مشيئة الله، قد تغفر وقد لا تغفر.
والعلماء اختلفوا ما هي الكبيرة؟ اختلف العلماء في تحديد الكبيرة قال بعض العلماء: الكبائر سبع، وقال بعضهم: سبعة عشر، وقال بعضهم: الكبائر سبعون، وقيل سبعمائة، وقيل: لا تعلم الكبيرة أصلا، وقيل: إنها أخفيت كليلة القدر، وقيل: سميت كبائر بالنسبة، والإضافة إلي ما دونها، وقيل: كل ما نهي الله عنه فهو كبيرة، وقيل: الكبيرة ما اتفقت الشرائع على تحريمه، وقيل: الكبيرة هي ما يسد باب المعرفة بالله، وقيل: الكبيرة ما فيه ذهاب الأموال والأبدان، وقيل: الكبيرة -وهذا هو الصواب- الكبيرة هي ما يترتب عليها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة في النار أو اللعنة أو الغضب.
هذا أصح الأقوال أصح الأقوال في تعريف الكبيرة: ما ترتب عليها حد في الدنيا أو توعد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب، وألحق بعضهم نفي الإيمان، أو قيل فيه ليس منا أو برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم وأما الصغيرة، فقيل: الصغيرة ما دون الحد حد الدنيا وحد الآخرة، وقيل: الصغيرة كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار، وقيل: الصغيرة ما ليس فيه حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة، وهذا أرجح الأقوال، الصغيرة ما ليس فيه حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة.
والمراد بالوعيد الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب، وهذا التعريف للكبيرة، قلنا: إنه هو الراجح، الدليل على أنه هو الراجح، ترجح له مرجحات، أولا: أن هذا التعريف أو هذا الحد هو المأثور عن السلف كابن عباس وابن عيينة وأحمد بن حنبل وغيره، ثانيا: أن الله تعالى قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا tچح! $t6ں2 مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) } ولا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة باجتناب الكبائر، الثالث: أن هذا الحد يعني التعريف متلقى من خطاب الشارع فهو ضابط مرده إلي ماذا مرجعه إلي ما ذكره الله ورسوله من الذنوب.
رابعا: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، خامسا: أن هذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة كالشرك والقتل والزنا والسحر وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات مما فيه حد في الدنيا، ونحو ذلك كالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين واليمين الغموس وشهادة الزور، وغير ذلك مما فيه وعيد في الآخرة.
أما التعريفات السابقة، فكلها منتقدة، فمن قال: إن الكبائر سبع أو سبعة عشر أو سبعمائة أو سبعون، نقول: الجواب هذا مجرد دعوى وتحكم لا دليل عليه، ومن قال: إن الكبيرة لا تعلم أصلا أو أنها مبهمة أو أنها أخفيت كليلة القدر، نقول: إنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره، ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلي ما دونها، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، فإنه يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر، وهذا فاسد لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر.
ومن قال: الكبيرة هي ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت، يقتضي أن شرب الخمر والفرار من الزحف والتزوج ببعض المحارم والمحرم بالرضاعة والصهرية ونحو ذلك ليس من الكبائر، مع أنها من الكبائر؛ لأن الشرائع لم تتفق على تحريمها، وأن الحبة من مال اليتيم والسرقة لها، والكذبة الواحدة الخفيفة ونحو ذلك من الكبائر باتفاق الشرائع على تحريمها مع أنها من الصغائر، وهذا فاسد.
ومن قال: الكبيرة ما سد باب المعرفة بالله، أو قال: الكبيرة ذهاب الأموال والأبدان، فإنه يقتضي أن شرب الخمر وأكل الخنزير والميتة والدم وقذف المحصنات ليس من الكبائر مع أنها من الكبائر، وقد يقترن بالكبيرة ما يلحقها بالصغيرة، وقد يقترن بالصغيرة ما يلحقها بالكبيرة، فقد يقترن بالكبيرة من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغيرة، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبيرة.
وهذا أمر مرجعه إلي ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه. نعم.
(وأهل الكبائر من أمة محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في النار لا يخلدون)
هذا يريد الطحاوي ينتقد بقوله: وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، ناقش ابن أبي العز قال: قوله: "من أمة محمد" هذا يدل على أن أهل الكبائر قبل أمة محمد يعذبون في النار، وهذا ليس عليه دليل، بل النصوص دلت على أن الكبائر من هذه الأمة وغير الأمة لا يخلدون في النار، فقول الطحاوي: من أمة محمد، هذا القيد ليس عليه دليل، بل أهل الكبائر لا يعذبون سواء كانوا من أمة محمد أو من غير أمة محمد. نعم.
إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين
نعم، هذا قيد لا بد منه إذا مات لا بد يكون صاحب الكبيرة مات على التوحيد، أما من مات على الشرك، هذا لا حيلة فيه سد في وجهه باب الرحمة {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} والجنة عليه حرام، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} لكن من مات على التوحيد، ولم يقع في عمل
الشرك لكن مات على كبيرة من غير توبة، مات على الزنا، ولم يتب، مات على السرقة، ولم يتب، مات يتعامل بالربا، ولم يتب، مات على عقوق الوالدين، مات على قطيعة الرحم، مات على الغيبة والنميمة، مات.
هذا هو الذي تحت المشيئة بشرط أنه ما يستحلها، يعني يعلم أن الزنا حرام، لكن فعل الزنا غلبته الشهوة، يعلم أن الربا حرام، لكن فعل الربا حبا للمال، أما من استحل الربا، وأراد الربا حلال، أو الزنا حلال، أو عقوق الوالدين حلال، هذا كافر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله في تحريم هذا الأشياء، لكن من مات عليها، وما استحلها هذا هو الذي تحت المشيئة، نعم لا بد أن يكون موحدا، مات عليها من غير توبة، أما من تاب، تاب الله عليه، ومن مات على الشرك فلا حيلة فيه. نعم.
وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين
لا لا مؤمنين، هذه ما هي موجودة في النصوص، الصواب أنها ليست موجودة مؤمنين، بعد أن لقوا الله عارفين، قوله:"بعد أن لقوا الله" عارفين، هذه منتقدة، انتقد الطحاوي فيها، انتقده ابن أبي العز، قال: قوله: بعد أن لقوا الله عارفين، معناه أنك اكتفيت بالمعرفة، والمعرفة ما تكفي وحدها، كون إنسان يعرف ربه ما يكفي، هذا مذهب الجهم في الإيمان لا بد من المعرفة مع الإيمان، ولهذا يكون الطحاوي منتقدا بقوله: بعد أن لقوا الله عارفين، لو قال: بعد أن لقوا الله مؤمنين صحيح، أما أن يقول: بعد أن لقوا الله عارفين، إبليس عارف بربه، ولا تنفع المعرفة، والجهم عارف بربه.
ولكن أجيب عن هذا الاعتراض أجاب عنه الشارح، قال لعله يريد المعرفة التامة التي تستلزم الهداية. نعم.
وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
نعم هذا لا شك أن من مات على كبيرة من غير توبة من أهل الإيمان والتوحيد تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له بتوحيده وإيمانه وإسلامه، وأدخله الجنة، كما قال الله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وإن شاء ربنا سبحانه عذبه في النار، على قدر جرائمه، وقد تواترت النصوص بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر يعذبون، وأنهم مصلون، وأن النار لا تأكل جباههم موضع السجود، ويمكث فيها ما شاء الله، وبعضهم يطول مكثه بسبب شدة جرائمه وكثرتها، ويخرجون منها بشفاعة الشافعين.
ثبت أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع أربع مرات في كل مرة يحد الله له حدا فيخرجهم من النار، وثبت أن بقية الأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والشهداء يشفعون، وسائر المؤمنين يشفعون، والأفراد يشفعون، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة، فيخرجهم رب العالمين برحمته، يقول:(شفعت الملائكة وشفعت النبيين ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج قوما من النار لم يعملوا خيرا قط) يعني زيادة عن التوحيد والإيمان، ولا يبقى في النار أحد من المؤمنين، لكن بعضهم قد يطول مكثه مثل القاتل، أخبر الله أنه مخلد يعني يمكث مكثا طويلا مكثا خلودا له نهاية، خلود العصاة له نهاية، أما خلود الكفرة فلا نهاية له، خلود مؤبد نعوذ بالله، فإذا خرج العصاة كلهم يخرجون، ولو طال مكثهم بعد مدة يخرجون، فإذا تكامل خروج عصاة الموحدين من النار أطبقت النار على الكفرة بجميع أصنافهم، فلا يخرجون منها أبد الآباد بجميع أصنافهم اليهود والنصاري والوثنين والملاحدة والزنادقة والمنافقون في الدرك الأسفل، ولا يخرجون منها أبد الآباد، قال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) } وقال سبحانه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) } وقال سبحانه: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) } وقال سبحانه: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) }
ما يخرجون الكفرة أبد الآباد، نعوذ بالله إنما الذي يخرج عصاة الموحدين، وأما عصاة الموحدين، فإنهم إذا خرجوا يكونون فحما قد امتحشوا وصاروا فحما، فيلقون في نهر الحياة، يصب عليهم من الحياة، فينبتون كما تنبت الحِبَّة، يعني البذرة في حميل السيل، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، ويكتب في جباههم الجهنميون عتقاء الله من النار، ثم بعد مدة تمحى هذه الكتابة. نعم.
وإن شاء عذبهم في النار بعدله
نعم، الله سبحانه وتعالى، إن شاء غفر لهم بتوحيدهم وإيمانهم، وإن شاء عذبهم بعدله، إن شاء غفر لهم فضلا منه وإحسانا، وإن شاء عذبهم بعدله وحكمته، ولكن إذا عذبهم وهم ماتوا على التوحيد لا يخلدون، بل لا بد أن يخرجوا، ولو طال مكثهم. نعم.
ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته
نعم. يخرجهم منها بشفاعة الشافعين الأنبياء والملائكة والشهداء والأفراد وسائر المؤمنين، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة، يخرجهم رب العالمين برحمته. نعم.
ثم يبعثهم إلي جنته
نعم. يبعثهم إلي الجنة بعد أن ينبتون ويهذبون وينقون، يؤذن لهم بدخول الجنة. نعم.
الله تولى أهل الإيمان به
وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته.
يعني: تولي، وفي نسخة، وذلك بأن الله مولى أهل معرفته، وهذا منتقد كما سبق، لو قال: وذلك لأن الله تولى أهل الإيمان به ما تكفي المعرفة؛ لأن الجهم عارف بربه، وإبليس عارف بربه، ما تكفي المعرفة، وذلك بأن الله تولى أهل الإيمان به، فلو قال. كان أحسن: تولى أهل الإيمان به، أو تولى. نعم. أهل الإيمان به، أما أن يقول تولى أهل معرفته، لكن الإجابة لعله يريد المعرفة التامة، لكن بكل حال ينبغي أن يكون ذلك بأن الله تولى أهل الإيمان به. نعم.
ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته
كأهل نكرة ولم يجعلهم في الدارين، يعني في الدنيا والآخرة، ما جعل المؤمنين كأهل نكرة كأهل الجهل به، كذلك قوله: كأهل نكرة منتقد، لو قال: كأهل الكفر به؛ لأن من جهل ربه؛ لأن الكفر ليس هو الجهل فقط كما يقوله الجهم، الكفر يكون بالجهل وبغير جهل، بالجهل وبالمعاداة، وكما سبق وبالفعل وبالقول. نعم.
فهذا منتقد يعني قد يجر بعض المرجئة، ويقولون هذا مذهب المرجئة. نعم، هذا مذهب الجهم. نعم.
(ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته)
لو قال كأهل الكفر به أو كأهل الشرك به كان أحسن، الذين خابوا الذين أيش؟ .
الذين خابوا من هدايته.
نعم. لم يهدهم سبحانه وتعالى لحكمة بالغة، وهو الحكيم العليم سبحانه. نعم.
ولم ينالوا من ولايته
نعم، ما صاروا أولياء الله، بل صاروا أعداءه، الكفار أعداء الله،وليسوا أولياءه خابوا من هدايته، ولم ينالوا ولايته، خذلهم سبحانه وتعالى لحكمة بالغة، لما يعلمه فيهم، وأنهم ليسوا أهلا للاهتداء، وليسوا محلا لغرس الكرامة. نعم.
اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به
اللهم آمين، هذا دعاء، (اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به) قال بعضهم هذا ثابت، وقال بعضهم إنه موضوع، ولكن الصواب أن له أصلا، هذا الدعاء (اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به) .
ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
قبل أن نبدأ في حكم الصلاة خلف البر والفاجر، أحب أن أنبه على مسألة مرت بالأمس، وهي تتعلق بمن أتى ناقضا من نواقض الإسلام، وذلك أننا قلنا: إن المرجئة يقولون: لا يكفر إلا الجاحد بالقلب، قلنا: إن هذا خطأ، وأن الكفر يتنوع فيكون بالقلب والاعتقاد، ويكون باللسان بالقول، ويكون بالفعل، ويكون بالشك، ويكون بالترك، ولكن لا بد من شروط لمن يفعل الكفر حتى يحكم عليه بالكفر، لا بد من شروط.
قلنا: إن من شروطه العلم أن يكون عالما بما يقول، فإن كان جاهلا ومثله يجهل، فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة، ولا بد أيضا أن يكون مختارا، فإن كان مكرها فلا يكفر، إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ولا بد من القصد، فإن لم يقصد الفعل، فإنه لا يكون كافرا، لا بد أن يقصد السجود لصنم لا بد أن يقصد التكلم بكلمة الكفر، ولا يشترط أن يعتقد ذلك بقلبه، لكن لا بد من القصد، فإن قالها من غير قصد، فلا يكفر.
فمثلا المجنون ما عنده قصد، لو تكلم بكلمة الكفر لا يكفر السكران ليس عنده قصد، والصغير فاقد العقل ليس عنده قصد، الذي سبقت لسانه وهو لم يقصد الكلمة عن جهل كالشخص الذي قال:(اللهم أنت عبدي وأنا ربك) هذا ما قصد، فلا بد من هذه الشروط، والمرجئة يركزون على الآية {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} قالوا: لا بد من القلب فالجاهل لا بد فيه من القلب، والمكره لا بد فيه من القلب، والمتكلم لا بد فيه من القلب.
وهذا خطأ الكفر كما سبق يتنوع يكون بالاعتقاد كما لو اعتقد أن لله صاحبة وولدا، كما لو جحد ربوبية الله، أو جحد أسماءه أو جحد صفة من صفاته، أو جحد ألوهيته وعبادته، أو جحد تحريم الزنا أو تحريم الخمر أو تحريم الربا، وما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو جحد وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو وجوب الحج، كل هذا جاحد، لكن أيضا يكفر المتكلم بكلمة الكفر، ولو ما اعتقد بقلبه لو سب الله أو سب الرسول أو سب الدين أو استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه، كفر بهذا النطق ولو لم يقصد. المهم يقصد القول ولو لم يعتقد بقلبه، كذلك الفعل إذا سجد للصنم، ولو لم يقصد بقلبه.
المرجئة يقولون هذا دليل على الكفر، والصواب أنه نفس السجود، كفر لكن بشرط أن يقصد يكون له قصد،أما إذا لم يقصد الفعل، فإنه لا ينسب إليه القول إذن لا بد من القصد قصد الفعل، ولا بد من العلم ولا بد من الاختيار، فإذا وجدت هذه الشروط، فإنه يكفر الشخص سواء كان الكفر الذي فعله اعتقادا أو شكا أو نطقا أو فعلا أو تركا، كما لو ترك الدين لا يتعلم، ولا يعبد الله فيكفر بهذا الترك قال سبحانه:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) } .
أما هذه المسألة، وهي الصلاة خلف الفاسق، يقول الطحاوي رحمه الله:"ونوى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة"، هذه المسألة من أصول أهل السنة والجماعة، الصلاة خلف كل بر وفاجر، خلافا لأهل البدع، فإن أهل البدع لا يصلون خلف أئمة الجور، لا يصلون خلف الفساق لأن الفاسق كافر عند الخوارج، وعند المعتزلة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، وعند الرافضة أيضا لا يصلون خلف الفاسق؛ لأنهم لا يرون إلا الصلاة خلف المعصوم.
فإذن من أصول أهل السنة والجماعة الصلاة خلف الفسقة وأئمة الجور إذا كان ولاة الأمور فساقا أو جائرين، تصلى الجمعة والجماعة والعيد خلفهم، خصوصا إذا لم يكن هناك إمام غيرهم، كإمامة مثل الجمعة في البلد الذي ليس فيه إلا جمعة واحدة، وإمامة العيد وإمامة الحج بعرفة إذا لم يكن هناك إلا فاسق صحت الصلاة خلفه، بل تجب الصلاة خلفه ومن صلى وحده وترك الصلاة خلف الفاسق في هذه الحالة، فهو مبتدع عند أهل السنة والجماعة.
وهذا من أصول أهل السنة والجماعة التي خالفوا بها أهل البدع، ولذلك أدخلها العلماء في كتب العقائد الصلاة، هذه مسألة فرعية حكم الصلاة، لكن العلماء أدخلوها في كتب العقائد للرد على أهل البدع الخوارج والمعتزلة والرافضة لا يصلون خلف الفسقة وأئمة الجور؛ لأن الخوارج يكفرون الفاسق فلا يصلون خلفه.
والمعتزلة يقولون: خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر.
والرافضة لا يصلون إلا خلف الإمام المعصوم، فأهل السنة والجماعة يخالفون هؤلاء أما إذا لم يكن الإمام إمام الجمعة وإمام العيد، وليس إمام المسلمين إماما عاديا، وهو فاسق فهل تصلى خلفه، أولا تصلى خلفه إذا وجدت إماما فاسقا وإماما غير فاسق ثم صليت خلف الفاسق، وليس هناك ولا يترتب على هذا مفسدة يصلى خلف الفاسق في حالتين.
الحالة الأولى: إذا كان إمام المسلمين، وليس للناس إمام غيره يصلي خلفه الجمعة والعيد والحج بعرفة، ومن صلى وحده وترك الصلاة خلفه، فهو مبتدع عند أهل السنة، الثاني: إذا كان هناك إمام غيره، ولكن إذا تركت الصلاة خلفه ترتب على ذلك مفسدة، كأن يحصل انشقاق للمسلمين، ويحصل فتن وإحن، فهل في هذه الحالة تصلى خلفه، أما إذا كان هناك إمام غيره، ولم يحصل مفسدة وصليت خلفه وتركت الصلاة خلف العدل، فاختلف العلماء في صحة الصلاة وعدمها، فالحنابلة والمالكية يرون أن الصلاة غير صحية، وإذا صليت خلف الفاسق، فإن الصلاة باطلة وتعيد الصلاة.
وذهب الشافعية والأحناف إلي أن الصلاة صحيحة مع الكراهة، وهذا هو الصواب، الصواب أن الصلاة صحيحة مع الكراهة، والدليل على هذا ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يصلون لكم - يعني أئمة لكم - فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم) فهذا الحديث نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه على نفسه، وأما المأموم فليس عليه شيء من خطئه.
وكذلك أيضا ثبت عن الصحابة أنهم يصلون خلف الحجاج بن يوسف، وكان فاسقا ظالما وصلى الصحابة خلف عقبة بن أبي معيط، وكان أميرا للكوفة من قبل عثمان رضي الله عنه كان فاسقا يشرب الخمر حتى إنه صلى بهم مرة الفجر، وهو سكران فصلى بهم الصلاة أربعا، ثم التفت عليهم، فقال هل تريدون أن أزيدكم، فقال المسور مازلنا معك منذ اليوم في زيادة، ثم أعاد الصلاة، ورفع أمره إلي الخليفة، فجلده وعزله.
وكذلك أيضا ثبت في صحيح البخاري (أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان محصورا، قد أحاط به الثوار وأحاطوا ببيته لقتله هم فساق هؤلاء الثوار، ثم حضرت الصلاة فتقدم رجل من الثوار يريد أن يصلى بالناس فجاء شخص وسأل أمير المؤمنين عثمان فقال له: يا خليفة رسول الله يا خليفة، أيها الخليفة، يا أمير المؤمنين، إن الصلاة تقام الآن وسيصلي بنا رجل من الثوار، وهو فاسق فهل نصلي خلفه، فقال يابن أخي: إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإن أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم) هذه النصوص تدل على أن الصلاة خلف الفاسق صحيحة، ولا تعاد، ولكن لا شك أن الصلاة خلف العدل أولى.
وأما الذين قالوا: لا تصح فحجتهم في هذا أنهم قالوا: إن من صلى خلف الفاسق فقد أقره على المنكر الذي هو متلبس به، فتكون صلاته منهيا عنها فلا تصح؛ لأن الصلاة خلفه متلبسة بمنكر، لم ينه عنه فلا تصح الصلاة.
وأما الذين قالوا لا تصح، فحجتهم في هذا أنهم قالوا: إن من صلى خلف الفاسق، فقد أقره على المنكر، الذي هو متلبس به، فتكون صلاته منهيا عنها، فلا تصح؛ لأن الصلاة خلفه متلبسة بمنكر لم ينه عنه، فلا تصح الصلاة.
ولكن هذه المسألة، وهي كونه متلبسا بمنكر مسألة مهمة تحتاج إلى تقعيد، وهي القاعدة إذا عرفها طالب العلم استفاد فائدة عظيمة، وهي كون النهي المنهي عنه، هل هو متعلق بذات المنهي، أو بشيء خارج عنه؟ فإذا كان النهي متعلقا بذات المنهي، دل على فساد هذا المنهي عنه، وإذا كان النهي متعلقا بشيء خارج عن المنهي عنه؛ فإن الصلاة صحيحة هذا هو الذي عليه الحق، وعليه الجمهور.
نطبق هذه القاعدة: مثلا على الصلاة في الدار المغصوبة، شخص دخل في دار مغصوبة وصلى فيها هل تصح الصلاة أو لا تصح؟ أو شخص غصب ثوبا ولبسه وصلى فيه، أو شخص لبس ثوب حرير وصلى فيه، أو شخص حمل صورة وصلى فيها، هل تصح أو لا تصح؟ المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، كما سنقول. الحنابلة والمالكية يرون الصلاة باطلة؛ لأن الإنسان إذا صلى في ثوب مغصوب، أو في دار مغصوبة أو في ثوب عليه صورة الصلاة باطلة؛ لأنه متلبس بشيء منهي عنه. والقول الثاني: أن الصلاة صحيحة مع الإثم؛ لأن الصلاة اجتمع فيها شيء، فله ثواب الصلاة، وعليه إثم الغضب إذا صلى في دار مغصوبة نقول: لك ثواب الصلاة، وعليك إثم الغصب صل في ثوب حرير لك ثواب الصلاة، وعليك إثم الحرير صل في ثوب فيه صورة لك ثواب الصلاة، وعليك إثم الصورة. واضح هذا.
لكن لو كان النهي متعلقا بذات المنهي عنه، كما لو صلى في ثوب نجس، هل تصح الصلاة؟ لا تصح الصلاة؛ لأن الصلاة منهي عنها بالثوب النجس؛ لأنه يشترط لصحة الصلاة أن يكون الثوب طاهرا، والبقعة طاهرة، والجسم طاهرا، فإذا تلبست بالنجاسة ما صحت الصلاة؛ لأن هذا يتعلق بذات المنهي عنه، والصلاة منهي عنها إذا كان الإنسان متلبس بنجاسة.
طيب: ننظر في مسألتنا صلى خلف الفاسق، الذين قالوا لا تصح الصلاة خلفه قالوا؛ لأنه لم ينكر المنكر عليه. صلى عليه أقره على المنكر، والقول الثاني: يقولون: صحيح أقره على المنكر لكن إنكار المنكر ما يتعلق بالصلاة، يجب عليه إنكار المنكر في الصلاة وخارج الصلاة، فنقول له ثواب الصلاة، وعليه إثم ترك المنكر هذه القاعدة مفيدة، فمثلا الصلاة خلف الفاسق هل تصح أو لا تصح؟ الصواب أنها تصح خلف الفاسق لك ثواب الصلاة، وعليك إثم ترك إنكار المنكر، إذا كنت تستطيع واضح هذا كذلك لو صليت في ثوب فيه صورة، أو صليت في ثوب حرير، أو ما أشبه ذلك، وعلى هذا، فتكون إذا صلى الإنسان خلف الفاسق، فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم.
بعض أهل العلم يقولون لا تصح، الحنابلة يقولون، يقول صاحب الروض المربع: لا تصح الصلاة خلف الفاسق مطلقا، سواء كان فسقه من جهة الأفعال، أو الاعتقاد إلا في جمعة، وعيد تعذرا خلف غيره لقوله عليه الصلاة والسلام:(لا تؤمن امرأة رجلا، ولا أعرابي مهاجرا، ولا فاجر مؤمنا، إلا أن يقهره بسلطان، يخاف سوطه) كما لا تصح خلف كافر سواء علم بكفره في الصلاة، أو بعد الفراغ منها، وتصح خلف المخالف في الفروع.
قال صاحب الحاشية -العنقري رحمه الله: ولا تصح الصلاة خلف فاسق أي مطلقا، واختار الموفق والمجد اختصاص البطلان بظاهر الفسق، وقال في الفروع لا تصح إمامة فاسق مطلقا وفاقا لمالك، وعنه تكره، وتصح وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، كما تصح مع فسق المأموم، ومنه تعلم اتفاق العلماء على الكراهة، وإنما الخلاف في الصحة. واضح هذا.
وبهذا يتبين أن الصواب في هذه المسألة: صحة الصلاة خلف الفاسق مع الإثم في ترك إنكار المنكر، إذا كنت تستطيع ذلك أما إذا لم يوجد إلا هذا الإمام؛ فإنك تصلي خلفه، ولا كراهة باتفاق أهل السنة، ومن صلى وحده، وترك الصلاة خلف الفاسق في هذه الحالة، فهو مبتدع مخالف لأهل السنة والجماعة، يصلي وحده، ولا يصلي خلفه أما إذا وجد جماعة أخرى، ولا يترتب على هذا مفسدة، فهذا هو محل الخلاف والأئمة أقسام: مثلا الإمام مستور الحال.
وهو الذي لا يعلم منه بدعة وفجور، فالصلاة خلفه جائزة بالاتفاق، الصلاة خلف مستور الحال جائزة باتفاق الأئمة، ويجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة، ولا فسقا، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال الصلاة، خلف المبتدع الداعي إلى بدعته، والفاسق ظاهر الفسق من العلماء من فصل: فقال: إذا كان يدعوا إلى بدعته، فلا يصلى خلفه، وإذا كان لا يدعو صلى خلفه، وكذلك الفاسق إذا صار ظاهر الفسق، فلا يصلى خلفه، وإذا لم يكن ظاهر الفسق يصلى خلفه، والصواب أن الصلاة خلفه صحيحة بشرط أن تكون البدعة لا توصله إلى الكفر، وبشرط أن يكون الفسق ما يوصله إلى الكفر.
أما إذا كان الإمام كافرا، فلا تصح الصلاة خلفه بالاتفاق كالقبوري، الذي يدعو غير الله، ويذبح للأولياء، أو يطوف بالقبور، أو ينذر هذا لا تصح الصلاة خلفه بالإجماع، وإذا صلى خلفه؛ فإنه يعيد الصلاة، إذا كان الإمام كافر ما تصح هذا.
يوجد الآن إذا خرجت من المملكة تجد أئمة كفره، إمام يدعو غير الله إمام يدعو الأولياء، يطلب المدد، يذبح للقبور هذا كافر لا تصح الصلاة خلفه، مشرك لا تصح الصلاة خلفه بالإجماع، سواء علمت كفره في حال الصلاة، أو قبلها، أو بعدها، وإذا علمت؛ فإنك تعيد الصلاة ولو بعد مائة سنة، ما تصح الصلاة هذا الإمام الكافر أما إذا كانت بدعته وفسقه لا يوصله إلى الكفر، فهذا محل الخلاف.
والصواب أن الصلاة خلفه صحيحة لحديث البخاري (يصلون لكم؛ فإن أصابوا، فلكم ولهم، وإن أخطئوا، فلكم وعليهم) وهناك أحاديث ضعيفة -أيضا- مقوية حديث.. (صلوا خلف كل بر وفاجر) وحديث (الصلاة واجبة عليكم مع كل أمير برا كان، أو فاجرا، وإن عمل بالكبائر)(الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان، أو فاجرا، وإن عمل بالكبائر)(صلوا خلف من قال لا إله إلا الله)(وصلوا على من مات من لا إله إلا الله) هذه أحاديث ضعيفة، لكن العمدة على صحيح البخاري.
كذلك الآثار عن الصحابة في صحيح البخاري، أن عبد الله بن عمر كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف، وكذلك أنس بن مالك والحجاج كان فاسقا ظالما، وكذلك عبد الله بن مسعود وغيره يصلون خلف عقبة بن أبي معيط، وأيضا من المعنى أن الفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صلاة صحيحة، ومن صحت صلاته صحت الصلاة خلفه؛ ولأن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد، وتقليلها بحسب الإمكان، فإذا لم يمكن صرف الإمام الفاسق، أو المبتدع عن الإمامة إلا بشر أعظم من ضرر ما أظهر من منكر، فلا يجوز شرعا دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمها.
وأما الصلاة على من مات من الفسقة والفجار، كذلك الصواب أنه يصلى خلفهم، وما جاء من الآثار، وما جاء من النصوص في ترك الصلاة على بعض الفساق كقاتل نفسه وقاطع الطريق والغال، ومن عليه دين، فهذا إنما يترك الصلاة خلفه الأعيان والوجهاء والعلماء، لا يصلون خلفه ردعا للأحياء حتى لا يفعلوا مثل ذلك، وأما عامة الناس؛ فإنهم يصلون عليه، وكذلك الشهيد الصواب أنه لا يصلى على الشهيد؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دفن شهداء أحد بدمائهم وثيابهم ولم يصل عليهم، هذا هو الصواب الشهيد لا يصلى عليه يدفن بثيابه ودمائه، ولا يصلى عليه؛ لأن شهادته عند الله؛ لأن الشهيد له أجر عظيم ولأنه يأمن الفتنة، جاء في الحديث (كفي ببارقة السيف على وجهه فتنة) ويأمن من الفتان، يأمن من فتنة القبر، ولا يصلى عليه لكن ما عداه؛ فإنه يصلى على كل مسلم إلا إذا علم أنه كافر، أو علم أنه نفاق منافق نفاق أكبر هذا لا يصلى عليه، إلا إذا لم يعلم؛ فإنه يصلى خلفه أما ما جاء من النصوص من أنه لا يصلى خلف بعض المبتدعة، فهذا لا يصلي عليه الأعيان، ووجهاء الناس زجرا وردعا للأحياء، حتى لا يفعلوا مثل فعله، ولكن لا يصلي عليه عامة الناس. نعم.
ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم
نعم هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، خلافا لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والرافضة نعم.
الشهادة للإنسان بالجنة أو بالنار
ولا ننزل أحدا منهم جنة، ولا نارا.
نعم هذا معتقد أهل السنة والجماعة: أنه لا يشهد لا يحكم على الشخص المعين بجنة، ولا نار إلا من شهدت له النصوص، من شهدت له النصوص بأنه في الجنة نشهد له بالجنة مثل الأنبياء، مثل العشرة المبشرين بالجنة، مثل الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مثل بلال شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، مثل كذلك عكاشة بن محصن وغيرهم ممن ثبت له بالنصوص الشهادة بالجنة، فهؤلاء نشهد لهم بالجنة، وكذلك من شهدت لهم بالنار كأبي جهل وأبي لهب نشهد له بالنار، أما ما عداهم؛ فإننا نشهد للمؤمنين بالجنة على العموم، كل مؤمن في الجنة، ونشهد للكفار بالنار على العموم، كل كافر في النار، كل يهودي في النار، كل نصراني كل منافق في النار، كل وثني في النار، أما الشخص المعين، فلان ابن فلان ما نشهد له بالجنة، إلا ما شهدت له النصوص، وكذلك الشخص المعين الكافر، لا نشهد له بالنار إلا إذا علمنا أنه مات على الكفر، وقامت عليه الحجة، وليس له شبهة مات يعبد الأصنام، وعلمنا أنه قامت عليه الحجة، وعلم أن هذا وثنا، وأنه لا يجوز، فأصر هذا يحكم عليه بالنار.
يهودي قامت عليه الحجة، عرف أن بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يؤمن به، هذا نشهد له، أما إذا لم نعلم نشهد على العموم: كل كافر في النار، كل مؤمن في الجنة.
أما التعيين ما نشهد بالجنة إلا من شهدت له النصوص، ولا نشهد بالنار إلا لمن شهدت له النصوص أو لمن علمنا، أنه مات على الكفر، وليس له شبهة. نعم.
وأهل السنة بهذا يخالفون أهل البدع؛ فإن الخوارج يشهدون بالنار لكل فاسق: كل من ارتكب كبيرة يشهد الخوارج عليه بأنه في النار، هذا خلاف معتقد أهل السنة والجماعة، كذلك أيضا المعتزلة يشهدون لمن مات على الكبيرة أنه في النار، أنه خرج من الإيمان، ودخل في الكفر، فهذا -أيضا- يخالف معتقد أهل السنة والجماعة؛ ولذلك هذا هو الغرض من إدخال هذه المسألة في كتب العقائد. نعم.
فإذن منهج أهل السنة والجماعة يقفون في الشخص المعين، فلا يشهدون له بجنة أونار إلا عن علم؛ لأن الحقيقة باطنة، وما مات عليه لا نحيط به لكن نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء.
قاعدة: كل من رأيناه يعمل الصالحات، ورأيناه مستقيما على طاعة الله، نرجو له الخير من غير شهادة، ومن رأيناه يعمل السيئات والكبائر نخاف عليه من النار، ولا نشهد له بالنار. واضح هذا.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة، هم لا يقولون عن أحد معين إنه من أهل الجنة، أو من أهل النار إلا من أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، أو من أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار، وإن كانوا يقولون إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من يشاء الله إدخاله، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين.
وأقوال السلف في الشهادة بالجنة -كما سبق- ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يشهد لأحد بالجنة إلا الأنبياء، وهذا مروي عن الأوزاعي، ومحمد ابن الحنيفة، ودليل هذا القول أن الأنبياء معصومون، وأما المؤمن المشهود له بالجنة من غيرهم، فهو غير معصوم؛ لأنه يمكن ارتداده وكفره، فالشهادة له بالجنة معلقة بعدم ارتداده وكفره، فكانه قال: يدخل الجنة إلا إذا أرتد.
القول الثاني: أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث، وهذا هو الصحيح؛ لأنه ورد عن المعصوم، وأما ما لم يرد، فلا يجوز له الشهادة؛ لأنه غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله.
الثالث: أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص، ولمن شهد له المؤمنون.
واستدل هؤلاء بما في الصحيحين: أنه (مر بجنازة فأثنوا عليها بخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت، ومر بأخرى فأثني عليها بشر، فقال صلى الله عليه وسلم وجبت -وفي رواية كرر وجبت ثلاث مرات- فقال عمر: يا رسول الله، ما وجبت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) وقال صلى الله عليه وسلم (يوشك أن تعلم أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بم، يا رسول الله؟ قال بالثناء الحسن، والثناء السيء) .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الثناء الحسن والسيء مما يعلم به أهل الجنة من أهل النار، وأهل هذا القول قالوا: من شهد له عدلان بالخير، وأنه من أهل الجنة هذا دليل أن نشهد له بالجنة؛ لأن الله ما أنطقهم، وهم من أهل الخير بالشهادة إلا أنه من أهل الجنة، والصواب أنه لا يشهد إلا لمن شهدت له النصوص، وأن هذا خاص بالصحابة، الذين زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم. نعم.
ولا نشهد عليهم بكفر، ولا بشرك، ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى
كذلك -أيضا- المعين من أهل القبلة ما نشهد عليه بالكفر نقول: إنه كافر، ولا نشهد عليه بشرك نقول: مشرك، ولا نشهد عليه بنفاق أوبفسق، إلا إذا ظهر منه ما يدل على ذلك، إذا ظهر منه كفر شهدنا له بالكفر، ظهر منه شرك شهدنا له بالشرك، ظهر منه نفاق شهدنا له بالنفاق، ظهر منه فسق شهدنا له بالفسق أما إذا لم يظهر؛ فإننا نكل سريرته إلى الله نجريه على ظاهره وذلك؛ لأنا قد أمرنا بالحكم الظاهر، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم، وهذا من قواعد الشريعة العامة، وهو وجوب الحكم بالظاهر والأمر بأن تكل السرائر إلى الله تعالى؛ ولذلك نهى الله عن الظن.
ومن الأدلة على هذا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} ومن رمى أحدا بكفر، أو فسق، أو شرك، أو نفاق بغير دليل، فهو محقر له، ساخر منه، ومن الأدلة قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِن بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ووجه الدلالة أن من رمى إنسانا بكفر، أو فسق بدون شيء ظاهر منه، فهو ظن، والظن منهي عنه، ومن الأدلة قول الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) } ومن رمى أحدا بكفر، أو فسق، أو نفاق، أو شرك بغير دليل، فقد قفا ما ليس له به علم. نعم.
ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلا من وجب عليه السيف
نعم لا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف، يعني: لا نشهد على أحد بأن دمه هدر، وأن دمه حلال، وأنه مستحق للقتل إلا إذا فعل واحدة من ثلاث:
إذا زنى، وكان محصنا، وثبت عليه؛ فإنه يقام عليه الحد من قبل ولاة الأمور، يرجم بالحجارة حتى يموت، دمه هدر.
والثاني إذا قتل نفسا معصومة بغير حق، وثبت عليه في المحكمة الشرعية، ثبت عليه الحكم الشرعي بأنه زنى بعد إحصان، فهذا إذا ثبت عليه الشرع بأنه قتل نفسا معصومة بغير حق، فهذا إن ثبت عليه؛ فإنه يقتل من قبل ولاة الأمور، يقام عليه الحد قصاصا.
والثالث: إذا ارتد عن دينه، وثبت عليه الردة؛ فإنه يقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) ودليل ذلك ما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:(لا يحل دم امرئ مسلم يشهد: أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة) .
إذا فعل واحدة من ثلاث، فدمه هدر، زنى وكان محصنا، قتل نفسا معصومة بغير حق، ارتد عن دينه، يستحق القتل، دمه هدر، لكن من قبل ولاة الأمور بعد ثبوته عليه، ما كل أحد يقتل، وإلا صارت المسألة فوضى، ولو كان كل أحد يقتل بنفسه، صارت المسألة فوضى، وكل من عادى شخصا قتله، فإذا قيل لم قتلته قال؛ لأنه زان، أو لأنه قاتل، أو لأنه مرتد، لا هذا من قبل ولاة الأمور إذا ثبت من قبل ولاة الأمور؛ فإنه يقام عليه الحد من قبل ولاة الأمور، يقام عليه حد القصاص حد الزنا وحد الردة. نعم.
ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمرنا، وإن جاروا. ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة، أنهم لا يرون الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، ولو جاروا ولو ظلموا؛ لأننا لا نرى الخروج عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ولا نؤلب الناس على الخروج عليهم، وندعوا لهم، ولا ندعوا عليهم ندعوا لهم بالصلاح والمعافاة هذا معتقد أهل السنة والجماعة؛ ولهذا أدخله المؤلف رحمه الله في كتب العقائد.
إذن مذهب أهل السنة والجماعة، عدم الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، ولو جاروا، ولو ظلموا هذا من أصول أهل السنة والجماعة، عدم الخروج على الأئمة، ولو جاروا ولو ظلموا خلافا لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والرافضة.
الخوارج يرون الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، إذا عصى ولي الأمر يرون كفره وقتله، وإخراجه من الإمامة هذا من؟ مذهب الخوارج؛ لأنه يرونه كافرا إذا فسق ولي الأمر إذا شرب الخمر ولي الأمر، يقول الخوارج: هذا يجب قتله والخروج عليه، وإزالته من الإمامة؛ لأنه كافر، أو تعامل بالربا، أو ظلم بعض الناس بغير حق يقولون يجب الخروج عليه وقتله، وإخراجه من الإمامة هذا مذهب باطل هذا مذهب الخوارج، وكذلك المعتزلة يرون أن ولي الأمر إذا فسق، أو شرب الخمر يجب الخروج عليه؛ لأنه خرج من الإيمان ودخل في الكفر، ويخلدونه في النار.
وكذلك الرافضة يرون الخروج على ولاة الأمور للمعاصي؛ لأنهم يرون أن الإمامة باطلة هؤلاء الرافضة لا يرون الإمامة إلا للإمام المعصوم، وما عداه فالإمامة باطلة، ومن هو الإمام المعصوم عند الرافضة اثنا عشر إماما، اثنا عشر إماما نص عليهم الرسول عليه الصلاة والسلام كلهم من سلالة الحسين بن علي، يكون الإمام الأول الذي نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب، ثم نص على أن الخليفة بعده الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي، ثم الأئمة التسعة كلهم من سلالة الحسين: علي بن الحسين زين العابدين، محمد بن علي الباقر، جعفر بن محمد الصادق، موسى بن جعفر الكاظم، علي بن موسى الرضا، محمد بن علي الجواد، علي بن محمد الهادي، الحسن بن علي العسكري، ثم الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن الخلف الحجة المهدي المنتظر الذي دخل سرداب سامراء بالعراق سنة ستين ومائتين ولم يخرج إلى الآن.
هؤلاء الأئمة منصوصون معصومون، وما عداهم؛ فإمامته باطلة يجب خلعه، وإزالته عن الإمامة مع القدرة؛ فإذن يرون الخروج على كل إمام هذا معتقد الرافضة، يسمون الإمامة الاثنا عشرية، ويسمون الإمامية، ويسمون الرافضة، ويسمون الجعفرية هذه كلها أسماء لهم، يرون الخروج على ولاة الأمور؛ لأن إمامتهم باطلة، ولا تصح الإمامة إلا للإمام المعصوم، وهم هؤلاء الاثنى عشر، ويرون أن إمامة أبي بكر، وعمر، وعثمان باطلة يقولون إن هؤلاء إمامتهم باطلة؛ لأنهم ارتدوا وكفروا وفسقوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخفوا النصوص التي هي النص على أن الخليفة بعده علي، فيكون إمامة أبي بكر باطلة؛ لأنه جائر وظالم، وإمامة عمر باطلة؛ لأنه جائر وظالم، وإمامة عثمان باطلة؛ لأنه جائر وظالم، ثم وصلت النوبة إلى الخليفة الأول، وهو علي بن أبي طالب، وهذه هي الإمامة بحق.
إذن أهل السنة والجماعة لا يرون الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، خلافا لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والرافضة، والأدلة على هذا كثيرة، من الأدلة على أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} أمر الله بطاعة ولي الأمر والخروج عليه ينافي طاعته، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من أطاعني، فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله، ومن يطع الأمير، فقد أطاعني، ومن يعص الأمير، فقد عصاني) هذا فيه النهي عن عصيان ولي الأمر والأمر بطاعته، ولكن هذا عند العلماء مقيد بما إذا لم يأمر بمعصية، كما في حديث أبي ذر، ومن الأدلة حديث أبي ذر أنه قال:(إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدا حبشيا، مجدع الأطراف) وفي لفظ (ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة) ومن الأدلة: ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية؛ فإن أمر بمعصية، فلا سمع، ولا طاعة) .
هذا قيد لكل دليل عام يأمر بطاعة ولي الأمر، إذا أمر بمعصية ولي الأمر، بأن تشرب الخمر، ما تطيعه لكن لا تخرج عليه، ولا تؤلب الناس عليه، ولا تنزع يدا من طاعته لكن لا تطيعه في هذه المعصية، أمرك بالتعامل بالربا لا تطيعه أمرك بأن تقتل نفسا معصية لا تطيعه، الأمير أمرك بالمعصية لا تطيعه، والدك إذا أمرك بمعصية لا تطيعه، الزوجة إذا أمرها زوجها بمعصية لا تطيعه، العبد إذا أمره سيده بالمعصية لا يطيعه لا أحد يطاع في معصية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) لكن كونك لا تطيع ولي الأمر في معصية، ليس معنى ذلك أنك تتمرد عليه، وأنك تخرج عليه، وأنك تؤلب الناس عليه لا المعنى أنك لا تطيعه في هذه المعصية، لكن ما عداها تسمع له، وتطيع كذلك الولد لا يتمرد على أبيه لكن إذا أمره بالمعصية لا يطيعه في المعصية، وما عداها يطيعه، الزوجة لا تتمرد على زوجها لكن إذا أمرها بالمعصية لا تطيعه، لكن تطيعه فيما عدا ذلك، العبد لا يتمرد على سيده، لكن إذا أمره بالمعصية لا يطيعه، لكن يطيعه فيما عدا ذلك. واضح.
هذا ما أحد يطاع في المعاصي، المعاصي لا أحد يطاع فيها لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وقال عليه الصلاة والسلام (إنما الطاعة في المعروف) وثبت في صحيح البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وأمر عليها رجلا من الأنصار، فلما كان في بعض الطريق أغضبوه، أغضبوا أميرهم، فقال لهم: اجمعوا حطبا، فجمعوا حطبا، ثم قال: أججوها نارا، فأججوها نارا، ثم قال ادخلوا فيها، فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: أسلمنا، وجئنا إلى رسول الله خوفا من النار، فكيف ندخل في النار، فلم يدخلوا في النار، وتركوه حتى سكن غضبه، فلما وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه قال: لو دخلوا فيها، ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف) .
هذا أمر بمعصية، قال: ادخلوا النار، هذه معصية لا يجوز لإنسان أن يحرق نفسه، (لو دخلوا فيها ما خرجوا منها) هذا وعيد (إنما الطاعة في المعروف) .
ومن الأدلة حديث حذيفة الطويل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم، قلت: يا رسول الله، فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يأتيك الموت، وأنت على ذلك) .
ومن الأدلة حديث ابن عباس رضي الله عنهما (من رأى من أميره شيئا يكرهه، فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا، فمات فميتته جاهلية) وفي رواية، (فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) هذا الحديث دليل على أن الخروج على ولاة الأمور من كبائر الذنوب، حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما) ومن أقوى الأدلة على أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور، حديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح مسلم، انتبهوا للحديث حديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (خيار أئمتكم الذين تحبونهم، ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم) .
يعني: تدعون لهم، ويدعون لكم (وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم، ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابزهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة) هذا صريح، والحديث دليل على أن ترك الصلاة كفر؛ لأنه قال:(لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) فمفهومه أنهم إذا لم يقيموا الصلاة، فهم كفار، يجوز الخروج عليهم، ثم قال (ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة) صريح بأنك إذا رأيت من ولاة الأمور شيئا تكرهه تكره المعصية، ولكن لا تخرج على ولاة الأمور.
الحكمة من المنع من الخروج على ولاة الأمور، ولو فعلوا المعاصي، ولو فعلوا الكبائر، العلماء ذكروا هذه الحكمة، واستنبطوها من النصوص، وهذه الحكمة داخلة تحت قاعدة اجتماع المفاسد والمصالح، وأنه إذا القاعدة الشرعية، إذا وجد مفسدتان لا يمكن تركهما؛ فإننا نرتكب المفسدة الصغرى لدفع الكبرى، وإذا وجد مصلحتان لا يمكن فعلهما نفعل المصلحة الكبرى، وندفع المصلحة الصغرى.
فمثلا يترتب على الخروج على ولاة الأمور مفاسد، من هذه المفاسد أنه تحصل الفوضى والفرقة والاختلاف والتناحر والتطاعن والتطاحن، وإراقة الدماء وانقسام الناس واختلاف قلوبهم وفشل المسلمين، وذهاب ريح الدولة، ويتربص بهم الأعداء الدوائر، ويتدخل الأعداء، وتحصل الفوضى واختلال الأمن، وإراقة الدماء، واختلال الحياة جميعا واختلال المعيشة، اختلال الحياة السياسية، اختلال الحياة الاقتصادية، اختلال الحياة التجارية، اختلال التعليم، اختلال الأمن تحصل الفوضى، وتأتي فتن تأتي على الأخضر واليابس، أمور عظيمة، هذه مفسدة عظيمة، أي هذه المفسدة، هي كون ولي الأمر فعل مفسدة، ظلم بعض الناس، أو سجن بعض الناس، أو شرب الخمر، أو ما وزع بعض المال، أو حصل منه فسق هذه مفسدة صغيرة نتحملها، يتحملها المسلم في أي مكان، وفي أي زمان، لكن الخروج عليه هذه مفاسد يترتب عليها فتن تأتي على الأخضر واليابس، فتن ما تنتهي.
فالقاعدة قواعد الشريعة أتت بدرء المفاسد وجلب المصالح، وأتت بدرء المفاسد الكبرى وارتكاب المفاسد الصغرى، فكون الولي ولي الأمر حصل منه جور، أو ظلم، أو فسق هذه مفسدة صغرى لكن الخروج عليه يترتب على هذا مفاسد لا أول لها، ولا آخر واضح هذا وكذلك -أيضا- من الحكم أن ولاة الأمور إذا حصل منهم جور، فهذا نصبر عليهم، والصبر عليهم، فيه حقن لدماء المسلمين، ثم -أيضا- فيه تكفير للسيئات؛ لأن تسليط ولاة الأمور على الناس بسبب ظلم الناس، وبسبب فساد أعمالهم وكما تكونوا يولى عليكم، فإذا أراد الناس أن يدفع عنهم فساد ولاة الأمور، وأن يصلح الله لهم ولاة الأمور، فليصلحوا أحوالهم.
ارجع إلى نفسك، أصلح نفسك تب إلى ربك، ولاة الأمور ما سلطوا عليك إلا بسبب معاصيك، كما قال سبحانه وتعالى فإن الله ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد بالاستغفار والتوبة، وإصلاح العمل كما قال الله تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وجور الولاة وظلم الولاة بسبب كسب الرعية، فإذا أراد الرعية أن يصلح الله لهم ولاة الأمور، فليصلحوا أحوالهم؛ وليتوبوا إلى ربهم، وقد قال الله عز وجل لخيار الخلق، وهم الصحابة أفضل الناس بعد الأنبياء، قال الله لهم في غزوة أحد:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} .
لما حصلت النكسة والهزيمة على المسلمين في غزوة أحد، وقتل منهم سبعون قالوا كيف؟ يحصل هذا كيف يقتل من قال الله تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} في بدر أنتم في أحد قتل منكم سبعون، لكن في بدر أصبتم مثليها قتلتم سبعين وأسرتم سبعين {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} يعني: في أحد {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} في بدر {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} من أين جاءنا {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} من عند أنفسكم بسبب المعصية، التي حصلت من الرماة، لما أخلوا بالموقف، فإذا كان خيار الناس بعد الأنبياء يقال لهم {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} فكيف بنا الآن؟ المصيبة التي حصلت على المسلمين في غزوة أحد يقول لهم الرب:{مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} .
فكذلك نحن إذا أصابتنا مصيبة من جور الولاة، من عند أنفسنا، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) } وجه الدلالة أن هذه الآية دلت على أن جور الولاة، بما كسبت أيدي الرعية، فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير، فليتركوا الظلم.
وعن مالك بن دينار: أنه جاء في بعض كتب الله، أنا الله مالك الملك قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني، جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني، جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، لكن توبوا أعطفهم عليكم.
فهذا المعنى صحيح، وإن كان إسرائيلي، وبعض الأئمة يقولون: له أصل، هذا الأثر، وعلى كل حال، فالخلاصة من هذا: أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور، مهما فعلوا من المعاصي والمنكرات، لكن النصيحة مبذولة من قبل أهل الحل والعقد، من قبل العلماء، هؤلاء ينصحون ولاة الأمور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (أن الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم) لكن هذه المعصية، وهذا الجور لا يوجب الخروج بحال على الأئمة؛ لأن الخروج عليهم؛ لأنه من فعل أهل البدع من عقيدة أهل البدع من الروافض والخوارج والمعتزلة، فلا يجوز للمسلم أن يوافق الخوارج في معتقدهم، ولا أن يشابههم في أفعالهم.
قال العلماء، ولا يجوز الخروج على ولي الأمر إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يقع منه كفر بواح، ومعنى كفر بواح يعني كفر واضح، لا لبس فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر (إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان) موصوف بثلاثة أوصاف: كفر بواح عندكم من الله فيه برهان. إذا كان المسألة فيها لبس أو فيها شك أو فيه اختلاف، لا يجوز الخروج لا بد أن يكون كفر، واضح صريح، لا لبس فيه عندكم من الله فيه برهان، هذا الشرط الأول أن يفعل ولي الأمر كفرا بواحا صريحا واضحا عندنا من الله فيه برهان.
الشرط الثاني: أن يوجد البديل بأن يستطيع المسلمون أن يزيلوا ولي الأمر الكافر، ويولوا بدلا منه مسلما صالحا، أما إذا كان مثلا يزال كافر، ويؤتى بدله بكافر ما حصل المقصود، وكذلك -أيضا- بشرط القدرة يكون عندك قدرة على الخروج، أما إذا كان ما عندك قدرة، إذا خرجت تقتل، فلا حاجة إلى الخروج وكذلك إذا كان ما هناك ما يوجد بديل مثل الثورات الآن، ومثل الجمهوريات يحصل انقلاب من دولة كافرة، ويأتي دولة كافرة ما حصل المقصود، واضح هذا.
إذن لا يجوز الخروج على ولي الأمر المسلم بحال من الأحوال، ولو فعل الكبائر والمنكرات، لكن النصيحة مبذولة والدعاء له، يدعى له كما سمعنا إن دعونا بالسنة يدعى لهم بالصلاح والمعافاة، ادعوا لولاة الأمور بالصلاح والمعافاة، ولا يجوز خلعهم بحال إلا إذا كفر كفرا بواحا صريحا عندنا من الله فيه برهان، ووجدت القدرة ووجد البديل المسلم البديل، أما إذا لم يوجد قدرة، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ما عند الناس قدرة على الخروج، تصبر حتى ولو كان كافرا، وتطالب بحقك، ولو كانت الدولة كافرة، والشرط الثاني: أن يوجد البديل المسلم أما إذا كان يزال كافر، ويؤتي بدله كافر ما حصل المقصود، ونحن والحمد لله قد وفق الله هذه البلاد لولاة مسلمين تحكم بشرع الله، وهذا من نعم الله علينا، وعلى هذه البلاد، فنسأل الله أن يديم علينا نعمة الأمن والإسلام، وأن يوفق الله ولاة أمورنا لكل خير وصلاح، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، وأن يعيذهم من شرور أنفسهم، ومن سيئات أعمالهم، وأن يرزقنا جميعا النصح لهم والدعاء لهم، ومحبة الخير لهم، إنه على كل شيء قدير. نعم.
ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمرنا، وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة، لا نرى الخروج على الأئمة، وإن جاروا يعني: وإن ظلموا، ولا ننزع يدا من طاعتهم ما ننزع يدا من طاعتهم لا بالقول، ولا بالفعل، ما نؤلب الناس عليهم، ولا نتكلم في المنابر نقول للناس: كذا أو فعل ولاة الأمور كذا، أو اخرجوا عليهم؛ لأن هذا من أسباب الخروج، لما تكلم الثوار الذين انتقدوا أمير المؤمنين عثمان، تكلموا قالوا: إنه حصل كذا وحصل كذا وقرب أولياءه، وأتم الصلاة في السفر، وخفض صوته في التكبير وأخذ الزكاة على ...... وصاروا ينشروا المعايب أمام الناس، تجمع السفهاء في الكوفة وفي البصرة وفي مصر، وجاءوا وأحاطوا ببيته وقتلوه بسبب الكلام، وتأليب الناس، فلا يجوز الخروج لا بالقول، ولا بالفعل لا بقتالهم بالسيف، ولا بالكلام، وتأليب الناس للخروج عليهم، بل ندعوا لهم بالصلاح والمعافاة، وندعوا لهم بصلاح البطانة. والنصيحة مبذولة من قبل أهل الحل والعقد، ويخاطب ولاة الأمور بما يليق بهم من الخطاب، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة. نعم.
ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية
نعم نرى طاعتهم من طاعة الله؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} يعني: أولي الأمر منكم إذا أمروا بالطاعة، فطاعتهم من طاعة الله ما لم يأمروا بمعصية، هذا قيد إذا أمروا بمعصية، فلا نطيعهم في هذه المعصية، خاصة لا أحد يطاع في المعاصي لا الأمير، ولا الملك، ولا رئيس الدولة، ولا الزوج، ولا الأب، ولا السيد ما أحد يطاع في المعاصي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ولقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الطاعة في المعروف) لكن ليس معنى ذلك التمرد عليه، لا معنى ذلك أن هذه المعصية لا نطيعه فيها، وما عدا ذلك نطيعه. نعم.
وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة
وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة، ندعوا لهم بالصلاح.
روي عن الإمام أحمد أنه قال: لو علمت دعوة صالحة لصرفتها للسلطان؛ لأن بصلاحه تصلح الرعية، وهذا فيه الرد على من قال، إنه لا يدعو لولاة الأمور، هذا غلط هذا ذكره العلماء في عقائدهم، كالطحاوي وغيره من عقيدة أهل السنة والجماعة الدعاء لولاة الأمور، بالصلاح والمعافاة. نعم.
الحديث الذي في صحيح مسلم (خيار أئمتكم الذين تحبونهم، ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم، ويلعنونكم، قلنا يا رسول الله: أفلا ننابزهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة) رواه الإمام مسلم في صحيحه. نعم.
ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة
هذا معتقد أهل السنة والجماعة، أن اتباع السنة والجماعة واجتناب الشذوذ والخلاف والفرقة، والمراد بالسنة طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يسير عليها من قول، أو فعل، أو تقرير، والجماعة هم المسلمون، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، فاتباعهم هدى وخلافهم ضلال، والشذوذ الخروج عن الجماعة، والخلاف ضد الوفاق، وهو عدم الاتفاق في الرأي والفعل، والفرقة ضد الوحدة، والوحدة ضد التفرق، والأدلة..، ومن مميزات الجماعة السير على كتاب الله وسنة رسوله، والتحاكم إليهما، ورد المتشابه إلى المحكم عند العلم به، وإلا وكل إلى عالمهم هذه هي الفرقة الناجية، وأما غيرها، فمن مميزاتها اتباع المتشابه، وتأويله بما يناسب أهواءها، والأدلة على هذا كثيرة على اتباع السنة والجماعة.
من الأدلة قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) } دلت الآية على أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من السنة محبة الله، فهو دليل لاتباع السنة قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } دلت الآية على الوعيد على من خرج عن الجماعة، وهو دليل للتحذير من الشذوذ قال تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) } فهو دليل لاتباع السنة في قوله: {أَطِيعُوا} ودليل للتحليل من الشذوذ في قوله: {فَإِن تَوَلَّوْا} وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فهو دليل لاتباع السنة في قوله: {فَاتَّبِعُوهُ} ودليل للتحذير من الشذوذ في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} فهذا أمر بالجماعة واتباع للسنة، ونهي عن الشذوذ والتفرق، وقال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) } .
فهو ذم للتفرق والاختلاف والشذوذ، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) } ذم للتفرق والشذوذ وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} الآية مدح للجماعة في المستثنى، وذم للاختلاف في المستثنى منه، حيث جعل أهل الرحمة مستثنين من الخلاف، وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) } فهو ذم للاختلاف والشذوذ.
ومن السنة حديث ابن عباس (من رأى من أميره شيئا يكرهه، فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا، فمات فميتته جاهلية) وفي رواية: (فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) وقال صلى الله عليه وسلم (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) وفي رواية (قالوا ما هي يا رسول الله؟ قال ما أنا عليه وأصحابي) .
ووجه الدلالة: بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين إلا أهل السنة والجماعة، وأن الاختلاف واقع لا محالة، ومن الأدلة حديث معاذ بن جبل (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم بالشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد) فقد نهى عن التفرق، وأمر بلزوم الجماعة والسواد الأعظم، ونهى عن الشعاب، وتسمى بنيات الطريق؛ لأنها مولدة من انفصال الولد عن أمه.
والواجب على المسلم عند اختلاف الأمة، الواجب عليه: لزوم جماعة المسلمين، والدليل على هذا حديث حذيفة الطويل، وفيه تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم وحديث العرباض بن سارية؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نصحه عند اختلاف الأمة بالتزام سنته وسنة الخلفاء الراشدين، حيث قال العرباض بن سارية رضي الله عنه (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع -لأنها حارة خالصة، ولها أثر في النفس- فماذا تعهد إلينا، فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) .
وهو دليل الوجوب اتباع السنة في قوله: (عليكم بسنتي) ولزوم الجماعة في قوله: (أوصيكم بالسمع والطاعة) وللتحذير من الشذوذ في قوله: (وإياكم ومحدثات الأمور) . نعم.
ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغص أهل الجور والخيانة
نعم هذا من أصول أهل السنة: محبة أهل العدل والأمانة، وبغض أهل الجور والخيانة، ومن أصولهم اجتماع الحب والبغض، للشخص الواحد خلافا لأهل البدع ولمرجئة الفقهاء، فمن أصول أهل السنة: محبة أهل العدل والأمانة، وبغض أهل الجور والخيانة، وكذلك اجتماع الحب والبغض في الشخص الواحد، فمن كمال الإيمان، وتمام العبودية محبة أهل العدل وبغض أهل الجور، إذ أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، والعبادة لها ركنان ركني العبادة: كمال المحبة، ونهايتها، وكمال البغض، ونهايته.
المحبة الخاصة بالله ما تتضمن ركني العبادة: كمال الحب وكمال الذل، ومعنى الحب والبغض في الله هو أن يحب العبد، أو الفعل، أو الحكم لا يحبه إلا لأجل الله، كحبه للشريعة وللشخص المستقيم، فيجب الحكم، وهو وجوب الصلاة، ويجب الفعل، وهو أفعال الصلاة، والبغض في الله: بغض ما يبغضه الله لا يبغضه إلا لأجل الله كبغضه للشخص الفاسق المنحرف، وكبغضه حل الخمر، ويبغض الفعل، وهو شرب الخمر، والفرق بين محبة الله والمحبة مع الله، أن المحبة في الله هي محبة غير الله لأجل الله، مثال محبة الشخص المستقيم بحكم الشرع في وجوب الصلاة وفعل الصلاة، وأما المحبة مع الله كحبه لله، المحبة مع الله أن يحب غير الله كحبه لله، مثل محبة المشركين لأصنامهم، وحكمها شرك، والدليل قول الله تعالى:(إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) . نعم. وهذا بحثها يطول. نعم.
ونقول: "الله أعلم" فيما اشتبه علينا علمه
هذا معتقد أهل السنة والجماعة، موقفهم من النصوص المتشابهة والمحكمة، موقف المسلم من النصوص المتشابهة والمحكمة، المتشابه يفوضون أمره إلى الله، ومثاله المغيبات: مثل كنه الذات ذات الرب، وكنه الصفات، وكنه نعيم الآخرة، هذا متشابه نفوض إلى الله ما نعلم كنه الرب، ولا كنه الصفات، ولا كنه حقائق الآخرة، نفوض الأمر إلى الله، وأما المحكم؛ فإنه يفسر، ويعلم، ويبلغ، ويعمل به يعني: يعمل بما يعرف منه مثل إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج والصوم، وأشباه ذلك.
الأدلة من الكتاب على ذم القول في الدين بغير علم:
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} .
وجه الدلالة: أن الله ذم من اتبع هواه، ومن تكلم بغير علم؛ فإنما يتبع هواه.
وجه الدلالة: أن الله ذم المجادل بغير علم؛ لأنه قال في الدين بغير علم.
وجه الدلالة: أن الله ذم المجادلين في آيات الله بغير علم.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } .
وجه الدلالة: أن الآية دلت على تحريم القول على الله بغير علم، وكذلك قول الله تعالى:{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} .
ومن السنة، الأدلة على السنة على رد علم ما لم يعلم إلى الله:
الأدلة كثيرة من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أطفال المشركين قالوا: الله أعلم بما كانوا عاملين، وقال عمر رضي الله عنه (اتهموا الرأي في الدين، فلو رأيت اليوم أبا جندل، فلقد رأيتني، وأني لأرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي فأجتهد، ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال: اكتب باسمك اللهم، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب وأبيت، فقال: يا عمر تراني قد رضيت، وتأبى؟) وقال أيضا: السنة ما سنه الله ورسوله، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمور، وقال أبو بكر رضي الله عنه أي أرض تقلني وأي سماء تظلني، إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم. قال أبو بكر رضي الله عنه حينما نزلت به قضية، فلم يجد في كتاب الله فيها أصلا، ولا في السنة أثرا فاجتهد برأيه، ثم قال هذا رأيي؛ فإن يكن صوابا يكن من الله، وإن يكن خطأ، فمني وأستغفر الله.
كل هذه الأدلة تدل على أن المسلم موقفه من النصوص المتشابهة، يرد علمها إلى الله والمحكم يفسر، ويعلم، ويعمل به على حسب ما جاء في النصوص. نعم.
ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر
هذا من معتقد أهل السنة والجماعة، قال: ونرى المسح على الخفين في الحضر والسفر كما جاء في الأثر.
لماذا أدخل المسح على الخفين في كتب العقائد، وباب العقائد..المسح على الخفين مسألة فرعية في كتب الفقه، ولكن العلماء أدخلوا المسح على الخفين في كتب العقائد؛ للرد على بعض أهل البدع، الذين لا يرون المسح على الخفين، فصار عقيدة من عقائد أهل السنة يخالفون فيها أهل البدع؛ ولذلك قال: ونرى، ونرى يعني: ونعتقد.
قال المصنف -الطحاوي-: ونرى يعني: ونعتقد هذه عقيدة أهل السنة، ونرى يعني: ونعتقد المسح على الخفين في السفر والحضر، أراد المصنف بهذا الرد على بعض المبتدعة، وهم والرافضة الذين لا يرون المسح على الخفين لا في السفر، ولا في الحضر، وهذه المسألة الخلاف فيها قوي بين أهل السنة والرافضة، فأهل السنة يرون وجوب غسل الرجلين في الوضوء إذا كانتا مكشوفتين، ويرون المسح على الخفين إذا كانتا مستورتين بالخف، أو بالجورب بالشروط إذا لبسهما على طهارة.
والرافضة لا يرون غسل الرجلين المكشوفتين، ولا يرون المسح على الخفين المستورتين بالخف، بل الرافضة يوجبون مسح ظهور القدمين إذا كانت الرجلان مكشوفتين، قالوا يمسحان كما تمسح الرأس، يمسح على ظهر الرجل، وإذا كان فيهما خف وجب نزع الخف وخلعه وخلع الجورب، ومسح ظهور القدمين.
فإذن الرافضة ينكرون غسل الرجلين المكشوفتين، وينكرون المسح على الخفين؛ فلهذا جعل أهل السنة من عقيدتهم عقيدة المسح على الخفين، فإذا عقيدة أهل السنة غسل الرجلين المكشوفتين، ومسح الخفين المستورتين بالجوربين، أو بخفين إذا لبسهما على طهارة، وكان الخف، أو الجورب ساترا للمفروض. واضح هذا؟.
أهل السنة استدلوا بالقرآن وبالسنة على هذا، أما القرآن، فاستدلوا بآية المائدة، وهي قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} استدلوا بقراءة النصب في أرجلكم، قالوا: وأرجلكم معطوفة على الأيدي والوجوه والأيدي، والوجوه مغسولة والعطف على المغسول مغسول، والمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برءوسكم، لكن الله أدخل المسح الممسوح بين المغسولات للدلالة على الترتيب، هذا من أدلة العلماء على وجوب الترتيب في الوضوء، لولا أن الترتيب واجب لما أدخل الله الممسوح بين المغسولات، لو كان الترتيب غير واجب لقال الله: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برءوسكم، لكن الله أدخل الممسوح بين المغسولات للدلالة على وجه الترتيب.
الدليل الثاني لأهل السنة: السنة المتواترة، فالذين نقلوا كيفية الوضوء غسلا، ومسحا قولا وفعلا أكثر عددا من الذين نقلوا لفظ الآية، وهي آية المائدة.
بيان ذلك: أن الذين يتوضئون، والذين نقلوا كيفية الوضوء عن النبي صلى الله عليه وسلم غسلا للرجلين المكشوفتين، ومسحا على الخفين حضرا وسفرا أكثر من الذين نقلوا لفظ الآية، وذلك أن كل مسلم يتوضأ، كل واحد من الصحابة يتوضأ، والذي يتوضأ نقل الوضوء إما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة، وإلا نقله عنه، ولكن ليس كل واحد يحفظ الآية، وكل واحد يتوضأ، كل واحد نقل كيفية الوضوء، وليس كل أحد يحفظ الآية، فتبين أن الذين نقلوا كيفية الوضوء غسلا، ومسحا، قولا وفعلا أكثر عددا من الذين نقلوا لفظ الآية، فلو جاز الطعن فيهم، لجاز الطعن فيمن نقل لفظ الآية، لكن لا يجوز الطعن في نقل لفظ الآية؛ لأن القرآن متواتر، فلا يجوز الطعن في نقل كيفية الوضوء من باب أولى، واضح هذا؟.
إذن: دليل أهل السنة الآية الكريمة والسنة المتواترة.
دليل الرافضة: الرافضة استدلوا بآية الوضوء وقراءة الجر، قالوا: دليلنا قراءة الجر؛ فإن الآية قرئت: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} قالوا هذه قراءة، وهي قراءة صحيحة وأرجلِكم مكسورة، فهي معطوفة على الرءوس، والرءوس ممسوحة، فتكون الرجلان ممسوحتان، وعلي هذا قال الرافضة: إن أعضاء الوضوء أربع الوجه واليدان والرأس والرجلان.
عضوان مغسولان: وهما الوجه واليدان، وعضوان ممسوحان: وهما الرأس والرجلان، فيمسحون الرءوس، يعني: الرءوس تمسح اليدان مبلولتان بالماء تمسح الرءوس، ثم تبل اليدان بالماء، وتمسح، ويمسح ظهور القدمين عند الرافضة، قالوا: دليلنا الآية.
قال لهم أهل السنة، أجاب أهل السنة عن استدلالهم بجوابين:
الجواب الأول: قالوا: نحمل قراءة الجر على المسح على الخفين، ونحمل قراءة النصب على غسل الرجلين مكشوفتين؛ لأن القراءة مع القراءة كالآية مع الآية، قالوا عندنا قراءتان قراءة النصب {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} قراءة النصب محمولة على غسل الرجلين المكشوفتين، وقراءة الجر {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} محمولة على المسح على الرجلين المستورتين بالخف، أو الجورب فعلى هذا قراءة النصب محمولة على غسل الرجلين المكشوفتين، وقراءة الجر محمولة على المسح على الخفين.
الجواب الثاني: التوسع في لفظ امسحوا؛ فإن لفظ امسحوا في اللغة العربية يشمل المسح، ويشمل الغسل، ومعنى امسحوا المسح: يطلق على الغسل، يطلق على الإسالة والإفاضة وصب الماء، ويطلق على المسح كما تقول العرب: تمسحت للصلاة، تمسحت: يعني توضأت بالماء، فالمسح يطلق ويراد به الصب والإفاضة، ويطلق، ويراد به المسح، فنقول: إن كلمة امسحوا في اللغة العربية يشمل الأمرين، فنقول: امسحوا برءوسكم إصابة إصابة، وامسحوا بأرجلكم إسالة، وإفاضة، وكلمة امسحوا في اللغة العربية شاملة للأمرينن، كما تقول العرب تمسحت للصلاة؛ لأن امسحوا: المسح في اللغة العربية يطلق على الغسل، ويطلق على المسح الخاص، فالمعنى امسحوا برءوسكم إصابة بإمرار اليدين على العضو مبلولة بالماء، وامسحوا برءوسكم إسالة وصبا للماء، الرافضة ماذا أجابوا على قراءة النصب؟
الرافضة قالوا: نجيب على قراءة النصب {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} قالوا: أرجلكم معطوفة على محل برءوسكم؛ لأن رءوسكم محلها النصب إذا نزعت الخافض، الأصل {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فإذا حذفت الباء صارت وامسحوا رءوسكم، قال الرافضة: نقول: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} معطوفة على محل رءوسكم، والمعطوف على المنصوب منصوب.
أجاب أهل السنة: بأن العطف على المحل لا يجوز إلا إذا لم يتغير المعنى، وهنا يتغير المعنى، لا يجوز لغة العطف على المحل، شرطه أن لا يتغير المعنى إذا اختل المعنى، فلا يجوز، وهنا يختل المعنى إذا حذفت الباء تغير المعنى؛ لأن الباء تفيد معنى زائدا على المسح، وهو إمرار اليد على العضو مبلولة بالماء؛ لأن الباء للإلصاق، والمعنى ألصق بيدك شيئا من الماء، ثم امسح به الرأس، فإذا حذفت الباء وقلت: امسحوا رءوسكم دلت على أنك تمسح الرأس بدون ماء، وهذا يغير المعنى، وإذن، فلا يصح. أما لو كان لا يتغير المعنى، فيصح، ومثال ذلك قول الشاعر:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا ***...................
الباء زائدة هنا يجوز أن تعطف على المحل، وتذكر المعنى، فلسنا الجبال، ولا الحديدان لكن الباء في الآية الكريمة ليست زائدة، بل هي تفيد معنى زائدا، وهو الإلصاق، وهو أن تلصق شيئا من الماء بيدك، فتمرها على الرأس، فإذا حذفت الباء تغير المعنى، وصار المعنى إمرار يدك على الرأس بدون ماء، وبهذا يبطل دعوى الرافضة.
والرافضة يقولون: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} يقولون: المراد بالكعبين في كل رجل كعب واحد، وهو العظم الذي هو مجتمع الساق والقدم في ظاهر القدم، وأما أهل السنة فيقولون في كل رجل كعبان، وهما العظمان الناتئان من جانب القدم، كل رجل كعبان، لو نظرت إلى رجليك الآن تجد عظمين ناتئين من اليمين، ومن الشمال العظمان الناتئان، هما الكعبان، الرافضة أنكروا أن يكون في كل رجل كعبان.
قالوا: ليس في كل رجل إلا كعب واحد، ما هو هو هذا العظم الذي بين مجتمع الساق والقدم، وهو عظم خفي ليس بارزا، لكن قال العلماء هذا غلط ليس في كل رجل كعب، بل في كل رجل كعبان بدليل القاعدة المعروفة اللغوية التي تقول: مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا.
معنى هذه القاعدة مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، المرافق قال الله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} قابل الجمع بالجمع، أيدي جمع والمرافق جمع، فقابل الجمع بالجمع، فالقسمة تقتضي آحادا تقتضي أن لكل يد مرفق، قابل الجمع بالجمع، أيديكم إلى المرافق، المرافق مجموعة، والأيدي مجموعة.
عند القسمة: كل يد لها مرفق، لكن هل قال في الرجلين، وأرجلكم إلى الكعاب، أو قال إلى الكعبين؟ إلى الكعبين. لو كان في كل رجل كعب كما تقول الرافضة لقال الله وأرجلكم إلى الكعاب؛ لأن مقابلة القسمة بالقسمة تقتضي آحادا، فلما قابل الله الجمع بالتثنية، دل على أنه في كل رجل كعبان، وفي كل يد مرفق. واضح هذا؟.
وبهذا يبطل مذهب الرافضة في القول في وجوب مسح ظهور القدمين، وعدم وجوب المسح على الخفين، والصواب ما عليه أهل الحق من أن الرجلين تغسلان، إذا كانتا مكشوفتين؛ فإن كانتا مستورتين بجورب، أو بالخف؛ فإنه يمسح عليهما إذا وجدت الشروط. نعم.
والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء، ولا ينقضهما
وهذا من أصول أهل السنة أيضا، ومعتقدهم، وهو مضي الحج والجهاد مع أولي الأمر مسلما برا كان، أو فاجرا، هذا من أصول أهل السنة خلافا لأهل البدع من الروافض والخوارج والمعتزلة؛ فإنهم لا يرون الحج، ولا الجهاد مع ولي الأمر البر والفاجر؛ لأن الخوارج يرون الإمام إذا كان فاجرا يجب قتله وخلعه، وإخراجه من الإمامة؛ لأنه كافر، والمعتزلة كذلك يرون أنه خرج من الإيمان، ودخل في الكفر، والرافضة لا يرون الإمامة إلا إمامة المعصوم، وأهل السنة يخالفونهم، ويرون الحج والجهاد مع ولي الأمر برا كان أو فاجرا.
والأدلة في هذا كثيرة، وهي الأدلة التي سبقت، ومن الأدلة الأحاديث التي فيها حديث أبي هريرة (الصلاة واجبة مع كل أمير برا كان أو فاجرا وإن عمل بالكبائر والجهاد، واجب عليكم مع كل أمير برا كان، أو فاجرا، وإن عمل بالكبائر) والأدلة التي سبقت، في أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، والحكمة في هذا، في منع الإسلام، الخروج على ولي الأمر، وغض النظر عن فجوره، وإيجاب الحج والجهاد معه.
الحكمة في هذا أن الحج والجهاد فرضان يتعلقان بالسفر، فلا بد من سائس يسوس فيهما، ويقام فيهما العدل، وهذا المعنى كما يحصل بالإمام البر يحصل بالإمام الفاجر، أما الرافضة، فمذهبهم أنه لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضي من آل محمد الذي دخل السرداب، يخرج، وينادي مناد من السماء اتبعوه، وهو المهدي المنتظر الثاني عشر من نسل الحسين، وهو محمد بن الحسن العسكري، وقد دخل سرداب سامراء سنة ستين، ومائتين في العراق، وذلك أنهم يقولون: إن الله أردف الرسالة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة، فنصب أولياء معصومين منصوصين ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم وخطئهم؛ فينقادون إلى أوامرهم؛ لأن لا يخلي الله العالم من لطفه ورحمته.
وقالوا: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم قام بثقل الرسالة وأعبائها، ونص على أن الخليفة بعده علي بن أبي طالب، ثم من بعده الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي، ثم علي بن محمد، ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر بن محمد الصادق، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم الخلف الحجة المهدي المنتظر محمد بن الحسن، الذي دخل سرداب سامراء سنة ستين، ومائتين، ولم يخرج منه إلى الآن.
شيخ الإسلام يقول: مضى عليه أربعمائة سنة في عهده، ونحن نقول الآن مضى عليه ألف، ومائتان سنة ولم يخرج، وهو شخص موهوم لا حقيقة له؛ لأن أباه الحسن مات عقيما، ولم يولد له، الحسن مات عقيما، ولم يولد له فاختلقوا له ولدا وأدخلوه السرداب، ومضى عليه ألف، ومائتان، ولم يخرج، وهم في كل سنة يقول العلماء: من القديم إلى الآن يأتون عند باب السرداب، ويأتون بدابة بغلة، أو غيرها، وينادون بأصوات مرتفعة يا مولانا، اخرج يا مولانا، اخرج يا مولانا، اخرج يا مولانا اخرج، ويجعلون أناسا يقفون طرفي النهار في أمكنة بعيدة من المشهد في أوقات النهار، وإذا جاءت الصلاة لا يصلون، فإذا قيل لهم لماذا لا تصلون؟ قالوا نخشى أن يخرج المهدي، فننشغل بالصلاة عن خدمته.
فإذن شرط الرافضة في الإمام أن يكون معصوما، وهذا، نقول الرد: أن هذا الدليل لا دليل عليه، أين الدليل على العصمة، بل إن في حديث عوف بن مالك الأشجعي ما يدل على أن الإمام، لا يكون معصوما يقول:(خيار أئمتكم الذين تحبونهم، ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم، ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابزهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية، ولا ينزعن يدا من طاعة) أين الوجوب، أين الإمام المعصوم في هذا، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إن الإمام يجب أن يكون معصوما، ويرد عليهم بالأدلة السابقة، ثم أيضا إذا كان يشترط في الإمام أن يكون معصوما، فأخسر الناس صفقة في الإمام المعصوم هم الرافضة؛ لأنهم جعلوا الإمام المعصوم، هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم لا في دين، ولا في دنيا؛ فإنهم يدعون أن الإمام المنتظر الذي دخل السرداب هناك، ومن المعلوم أنه لو كان موجودا في السرداب، وقد أمره الله بالخروج؛ فإنه يخرج سواء نادوه، أو لم ينادوه، وإن لم يؤذن له، فهو لا يقبل منهم، وإذا خرج؛ فإن الله يأتيه يؤيده، ويأتيه بمن يعينه وينصره.
لا يحتاج أن يقف له دائم من الآدميين، من ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ثم أيضا الله تعالى قد عاب في كتابه من يدعو، ولا يستجاب له دعاؤه، فقال:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) } ومن دعا، ومن خاطب معدوما كانت حالته أسوأ من حال من خاطب موجودا، وإن كان جمادا، فمن دعاء المنتظر الذي لم يخلقه الله، كان ضلاله أعظم من ضلال هولاء الذين يعبدون الأصنام؛ لأن الذين يعبدون الأصنام يشاهدون أمامهم، وأيضا تدخل الشياطين، وتخاطبهم، وتجيب بعض الطلبات، فهم منتفعون، لكن الذي يخاطب معدوما لا ينتفع لا دنيا، ولا دين، ثم أيضا هذا المهدي المنتظر الذي يدعون إليه لا سبيل إلى معرفته، ولا معرفة ما يأمر به، وما ينهى عنه، فإن كان أحدهم لا يصير سعيدا إلا بطاعة هذا الذي لا يعرف أمره، ولا نهيه لزم أن لا يتمكن أحد من طريق النجاة والسعادة وطاعة الله، وهذا من أعظم تكليف ما لا يطاق، وهم من أعظم الناس إحالة له، وإن قيل إذا خرج؛ فإنه يأمر بما عليه الإمامية إذا لا حاجة إلى وجوده، ولا شهوده؛ فإن هذا معروف سواء كان حيا، أو ميتا، وسواء كان شاهدا، أو غائبا.
وإذا كان معرفة ما أمر الله به الخلق ممكنا، بدون هذا الإمام المنتظر علم أنه لا حاجة إليه، ولا يتوقف عليه طاعة الله، ولا نجاة أحد، ولا سعادته، وحينئذ يمتنع القول بجواز إمامة مثل هذا، فضلا عن القول بوجوبه، وهذا أمر بين لمن تدبره، ولكن الرافضة من أجهل الناس. نعم.
ونؤمن بالكرام الكاتبين؛ فإن الله قد جعلهم علينا حافظين
نعم هذا من عقيدة أهل السنة والجماعة، الإيمان بالكرام الكاتبين؛ فإن الله جعلهم علينا حافظين، والمراد بالكرام الكاتبين الملائكة الذين كلفهم الله بكتابة أفعال العباد وأقوالهم من خير وشر، وعددهم أربع: اثنان بالنهار واثنان بالليل، واحد عن اليمين يكتب الحسنات، والآخر عن الشمال يكتب السيئات، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل الشخص حسنة كتبها، وإن عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه لعله يستغفر ربه، أو يتوب، وهناك أربعة حفظة: اثنان بالنهار واثنان بالليل يحفظانه، ويحرسانه واحد من ورائه، وواحد أمامه، فهو بين أربعة أملاك بالليل، وأربعة آخرين بالنهار بدل، حافظان وكاتبان والذي تكتبه الملائكة تكتب القول، وتكتب الفعل، وتكتب النية، فالملكان يكتبان أفعال العباد من خير، أو شر وغيرهما، قولا كان، أو فعلا، أو عملا، أو اعتقادا همًّا كان، أو عزما، أو تقريرا، فلا يهملان من أفعال العباد شيئا في كل حال.
والدليل على هذا قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) } بعد قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) } والرقيب والعتيد ملكان موكلان بالعبد، وقال تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونجواهم، بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } ودليل كتابة الفعل والقول والنية، قول الله تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) } وتدخل النية؛ لأنها فعل القلب ودليل كتابة النية والعمل قوله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل في الحديث القدسي: - قول الله تعالى في الحديث القدسي- (قال الله عز وجل إذا هم عبدي بسيئة، فلا تكتبوها عليه؛ فإن عملها، فاكتبوها عليه سيئة، وإذا هم عبدي بحسنة، فلم يعملها فاكتبوها له حسنة؛ فإن عملها فاكتبوها عشرة) .
وهو في الصحيحين، واللفظ لمسلم، ودليل كتابة النية وحدها قوله صلى الله عليه وسلم (قالت الملائكة ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة، وهو أبصر به، قال: ارقبوه؛ فإن عملها، فاكتبوها بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرّاي) وهو في الصحيحين.
وجه الدلالة: أن تركها من أجل الله، هو سبب كتابة الحسنة، أما إذا لم يتركها من أجل الله، بل تركها عجزا، فتكتب عليه سيئة لحديث:(إذا التقي المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه) فلم يترك المقتول القتل من أجل الله، بل لعجزه، فكتب عليه سيئة، ودليل كتابة نوع من السيئات قوله تعالى:{إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) } وهو يشمل القول والفعل والنية، ودليل كتابة الفعل وحده قول الله تعالى:{هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) } ومن السنة ما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين كانوا فيكم، فيسألهم -والله أعلم بهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم، وهم يصلون وفارقناهم، وهم يصلون) وفي الحديث الآخر، (إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء، وعند الجماع فاستحيوا، وأكرموهم) .
جاء في التفسير: اثنان عن اليمين، وعن الشمال، يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه، ويحرسانه، واحد من ورائه، وواحد أمامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلا، حافظان وكاتبان، ونكتفي بهذا القدر، والبحث في هذا يطول. نعم.
ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين
نعم وهذا من معتقد أهل السنة الإيمان بملك الموت، وأن الله وكله بقبض أرواح العالمين قال الله تعالى:{* قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وإضافة النفس جاء في القرآن، إضافة التوفي إلى ملك الموت كقول الله تعالى:{* قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) } وجاء إضافته إلى رسل الله، الملائكة -أيضا- كقول الله تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) } وجاء إضافة التوفي إلى الله كقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ولا تعارض بين هذه الإضافات؛ لأن الإضافة إلى كل بحسبه، فأضيف التوفي إلى ملك الموت؛ لأنه تولى قبضها واستخراجها من البدن، وأضيف إلى الرسل؛ لأن ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب تأخذها من ملك الموت، ويتولونها بعده، وأضيف إلى الله؛ لأن كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره وحكمه، وأمره، فتضمنت الإضافة إلى كل بحسبه. نعم.
اختلف الناس في الروح ما هي؟ وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟
فقيل: هي جسم، وقيل: عرض، وقيل: لا ندري ما الروح أجوهر أم عرض؟ واستدلوا بقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ولم يخبر عنها ما هي لا أنها جوهر، ولا عرض.
وذهب "الجبائي" من المعتزلة: إلى أن الروح جسم، وأنها غير الحياة، والحياة عرض، واستدل بقول أهل اللغة: خرجت روح الإنسان. وزعم أن الروح لا تجوز عليها الأعراض.
وقيل: ليست الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع التي هي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ولم يثبتوا في الدنيا شيئا إلا الطبائع الأربع، وقال قائلون: الروح معنى خامس غير الطبائع الأربع، وليس في الدنيا إلا الطبائع الأربع والروح.
وقيل: الروح الدم الصافي الخالص من الكدرة، وقيل: الروح هي الحرارة الغريزية، وهي الحياة، وقيل: الروح جوهر بسيط منبعث في العالم كله من الحيوان على جهة الإعمال له والتدوير، وهي على ما وصفت من الانبساط في العالم غير منقسمة الذات والبنية، وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غيره.
والقول المختار: أن الروح جسم مخالف لماهية هذا الجسم المحسوس، وهي جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفض في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها، من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك الجسم ساريا في هذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارقت الروح البدن، وانفصلت إلى عالم الأرواح، وهذا القول هو الصواب في المسألة، وعليه دل الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة، وكل الأقوال سواه باطلة.
واستدل العلامة ابن القيم رحمه الله له بمائة دليل وخمسة عشر دليلا، وزيف كلام ابن سينا وابن حزم، وأمثالهما، ومن أدلة هذا القول من الكتاب قول الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}
ففي الآية ثلاثة أدلة:
الإخبار بتوفيها، وإمساكها، وإرسالها، وهذا شأن الجسم.
ثانيا: قول الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} إلى قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}
وفي الآية أربعة أدلة:
أحدها: بسط الملائكة أيديهم لتناولها.
الثاني: وصفها بالخروج والإخراج.
الثالث: الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم.
الرابع: الإخبار عن مجيئها إلى ربها، وهذا شأن الجسم.
ثالثا قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) }
وفيها ثلاثة أدلة:
الأول: الإخبار بتوفي النفس بالليل.
الثاني: بعثها إلى أجسادها بالنهار.
الثالث: توفي الملائكة له عند الموت، فهذه عشرة أدلة.
ومن الأدلة -أيضا- قول الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) }
وفيه ثلاثة أدلة:
أحدها: وصفها بالرجوع.
الثاني: وصفها بالدخول.
الثالث: وصفها بالرضى.
فهذه ثلاثة عشر دليلا، ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(إن الروح إذا قبض تبعه البصر) ففيه دليلان:
أحدهما: وصفه بأنه يقبض. الثاني: أن البصر يراه، وهذا شأن الجسم.
ثانيا: قوله صلى الله عليه وسلم (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة) فيه دليلان:
أحدهما: كونه طائرا.
الثاني: تعلقها بشجر الجنة وأكلها.
ثالثا: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بلال: (قبض أرواحكم، ثم ردها عليكم) ففيه دليلان: وصفها بالقبض والرد.
ومن الأدلة: ما ثبت في عذاب القبر من خطاب ملك الموت لها، وأنها تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، وأنها تصعد، ويوجد منها من المؤمن كأطيب ريح، ومن الكافر كأنتن ريح، وأما الإجماع، فقد علم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد علم بالضرورة من أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء به وأخبر به الأمة، وأنه تنبت أجسادهم في القبور، فإذا نفخ في الصور، رجعت كل روح إلى جسدها، فدخلت فيه، فانشقت الأرض عنه، فخرج من قبره، ومن أدلة هذا الإجماع الحديث والآثار الدالة على عذاب القبر، ونعيمه إلى يوم البعث، ومعلوم أن الجسد يتلاشى، ويضمحل، وهذا من أدلة العقل.
الأحاديث والآثار الدالة على عذاب القبر، ونعيمه إلى يوم البعث، فمعلوم أن الجسد يتلاشى، ويضمحل، وأن العذاب والنعيم مستمران إلى يوم القيامة، إنما هو على الروح، وكذلك من أدلة العقل أن هذا البدن المشاهد محل لجميع صفات النفس، وإدراكاتها الكلية والجزئية، ومحل للقدرة على الحركات الإرادية، فوجب أن يكون الحامل لتلك الإدراكات والصفات هو البدن، وما سكن فيه.
وأما دليل الفطرة: فإن كل عاقل إذا قيل له ما الإنسان فإنه يشير إلى هذه البنية، وما قام بها لا يخطر بباله أمر مغاير لها مجرد ليس في العالم، ولا خارجه والعلم بذلك ضروري لا يكون شكا.
ومن مباحث الروح:
هل النفس، أو الروح شيء واحد، أو شيئان متغايران؟
اختلف الناس في مسمى النفس والروح هل هما مغايران، أو مسماهما واحد؟
فمن الناس من قال إنهما اثنان لمسمى واحد، وهذا قول الجمهور، ومن الناس من قال إنهما متغايران، والتحقيق أن كلا من النفس والروح تطلق على أمور، فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالبا ما تسمى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة، فتسمية الروح أغلب عليها، وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بانفراده، ولا مع النفس، والنفس تطلق على أمور.
أولا: تطلق على الدم، فيقال: سالت نفسه أي دمه وفي الحديث (ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، إذا مات فيه) .
ثانيا: وتطلق على الروح يقال: خرجت نفسه، أي روحه، وتطلق على الجسد.
قال الشاعر:
نبئت أن بني تميم أدخلوا *** أبناءهم تامور نفس المنذر
والتامور الدم، وتطلق النفس على العين يقال: أصابت فلانا نفس، أي عين.
خامسا: وتطلق النفس على الذات بجملتها كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقوله: {تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) } .
والروح تطلق على أمور:
تطلق الروح على القرآن كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} وتطلق الروح على جبريل كقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) } وتطلق الروح على الوحي، الذي يوحيه الله إلى أنبيائه ورسله، كقوله تعالى:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وتطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان، وتطلق الروح على أخص من هذا كله، وهو داعي الطاعة وواعظ القلب، وهو قوة المعرفة بالله والإنابة إليه، ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه، وإرادته، ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فالعلم روح، والإحسان روح، والمحبة روح، والتوكل روح، والصدق روح.
والناس متفاوتون في هذه الروح، فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح، فيصير روحيا، ومنهم من يفقدها، أو أكثرها، فيصير أرضيا بهيميا، وأما ما يؤيد الله به من القوة والثبات والنصر، فهي روح أخرى كما قال تعالى:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} فهذا معنى سادس، السابع: تطلق الروح على عيسى عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} الثامن: وكذلك القوى التي في البدن؛ فإنها -أيضا- تسمى أرواحا، فيقال: الروح الباسط، والروح السامع، والروح الشام.
والفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات، وإنما سمي الدم نفسا؛ لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس، وإن الحياة لا تتم إلا به كما لا تتم إلا بالنفس، ويقال: فاضت نفسه، وخرجت نفسه، وفارقت نفسه كما يقال: خرجت روحه وفارقت روحه.
ومن مباحث الروح:
هل الروح قديمة، أو محدثة مخلوقة؟
في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها قديمة غير مخلوقة.
الثاني: أنها محدثة مخلوقة.
الثالث: التوقف.
فلا يقال إنها مخلوقة، ولا غير مخلوقة، استدل أهل القول الأول القائلون بأنها قديمة غير مخلوقة، احتجوا أن الله سبحانه وتعالى.
أولا: أن الله تعالى أخبر أن الروح من أمر الله كقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وأمره غير مخلوق وأجيب بأنه ليس المراد هنا بالأمر الطلب، الذي هو أحد أنواع الكلام، فيكون المراد أن الروح كلامه الذي يأمر به، فليس المراد به الأمر الكلامي حتى يكون قديما، وإنما المراد الأمر هنا المأمور، والمصدر يذكر، ويراد به اسم المفعول، وهذا معلوم مشهور، وهو عرف مستعمل في لغة العرب، وفي القرآن منه كثير كقوله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} أي مأموره الذي قدره وقضاه، وقال له: كن فيكون.
الدليل الثاني: أن الله أضاف الروح إليه كقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده، فكما أن هذه الصفات ليست مخلوقة، فكذلك الروح.
وأجيب بأن المضاف إلى الله -سبحانه- نوعان: صفات لا تقوم بأنفسها: كالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، فهذه إضافة الصفة إلى الموصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وإرادته وحياته صفات له غير مخلوقة، والثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح، فهذه إضافة المخلوق إلى خالقه، والمصنوع إلى صانعه، لكنها إضافة تقتضي تخصيصا، وتشريفا يتميز به المضاف عن غيره.
أما أهل القول الثاني القائلون بأن الروح مخلوقة محدثة، فهذا هو الصواب، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة والأثر، وهو الذي ذهب إليه الصحابة والتابعون.
ومن أدلة هذا القول: الإجماع: فقد أجمعت الرسل على أن الروح محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، وهذا معلوم بالضرورة من دينهم، أن العالم محدث، وأجمع عليه السلف من الصحابة والتابعين، قبل قول هذه الفئة إنها قديمة حتى نبغت هذه النابغة، وزعمت أنها قديمة، وممن نقل الإجماع على ذلك محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهم.
الدليل الثاني من الكتاب: قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}
ووجه الدلالة: أن هذا اللفظ عام لا تخصيص فيه بوجه ما، فيدخل في عمومه الروح، ولا يدخل في ذلك صفات الله؛ فإنها داخلة في مسمى اسمه، فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال بذاته وصفاته.
ثانيا: قوله تعالى، الدليل الثاني من الكتاب قول الله تعالى لزكريا:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) }
ووجه الدلالة: أن هذا الخطاب لزكريا عليه الصلاة والسلام لروحه وبدنه ليس لبدنه، فقط؛ فإن البدن وحده لا يفهم، ولا يخاطب، ولا يعقل، وإنما الذي يفهم، ويعقل، ويخاطب هو الروح.
الدليل الثالث: قول الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) }
ووجه الدلالة: أن الإنسان اسم لروحه وجسده.
الدليل الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)
ووجه الدلالة: أن الجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة.
الدليل العقلي: هذه الأدلة من الكتاب، ومن السنة. الدليل الثالث: عقلي مأخوذ من الشرع، وهو أن الروح توصف بالوفاة والقبض والإمساك والإرسال، وهذا شأن المخلوق المحدث المربوط.
أما أهل القول الثالث القائلون بالتوقف، توقف قوم فقالوا: لا نقول الروح مخلوقة، ولا غير مخلوقة، وهؤلاء لم يتبين لهم معاني النصوص، ولم يفهموها ولو تدبروها، وعرفوا معانيها، لظهر لهم أنها مخلوقة محدثة مربوبة.
ومن مباحث الروح:
هل الروح مخلوقة قبل الجسد، أم بعده؟ اختلف في الروح هل هي مخلوقة قبل الجسد أم بعده؟
هذه مسألة للناس فيها قولان معروفان، حكاهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره.
والقول الأول: أن الأرواح متقدم خلقها على خلق البدن، وممن ذهب إلى ذلك محمد بن نصر المروزي، وأبو محمد ابن حزم، وحكاه ابن حزم إجماعا.
ومن أدلة هؤلاء -أولا- قول الله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}
ووجه الدلالة: أن ثم للترتيب والمهلة، ودلت الآية على أن خلقنا مقدم على أمر الله للملائكة بالسجود لآدم، ومعلوم قطعا أن أبداننا حادثة بعد ذلك، فعلم أنها الأرواح.
ثانيا: استدلوا بقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}
ووجه الدلالة: أن هذا الاستنطاق والإشهاد، إنما كان لأرواحنا إذ لم تكن الأبدان حينئذ موجودة، كما يؤيد ذلك الأحاديث الكثيرة التي تدل على أخذ الميثاق والإشهاد عليه، مما يدل على أن الله جعلهم أرواحا، ثم صورهم واستنطقهم، فتكلموا، فأخذ عليهم العهد والميثاق.
القول الثاني: إن الأرواح تأخر خلقها عن الأجساد، واستدل هؤلاء بما يأتي -أولا- قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} .
ووجه الدلالة: أن هذا الخطاب للإنسان الذي هو روح وبدن، فدل على أن جبلته مخلوقة بعد خلق الأبوين.
ثانيا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} .
وجه الدلالة: أن الآية صريحة في أن جملة النوع الإنساني أبدانا وأرواحا بعد خلق أصله، وهذا الدليل أصح من سابقه، وهذا القول الثاني هذا، هو الصواب أن الأرواح مخلوقة بعد الأجسام.
وأما أدلة الأولين القائلين بأن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد:
أما استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} فإن الله سبحانه وتعالى رتب الأمر بالسجود لآدم على خلقنا وتصويرنا، المراد خلق أبينا آدم، وتصويره، وجه الخطاب لنا؛ لأن آدم عليه الصلاة والسلام هو أصل البشر، ونظيره قول الله تعالى:{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} خطاب لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والمظلل عليه آباؤهم؛ لأن الأبناء لهم حكم الآباء.
وأما استدلالهم بآية الميثاق {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، فيجاب عنه بأن الآية لا تدل على خلق الأرواح قبل الأجساد خلقا مستقرا، وإنما غايتها أن تدل على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذر واستنطاقهم، ثم ردهم إلى أصلهم والذي صح إنما، هو إثبات القدر السابق، وتقسيمهم إلى شقي وسعيد.
وأما الآثار المذكورة، فلا تدل -أيضا- على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا، وغايتها أن تدل بعد صحتها وثبوتها على أن بارئها وفاطرها سبحانه وتعالى صور النسم وقدر خلقها وآجالها وأعمالها، واستخرج تلك الصور من مادتها، ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا، ثم استمرت موجودة حية عالمة ناطقة كلها في موضع واحد، ثم ترسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قال ابن حزم نعم يجيء جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق إليه التقدير أولا، فيجيء خلق الخارج مطابقا للتقدير السابق.
ومن مباحث الروح: هل تموت الروح؟ أم الموت للبدن وحده؟
اختلف الناس في هذا فقالت طائفة: تموت الروح، وتذوق الموت، واستدلوا بما يأتي:
أولا: قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ} والروح نفس، فلا بد أن تذوق الموت.
ثانيا: قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } وقوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} قد دلت الآيتان على أنه لا يبقى إلا الله وحده، وهذا يدل على أن الروح تموت.
ثالثا: قالوا إذا كانت الملائكة تموت، فالنفوس البشرية أولى بالموت، وهذا الدليل العقلي.
رابعا: استدلوا بقول الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} وقوله -تعالى- عن أهل النار أنهم قالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} وجه الدلالة: الموتة الأولى هذه المشهودة، وهي للبدن والأخرى للروح.
خامسا: قول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وهذا يدل على أن الأرواح تصعق عند النفخ، ويلزم من ذلك موتها.
القول الثاني: إن الأرواح لا تموت، وإنما تموت الأبدان، واستدلوا بما يأتي:
أولا: أن الأرواح خُلقت للبقاء، فلا تموت.
ثانيا: الحديث الدال على نعيم الروح وعذابها، بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها، ولو ماتت الأرواح، لانقطع عنها النعيم والعذاب كحديث، (إن مثل روح المؤمن الطائر، يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده، يوم يبعثه) وحديث البراء بن عازب رضي الله عنه وفيه قصة العبد الكافر، أنها تنتزع روحه نزعا شديدا، أو تخرج منها ريح خبيثة، وتطرح روحه إلى أرض الطرحات.
والصواب في المسألة أن يقال: موت النفوس، هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر كان هذا إيقاف الموت، وإن أريد أنها تعدم، وتفنى بالكلية، وتضمحل، وتصير عدما محضا، فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم، أو عذاب، ويرجح هذا، ويدل له أنه -سبحانه- أخبر أن أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وتلك الموتة هي مفارقة الأرواح للأجسام.
والنصوص الدالة على بقائها تحمل على بقائها منفصلة عن الجسد، وبهذا تجتمع الأدلة، ولا تختلف.
وأما استدلال الأولين على موت الروح بقوله -تعالى- حكاية عن أهل النار أنهم قالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} وقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) } فالمراد أنهم كانوا أمواتا، وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم، ثم يحيهم يوم النشور، وليس في إماتة أرواحهم يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات.
وأما استدلالهم بآية الصعق، وهي قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} الآية، فيجاب عن استدلالهم بأن صعق الأرواح عند النفخ في الصور، لا يلزم من موتها، وأن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، وليس ذلك بموت، وكذلك صعق موسى عليه الصلاة والسلام ولم يكن موتا، والذي تدل عليه الآية أن نفخة الصعق موت، كل مَن لم يذق الموت قبلها من الخلائق، وأما مَن ذاق الموت، أو لم يكتب عليه الموت من الحور والولدان وغيرهم، فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية.
ومن مباحث الروح:
تعلقها بالبدن، وأنواع تعلقها بالبدن:
الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق، تتغاير في الأحكام، أي الخواص والآثار التي للبدن بسب هذا التعلق.
أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا، ويتعلق بهذا التعلق أحكام، وهو أنه ينمو الجنين، ويتحرك، ويحس، ولا يتنفس.
الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض، ومن أحكام هذا التعلق أنه يرضع، ويسمع الصوت، ويبصر، ويتكلم.
الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقه من وجه، ومن أحكام هذا التعلق، أنه يكتشف شيئا لا يراه في وقت اليقظة.
الرابع: تعلقها به في البرزخ، وهو ما بين الحياتين، حياة الدنيا وحياة الآخرة، فإنها وإن فارقته، وتجردت عنه إلا أنها لم تفارقه فراقا كليًّا، بحيث لا يبقى لها أيه التفات البتة، فإنه وإن ورد ردها إليه وقت سلام المسلم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، إلا أن هذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن، قبل يوم القيامة، فهي حياة خاصة بين حياتين حياتي الدنيا والآخرة.
ومن أحكام هذا التعلق: أنه يتهيأ له سماع خاص كسماع الملائكة، ويرى شيئا من الحقائق كان جاهلا بها، ولا يراها الحي كرؤيته المكان في الجنة أو النار.
الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد: وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، بل هي ضعيفة، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا، ولا نوما، ولا فسادا، إذن ما هو آخره الموت.
ومن أحكام هذا التعلق الصلاحية للبقاء الأبدي.
ثانيا: التمتع بنعيم الجنة، أو التألم بعذاب النار.
ومن الأحكام التي تتعلق بالروح: مبحث مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة.
اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة، هل هي في السماء أم في الأرض، وهل هي في الجنة أم لا، وهل توضع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها فتنعم، وتعذب فيها أم تكون مجردة؟
فقيل: أرواح المؤمنين في الجنة على تفاوت درجاتهم في عليين، أو أقل، وأرواح الكفار في النار على تفاوت دركاتهم في الدرك الأسفل، أو بعده.
وهذا أرجح الأقوال وأولاها وأصحها، وهو الذي دلت عليه النصوص، قوله تعالى:{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) } فإنه قسم الأرواح إلى ثلاثة أقسام، وهذا ذكره -سبحانه- عقب ذكر خروج الروح من البدن بالموت، وقوله تعالى:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) } الآيات.
قال غير واحد من الصحابة والتابعين: هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا، يبشرها ملك بذلك، وحديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن الملك يقول لها: عند قبضها: (أبشري بروح وريحان) وهذا من ريحان الجنة، أو يقول لها:(اخرجي إلى سخط من الله وغضب) وحديث (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة) هذا إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة، ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفوعنهم والرحمة بهم، هذا أصح الأقوال.
وهناك أقوال كثيرة أخرى.
قيل: إن أرواحهم بفناء الجنة على بابها.
وقيل: على أفنية قبورهم.
وقيل: إن الأرواح مرسلة.
وقيل: إن أرواح المؤمنين عند الله فقط، ولا مزيد.
وقيل: أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق، وروح الكافر ببراغوت بئر بحضرموت.
وقيل: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة.
وقيل: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر براغوت.
وقيل: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله.
وقال ابن حزم: واستقروا من حيث كانت قبل خلق أجسادها.
وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم.
وهذه الأقوال كلها تخمين لا دليل، والصواب القول الأول، وهو أن أرواح المؤمنين في الجنة على تفاوت فيما بينهم، وأرواح الكفار في النار على تفاوت، ولها صلة بالجسد.
وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض أي تفنى بفناء الأجسام، وهذا قول من يقول إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، وهذا قول فاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين، وهو أن الأرواح تعدم بموت البدن، كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته، وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر سبب أخلاقها وصفاتها، التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح، فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع، والكلبية إلى أبدان الكلاب، والبهيمية إلى أبدان البهائم، والدنية والصهرية إلى أبدان الحشرات.
وهذا قول التناسخية: طائفة يسمون التناسخية منكري المعاد، وهذا أخبث الأقوال والآراء، وهو كفر والعياذ بالله، وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلها، والصواب كما سبق أن أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار.
والذي تلخص من النصوص: أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم التفاوت، فمنها: أولا: فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- وهم متفاوتون في منازلهم، ومنها أرواح بعض الشهداء لا كلهم؛ لأن من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة بدين عليه، كما في المسند عن عبد الله بن جحش، (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولى قال: إلا الدَّيْن سارني به جبريل آنفا) .
ومن الأرواح من يكون محبوسا على أبواب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة) ومنهم من يكون محبوسا في قبره، ومنهم من يكون في الأرض، ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه، وتلقم الحجارة كل هذا تشهد له السنة، والله أعلم.
ومن المباحث مباحث النفس هل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة أم هي ثلاثة أنفس وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس نفس مطمئنة ونفس لوامى ونفس أمارة وأن منهم من تغلب عليه تغلب عليه الأخرى ويحتجون على ذلك بالآيات الثلاث قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) } وقول الله: {أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) } وقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}
والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات وتسمى باعتبار كل صفة باسم فهي أمارة بالسوء لأنها دفعته إلى السيئة وحملته عليها فإذا عرضها الإيمان صارت لوامة تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها وتلومه بين الفعل والترك فإذا قوي الإيمان ارت مطمئنة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن) وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) .
ومن مباحث الروح في مسمى الإنسان: هل هو الروح، أو البدن، أو مجموعهما للناس في مسمى الإنسان، هل هو الروح، أو البدن، أو مجموعهما.
للناس في مسمى الإنسان أربعة أقوال: هل هو الروح، أو للبدن فقط أو مجموعها، أو كل واحد منها، والذي عليه جمهور العقلاء أن الإنسان، هو البدن والروح معا، وقد يطلق اسمه على أحدهما دون الآخر بقرينة.
وكذلك اختلفوا في كلام الإنسان على أربعة أقوال: هل هو اللفظ فقط، أو المعنى فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما، والصواب أن مسمى الكلام اللفظ، والمعنى معا.
ومن مباحث الروح: تتلاقى الأرواح، تلاقي أرواح الموتي، هل تتلاقى أرواح الموتى، وتتزاور، وتتذاكر، وتتلاقى؟ أرواح الأحياء والأموات أيضا؟
جواب هذه المسألة: أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة، وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى، وتتزاور، وتتذاكر ما كان منها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح مع رفيقها الذي، هو على مثل عملها، فروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى، والدليل على تزاورها، وتلاقيها قول الله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) } وهذه المعية ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاث.
وقد أخبر الله عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وأنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وهذا يدل على تلاقيهم، وأما تلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات، فشواهد هذه المسألة وأدلتها أكثر من أن تحصر، والحس والواقع شاهد بذلك، وتلتقي أرواح الأحياء والأموات كما تلتقي أرواح الأحياء، قال الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات، تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها، ويدل على ذلك -أيضا- أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلم الحي، فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل، وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه، وربما أخبره بدَيْن عليه، هذا معنى ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب "الروح".
ومن مباحث الروح، تميز الأرواح عن بعضها:
بأي شيء تتميز الأرواح بعضها من بعض بعد مفارقتها الأبدان، إذا تجردت حتى تتعارف، وتتلاقى متى تتعارف، وتتلاقى، وهل تتشكل إذا تجردت بشكل بدنها الذي كانت فيه، وتلبس صورته أم كيف حالها؟
ويمكن جواب هذه المسألة:
لا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل السنة، التي تظاهرت عليها أدلة الكتاب والسنة والآثار والاعتبار والعقل، وهو القول بأنها ذات قائمة بنفسها تصعد، وتنزل، وتتصل، وتنفصل، وتخرج، وتذهب، وتجيء، وتتحرك، وتسكن وعلى هذا أكثر من مائة دليل كما قال تعالى:{وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} وقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي} وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) } فأخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} فهو سبحانة سوى نفس الإنسان، كما سوى بدنه، بل سوى بدنه كالقالب لنفسه، وتسوية البدن تابع لتسوية النفس والبدن موضوع له كالقالب لما هو موضوع له، ومن ها هنا يعلم أن النفس تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها تتأثر، وتنتقل عن البدن كما يتأثر البدن، وينتقل عنها، فيكتسب البدن الطيب والخبث من طيب النفس وخبثها.
وتكتسب النفس الطيب والخبث من طيب البدن وخبثه، فأشد الأشياء ارتباطا، وتناسبا، وتفاعلا، وتأثرا من أحدهما بالآخر الروح والبدن؛ ولهذا يقال لها: اخرجي أيتها النفس الطيبة -إن كانت في الجسد الطيب- واخرجي أيتها النفس الخبيثة -إن كانت في الجسد الخبيث- والأعراض دري حالها، ولا تمسك، ولا تنقل من يد إلى يد، وإذا كان هذا شأن الأرواح، فكما يجوزها بعد المفارقة، يكون أظهر من تميز الأبدان والاشتباه بينهما أبعد من اشتباه الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيرا، وأما الأرواح، فقلما تشتبه، وإذا كانت الأرواح العلوية، وهم الملائكة يتميز بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى. هذا معني ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب "الروح".
نعم وأيضا هذا من أنفع البحوث، تتعلق بالروح بحوث كثيرة تتعلق بالروح وحقيقة الروح وحقيقة النفس والأقوال في هذا، والصواب في هذا، وكذلك -أيضا- تعلقات الروح بالبدن وأقسامها، وأقسام النفس: مطمئنة ولوامة، وكذلك -أيضا- ما يتعلق بالروح، هل تموت، أو لا تموت؟. بحوث طويلة ما نتمكن من الكلام عليها، لكن تؤجَّل فيما بعد.
الإيمان بعذاب القبر وسؤال منكر ونكير
وبعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال منكر ونكير، في قبره عن ربه ودينه ونبيه.
معتقد أهل السنة والجماعة الإيمان بعذاب القبر، ونعيمه، وسؤال منكر، ونكير، وهذا من معتقد أهل السنة والجماعة، وهل النعيم والعذاب يكون على النفس وعلى الروح، أو على البدن، أو عليهما جميعا.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة فقال: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا، باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس، وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم، وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما يكون على الروح، هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام.
وفي المسألة أقوال شاذة، والقول الأول من يقول: إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح، وأن البدن لا ينعم، ولا يعذب، وهذا قول الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم.
والقول الثاني: إن العذاب والنعيم على البدن والروح جميعا، وهو قول أهل السنة والجماعة، وأنه تعذب الروح منفردة، وتعذب الروح متصلة بالبدن، فالروح إما في نعيم، أو في عذاب؛ لأن روح المؤمن إذا ما فقدت إلى الجنة، ولها صلة بالبدن فالروح باقية إما في نعيم، أو في عذاب، والبدن له ما قدر له من العذاب والنعيم، والروح لها صلة بالبدن، لكن الأحكام على الروح أكثر، كما أن الأحكام في دار الدنيا على البدن أكثر، فالدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الآخرة، وكل دار لها أحكام، دار الدنيا التي نحن فيها الأحكام على البدن أكثر من الروح، فإذا تنعم الإنسان، أو تعذب تكون على البدن أكثر.
دار البرزخ بالعكس، وهي دار البرزخ من الموت إلى قيام الساعة، الأحكام على الروح أكثر، النعيم والعذاب على الروح أكثر، والبدن يناله ما قدر له، وفي دار الجزاء بعد البعث، يكون النعيم والعذاب للبدن والروح على حد سواء، كل من البدن والروح يأخذ حقه، وما فيه يأخذ قسطه وافيا من النعيم، أو العذاب، والمباحث في هذا طويلة. نعم.
وبعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال منكر، ونكير في قبره عن ربه ودينه، ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم
نعم هذا، هو معتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان بعذاب القبر، ونعيمه وأن المؤمن يوسع له في قبره من البصر، والفاجر يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، وأن كل إنسان يُسأل عن ربه ودينه، ونبيه، فالمؤمن يثبته الله، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم، فيقول: الله ربي والإسلام ديني، ومحمد نبي.
والفاجر لا يستطيع أن يجيب عن هذه الأسئلة، وهو كان ينصح الناس، يسأله: من ربك؟ فيقول: ها ها لا أدري، وإذا سئل عن دينه، يقول: ها ها لا أدري، عن نبيه يقول: ها ها لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعه من خلق الله إلا الثقلين، ولو سمعها الإنسان لصعق، نسأل الله السلامة والعافية.
وأما المنكرون لعذاب القبر، ونعيمه، فإنهم أعملوا عقولهم، اعتمدوا على العقل كالمعتزلة وغيرهم، وتركوا النصوص وراءهم ظهريا، ومن شبههم يقولون: إن الإنسان قد خرجت روحه، فلا يتأتى ينعم أو يعذب، ونحن نقول: لا نرى إحساسا عند المقبور، ولو فتحنا قبره، فلا نرى شيئا، فلا نؤمن بشيء، لا نحس به، فلا نؤمن إلا بالمحسوس، وطريقة المعتزلة في النصوص إما أن يخطئوها من ناحية السند، أويؤولوها من ناحية المتن، ويقولون هي أخبار آحاد، ولا يُحْتَج بها في مسائل العقائد.
والمقصود أن المعتزلة وغيرهم أعملوا عقولهم، وتركوا النصوص وراءهم ظهريا، وهناك بحوث تتعلق بالشبه والجواب، عن الشبه والأسباب المنجية من عذاب القبر، وكذلك السؤال في القبر للملكين، هل هو للروح، أو للجسد أم ماذا؟ وبحوث طويلة في هذا والسؤال في القبر، هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار؟ أو يختص بالمسلم والمنافق؟ وكذلك -أيضا- بحوث تتعلق بهذا في الأطفال والمجانين، هل يمتحنون، أو لا يمتحنون؟ وكذلك خطاب الملكين جميع الموتى في الأماكن المتعددة في الوقت الواحد، وكذلك عذاب القبر وعذاب البرزخ، ووجه تسميته برزخا، وفي بيان أن عذاب القبر ينال من هو مستحق له، قُبِر، أو لم يقبر، وكذلك في بيان الحياة التي اختص بها الشهداء، كل هذه البحوث طويلة، لا نتمكن من أخذها. نعم.
بعد هذا ننتقل إلى مبحث عذاب القبر، ونعيمه، وسؤال الملكيين، أقوال العلماء في عذاب القبر، ونعيمه، وهل هو على النفس والبدن، أو على أحدهما؟ سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة فقال، بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا، باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس، وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم، وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليها في هذه الحال مجتمعين، كما يكون على الروح منفردة عن البدن، وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح، هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة، وأهل الكلام.
وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والجماعة، والحديث قول مَن يقول: إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح، وإن البدن لا ينعم، ولا يعذب، وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة، وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان.
الثاني: أن العذاب والنعيم للبدن لا يكون في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور، وهؤلاء ينكرون عذاب البدن بالبرزخ فقط، ويقولون: إن الأرواح هي منعمة، أو المعذبة بالبرزخ، فإذا كان يوم القيامة عذب الروح والبدن معا، وهذا قول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، وهو اختيار ابن حزم وابن مرة، فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذة، بل هو مضاف إلى قول مَن يقول بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت معاد الأبدان والأرواح.
أدلة أهل السنة وسلف الأمة وأئمتها على أن النعيم والعذاب، يحصل للروح، لروح الميت وبدنه استدل.. قبل هذا الأقوال الشاذة في عذاب القبر، ونعيمه.. الخلاصة في هذا أن في المسألة ثلاثة أقوال شاذة، وثلاثة أقوال ليست شاذة.
الأقوال الشاذة: النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح، والبدن لا ينعم، ولا يعذب مطلقا، وهذا قول الفلاسفة والمنكرين للمعاد، لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين.
الثاني: قول من ينكر عذاب الروح مطلقا الروح بمفردها لا تنعم، ولا تعذب، وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره.
الثالث: أن البرزخ ليس فيه نعيم، ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تكون الساعة الكبرى، وهذا يقوله بعض المعتزلة، ونحوهم، بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم، ولا يعذب.
وأما مَن يقول بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت معاد الأبدان والأرواح، فلهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على الروح فقط، ويقول بهذا كثير من المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام، وهو اختيار ابن حزم وطوائف من المسلمين من أهل الحديث وأهل الكلام.
الثاني: أنه عليها وعلى البدن بواسطتها.
الثالث: أنه على البدن فقط.
أما مذهب سلف الأمة وأئمتها: فإن الميت إذا مات يكون في نعيم، أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقي بعد مفارقة البدن منعمة، أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا، ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقام الناس من قبورهم لرب العالمين، ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى، فمن أنكر معاد الأبدان، فهو كافر بإجماع المسلمين، وبنص القرآن، واستدل أهل السنة وسلف الأمة على أن النعيم والعذاب، يحصل لروح الميت وبدنه بأدلة استدلوا بالكتاب والسنة، أما الكتاب:
أولا: قول الله تعالى: {وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) }
ووجه الاستدلال أن الله أخبر في أول الآية، أنهم يعرضون على النار غدوا وعشيا، ثم قال في الختام:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) } فدل على أن العرض السابق إنما هو في القبر قبل يوم القيامة، وهذا يدل على إثبات عذاب القبر.
ووجه الدلالة: أن قوله: {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيان وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر؛ لأن كثيرا منهم مات، ولم يعذب في الدنيا، أو أن المراد أعم من ذلك، فيشمل مجموع الأمرين عذابهم في الدنيا أو في البرزخ، وعلى كل حال، ففيه إثبات عذاب القبر.
وأما السنة: فقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر، ونعيمه لمن كان لذلك أهلا، تواترت معنى لا لفظا، وهو يفيد اليقين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا يتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوفا على كيفيته، ومن هذه الأدلة:
أولا: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما وفيه (أعوذ بالله من عذاب القبر) وفيه في قصة العبد المؤمن، فيقول:(أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء) وفيه (فينادي مناد من السماء، أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها) وفيه قصة العبد الكافر فيقول: (أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده فينتزعها، كما ينتزع السَّفُّود من الصوف المبلول) وفيه (فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها) .
وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة، والحديث له شواهد من الصحيح منها: ما ذكره البخاري رحمه الله عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم) إلى قوله: (فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقول: له انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا) .
قال قتادة: وروي لنا أنه (يفسح له في قبره) وهذا هو الحديث الثاني.
الثالث: ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) وروي عنه
…
رابعا: ففي صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر، والآخر النكير..) الحديث.
خامسا: وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمه هذا الدعاء كما يعلمه السورة من القرآن: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال) .
أما المنكرون لعذاب القبر، ونعيمه، فلهم شبه:
تعلق المنكرون لعذاب القبر، ونعيمه، وسعته، وضيقه، وكونه حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة، وكون الميت يجلس، ويقعد فيه، هؤلاء الذين أنكروا عذاب القبر، ونعيمه من الملاحدة والزنادقة، ومن تبعهم من أهل الكلام كالمعتزلة، تعلقوا بشبه عقلية، حكموا فيها عقولهم قاسوا فيها الغائب على الشاهد، وقاسوا أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، فقالوا: إننا نكشف القبر، فلا نجد فيه ملائكة عميا صما يضربون الموتى بمطارق من حديد، ولا نجد هناك حيات، ولا ثعابين، ولا نيرانا تتأجج، ولو كشفناه في حالة من الأحوال، لوجدناه لم يتغير، ولو وضعنا على عينيه الزئبق، وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله، وكيف يفسح مد بصره، أو يضيق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حد ما حفرنا، فلم يزد ولم ينقص، وكيف يتسع ذلك اللحد الضيق له وللملائكة؟ والصورة التي تؤنسه، أو توحشه؟
وقال أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم: كل حديث يخالف مقتضى العقول والحس، يقطع بتخطئة قائلة. قالوا: ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يسأل، ولا يجيب، ولا يتحرك، ولا يتوقد جسمه نارا، ومن افترسته السباع، ونهشته الطيور، وتفرقت أجزاؤه في أجواف السباع وحواصل الطيور وبطون الحيتان، ومدارج الرياح، كيف تسأل أجزاؤه مع تفرقها؟ وكيف يتصور مسألة الملكين لمن هذا وصفه؟ وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة؟ أو حفرة من حفر النار؟ وكيف يضيق عليه حتى تلتئم أضلاعه.
والجواب عن هذه الشبه من وجوه:
أولا: أن الرسل لم يخبروا بما تخيلته العقول، وتقطع باستحالته، ولكن الرسل يخبرون بما تحار به العقول، فإن أخبارهم قسمان: أحدهما: ما تشهد به العقول والفطر، والثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها، عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر، وتفاصيل الثواب والعقاب.
ثانيا: أن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن، ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها، فإذا جاء يوم الحشر وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا.
ثالثا: أن الله سبحانه وتعالى جعل أمر الآخرة، وما كان متصلا بها غيبا وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته؛ وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، وهب أن النار التي في القبر والخضرة، ليست من نار الدنيا، ولا من زرع الدنيا، فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخضرتها، وإنما هي من نار الآخرة وخضرتها، وهي أشد من نار الدنيا، فلا يحس به أهل الدنيا، فإن الله -سبحانه- يحمي عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه، وتحته حتى يكون أعظم حرًّا من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك، بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفنان أحدهما إلى جنب الآخر، وهذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره، وذلك الثاني في روضة من رياض الجنة، لا يصل روحها، ونعيمها إلى جاره.
خامسا: أن الله سبحانه وتعالى يحدث في هذه الدار ما هو أبلغ من ذلك، فقد أرانا الله فيها من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير، من ذلك:
أولا: جبريل عليه الصلاة والسلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويتمثل له رجلا، ويكلمه بكلام يسمعه، ومن إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم لا يراه، ولا يسمعه، وكذلك غيره من الأنبياء.
ثانيا: الجن موجودون، ولا نراهم، ويتحدثون، ويتكلمون بالأصوات المرتفعة بيننا، ونحن لا نسمعهم.
ثالثا: الملائكة تضرب الكفار بالسياط، وتضرب رقابهم، وتصيح بهم، والمسلمون معهم لا يرونهم، ولا يسمعونهم،.. كلامهم في غزوة بدر وغيرها.
رابعا: النخل والحنظل كل منهما يشرب من ماء واحد، ويختلف الطلع، كذلك -أيضا- مما وقع في العصر الحاضر الكهرباء،، تكهرب مَن على الأرض، ولا تكهرب من على الخشب، فهذه كلها أمور أراد الله إياها في الدنيا.
وطريقة المعتزلة في النصوص، إما أن يخطئوها من ناحية السند، أو يؤولوها من جهة المتن، كما قالوا في حديث البراء بن عازب قالوا: إنه آحاد فلا يحتج به في مسألة العقائد.
والجواب: أن هذه الشبه مبنية على قياس الفارق، وهو قياس الغائب على الشاهد، وقياس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، وهذا ليس بصحيح، وهو خوض في أمر الغيب، فأحوال الآخرة مجهولة لنا، وأحوال الدنيا معلومة لنا، فكيف يقاس مجهول على معلوم؟ وكيف يقاس الغائب على الشاهد؟ فإن الله لا يقاس بخلقه، وسر المسألة أن هذه السعة والضيق والإضاءة والخضرة والنار، التي في القبر ليست من جنس المعهود في هذا العالم، وعود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير المألوفة في الدنيا، والله سبحانه وتعالى إنما أشهد بني آدم ما كان فيها، ومنها فأما ما كان من أمر الآخرة، فقد أسبل عليه الغطاء؛ ليكون الإقرار به والإيمان سببا لسعادتهم، فإذا كشف عنهم الغطاء، صار عيانا مشاهدة.
ويجاب عن طعن المعتزلة في حديث البراء، بأنه يقال بأنه، وإن كان آحادا، فله شواهد يرتقي بها، ويقال: إن الأخبار تواترت معنى لا لفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر، ونعيمه لمن كان لذلك أهلا، وتفيد اليقين، فتصلح للاحتجاج بها في العقائد، بل إنه إذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يحتج به في العقائد وغيرها، ولو كان خبر آحاد، وتقسيم الأخبار إلى قسمين: خبر آحاد، لا يحتج به في العقائد، وخبر متواتر يحتج به في العقائد هذا إنما ابتدعه أهل البدع من المعتزلة وغيرهم.
والحكمة في عدم اطلاع الثقلين على ما يحصل للمقبور في قبره:
قال العلماء: الحكمة في ذلك هي أن الله - تعالى- لو أطلع عباده على ما يحدث للمقبور في قبره، لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله، أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع) ولما كانت الحكمة منتفية في حق البهائم سمعته وأدركته؛ ولأن الناس لا يطيقون رؤيتها وسماعها، والعبد أضعف بصرا وسمعا من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر، وكثير ممن أشهده الله ذلك صعق وأغشي عليه، ولم ينتفع بالعيش زمنا، وبعضهم كشف قناع قلبه، فمات.
الأسباب التي.. في عذاب القبر التي يعذب بها أصحاب القبور:
الأسباب نوعان: نوع مجمَل، ونوع مفصَّل:
أما المجمل: فإن الميت، فإن أهل القبور المعذبين، إنما يعذبون على جهلهم بالله -تعالى- وإضاعتهم لأمره وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب الله روحا عرفته، وأحبته، وامتثلت أمره، واجتنبت نهيه، ولا بد إن كانت فيه أبدا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة، أثر سخط الله على عبده،، ومن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار، ثم لم يتب، فمات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، ومستقل، ومستكثر، ومصدق، ومكذب.
وأما السبب المفصَّل: فهي كما ورد في النصوص، أن النميمة وعدم الاستبراء من البول، وأكل لحوم الناس، ومن صلى صلاة بغير طهور، ومن مر على مظلوم فلم ينصره، ومن كذب الكذبة، فتبلغ الآفاق، ومن يقرأ القرآن، وينام عنه بالليل، ولا يعمل به بالنهار، ومن تتثاقل رءوسهم عن الصلاة، ومن لا يؤدي زكاة ماله والزاني، ومن يقوم في الفتن بالكلام والخطب، والغلول من الغنيمة، وأكل الربا، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما، يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول، فهذا ترك الطهارة الواجبة، وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه، وإن كان صادقا، وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة بالكذب والزور والبهتان، أعظم عذابا، كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيها على أن من ترك الصلاة، التي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها، هو أشد عذابا وفي حديث شعبة (أما أحدهما، فكان يأكل لحوم الناس) فهذا مغتاب، وذلك نمَّام.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي ضرب سوطا امتلأ القبر عليه نارا؛ لكونه صلى صلاة واحدة بغير طهور، ومرَّ على مظلوم فلم ينصره. وفي حديث سمرة في صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة، فتبلغ الآفاق، وتعذيب من يقرأ القرآن، ثم ينام عنه بالليل، ولا يعمل به بالنهار، وتعذيب الزناة والزواني، وتعذيب آكل الربا كما شاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم في البرزخ. وفي حديث أبي هريرة، الذي فيه رضخ رءوس أقوام بالصخر؛ لتثاقل رءوسهم عن الصلاة، والذين يسرحون بين الضريع والزقوم؛ لتركهم زكاة أموالهم، والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم، والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد؛ لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الشملة، التي غلَّها من المغنم، أنها تشتعل عليه نارا في قبره، هذا وله فيها حق، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق له فيه، وبالجملة، فعذاب له فيه، فعذاب القبر عن معاصي القلب والعين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله.
الأسباب المنجية من عذاب القبر:
سببان: سبب مجمل، وسبب مفصَّل:
أما المجمل: فهو تجنب الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، ومن أنفعها أن يجلس الرجل -عندما يريد النوم- لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحا بينه وبين الله فينام على تلك التوبة، ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبل للعمل مسرورا بتأخير أجله، حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقَّب ذلك بذكر الله واستعمال السنن، التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم، حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيرا وفقه لذلك، ولا قوة إلا بالله.
وأما السبب المفصل: فهو مما دلَّت عليه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ينجي من عذاب القبر، فمنها:
أولا: ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات أجرى عليه عمله، الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتَّان) .
ثانيا: في جامع الترمذي حديث فضاله بن عبيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر) .
وثالثا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في سورة الملك، هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر، ومنها ما في سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:(مَن مات مقتولا، مات شهيدا، ووقي فتنة القبر) .
ومن مباحث عذاب القبر ونعيمه:
ما يتعلق بذلك السؤال في القبر من الملكيين:
هل هو للروح أم ماذا؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الأحاديث الصحيحة المتواترة، تدل على عود الروح إلى البدن وقت السؤال، وسؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس، وأنكره الجمهور، وقابلهم آخرون، فقالوا: السؤال للروح بلا بدن، وهذا قاله بن مُرة وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده، ولو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص، وترجيح مذهب الجمهور أنه للروح والبدن، قالوا: قد كفانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر هذه المسألة وأغنانا عن أقوال الناس، حيث صرح بإعادة الروح إليه في أحاديث كثيرة: منها أولا:
حديث البراء بن عازب، وفيه (فتعاد الروح في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، وعملت به، وصدقت) وفي قصة العبد الكافر، (فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيقولان له من ربك فيقول: هاها لا أدري، ويقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاها لا أدري..) الحديث، وذهب إلى القول بموجب هذا الحديث جميع أهل السنة، والحديث بسائر الطوائف، قال ابن منده -بعد سياق حديث البراء-: هذا حديث ثابت مشهور مستفيض، صححه جماعة من الحفاظ، ولا نعلم أحدًا من أئمة الحديث طعن فيه، بل رووه في الكتب، وتلقوه بالقبول، وجعلوه أصلا من أصول الدين في عذاب القبر، ونعيمه، ومسائلة، ومنكر، ونكير، وقبض الأرواح، وصعودها بين يدي الله، ثم رجوعها إلى القبر.
ثانيا: ما ذكره البخاري عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم..) إلى قوله: (وأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقول له: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا) .
ثالثا: وفي صحيح ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا قبر أحدكم، أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما منكر والآخر نكير..) الحديث.
ومن مباحث السؤال في القبر:
هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار؟ أو يختص بالمسلم والمنافق؟
قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "التمهيد": من الآثار الدالة، التي تدل على أن الفتنة في القبر، لا تكون إلا للمؤمن أو المنافق، أو كان منسوبا إلى أهل القبله، ودين الإسلام ظاهره بالشهادة، وأما الكافر الجاحد المبطل، فليس ممن يسأل عن ربه ودينه، ونبيه وإنما يسأل عن هذا أهل الإسلام، فيثبت الله الذين آمنوا، ويرتاب المبطلون، والقرآن والسنة يدلان على خلاف هذا القول، وأن السؤال للكافر والمسلم من ذلك قول الله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) } .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم) وذكر الحديث، زاد البخاري (وأما المنافق والكافر، فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت، ولا تليت، ويضرب بمطرقة من حديد، يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين) هكذا في البخاري، (وأما المنافق والكافر) بالواو وفي حديث أبي سعيد الخدري:(كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دفن، وتولى عنه أصحابه جاءه ملك، وفي يده مطرقة، فأقعده، فقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول له: صدقت، فيفتح له باب إلى النار، فيقول هذا منزلك لو كفرت بربك، وأما الكافر والمنافق، فيقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال: لا دريت، ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذا كفرت، فإن الله أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى النار) الحديث.
وفي حديث البراء بن عازب الطويل (وأما الكافر إذا كان في قُبُل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل عليه الملائكة من السماء، معهم مسوح) وذكر الحديث إلى أن قال: (ثم تعاد روحه في جسده في قبره) وذكر الحديث، وفي بعض روايات حديث البراء:(وأما الفاجر) واسم الفاجر في عرف القرآن والسنة يتناول الكافر قطعا، وهذه الأدلة صريحة في أن السؤال للكافر والمنافق، كما رواه مسلم، وأما قول أبي عمر بن عبد البر رحمه الله: وأما الكافر الجاحد المنكر فليس ممن يسأل عن ربه ودينه، فيقال له ليس كذلك، بل هو من جملة المسئولين، وأولى بالسؤال من غيره، وقد أخبر الله في كتابه أنه يسأل الكافر يوم القيامة قال تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) } وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) } فإذا سئلوا يوم القيامة، فكيف لا يسألون في قبورهم.
من المباحث في عذاب القبر - لأن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، ووجه تسميته برزخا..
ينبغي أن يُعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ، ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة قال تعالى:{وَمِنْ ورائهم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) } وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة، وسمي عذاب القبر، ونعيمه، وأنه روضة، أو حفرة نار باعتبار غالب الخلق وعذاب القبر، يناله من هو مستحق له. هذا المبحث في أن عذاب القبر يناله من هو مستحق له قُبر أو لم يقبر، عذاب القبر، هو عذاب البرزخ، كل من مات، وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قُبر أو لم يقبر، فمن أكلته السباع، أو احترق حتى صار رمادا، ونشر في الهواء، أو صلب، أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، وكذلك المصلوب، ومن أكلته الطيور لهم من عذاب البرزخ، ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله، حتى لو علق الميت على رءوس الأشجار في مهب الرياح لأصاب جسمه من عذاب البرزخ حظه، ونصيبه، ولو دفن الرجل الصالح في تابوت من النار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه وحظه، فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما والهواء على ذلك نارا وسموما، فعناصر العالم، ومواده منقادة لربها وفاطرها وخالقها، يصرفها كيفما يشاء، ولا يستعصي عليه منها شيء أراده.
وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه، ونحو ذلك، فهو حق، ويجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو، ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمل، ولا يقصر به عن مراده ما قصده من الهدى والبيان، وكم حصل بإهمال ذلك، والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، وسوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، والله المستعان.
ومن المباحث في عذاب القبر:
هل هو دائم أو منقطع؟
والجواب: أنه نوعان: نوع دائم، وهو عذاب الكفار، ويدل عليه قول الله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) } .
ثانيا: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في قصة الكافر، (ثم يفتح له باب إلى النار، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة) رواه الإمام أحمد، وفي بعض طرقه (ثم يخرق له خرقا إلى النار، فيأتيه من عذابها ودخانها إلى يوم القيامة) النوع الثاني: عذاب إلى مدة مؤقتة، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة، ثم يزول عنه العذاب،، ومنه.. وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء، أو صدقة، أو استغفار، أو سبب حج تصل إليه من أقاربه أو غيرهم، وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا، فيخلص من العذاب بشفاعته، لكن هذه شفاعة قد لا تكون بإذن المشفوع عنده، والله -سبحانه- لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأمن للشافع أن يشفع، إذا أراد أن يرحم المشفوع له.
ومن المباحث: في ضغطة القبر وضمته: وهل ينجو منها، ومن السؤال وفتنة القبر أحد؟
ورد في ضغطة وضمته لكل أحد، ورد أن ضغطة القبر وضمته لكل أحد، وكذلك السؤال والفتنة في القبر، جاءت النصوص بأن ضغطة القبر وضمته لكل أحد، وكذلك السؤال والفتنة في القبر، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن للقبر ضغطة لو كان أحد منها ناجيا نجى سعد بن معاذ) .
قال بعضهم: الفرق بين المسلم والكافر في ضمة القبر دوامها للكافر، وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله، إى قبره، ثم يعود الانفساح له فيه، والمراد بضغطة القبر ارتفاع جانبيه على جسد الميت، قال بعضهم: سبب هذه الضغطة أنه ما من أحد إلا، وقد ألم بخطيئة ما، وإن كان صالحا، فجعلت هذه الضغطة جزاء لها، ثم تدركه الرحمة؛ ولذلك ضغط سعد بن معاذ رضي الله عنه وأما الأنبياء فلا نعلم أن لهم في قبورهم ضمة، ولا سؤالا لعصمتهم؛ لأن السؤال عن الأنبياء، وما جاءوا به فكيف يسألون عن أنفسهم؟.
وأما الحياة التي اختص بها الشهداء، وامتازوا بها عن غيرهم في قوله تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) } وقوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) } هي أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر، كما في حديث عبد الله بن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما أصيب إخوانكم - يعني يوم أحد - جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، تلج أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، مظللة في ظل العرش) الحديث رواه الإمام أحمد، وأبو داود وابن عوانة في حديث ابن مسعود، رواه مسلم، فإنه لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداء الدين، أعالهم عنها في البرزخ أبدانا خيرا منها، تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها؛ ولهذا كان نسمة المؤمن في صورة طير، أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين.
ففي الموطأ أن كعب بن مالك يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) فقوله: (نسمة المؤمن) يعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال:(هو في جوف طير خضر) ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير، صدق عليها أنها طير، فتدخل في عموم الحديث الآخر، وهو أنها طائر بهذا الاعتبار، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكبر من نصيب غيرهم في الأموات على فرشهم، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم، فللشهيد نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه، وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، كما روي في السنن.
وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنهم كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم حشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة، والله أعلم، وكأنه -والله أعلم- كلما كانت الشهادة أكمل، والشهيد أفضل، كان بقاء جسده أطول.
وأما القول الفرق بين الميت على فراشه والشهيد: فالشهيد له خصوصية، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم كمحمد صلى الله عليه وسلم أعلى من الشهيد من ناحية النبوة، وحمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم شهيد، فله امتياز غير ما يكون للنبي في ناحية، وإن كان أقل من نبيه، وإن كان أقل نبي أفضل من أي شهيد.
ومن المباحث التي تتعلق بعذاب القبر:
سؤال يردده بعض الناس، وهو ما الحكمة في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن، مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به؟
والجواب من وجهين: مجمل، ومفصل:
أما المجمل: فهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله وحيين، وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما، وهما الكتاب والحكمة، قال الله تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ثم قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وقال {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} والكتاب، هو القرآن، والحكمة هي السنة باتفاق الشرع، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو في وجوب تصديقه والإيمان به، كما أخبر الله به في كتابه، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام لا ينكره إلا من ليس منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إني أوتيت الكتاب، ومثله معه) .
وأما الجواب المفصل: فهو أن نعيم البرزخ وعذابه مذكوران في القرآن في غير موضع منها قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) } وهذا خطاب لنا عند الموت، وقد أخبرت الملائكة أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون، ومنها قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} إلى قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) } ومنها قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) } إلى قوله: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} .
القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار
والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
نعم هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة أن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار فالمؤمن يكون روضة من رياض الجنة عليه، والكافر حفرة من حفر النار، نعوذ بالله، والعاصي بين بين على خطر. نعم.
ونؤمن بالبعث، وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض، والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب، والعقاب، والصراط، والميزان
نعم هكذا معتقد أهل السنة والجماعة: الإيمان بالبعث، ومعاد الأبدان، وجزاء الأعمال والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب والصراط والميزان، ومن لم يؤمن بالبعث، فهو كافر، من لم يؤمن بأن الله يبعث الأجساد، ويعيد الأرواح، فهو كافر بإجماع المسلمين، وقد أمر الله نبيه أن يقسم على البعث في ثلاثة مواضع من كتابه قال الله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} قال سبحانه: {* وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} يعني البعث {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} قال سبحانه: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} فكفر الله من أنكر البعث.
من أنكر البعث، فهو كافر بإجماع المسلمين، والفلاسفة يقولون: البعث للروح لا ينكرون معاد الروح، ولكن ينكرون بعث الأجساد، وهم كفار بهذا، من لم يؤمن بأن الأجسام تبعث، وتعاد إلى الروح، فهو كافر، والذي يقول: إن البعث والمعاد للروح لا للأبدان كافر، وهم الفلاسفة.
والبعث لغة: هو الإرسال وبعثه كمنعه، أرسله كابتعته، فانبعث.
وشرعا: إحياء الله الموتى وإخراجهم من قبورهم للحساب والجزاء، والمراد به المعاد الجسماني، وهو أن يبعث الله الموتى من القبور، بأن يجمع أجزاءهم الأصلية، ويعيد الأرواح إليها، وأما النشور، فهو مرادف البعث. معنى نشر الميت: ينشر نشورا إذا عاش بعد الموت، وأنشره الله: أي أحياه، وأما الحشر، فهو في اللغة الجمع، والمراد به جمع أجزاء الإنسان بعد التفرقة، ثم إحياء الأبدان بعد موتها، والإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، وهو حق واقع، فيجب الإيمان به والتصديق، قد أخبر الله عنه في كتابه العزيز وأقام الدليل عليه، ورد على المنكرين في غالب سور القرآن.
والقرآن بيَّن معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع؛ ولهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: معاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى، قال بعض العلماء: هو بإجماع أهل الملل، وبشهادة نصوص القرآن.
والكلام في البعث في القرآن، أكثر الآيات والنصوص في القرآن في البعث، أكثر من النصوص التي في الرب وسبب ذلك كثرة الإنكار البعث، وقلة الإنكار للرب، وذلك لأن الأنبياء كلهم متفقون على الإيمان بالله، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري كلهم يقر بالرب فطرة، إلا من عاند كفرعون بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثير، ومنشأ زعم بعض الملاحدة أن أخبار البعث، ونصوصه من باب التخيير، الملاحدة يقولون: أخبار البعث، ونصوصه من باب التخيير قالوا: لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء.. سبب ذلك أن محمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء وكان قد بعث، هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر فصّل وبين تفصيل الآخرة بيانا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء، فإن كتب الأنبياء أجملت ولم تفصل، وزاد محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الشريعة على الأنبياء في تفسير المعاد، ومما يتصل بالسؤال والشفاعة والحساب ودرجات أهل الجنة، ودركات أهل النار ولمجيء محمد صلى الله عليه وسلم بالتفصيل، ومن سبقه بالإجمال ظن طائفة من المتفلسفة، أنه لم يفصح في معاد الأبدان إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم وجعلوا هذا حجة لهم في أنه من باب التخيير والخطاب الجمهوري، أي الحجج التي ترضي الجمهور، وإن كانت غير واقعة، والقرآن بين معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع، وهؤلاء الملاحدة ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقولون: إنه لم يخبر بذلك إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريقة التخيير، وهؤلاء كفرة لا شك في ذلك.
وجزاء الأعمال والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب والعرض، كل هذا يجب الإيمان به.
والحساب في اللغة: العد.
واصطلاحا: تعريف الله الخلائق مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم ما قد نسوه، ومن الأدلة على ذلك قول الله تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن المؤمن {يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) } وجاء في الحديث (أن من نوقش الحساب عذب) فاستشكلت عائشة رضي الله عنها ذلك، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من نوقش الحساب عذب، قالت عائشة: أليس قد قال الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) } ) .
ووجه التعارض: أن الآية تثبت جنس الحساب، والحديث يثبت هلاك من حوسب وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالحساب في الآية العرض، وفي الحديث المناقشة لا مطلق الحساب، كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب، فقلت: أليس يقول الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) } فقال: إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك) .
وقراءة الكتاب أي صحف الأعمال: جمع صحيفة، وهي الكتب التي كتبتها الملائكة، وأحسن ما فعله الإنسان من سائر أعماله القولية والفعلية وغيرها، وإنما يؤتى بالصحف إلزاما للعباد، ودفعا للجدل والعناد، قال الله تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ك l جچّƒéعز وجل ur لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) } قال العلماء: معنى: طائره، عمله، وفي الآية الأخرى {فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) } وهو القشر الذي يكون في شق النواة.
بعد هذا ننتقل إلى مبحث البعث والمعاد:
الإيمان بالمعاد مما يدل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، فهو حق واقع يجب الإيمان به والتصديق، ومن لم يؤمن بالبعث، فهو كافر بنص القرآن وبإجماع المسلمين، فأخبر الله سبحانه وتعالى عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على المنكرين في غالب سور القرآن، والقرآن بيَّن معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى، في غير موضع.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: معاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى، وقال الجلال الديواني: هو بإجماع أهل الملل وشهادة نصوص القرآن، والنصوص: نصوص البعث أكثر من النصوص التي في الصفات والأسماء، فالكلام في البعث في القرآن أكثر من الكلام في الرب، وسبب ذلك كثرة الإنكار للبعث، وقلة الإنكار للرب، وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم متفقون على الإيمان بالله، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري كلهم يقر بالرب فطرة إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون.
وزعم بعض الملاحدة أن أخبار البعث، ونصوصه من باب التخيير، ومنشأ هذا الزعم أن محمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء وكان قد بعث، هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفي، أي أنه قفى النبيين، فجاء بعدهم فكان ختامهم، بين تفصيل الآخرة بيانا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء، فإنها أجملت ولم تفصل فزاد محمد صلى الله عليه وسلم على الأنبياء في تفصيل المعاد مما يتصل بالسؤال والشفاعة والحساب ودرجات أهل الجنة ودركات أهل النار؛ فلمجيء محمد صلى الله عليه وسلم بالتفصيل، ومن سبقه بالإجمال ظن طائفة من المتفلسفة، ونحوهم أنه لم يفصح في معاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم وجعلوا هذا حجة لهم في أنه من باب التخيير والخطاب الجمهوري، أي الحجج التي ترضي الجمهور، وإن كانت غير واقعية.
والقرآن بين معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع، وهؤلاء الملاحدة ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقولون إنه لم يخبر بذلك إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريق التخيير والرد عليهم أن زعمهم هذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم إلى موسى وعيسي، وغيرهم -عليهم الصلاة والسلام- من حين أهبط آدم قال تعالى:{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) } والذي أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنواع: أقسام وإخبار وإنذار، فالأقسام كما في قوله عز وجل {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} وقوله سبحانه:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} وقال سبحانه: {* وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} .
فهذه ثلاث آيات أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم فيها على البعث، وأخبر الله سبحانه وتعالى عن اقترابها بقوله:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) } {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) } {سَأَلَ سائلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) } إلى قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) } وذم الله المكذبين بالمعاد فقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) } {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) } {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) } {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} إلى أن قال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) } {إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) } {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) } .
وقد أخبر الله بأنه أرسل الرسل مبشرين، ومنذرين في آيات من القرآن، وأخبر عن أهل النار أنهم قال لهم خزنتها:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) } وهذا اعتراف من أصناف الكفرة الداخلين جهنم، أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا، فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة، فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد، يذكر ذلك فيها في الدنيا وفي الآخرة.
ومن شبه المنكرين للمعاد: الجهل بالله، وزعمهم عدم إعادة العظام والرفات خلقا جديدا، فقال تعالى:{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) } والله سبحانه وتعالى يقرر المعاد بذكر كمال علمه وكمال قدرته وكمال حكمته، فإن شبه المنكرين للمعاد كلها تعود إلى ثلاثة أنواع:
أحدها: اختلاط أجزاء بأجزاء الأرض على وجه لا يتميز، ولا يحصل معه تميز شخص عن شخص.
الثاني: أن القدرة لا تتعلق بذلك.
الثالث: أن ذلك أمر لا فائدة فيه، أو إنما الحكمة إنما اقتضت دوام هذا النوع الإنساني، شيئا بعد شيء هكذا، كلما مات جيل خلفه جيل آخر، فأما أن يميت النوع الإنساني كله، ثم يحييه بعد ذلك، فلا حكمة في ذلك. فجاءت براهين المعاد في القرآن مبنية على ثلاثة أصول:
أحدها: تقدير الكمال، علم الرب -سبحانه- كما قال في جواب من قال:{مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) } وقال: {وَإِن السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) } وقال {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} .
الثاني: تقدير كمال قدرته كقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وقوله: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) } وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) } ويجمع الله -سبحانه- بين الأمرين كما في قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) } .
الثالث: كمال حكمته كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) } وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} وقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) } وقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ َ نجعلهم كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) } ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب -تعالى- وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه، وتوجبه، وأنه منزه عما يقوله المنكرون، كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنقائص.
والأدلة العقلية على البعث من القرآن الكريم:
والاستدلال بالقرآن من ناحيتين:
الأولى: الخبر من ناحية كونه صدر عن المعصوم.
الثانية: من ناحية الاستدلال بالآيات الكونية على قدرة الله -تعالى-.
ومن الأدلة العقلية على البعث قول الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) } وقد افتتح -سبحانه- هذه الحجة بسؤال أورده ملحد بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) } فإن الله سبحانه وتعالى افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد في قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) } اقتضى جوابا، فأجيب بجوابين الأول قوله:{وَنَسِيَ خَلْقَهُ} وهذا يفي بالجواب.
والثاني قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) } ولهذا فإن الثاني تأكيد للحجة وزيادة تقريرها {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، إذ كل عاقل يعلم ضروريا أن من قدر على هذا، قدر على هذا، وأنه لو كان عاجزا عن الثاني لكان عن الأول أعجز وأعجز.
ثم أكد هذه الحجة بالحجة الثانية والدليل الثاني، وهو رد على شبهة ثانية لملحد آخر يتضمن الدليل: وهو قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) } فإن هذه الآية تتضمن شبهة أوردها ملحد يقول: العظام إذا صارت رميما عادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها حارة رطبة، فأجاب الله سبحانه وتعالى بالدليل والجواب معا {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) } فأخبر -سبحانه- بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة، وهو النار من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه من إحياء العظام، وهي رميم.
الدليل الثالث: الاستلال بالكبير على الصغير في قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} فهذا فيه الدلالة من الشيء الأجل الأعظم على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل، فهو على ما دون ذلك بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار، فهو على حمل أوقية أشد اقتدارا.
الدليل الرابع: أنه ليس فعله سبحانه وتعالى بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات، بل {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) } فهو سبحانه وتعالى يستقل بالفعل لا يحتاج إلى آلة، ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه، ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون: كن، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده.
الدليل الخامس: إخباره -سبحانه- بأن ملكوت كل شيء بيده، فيتصرف فيه بفعله وقوله؛ ولهذا قال -سبحانه-:{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) } ختم -سبحانه- هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده، فيتصرف فيه بفعله وقوله. ومن الأدلة استنكار على من ينكر البعث ببيان كمال الحكمة في قوله:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) } ومثل ذلك الاحتجاج في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) } إلى أن قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) } ومثله ذكر قصة أصحاب الكهف وكيف أبقاهم ثلاثمائة سنة شمسية، وثلاثمائة وتسع سنين قمرية وقال فيها:{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَن وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) } .
القائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، لهم في المعاد خبط واضطراب، وهم فيه على أقوال، هم فيه على قولين:
القول الأول: من يقول تعدم الجواهر، ثم تعاد.
والقول الثاني: من يقول تفرق الأجزاء، ثم تجتمع، فعرض عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك الحيوان أكله إنسان، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا لم تعد من هذا، وأورد عليهم أن الإنسان يتحلل دائما، فما الذي يعاد أهو الذي كان قبل الموت، فإن قيل بذلك لزم أن يعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض.
فأجاب بعضهم: أجيب عن هذا بجوابين:
الجواب الأول: أجاب بعضهم بأن الإنسان، فيه أجزاء أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني، وهذا القول لعامة المسلمين، ويدخل فيه المعتزلة والأشعرية، وجميع فرق الإسلام يقولون: إن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان، الذي أكله الثاني والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل، وليس فيه شيء باق، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار المعاد.
القول الثاني: الذي عليه السلف وجمهور العقلاء أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل ترابا، ثم ينشؤها الله نشأة أخرى، كما استحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظاما، ولحما، ثم أنشأه الله خلقا سويا، كذلك الإعادة يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم، وفيه يركب) وفي حديث آخر: (إن الأرض تمطر مطرا كمني الرجال، ينبتون في القبور، كما ينبت النبات) .
فالنشأتان نوعان تحت جنس يتفقان، ويتماثلان من وجه، ويفترقان، ويتنوعان من وجه، والمعاد هو الأول بعينه، وإن كان بين لوازم الإعادة، ولوازم البدء فرق، فعجب الذنب هو الذي يبقى، وأما سائره، فيستحيل فيعاد من المادة التي استحال إليها، ومعلوم أن من رأى شخصا، وهو صغير، ثم رآه وقد صار شيخا، علم أن هذا هو ذاك مع أنه دائما فيه تحلل واستحالة، وكذلك سائر الحيوان والنبات، ومن رأى شجرة، وهي صغيرة، ثم رآها كبيرة قال هذه تلك، وليست صفة تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة، حتى يقال: إن الصفات هي المغيرة، لا سيما أهل الجنة إذا دخلوها، فانهم يدخلونها على صورة آدم، طوله ستون ذراعا، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما.
أما العرض، فإنه روي أن عرضه سبعة أذرع، لكن الحديث فيه ضعف. والقائلون بأن الإنسان مركب من الجواهر، وهم أهل الكلام يقولون: إنه مركب من أجزاء من الجواهر الفردة، وهي أجزاء صغيرة غير قابلة للقسمة، ويسمونها بالجواهر الفردة، وهذا مذهب سائر المتكلمين، فإن الأجسام عندهم مركبة من هذه الجواهر المتماثلة، وإنما تتمايز الأجسام بما يخلقه الله فيها من الأعراض، وقد غلا المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة في التعويل على نظرية الجواهر الفردة، وهي في الأصل نظرية يونانية قديمة، قال بها ديموكريس الفيلسوف الطبيعي اليوناني، وقد بنوا عليها كثيرا من الأصول الإيمانية، فجعلوها عمدتهم في الاستدلال على حدوث العالم ووجود المحدث له، حتى أن أحد كبار الأشاعرة، وهو القاضي أبو بكر الباقلاني، قد أوجب الإيمان بوجود الجوهر الفرد، بناء على أن الإيمان بوجود الله متوقف على ثبوته، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب كما بنوا على تلك النظرية ما يترتب على حدوث العالم من أن الله، فاعل بالاختيار لا موجود بالذات، كما يقوله الفلاسفة، وأنه لا تأثير لشيء من الأسباب في مسبباتها، بل يخلق الله الأشياء عند وجود أسببابها لا بها، وهكذا انحرف المتكلمون عن الجادة واعتمدوا في استدلالهم على وهم كاذب، ربطوا به مصير العقائد الإيمانية كلها، والجوهر الفرد من العلماء من قال لا وجود له، ومنهم من قال: إنه له وجود، فصار الإيمان بالله عند أهل الكلام، والإيمان بالبعث والمعاد مرتبط بالجوهر الفرد، وهذا من بدع أهل الكلام، ولم يحل الله سبحانه وتعالى في الإيمان به والإيمان بالبعث والمعاد إلى الجوهر الفرد.
مما يتعلق بالإيمان بالبعث:
النفخ في الصور:
والنفخ في الصور جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء) ثبت في الحديث في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تخيروني بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟) .
وجاء في الحديث الآخر (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله؟)(إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله؟) .
فنشأ الإشكال في هذا الحديث، وسبب هذا الإشكال ناشئ من أنه دخل على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين، بيان ذلك أن قوله في الحديث:(إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟) جاء بعض الرواة، فروى الحديث هكذا:(إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟) وفي لفظ آخر: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله؟) .
ووجه الإشكال: أنه في أول الحديث قال: (يصعقون يوم القيامة) وهذا يدل على أن الناس قاموا من القبور، ووقفوا للحساب، وفي آخر الحديث قال:(فأكون أول من تنشق عنه الأرض) يدل على بدء الخروج من القبور، حيث تنشق عنه عليه الصلاة والسلام الأرض، ولم يقف الناس بعد للحساب، فيفسد المعنى بذلك؛ لأن انشقاق الأرض قبل الموقف والصعق في الموقف، ومنشأ الإشكال الوهم من بعض الرواة بإدخال حديث في حديث.
وحل الإشكال رد الحديث إلى أصله، وهو أن صواب الحديث هكذا:(إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق) وليس: فأكون أول من تنشق عنه الأرض. وإنما، وهم بعض الرواة، فأبدل قول، فأكون أول من يفيق بقوله، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، وحل الإشكال رد الحديث إلى أصله، الصواب أن هذا وهم من الرواة، وأن هذه اللفظة صوابها: فأكون أول من يفيق. لا، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، وكذلك أشكل في الحديث رواية بعض الرواة، فإنه روى في آخر الحديث:(لا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل؟) .
ووجه الإشكال: أنه في آخر الحديث، استثني من صعقة يوم القيامة؛ لأن أول الحديث:(إن الناس يصعقون يوم القيامة) أو هذا في موقف القيامة، ثم قال في آخره، (فلا أدري أفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله؟) فاستثني من صعقه يوم القيامة.
والذين استثناهم الله إنما هم مستثنون من صعقة النفخة، لا من صعقة يوم القيامة كما قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ولم يقع الاستثناء من صعقة الخلائق يوم القيامة، فالصعق الذي استثنى الله فيه في سورة الزمر والنمل، ذلك الصعق صعق تخريب العالم، وسببه النفخ في الصور والفزع، والمستثنى قيل ملك الموت، وثلاثة ملائكة معه.
ومنشأ الإشكال الوهم من بعض الرواة، حيث اشتبه عليه أن هذه الصعقة هي صعقة النفخة، وأن موسى داخل في من استثنى الله، فأبدل قوله:(فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور) بقوله: (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل .
وحل الإشكال رد الحديث إلى أصله، فالمحفوظ الذي تواترت عليه الروايات الصحيحة هو:(فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور) وعليه المعنى الصحيح، فإن الصعق يوم القيامة لتجلي الله لعباده، إذا جاء لفصل القضاء، وموسى عليه الصلاة والسلام إن كان لم يصعق معهم، فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل، فجعله دكا، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضا عن صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم، وأما قوله: (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل فلا يلتئم على مساق الحديث قطعا، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث، وكيف يقول: لا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟
فتأمل، وممن نبه على هذا الحافظ أبو الحجاج المزي، والحافظ العلامة ابن القيم، والحافظ عماد الدين ابن كثير، نبهوا على هذا الوهم من الرواة، وأنه دخل على الرواة حديث في حديث، والصعق نوعان: صعق البعث، وسببه هو النفخ في الصور، ووقته يوم القيامة، والثاني: صعق التجلي، وسببه تجلي الله للخلائق، ووقته في موقف يوم القيامة.
والنفخ في الصور، نفختان على الصحيح، وقال بعضهم: ثلاث نفخات نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة الموت، والصواب: أن نفخة الفزع، ونفخة الصعق نفخة واحدة نفخة طويلة، يطولها إسرافيل أولها: فزع وآخرها موت، وأما الحديث الذي فيه إثبات ثلاث نفخات، فهو حديث ضعيف، فأولها النفخة الأولى، نفخة الفزع أولا، ويتغير بها هذا العالم، ويفسد نظامه، ويسير الله الجبال، وترتج الأرض بأهلها رجا، وتكون كالسفينة الموقرة في البحر تضربها الأمواج، وتميد الأرض بالناس على ظهرها، تذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتثور الشياطين هاربين من الفزع، حتى تأتي الأقطار فتتلقاها الملائكة، وتضربها في وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين، فينادي بعضهم بعضا وذلك قول الله تعالى:{التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} وتتصدع الأرض، وتكون السماء كالمهل، فيرى الناس أمرا عظيما، وهي المشار إليها بقوله تعالى:{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) } أي من رجوع، ومرد، وقوله {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قيل: المستثنى ملك الموت وجبريل وميكائيل وإسرافيل، وقيل: غير ذلك، وإنما يحصل الفزع لشدة ما يقع من هول تلك النفخة، ثم يكون آخرها صعق وموت، وفيها هلاك كل شيء، كما قال الله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وقد فسر الصعق بالموت.
النفخة الثانية: نفخة البعث والنشور، وقد جاء في الكتاب العزيز آيات تدل عليها كقوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) } وقوله سبحانه: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) } وقوله: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) } قال المفسرون: المنادي إسرافيل عليه الصلاة والسلام ينفخ في الصور، وينادي: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، والمكان القريب صخرة بيت المقدس، وبين النفختين أربعون.
والعرض أنواع: عرض أعمال، أو صحف، وعرض الناس على جهنم وعرض جهنم على الناس، وعرض على الله، قد يعرض بالعمل مع الصحيفة، وقراءة الكتاب، صحف الأعمال جمع صحيفة، وهي الكتب التي كتبتها الملائكة، وأحسن ما فعله كل إنسان من سائر عمله في الدنيا: القولية والفعلية، وغيرها وإنما يؤتى بالصحف؛ إلزاما للعباد ودفعا للجدل والعناد، قال الله تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) } قال العلماء: معنى طائره: عمله وفي الآية الأخرى: {فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) } وهو القسم الذي فيه شق النواة، وهذا يضرب مثلا للشيء الحقير.
وأما الصراط فهو لغة: الطريق الواضح، ومنه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط *** إذا اعوج الموارد مستقيما
وشرعا: جسر ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون، والأدلة على إثباته كثيرة، منها قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) } وفي الحديث الذي رواه البيهقي، عن مسروق، عن عبد الله بن عباس قال:(يجمع الله الناس يوم القيامة إلى أن قال: ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض، ومزلة، فيقال: لهم امضوا على قدر نوركم) .
وجاء في حديث عائشة (في جهنم جسر أدق من الشعر، وأحد من السيف، عليه كلاليب وحسك)
قال العلماء في وصف الصراط: إنه أدق من الشعر، وأحد من السيف، وأحر من الجمر جاء هذا في أحاديث، وقد أنكر بعض الطوائف الصراط، وهم المعتزلة، وقالوا: ليس هناك صراط حسي، وقالوا: إن الصراط إنما هو المراد الصراط المعنوي، فأهل الحق يثبتون الصراط على ظاهره، من كونه جسرا ممدودا على متن جهنم، أحد من السيف وأنكر بعض المعتزلة كالقاضي عبد الجبار المعتزلي، وكثير من أصحابه، ومن أتباعه. قالوا: ليس هناك صراط حسي، قال: والمراد بالصراط طريق الجنة، المشار إليه بقوله تعالى:{سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) } وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) } .
شبهتهم:
قالوا: إنهم أنكروا الصراط الحسي، زعما منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين يوم القيامة، والرد أن هذا تأويل باطل بوجوب حمل النصوص على حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء والطيران في الهواء، والوقوف فيه، وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال حشر الكافر على وجهه، بأن القدرة صالحة لذلك، والمراد بالورود في قوله:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} في أصح قولي العلماء: المرور على الصراط، وقال بعضهم: دخول جهنم، والصواب أن المراد به المرور على الصراط.
الصراط: كما سبق أنه لغة: الطريق الواضح، ومنه قول جرير
أمير المؤمنين على صراط *** إذا اعوج الموارد مستقيما
وشرعا: جسر ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون بعد مفارقتهم مكان الموقف.
الأدلة على إثباته كثيرة: منها ما رواه البيهقي بسنده، عن مسروق، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:(يجمع الله الناس يوم القيامة إلى أن قال: ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض، ومزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم) ثانيا: ما أخرجه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (في جهنم جسر أدق من الشعر، وأحد من السيف، عليه كلاليب وحسك..) الحديث، ثالثا: أخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصراط كحد السيف..) الحديث.
وفي بعض الآثار أن طول الصراط مسيرة ثلاث آلاف سنة، والله أعلم، قال: ألف منها صعود، وآلف منها هبوط، وآلف منها استواء، والله أعلم بالصواب.
وصف الصراط:
قال العلماء: الصراط أدق من الشعرة، وأحد من السيف وأحر من الجمر، فقد أخرج الطبراني بإسناد حسن، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:(يوضع الصراط على سواء جهنم، مثل حد السيف المرهف مدحضة، أي مزلة، أي لا تثبت عليه قدم، بل تزل عنه إلا من يثبته الله، عليه كلاليب من نار تخطف أهلها، فتمسك بهواديبها، ويستبقون عليه بأعمالهم، فمنهم من شده كالبرق، وذلك الذي لا ينشب أن ينجو، ومنهم من شده كالريح، ومنهم من شده كالفرس) .
الطائفة المنكرة للصراط، وشبهتها وتأويلهم للصراط والرد عليه: أهل الحق يثبتون الصراط على ظاهره، بكونه جسرا حسيا ممدودا على متن جهنم، أحد من السيف، وأنكر هذا الظاهر القاضي عبد الجبار المعتزلي، وكثير من أتباعه، وأولوا الصراط فقالوا: المراد بالصراط طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) } وطريق النار المشار إليها بقوله: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) } شبهتهم: أنكروا الصراط الحسي، زعما منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن، ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين يوم القيامة.
الرد عليهم: تأويلهم هذا باطل بوجوب حمل النصوص على حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء، والطيران في الهواء والوقوف فيه، وقد أجاب صلى الله عليه وسلم عن سؤال حشر الكافر على وجهه، بأن القدرة صالحة لذلك.
هل هناك صراط آخر؟
قال القرطبي رحمه الله: اعلم -رحمك الله تعالى- أن في الآخرة صراطين:
أحدهما: مجاز لأهل الحشر كلهم ثقيلهم وخفيفهم، يجيزون عليه إلا من دخل الجنة بغير حساب، وإلا من يلتقطه عنق من النار، فإذا خلص من هذا الصراط الأكبر المذكور، ولا يخلص منه إلا المؤمنون، الذين علم الله منهم أن القصاص لا يستنفد حسناتهم، حبسوا على صراط آخر، خاص لهم، ولا يرجع إلى النار من هؤلاء أحد، -إن شاء الله تعالى- لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم، التي يسقط منها من أوبقته ذنوبه، وزاد على الحسنات جرمه وعيوبه.
ويدل على هذا الصراط الثاني ما أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: ( {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) } قال: يخلص المؤمنون من النار، فيجلسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا، ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا) .
قال القرطبي: هذا في حق من لم يدخل النار من عصاة الموحدين، أما من دخلها، ثم أخرج، فإنهم لا يحبسون، بل إذا أخرجوا بقوا على أنهار الجنة.
المراد بالورود في قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) } اختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في هذه الآية على قولين: فقيل: المراد به الدخول في النار، وهذا قال به ابن عباس وجماعة، واستدلوا بقوله تعالى:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} بعد قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فالتعبير بالإنجاء بعد الورود دليل على أنهم دخلوا، لكنهم نجوا، وأجيب بأن التعبير بالإنجاء لا يستلزم إحاطة العذاب بالشخص، بل يكفي في ذلك انعقاد أسبابه، ولو لم يهلك كما في قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا هُودًا} {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا صَالِحًا} {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا شُعَيْبًا} ولم يكن العذاب أصابه، ولكن أصاب غيره.
ثانيا: من ناحية اللغة أن الورود في اللغة
…
الدليل الثاني: استدلوا باللغة قالوا: الورود في اللغة يستلزم الدخول، والجواب يرد ذلك بالحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: -وهو في صحيح مسلم- (والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة، قالت حفصة: فقلت: يا رسول الله، أليس الله يقول {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال: ألم تسمعيه قال {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) } ) أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من النار لا تستلزم حصوله، بل تستلزم العقاب الشديد.
الدليل الثالث: استدلوا بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) } وقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} وقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) } فسمى دخول النار ورودا، وأجيب بأن هذه الآيات في الكفار، ويستلزم الورود إحاطة العذاب بهم، ودخولهم من أدلة أخرى لا من نفس الورود.
القول الثاني: أن المراد بالورود المرور على الصراط، وهذا هو الصواب، ويؤيد ذلك الحديث الصحيح، الذي رواه الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(والذي نفسي بيده، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة، قالت حفصة: فقلت: يا رسول الله أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال: ألم تسمعيه قال {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) } ) أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من النار لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، ولو لم يحصل الهلاك.
ثانيا: أن من طلبه عدوه؛ ليهلكوه، ولم يتمكنوا منه يقال: نجاه الله منهم؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا هُودًا} {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا شُعَيْبًا} ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك، وكذلك حال الوارد في النار، يمرون فوقها على الصراط، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا.
ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين في هذه الإجابة المذكور أن الورود هو المرور على الصراط، وعن يعلى بن أمية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي) .
وأما الميزان، فإنه يجب الإيمان به كأخذ الصحف، وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والأدلة على إثبات الميزان كثيرة قول الله تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) } {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) } واختلف العلماء هل في يوم القيامة ميزان واحد، أو موازين متعددة والأشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال، كِفتاه كأطباق السماوات والأرض، وقيل إنه لكل أمة ميزان، وقال الحسن البصري: لكل واحد من المكلفين ميزان، ومن قال: إنه ميزان واحد أجاب عن الآيات بأن المراد الموزونات، فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة.
وأهل السنة يؤمنون بأن الميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات حق، قالوا: وله لسان وكفتان توزن بهما صحائف الأعمال، وهو ميزان حسي، وذهب بعض المبتدعة كالمعتزلة وبعض الملحدين إلى أن الميزان أمر معنوي، قالوا: والمراد به العدل.
شبهتهم: قال المعتزلة: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، ومثلها يوزن بميزان معنوي، هو العدل، وإنما يقبل الوزن الأجسام، قالوا: والله لا يحتاج إلى الميزان، ولا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال، أما الله فلا يحتاج إلى الميزان، هكذا المعتزلة حرفوا النصوص بأهوائهم، رد عليهم أهل السنة بأن الله يقلب الأعراض أجساما، كما في حديث البراء بن عازب، أن العمل يمثل في القبر لصاحبه إنسانا حسنا، أو قبيحا، مع أن العمل معنوي وكما في حديث أبي هريرة:(يؤتى بالموت كبشا أغر، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة فيشرئبون، وينظرون، ويقال: يا أهل النار، فيشرئبون، وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيذبح الموت كالكبش) وهو معنوي، فكذلك الميزان، كذلك الله تعالى يقلب الأعمال أجساما، فتوزن، ويوزن الشخص، توزن الأعمال، ويوزن الشخص، يعني (يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (في دقتي ساقي ابن مسعود، إنهما، لهما في الميزان أثقل يوم القيامة من جبل أحد) ويوزن الشخص، وتوزن الأعمال، ومنشأ ضلال هؤلاء المعتزلة وغيرهم قياس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال حسي له كفتان حسيتان مشاهدتان.
ومن ذلك حديث البطاقة أنه يؤتى برجل، ويخرج له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مد البصر سيئات، ثم يؤخذ له بطاقة فيها الشهادتان، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فتوضع السجلات في كفة، وتوضع البطاقة في كِفة، فطاشت السجلات من كثرة البطاقة، فنجي وسلم، وغفر الله له.
نعم.
والترتيب في الميزان والحوض والصراط والحساب، الصواب أن مراتب البعث والمعاد والصراط، أنها أولا المعاد والبعث والنشور، ثم القيام لرب العالمين، ثم الحوض، ثم العرض، ثم تطاير الصحف وأخذها باليمين والشمال، ثم الميزان، ثم الورود على الصراط، ثم الجنة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.
الميزان عند أهل الحق ميزان حسي له كفتان عظيمتان، والأدلة على إثبات الميزان منها قول الله تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) } وقوله: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) } اختلف العلماء هل في موقف القيامة، ميزان واحد أم موازين متعددة؟ فالأشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم، ولجميع الأعمال كفتاه كأطباق السماوات والأرض، وقيل: إنه لكل أمة ميزان، وقال الحسن البصري: لكل واحد من المكلفين ميزان. قال بعضهم: الأظهر إثبات موازين يوم القيامة، لا ميزان واحد استدلالا بالآية السابقة {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} ومن قال إنه ميزان واحد، أجاب على الآيات بأن المراد الموزونات، فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة، فلا بد للمؤمن الإيمان بالميزان، الذي توزن به الحسنات والسيئات، وأنه حق وأن له لسانا وكفتين توزن به صحائف الأعمال.
الخلاف في الميزان هل هو حسي، أو معنوي؟
ذهب بعض المبتدعة كالمعتزلة وبعض الملحدين المعاندين إلى أن الميزان أمر معنوي، والمراد به العدل.
شبهتهم: أن الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، ومثلها يوزن بميزان معنوي، هو العدل وإنما يقبل الوزن الأجسام، والله لا يحتاج إلى الميزان، ولا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال.
الرد عليهم بأن الله يقلب الأعراض أجساما، كما في حديث البراء بن عازب أن العمل يمثل في القبر لصاحبه إنسانا حسنا، أو قبيحا مع أن العمل معنوي وكما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(يؤتى بالموت كبشا أغر، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة فيشرئبون، وينظرون، ويقال: يا أهل النار، فيشرئبون، وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيذبح، ويقال خلود، فلا موت) فهذا الموت معنوي قلب جسما، وامتناع قلب الحقائق في مقام خرق العادات غير ملتفت إليه، ومنشأ ضلال المؤولين للميزان، هي قياس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال حسي له كفتان حسيتان مشاهدتان، ومن أدلة ذلك حديث البطاقة وفيه (توضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة) .
ثانيا: وفي الترمذي في سياق آخر (توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل، فيوضع في كفة) الحديث، وفي هذا السياق فائدة جليلة، وهي أن العامل يوزن مع عمله، وهو دليل على أن الميزان له كفتان حسيتان.
ثالثا: روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، قال اقرءوا إن شئتم {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) } ) وقال عليه الصلاة والسلام في ساقي ابن مسعود (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد) .
وقد وردت الأحاديث -أيضا- بوزن الأعمال أنفسها، منها حديث أبي مالك الأشعري في صحيح مسلم (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان) ومنها في الصحيح، وهو خاتمة كتاب البخاري:(كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) .
فهذه الأدلة السابقة تدل على وزن الأشخاص والأعمال وصحائف الأعمال بميزان حسي، له كفتان حسيتان، فثبت وزن الأعمال والعامل وصحف الأعمال، وثبت أن الميزان له كفتان، والله أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات.
الحكمة في وزن الأعمال بالميزان الحسي:
قال الثعلبي: الحكمة في ذلك تعريف الله عباده ما لهم عنده من الجزاء، من خير، أو شر، وقيل: بل الحكمة في وزن الأعمال ظهور عدل الله -سبحانه- في جميع عباده، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين، ومنذرين، ومن الحكمة -أيضا- بيان فضل الله، وأنه يزن مثاقيل الذر من خير، أو شر قال تعالى:{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) } وفيه إدخال البشر والسرور على المؤمنين، وراء ذلك أيضا من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه.
الترتيب في الحساب والميزان أيهما يكون قبل الآخر مع التوجيه؟
قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ وذلك لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها؛ ليكون الجزاء بحسبها.
والترتيب في الميزان والحوض والصراط:
اعلم أن مراتب المعاد والبعث والصراط والحساب والحوض والميزان ما يلي معاد وبعث، ونشور، ثم القيام لرب العالمين، ثم الحوض، ثم العرض، ثم تطاير الصحف وأخذها باليمين والشمال، ثم الميزان، ثم المرور على الصراط، ثم الوقوف على القنطرة بين الجنة والنار، وجعل القرطبي في التذكرة هذه القنطرة صراطا.
ثانيا: للمؤمنين خاصة، وليس يسقط فيه أحد في النار، فيكون الترتيب هكذا:
بعث، فقيام، فحوض، فحساب، فصحف، فميزان، فصراط، فقنطرة، فالجنة.
والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا، ولا تبيدان
الجنة والنار هما داران للجزاء على الأعمال، والإيمان بهما داخل في الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالجنة والنار لا بد منه لكل مسلم من الإيمان بالله واليوم الآخر الإيمان بالجنة والنار.
والإيمان بأن الجنة والنار.. فيه مذهبان للناس:
المذهب الأول: الإيمان بأن الجنة والنار مخلوقتان الآن دائمتان لا تفنيان أبدا، وأنهما مخلوقتان الآن، وموجودتان، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، مذهب الصحابة والتابعين.
المذهب الثاني: أنهما معدومتان الآن، وإنما تخلقان يوم القيامة، وهذا مذهب أهل البدع من المعتزلة والقدرية وغيرهم، يقولون: إنهما الآن معدومتان، وإنما تخلقان يوم القيامة، والصواب ما عليه أهل السنة والجماعة، وهو الذي عليه الصحابة والتابعون، اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، والتابعون، وتابعوهم، وأهل السنة والحديث قاطبة وفقهاء الإسلام، وأهل التصوف والزهد على اعتقاد ذلك وإثباته، وأنهما مخلوقتان الآن موجودتان، خلافا لأهل البدع القائلين بأنهما معدومتان الآن، وإنما تخلقان يوم القيامة.
استدل أهل الحق على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن بأنواع من الأدلة، وإذا قلنا بأنواع من الأدلة، فالمعنى أن كل نوع تحته أفراد من الأدلة، ليس المراد حصر الأفراد، وإنما المراد حصر النوع، كل نوع تحته أفراد.
من الأدلة: كل نوع تحته أدلة كثيرة، وذلك أنهم استندوا إلى خصوص الكتاب والسنة، وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم، فإنهم دعوا الأمم إليها، وأخبروا بها.
النوع الأول: التعبير بصيغة الماضي في الجنة والنار، والتعبير بالماضي يدل على حصول الشي ووجوده، ومن أمثلة ذلك قوله -تعالى- عن الجنة:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) } وقوله عن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) } وقوله عن النار: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) } وقوله -تعالى- عن الجنة {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} فقوله: "أعدت" بصيغة الماضي، تدل على أنها موجودة، ومخلوقة الآن.
النوع الثاني من الأدلة: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجنة والنار في السماء يوم المعراج، والرؤية لا تكون إلا لشيء موجود قال تعالى:{وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) } ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، وفي آخره:(ثم انطلق بي جبريل، حتى أتي سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: ثم دخلت الجنة، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك) والجنابذ يعني قباب اللؤلؤ جمع قبة فقوله: (ثم دخلت الجنة) هذا دليل على أن الجنة مخلوقة الآن، خلافا لأهل البدع القائلين بأنها لا تخلق إلا يوم القيامة.
النوع الثالث من الأدلة: أدلة عذاب القبر ونعيمه، وأن الروح تدخل الجنة قبل يوم القيامة، وكذلك روح الكافر تدخل النار قبل يوم القيامة، من ذلك.. من أمثلة ذلك ما في الصحيحين، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول صلى الله عليه وسلم قال:(إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) ومن أمثلة ذلك -أيضا- حديث البراء بن ع (9) رضي الله عنه الطويل المشهور، وفيه:(ينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها) .
ومن أمثلة ذلك -أيضا- حديث أنس، وفيه فيقول له:(انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة، قال: فيراهما جميعا) ومن أمثلة ذلك، الحديث الصحيح المشهور:(إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) هذا صريح في دخول الروح الجنة، قبل يوم القيامة.
النوع الرابع من الأدلة: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجنة والنار يوم الكسوف، وهو على المنبر، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث وفيه: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به، حتى لقد رأيتني آخذ قطفا من الجنة، حين رأيتموني تقدمت) .
النوع الخامس من الأدلة: إرسال جبريل عليه الصلاة والسلام بعد خلق الجنة والنار للنظر إليهما، فشاهدهما، وما حف بكل منهما، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبرائيل إلى الجنة، فقال: اذهب، فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها) وقال في النار مثل ذلك.. الحديث.
هذه خمسة أنواع من الأدلة، كلها تدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وتحت كل نوع أفراد من الأدلة، أما المنكرون لخلقهما الآن، وهم المعتزلة والقدرية، فإنهم يقولون: إن الله ينشؤهما، ويخلقهما يوم القيامة، وأنكروا وجودهما الآن.
حجتهم في ذلك:
هذا المذهب مبني على أصلهم الفاسد، الذي حملهم على الإنكار، وأصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة للرب فيما يفعله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا، وهو الحسن والقبح العقليين، وقياس الله على خلقه في أفعاله، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة في الصفات، فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة، التي وضعوها لله، وهي مسألة الحسن والقبح العقليين، وصرفوا النصوص عن مواضعها وضللوا، وبدلوا من خالف شريعتهم، فقالوا: -هذه شبهتهم العقلية- قالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مددا متطاولة، والعبث محال على الله.
هذه حجتهم: العقل، قالوا: خلق الجنة والنار الآن قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مددا طويلة، ما فيها أحد، والعبث محال على الله.
بتعبير آخر قالوا: وجودهما اليوم ولا جزاء نوع من العبث، والعبث محال على الله.
الرد عليهم:
أولا بإبطال أصلهم الفاسد: الذي وضعوا به شريعة للرب، وهو تحكيم عقولهم قبحا وحسنا، وقياس الله على خلقه.
ويقال ثانيا: ليستا معطلتين من قال إنهما معطلتان ليستا معطلتين، بل هما مشغولتان، فإن الروح تنعم في الجنة، أو تعذب في النار، قبل يوم القيامة، كحديث:(إنما مثل روح المؤمن كطائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة) فهذا صريح في دخول الروح الجنة، قبل يوم القيامة، وحديث البراء بن عازب في قصة العبد المؤمن والكافر، وأنه يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، أو يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها.
ويقال ثالثا في الرد عليهم: أن الاتعاظ والتذكر فيهما إذا كانتا موجودتين الآن أشد وأبلغ منه فيما إذا قيل: إن الله ينشؤهما يوم القيامة، فإن الإنسان إذا علم بوجود الجنة اجتهد في تحصيلها، وإذا علم بوجود النار اجتهد في الهرب والبعد منها، أكثر مما لو كانت غير موجودة.
ومن أدلتهم الشرعية، من شبههم الشرعية:
استدلوا بقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ} وقوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وجه الاستلال من الآيتين: أن كلا من هذين الآيتين، تدل على أن المخلوقات صائرة إلى الفناء، ولو كانت الجنة والنار مخلوقتان الآن، لوجب اضطرارا أن تفنيا يوم القيامة، وأن يهلك كل من فيهما، ويموت فيموت الحور العين التي في الجنة والوالدان، وقد أخبر الله -سبحانه- أن الدار دار خلود، ومن فيها مخلدون لا يموتون فيها، وخبر الله -سبحانه- لا يجوز عليه خلف، فدل على أنهما تخلقان يوم القيامة، هذه دليلهم.
أجيب عن الآيتين بأجوبة منها: أن المراد بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} مما كتب الله عليه الفناء، والهلاك هالك وأما الجنة والنار، فخلقتا للبقاء لا للفناء، فلا يلزم من وجودهما الآن الفناء يوم القيامة، وكذلك العرش لا يفنى، فإنه سقف الجنة، وقيل المراد كل شيء هالك إلا ملكه، وقيل المراد إلا ما أريد به وجهه، وقيل: إن الآية وردت للرد على الملائكة، وذلك أن الله تعالى أنزل كل من عليها، فإن فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء، فأخبر الله تعالى عن أهل السماء والأرض، أنهم يموتون فقال:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} لأنه حي لا يموت، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت، والذي حمل أهل السنة على تأويل هاتين الآيتين، إنما فعلوا ذلك توفيقا بينهما وبين النصوص المحكمة الدالة على بقاء الجنة وعلى بقاء النار، أيضا.
الدليل الثاني للمعتزلة: في أن الجنة والنار ليستا موجودتين الآن، استدلوا بحديث بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ومثله حديث جابر رضي الله عنه عنه مرفوعا (من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) .
ووجه الاستدلال: أن القيعان لشيء غير موجود، ولو كانت مخلوقة مفروغا منها لم تكن قيعانا، ولم يكن لهذا الغراس معنى، ولقال: طيبة الثمرة، ولم يقل: طيبة التربة.
هذا دليلهم، وأجيب بأن قوله:(طيبة التربة وعذبة الماء وقيعان) دليل على وجودها، فتربتها موجودة، والحادث إنما هو غرسها فقط، فالحديث صريح صريح في أن أرض الجنة مخلوقة، وأن الذكر ينشئ الله -سبحانه- لقائله منه غراسا في تلك الأرض.
ومن أدلتهم: قول الله تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} ووجه الدلالة: أنها قالت "ابن لي بيتا" ولم تقل: بيتا مبنيا، فدل على أنها لم تخلق، إذ من المحال أن يقول قائل لمن نسج له ثوابا، انسج لي ثوبا.
وأجيب: بأن غاية ما تدل عليه الآية، أنه لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنه لا يزال الله يحدث فيها شيئا بعد شيء، ولا تدل على أنها الآن معدومة، بل إن أرضها مخلوقة وبناء الغروس فيها بالأعمال المذكورة، والعبد كلما وسع في أعمال البر وسع الله له في الجنة، وكلما عمل خيرا غرس له به هناك غراسا، وبني له بناء وأنشئ له من عمله أنواع مما يتمتع به، ويجاب عن شبهتهم بجواب إجمال، وهو أن يقال: إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة، بمنزلة النفخ في الصور، وقيام الناس من القبور، فهذا باطل، يرده المعلوم بالضرورة من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنها لا تزال الله يحدث فيها شيئا بعد شيء، وإذا دخلها المؤمنون، أحدث الله فيها عند دخولهم أمورا أخر، فهذا حق لا يمكن رده، وهو ما تشهد له الأدلة، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القول.
مكان الجنة: معروف أن مكان الجنة في السماء، وأنه فوق السماء السابعة، وأن السقف عرش الرحمن، والنار في الأرض في أسفل سافلين، وتبرز يوم القيامة، فهذا في وجود الجنة والنار.
أما أبدية الجنة والنار:
فللعلماء في هذه المسألة أقوال، يعني: هل الجنة والنار تبقيان، أو لا تبقيان، مستمرتان؟.
فيه أقوال للعلماء:
القول الأول: أن الجنة والنار لا تفنيان أبدا، ولا تبيدان مدى الدهور باقيتان بإبقاء الله لهما، وهذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف.
الثاني: أن الجنة باقية لا تفنى، أما النار فتفنى ولو بعد حين، وهذا قول جماعة من السلف، والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرهما.
القول الثالث: أنهما تفنيان جميعا. الجنة والنار تفنيان جميعا، وهذا قول الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة وكفروه به، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض، هذا قول منكر، قول الجهم، يقول: إن الجنة والنار تفنيان أبدا.
شبهة الجهم:
يقول: الجنة والنار حادثتان، وما ثبت حدوثه ثبت فناؤه هذه قاعدة عنده، يعتمد على العقل، الجنة والنار حادثتان، وما ثبت حدوثه ثبت فناؤه، واستحال بقاؤه، إذ لو بقيتا شاركتا الله في بقائه، وما لم تك تفنيان، لو قلنا: إنهما مستمرتان باقيتان شاركتا الله في بقائه، والذي يبقى هو الله، ويرد عليه بأن بقاء الجنة والنار ليس لذاتهما، بل لإبقاء الله لهما، وأما بقاء الله -سبحانه- فهو واجب لذاته.
وشبهة الجهم مبنية على أصله الفاسد، الذي اعتقده، وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث، وهذا الأصل هو عمدة أهل الكلام المذموم، الذي استدلوا به على حدوث الأجسام، وحدوث ما لا يخل من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم.
النار، في أبدية النار ودوامها خاصة مداخل: وهي ترجع إلى قول السابقين:
القول الأول: إن النار دائمة مؤبدة، لا تفنى، ولا تبيد، وهذا قول الجماهير.
القول الثاني: إن الله يخرج من النار من يشاء، كما ورد في الحديث، ثم يبقيها شيئا، ثم يفنيهما، فإنه جعل لهما أمدا تنتهي إليه، أما القول الأول، فإن الله يخرج منها من يشاء، وهم عصاة الموحدين، ويبقي فيها الكفار بقاء سرمديا لا انقضاء له، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وأما الذين قالوا: إنها لا تبقى استدلوا بالاستثناء في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} وقالوا -أيضا-: وكل نص يقتضي الخلود في النار، فهو قابل لأن يسلط عليه الاستثناء.
ومن أدلتهم: قالوا: التعذيب والخلود مراد به طول المكث، ومن أدلتهم قالوا: غلبة الرحمة للغضب. ومن أدلتهم: التعبير عن مدة العذاب بما يفيد التحديد.
والدليل الخامس: من أدلتهم دوام الجنة، قالوا: دوام الجنة مقتضى الحكمة بخلاف النار، وقالوا من أدلتهم الدليل السادس: الإحسان مقصود لذاته، والعذاب مقصود لغيره، وما كان مقصودا لغيره، فإنه ينتهي، أما أولئك، فهناك أقوال أخرى: في النار من الناس من قال إنها يدخلها قوم، ثم يخرجون منها ويخلفهم آخرون، وهذا قول اليهود، ومنهم من قال: إنها تفنى وهذا قول الجهم، ومنهم من قال: تفنى الحركات، وهذا قول أبي الهذيل العلاف.
وهذه كلها أقوال باطلة، والصواب القول الأول، وهو أن النار مؤبدة باقية لا تفنى أبد الآباد؛ لأن الله أخبر بذلك قال سبحانه وتعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) } وقال سبحانه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) } وقال سبحانه: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) } وقال سبحانه: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) } والأحقاب المدد الطويلة، التي لا تنتهي، كلما انتهى حقب، يعقبها حقب، وهكذا إلى ما لا نهاية، وهذا هو الصواب الذي عليه المحققون من السلف من أهل السنة، وهو الذي عليه الصحابة والتابعون. نعم.
معتقد أهل السنة والجماعة في خلق الجنة والنار
والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا، ولا تبيدان، وإن الله - تعالى- خلق الجنة والنار قبل الخلق وخلق لهما أهلا.
نعم هذا معتقد أهل السنة والجماعة أن الله خلق الجنة والنار وأبقاهما، وخلق لهما أهلا، وهذا القدر السابق، الله تعالى، قدر أهل السعادة وأهل الشقاوة، كتب الله في اللوح المحفوظ، أهل السعادة وأهل الشقاوة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) .
أهل السعادة مقدر سعادتهم، وأهل الشقاوة مقدر.. ولكن الله يسر كلا لما خلق له، فأهل السعادة يسر الله لهم عمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة يسر لهم عمل أهل الشقاوة، كما قال سبحانه:: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) } . نعم.
فمن شاء منهم إلى الجنة فضلا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلا منه
نعم فمن شاء إلى الجنة، صار إلى الجنة، فضلا من الله، وإحسانا من الله عليهم بالنعمة، ووفقهم وخصهم بنعمة دينية، لم يعطها الكافر؛ لأنه -سبحانه- عليم بالمحال التي تصلح لغرس الكرامة، كما قا ل سبحانه:{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) } قال سبحانه: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} فالمؤمن من خصه الله بنعمة دينية ليست في الكافر، وأما الكافر، فإن الله خذله عدلا منه وحكمة، لم يظلمه -سبحانه- لأن الظلم هو وضع الشيء في غيره، كما سيأتي في غير موضعه.
يأتينا -إن شاء الله-الآن.. قريبا- تفصيل معنى الظلم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كأن ينقص أحد من ثوابه، أو يحمله أوزار غيره، أما كونه -سبحانه- خذل الكافر، فهذا عدل منه وحكمة، لم يوفقه عدل منه وحكمة، لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وربك أعلم {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) } فهو عليم لمن يصلح لغرس الكرامة، فيوفقه للهداية، وعليم بمن لا يصلح لذلك، فيخذله حكمة منه وعدلا. نعم.
وكل يعمل لما قد فرغ له وصائر إلى ما خلق له
نعم هذا قدر مفروغ منه، مكتوب، وكل يصير إلى ما قدر له، والله -تعالى- ييسر كلا لما خلق له. نعم.
والخير والشر مقدران على العباد
نعم الخير والشر مقدران على العباد، الله قدر كل شيء: الخير والشر والحسنات والسيئات، كل شيء مقدر ومكتوب. نعم.
والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق، الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به، فهي مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن، وسلامة الآلات، فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال -تعالى- {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
هذا المبحث يسمى مبحث الاستطاعة، والاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع بمعنى واحد، هذا المبحث يسمى مبحث الاستطاعة.
الاستطاعة: ما معنى الاستطاعة، أي القدرة والطاقة والوسع، كون الإنسان يستطيع يفعل الشيء، يقدر على فعل الشيء، يتمكن من فعل الشيء، يسعه فعل الشيء، هذا يسمى استطاعة، يسمى طاقة، يسمى قدرة، ووسع.
مبحث الاستطاعة: هل العباد يستطيعون، أو لا يستطيعون؟ هل لهم استطاعة؟ هل لهم قدرة؟ وهل الاستطاعة والقدرة نوع واحد، أو نوعان؟ هذا يسمى مبحث الاستطاعة والقدرة، والناس لهم في ذلك ثلاث مذاهب كم مذهب؟ ثلاثة مذاهب المذهب:
الأول: أن الاستطاعة والطاقة والقدرة نوع واحد فقط، وهي التي تكون مع الفعل مقارنة للفعل، ما تكون قبل الفعل، بمعنى التوفيق للفعل، وهذا مذهب الجبرية الجهمية، والأشاعرة يقولون: ما في طاقة إلا نوع واحد تكون مع الفعل، أما قبل الفعل فلا.
المذهب الثاني: أنها نوع واحد، ولكنها تكون قبل الفعل، ومعناها، وهي التي بمعنى توفر الأسباب، والآلات وهذا مذهب القدرية والمعتزلة.
المذهب الثالث: أن الاستطاعة نوعان: نوع يكون مع الفعل، بمعنى التوفيق والقدرة، ونوع يكون قبل الفعل بمعنى توفر الأسباب والآلات، يعني فكأن أهل السنة أثبتوا، قالوا: الاستطاعة نوعان: نوع يكون قبل الفعل، ونوع يكون مقارن للفعل، فالذي يكون مع الفعل يسمى بمعنى التوفيق والتسديد، والذي يكون قبل الفعل معناه توفر الأسباب والآلات.
الجبرية هم والجهمية والأشاعرة ما أثبتوا إلا النوع الأول، الذي يكون مع الفعل، والمعتزلة والقدرية ما أثبتوا إلا النوع الثاني الذي يكون قبل الفعل، وأهل السنة أثبتوا النوعين، فإذن أقسام الاستطاعة عند أهل السنة كم نوع؟ نوعان:
النوع الأول: الاستطاعة بمعنى التوفيق، وهي القدرة الموجبة للفعل، التي هي مقارنة للمخلوق.
النوع الثاني: استطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات، وهي القدرة الشرعية المصححة للفعل.
المقارنة بين النوعين: نريد الآن، نعرف مقارنة حتى يتبين، الآن نريد أن نحدد ما هي الأولى وما هي الثانية.
الأولى الاستطاعة التي بمعنى توفر الأسباب والآلات: هذه الأولى.
والثانية استطاعة بمعنى أيش بمعنى التوفيق.
الأولى الاستطاعة بمعنى التوفيق هذه الأولى، الاستطاعة بمعنى التوفيق، وهي المقارنة للفعل هذه الأولى.
الثانية: استطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات، وهي التي تكون قبل الفعل.
المقارنة بينهما: الأولى ليست مناط التكليف، فلا يتعلق بها الخطاب، خطاب الشارع، والثانية هي مناط التكليف، فلا يتعلق بها الخطاب، خطاب الشارع، يعني الأولى ليست مناط التكليف، يعني الله -تعالى- لا يكلف العبد إلا إذا كانت معه الثانية، الثانية: التي هي منها توفر الأسباب والآلات هذا هو المكلف، وإذا فقدت الثانية لا يكلف العبد؛ ولهذا نقول: الأولى ليست مناط التكليف، فلا يتعلق بها خطاب الشارع، ما هي الأولى؟ الاستطاعة بمعنى المقارنة للفعل، وهي التي بمعنى التوفيق، والثانية: هي مناط التكليف، وبها يتعلق الخطاب، هذا واحد.
الفرق الثاني: الأولى تكون مع الفعل، فلا تتقدمه، وهي الاستطاعة بمعنى التوفيق تكون مع الفعل، فلا تتقدمه، والثانية قد تتقدم الفعل، وقد تصحبه، تكون قبل الفعل، وتكون مع الفعل.
الفرق الثالث: الأولى خاصة بالمؤمن، ما هي الأولى الاستطاعة بمعنى التوفيق، التي تكون مع الفعل، الأولى خاصة بالمؤمن، والثانية عامة للمؤمن والكافر.
الفرق الرابع: الأولى ليست صفة للمخلوق، بل هي صفة لله، الأولى ليست صفة للمخلوق، وهي التوفيق، بمعنى التوفيق، فإن الله -تعالى- هو الموفق للفعل، القدرة بمعنى المقارنة للفعل، هذا التوفيق إنما هو من الله ليس من العبد، والثانية صفة للمخلوق، وهي توفر الأسباب والآلات.
الفرق الخامس: الأولى لا يتخلف عنها الفعل، الاستطاعة يعني: المقارنة إذا وجدت لا يتخلف الفعل لا بد أن يحصل الفعل، والثانية قد يتخلف عنها الفعل، قد يحصل، وقد لا يحصل.
الفرق السادس: الأولى ضدها الخِذلان، والثانية ضدها العجز هذه ستة فروق، إذا عرفتها وضبطتها، تبين لك وعرفت الفرق بينهما.
إذن نقول: المذاهب في هذه المسألة ثلاثة: الجبرية: أثبتت الجبرية قدرة واحدة، وهي الأولى بمعنى التوفيق، فقالوا: لا تكون القدرة إلا مع الفعل، وهذا مذهب الجهمية والأشعرية والماتريدية، والمذهب الثاني: للقدرية والمعتزلة، أثبتوا قدرة واحدة، وهي الثانية التي بمعنى توفر الأسباب والآلات، فقالوا: لا تكون القدرة إلا قبل الفعل، والمذهب الثالث: مذهب أهل السنة والجماعة، أثبتوا القدرة بنوعيها التي بمعنى التوفيق، والتي بمعنى توفر الأسباب والآلات.
من أدلة الجبرية: استدلوا بقول الله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) } قوله سبحانه: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} يعني لم يوفق هذه الاستطاعة بمعنى القدرة الموافقه للفعل {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) } فقوله سبحانه: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) } يعني ما كانوا يقدرون {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} يعني سمع القرآن والمواعظ يعني سمع التنفيذ والعمل، يعني ما كانوا يستطيعون ذلك؛ لأن الله لم يوفقهم، ما كانوا يقدرون على ذلك؛ لأن الله ما وفقهم؛ لأن الله خذلهم، فلم يوفقهم لسماع القبول والتنفيذ، فهم لا يقدرون؛ لأن الله لم يوفقهم.
نقول: هذا صحيح، نثبت النوع الأول للقدرة، لكن هناك نوع آخر أثبتته الأدلة الأخرى، وكذلك قول الله تعالى عن موسى:{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) } قول الخضر لموسى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) } هل موسى ما عنده أسباب وآلات يستطيع بها الصبر؟ لا عنده، والمعنى إنك لن تقدر، أن تسكت؛ لأن ما تراه مخالفا لظاهر الشرع، فموسى ما صبر. قال له الخضر: اصبر قال له موسى: سأصبر، قال له الخضر: لا ما تستطيع الصبر؛ ولذلك ما صبر موسى لما رآه خرق السفينة وقتل الغلام، وأقام الجدار أنكر؛ لأن موسى من شدة غيرته ما يسكت، فهو يرى أن ما فعله الخضر مخالفا لظاهر الشرع؛ ولذلك أنكر عليه، وليس المعنى أنه ليس معه استطاعة، وليس معه آلات.
وأما المعتزلة، فاستدلوا بقول الله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قالوا: فهذه الاستطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات، ولو كان المراد بها الاستطاعة كما تقول الجبرية التي مع الفعل، لم يكن الله قد أوجب الحج إلا على من حج، وأما من لم يحج، فلا يطالب بالحج، هذا باطل، فدل على أن المراد بالاستطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات، ومثله -أيضا- قول الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أوجب الله التقوى على المستطيع، والمراد بالمستطيع الذي معه القدرة على التقوى، وليس المراد المستطيع الذي فعل التقوى في الحال، وإلا لما أوجب الله، وإلا لم تكن الاستطاعة واجبة إلا على من اتقى بالفعل، فدل على أن المراد بالاستطاعة، الاستطاعة بمعناها توفر الأسباب والآلات.
ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى عن المنافقين: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} المنافقون في غزوة تبوك تأخروا، فلما أنكر عليهم المسلمون قالوا: ما نستطيع {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} هل عندهم أسباب وآلات، يستطيعون الخروج أم ما عندهم؟ عندهم، فلو كان المراد بالاستطاعة نفس الفعل، لما كذبهم الله في قوله:{يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) } فدل على أن المراد بالاستطاعة معنى: الأسباب والآلات، عندهم قدرة، استطاعة، يستطيعون، يتجهزون، ويمشون مع المسلمين، لكن الله خذلهم.
والجواب: أجاب أهل السنة بأن الأدلة التي استدل بها الجبرية تثبت النوع الأول من القدرة، والأدلة التي استدل بها القدرية والمعتزلة تثبت النوع الثاني، وكل من الاستطاعتين حق، وقالوا لهم: أنتم أيها الجبرية أثبتم نوعا من الاستطاعة، واستدللتم له بالأدلة، وهذا حق، لكن الباطل كونكم أنكرتم النوع الثاني من الاستطاعة، وقالوا للقدرية والمعتزلة: أنتم أثبتم نوعا من القدرة والاستطاعة، وهي الاستطاعة بمعنى توفر الأسباب، وهذا حق، والنوع الأول لم تثبتوه، وهذا باطل، وأما نحن، فنثبت نوعي الاستطاعة، ونستدل بأدلتكم -أيها الجبرية- على النوع الأول، ونستدل بأدلتكم -أيها المعتزلة والقدرية- على النوع الثاني، وبذلك تتفق الأدلة ولا تختلف. نعم.
والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل.
نعم هذه الاستطاعة التي يجب بها الفعل، يعني يوجد بها الفعل من نحو التوفيق يعني: معناه معنى التوفيق والتسديد للفعل، هذه ليست صفة المخلوق، بل هي صفة لله، الله هو الموفق هذه الاستطاعة، التي يجب بها الفعل، يعني يوجد بها الفعل متي يوجد الفعل؟ إذا وفقك الله، فإن لم يوفقك، فلا يوجد الفعل، والتوفيق ممن؟ من الله، إذن الاستطاعة التي يجب بها الفعل، ويوجد بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به، وإنما هو وصف لله، فالله هو الموفق، وهو الهادي، وهو الذي يخلق الهداية في القلوب، ويجعل الإنسان يختار الحق، ويرضى به، ويريده، ويخلق الله الإرادة والهداية في قلبه، فيوجد الفعل. نعم.
وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات، فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب
هذا النوع الثاني من الاستطاعة، يسمى بمعنى: توفر الأسباب والآلات، وتكون قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، الاستطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات يعني يكون عندك أسباب وآلات تستطيع أن تفعل، فمثلا إذا أمرك الله بالصلاة لا بد تكون عندك استطاعة، ما هي الاستطاعة؟ العقل يكون عندك العقل، ففاقد العقل ما يقدر يصلي، يكون عنده قدرة، تستطيع تتوضأ، تستطيع تقوم، تقف، تجلس، وعندك شعور، هذه توافر الأسباب والآلات، فإذا توفرت الأسباب والآلات يجب عليك أن تفعل، تؤمر، وبها يتعلق الخطاب، أما من لم يكن عنده أسباب ولا آلات، فلا يكلف؛ ولهذا إذا فقد العقل ما صار عند الإنسان أسباب وآلات، فلا يكلف بالصلاة، فإذن الاستطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات والتمكن والصحة، فهذه تكون قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، يعني خطاب الشارع، خطاب الشارع يتعلق بهذه الاستطاعة، من وجدت عنده الأسباب والآلات يكلف، ومن فقدت عنده الأسباب والآلات، فلا يكلف، فألخطاب يتعلق بالثاني أما الأولى لا يتعلق بها الخطاب. نعم.
وهو كما قال تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
نعم {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} فالذي عنده وسع وقدرة وطاقة وأسباب وآلات يكلف وإذا فقدت الأسباب والآلات، فلا يكلف لأن الله سبحانه وتعالى لا يكلف إلا المستطيع. نعم.
وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد
أفعال العباد خلق الله وكسب من العباد: هذا معتقد أهل السنة والجماعة، أن أفعال العباد، الله -تعالى- خلقها، والعباد باشروها مختارين، فصاروا بها عصاة ومطيعين، فإذن أفعال العباد من الله خلقا وتقديرا، ومن العبد فعلا، وتسببا وكسبا ومباشرة، هذا معتقد أهل السنة والجماعة.
يقولون: إن أفعال العباد، أفعالك، أيها العبد خلقها الله، ولكن أنت الذي باشرتها وكسبتها، فهي تنسب إليك؛ لأنك أنت المباشر، وأنت الكاسب، وأنت الذي فعلتها باختيارك، فتصير بها مطيعا، وتصير بها عاصيا تنسب إليك، وإن كان الله خلقها، فهي من الله خلقا وإيجادا وتقديرا، ومن العبد تسببا وفعلا وكسبا ومباشرة، هذا معتقد أهل السنة والجماعة.
وهناك مذهبان آخران:
المذهب الأول: مذهب الجبرية، قالوا: إن الأفعال هي أفعال الله والعباد مجبورون على أفعالهم، فالعباد ليس لهم من الأمر شيء، بل هم مجبورون على الأفعال، والأفعال أفعال الله، فالله هو المصلي وهو الصائم، ولكن العباد وعاء للأفعال، فهم كالكوز الذي يصب فيه الماء، فالعباد كوب، والله كصباب الماء فيه، العباد ما لهم اختيار، وليس لهم أفعال، ولا تنسب الأفعال إليهم، بل الأفعال أفعال الله؛ لأن الله أجبرهم على ذلك، وتجري الأفعال على أيديهم اضطرارا لا اختيار لهم في ذلك.
واضح هذا؟ .
يقولون: فجميع أفعال العباد اضطرارية، يفعلها العبد بدون إرادة اضطرارا، كحركات المرتعش والنائم ونبض العروق، وحركات الأشجار، والعبد لا قدرة له، ولا عمل له أصلا، وكون الأفعال تضاف إلى العباد هذا من باب المجاز، وإلا فالله -تعالى- في الحقيقة هو الفاعل، فهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله، كما يقال: طلعت الشمس، طلع النهار، والشمس ليس لها اختيار، وليس لها شيء، إنما يضاف إليها الشيء مجازا، وهذا مذهب الجهمية ورئيسهم الجهم بن صفوان يقولون: ما في شيء اختيار للعبد، ما في فرق بين الأفعال التي يفعلها الإنسان كحركات المرتعش، والأفعال التي يفعلها اختيارا، ما في شيء اختيار، كل الأفعال اضطرار.
المذهب الثالث: مذهب المعتزلة والقدرية، قالوا: بالعكس، مذهبهم عكس مذهب الجهمية، قالوا: أفعال العباد اختيارية، بل زادوا على ذلك، وقالوا: هم الذين خلقوا أفعالهم، والله لا يقدر على أفعالهم، لا يقدر الله على خلق أفعال العباد، فالعباد هم الذين خلقوا الطاعات والمعاصي، وخلقوا الخير والشر، وباشروها وخلقوها وأوجدوا أفعالهم؛ ولذلك يجب على الله أن يثيب المطيع؛ لأنه هو الذي خلق فعله، وهو حينما يفعل الحسنات كالأجير، والأجير يجب إعطاؤه أجرة، فيجب على الله أن يثيب المؤمنين، هكذا يقولون، أوجبوا على الله.
والعاصي هو الذي خلق الشر والمعصية بنفسه، وتوعده الله بالنار، فيجب على الله أن ينفذ وعيده، وأن يخلده في النار، هكذا مذهب كل من المعتزلة والقدرية، عكس مذهب الجبرية.
وهدى الله أهل السنة والجماعة، فقالوا: إن الأفعال التي تصدر من العباد تنقسم إلى قسمين: أفعال اضطرارية، فهذه تكون صفة للعباد، وليست تكون صفة لهم، وليست أفعالا لهم كحركات المرتعش والنائم ونبض العروق والأشجار، هذه اضطرارية الإنسان ما له، ليس له اختيار. فيه النوع الثاني من أفعال العباد الاختياري، وهو الذي يفعله الإنسان باختياره، له فعله، وله تقريره كالقيام والقعود، أنت الآن تحس من نفسك، تستطيع أن تقوم، وتستطيع أن تقعد، وتستطيع أن تحضر الدورة، وتستطيع أن لا تحضر، تأكل وتشرب، وتتكلم، وتذهب وتجيء، وتسافر، أليست هذه الأفعال باختيارك؟ هذه أفعال اختيارية، هل هي مثل حركات المرتعش والنائم؟ ليست مثلها إذن.
الأفعال قسمان: قسم اضطراري، ما للعبد فيه صنع ولا اختيار، مثل حركات المرتعش، هل يستطيع يمسك نفسه، ما يستطيع نبض العروق هل يستطيع يمسك العروق حتى لا ينبض؟ ما يستطيع، حركات النائم كذلك، أما الأفعال التي يفعلها الإنسان اختيارية، يقوم، ويقعد، ويذهب، ويتكلم، ويأكل، ويشرب، ويسافر، ويخاصم هذه أفعال اختيارية، قد فطر الله الناس على هذا، فمحل النزاع معهم: الأفعال الاختيارية، أما الأفعال الاضطرارية هذه ليست محلا للنزاع، كل الطوائف الثلاث اتفقوا على أنها ليست -أيش أنها تكون صفة لهم- وليست أفعالا لهم، أما الأفعال الاختيارية: هذه محل الخلاف.
فالجبرية قالوا: حتى الأفعال الاختيارية اضطرارية، ما للعبد اختيار، والمعتزلة والقدرية قالوا: العباد خلقوها، وأوجدوها مختارين، والله أعلم، لم يقدرها ولا يستطيع خلقها، نعم -تعالى الله- وأهل السنة توسطوا، فقالوا: الأفعال الاختيارية هي خلق الله، وهي فعل العباد، فهي تضاف إلى الله من جهة الخلق، وتضاف إلى العباد من جهة الكسب والتسبب والمباشرة، فهي من الله خلقا وإيجادا وتقديرا، ومن العبد فعلا وتسببا وكسبا ومباشرة، واضح هذا؟
الجبرية بماذا استدلوا؟ الجبرية ماذا يقولون؟
يقولون: إن أفعال العباد كلها اضطرارية، استدلوا بقول الله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وهذا في غزوة بدر، لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب، ثم رمى بها نحو الكفار، لم يبق كافر إلا، وقد أصابه من هذه القبضة شيء، ودخل في عينيه وفمه ومنخره، فأنزل الله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} قالوا: إن الله نفى عن نبيه الرمي، فدل على أن العبد لا اختيار له، الله قال: ما رميت، ولكن الله رمى.
إذن: نفى الرمي عن نبيه، وأثبته لنفسه، فدل على أن العبد لا فعل له، ولا اختيار، وأن الأفعال أفعال الله. واضح هذا؟.
أجاب أهل السنة والجماعة، أهل الحق قالوا:
أنتم -أيها الجبرية- أغمضتم أعينكم عن الحق، وفتحتم أعينكم لما يناسبكم من الآية، الآية الآن فيها إثبات الرمي للرسول، ونفي الرمي قال:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} إذن نفى عن نبيه رميا، وأثبت لنبيه رميا، فدل.. الرمي نوعان: نوع يكون للمخلوق، ونوع يكون للخالق، نوع أثبته الله لنبيه، ونوع نفاه الله عن نبيه، فالنوع الذي أثبته الله لنبيه الحذف، الرسول حذف، والنوع الذي نفاه عن نبيه الإصابة، فابتداء الرمي هذا حذف، وانتهاؤه الإصابة هذا رمي، فالله أثبت لنبيه الحذف، ونفى عن نبيه الإصابة، وتقدير الآية، وما أصبت إذ حذفت، ولكن الله أصاب {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وما أصبت إذ حذفت، ولكن الله أصاب.
قالوا -أيضا- الجبرية: ومما يدل على أن أفعال العباد، لا اعتبار لها، وأن الله تعالى، لا يعتد بأفعال العباد، قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ووجه الدلالة: قالوا الباء في قوله: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله) باء السبب والتقدير: لن يدخل أحدكم الجنة بسبب عمله، فالله تعالى ما اعتبر العمل شيئا، ولم يعتبره سببا، وإنما دخول الجنة بفضل الله، فدل على أن العباد ليس لهم أفعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى دخول الجنة بالعمل، وإنما دخول الجنة بالفضل والرحمة، ما دل على أن الأفعال ليست أفعالا لهم، واضح هذا؟ .
أما القدرية والمعتزلة، الذين يقولون: العباد خالقون لأفعالهم، والله تعالى لا يقدر عليها، استدلوا بقول الله تعالى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } قالوا: الآية دليل على أن هناك خالقين مع الله، إلا أن الله أحسنهم وأجودهم خلقا، فقال:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } يعني أجود الخالقين وأحسنهم، فدل على أن العباد خالقين مع الله، أن العباد خالقون مع الله إلا أن الله أحسن خلقا وأجود، فدل على أن العباد خالقون لأفعالهم.
وقالوا: مما يدل على أن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم قول الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) } قالوا: الباء باء العوض، والمعنى ادخلوا الجنة عوضا عن عملكم، فدل على أن الأعمال عوض؛ لأن العباد خلقوها وأوجدوها باختيارهم، فوجب على الله أن يعوضهم عنها الثواب، كما يعوض الأجير أجرته.
ماذا أجاب أهل السنة؟ قالوا: أنتم -أيها المعتزلة والقدرية- ضللتم في تفسير هاتين الآيتين، كما أن إخوانكم من القدرية ضلوا أيضا، أما قول الله تعالى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } فالخلق نوعان:
النوع الأول: الإنشاء والاختراع، هذا لا يقدر عليه إلا الله، قال الله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
النوع الثاني: من الخلق التصوير والتقدير، وهذا هو الذي يثبت للمخلوق، ومعنى الآية:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } يعني أحسن المقدرين المصورين، لا المنشئين المخترعين.
الإنشاء والاختراع ما يكون إلا لله، لكن التقدير والتصوير، يقدر عليه المخلوق، وكما قال الله -تعالى- عن عيسى:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} تخلق: يعني تقدر وتصور، فعيسى عليه السلام يصور ويقدر الطين كهيئة الطير، وينفخ فيه، فالله - تعالى- يخلق فيه الروح، فيصير؛ ولهذا قال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت *** وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
معنى تخلق: يعني: تقدر، يخاطب الشاعر يقول: أنت تقدر، ثم تنفذ ما تقدر، وبعض الناس يقدر، ولا ينفذ، هو يمدح الشاعر، يقول:"ولأنت تفري" يعني: تنفذ ما خلقت، يعني: ما قدرت وصورت، وبعض القوم يخلق، ثم لا يفري.
فإذن: الخلق يطلق، ويراد به التقدير والتصوير، ويطلق، ويراد به الإنشاء والاختراع، والأول ثابت للمخلوق، والثاني لا يقدر عليه إلا الله، الإنشاء والاختراع.
وأما الباء -فأنتم أيها المعتزلة- ضللتم كما ضل إخوانكم الجبرية، فإن الباء التي تأتي في الإثبات غير الباء التي تأتي في النفي، فالباء التي تكون في الإثبات، هي باء السببية، والباء التي تكون في الجملة المنفية، هي باء العوض، فباء العوض في الجملة المنفية، كما في الحديث:(لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) هذه باء العوض؛ لأنها في جملة منفية، والمعنى: لن يدخل أحدكم الجنة عوضا عن عمله، فيستحق الجنة، كما يستحق الأجير أجره، بل الدخول برحمة الله، وأما الباء التي تكون في الجملة المثبتة، فهي باء السبب، قوله سبحانه:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) } يعني: بسبب ما كنتم تعملون، فيكون دخول الجنة برحمة الله، ولكن له سبب، وهو العمل، فمن جاء بالسبب نال الرحمة، ومن لم يأت بالسبب لم ينل الرحمة.
فالنصوص يضم بعضها إلى بعض فقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) } هذه دعوى السببية، هذه بسبب عملكم، لكن هذا السبب، لكن الدخول لا يكون بالسبب، الدخول لا يكون إلا بالرحمة، الدخول برحمة الله، دخول الجنة، لكن هذه الرحمة لها سبب، وهو العمل، فمن جاء بالسبب نالته الرحمة ومن لم يأت بالسبب لم تنله الرحمة، فتكون الآية {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) } هذه باء السببية، والباء في الجملة المنفية باء العوض، لا يدخل أحدكم الجنة عوضا عن عمله، لكن الدخول برحمة الله، إلا أن له سبب، وهو العمل كما جاء في النصوص الأخرى {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) } وبذلك تتفق النصوص ولا تختلف. نعم.
(وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد)
هذا معتقد أهل السنة والجماعة: أفعال العباد خلق من الله وكسب من العباد، فهي بالنسبة إلى الله ينسب إلى الله الخلق والتقدير والإيجاد، وينسب إلى العبد الكسب والتسبب والمباشرة. نعم.
ولم يكلفهم الله -تعالى- إلا ما يطيقون
ولم يكلفهم الله سبحانه وتعالى إلا ما يطيقون، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، أن الله - تعالى- لا يكلف العبد إلا ما يطيق، إلا ما يستطيع قال سبحانه:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وهل يكلف الله العبد بشيء لا يطيقه؟
اختلف الناس في هذا، في التكليف فيما لا يطاق على مذاهب:
المذهب الأول: مذهب الأشعرية وبعض المعتزلة ببغداد، والبكرية أتباع بكر بن زياد الباهي، فقالوا: إن تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، وذلك كالجمع بين الضدين، وقلب الأجناس كجعل الشجر فرسا، أو الفرس إنسانا، أو الحيوان نباتا، وإيجاد القديم وإعدامه، قالوا: تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، لكن هل ورد به الشرع، تردد أصحاب أبي الحسن الأشعري هل ورد به الشرع فوقع أم لا؟ على قولين.
استدل من قال: إنه وقع بقصة أبي لهب قالوا: فإن الله أمر أبا لهب بالإيمان مع أن الله أخبر بأنه لا يؤمن وأنه سيصلى نارا ذات لهب، فأبو لهب مكلف بأن يؤمن بالقرآن، وفى ضمن القرآن أن يؤمن بأنه لا يؤمن، فكان أبو لهب مأمورا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين الضدين، وهو محال لا يطاق هذا جوابه.
والجواب عن هذا بالمنع، لا نسلم بأن أبا لهب مأمور بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، بل هو مأمور بالإيمان والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان التي هي بمعنى توفر الأسباب، والآلات كانت حاصلة له فهو غير عاجز على تحصيل الإيمان فما كلف إلا ما يطيقه، واستدلوا بقول الله تعالى عن الملائكة:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} وقول الله تعالى للمصورين في الحديث القدسي: (أحيوا ما خلقتم)
قالوا: هذا تكليف ما لا يطاق، أجيب بأن الأمر في الآية والحديث ليس بتكليف بطلب فعل يثاب فاعله ويعاقب تاركه بل هو خطاب تعجيز، واستدلوا بدعاء المؤمنين في قوله تعالى:{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وأجيب بأنه لا يلزم من ذلك أن يكلف الإنسان ما لا يستطيعه، والمعنى لا تصبنا بشيء يهلكنا أي تصبنا بما نعجز عن طاقته فنهلك.
المذهب الثاني قالوا: يجوز التكليف بالمستحيل العادي دون المستحيل العقلي أي يجوز تكليف الممتنع عادة، وهو ما يتصور العقل وجوده مع خارق للعادة على يد نبي أو ولي دون الممتنع لذاته أي عقلا، وهو ما لا يتصور العقل وجوده أصلا كالجمع بين الضدين؛ لأنه ممتنع لذاته لا يتصور وجوده فلا يعقل الأمر به بخلاف الممتنع عادة فيتصور العقل وجوده فيعقل الأمر به.
المذهب الثالث: قالوا ما لا يطاق للعجز عنه، وهو المستحيل العادي والعقلي لا يجوز التكليف به، وما لا يطاق للاشتغال بضده كاشتغاله بلعب القمار أو الكرة عن الصلاة، فإنه يجوز التكليف به.
هؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى لكن تسميتهم ما يتركه العبد ما لا يطاق؛ لكونه مشتغلا بضده بدعة في الشرع واللغة، فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه، وهم قد التزموا هذا لقولهم: إن الطاقة والاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل فقالوا: كل من لم يفعل فعلا فإنه لا يطيقه.
وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف وخلاف ما عليه عامة العقلاء؛ لأن ما يقدر الإنسان على فعله وتركه هو مناط التكليف، بخلاف ما لا يكون إلا مقارنا للفعل فذلك ليس شرطا في التكليف، والتعبير السليم أن يقال ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز التكليف به، وما عداه فيجوز التكليف به.
ومن أدلة هذا القول قول الله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت بالحنفية السمحة ليلها كنهارها) وقوله صلى الله عليه وسلم (إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) نعم.
ولم يكلفهم الله -تعالى- إلا ما يطيقون.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة أن الله -تعالى- ما كلف العباد إلا ما يطيقون، رحمة منه وإحسانا كما قال سبحانه:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} نعم.
ولا يطيقون إلا ما كلفهم
وهذا باطل، قوله: لا يطيقون إلا ما كلفهم هذا ليس بصحيح بل العباد يطيقون أكثر مما كلفهم.
معنى هذا الكلام أن الإنسان لا يستطيع أكثر مما كلف به، يعني لا يستطيع الإنسان الزيادة على الصلوات الخمس، كلفنا الله بالزيادة، كلفنا الله بالصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة، وكلفنا الله بصيام رمضان، وكلفنا الله بالحج في العمر مرة. فمعنى قول الطحاوي:"ولا يطيقون إلا ما كلفهم" يعني: العباد لا يستطيعون أن يأتوا بأكثر من خمس صلوات، ولا يستطيعون أن يصوموا أكثر من شهر، ولا يستطيعون أن يحجوا إلا مرة واحدة في العمر، هل هذا صحيح؟ ليس بصحيح نستطيع أكثر من صلاة.
لو كلف الله بست صلوات أو سبع عشر استطعنا لو كلفنا الله بأكثر من صيام ثلاثين يوم استطعنا، لو كلفنا الله بأكثر من حج بأكثر من مرة في الحج استطعنا، لكن الله لطف بنا ويسر وسهل.
قال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (إن هذا الدين يسر) فقول الطحاوي: "لا يطيقون إلا ما كلفهم"، هذا غلط يتمشى مع مذهب الجبرية الذين يقولون: إن الطاقة والوسع لا تكون إلا مع الفعل فهذا من أخطائه عفى الله عنا وعنه، والجواب أن نقول: إن العباد يطيقون أكثر مما كلفهم ولكن الله يسّر وسهّل، نعم.
وهو تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله
نعم لا حول ولا قوة إلا بالله يعني لا تحول من حال إلى حال، ولا قوة للإنسان على فعل ذلك إلا بالله، هذه كلمة عظيمة، كنز من كنوز الجنة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأبي موسى:(ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)
(لا حول ولا قوة إلا بالله) هذه كنز من كنوز الجنة، ولها تأثير عظيم في تخفيف الحزن والألم والمصائب عن العبد، لا حول ولا قوة إلا بالله، ما معنى لا حول؟ يعني لا تحول من حال إلى حال ولا قوة للإنسان على فعل شيء إلا بالله، فلا تستطيع أن تتحول من حال، لا تتحول من الشر إلى الخير، ولا تتحول من المعصية إلى الطاعة ولا تتحول من الذنب إلى التوبة، ولا قوة لك على ذلك إلا بالله عز وجل.
فإذا وفقك الله وأعانك تحولت من حال إلى حال، تحولت من المعصية إلى الطاعة، تحولت من الذنب إلى التوبة وقدرت على ذلك، وقواك الله على ذلك بأن وفقك وهداك وقذف في قلبك النور والهداية، وجعلك تقبل الحق وترضاه وتختاره وتريده، وقذف في قلبك الإرادة والقوة على ذلك، وأعانك فإنك تستطيع لا حول ولا قوة إلا بالله. نعم.
نقول لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله
كما سبق لا تحول من المعصية إلى الطاعة إلا بمعونة الله وتوفيقه. نعم.
إقامة طاعة الله والثبات عليها بتوفيق الله
ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله.
لا قدرة للإنسان على إقامة الطاعة والثبات عليها والاستقامة عليها إلا بالله، فالله تعالى هو الموفق للخير والطاعة، وهو المثبت لعبده المؤمن، نسأل الله تعالى أن يثبتنا على دينه حتى الممات، نعم.
وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره
نعم هذا سبق الكلام على هذا وأن كل شيء يجري بعلم الله وقضائه وقدره، وأن الله تعالى سبق علمه بالأشياء قبل كونها وكتبها في اللوح المحفوظ، كل شيء يجري بعلم الله وقضائه وقدره وتقديره، نعم، سبق هذا للمؤلف في مواضع متعددة، نعم.
غلبت مشيئته المشيئات كلها
نعم كما قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) } ما شاء الله كان، ولهذا يقول المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) } غلبت مشيئة الله وإرادته الإرادات كلها فلا تغالب، مشيئة الله لا تغالب، وإرادة الله لا يغلبها شيء، بل ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) } أما العبد فإن مشيئته وإرادته تابعة لمشيئة الله وليست مستقلة، نعم.
وغلب قضائه الحيل كلها
لا شك غلب قضاء الله الحيل، جميع الحيل لو احتال العباد ودبروا الحيل وأعملوا المكائد في أن يغيروا شيئا أراد الله أن يكون لم يستطيعوا، ولو بذلوا جميع الحيل وجميع ما يستطيعون في أن يغيروا شيئا أراد الله ألا يكون يريدون أن يكون فلا يكون، كما قال سبحانه:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) } .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف) نعم.
يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدا
نعم يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدا فهو سبحانه يفعل ما يشاء، وفعله مبني على الحكمة ليس فعله بالإرادة فقط كما يقوله المعتدون الجبرية بل فعله مبني على الحكمة فهو يفعل ما يشاء لأنه حكيم {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) } وهو غير ظالم أبدا سبحانه لا يوصف بالظلم.
والظلم عند أهل الحق وهم أهل السنة والجماعة قالوا: حقيقة الظلم الذي نَزَّه الله نفسه عنه هو وضع الشيء في غير موضعه، وضع الشيء في غير موضعه كأن يمنع أحدا من ثوابه، ثواب حسناته بأن ينقصه من حسناته أو أن توضع عليه سيئات غيره، فالظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومنع ذي الحق حقه، كأن توضع على الإنسان سيئات غيره، أو أن ينقص من حسناته، هذا هو الظلم.
والظلم في اللغة العربية معناه: وضع الشيء في غير موضعه كأن يمنع أحدا من حقه بأن ينقصه من حسناته، أو يضع عليه شيئا من سيئات غيره؛ هذا نزه الله نفسه عنه، ونفاه عن نفسه قال:{لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِن اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) } {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) } نفى الله خوف الظلم، وهذا الظلم هو الذي حرمه الله على نفسه، كما جاء في الحديث القدسي من حديث أبي ذر أن ربك سبحانه وتعالى قال:(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) .
إذن حقيقة الظلم الذي نزه الله نفسه عنه ونفاه عن نفسه ونفى خوف العباد منه وحرمه على نفسه ما هو؟ هو وضع الشيء في غير موضعه ومنع ذي الحق حقه، كأن ينقص أحدا من ثواب حسناته، أو يحمل أحدا أوزار غيره واضح؟ هذا حقيقة الظلم الذي نزه الله نفسه عنه عند أهل الحق وأهل السنة والجماعة.
وفي المسألة مذهبان آخران:
المذهب الأول الجبرية وهم الأشاعرة والجهمية قالوا في تعريف الظلم الذي نزه الله نفسه عنه: الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة ويمتنع أن يكون في الممكن مقدور وظلم بل كل ما كان ممكنا فهو منه لو فعله عدل، ولا يكون ظلما.
إذن فالظلم عند الجبرية ممتنع ومستحيل على الله كامتناع العجز والموت فالظلم عندهم هو المحال الممتنع لذاته كالجمع بين الضدين وكون الشيء موجودا معدوما. إذن ما هو الظلم؟ هل له وجود عند الجبرية؟ عندهم لا حقيقة للظلم الذي نزه الرب نفسه عنه ألبتة، بل هو المحال لذاته والممتنع لذاته الذي لا يتصور وجوده.
وكل ممكن عندهم فليس بظلم ولله أن يفعله، وهو غير ظالم، وقالوا الجبرية: لو قلب الرب التشريع والجزاءات فجعل الزنا واجبا والعفة حراما لما كان ظالما ولو عذب رسله وأنبيائه وأوليائه أبد الآبدين، وأبطل جميع حسناتهم وحملهم أوزار غيرهم وعاقبهم عليها وأثاب المجرمين والعصاة والكفرة طاعات الأنبياء والأبرار وحرم ثوابها فاعلها لكان ذلك عدلا محضا، فإن الظلم من الأمور الممتنعة لذاتها في حق الرب وهو غير مقبول له بل هو كقلب المحدث قديما والقديم محدثا، وهذا قول جهم ومن اتبعه من المتكلمين.
شبهتهم قالوا: الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي والله ليس كذلك والظلم إما التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإما مخالفة الآمر، وكلاهما في حق الله تعالى محال فإن الله مالك كل شيء هو مالك العباد يتصرف في ملكه، والذي يتصرف في ملكه ليس بظالم، إنما الظالم الذي يتصرف في غير ملكه، والظلم إنما يكون من مخالفة الآمر، والله ليس فوقه آمر تجب طاعته.
ومن أدلتهم: والجواب على هذا أن نقول: هذا باطل، هذا التعريف مخالف للغة العربية ليس ظلم، التعريف: الظلم هو الجمع بين الضدين الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة. هذا ليس تعريفه هذا لا وجود له، لو كان الظلم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة لما نفاه عن نفسه قال:{لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} هل ينفى شيء لا وجود له؟ لا ينفى، ولو كان الظلم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة كما تقولون أيها الجبرية لما نفى خوف الظلم قال:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) } .
هل يخاف الإنسان الممتنع المستحيل هل يخافه؟ لا يخافه ولو كان الظلم مستحيلا على الله لما حرمه على نفسه كيف يحرم على نفسه شيئا ممتنعا (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) وقولكم: إن الظلم لا يكون إلا من آمر ناهٍ. نقول نعم الله -تعالى- مأمور منهي لكن من قِبَل نفسه فهو يأمر نفسه وينهاها سبحانه وتعالى.
ومن أدلتهم: أدلة الجبرية استدلوا بقول الله تعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) } .
قالوا: فهذا لا يسأل عما يفعل فهو يفعل بقدرته ومشيئته أي بقهره وسلطانه، والجواب أن نقول معنى الحديث، معنى الآية لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته، وأما العباد فهم يسألون؛ لأنهم مأمورون، منهيون عباد مكلفون. أما الرب فلا يسأل لكمال حكمته وعدله سبحانه وتعالى.
واستدلوا بحديث ابن مسعود: (ما أصاب العبد قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاءك أسألك اللهم بكل اسم هو لك - إلى قوله- إلا أذهب الله همه وغمه وأبدل مكانه فرحا) .
وجه الاستدلال قالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم (عدل في قضاءك) يشمل كل قضاء يقضيه الله لعبده، وهذا يعم قضاء المصائب وقضاء المعائب وقضاء العقوبات على الجرائم، وكذلك استدلوا بحديث ابن عباس الذي رواه أبو داود والحاكم في مستدركه، وفيه:(إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم) .
الجواب أن نقول: معنى قوله: (لو عذبهم لو عذب العباد لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم) الجواب: أن معنى الحديث أن الله لو وضع عدله على أهل سماواته فحاسبهم بنعمه عليهم وأعمالهم لصاروا مدينين له، وحينئذ لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم لكنه لا يفعل هذا سبحانه، إنما يبتدرهم بِنِعَم جديدة.
المعنى أن الرب لو وضع عدله في عباده فحاسبهم بأعمالهم ونعمه عليهم لصاروا مدينين فحينئذ لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لو حاسب الله العباد بنعمه عليهم وعدله فيهم لكانت النعمة الواحدة نعمة البصر تحيط بجميع أعمالك كلها وحينئذ تكون مدين تكون هالك، لكن الله لا يفعل هذا، بل هو سبحانه وتعالى لطيف بعباده لو وضع عدله في عباده لحاسبهم بنعمه عليهم وبأعمالهم لصاروا مدينين له، وحينئذ لعذبهم وهو غير ظالم لهم.
وأما قوله: (عدل في قضائك) لا شك أن ما يقضيه الله للعبد كله خير ورحمة مبني على الحكمة.
المذهب الثالث القدرية قالوا: تعريف الظلم كل ما كان من بني آدم ظلما وقبيحا يكون من الله ظلما وقبيحا لو فعله، فالظلم عندهم الظلم الذي يصدر من العباد هو الظلم الذي يصدر من الرب لو فعله، كل ما يسمى ظلما من العبد يسمى ظلما من الرب، فهم مثلوا الله بخلقه، فقالوا: الظلم إضرار غير مستحق أو عقوبة العبد على ما ليس منه أو عقوبته على ما هو مفعول معه.
فالظلم عندهم هو الذي حكم العقل أنه إن صدر من العبد ظلم فهو من الله ظلم إن صدر منه، قالوا: فلو كان الرب خالقا لأفعال العباد مريدا لها قد شائها وقدرها عليهم ثم عاقبهم عليها كان ظالما، ولا يمكن إثبات كونه سبحانه عدلا لا يظلم إلا بالقول بأنه لم يرد وجود الكفر والفسوق والعصيان ولا شائها، بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئة الله وإرادته كما فعلوه بغير إذنه وأمره.
وعندهم أن الله لو وفَّق شخصا وخذل آخر لكان ظالما، ولو نسخ الله حكما بحكم لكان جاهلا ظالما، ويجب على الله عقلا أن يثيب المحسن وأن يعذب المسيء فهذا من أبطل الباطل؛ لأن هذا مبني على التحسين والتقبيح العقليين والصواب أن الله سبحانه وتعالى، أن الظلم كما سبق ليس كما يقول هؤلاء: إنه ما كان مماثل للعبد بل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه فهذا هو الموافق للغة العربية كما سبق.
ولذلك الله سبحانه وتعالى نفى الظلم عن نفسه في قوله {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) } {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) } {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} نفى خوف الظلم في قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) } حرم الظلم على نفسه.
وهذا يدل على أنه ممكن الوقوع، ولو كان لا يمكن لما حرمه على نفسه الإنكار بهمزة الاستفهام على من حسب خلق الخلق عبثا قال:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} فتنزه سبحانه عن خلق الخلق عبثا، إنكار التسوية بين المسلمين والمجرمين وهذا يدل على إنكار التسوية كما في قوله:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) } {أَمْ نجعل الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أم نجعل الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) } {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نجعلهم كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
وكل هذا إنكار من الله على مَن جوَّز أن يسوي بين هذا وهذا، وهذا يدل على إنكاره، وإنكار على من حسب أنه يفعل هذا، وإخبار أن هذا حكم سيئ قبيح، وهو ما ينزه الرب عنه، وبهذا يبطل مذهب الطائفتين الضالتين الجبرية والقدرية، نعم.
تقدس عن كل سوء وحين
تقدس عن كل سوء وحين، تقدس يعني تنزه سبحانه وتعالى، تنزه واسمه منزه عن كل سوء وقبيح، وحين أي هلاك فهو سبحانه وتعالى حي لا يموت وهو منزه عن الموت ومنزه عن الهلاك، ومنزه عن كل سوء سبحانه وتعالى، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، له كل وصف جميل سبحانه وتعالى، وله الأسماء الحسنى التي سمى نفسه بها ووصف بها نفسه في الكتاب والسنة نعم.
وتنزه عن كل عيب وشين
نعم تنزه عن كل عيب وشين هو العيب كله يعني الشين والعيب متقاربان، نعم.
لا يسئل عما يفعل لكمال حكمته؛ لكماله؛ لأنه حكيم سبحانه وتعالى أما العباد فإنهم يسألون؛ لأنهم مكلفون، نعم.
وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات
وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات، دعاء الأحياء، الأحياء جمع حي، وصدقاتهم منفعة للأموات المعنى أن الأموات ينتفعون من دعاء الحي إذا دعا لهم وينتفعون من الصدقات وهذه المسألة تسمى إهداء الثواب للميت، هل ينتفع بها أو لا ينتفع؟ هذه المسألة تسمى أيش، مسألة إهداء الثواب ثواب العمل الصالح للميت، فهل ينتفع الأموات بسعي الأحياء سعيهم يعني أعمالهم أو لا ينتفعون؟
المسألة فيها مذاهب:
المذهب الأول لأهل البدع بعضهم ينسبه إلى المعتزلة قالوا: لا ينتفع الميت من سعي الحي إلا بما تسبب به في حياته؛ لأنه تابع لما عمله في حياته وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه واضح هذا.
إذن مذهب أهل البدع: لا ينتفع الميت من سعي الحي إلا بالشيء الذي تسبب به في حياته، مثل أيش؟ مثل وقف صدقة تسبب به في حياته هذا ينتفع به، مثل علم، مؤلفات ألفها، أو تلاميذ درسهم وانتفعوا، يستفيد من علمه، وكذلك مصاحف طبعها أو كتب علمية طبعها أو أولاد صالحين رباهم فدعوا له، كما جاء في الحديث:(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) الذي تسبب به في حياته ينتفع به، وما لم يتسبب فيه فلا ينتفع به.
القول الثاني: وهو مذهب ينسب إلى المالكية والشافعية قالوا: ينتفع الميت بما تسبب به في الحياة وبالدعاء والصدقة والحج وهي التي تسمى بالأعمال المالية التي تدخلها النيابة، هم يقولون ينتفع الميت بشيئين:
الشيء الأول ما تسبب به في الحياة كما قال المعتزلة. والنوع الثاني الأعمال المالية التي تدخلها النيابة مثل الدعاء دعا له إنسان يستفيد، مثل الصدقة تصدق عنه إنسان يستفيد مثل الحج والعمرة حج عنه مثل الأضحية، أما الأعمال البدنية فلا يستفيد منها مثل الصلاة مثل الطواف مثل الذكر مثل قراءة القرآن فلا يستفيد واضح هذا.
المذهب الثالث: أن الميت ينتفع بكل قربة يهديها إليه الحي فينتفع بما تسبب به في الحياة، وينتفع بالأعمال المالية التي تدخلها النيابة وهي الدعاء والصدقة والحج، وينتفع أيضا بما يهدى إليه من ثواب الأعمال الصالحة البدنية كالصلاة والصوم وقراءة القرآن والذكر، وهذا مذهب الحنابلة والأحناف.
ولهذا يقول الحنابلة في هذا:
وكل قربة فعلها وجعل ثوابها لمسلم
حي أو ميت نفعه
وكل من صيغ العموم كل قربة سواء كانت القربة بدنية، أو القربة عملية فعلى هذا إذا تصدق الإنسان بصدقة، ونوى ثوابها للميت لقريبه، أو غير قريبه، هل ينتفع، ينتفع عند المالكية والشافعية، وينتفع عند الأحناف والحنابلة، ولا ينتفع عند المعتزلة؛ لأنها ليست ممن تسبب فيها.
أما الأعمال البدنية: صلى ركعتين، وقال: اللهم اجعل ثوابها للميت أو صام يوم فقال: اجعل ثوابه للميت، أو قرأ القرآن، وقال: اللهم اجعل ثوابها للميت، لو قرأ سورة أو سبح ونوى ثوابه للميت، هل ينتفع هل تصل للميت؟
عند الشافعية والمالكية لا ينتفع، وعند الحنابلة والأحناف ينتفع.
واضح هذا سيأتي الأدلة فعلى هذا تكون مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: مذهب أهل البدع: لا ينتفع إلا بما تسبب به في الحياة.
المذهب الثاني: ينتفع بما تسبب به في الحياة وبثواب الأعمال المالية، وهي ثلاثة أنواع: الدعاء، والصدقة والحج فقط، أما ثواب الصلاة وثواب قراءة القرآن وثواب الذكر وثواب الطواف بالبيت بدون حج أو عمرة فلا يستفيد.
المذهب الثالث: ينتفع بكل شيء يهدى إليه ينتفع بثواب الصدقة وينتفع بثواب الصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن والطواف بالبيت.
والصواب من هذه الأقوال مذهب المالكية والشافعية، ووجه الترجيح أن هناك أدلة تدل على أن الميت ينتفع بالصدقة، وهناك أدلة تدل على أن الميت ينتفع بالحج والعمرة، وهناك أدلة تدل على أن الميت ينتفع بالدعاء، لكن ليس هناك دليل يدل على أن الميت ينتفع بصلاة ركعتين إذا صليت أو طواف بالبيت مجرد ليست بحج ولا عمرة أو تقرأ قرآن وتهدي ثوابه أو تصوم يوم وتهدي ثوابه ما في دليل.
لكن الحنابلة والأحناف قالوا: نقيس، ما عندهم إلا القياس، نقيس ثواب الأعمال البدنية على ثواب الأعمال المالية.
فقال الشافعية والمالكية لا نقيس؛ لأن العبادات ما فيها قياس، العبادات ما فيها قياس، العبادات مبناها على التوقيف، والأصل في العبادات: الحظر والمنع فنحن نقف على هذا نقف حيث وقفت النصوص، ولهذا الصواب والراجح في هذا مذهب أيش مذهب المالكية والشافعية، وهو أن الميت ينتفع بما تسبب به في الحياة كالأوقاف والأولاد وكالعلم الأولاد الذين يدعون له والصدقة والدعاء، والحج لأن الأدلة وردت في هذا، ولا ينتفع بثواب الصيام، ولا بثواب قراءة القرآن، ولا بثواب الطواف بالبيت، ولا بثواب الذكر إلا الصوم الواجب الذي مات وهو عليه.
الصوم الواجب يقضى عنه، الذي مات وعليه أيام من رمضان، أو مات وعليه صوم نذر أو كفارة، هذا يقضى عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حديث عائشة الذي رواه الشيخان:(من مات وعليه صيام صام عنه وليه) إذا كان عليه صيام نعم، أما تصوم تطوع وتنوي ثوابه للميت ما عليه دليل واضح.
هذا، فإذن المسألة فيها هذه المذاهب الثلاثة: مذهب الشافعية، والمالكية قالوا: لا ينتفع إلا بثواب الأعمال المالية بالإضافة إلى ما تسبب به في الحياة.
من أدلة أهل البدع والمعتزلة على أن الميت لا ينتفع إلا بما تسبب به في الحياة قول الله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) } قالوا: وجه الدلالة أن الله حصر ملكية الإنسان لسعيه فدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره.
وأجيب عنه بجوابين:
الأول من وجهين: أحدهما: أن الإنسان بسعيه وملاطفته وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد ونكح الأزواج، وأسدى الخير وتودد إلى الناس فترحموا عليه ودعوْا له، وأهدوا له ثواب الطاعة فكان ذلك أثرَ سعيه. الثاني: أن دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته ودعوة المسلمين تَعُمُّه.
الجواب الثاني: وهو أقوى من الأول أن المنفي الملك لا الانتفاع، فالقرآن في قول الله:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) } لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فاللام في قوله:{لِلْإِنْسَانِ} للملك.
الدليل الثاني: استدلوا بقول الله تعالى {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) } .
ووجه الدلالة: أن الله حصر الجزاء في العمل للشخص نفسه فدل على عدم انتفاعه بعمل غيره.
وأجيب بأن سياق هذه الآية يدل على أن المنفيَّ عقوبةُ العبد بعمل غيره بدليل صدر الآية {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} ولم تنف الآية انتفاع الإنسان بعمل غيره.
الدليل الثالث: استدلوا بقول الله تعالى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} .
وجه الدلالة: قالوا إن الله حصر كسب الإنسان واكتسابه عليه فدل على عدم انتفاعه بكسب غيره.
وأجيب بأن الآية أثبتت ملك الإنسان لكسبه، ولم تنف انتفاعه بكسب غيره بل إن كسب غيره ملك لكاسبه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء يبقيه لنفسه.
واستدلوا أيضا -الدليل الرابع- بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به)
وجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب به في الحياة، وما لم يكن تسبب به في الحياة فهو منقطع عنه.
وأجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بانقطاع عمله ولم يخبر بانقطاع انتفاعه بعمل غيره بل إن عمل غيره لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمله، فالمنقطع شيء، والواصل إليه ثوابه شيء آخر.
واستدل المالكية والشافعية على أن الميت ينتفع بالدعاء والصدقة والحج فقط استدلوا بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الدعاء فاستدلوا عليه بأربعة أنواع:
النوع الأول: نصوص أدعية الناس بعضهم لبعض كقوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} .
وجه الاستدلال: أن الله أثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء، ولو كان غير نافع ما استحقوا الثناء.
النوع الثاني: إجماع الأمة على الدعاء في صلاة الجنازة.
النوع الثالث: نصوص الدعاء للميت بعد الدفن، كما في حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسئل) .
النوع الرابع: نصوص الدعاء للأموات عند زيارة قبورهم كما في حديث بريدة بن حصين رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) .
واستدلوا على وصول ثواب الصدقة بما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي افتُلِتَتْ نفسها -يعني ماتت فجأة- وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها قال نعم)
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن حائط المصرافة صدقة عنها)
واستدلوا على عدم وصول العبادات البدنية للميت بما روى النسائي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة) واستدلوا على القياس على الحياة فكما أن هذه العبادات لا تدخلها النيابة في الحياة، فلا يفعلها أحد عن أحد ولا ينوب فيها عن فاعلها غيرها كذلك في الممات لا يفعلها أحد عن أحد ولا ينوب فيها عن فاعلها غيرها بل يختص ثوابها بفاعله لا يتعداه إلى غيره.
وأما الحنابلة والأحناف فردوا على المالكية والشافعية وقالوا: كيف تفرقون بين العبادات المالية والبدنية، وهذا تفريق بغير دليل فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بينهما بل شرع الصوم عن الميت كما في حديث عائشة:(من مات وعليه صيام صام عنه وليه) مع أن الصوم عبادة بدنية لا تجزيء فيها النيابة في الحياة.
لكن أجاب المالكية والشافعية هذا صوم واجب وما عداه فلم يأت دليل. قالوا: وأما استدلالكم بحديث ابن عباس: (لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد) فهذا الحديث موقوف على ابن عباس فلا يقاوم حديث عائشة: لا سيما وقد ثبت الخلاف عن ابن عباس.
وثانيا: أن الحديث مطعون في سنده، وحديث عائشة صحيح الإسناد، وأما استدلالكم بالقياس على الحياة، فيجاب عنه بأنه قياس مع النص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شرع الصوم عن الميت، مع أن الصوم لا تدخله النيابة، وشرع للأمة أن ينوب بعضهم عن بعض في أداء الفروض، فروض الكفايات فإذا فعله واحد ناب عن الباقين في فعله وسقط عنه المأثم.
وشرع لقيم الطفل الذي لا يعقل أن ينوب عنه في الإحرام وأفعال المناسك وحكم له بالأجر لفاعل نائبه، وجعل الشارع إسلام الأبوين بمنزلة إسلام أطفالهما؛ ولأن هذا ثواب وليس من باب النيابة.
وقالوا: من الأدلة على وصول ثواب الصوم حديث عائشة كما سبق، ومن الأدلة على وصول ثواب الحج أدلة كثيرة منها (أن امرأة من جهينة قد جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أَفَأَحُج عنها؟ قال: حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)
لكن أجاب الجمهور بأن هذا نذر واجب والحج أيضا وردت فيه النيابة قال الحنابلة والأحناف فجازت النيابة في الحج، والحج عبادة مركبة من المال فدل على جواز، على وصول ثواب الأعمال البدنية.
وكذلك أيضا قالوا: من أدلتنا أن المسلمون أجمعوا على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت، ولو كان من أجنبي، ومن غير تركته كما في حديث أبي قتادة حينما ضمن الدينارين.
وأيضا قالوا إن أدلتنا القياس، فنقيس هبة ثواب العمل للميت على هبة المال للحي فكما أن الإنسان إذا وهب ماله للحي فلا بأس فكذلك نقيس عليه ثواب عمله للميت، والثواب حق للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لا يمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبة ماله في حياته وإبرائه منه بعد مماته.
وقالوا: من أدلتنا القياس على الأجير الخاص والأجير الخاص هو الذي يشترط أن يباشر الفعل بنفسه فنقيس هبة ثواب العمل للميت مع أنه لا يستنيب أحدا عنه في عمله على أجرة الأجير الخاص، فله أن يعطيها من يشاء مع أنه ليس له أن يستنيب في الفعل الذي استأجر عنه أحد، ولكن إذا نظرنا إلى هذا وجدنا أن الحنابلة والأحناف ما معهم إلا القياس ما عندهم أدلة على أن ثواب الصلاة وقراءة القرآن والذكر ما عندهم إلا القياس.
والمالكية والشافعية قالوا: إنا نقف عند النصوص، النصوص جاءت بوصول ثواب الدعاء والحج وكذلك الصدقة والصوم، إذا كان صوما واجبا نقف مع النصوص وندور معها إن دارت، وأما أنتم أيها الحنابلة والأحناف ما عندكم تقيسون، تقيسون ونحن لا، ما نقيس العبادات، ما فيها قياس، نتوقف عند النصوص، وبهذا يترجح مذهب من؟ المالكية والشافعية يجوز أن تهدي للميت تدعو للميت هذا يصل ثوابه، تتصدق عنه يصل الثواب، تحج عنه يصل، تعتمر يصل، تقضي عنه الصوم الواجب من رمضان أو نذر يصل، وما عدا ذلك فلا.
أما تصلي ركعتين تنوي ثوابها للميت ما عليه دليل، وإن قال الحنابلة والأحناف تصوم يوم تطوع تنوي ثوابه للميت ما عليه دليل، تطوف بالبيت سبعة أشواط تهدي ثوابها للميت ما عليه دليل، تذكر الله وتسبح وتهدي ثوابه للميت ما عليه دليل، تقرأ القرآن أو سورة تهدي ثوابها للميت ما عليه دليل والواجب على المسلم أن يتقيد بالنصوص.
هناك مسائل تابعة لهذا البحث: مثل استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت، ومثل الأجرة على التلاوة، ومثل الاستئجار على التعليم، وأخذ الأجرة عليه، ومثل إعطاء قارئ القرآن ومعلمه ومتعلمه معونة بدون شرط أو رصد من بيت المال ومثل الوصية بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ على قبره ومثل قراءة القرآن وإهدائها للميت طبعا بغير أجرة، ومثل الإهداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل قراءة القرآن عند القبور هذه مسائل كلها تحتاج إلى بحث، ولكن لا نستطيع بحثها، ولعل الله أن ييسر فيما بعد نسجلها، إن شاء الله، ونلحقها بهذا البحث.
انتفاع الأموات بسعي الأحياء قلنا: إن هناك مسائل تابعة لهذا البحث هذه المسائل أولا:
المسألة الأولى: استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت وأخذ الأجرة عن التلاوة.
ثانيا المسألة الثانية: الاستئجار على التعليم يعني تعليم القرآن وأخذ الأجرة عليه.
الثالثة: إعطاء قارئ القرآن ومعلمه ومتعلمه معونة بدون شرط أو رصدا من بيت المال.
الرابعة: الوصية بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره
الخامسة: قراءة القرآن وإهدائها للميت طوعا بغير أجرة.
السادسة: الإهداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السابعة: قراءة القرآن عند القبور.
أما المسألة الأولى: وهي استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت، فإن هذا لا يجوز بلا خلاف، بل هو عمل بدعي؛ لأنه لم يفعله واحد من السلف؛ لأنه لم يرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الأجرة عن نفس التلاوة غير جائز؛ لأن تلاوة القرآن وأخذ الأجرة على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف؛ لأن تلاوة القرآن عبادة، والعبادات لا تؤخذ الأجرة عليها كالحج والصلاة والأذان فلا يصح أخذ الأجرة، والثواب لا يصل إلى الميت، إلا إذا كان العمل لله خالصا.
وهذا الذي أخذ أجرته لم يقع عبادة خالصة فلا يكون له من ثوابه ما يهديه إلى الموتى، ولهذا لم يقل أحد: إنه يكتري من يصلي من يصوم ويصلي ويهدي ثوابه للميت، إذن فلا يجوز له بعد أخذ الأجرة أن يهديه للميت؛ لأن التالي أخذ أجرته فلا ثواب له، فكيف يهب شيئا لا ثواب له.
المسألة الثانية: الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه مما فيه منفعة تصل إلى الغير وأخذ الأجرة عليه، اختلف العلماء فيه على قولين: فقيل لا يصح أخذ الأجرة على تعليم القرآن قيل: لأنه عبادة، استدلوا بأنه عبادة، ولحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه (أنه علَّم رجلا من أهل الصفة آيات من القرآن، فأعطاه قوسا فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أحببت أن تطوق قوسا من نار فاقبلها)
القول الثاني: أنه يجوز الاستئجار على تعليم القرآن، ويصح أخذ الأجرة عليه لما يأتي: - أولا ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا من الصحابة امرأة على أن يعلمها آيات من القرآن، وقال:(زوجتك بما معك من القرآن) رواه البخاري. ولحديث البخاري الآخر: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) وهذا هو الصواب، هو الراجح أنه يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
وأما ما استدل به المانعون من حديث عبادة فهو حديث ضعيف لا يقاوم حديث البخاري ولو صح فيحمل المنع فيه على أحد أمرين: أولا: أنه أن النبي منعه لفقره؛ لأنه إما لفقر أهل الصفة، وإما لكونه متبرعا بذلك فنهاه لئلا يفسد أجره.
المسألة الثالثة: وهي أخذ المعلمين والمتعلمين والقارئين والمقرئين من بيت المال والتبرعات ما يعينهم على ذلك، أخذ المعلمين والمتعلمين والقارئين والمقرئين والأئمة والمؤذنين والقضاة ورجال الحسبة من بيت المال أو التبرعات ما يعينهم على ذلك جائز لا بأس به؛ لأن هذا من جنس الصدقة عنهم فيجوز وكذلك إعطائهم أرزاق من بيت المال جائز لا محذور فيه؛ لأن بيت المال فيه كفالة هؤلاء، إنما الممنوع الاستئجار كونه يستأجر شخصا يؤذن أو يستأجر شخصا يصلي بالناس وما أشبه ذلك، فهذا هو الممنوع.
أما إعطائه شيئا معونة بدون اشتراط أو إعطائه من بيت المال فهذا ليس فيه شيء؛ لأن بيت المال فيه كفالة المسلمين جميعا، قال بعض العلماء: إنه إذا اضطر إلى الاستئجار فلا حرج إن تعطل المسجد، ولم يوجد إلا بأجرة فلا بأس للضرورة.
أما المسألة الرابعة: وهي الوصية بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره فالوصية باطلة؛ لأنه غير مشروط، استئجار من يقرأ القرآن على قبره؛ لأنه فيه معنى الأجرة وكذلك لو وقف على من يقرأ عند قبره فالتعيين باطل؛ لأنه غير مشروع؛ والوقف ماض، فيصرف في غير المصرف الذي عينه من جهات البر الأخرى.
أما المسألة الخامسة: وهي التطوع بقراءة القرآن وهبة الثواب للميت بأن يقرأ القرآن ويختمه ويهدي ثوابه للميت أو يقرأ سورة ويهدي ثوابها للميت، ومثله لو سبح وهلل وأهدى ثوابها للميت فهذه المسألة مختلف فيها:
فقيل: يصل إليه ثواب القراءة كما يصل إليه ثواب الصوم والحج، وهذا مذهب الحنابلة والأحناف وكثير من المتأخرين، واستدلوا بالقياس على الدَّيْن وعلى الأجير الخاص، وعلى الأضحية وعلى الصوم والحج والصدقة.
القول الثاني: المنع وقالوا لا يصل إليه ثواب قراءة القرآن وهذا مذهب طائفة من أهل السنة من المالكية والشافعية، واستدلوا بأن قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميت لم يكن معروفا عند السلف، ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير، ولا أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام، فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه.
أجاب المجيزون أهل القول الأول قالوا: إن كان مورد هذا السؤال معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء، إن كان قائل ذلك معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء قيل له: ما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن؟ وليس كون السلف لم يفعلونه حجة في عدم الوصول، ومن أين لنا هذا النفي العام، وإن لم يكن معترفا بوصول ذلك تلك إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع.
أجاب المانعون: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم والحج والصدقة ولم يرشدهم إلى القراءة.
أجاب المجيزون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصوم عنه فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصدقة عنه فأذن له فيه، ولم يمنعهم مما سوى ذلك.
أجاب المانعون: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج ولم يشرع لهم ما سوى ذلك، والأصل في العبادات الحظر والمنع وهي توقيفية، فلا نقيس عليه القراءة والذكر حتى يرد الدليل؛ ولأنه لا قياس في العبادات، وإنما القياس في المعاملات، وبهذا يتبين أن الصواب المنع، وأنه يقتصر في إهداء الثواب للميت على الدعاء والصدقة والحج والعمرة، وكذلك الصوم الواجب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري الذي روته عائشة:(من مات وعليه صيام صام عنه وليه) سواء كان صوم نذر أو كفارة أو صوم من رمضان، وليس ذلك بواجب على الولي، لكن إن أحب ذلك أن يصوم وإن لم يرغب في الصيام فإنه يطعم عن كل يوم مسكين.
المسألة السادسة: وهي إهداء ثواب القراءة، أو العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها خلاف، فيها خلاف، من الفقهاء المتأخرين من استحبه ومن العلماء من رآه بدعة، وهذا هو الصواب لأمرين:
الأمر الأول: أن الصحابة لم يكونوا يفعلونه.
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيئا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إليه، ومن دعى إلى الهدى فله من الأجر مثل أجور من تبعه، وكل هدى وعلم فإنما نالته أمته على يده فله مثل أجر من اتبعه أهداه إليه أم لم يهده، وهذا هو الصواب أنه لا يهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أجر الأمة فلا حاجة للهبة.
المسألة السابعة: وهي قراءة القرآن عند القبور، اختلف العلماء في قراءة القرآن عند القبور على ثلاثة أقوال: وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد،
أولها: الكراهة مطلقا.
الثاني: الجواز مطلقا.
الثالث: الجواز وقت الدفن والكراهة بعده.
ولعل المراد بالكراهة هنا التحريم، كراهة التحريم؛ لأنها هي المعروفة عند السلف.
الأول: الكراهة مطلقا يعني التحريم أنه لا يجوز القراءة، قراءة القرآن عند القبور وهذا، وهي رواية عن الإمام أحمد، وهو قول أبي حنيفة ومالك، واستدلوا بما يأتي:
أولا: أن قراءة القرآن عند القبور مُحْدَث لم ترد به السنة، فلم يرد أن النبي-صلى الله عليه وسلم قرأ عند القبور، ولم يأمر به.
الثاني: أن القراءة كالصلاة، فالقراءة تشبه الصلاة، والصلاة عند القبور منهي عنها، فكذلك القراءة فتقاس القراءة على الصلاة.
الثالث: أن الأصل في العبادات المنع والحظر حتى يرد الدليل على الجواز بخلاف المعاملات، فالأصل فيها العمل حتى يرد المنع.
الرابع: أن القراءة وسيلة للعكوف عند القبور، أن القراءة وسيلة للعكوف عند القبر وتعظيمه فتمنع سدا لذريعة الشرك.
القول الثاني: الجواز مطلقا، والمراد بالإطلاق يعني وقت الدفن أو بعد الدفن، وهذه رواية عن الإمام أحمد، وهي رواية عن الإمام أحمد، وهو قول محمد بن الحسن الصاحب الثاني لأبي حنيفة، واستدلوا بما نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتيمها.
ونقل أيضا عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة، وقال: إنها قربة وفيها أدعية، ومع أن الدليل خاص بوقت الدفن، الدليل خاص بوقت الدفن، أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن، مع أن الدليل خاص بوقت الدفن إلا أن هؤلاء توسعوا فأجازوا القراءة مطلقا وقت الدفن وبعده.
القول الثالث: الجواز وقت الدفن والكراهة بعده، وهذه رواية عن الإمام أحمد، دليلهم هو دليل أهل القول السابق ما نقل عن ابن عمر، وبعض المهاجرين ما نقل عن ابن عمر أنه أمر أن يقرأ على قبره وقت الدفن فواتح سورة البقرة وخواتيمها، وما نقل عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة.
وهذا هو القول الثالث هو الذي يرجحه ابن أبي العز شارح الطحاوية وقال: إن فيه جمعا بين القولين، والصواب القول الأول والصواب الكراهة والتحريم مطلقا، ويجاب عن دليل المذهبين الثاني والثالث:
أولا يحتاج النقل عن ابن عمر إلى الثبوت إذا احتاج إلى صحة النقل، وكذلك ما روي عن بعض المهاجرين.
ثانيا: إذا صح ما نقل عن ابن عمر فيقال بأن هذا اجتهاد منه خالف ابن عمر غيره من الصحابة، فلا حجة في قوله، خالفه فيه كبار الصحابة كأبي بكر وأبيه عمر وغيرهم هذا إذا صح، أولا يُطالب هؤلاء بصحة النقل. وثانيا: إذا صح فإنه يجاب عنه بأن هذا اجتهاد من ابن عمر خالفه فيه كبار الصحابة.
وبهذا يتبين أرجحية القول بالمنع مطلقا سدا لذريعة الشرك؛ ولأن القراءة على القبور وسيلة إلى العكوف عندها وتعظيمها؛ لأن القراءة عند القبور وسيلة للعكوف عندها وتعظيمها؛ ولأن الأصل في العبادة الحظر والمنع، وكما أن الصلاة ممنوعة عند القبور فكذلك القراءة، أما القراءة بعد الدفن كالذين يذهبون إلى القبر للقراءة فيه للقراءة عنده فهذا ممنوع مطلقا ليس محلا للخلاف، القراءة بعد الدفن كالذين يأتمون القبور، ويأتونها مرات بعد مرات ويقرءون القرآن عند القبور، فهذا ممنوع؛ لأنه لم تأت به السنة، ولم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلا، والله أعلم، نعم.
والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضى الحاجات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال الطحاوي -رحمه الله تعالى-: والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضى الحاجات" في هذا بيان من المؤلف رحمه الله أن الله تعالى يستجيب الدعاء، وأن الدعاء نافع، وهذا هو الذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وغيرهم أن الدعاء نافع ومفيد.
والناس لهم في الدعاء ونفعه مذهبان مشهوران:
المذهب الأول: الذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وجمهور أهل الملل من يهود ونصارى ومشركين ومجوس أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله الطحاوي: والله يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات.
المذهب الثاني: أن الدعاء لا فائدة فيه فيمنع؛ لأنه عبث وليس بمشروع وإلى هذا ذهب قوم من المتفلسفة كابن سينا والفارابي؛ وغالية المتصوفة والمعتزلة ذهبوا إلى أن الدعاء عبث لا فائدة فيه فيمنع.
استدل أهل المذهب الأول على مشروعية الدعاء ونفعه للداعي من الكتاب والسنة:
أما الكتاب العزيز فقول الله تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ووجه الدلالة: أن الدعاء لو لم يكن مشروعا لما أمر الله به ووعد بالإجابة.
الدليل الثاني: قول الله تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ووجه الدلالة: لو لم يكن الدعاء مشروعا ونافعا لما أخبر الله بقربه لمن دعاه ووعده بالإجابة.
الدليل الثالث: قول الله تعالى {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}
الدليل الرابع: قول الله تعالى {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ووجه الاستدلال من الآيتين: أن الله أخبر عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، وهذا اعتراف منهم بفائدة الدعاء، وأنه من أقوى الأسباب في جلب النفع ودفع الضر.
الدليل الخامس: قول الله تعالى {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ $VJ ح! $s%} ووجه الاستدلال: دلت الآية على أن الإنسان مطلقا مؤمنا أو كافرا يلجأ إلى الدعاء إذا مسه الضر على أي حال من الأحوال، وهذا اعتراف منه بفائدة الدعاء ونفعه ودفعه الضر بإذن الله.
ومن السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يسأل الله يغضب عليه) .
وحديث نزول الرب إلى السماء الدنيا وفيه (أن الرب سبحانه وتعالى يقول هل من داع فأستجيب له هل من سائل فأعطيه سؤله) .
والحديث الثالث: حديث (الدعاء مخ العبادة) وهذا فيه ضعف، وأصح منه حديث (الدعاء هو العبادة)
الدليل الرابع: حديث (لا يرد القضاء إلا الدعاء) .
ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث الأربعة: أنه لو لم يكن الدعاء مشروعا ونافعا لما غضب الله على من لم يسأله ولما وعده بالاستجابة وإعطائه سؤله، ولما أخبر بأنه هو العبادة أو مخ العبادة، ولما أخبر أنه يرد القضاء.
هذه الأدلة تدل على أن الدعاء نافع ومفيد، وهذا الذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وغير المسلمين إجابة الدعاء، إجابة الله للدعاء هل هي خاصة بالمسلم ليست خاصة، إجابة الدعاء عامة للمسلم والكافر؛ لأنها تابعة للربوبية، فإجابة الله لدعاء العبد مسلما كان أو كافرا وإعطائه سؤله من جنس رزقه لهم ونصره لهم وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقا مسلما أو كافرا إلا أن الفرق بين المسلم والكافر هو أن إجابة الكافر قد تكون فتنة في حقه، ومضرة عليه، إذ كان كفره وفسوقه يقتضي ذلك.
مسألة في المعاني التي يستلزمها الدعاء:
قال ابن عقيل رحمه الله: قد ندب الله إلى الدعاء، وفي ذلك معان، وهي صفات لله -تعالى-
أحدها: الوجود فإن من ليس بموجود لا يُدْعَى. الثاني: الغنى فإن الفقير لا يدعى. الثالث: السمع فإن الأصم لا يدعى. الرابع: الكرم فإن البخيل لا يدعى. الخامس: الرحمة فإن القاسي لا يدعى. السادس: القدرة فإن العاجز لا يدعى.
ويزاد أيضا على ما ذكره ابن عقيل: السابع: الحياة فإن الميت لا يطلب. الثامن: العلم: فإن الجاهل لا يسئل.
ومشروعية الدعاء فيه رد على أهل الطبائع، وعلى عُبَّاد النجوم من يقول بالطبائع، أي أن الطبائع فاعلة بطبعها، يعني بذاتها لا بجعل الله، يعلم أن النار لا يقال لها كفي، ولا النجم يقال له أصلح مزاجي؛ لأن هذه عندهم مؤثرة طبعا لا اختيارا، فشرع الله الدعاء وصلاة الاستسقاء؛ ليبين كذب أهل الطبائع والذين يعبدون النجوم إنما يعبدونها في زعمهم لكونها رمزا للملائكة الذين يفعلون، فمشروعية الدعاء فيه رد عليهم.
الذين قالوا إن الدعاء نافع وغير مفيد، الدعاء غير نافع وغير مفيد وغير مشروع وهم الفلاسفة وغالية الصوفية والمعتزلة لهم شُبَه لهم شبه عقلية، ليس عندهم شيء من أدلة الشرع:
الشبهة الأولى قالوا: المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء، فعلى التقديرين الدعاء عبث؛ لأن الإرادة والمشيئة ضد الدعاء يقولون: إن اقتضت المشيئة وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء؛ وإن لم تقتض المشيئة حصول المطلوب فلا فائدة في الدعاء.
ويجاب عن هذه الشبهة بجوابين:
الأول: إجمالي، وهو منع الحصر في المقدمتين، فإن الحصر في هاتين المقدمتين غير مسلم به، بل ثَمَّ مقدمة ثالثة، وقسم ثالث وهي أن يقال أن تقتضي المشيئة وجود المطلوب بشرط ولا تقتضيه مع عدمه، وقد يكون الدعاء من شرطه كما تقتضي المشيئة الثواب مع العمل الصالح ولا تقتضيه مع عدمه، وكما تقتضي المشيئة الشبع والري عند الأكل والشرب ولا تقتضيه مع عدمهما، وكما تقتضي المشيئة حصول الولد بالوطء وحصول الزرع بالبذر.
فإذا قدر وقوع المدعو بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب. الثاني الوجه الثاني: أن يقال قول هؤلاء الذين ينكرون فائدة الدعاء قولهم مخالف للشرع وللحس وللفطرة، وطرد دليلهم يلزمه الفوضى في الوجود وتعطيل المصالح، إذ يمكن أن يقال إن شاء الله لي الشبع فلا فائدة في الأكل، وإن لم يشاء فلا حاجة إليه، وإن شاء الله لي الولد فلا حاجة للزواج فكذلك إذا شاء الله لي حصول المطلوب فلا فائدة في الدعاء.
قول هؤلاء لو طرد لصار فيه فوضى في الوجود وتعطيل للمصالح الجواب الثاني عن هذه الشبهة، قولكم: إن اقتضت المشيئة المطلوب فلا حاجة للدعاء. يقال بل إن الدعاء تكون إليه حاجة من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجلة من اكتساب الأجر والعبودية والتضرع والتعرف إلى الله وزيادة الإيمان، والحصول على الجنة، ومن دفع مضرة أخرى عاجلة كمرض وسوء، وآجلة كعذاب النار، وقد يعطيه الله غير طلبه ففيه فائدة على كل حال.
وقولهم: إن لم تقتضه فلا فائدة فيه. يقال: بل فيه فوائد عظيمة من جلب المنافع ودفع المضار مما يعجل للعبد في الدنيا من معرفته بربه وإقراره به، وبأنه سميع قريب عليم رحيم، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه، وما يتبع من العلوم العلية والأحوال الذكية التي هي أعظم المطالب كما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ما معناه:(لا يسأل اللهَ عبدٌ إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يعطيه من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها مثل ذلك)
الشبهة الثانية للمانعين من الدعاء: قالوا إذا كان إعطاء الله معللا بفعل العبد كما يعقل من إعطاء المال للسائل بسؤاله، كان السائل قد أثر في المسئول حتى أعطاه يعني يقولون: لو كان الدعاء مفيد للزم من ذلك أن يكون الداعي قد أثر في الله حتى أعطاه سؤله وجواب هذه الشبهة أن يقال: إن الرب سبحانه هو الذي حرك العبد إلى دعائه فمنه الدعاء وعليه التمام فهذا الخير منه سبحانه وتمامه عليه كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه".
فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد حركة الدعاء ويجعلها سببا للخير ليعطيه إياه فما أثر فيه شيء من المخلوقات، بل هو جعل ما يفعله في عبده من الدعاء سببا لما يفعله فيه من الإجابة كما في العمل والثواب، فالله هو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه.
الشبهة الثالثة للمانعين من الدعاء قالوا: إن الداعي قد لا يجاب بالمرة وقد يجاب بغير المطلوب فكيف يجمع بين ذلك وبين الوعد بالإجابة، وبعبارة أخرى يقولون: إن من الناس من يسأل الله فلا يُعْطَى سؤاله، أو يعطى غير ما سئل، فلا يستجاب له ولا يحقق له المطلوب فكيف يجمع بين هذا، وبين قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
وأجيب عن هذه الشبهة بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: أن المراد بالدعاء في الآية العبادة، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} يعني اعبدوني أن المراد بالدعاء في الآية العبادة وبالإجابة الثواب، وعلى ذلك فلا تعارض بين الآية وبين كون السائل لا يعطى أو يعطى غير ما سأل؛ لأن معنى الآية اعبدوني أثبكم، ولم تتعرض الآية لإعطاء السائل. الجواب الثاني: أن المراد بالدعاء العموم الشامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة وإجابة دعاء السائل أعم من إعطاء المسئول، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل، والداعي أعم من السائل، ولهذا فرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بين الدعاء والسؤال وبين الإجابة والإعطاء في قوله عليه الصلاة والسلام:(ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له)
وهو فرق بالعموم والخصوص فالإجابة إن كان المراد بالدعاء العبادة فمعناها الثواب وإن أريد بالدعاء السؤال فيجاب بما فيه مصلحة، ولو لم يكن بعين مطلوبه كما في الحديث:(ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها) فيجاب في الجملة إذا وُجِدَتْ الشروطُ وانتفتِ الموانعُ. الجواب الثالث: أن يقال: إن الدعاء سبب مقتضٍ لنَيْل المطلوب والسبب له شروط وموانع، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب، وإلا فلا يحصل بل يحصل غيره، ومن الفوائد في هذا المقام أن الأدعية والتعوذات والرُّقَى بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحده، فمتى كان السلاح سلاحا تاما، والساعد ساعدا قويا والمحل قابلا، والمانع مفقودا حصلت به النكاية في العدو.
ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة: السبب في ذاته، ووجود المعين، وفقد المانع: تخلف التأثير كذلك الدعاء إذا كانت نفسه غير صالحة كأن يكون بإثم أو قطيعة رحم أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثَمَّ مانع من الإجابة كأكل الحرام وكثرة السيئات لم يحصل الأثر.
وبعض الصوفية، بعض الصوفية يخص منع الدعاء بخواص العارفين يقول خواص العارفين ما يحتاجون الدعاء، أما عامة الناس يحتاجون الدعاء قد يخص بعض الصوفية منع الدعاء بخواص العارفين، ويجعل الدعاء علة في مقام الخواص يعني مرض في مقام الخُلَّص الذين وصلوا إلى الله وتمكنوا من العبادة بزعمهم.
والجواب هذا من غلطات بعض الشيوخ، شيوخ الصوفية فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية، فإن منفعة الدعاء أمر أنشئت عليه تجارب الأمم حتى إن الفلاسفة تقول: ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات؛ لأن الأفلاك عندهم مدبرة فاعترفوا هذا وهم مشركون اعترفوا بفائدة الدعاء الأسباب، والدعاء سبب من الأسباب، الإنسان له أحوال معينة، إما أن يركن إليها وإما أن يلغيها بالكلية وإما أن يعترف بها ويعرض عنها، وإما أن يعمل بها على أنها سبب.
حكم الالتفات إلى الأسباب فقط، ما حكم الالتفات إلى الأسباب فقط؟ وما حكم إلغائها بالكلية؟ وما حكم الإعراض عنها مع الإقرار بها؟ وما مذهب أهل السنة في ذلك؟ ، الالتفات إلى الأسباب والركون إليها شرك في توحيد الربوبية كون الإنسان يعتمد على السبب وينسى الله، الالتفات إلى الأسباب والركون إليها شرك في توحيد الربوبية وذلك كركون المعتزلة وعلماء الطبيعة القائلين بالتفاعل بين الماءين والقائلين بأن النار محرقة بطبعها، فهم يقولون علماء الطبيعة الولد يحصل بالتفاعل بين الماءين، والنار محرقة بطبعها وذاتها، هذا شرك في الربوبية.
وإلغاء الأسباب بالكلية ومحوها أن تكون أسبابا نقص في العقل، وتكذيب للمحسوس. والإعراض عن الأسباب بالكلية مع الاعتراف بها قدح في الشرع؛ لأن الله ربط دخول الجنة والنجاة من النار بأسباب.
ومذهب أهل السنة لا بد من الاعتراف بالأسباب ولا بد من اعتقاد أنها جعلية، أي بجعل الله لها أسبابا لا لذاتها، ولا بد من الأخذ بها، والعمل بمقتضاها مع التوكل والرجاء، فمعنى التوكل والرجاء يتألف من وجود التوحيد والعقل والشرع والفرق بين التوكل على الله ورجائه، وبين العجز والغرور هو أن الأول الأخذ بالأسباب مع تفويض الأمر إلى الله والطمع في النتائج.
والثاني ترك الأسباب والطمع في حصول نعمة الله وخيره والدعاء أعم من السؤال والاستغفار، والدعاء أعم من السؤال، والاستغفار أخص من الاثنين، نعم.
ويملك كل شيء ولا يملكه شيء
نعم، ويملك كل شيء ولا يملكه شيء، أي الله سبحانه وتعالى مالك لكل شيء فهو سبحانه وتعالى بيده كل شيء مالك الأشياء كلها ولا يملكه أحد سبحانه، نعم.
ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين
نعم، لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يستغني عن الله طرفة عين، بل ولا أقل من ذلك؛ لأن هذه المخلوقات لا قيمة لها إلا بالله فالله فعلا هو الحي القيوم القائم بنفسه المقيم لغيره سبحانه وتعالى نعم.
ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين
يعني من زعم واعتقد أنه يستغني عن الله طرفة عين فهو كافر مرتد وصار من أهل الحين يعني من أهل الهلاك، الحين الهلاك، نعم.
والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى
والله يغضب ويرضى يغضب هذه صفة لله الغضب من الصفات الفعلية والرضى من الصفات الفعلية لا كأحد من الورى، الورى: الناس أو الخلق يعني الله تعالى يغضب ويرضى لكن لا يشابه المخلوقين في غضبهم ورضاهم؛ لأنه سبحانه وتعالى كما أخبر عن نفسه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) }
وهذا البحث في الصفات، والصفات تنقسم إلى قسمين صفات الرب سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين صفات ذاتية وصفات فعلية الصفات الذاتية رابطها هي التي لا تنفك عن الباري. والصفات الفعلية رابطها أنها هي التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، إذن الصفات نوعان: صفات ذاتية، وهي التي لا تنفك عن الباري، وصفات فعلية وهي التي تتعلق بالمشيئة والاختيار.
والصفات الذاتية نوعان:
النوع الأول: صفات قائمة بنفسها.
والثاني: صفات معان قائمة بالذات، وضابط صفات الأفعال أنك إذا أدخلت المشيئة عليها صلحت؛ لأن تكون متعلقا لها وصدق التركيب.
أمثلة لصفات الذات وصفات الأفعال، مثال القسم الأول: من صفات الذات، وهي الصفات القائمة بنفسها مثل الوجه واليد والقدم.
مثال القسم الثاني: من صفات الذات وهي صفات المعاني القائمة بالذات مثل العلم والحياة والقدرة ومثال صفات الأفعال قلنا: ضابط صفات الأفعال أنك إذا أدخلت المشيئة عليها صلحت للتركيب، وهي التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، مثل الرضا والغضب والحب والبغض والأسف والعداوة والولاية كل هذه من صفات الأفعال.
الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات صفات الأفعال من الكتاب قول الله تعالى {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقال الله سبحانه {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} قال تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} وقال: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} وقال {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وقال: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) } وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) } وقال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ}
ومن السنة ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يقول لأهل الجنة -ذكر الحديث وفيه- فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا) هذا فيه إثبات الرضا وحديث الشفاعة وفيه: (إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) في إثبات صفة الغضب.
وحديث (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) في صفة البغض، وحديث (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخلان الجنة) في إثبات صفة الضحك، وحديث:(عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِهِ) في إثبات صفة العجب مذهب أهل السنة في صفات الله.
مذهب أهل السنة في صفات الله تعالى: مذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفات الذات كالسمع والبصر، وإثبات صفات الأفعال كالغضب والرضا والحب والبغض والعداوة والولاية والكلام التي ورد بها الكتاب والسنة على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى يعني يثبتونها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكليف ولا تمثيل.
أما مذهب أهل التعطيل: الجهمية والمعتزلة مذهبهم في صفات الذات وصفات الأفعال مذهبهم: نفي كل ما وصف الله به نفسه من صفات الذات وصفات الأفعال، الجهمية والمعتزلة ينفون الصفات الذاتية والصفات الفعلية، ويقولون: إنما هي أمور مخلوقة محدثة منفصلة عن الله ليس هو في نفسه متصفا بشيء من ذلك.
شبهتهم: قالوا لو اتصف بالصفات الذاتية والفعلية لكان محلا للأعراض والله منزه عن ذلك.
الرد عليهم أن نقول: إأنها صفات أفعال ليست أعراضا فتسميتكم للصفات أعراضا اصطلاح لكم وبنيتم عليه نفي ما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
مذهب الكلابية والأشعرية في صفات الأفعال وشبهتهم والرد عليها: مذهبهم يعارض ويضاد مذهب الجهمية القائلين بأن صفات الأفعال مخلوقة محدثة منفصلة عن الله فهم يقولون لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلا، هؤلاء من الكلابية والأشعرية يقولون: لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلا يعني ينفون الصفات الفعلية، فلا يرضى في وقت دون وقت عندهم ولا يغضب في وقت دون وقت، ولا يتكلم إذا شاء ولا يضحك إذا شاء.
وجميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته قديمة أزلية.
شبهتهم قالوا: لو تعلقت صفات الأفعال بمشيئة الله لكان محلا للحوادث وبعبارة أخرى يقولون: لو كانت حادثة في وقت دون وقت واتصف بها لكان محلا للحوادث وبعبارة أخرى يقولون: إن صفات الأفعال حادثة والصفات القائمة بالذات قديمة، والقديم ليس محلا للحوادث؟ الرد عليهم: أن نقول بل هي صفات أفعال ولا تسمى حوادث فكما سميتم الصفات الذاتية صفات فسموا الصفات العليا صفات ولا تسموها حوادث.
تأويل النفاة من الجهمية والكلابية والأشعرية وغيرهم لصفة الرضى الغضب ونحوها، وشبهتهم والرد عليهم أوَّلوا الرضى أوَّلوا صفة الرضى في إرادة الإحسان وأولوا صفة الغضب في إرادة الانتقام شبهتهم قالوا: إن الرضى الميل والشهوة والغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، وذلك لا يليق بالله تعالى لأنها من صفات المخلوقين الذين هم محل الأعراض والحوادث.
الرد عليهم ومناقشتهم من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن هذا نفي للصفة، وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه، وإن كان لا يريده ولا يشاءه وينهى عما يسخطه ويكرهه ويبغضه ويغضب على فاعله وإن كان قد شاءه وأراده فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده، ويكره ويسخط ويغضب لما أراده. الوجه الثاني: أن غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب وليس هو الغضب، والميل والشهوة في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الرضى وليس هو الرضا. الوجه الثالث أن يقال: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا هي ميل الحي إلى الشيء أو إلى ما يلائمه ويناسبه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ أيها النافي وهو الإرادة كالمعنى الذي صرفت عنه اللفظ وهو الرضى والغضب سواء، فإن جاز وصفه بالإرادة جاز وصفه بالرضى والغضب، وإن امتنع وصفه بالغضب والرضى امتنع وصفه بالإرادة.
فإن قالوا الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة، الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهما حقيقة. قيل لهم: إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف للرضى والغضب الذي يوصف به العبد، وإن كان كل منهما حقيقة.
وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله لامتناع مسمى ذلك في المخلوق فإنه لا بد أن يثبت شيئا لله تعالى على خلاف ما يعهده حتى في صفة الوجود فإن وجود العبد كما يليق به لا يستحيل عليه العجب، ووجود الباري كما يليق به يستحيل عليه العجب، ويقال أيضا للمؤول والنافي يلزمك في تأويلك للصفات ونفيها ثلاثة محاذير: المحذور الأول: صرف اللفظ عن ظاهره. المحذور الثاني: تعطيل الرب عن صفاته. المحذور الثالث: يلزمك من المحذور فيما فررت إليه مثل ما ادعيته فيما فررت عنه.
وبهذا التلخيص يتضح معنى هذا الموضوع وهو صفات الذات وصفات الأفعال نعم.
ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا نُفْرِط في حب أحد منهم
نُفْرِط يعني نَزِيد، نعم أما نُفَرِّط معناه نقصر، نعم.
ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير
هذا معتقد أهل السنة وجماعة الصحابة -رضوان الله عليهم- أنهم يحبون الصحابة ويوالونهم كلهم ويَتَرَضَّوْنَ عنهم، ولا يغلون في حبهم حتى يرفعوهم من مقام الصحبة إلى مقام النبوة، وهو مقام الألوهية، ولا يُفَرِّطُون ويقصرون في موالاتهم، بل هم يوالونهم بالعدل والإنصاف خلافا للشيعة والرافضة الذي يغلون في محبتهم حتى يعبدونهم من دون الله، وخلافا للنواصب والخوارج الذين يفرطون فيهم حتى يكفرون الصحابة.
فالمسألة: الصحابة فيهم ثلاث مذاهب من الناس. المذهب الأول: مذهب أهل السنة، مذاهب الناس في الصحابة ثلاثة:
المذهب الأول: مذهب أهل السنة والجماعة من الصحابة، وهو أنهم يوالون الصحابة كلهم وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف لا بالهوى والتعصب، إذ إنه من البغي الذي هو مجاوزة الحد فهم يحبون الصحابة، ولا يغلون ويفرطون في حب أحد منهم، ولا يتبرءون من أحد منهم ويبغضونه ويبغضون من يبغضهم.
أما المذهب الثاني: هو مذهب الشيعة والرافضة فمذهب الشيعة مذهب الرافضة البراءة من الصحابة يتبرءون منهم ويبغضونهم، ويتولون أهل البيت ويغلون فيهم ويجاوزون الحد في حبهم، علي وفاطمة والحسن والحسين يسرفون في حبهم حتى يعبدونهم مع الله، والشيعة أكثر من عشرين فرقة منهم ست فرق من الزيدية والرافضة من غلاة الشيعة وعند الرافضة لا ولاء إلا ببراء، انتبهوا للجملة هذه يقولون لا ولاء إلا ببراء.
ومعنى هذه الجملة أي لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر لا ولاء إلا ببراء ربطوا هذه بهذه، لا ولاء إلا ببراء يعنى لا يمكن أن تتولى أهل البيت حتى تتبرأ من أبي بكر وعمر، لا ولاء إلا ببراء، لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومن ماثلهم كعثمان وعائشة.
أما مذهب الشيعة عموما غير الرافضة فهو الغلو في أهل البيت وقد لا يتبرءون من الصحابة، أما الرافضة فإنهم يتبرءون من الصحابة مع الغلو في أهل البيت، الغلو فيهم أهل البيت يعني يغلونهم حتى يعبدونهم يعبدونهم مع الله إلا من نفر قليل.
وأما بقية الصحابة يتبرءون منهم إلا من نفر قليل نحو بضعة عشر رجلا وهم الذين والوا علي وسموا رافضة من الرفض، وهو الترك لتوليهم أهل البيت ورفضهم للصحابة، وأصل تسميتهم بالرافضة لرفضهم مجلس زيد بن علي حينما رفض الطعن في أبي بكر وعمر.
الخصلة التي فضل بها اليهود والنصارى الرافضة هي اليهود والنصارى فاقوا على الرافضة في خصلة وهي أنه قيل لليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد ولم يستثنوا منهم إلا القليل كعلي وعمار وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة كأبي بكر وعمر وعثمان.
المذهب الثالث: مذهب الخوارج والنواصب في الصحابة مذهبهم ضد مذهب الرافضة، وهو بغض أهل البيت وعداوتهم وسموا نواصب؛ لأنهم نصبوا العداوة لأهل البيت وسموا خوارج؛ لأنهم خرجوا على علي وتبرءوا منه بعد مسألة التحكيم وتبرءوا من عثمان بعد تقريبه أقربائه لاعتقادهم بذلك أنهم فسقوا وعصوا الله وما عداهم من الصحابة؛ فلا يتبرءون إلا ممن يفسق في نظرهم.
أما أهل السنة فوسط، أهل السنة مذهبهم وسط يتولون الصحابة جميعا أهل البيت وغير أهل البيت، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف لا بالهوى والتعصب فهم يحبون الصحابة ولا يغلون ولا يفرطون في حب أحد منهم كالشيعة والرافضة ولا يتبرءون من أحد منهم كالخوارج والنواصب ويبغضون من يبغضهم.
وعند أهل السنة الشهادة بدعة والبراءة بدعة، عند أهل السنة يقولون: الشهادة بدعة والبراءة بدعة، ومعنى الشهادة أن يشهد على معين من المسلمين أنه من أهل النار، أو أنه كافر بدون العلم بما ختم الله به، وأما مع العلم بما ختم الله فيحكم. وأما مع العلم فلا بأس كأبي لهب وأبي جهل نعلم أنه حكم لهما بالنار فهما من أهل النار.
ومعنى البراءة: البراءة من أبي بكر وعمر بدعة، ومما يلحق بهذا البحث مسألة السابقون الأولون مَن هم السابقون الأولون من الصحابة؟ اختلف العلماء فيهم على قولين:
القول الأول: أن السابقون الأولون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والمراد بالفتح صلح الحديبية، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، الذين أنفقوا من قبل الفتح يعني الذين أسلموا قبل صلح الحديبية وأنفقوا هؤلاء هم السابقون الأولون.
القول الثاني: أن السابقون الأولون هم من صلى إلى القبلتين بيت المقدس والكعبة.
والقول الأول أصح وأرجح، الدليل على الترجيح:
أولا: قول الله تعالى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} فدلت الآية على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد كما دلت الآية والحديث على التفضيل بالمبايعة تحت الشجرة وهي قول الله تعالى: {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وحديث جابر في صحيح مسلم (لا يلج النارَ أحدٌ بايع تحت الشجرة)
الثاني: أن الصلاة إلى القبلة منسوخة ليس بمجرده فضيلة، الصلاة إلى القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس ليس بمجرده فضيلة لأمرين:
أحدهما: أن النسخ ليس من فعلهم.
وثانيهما: أنه لم يدل على التفضيل به دليل شرعي، وحب الصحابة حب الصحابة من الدين: من الدين ومن الإيمان حب الصحابة. دين وإيمان لأمرين:
أولا:: لامتثالهم بل لثلاثة أمور: لامتثالهم لأمر الله.
وثانيها: ولحث الرسول صلى الله عليه وسلم عليه فهو من الحب في الله، وهو أيضا طاعة لله ولرسوله، ويذكر في هذا الحديث حديث أصحابي (كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) .
هذا يذكره أهل الأصول يستدلون به، والحديث باطل ليس بصحيح سندا ومتنا أما من جهة السند فليس في شيء من دواوين السنة فهو حديث ضعيف، قال البزار: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو في كتب الحديث المعتمدة فلا يحتج به أصلا، وأما معناه فمعناه فاسد (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وذلك أن الصحابة إذا اختلفوا في قولين، فقال بعض الصحابة: هذا حلال وقال آخرون: هذا حرام يعني هذا الذي يقتدي بالصحابي الذي يقول هو حرام مهتدي هذا فاسد فدل على بطلان هذا الحديث سندا ومتنا.
شارح الطحاوية ابن أبي العز انتقد الطحاوي حينما قال هنا الطحاوي: وحبهم دين وإيمان.
حب الصحابة من الإيمان وبغضهم كفر ونفاق
وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
هكذا يقول الطحاوي حبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر وطغيان ونفاق هذا كلام صحيح، لكن الشارح الطحاوية ألزم الطحاوي بالتناقض؛ لأنه قال فيما سبق الطحاوي: والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، الإيمان كم هو؟ مركب من شيئين إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل القلب وعمل الجوارح ما يدخل في الإيمان عند الطحاوي، والحب أليس عملا قلبيا الحب هنا عمل قلبي جعله من الإيمان، هذا صحيح يوافق ما ذهب إليه جمهور أهل السنة.
لكن الشارح ألزم الطحاوي بالتناقض قال: أنت قلت في الأول الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان ولم تدخل أعمال القلوب، ولا أعمال الجوارح من الإيمان، وهنا قلت: حب الصحابة إيمان، والحب عمل قلبي، وليس هو التصديق فيكون العمل داخلا في مسمى الإيمان معناه وافقت جمهور أهل السنة، وهذا هو الحق هذا حق لكن ينبغي لك يعني أيها الطحاوي ينبغي لك أن تضيف هذا في التعريف، فتقول: الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح حتى يتناسب مع قولك هذا فتوافق جمهور أهل السنة وهو الحق.
ولكن شارح الطحاوية اعتذر عنه قال: لعله أراد أن هذه التسمية مجاز كما سميت الصلاة إيمان مجازا عند الطحاوي والأحناف في قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم إلى بيت المقدس فسميت إيمانا سميت إيمانا مجازا، والصواب أن التسمية حقيقية؛ لأن العمل من الإيمان سواء كان عملا قلبيا أو عملا من أعمال الجوارح.
والأدلة من الكتاب والسنة لمذهب أهل السنة في الصحابة وفضلهم والترضي عنهم أدلة كثيرة منها قول الله تعالى: {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} إلى آخر الآية، ومنها قول الله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) } ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ومنها قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} .
ومن السنة أحاديث كحديث: (لا تسبوا أصحابي فالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) وحديث مسلم (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) وحديث (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه) والحديث وإن كان فيه ضعف لكن له شواهد.
من ذلك ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قيل لها: إن ناسا يتناولون يعني بالسب أصحاب رسول الله حتى أبا بكر وعمر قالت: (وما تعجبون انقطع عملهم في الدنيا فأحب الله ألا يقطع عنهم الأجر) .
وكذلك أيضا ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم مع رسول الله ساعة خير من عمل أحدكم أربعين سنة) وفي رواية: (هي خير من عمل أحدكم عمره) في رواية وكيع قول ابن مسعود رضي الله عنه (إن الله سبحانه اختار نبيه واصطفاه وابتعثه بالرسالة فنظر في قلوب الناس فرأى قلب محمد صلى الله عليه وسلم واختصه فرآه أصفى القلوب وأبرها فاختاره الله واصطفاه لنبوته.
ثم نظر في القلوب بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فرأى قلوب أصحابه أبرها فاختارهم لصحبة نبيه) أو كما قال رضي الله عنه والنصوص في هذا كثيرة، والنصوص في فضل الصحابة وفضلهم ومكانتهم وأدلتها كثيرة من الكتاب ومن السنة. نعم.
ونثبت الخلافة بعد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون
هذا مبحث الخلافة والولاية، الخلافة والولاية الخلافة هي والولاية: هو أن يقام على الناس خليفة ووال يلي أمورهم وينفذ فيهم حكم الشرع.
اختلف العلماء في وجوب الإمامة أو استنانها أو جوازها يعني هل يجب على الأمة أن تقيم واليا يتولى أمرها أو يستحب أو هو جائز؟ في سائر العلماء ثلاثة أقوال: قيل: يجب إقامة الخليفة والوالي، يجب على الناس أن ينصبوا خليفة وواليا فيهم، يقيم فيهم أمر الله ويستتب به الأمن، وينفذ الحدود، ويحكم بالشرع، وينصف المظلوم من الظالم.
قالوا: هذا لا يمكن إلا بالولاية لا يمكن إيصال الحقوق إلى أهلها وإنصاف المظلوم من الظالم واستتباب الأمن وأداء الحقوق، ولا يمكن إلا بالخلافة والولاية، فيجب على الأمة أن تنصب خليفة وواليا عليها هذا قول.
القول الثاني: أن نصب الخليفة والولاية مستحب وليس بواجب.
القول الثالث: أنه جائز، والجمهور على أنه واجب. والصواب أنه واجب، وأنه لا يمكن أن تكون الأمة هكذا ليس عليها وال كما قال:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جهالهم سادوا
لا يمكن أن تبقى الأمة بدون ولاية؛ ولهذا قال العلماء: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، ولو كان ظالما لكن ظلمه على نفسه، لكن قد علق الله تعالى بولاة الأمور -كما قال شيخ الإسلام- مصالح عظيمة: إقامة الحدود، وإنصاف المظلوم من الظالم، ورد الحقوق إلى أهلها، والأخذ على يد المجرمين، واستتباب الأمن ليأمن الناس على دمائهم وأموالهم ونسائهم؛ ولهذا قال العلماء: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام.
ما ظنك لو جلس الناس في مجتمع ما قيل لهم ليلة واحدة: كل يعمل ما يشاء ماذا يحصل فيها من الفوضى والفساد؟ كل يعمل ما يشاء، أيش يحصل في هذه الليلة من إراقة الدماء، واستحلال الفروج، ونهب الأموال، والترويع ما الله به عليم.
ولهذا قال العلماء: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام.
إذن الصواب أن الخلافة والولاية واجب، ويجب على الأمة أن تنصب خليفة ووال وإمام وحاكم ورئيس وملك يقيم فيهم أمر الله؛ ولهذا قال الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ***....................................
يعني لا إمارة فيهم:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جهالهم سادوا
إذن الصواب أنه يجب على الأمة أن تقيم الخليفة.
والقول الثاني: أنه مستحب.
والقول الثالث: أنه جائز، ثم الجمهور الذين قالوا بأنه و (3)، هل الخلافة خاصة بقريش أم تتجاوزهم إلى غيرهم؟ قولان قيل: إنها خاصة بقريش. وقيل: إنها ليست خاصة.
والذين قالوا: إنها خاصة استدلوا بحديث: (الأئمة من قريش) ثم الذين قالوا: إنها خاصة بقريش، قيل: إنها خاصة ببني هاشم، وقيل: إنها ليست خاصة ببني هاشم وقيل: إنها خاصة بالعباس وولده، وقيل: خاصة ببني عبد المطلب، وقيل: خاصة بولد جعفر.
الخلافة والولاية بماذا تثبت، وهذا بحث مهم.
بحث مهم: انتبهوا الخلافة والولاية بماذا تثبت؟ يعني متى تثبت الخلافة والإمامة على الناس؟ متى يكون خليفة على الناس؟ ومتى يكون واليا على الناس؟ ومتى يكون إماما يجب له السمع والطاعة؟
الخلافة تثبت بواحد من ثلاثة أمور: الأمر الأول: الاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد، الاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد يعني: أهل الحل والعقد يختارون الإمام فتثبت له الإمامة باختيارهم وانتخابهم، وليس المراد كل أحد يختار مثل ما تسمعوا في الانتخابات كل من هَبَّ ودَبَّ النساء والأطفال والعقلاء والمجانين كلهم يكون لهم انتخابات لا هذا ما هو شرعي.
الاختيار والانتخاب لأهل الحل والعقد العقلاء، ورؤساء القبائل والعشائر والعلماء والوجهاء يكفي إذا اختار واحد من القبيلة فالقبيلة كلها تكفى، إذن الاختيار من أهل الحل والعقد.
ومثال ذلك: ثبوت الخلافة لأبي بكر الصديق ثبتت بالاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد، كذلك أيضا ثبتت الخلافة لعثمان رضي الله عنه لما جعل عمر الأمر في الستة شورى، فصار عبد الرحمن بن عوف يشاور الناس المهاجرين والأنصار واقتصر عليهم وسهر ثلاث ليالي لم ير غمضا حتى رأى وجوه الناس كلهم إلى عثمان ثم بايعه وبايع بقية الستة وبايعه المهاجرين والأنصار فثبتت له الخلافة بالاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد.
كذلك علي رضي الله عنه ثبتت له الخلافة بالاختيار والانتخاب من أكثر أهل الحل والعقد بايعه أكثر أهل الحل والعقد سوى معاوية وأهل الشام، هذا واحد. إذن تثبت الولاية والخلافة بأي شيء؟ بالاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد. الثاني: الأمر الثاني تثبت الخلافة بولاية العهد من الولي السابق أن يعهد ولي الأمر بالخلافة لمن بعده، ومثال ذلك ثبوت الخلافة لعمر بن الخطاب فإنها ثبتت له بولاية العهد من أبي بكر الصديق رضي الله عنه تثبت له الخلافة، ثبتت له الخلافة بولاية العهد. الأمر الثالث: تثبت الخلافة بالقوة والغلبة إذا غلب الناس بسيفه وسلطانه واستتب له الأمر، وجب السمع له والطاعة وصار إماما يجب السمع له والطاعة والدليل على هذا ما جاء في الحديث حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(اسمع وأطع وإن كان عبدا حبشيا مُجَدَّع الأطراف) إذا غلبنا بسيفه ولو كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف يعني مقطوع اليد والرجل والأذن والأنف نسمع له ونطيع.
لكن لو كان الاختيار والانتخاب نختار هذا العبد المقطع ولّا ما نختاره؟ ما نختاره.
ولكن إذا غلب بالقوة والسيف وجب السمع له والطاعة.
وعلى هذا جميع خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس ومن بعدهم إلى يومنا هذا، كلها خلافة ثبتت بالغلبة والقوة، ما ثبتت خلافته بالاختيار والانتخاب إلا للخلفاء الراشدين فقط، ومن عاداهم كلها ثبتت بالقوة والغلبة واضح هذا ـ يجب على طالب العلم أن يكون على إلمام بهذا.
الخلافة والولاية تثبت لولي الأمر بواحد من ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد.
الأمر الثاني: بولاية العهد من الخليفة السابق.
الأمر الثالث: بالقوة والغلبة إذا غلب الناس بسيفه وقوته وسلطانه حتى استتب له الأمر صار إماما يجب السمع له والطاعة، فإن جاء آخر ينازع الأول يقتل الثاني؛ لأن الثاني جاء يفرق أمر المسلمين بعد اجتماعهم على الأول كما جاء في حديث أبي سعيد في صحيح مسلم (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهم) الآخر لماذا جاء؟ جاء بعد أن استتب الأمر للأول، واجتمع الناس على الأول، فجاء الثاني يُفَرِّق جماعة المسلمين يُقْتَل الثاني؛ لأن الولاية ثبتت للأول واضح هذا.
هذه مسائل مهمة ينبغي على طالب العلم أن يكون على إلمام بها ثبوت الخلافة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بماذا ثبتت؟ اختلف العلماء في ثبوت الخلافة لأبي بكر الصديق على قولين: القول الأول: أنها ثبتت بالاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد، وهذا هو الصواب يعني ثبتت باختيار المسلمين، وهذا هو قول جمهور العلماء والفقهاء، وأهل الحديث والمتكلمين كالمعتزلة والأشعرية وغيرهم، وهذا هو الراجح. القول الثاني: أنها ثبتت بالنص من النبي صلى الله عليه وسلم لا بالاختيار والذين قالوا بالنص بعضهم قال: إنها ثبتت بالنص الجَلِيِّ، وقال بعضهم: إنها ثبتت بالنص الخفي.
الذين قالوا: إنها ثبتت بالاختيار والانتخاب وهم الجمهور استدلوا بدليلين: الدليل الأول: الحديث الخبر المأثور عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه-ما عن عمر رضي الله عنه أنه لما طعن قيل له: (اسْتَخْلِفْ يا أمير المؤمنين فقال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر، وإن لا أستخلف لم يستخلف من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم .
ووجه الدلالة: أن عمر لم ينكر عليه الصحابة مقالته، ولو كانت الخلافة ثبتت لأبي بكر بالنص لأنكر الصحابة عليه، وقالوا لا يا عمر ثبتت الخلافة لأبي بكر استخلف الرسول عليه الصلاة والسلام استخلفه، ونص عليه عليه الصلاة والسلام ولا نتهم الصحابة بتواطئهم معه، ولا نتهم عمر في قوله؛ لأنهم عدول فدل على أن خلافة أبي بكر ثبتت بالانتخاب لا بالنص. الدليل الثاني: ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها حين اجتمع الأنصار في ثقيفة بني ساعدة إلى سعد بن عبادة وجاءهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وأن أبا بكر تكلم فقال في كلامه: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب وأعربهم أحسابا فبايعوا عمر أو أبا عبيدة فقال عمر: بل نبايعك بل نبايعك فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه.
وجه الاستدلال: لو كان هناك نص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الخليفة بعده أبو بكر لذكره أبو بكر في الوقت الحَرِج ولذكره عمر في الوقت الحرج ولم يعلل بالسيادة والوزارة والاستدلال بفضائله على صلاحيته للولاية فدل على أنه ما فيه نص، لو في نص كان الرسول نص على خلافة أبي بكر، الصحابة أرادوا أن يجعلوا منهم، الأنصار أرادوا أن يجعلوا منهم أمير، فقال بعض الصحابة: منا أمير ومنكم أمير من الأنصار أمير ومن قريش أمير.
قال أبو بكر: لا، لا تصلح الولاية إلا لهذا الحي. لو كان في نص عن النبي صلى الله عليه وسلم لقال أبو بكر هذا النص عندنا وقال عمر: هذا النص، والنص يسكت الجميع فدل على أنه ما في نص.
أما الذين قالوا: إن خلافة أبي بكر ثبتت بالنص فاستدلوا بأدلة، وهذا قول طوائف من أهل الحديث والمتكلمين. ويروى عن الحسن البصري استدلوا بأدلة بأنواع من الأدلة: النوع الأول: قصة المرأة التي وعدها أن تأتي أبا بكر إن لم تجده (جاءت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ثم لما أرادت أن تنصرف قالت: يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال إن لم تجديني فأتي أبا بكر) قالوا: هذا دليل على أنه نص على أن أبا بكر هو الخليفة بعده.
وأجيب عن هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وكل أبا بكر في قضاء الحوائج وقد يُوَكَّلُ في قضاء الحوائج مَن لا يصلح للخلافة. النوع الثاني: الأمر بالاقتداء به يقول النبي صلى الله عليه وسلم (اقتدوا بالَّذَيْنِ من بعدي: أبي بكر وعمر) قالوا: هذا دليل، نص على أنه هو الخليفة.
وأجيب بأنه قد يصلح للقدوة مَن لا يصلح للخلافة. الثالث: دخول النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة وهمه بما هم به دخل على عائشة وقال: (ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا -وفي لفظ- حتى لا يطمع في هذا الأمر طامع، ثم لم يكتب وقال: يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر) .
وأجيب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكل الخلافة إلى قضاء الله وترك الأمر للمسلمين، والمعنى يأبى الله قضاء وقدرا والمسلمون اختيارا وانتخابا إلا أبا بكر. الرابع: أحاديث تقديمه في الصلاة: النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) قالوا: هذا نص على أنه هو الخليفة بعده. وأجيب بأنه قد يصلح للإمامة في الصلاة من لا يصلح للإمامة العظمى. الخامس: المنامات يعني رُؤَى ومنامات فيها (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى كأنه نزع دلوا، أن النبي نزع دلوا ونزع بعده أبو بكر وشرب وفي شربه ضعف ثم نزع عمر فاستحالت غربا) وفي رؤيا (أنه نزل ميزان من السماء فوزن النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر فرجح النبي صلى الله عليه وسلم ووزن أبو بكر بعمر فرجح أبو بكر بعمر .... ثم رفع الميزان) وقصص أخرى من المنامات قالوا: هذا دليل نص على أن أبا بكر هو الخليفة بعد.
وأجيب بأن هذا المنامات لو كانت نصا في خلافة أبي بكر لكانت نصا في خلافة عمر وعثمان لكن لم يذهب أحد إلى أن المنامات نص في خلافة عمر وعثمان فدل على أنها كشف للمستقبل ومبشرات.
ومن أدلتهم قالوا اختصاص أبو بكر بالخلة لو كان هناك موضع لها لقوله صلى الله عليه وسلم (لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الرحمن) قالوا هذا نص في أنه الخليفة بعده. وأجيب بأن الخلة شيء وسياسة الأمور شيء آخر.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: والتحقيق في خلافة أبي بكر -وهو الذي يدل عليه كلام أحمد- أنها انعقدت باختيار الصحابة ومبايعتهم، هذا كلام من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: والتحقيق في خلافة أبى بكر -وهو الذي يدل عليه كلام أحمد الإمام أحمد- أنها انعقدت باختيار الصحابة ومبايعتهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوعها على سبيل الحمد لها والرضا بها، وأنه أمر بطاعته وتفويض الأمر إليه، وأنه دل الأمة وأرشدهم إلى بيعته.
فهذه الأوجه الثلاثة: الخبر، والأمر، والإرشاد ثابت من النبي صلى الله عليه وسلم فالأول كالمنامات، والثاني كحديث (اقتدوا بالَّذَيْنِ من بعدي أبي بكر وعمر) والثالث تقديمه له في الصلاة، وبهذا يتبين أن الصواب في المسألة أن خلافة أبا بكر الصديق ثبتت باختيار الصحابة ومبايعتهم.
وأما قول الإمامية، وهي أقوال باطلة، من الأقوال: قول الإمامية الرافضة: إن الخلافة ثبتت بالنص الجلي على عليٍّ وكذلك قول الزيدية الجارودية ثبتت بالنص الخفي عليه، وقول الرواندية: إنها ثبتت بالنص على العباس، فهذه أقوال ظاهرة الفساد عند أهل العلم والدين.
يقول شيخ الإسلام: هذه الأقوال أقوال ظاهرة الفساد عند أهل العلم والدين وإنما يدين بها إما جاهل، وإما ظالم وكثير مما يدين بها زنديق. هذا كلام شيخ الإسلام رحمه الله يعني من يقول: إن الخلافة ثبتت لعلي أو العباس أو كذا هذه أقوال الزنادقة لا يُعَوَّل عليها.
أما خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنها ثبتت الخلافة بالعهد من أبي بكر، أبو بكر عَهِدَ بالخلافة إلى عمر فبايعه الناس، وثبتت له البيعة، وذلك بتفويض أبو بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة بعده عليه، وفضائل عمر كثيرة، والأدلة في هذا كثيرة.
ثبوت الخلافة لعثمان بن عفان رضي الله عنه ثبتت الخلافة لعثمان رضي الله عنه بمبايعة عبد الرحمن بن عوف له والناس معه والمهاجرون والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون، وذلك بعد أن عهد عمر إلى الستة: أهل الشورى، ومعروف قصة قتل عمر، وقصة دفنه، وقصة البيعة وأهل الشورى هذه سردها الإمام البخاري في صحيحه الحديث الطويل، الحديث الطويل ذكر فيه قصة قتل عمر وقصة دفنه وقصة البيعة وأمر الشورى.
ثبوت الخلافة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ثبتت الخلافة لعلي بن أبي طالب بمبايعة الصحابة سوى معاوية مع أهل الشام فهي ثبتت له بمبايعة أكثر الناس ممن تنعقد بهم البيعة إذن علي ما اجتمع الناس عليه ثبتت له الخلافة بمبايعة أكثر أهل الحل والعقد، وأما معاوية وأهل الشام فامتنعوا لا؛ لأنهم يطلبون الخلافة؛ لا لأن معاوية يطلب الخلافة، بل يطالب بقتلة عثمان يطالب بدم عثمان.
ويقول: الخلاف بينه وبين علي يقول: اقتص من قتلة عثمان، وأنا أبايعك أنا أتوقف حتى ينتصر للشهيد المظلوم وهو عثمان رضي الله عنه ويقول: إنه أقرب الناس إليه، وعلي رضي الله عنه لا يمانع ولكنه لا يستطيع في ذلك الوقت بسبب الفتنة، وهؤلاء الذين قتلوا عثمان اندسوا في العسكر ولا يعرفون وهؤلاء لهم قبائل تنتصر لهم.
والمسألة فيها فوضى واضطراب ولا يستطيع، فعليّ رضي الله عنه يقول: بعدما تهدأ الأحوال نستطيع نأخذ قتلة عثمان، ومعاوية قال: لا أنا أريد الآن وحصل الخلاف فامتنع معاوية وأهل الشام ثم بعد ذلك الخلاف زاد حتى حصلت الحروب المعروفة بين الصحابة عن اجتهاد كل مجتهد ومن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر.
إذن ثبتت الخلافة لعلي بمبايعته أكثر الصحابة وامتنع من مبايعته معاوية وأهل الشام فهي ثبتت بمبايعة أكثر الناس ممن تنعقد بهم البيعة، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وقال الرافضة: ثبتت الخلافة لعلي بالنص الجلي أو بالنص الخفي سبب الخلاف والقتال بين علي ومعاوية هو -كما سمعتم- الاجتهاد ومعاوية وأهل الشام يطالبون بدم عثمان ومعاوية يقول: أنا أقرب الناس إليه، وعلي رضي الله عنه يرى أنه ثبتت له البيعة، وأنه يجب عليه أن يخضع معاوية وأهل الشام حتى يبايعوا فحصل النزاع ثم حصل القتال عن اجتهاد كل منهم متأول.
الخلفاء الراشدون من هم؟ أربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ولأبي بكر وعمر مزية على عثمان وعلي، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين ولم يأمرنا بالاقتداء في الأفعال إلا بأبي بكر وعمر فقال:(اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر) والاقتداء أخص من الاتباع إذ إن هناك فرقا بين اتباع سنتهم والاقتداء بهم.
ويروى عن أبى حنيفة تقديم عليٍّ على عثمان في الفضيلة لا في الخلافة، قول لأبى حنيفة أن تقديم عليّ في الفضيلة لا في الخلافة، ولكن ظاهر مذهبه تقديم عثمان على عليّ، ظاهر مذهبه تقديم عثمان على عليّ، وعلى هذا عامة أهل السنة ويؤيده قول عبد الرحمن بن عوف، وقول أيوب السبختياني مَن لم يقدم عثمان على عليّ فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار يعني احتقرهم؛ لأن المهاجرين والأنصار أجمعوا على بيعة عثمان وتقديمه في الخلافة.
وثبت عن ابن عمر -وهو في الصحيحين- (قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان فيبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكر) نعم. أَعِدْ
ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهما الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون.
هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة كما ذكر المؤلف رحمه الله الخلافة ثبتت أولا لأبي بكر ثم لعمر ثم عثمان ثم علي، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون باتفاق أهل السنة والجماعة. نعم.
وأن العشرة الذين سماهم رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبشرهم بالجنة نشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقوله الحق: وهم أبو بكر، وعمر وعثمان وعلي وطلحة، والزبير وسعد وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين
هؤلاء هم العشرة المبشرون بالجنة، نعم معتقد أهل السنة والجماعة الشهادة لهم بالجنة كما شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة هؤلاء العشرة المبشرون بالجنة شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فنشهد لهم بالجنة.
من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة نشهد له بالجنة، ومن لم يشهد له بالجنة لا نشهد له، نشهد بالجنة للمؤمنين على العموم، أما التعيين فلان بن فلان ما نشهد له بالجنة، إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم فهؤلاء العشرة مشهود لهم بالجنة، فأهل السنة يعتقدون أنهم من أهل الجنة، وهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة، والزبير بن العوام هؤلاء هم العشرة المشهود لهم بالجنة فنشهد لهم بالجنة.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة، ولهم مناقب كثيرة، أما الرافضة فإنهم لا يشهدون لهم بالجنة بل يكرهون هؤلاء، يكرهون العشرة المبشرين بالجنة الرافضة بل من شدة كراهيتهم لهم يكرهون لفظ العشرة وفعل العشرة حتى العدد يكرهونه، عدد العشرة يكرهونه ولفظ العشرة يكرهونه من شدة كراهيتهم للعشرة المبشرين بالجنة.
والرافضة يستبدلون بالعشرة اثني عشر إماما، اتفق أهل السنة على تعظيم هؤلاء العشرة المبشرين بالجنة، وتقديمهم لما اشتهر من فضائلهم ومناقبهم، والرافضة تكره تبغض هؤلاء العشرة وتكره لفظ العشرة وتكره فعل شيء يكون عشرة، وسببه كونهم يبغضون خيرة الصحابة، وهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وإن كانوا يستثنون عليا رضي الله عنه من العشرة وهذا من جهل الرافضة.
والرد عليهم من ثلاثة أوجه الرد عليهم في كراهيتهم للعشرة: الأول: تناقضهم في بغض التسعة من العشرة وموالاتهم للتسعة ولفظ التسعة، الرافضة متناقضون ما وجه التناقض؟ كونهم يكرهون العشرة يكرهون لفظ العشرة عدد العشرة لماذا؟ من شدة كراهتهم للعشرة المبشرين بالجنة، وهم مع ذلك يستثنون عليا من العشرة، فيكون الباقي كم تسعة ومع ذلك يبغضون التسعة ومع ذلك يوالون التسعة، ولفظ التسعة إذا حذفت إذا نزل عليّ من العشرة كم يبقى؟ يبقى تسعة، كان الأولى أنهم يبغضون التسعة ما يبغضون العشرة ومع ذلك هم يولون التسعة ولفظ التسعة، أليس هذا تناقض تناقض فهم يبغضون العشرة ولفظ العشرة؛ لكونهم يبغضون العشرة المبشرون بالجنة ثم يستثنون عليا فيكون الباقي تسعة، ثم يولون التسعة، ولفظ التسعة.
فمن العجب أنهم يوالون لفظ التسعة وهم يبغضون التسعة من العشرة ويبغضون سائر المهاجرين والأنصار من السابقين الأولين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة يبغضون حتى المهاجرين والأنصار كلهم، والله قد رضي عنهم وأخبر عليه الصلاة والسلام (أنه لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة) وذكر العلة في عدم دخول حاطب النار أنها شهود بدر والحديبية، والعشرة المشهود لهم بالجنة منهم. الوجه الثاني من الرد على الرافضة: نقول: إن المعنى لا يؤثر في اللفظ والأعداد لا تمدح ولا تذم حتى لو فرضنا أنكم تكرهون العشرة أنكم تكرهون العشرة المبشرين بالجنة ما علاقة العدد؟ العدد لا يمدح ولا يذم والمعنى لا يؤثر في اللفظ والأعداد لا تمدح ولا تذم فلو فرض في العالم عشرة من أكفر الناس لم يهجر هذا الاسم بذاته كما لم يقتض هجر اسم التسعة مطلقا قول الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) } فالله ذم التسعة من قوم صالح ولم يقتض ذلك هجر التسعة لا منا أهل السنة ولا من الرافضة. الرد الثالث: أن اسم العشرة قد مدح الله سماه لفظا ومعنى في مواضع من القرآن الكريم من ذلك قول الله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وقوله: {* وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} وقوله سبحانه: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) } وكان عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وكان يقول في ليلة القدر (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان) وقال:(ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من أيام العشر) يعني عشر ذي الحجة.
استبدال الرافضة بالعشرة اثنى عشر إماما مع بيان عددهم الرافضة توالي بدل العشرة المبشرين بالجنة اثنى عشر إماما، وهم: علي بن أبي طالب ويدعون أنه وصى النبي صلى الله عليه وسلم دعوى عارية عن الدليل، ثم الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي، ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر بن محمد الصادق، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم محمد بن الحسن العسكري المهدي، وهو الإمام المنتظر عندهم الذي دخل سرداب سامرا بالعراق سنة ستين ومائتين 260 ويغالون في محبتهم ويتجاوزون الحد.
الرد عليهم بالسنة وما يصدقها من الواقع يرد على الرافضة بأنه لم يأت ذكر الأئمة الاثني عشر إلا على صفة ترد قولهم هؤلاء الأئمة الاثني عشر الذين ذكروهم، ما فيه دليل يدل عليهم، والذي ورد في السنة إنما ورد على صفة ترد قولهم وتبطله، وهو ما خرَّجاه في الصحيحين عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول:(لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنى عشر رجلا كلهم من قريش) .
وتصديق الواقع لهذا الحديث وكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والاثنى عشر من هم؟ هم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية الخامس وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان وأبنائه الأربعة الوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك، وبينهم عمر بن عبد العزيز.
ولا يزال الأمر أمر الإسلام قائما، والجهاد قائما في أيام هؤلاء، ثم أخذ الأمر بعدهم في الانحلال، فالإسلام عزيز وقوي في أيام هؤلاء وإن كان فيه حصل ما حصل لكن الإسلام قوي وظاهر ومنتشر والسنة قائمة، والجهاد قائم، ثم أخذ الأمر بعدهم في الانحلال.
وعند الرافضة أن أمر الأمة لم يزل في أيام هؤلاء فاسدا، يتولى عليهم الظالمون المعتدون بل المنافقون الكافرون، وأهل الحق عندهم الذين وهم أهل البيت أذل من اليهود، هكذا يقول الرافضة، وقولهم ظاهر البطلان؛ فإن الإسلام لم يزل عزيزا في ازدياد وفي ازدياد في زمن هؤلاء. نعم.
حسن القول في الصحابة وأمهات المؤمنين فيه براءة من النفاق
ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المطهرين من كل رجس فقد برئ من النفاق.
نعم من أحسن القول في أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وأحسن القول في أزواجه وذريته فقد برئ من النفاق، ومن طعن في الصحابة وطعن في أمهات المؤمنين وفي ذرية النبي صلى الله عليه وسلم هذا لمرض في قلبه ونفاق في قلبه، نسأل الله السلامة والعافية.
فأهل الحق يحسنون القول في الصحابة وأمهات المؤمنين وعلماء السلف والتابعين وأهل الخير وأهل الفقه، وهذا فيه براءة من النفاق، والرافضة أول من أحدث الرفض، الرفض هو تولي أهل البيت ورفض بقية الصحابة.
وأول من أحدثه منافق زنديق هو عبد الله بن سبأ اليهودي الحميري من أهل اليمن وقصده إبطال دين الإسلام وإفساده بمكره وخبثه، وطريقته التي سلكها أولا: إظهار التنسك والتعبد، ثم إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في فتنة عثمان وقتله بطريق الأمر والنهي ثم لما قدم الكوفة أظهر الغلو في علي والنصر له ليتمكن بذلك من الرفض والرفض هو باب الزندقة.
وسبب ذلك أن أول من أحدثه منافق زنديق يظهر الخير ويُضْمِر الشر وهو عبد الله بن سبأ كما حكاه أبو بكر الباقلاني عن الباطنية، كيفية إفساد الباطنية لدين الإسلام ومقالتهم للداء، هو أنهم يظهرون غير ما يبطنون، الباطنية يظهرون غير ما يبطنون ويقولون للداعي يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل من جهة ظلم السلف لعلي وقتلهم الحسين والتبرى من تيم وهم قبيلة أبي بكر وعدي وهم قبيلة عمر وبني أمية قبيلة عثمان وبني العباس وأن عليا يعلم الغيب ويفوض إليه خلق العالم.
فإن وجدت منه عند الدعوة إجابة ورشدا أوقفته على مثالب علي وولده رضي الله عنهم أي طريقته، أولا يدعون إلى علي وأنه يعلم الغيب، فإذا استجاب لهم أطلعوه على عيوب علي وأهل البيت حتى يتبرأ من هؤلاء ومن هؤلاء.
الرد عليهم ببيان كيفية إبطالهم لدين الإسلام، وهذا من أعاجيب الشيعة فإنهم إنما ينصرفون من سب الصحابة إلى سب أهل البيت وأهل بيته من أصحابه، ثم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم والواجب على المسلم موالاة المسلمين جميعا والصحابة من الدرجة الأولى، الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } وجه الدلالة أن الله قرن المؤمنين بالله ورسوله في الوعيد على من شاقهم فدل على وجوب موالاتهم.
الأعذار في أقوال العلماء المخالفة للأحاديث الصحيحة إذا وجد لبعض العلماء قول يخالف حديثا صحيحا، فلا بد له من عذر، وجماع الأعذار في مخالفتهم له: أولا: عدم اعتقاده حديثا وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، يعني ما اعتقد أنه حديث. ثانيا: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول، ففهم أنه في غير محل النزاع. الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ. الرابع: عدم بلوغه الحديث واطلاعه عليه.
هذه أعذار العلماء إذا خالفوا الحديث إما أنه ما اعتقده حديثا أو اعتقد أنه ما أراد تلك المسألة بذلك القول، أو اعتقد أن الحكم منسوخ أو ما بلغه الحديث، وقد ألف شيخ الإسلام رحمه الله رسالة في هذا في أعذار العلماء "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" أو قريب من هذا اسم الرسالة.
فضلهم ومنتهم علينا، للسلف الفضل والمنة علينا بأمور: بالسبق وتبليغهم ما أرسل به الرسول إلينا وإيضاح ما كان يخفى علينا وشرحه وتبينه. نعم.
وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل
نعم، كما سبق وأن من ذكرهم بسوء فقد توعده الله بقوله:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} العلماء والسابقون يذكرون بالخير والجميل. نعم.
ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل
كما في الآية مُتَوَعَّد: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} نعم.
ولا نفضل أحد من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام ونقول نبي واحد أفضل من جميع الأولياء
نعم، لا نفضل أحدا من الأولياء على نبي واحد بل نقول: نبي واحد خير من الأولياء.
وهذه المسألة تسمى المفاضلة بين الأنبياء والأولياء، الأنبياء أفضل الناس والرسل أفضلهم، فالرسل أفضل الناس، وأفضل الرسل أولوا العزم الخمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وأفضلهم أولو العزم الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد عليهما السلام وأفضل الخليلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم يليه جده إبراهيم ثم موسى الكليم، ثم بقية أولوا العزم، ثم الرسل، ثم الأنبياء، ثم سائر المؤمنين.. ثم الصديقون ثم الشهداء ثم سائر المؤمنين. هذا هو الذي تدل عليه النصوص.
وذهب بعض الصوفية إلى تفضيل الأولياء على الأنبياء ويقولون: الولي أفضل من النبي، والنبي أفضل من الرسول، هكذا عكسوا الدرجات عندهم أن الولي أفضل ثم النبي ثم الرسول آخر درجة عكسوا، وبعضهم يظن أنه يصل إلى درجة الولاية بترويض نفسه وتجويعه واعتزاله عن الناس وتغيره الطعام والشراب والنوم، وأنه يصل إلى درجة الولاية ويكون أفضل من الأنبياء.
فكثير من الصوفية يظن أنه يصل برياضته واجتهاده في العباده بتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم، ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء؛ لأنه صار وليا ودرجة الولاية فوق درجة النبوة، وهذا مذهب الاتحادية أهل وحدة الوجود، ورئيسهم ابن عربي الطائي يقولون: الأولياء أفضل من االأنبياء.
ويقولون: إن الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء فيقول: ابن عربي رئيس وحدة الوجود النبوة ختمت بمحمد لكن الولاية لم تختم فهو خاتم الأولياء، يقول ابن عربي: إنه خاتم الأولياء ومحمد خاتم الأنبياء، لكن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، يفضل نفسه على الرسول.
ابن عربي يقول: النبوة ختمت بمحمد ولكن الولاية لم تختم فهو خاتم الأولياء ويقول: الأولياء أفضل من الأنبياء؛ لأن الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء يعني هو ابن عربي سمى نفسه خاتم الأولياء، ويقول: الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاته، مشكاة خاتم الأولياء، فيدعون أنهم يطلعون على اللوح المحفوظ وأنهم يباشرون الأخذ عن الله.
ويكون ذلك العلم الذي يأخذه هو حقيقة قول فرعون، وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه، هذا العالم واجب بنفسه، ليس له صانع، وليس له خالق، ولكن ابن عربي يقول: هذا الوجود هو الله وفرعون أظهر إنكاره بالكلية تمويها على الناس لكن فرعون في الباطن أعرف بالله من طائفة وحدة الوجود، وبيان ذلك أن فرعون كان مثبتا للصانع في الباطن يعني مثبتا لله قال الله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وأما أهل وحدة الوجود فمذهبهم أن الوجود المخلوق هو الوجود الحق، وهذا مذهب ابن عربي وأمثاله كابن سبعين والطولوي والتلمساني.
وابن عربي لما رأى أن الشرع الظاهر، وهو ما جاءت به الرسل لا سبيل إلى تغييره قال: النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم، وادعى لنفسه من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء مستفيدون من الولاية، فالولاية أعلى درجة من النبوة، والنبوة أعلى درجة من الرسالة عند ابن عربي كما قال: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي، إذن الولي أعلى ثم النبي ثم الرسول، عكس مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي.
وابن عربي هذا له مؤلفات وله كتب منها كتاب سماه "فصوص الحكم"، ومنها كتاب سماه "الفتوحات الملكية" ومنها كتاب سماه كتاب "الهو الهو الهو" يقول هذا الذكر ما في إلا الهو هو ما في الله.
ولكن الذكر تأخذ الهاء هو هو. هو هو، وهو ذكر الملاحدة الصوفية، وهو كالكلاب يقول: ذكر العامة لا إله إلا الله هذا يسمونهم العامة والرسل عامة، ثم الخاصة تأخذ لفظ الجلالة الله الله الله الله خاصة الخاصة لا يحتاج أن تأخذ لفظ الجلالة تأخذ الهاء من لفظ الجلالة هو هو هو هو هو هو هذا ذكر الله، نسأل الله السلام والعافية.
ولهذا سمى ابن عربي ألف كتابا سماه كتاب "الهو" ويقول إن عندي دليلا من القرآن وهو قول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} قال شيخ الإسلام ابن تيمية قلت: لهم لو كان كما تقولون أيها الملاحدة لكانت الهاء مفصولة عن الآية: وما يعلم تأويل هو، لكن الهاء متصلة في تأويله، وهم لا يؤمنون بالقرآن لكن يريد إثبات قوله.
يقول ابن عربي في كتاب "فصوص الحكم" لما مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة، فكان هو صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة يعني يشير إلى الحديث الذي سبق (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فأنا اللبنة فكان الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون: لولا تلك اللبنة فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين) .
ابن عربي يعارض الحديث يقول: أيش في كتابه: "ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة فكان صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة، وأما خاتم الأولياء -يعني نفسه- فلا بد له من هذه الرؤية فيرى ما مثله النبي صلى الله عليه وسلم ويرى الحائط في موضع لبنتين واحدة فضة وواحدة ذهب يعني؛ لأن الحائط مكون من لبنتين: لبنة ذهب ولبنة فضة، فلبنة الذهب هذه تعني خاتم الأولياء، ولبنة الفضة تعني خاتم الأنبياء.
فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم لبنة فضة؛ لأنه خاتم الأنبياء وجعل نفسه لبنة الذهب؛ لأنه خاتم الأولياء، فيرى ما مثله النبي صلى الله عليه وسلم ويرى الحائط موضع لبنتين واحدة من فضة وواحدة من ذهب، ويرى نفسه تنطبع في موضع اللبنتين فتكمل الحائط.
والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين أن الحائط لبنة من فضة ولبنة من ذهب، واللبنة الفضة هي ظاهر البيت أو الحائط وما يتبعه ابن عربي فيه من الأحكام فهي تمثل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالأحكام الظاهرة.
كما أن ابن عربي أخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع للرسول يعني يقول: إن ابن عربي يرى أن الحائط مكون من لبنتين لبنة ذهب ولبنة فضة، فلبنة الفضة هذه ظاهر الجدار ولبنة الذهب هذه باطن الجدار، والسبب يقول: لكونه يرى ذلك أن لبنة الفضة هذه تمثل محمدا وما جاء به من الأحكام الظاهرة، ولبنة الذهب تمثل ابن عربي وما جاء به من أحكام الباطنة، فيقول: ابن عربي خاتم الأولياء تابع لخاتم الأنبياء في الظاهر، وخاتم الأنبياء تابع لخاتم الأولياء في الباطن.
هكذا يقول فهي تمثل الرسول الذي جاء بالأحكام الظاهرة، كما أن ابن عربي أخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه للرسول، ابن عربي أخذ عن الله في السر لكن في الظاهر هو متبع للرسول، وفي السر أخذ عن الله مباشرة، ولا يحتاج إلى أحد؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا، وهو ابن عربي خاتم الأولياء موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به للرسول، فهو لا يحتاج إلى جبريل ولا غيره، فهو يأخذ من اللوح المحفوظ وعن الله مباشرة فلا يحتاج إلى جبريل.
أما خاتم الأنبياء هذا يحتاج واسطة، وهو الملك قال في كتابه: فإن فهمت ما أشرنا إليه فقد حصل لك العلم النافع.
مسألة: أصل ابن عربي: هو أن الوجود واحد، وأن الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن، فوجود كل شيء عين وجود الحق عنده، وجود كل شيء من هذه المخلوقات هو وجود الله عنده، أيهما أشد كفرا؟ الاتحادية والحلولية، الحلولية وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان، وهو قول كثير من الجهمية قولهم أقل كفرا من قول الاتحادية أخف.
وجه ذلك لأن من قال: إن الله يحل في المخلوقات فقد قال: بأن المحل غير الحال، وهذا تثنية عند الاتحادية وإثبات لوجودين: أحدهما وجود الحق الحال، والثاني وجود المخلوق المحل، والاتحادية لا يقرون بإثبات وجودين ألبتة؛ ولهذا من سماهم حلولية أو قال: هم قائلون بالحلول رآه محجوبا عن معرفة قولهم خارج عن الدخول إلى باطن أمرهم ومن الأقوال المتفرعة عن مذهب ابن عربي هذا الشعر يقول:
الرب عبد والعبد رب *** يا ليت شعري من المكلف
إن قت عبد فذاك ميت *** أو قلت رب أنى يكلف
وفي بعض الروايات فذاك نفي؛ لأن العبد ليس له عندهم وجود مخلوق وكلاهما باطل، فإن العبد موجود وثابت ليس بمعدوم ومنتف، ولكن الله هو الذي جعله موجودا ثابتا.
ومن كلام ابن عربي يقول: من أسماء الله الحسنى العلي، ثم يُعَرِّف العلي على ماذا؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو، العلي ما في إلا هو، من أسماء الله الحسنى العلي، العلي على من؟ ما في إلا غيره على من؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو
ومن كلماته يقول: رب مالك وعبد هالك وأنتم ذلك، والعبد فقط والكثرة الوهم ويقول سر حيث شئت فإن الله ثَمَّ، وقل ما شئت فيه فالواسع الله، هؤلاء الملاحدة الزنادقة يعني يقولون هذا الكلام ومن تلبيسهم أنهم يقولون: إنك لا تفهم هذا الكلام حتى تخرق الحجاب أنت بينك وبين فهم هذا الكلام حجاب، ما هو الحجاب؟
اخرق حجاب العقل، حجاب العقل، وحجاب الشرع يعني ألغ الشرع وألغ العقل حتى تكون مجنونا، ثم تفهم كلامهم يعني حجاب الشرع وحجاب العقل وحجاب الحس أيضا، كل هذا تلغيه حتى تفهم هذا الكلام، هذا الكلام موجود وله مؤلفات وفيه ناس يدافعون عنه، مؤلفات تطبع بأوراق صقيلة وتحقق وموجودة في كل مكان في مصر، وفي الدول العربية وموجودة في المكتبات توضع عندنا في مكان خاص لأصحاب الرسائل العلمية الذين يريدون الرد أن يرد عليهم موجودة.
وهناك من يدافع ولهم أتباع وأنصار وطوائف، لكل شيخ طريقة في كل بلد مائة طريقة، ولكل طريقة شيخ هذه موجودة مؤلفات ومن يعتنق هذه المذاهب كلها موجودة.
الرد على الاتحادية والصوفية:
أولا: أن اعتقادهم في الولاية أعظم من النبوة في هذا قلب للشريعة، اعتقادهم في الولاية أنها أعظم من النبوة في هذا قلب للشريعة؛ فإن الولاية ثابتة للمؤمنين المتقين كما قال تعالى:{أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } .
والنبوة أخص من الولاية عند أهل الحق والرسالة أخص من النبوة، فالرسالة أعلى شيء ثم النبوة ثم الولاية ويرد على الاتحادية أن الله بائن من خلقه مستو على عرشه، وأنه ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.
ويرد عليهم بادعائهم بأن لهم من الولاية ما هو أفضل من درجة الرسالة بأن هذه الدعوة خرق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعمل بإرادة نفسه، فيكون متبعا لهواه بغير هدى من الله، وهذا غش النفس، وهو من الكبر فإنه شبيه بقول الذين قالوا:{لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} فقال الله ردا على مقالتهم وقطعا لأطماعهم في أن ينالوا مثل ما نال الرسل: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ووجه الشبه أن كلا من الطائفتين تعالت على الرسل وادعت أنها أحق منهم.
حكم ابن عربي وشيعته من أهل وحدة الوجود في الدنيا والآخرة ما حكمهم؟ حكم الاتحادية ابن عربي وأمثاله ما حكمهم في الدنيا؟ وما حكمهم في الآخرة؟ حكم ابن عربي كافر، ومن أكثر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب وللرسول المثل بلبنة فضة فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسول.
وكيف يخفى كفر من هذا كفره كيف يخفى كفر من هذا كلامه، بل إن كفر ابن عربي وأمثاله فوق كفر الذين قالوا:{لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} .
ويكفيك معرفة بكفرهم أن من أخف أقوالهم أن فرعون الذي ادعى الربوبية يقولون: إن فرعون مات مؤمنا بريا من الذنوب بل يجعلونه من كبار العارفين المحققين، وأنه كان مصيبا في دعواه الربوبية كما يجعلون عُبَّاد العجل مصيبين في عبادتهم للعجل بل إن السلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا: إنه في كل مكان.
وكان مما أنكروه عليهم أنه كيف يكون الله تعالى، كيف يكون في البطون والحشوش والأخبية؟ تعالى الله عن ذلك فكيف بمن يجعله نفس وجود البطون والحشوش والأخبية والنجاسات والأقذار، كما يقول ابن عربي نعوذ بالله.
وأين المشبِّهة والمجسِّمة من هؤلاء فإن هؤلاء غاية كفرهم أن يجعلوه مثل المخلوقات، وهؤلاء يجعلون الوجود خالقا ومخلوقا واحدا، بل كفر كل كافر جزء من كفر الاتحادية؛ ولهذا لما قيل لرئيسهم: أنت نُصَيْرِيّ؟ فقال: نُصَيْرٌ جزء مني وقد علم المسلمون واليهود والنصارى بالاضطرار من دين المرسلين أن من قال عن أحد من البشر: إنه جزء من الله، فإنه كافر في جميع الملل.
حكم الاتحادية في الدنيا والآخرة ولكن ابن عربي وأمثاله منافقون زنادقة والاتحادية في الدرك الأسفل من النار إذا ماتوا على ذلك، ما يفعل بالاتحادية في الدنيا مع الدليل؟ يعامل الاتحادية معاملة المنافقين والمنافقون يعاملون معاملة المسلمين لإظهارهم الإسلام في الدنيا كما كان يظهر المنافقون الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعاملهم معاملة المسلمين لما يظهر منهم؛ لأن الاتحادية يخفون كفرهم لهم مؤلفات يظهرون أنهم قد يصلون مع الناس؛ ولو أظهر أحد منهم ما يبطنه من الكفر لأجرى عليه حكم المرتد، وهو القتل وعدم تغسيله ودفنه مع المسلمين.
حكم قبول توبة الاتحادي والزنديق، الاتحادي زنديق فهل تقبل توبته؟ في قبول توبة الزنديق والاتحادي زنديق منافق خلاف، ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة، إذا أخذ قبض عليه لا بد أن يجرى عليه حكم المرتد ولا يقبل منه.
وأما إذا أخذ بعد التوبة ففيها خلاف، بعضهم قال: تقبل توبته وهي رواية المعلى عن أبي حنيفة، وهذا في أعمال الدنيا وحكمه حكم المرتد يقتل كفرا ولا يدفن في مقابر المسلمين.
من العلماء من قال تقبل، ومن العلماء من قال: لا تقبل توبة المنافق وتوبة من سب الله وسب الرسول أو استهزء بالله أو بالرسول أو بدينه والساحر، كل هؤلاء يقتلون ولا تقبل توبتهم في الدنيا، أما في الآخرة فأمرهم إلى الله من صدق مع الله صدقه الله، وأما في الآخرة فإن كان مخلصا قبلت توبته، وإن لم يعلم منه إخلاصه لم تقبل توبته.
أما في الدنيا فإنه يعامل معاملة المرتد إذا أخذ قبل التوبة، أما إذا ادعى التوبة ثم سلم نفسه ففيه الخلاف هذا على حسب اجتهاد الحاكم، إما أن يقبل توبته وإما ألا يقبلها.
مذهب أهل الاستقامة وأدلتهم: أهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع عن طريق الوحي لا الوهم ويعتقدون أن النبوة أخص من الولاية والرسالة أخص من النبوة فكل رسول نبي وكل نبي ولي، ولا عكس فليس كل نبي رسولا وليس كل ولي نبيا، أدلتهم على أن الله أوجب على الخلق متابعة الرسل أولا قول الله -تعالى -:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } .
وجه الدلالة: أن الله أوجب طاعة الرسول وأمر بطلب الاستغفار منه وأخبر أن من لم يُحَكِّم الرسول في النزاع فليس بمؤمن.
ثانيا: قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) } وجه الاستدلال أن الله أخبر أن محبة الله لا تحصل إلا بمتابعة الرسول.
قف على كراماتهم وإلى هنا نكتفي وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح ونأخذ المهم من الأسئلة، وغدا إن شاء الله يكون الدرس بعد المغرب وبعد العشاء، وإن شاء الله نكمل العقيدة الطحاوية، وفق الله الجميع لطاعته.