المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الأسئلة: س: ورد الحديث: (فاستحيا فاستحيا الله منه) وورد في الحديث - شرح العقيدة الطحاوية - عبد العزيز الراجحي

[عبد العزيز بن عبد الله الراجحي]

الفصل: ‌ ‌الأسئلة: س: ورد الحديث: (فاستحيا فاستحيا الله منه) وورد في الحديث

‌الأسئلة:

س: ورد الحديث: (فاستحيا فاستحيا الله منه) وورد في الحديث الآخر: (ولا أحد أغير من الله) هل يوصف الله بالحياء والغيرة: أم لا؟.

ج: نعم يوصف الله بالحياء قال الله -تعالى-: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} وقال -تعالى-: {* إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وفي الحديث (فاستحيا فاستحيا الله منه) وهو من الصفات التي تليق بالله عز وجل ولا يماثل فيها أحدًا من صفاته كسائر الصفات ولا يلزم منه ما يلزم من حياء المخلوق وكذلك الغيرة الغيرة كذلك من الأوصاف الفعلية قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:- (أتعجبون من غيرة سعد؟ أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرته ......) وفي الحديث الآخر (لا أحد أغير من الله ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) هذا في إثبات الغيرة لله كما يليق بجلاله وعظمته يوصف الله بالغيرة كسائر الصفات يوصف الله بالغيرة كسائر الصفات الفعلية مثل الغضب والرضا والسخط والمحبة والكراهية والغيرة والحياء كلها صفات تليق بجلال الله وعظمته، وهي الصفات الكاملة ليس فيها نقص لا يماثل فيها أحدًا من خلقه سبحانه وتعالى.

س: هل يصح التسمي بعبد المنعم وعبد المحسن وعبد الناصر؟.

ج: إذا ثبت أنه اسم من أسماء الله يجوز، عبد المحسن ثابت ولا يزال الأئمة والعلماء يعبّدون له وكذلك المنعم ما أذكر الآن الحديث الذي وردت فيه، لكن يغلب على الظن أنه ثابت والناصر جاء في:{وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) } يحتاج إلى تأمل هل هو من أسماء الله أو ليس من أسماء الله".

س: ما الفرق بين الاعتقاد واليقين؟ وهل لو عبر أهل السنة بقولهم: يقين أهل السنة بدل اعتقاد أهل السنة كان أولى؛ لأن الاعتقاد فيه شيء من عدم التثبت؟ .

ج: الاعتقاد يفيد اليقين والاعتقاد من العقد والربط ومنه عقد البيع، ويطلق على التصديق الجازم والاعتقاد هو اليقين لكن إذا كان هذا الاعتقاد موافق للحق فهو اعتقاد صحيح وإذا كان باطلًا فهو اعتقاد باطل مثل يقين اليهود والنصارى على ما هم عليه هذا يقين باطل، يقين أهل البدع على ما هم عليه يقين باطل واعتقاد أهل الحق يقين اعتقاد صحيح، والاعتقاد ليس ظنًا إنما هو يقين

س: هل يُرى الملائكة يوم القيامة؟.

ج: الله تعالى أعظم وهو يُرى إذا كان يُرى الله سبحانه وتعالى فالملائكة من باب أولى {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) } كيف يدخلون عليهم وهم لا يرونهم ظاهر الأدلة أنهم يرونهم ورؤية الله أعظم نعيم يرضاه أهل الجنة رؤية الملك دون ذلك بكثير.

س: ما رأيكم في وصف الله بالحمية فيقال: إن لله حمية على عباده المؤمنين؟ .

ج: القاعدة عند أهل السنة والجماعة أن الأسماء الصفات توقيفية ليس لنا أن نسمي الله بأسماء مخترعة من عند أنفسنا ولا بصفة من الصفات فلا يقال: إن من صفات الله الحمية إلا بدليل، ولا أذكر وصفًا أن الله وصف نفسه أو وصفه رسوله بالحمية لكن أن الغيرة ثابتة.

س: قد يقول قائل دفاعًا عن الزمخشري في كتاب الكشاف بالنسبة لرؤية الرب -سبحانه-: إن دخول الجنة يتضمن رؤية الرب، وبذلك فإن أقصى ما يتمناه العبد دخول الجنة؛ لأن بحصوله يرى الرب؟

ج: لا معروف عنه أنه ينفي الرؤية ويدافع عنها بشدة؛ ولهذا قال البلقيني: استخرجت منه اعتزالًا بالمناقيش؛ لأنها أشياء خفية منها أنه قال في قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ} أي فوز أعظم من الجنة؟ وقصده بذلك إنكار الرؤية وهو معروف عنه؛ لأن يضم كلامه بعضه إلى بعض وينفي الرؤية.

س: سبق أن الصفات لها نظران النظر إلى المعنى وهذا يثبته أهل السنة والجماعة، والنظر الثاني الكيفية هذه يفوضونها وبناء على ذلك كيف يحمل قول الإمام الطحاوي: فمن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر؟.

ج: يعني من وصف الله بصفات البشر التي هي من خصائصهم بأن قال: إن صفات الله كصفات البشر وأن الله كالبشر أو قال: إن الله كالبشر في الحاجة أو في غير ذلك فمن خصائص البشر الفقر والحاجة والنقص في صفاتهم وأعمالهم، فمن قال: إن الله مثلهم كفر؛ لأن الله كامل في ذاته وصفاته ولا يوصف بنقائص البشر.

س: في سؤال له آخر يقول: أليس ما قررناه سابقًا وهو وصف الله بصفات ثابتة ولو كانت صفاتًا للمخلوقين كالعلم والقدرة وأن المحذور هو عدم تفويض الكيفية فكيف التوفيق بين ما قررناه سابقًا وبين قول الإمام أو علام يحمل قوله؟.

ص: 129

ج: إن الصفات المشتركة مثل العلم ثابتة للخالق والمخلوق لكن من دون مشابهة من دون مماثلة، مقصود الطحاوي من قال: إن علم الله مثل علم المخلوق، وأما من قال: إن الله يوصف بالعلم والمخلوق يوصف العلم، والخالق علمه يخصه والمخلوق علمه يخصه فلا إشكال في ذلك، لكن من قال: إن علم الخالق مثل علم المخلوق أو قال: إن محبة الخالق مثل محبة المخلوق أو قال: إن يد الخالق مثل يد المخلوق هذا هو الذي يقصده الطحاوي هذا وصف الله بمعنى من معاني البشر أما من قال: إن الله له يد والمخلوق له يد، ولكن صفات الخالق تخصه وصفات المخلوق تخصه هذا ما وصف الله بمعنى من معاني البشر نزه الله، أما من قال: يد الله مثل أيدي المخلوقين، علم الله مثل علم المخلوقين سمع الله مثل سمع المخلوقين هذا وصف الله بمعنى من معاني البشر.

س: ما الضابط للتأويل الذي به يدرأ به التكفير عن المبتدعة لا سيما وأن أكثرهم يكون معتمدًا على أدلة أو شبه؟.

ج: المقصود أن يكون عنده شبهة لا يكون جحد، أما من جحد الصفات هذا كفر، أما من كان له شبهة يدرأ عنه التكفير بالشبهة، وقد يكفر لكن بالعموم مثل ما كفّر السلف فقالوا: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر والمعتزلة يقولون: إن القرآن مخلوق، أما الشخص المعين فلان بن فلان، فهذا لا يكفر حتى تقام على الحجة يبين له ويوضح له الحق ثم يتبين له الحق ويصر يحكم بكفره بعد ذلك، أما إذا كان له شبهة وله تأويل ولم تقم عليه الحجة فلا يكفر.

س: هذا السائل يذكر عنكم أنكم سبق أن أجبتم عن سؤال من قال للميت: ادع الله لي فقلت: إن فيه قولًا قويًا أنه شرك أكبر لِمَ لَمْ تجزموا بأنه شرك أكبر؟.

ج: هذا؛ لأنه ما دعا الميت وطلب منه المدد أو طلب منه الاستغاثة إنما طلب منه شيئًا يخصه، وهذا فيه كلام ذكره البعض فيه كلام لشيخ الإسلام، وفيه كلام لبعضهم، والأقرب المنع إذا كان يدعوه يدعو الميت وهو عظام رميم مثل لو قال: يا فلان اشفع لي عند ربك، كذلك إذا قال: أعطني كذا أو كذا، فالأقرب عندي أن الحكم واحد، لكن المسألة فيها كلام لشيخ الإسلام وغيره تحتاج المسألة إلى تحرير حتى يجزم الإنسان.

س: ما المقصود بالإمامية المتقدمين والإمامية المتأخرين مع التمثيل -أثابكم الله-؟.

ج: الإمامية هم الرافضة لهم أسماء يقال لهم الرافضة؛ لأنهم رفضوا زيد بن علي حينما سألوه عن أبي بكر وعمر فقال: هما وزيرا جدي رسول الله فرفضوه فسموا بالرافضة وسموا بالإمامية؛ لأنهم يقولون: بإمامة اثني عشر يقولون:: اثني عشر أئمة منصوصين معصومين من سلالة على بن أبي طالب، وهم علي بن أبي طالب ثم الحسن بن علي ثم الحسين بن علي ثم علي بن الحسين زين العابدين ثم محمد بن علي الباقر ثم جعفر بن محمد الصادق ثم موسى بن جعفر الكاظم ثم علي بن موسى الرضا ثم محمد بن علي الجواد ثم علي بن محمد الهادي ثم الحسن بن علي العسكري ثم محمد بن الحسن المهدي المنتظر الذي دخل سرداب سامراء بالعراق سنة ستين ومائتين ولم يخرج إلى الآن قال شيخ الإسلام: مضى عليه أربع مائة سنة، ونحن نقول مضى عليه في زماننا الآن ألف ومائتا سنة، ولم يخرج هذه الأئمة يسمون بالإمامية؛ لأنهم يقولون: بإمامة اثني عشر، فالمتقدمون منهم يثبتون الرؤية جمهورهم والمتأخرون ينفوها.

س: هلا أوضحتم الفرق بين ابن عربي وابن العربي الأشبيلي لما في ذلك من اللبس؟ .

ج: ابن عربي محمد بن يحيي بن عربي بدون ألـ الطائي هذا رئيس وحدة الوجود، أما أبو بكر ابن العربي وكذلك آخر محمد بن العربي من غير ألـ فليس منهم محمد بن العربي هذا المفسر المعروف العالم المشهور هذا غيره، أما محمد بن يحيي بن عربي بدون ألـ هذا هو رئيس وحدة الجود واقرءوا تراجم هؤلاء، أما محمد ابن العربي بألـ، هذا ليس هذا غير هذا فيه ابن عربي أبو بكر بن العربي صاحب التفسير، وفيه غيره أيضًا ابن العربي آخر لكن هذا متقدم، ابن عربي في القرن السادس تقريبا أو السابع، لقبه محيي الدين ابن عربي وهو مميت الدين، هذا رئيس وحدة الوجود، أما ابن العربي بأل هذا آخر مفسر معروف.

س: هل ثبت عن أحد من السلف أنه رأى الله في المنام كما ذكرت ذلك بعض الكتب، وما مدى صحة ذلك؟

ص: 130

ج: ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن رؤية الله في المنام ثابتة، وأن جميع الطوائف أثبتوا الرؤية في المنام إلا الجهمية من شدة إنكارهم لرؤية الله حتى أنكروا رؤية الله في المنام، ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله: إن جميع الطوائف يثبتون الرؤية في المنام ولا شيء في ذلك لكن لا يلزم من ذلك أن يكون ما رآه الإنسان مشابه لله، بل يقول: إن رؤيته على حسب اعتقاده، فإذا كان اعتقاده صحيح رأى الله برؤية حسنة، وإذا كان اعتقاده غير صحيح رأى الله رؤية مناسبة لاعتقاده، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أصح الناس اعتقادًا، وأكمل الناس عبودية رأى الله في أحسن صورة كما في الحديث (رأيت ربي في أحسن صورة فوضع كفيه فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الناس -هذا الاختصام في الملأ الأعلى- فقلت: لا يا رب فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله فعلمت ما بعد ذلك) .

المقصود أن الرؤية في المنام يقول شيخ الإسلام: ثابتة عند جميع الطوائف عدا الجهمية.

س: ما الضابط الذي يفرق به بين الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة؟ .

ج: الأسماء ما ورد إطلاقه على الله فهو اسم مثل العليم الحكيم السميع البصير، أما الصفة ما ورد على نص الصفة {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } نقول: علمًا هذه صفة فما ورد على نص الصفة نقول: صفة وما ورد إطلاقه على الله فهو اسم {إِن اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) } {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) } {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) } {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) } {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) } هذه كلها أسماء أطلقت على الله، أما الصفة مثل {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} وهكذا الاسم يطلق ما يرد إطلاقًا على الله عز وجل والصفة ما ورد على لفظ الصفة والأسماء ليست أسماء جامدة، أسماء الله متضمنة الصفات، أسماء الله مشتقة ليست جامدة كل اسم يتضمن صفة، فالعليم يتضمن صفة العلم، القدير يتضمن صفة القدرة، الحليم يتضمن صفة الحلم، الرحيم يتضمن صفة الرحمة، الله يتضمن صفة الألوهية، وهكذا كل اسم يتضمن الصفة ليس جامدًا بل هو مشتق، الحي يتضمن صفة الحياة، وهكذا وفق الله الجميع لطاعته ورزقنا العلم النافع وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله -تعالى-: والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية، سبق أن المؤمنين يرون ربهم أيضًا في موقف القيامة قبل دخولهم الجنة وهذا متفق عليه، واختلف في غير المؤمنين هل يرون ربهم أم لا يرونه على أقوال ثلاثة:

القول الأول: أن أهل الموقف جميعًا يرون الله عز وجل مؤمنهم وكافرهم ثم يحتجب عن الكفرة.

القول الثاني: أنه لا يراه إلا المؤمنون، أنه يراه المؤمنون والمنافقون.

القول الثالث: أنه لا يراه إلا المؤمنون خاصة، وكذلك هذه الأقوال في تكليم الله لأهل الموقف، نفس الأقوال الثلاثة، هل يكلم الله أهل الموقف؟ قيل: لا يكلم الله إلا المؤمنين، لا يكلمه سبحانه إلا المؤمنين، وقيل: يكون التكليم للمؤمنين وللكفرة ثم لا يكلمه الكفرة، وقيل: يكون التكليم للمؤمنين والمنافقين، هذه الأقوال الثلاثة تجري في التكليم.

ويقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: والرؤية حق لأهل الجنة، ما لم يتسع من المؤلف لرؤية المؤمنين في موقف القيامة، والأحاديث ثابتة في رؤية المؤمنين لربهم في موقف يوم القيامة، وأنهم يرونه أربع مرات كما ثبت في بعض الأحاديث: يرونه في المرة الأولى، ثم في المرة الثانية يتحول في غير الصورة التي يعرفونه، فيكبرون ويقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا فيأتينا ربنا فإذا أتانا ربنا عرفناه، ثم في المرة الثالثة يتحول في الصورة التي يعرفونه فيسجدون له، حينما يجعل بينه وبينهم علامة، يجعل لهم علامة، وهي كشف الساق فيسجدون له، فإذا وقفوا رأوه ثم تحول رأوه في الصورة التي تحول مما الصورة التي رأوه فيها أول مرة، فيرونه أربع مرات سبحانه وتعالى في موقف القيامة، المؤمنون يرونه من قبل دخولهم الجنة، وأما بعد دخولهم الجنة فكذلك، فهناك أحاديث متواترة في هذا سبق، ورؤية الله سبحانه وتعالى.

ص: 131

الخلاصة في مبحث الرؤية أن رؤية الله سبحانه وتعالى بالأبصار جائزة عقلًا في الدنيا والآخرة؛ لأن كل موجود يجوز أنه يُرى، ومن الأدلة على جوازها عقلًا سؤال موسى ربه أن ينظر إليه {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} فموسى لا يسأل إلا جائزا في حق الله -تعالى-، وأما شرعًا: فهي جائزة وواقعة في الآخرة وممتنعة في الدنيا رؤية الله -تعالى- بالأبصار جائزة عقلًا في الدنيا والآخرة، وأما شرعًا فهي جائزة وواقعة في الآخرة وممتنعة في الدنيا.

ومن أصلح الأدلة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم رواه ابن خزيمة أيضًا في كتاب التوحيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) والأحاديث في رؤية المؤمنين لربهم متواترة كما سبق رواه عامة الصحابة نحو ثلاثين صحابيا.

وقول المؤلف رحمه الله: بغير إحاطة، ولا كيفية يعني أن الله سبحانه يُرى، ولكن لا يحاط به رؤية لكمال عظمته وكونه أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء كما قال -سبحانه-:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فهو يرى ولا يحاط به رؤيةً لكمال عظمته، وكونه أعظم من كل شيء، وإذا كانت بعض المخلوقات ترى ولا يحاط بها رؤية، فكيف بالخالق؟ الخالق أولى وأولى أن لا يحاط به فأنت ترى البستان، ولا تحيط به رؤية، وترى الجبل ولا تحيط به رؤية، وترى السماء ولا تحيط بها رؤية، وترى المدينة ولا تحيط بها رؤية وهي مخلوقات، فالخالق أولى ألا يحاط به رؤية كما أنه سبحانه وتعالى يُعلَم، ولا يحاط به علمًا كما قال سبحانه وتعالى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) } ولا كيفية، أي لا نكيف لا نقول: يُرى على كيفية كذا، وعلى كيفية كذا.. أو أنا نراه وكيفية كذا تثبيت الرؤية، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم والله أعلم بالكيفية.

ص: 132

نعم هذا صريح، الآية صريحة في النظر في رؤية المؤمنين لربهم؛ لأن الله أضاف النظر إلى الوجه الذي هو محله، وعدَّاه بأداة " إلى " الصريحة في نظر العين، وأخلى الكلام عن قرينة تدل على موضوعه وحقيقته، فدلَّ على أن المراد النظر بالعين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله نعم.

ص: 133

وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو كما قال: " ومعناه على ما أراد ".

نعم كل ما جاء من الأحاديث فهو مفسر على ما أراده الله، وعلى ما أراده رسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال:" آمنت بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله وعلى مراد رسول الله ". نعم.

ص: 134

لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا

يعني لا ندخل في ذلك في الكيفية بأن نتوهم بأهوائنا نتوهم بظنوننا وأهوائنا كما توهمت المعتزلة فهم توهموا بأهوائهم وظنونهم أنه يلزم من رؤية الله أن يكون جسمًا، أو أن يكون متحيزًا، وأن يكون محدودًا، قالوا: لو أثبت رؤية الله للأبصار للزم من ذلك أن يكون الله في جهة وأن يكون محدودًا، وأن يكون جسمًا، وأن يكون متحيزًا، هذا توهم، توهم بظنونهم وأهوائهم، فلما توهموا هذا التوهم نفوا الرؤية، وتأولوا بآرائهم، وقالوا: معناه العلم فلا نكون بذلك متوهمين بأهوائنا، ولا متأولين بآرائنا كما يفعل نفاة الرؤية كالمعتزلة توهموا بظنونهم معنى باطلًا للرؤية، ثم نفوها وأثبتوا لها معنًى باطلا بآرائهم فتوهموا أولا بظنونهم ثم تأولوا معنى بآرائهم لما توهموا أنه يلزم من الرؤية رؤية الرب بالعين أن يكون جسمًا ومتحيزًا، نفوا ذلك، ثم أثبتوا معنى للرؤية بآرائهم وأهوائهم، وقالوا: معناه العلم. نعم.

ص: 135

فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله عز وجل ولرسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وردَّ علم ما اشتبه عليه إلى عالِمه

نعم ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل وهذا هو يعني دين المرء لا يسلم إلا إذا سلّم بالشرع، بنصوص الشرع الكتاب والسنة، فالواجب كمال التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه إلى عالم فيُسلّم المسلم بنصوص الوحيين الكتاب والسنة، ولا يعترض عليهما، ولا يعترض عليهما بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة كأن يقول مثلًا:" العقل يشهد بضد ما دلَّ عليه النقل " والعقل أصل النقل، فإذا عارضه قدمنا العقل، وهذا من أبطل الباطل فلا، فالواجب التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والتسليم لنصوص الوحيَيْن وأن يرد المسلم علم ما اشتبه إلى عالم وأن يسلم لنصوص الوحيين الكتاب والسنة، ولا يعترض عليهم بشكوك ولا شُبه، ولا يقول: العقل يشهد بضد النقل، والعقل أصل النقل هذا، فإذا عارضه قدمنا العقل، هذا هو الاعتراض، هذا اعتراض وعدم تسليم، الواجب التسليم والخضوع لنصوص الكتاب والسنة، والقبول. نعم.

ص: 136

ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام

نعم لا تثبت قدم الإسلام إلا على التسليم، يعني على ظهر التسليم والاستسلام، يعني لا يثبت إسلام من لم يسلم بنصوص الوحيين، وينقدْ إليهما، ولا يعترض عليها، ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه، كما قال الإمام محمد بن شهاب الزُهري فيما رواه البخاري عنه: " من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، وهذا كلام جامع نافع، ولا نجاة للعقل إلا بتوحيد، بتوحيد الله عز وجل وتوحيد متابعة الرسول، فهما توحيدان لا نجاة للعبد إلا من عذاب الله إلا بهما، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهذين التوحيدين: توحيد المرسِل، وهو الله سبحانه وتعالى، وتوحيد متابعة الرسول فنوحِّد المُرسِل وهو الله بالعبادة والخضوع، والذل والأنابة والتوكل، ونوحِّد الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحاكم إليه فلا نتحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غيره بل ننقاد لأمره عليه الصلاة والسلام ونتلقى خبره بالقبول والتصديق دون معارضه بخيال باطل نسميه معقولًا أو نجمله شبهة أو شكًّا، أو نقدَّم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، أو نتوقف على تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضِه على قول شيخ أو إمام أو لمذهب أو طائفة، فإن أذنوا نُفذ، وقُبل خبره، وإلا فُوض، هكذا يفعل الذين لم يستسلموا لنصوص الوحيين، بل الواجب التحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، ولا يمكن أن يكون العقل الصريح يخالف نقلًا صحيحًا، هذا لا يُمكن، فما جاءت به الشريعة يوافق العقول الصحيحة، ولا يمكن أن يخالف نقل صحيح عقلًا صريحًا أبدًا هذا لا يكون، لكن إذا جاء من ينكر ذلك فإن كان النقل صحيحًا فذلك الذي يدعي أنه معقول ليس عقلًا صريحًا، بل هو مجهول جهالة، ولو حقق النظر لظهر له ذلك، أما إذا كان النقل غير صحيح فإنه لا يصلح للمعارضة، بعض الناس يقول: إذا تعارض العقل، والنقل وجب تقديم النقل، إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن كلًّا من العقل والنقل مدلول والجمع بين المدلولين جمع بين

النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين.

إذا تعارض العقل، والنقل فإنه يجب تقديم فإن كلا من العقل والنقل مدلول والجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضًا للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضته شيء من الأشياء فكان تقديم العقل موجبًا عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه، وأهل الكلام وأهل البدع من معتزلة وغيرهم إنما أوتوا من تقديمهم العقل على النصوص، وتقديم العقل له آثار سيئة، له آثار.

تقديم العقل على النصوص له آثار في نقصان التوحيد فمن لم يسلم للرسول عليه الصلاة والسلام نقص توحيده، فإنه يقول برأيه وهواه وتقديم العقل على السمع تقديم للعقل على النصوص من مصادر الفساد في العالم، وذلك أن الفساد في العالم دخل من ثلاث فِرَق، إما من الملوك الجائرة، ومن علماء السوء، وأحبار السوء، ومن رهبان السوء وعُبَّاد السوء، من الملوك الظلمة، ومن العلماء المنحرفين، ومن الرهبان العُبَّاد الذين يتعبدون على جهل وضلال، فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة، ويعارضونها بها ويقدمونها على حكم الله ورسوله، وعلماء السوء، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم، وأقيستهم الفاسدة المتضمنة تحليل ما حرَّم الله ورسوله أو تحريم ما أباحه الله ورسوله، هؤلاء يقدمون، يخرجون عن الشريعة، ويقدمون آراءهم ومقاصدهم ناقصة وفاسدة على نصوص الوحيين، ورهبان السوء، وهم جهال المتصوفة الذين يعترضون على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجين والخيالات والكشوفات الباطنة الشيطانية فالملوك الجورة، الجائرون يقولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدَّمنا السياسة، وعلماء السوء يقولون: إذا تعارض العقل والنقل قدَّمنا العقل، ورُهبان السوء، عباد السوء يقولون: إذا تعارض الذوق والكشف، وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف.

ص: 137

ولهذا قال عبد الله بن المبارك الإمام المعروف رحمه الله: " وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانُها " والعلماء يضربون مثلًا للنقل مع العقل، يضربون مثلًا للنقل مع العقل وهو وذلك أن العقل مع النقل كالعاميِّ المقلّد مع العالم المجتهد، العقل كأنه عامي مقلد كالعامي المقلد، والنقل يعني النصوص كالعالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العاميِّ يمكنه أن يصير عالمًا ويتعلم، ولا يمكن للعالم أن يكون نبيًا رسولًا، فإذا عرف العامي المقلد عالمًا فدله، فدل عليه عاميًا آخر، إذا عرف العامي المقلد عالمًا فجاء عامي آخر يريد أن يستفتي فدله هذا العامي، دلّ عاميًّا آخر على العالم يستفتي، ثم اختلف المفتي والدال العامي الذي دله، فإن المستفتي يأخذ بقول من؟ بقول العالم ولا أم بقول العامي الذي دله؟ يأخذ المستفتي يجب عليه قبول المفتي دون الدال، فلو قال الدال العامي الدال: الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفتي، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتي، فلزم القدح في فرعه، فيقول له المستفتى: أنت لما شهدت له بأنه مفتٍ، ودللت عليه وشهدت له بوجوب تقديمه دونك فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا تستلزم موافقتك في كل مسألة وخطؤك فيما خالفت فيه المفتى الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، هذا مع علمه بأن ذلك المفتي قد يخطئ، والعقل يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم في خبره عن الله -تعالى- لا يجوز عليه الخطأ فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره. نعم.

ص: 138

فمن رام علم ما حُظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان

المعنى: من رام يعني: من أراد وقصد أن يعلم علمًا محظورًا عليه ممنوعًا منه شرعًا، كأن يريد أن يعلم الكيفية كيفية الصفات، يعلم يريد أن يعلم حقائق الآخرة هذا ممنوع، فإذًا من رام علم هذا العلم المحظور، ومن رام علم حُظِر عنه ما منع منه، من رام علم ما حُظر عليه علمه، حجبه مرامه عن صحيح الاعتقاد وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان، يعني قصد، وأراد أن يصل إلى العلم الذي مُنع منه شرعًا تعلم الكيفية في الصفات، وعلم حقائق الآخرة، ولم يقنع بالتسليم فهمه ما مُنع بالتسليم للنصوص، حجبه مرامه، يعني هذا القصد السيئ حجبه عن صافى المعرفة، وصحيح الاعتقاد، وصحة الإيمان، فصار في إيمانه خلل في تحقيقه للتوحيد ضعف ونقص، وفي إيمانه دخن؛ لأنه طلب شيئًا ممنوعًا منه.

فالواجب على الإنسان ألا يطلب شيئًا ممنوعًا منه، أنت مُنِعت من علم الكيفية، ما تستطيع أن تصل إلى علم كيفية الصفات اتصاف الرب بالصفة ممنوع من أن تطلب علم كيفية الذات ذات الرب ممنوع من ما تعلم حقائق الآخرة، فإذا طلبت هذا الشيء، أو لم تقنع بالتسليم فإن طلبك هذا يحجبك عن المعرفة الصحيحة، ويحجبك عن حقيقة التوحيد ويحجبك عن صحة الإيمان، فيكون في إيمانك دخن، وسبب الإعراض، وسبب اختلال كثير من الناس هو الإعراض عن كل كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم والاشتغال بكلام اليونان، والآراء المختلفة.

ولهذا يُسمَّون أهل الكلام، وإنما سُمّوا أهل كلام؛ لأنهم لم يشيدوا علمًا لم يكن معروفا، وإنما أتوا بزيادة كلام لا يفيد وهما يضربونه من القياس لإيضاح ما عُلم من الحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله امتحنوا به في موضع آخر ومع من ينكر الحس. نعم.

ص: 139

فيتذبذب بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار موسوسا تائهًا شاكًا لا مؤمنًا مصدقًا ولا جاحدًا مكذبًا

يعني هذا الإنسان الذي يريد أن يعلم أو يصل إلى العلم الذي مُنع منه يبق في حيرة وشك ويتذبذب ويضطرب بين الإيمان وبين الكفر وبين التصديق أو التكذيب وبين الإقرار وبين الإنكار. ويكون موسوسًا تائهًا حائرًا ضالًّا بسبب عدم ثباته وبسبب تجاوزه لحده، فإن الإنسان حده أن يكلم ما أمر ما شرع الله ورسوله، وما أمر الله به بمعرفته من العلم النافع كأن يعلم أسماء الرب وصفاته ومعانيها، ويعلم ما شرعه الله في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم العلم الحلال والحرام والأوامر والنواهي، ويعلم ما يكون في الجزاء في يوم المعاد من أمور البرزخ وأمور الآخرة.

أما الحقائق والكيفية والكُنه فهذا لا يطلبه، فإذا طلبه صار عنده وسوسة، صار موسوسًا تائهًا حائرًا ضالًّا متذبذبًا مضطربًا بين الكفر والإيمان بين التصديق والتكذيب بين الإقرار والإنكار، والواجب على الإنسان أن يقف عند حدِّه وأن يطلب العلم الشرعي، وأن يقف عند حده ولا يطلب العلم الذي منع منه حتى يثبت إيمانه ويرسخ يقينه، ويحقق توحيده وإيمانه بالله ورسول صلى الله عليه وسلم أما إذا تحاوز حده فإنه يبقى بين الشك واليقين، وبين الإقرار والتكذيب، وبين الإيمان والتكذيب موسوسًا تائهًا حائرًا، -نسأل الله السلامة والعافية. نعم.

ص: 140

ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم

يقول المعنى: " لا يصح الإيمان بالرؤية. يعني برؤية الله يوم القيامة لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأويلها بفهم، والمعنى أن من تأول توهم رؤية توهم أنها تشبه رؤية المخلوقين، أو أن الله يشبه أحدًا من خلقه لو يماثله أحدًا من خلقه فتوهم أن الله يُرى على صفة، كذا هذا توهم يظنه؛ لأنه بعد هذا التوهم إن ثبت أن ما توهمه من الرب كان مشبها، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل هذا التوهم صار جاحدًا معطلًا، فلا يصح الإيمان بالرؤية لمن توهمها بوهم، يعني: توهم فظن أن رؤية الله تشبه أن الله يُرى على صفة تماثل أحد من خلقه، هذا توهم لظنه بعد ذلك أثبت هذا التوهم صار مشبهًا، وإن نفى الرؤية من أجل هذا الوهم صار معطلًا أو تأولها بعضهم نفى تأول الرؤية بفهم يفهمه يعني: ادعى أن لها فهمًا يخالف ظاهرها، ويخالف ما يفهمه العرب فحرَّف الرؤية وسمى تحريفه تأويلًا كما فعلت المعتزلة، تأولوا الرؤية بالعلم تأولوها بفهم أولا توهموا بظنونهم، وهو إن يلزم من إثبات رؤية الله في الآخرة أن يكون الله شبيها بالمخلوقين.

فلا يصح الإيمان بالرؤية لمن توهمها بوهم يعني: توهم بظنه أن رؤية الله تشبه أن الله يُرى على صفته يماثل أحدا من خلقه هذا توهم يظن ثم بعد ذلك إن أثبت هذا التوهم صار مشبها، وإن نفى الرؤية من أجل هذا الوهم صار معطلا أو تأولها بفهم يعني: تأول الرؤية بفهم يفهمه يعني: ادعى أن لها فهما يخالف ظاهرها ويخالف ما يفهمه العرب فحرّف الرؤية وسمى تحريفه تأويلا كما فعلت المعتزلة تأولوا الرؤيا بالعلم أولها بفهم أو لا توهموا بظنونهم وأهوائهم أنه يلزم من إثبات رؤية الله بالآخرة أن يكون الله شبيها بالمخلوقين، وأن يكون جسما وأن يكون متحيزا وأن يكون محدودا، توهموا هذا التوهم، ثم نفوا هذا التوهم، وتأولوا الرؤية بفهم خاطئ بفهم منحرف، وقالوا: إن معنى الرؤية هي العلم فهم توهموا أولا، ثم تأولوا وحرفوا ثانيا فلا يصح الرؤية بالإيمان لمن اعتبرها بوهم لمن توهم أنه يلزم من الرؤية كذا وكذا وأن يكون الله يشابه المخلوقين، ثم يتأولها بفهم ويقول: إن معناه الرؤية العلم وهذا ليس تأويلا صحيحا، وإنما هو تحريف سماه أهله تأويلا.

نعم ومن أبى إلا تحريف أدلة الرؤية وسمى هذا التحريف تأويلا كما فعلت المعتزلة فإنهم يفتحون بابا للملاحدة للباطنية فتحوا بابا للباطنية فأولوا نصوص المعاد والجنة والنار والحساب فقالوا: إن الجنة إن المعاد هذا خيال ليس صحيحا والجنة والنار خيال، فلما قال لهم المعتزلة وأهل الكلام: نصوص المعاد ثابتة نصوص الجنة والنار صحيحة ثابتة بالأدلة القطعية ومعناها واضح، قال لهم الباطنية: أنتم أولتم نصوص الرؤية ونصوص الرؤية ثابتة ومعناها ثابت فما الذي يبيح لكم أن تتأولوا نصوص الصفات ويمنعنا من تأويل نصوص المعاد والجنة والنار؟ ففتحوا بابا للملاحدة فأولوا نصوص المعاد والجنة والنار والحساب، وهذا هو الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وقد حذرنا الله أن نفعل مثلهم وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم نعم.

ص: 141

إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التاويل ولزوم التسليم عليه دين المسلمين

إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التأويل التأويل الأول معناه التفسير، والتأويل الثاني معناه التحريف تأويل الرؤية يعني: تفسير الرؤية وتفسير كل معنى كل صفة تضاف إلى الرب تفسيرها بترك التحريف بترك التأويل أي: التحريف.

تأويلها الصحيح وتفسيرها الصحيح أن تترك التحريف تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية من الصفات إنما يكون في أي شيء في ترك التأويل الذي هو التحريف، فالتأويل الأولى معناها التفسير، التأويل الثانية الكلمة الثانية معناها التحريف، فتفسير الرؤية وتفسير جميع المعاني التي تضاف إلى الرب من الصفات،تفسيرها الحقيقي هو أن تترك التحريف فلا تحرفها فلتجر النصوص على ظاهرها، فالمعنى كما قال الإمام مالك -رحمه الله تعالى--- لما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. نعم.

ص: 142

ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه

ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه من لم يتوق النفي في الصفات يعني: والتشبيه زل ولم يصب التنزيه لا بد من توقي هذين الأمرين النفي، يعني: نفي الصفات وتعطيلها كما فعلت الجهمية والمعتزلة والأشاعرة فيمن نفوا من الصفات نفوا الصفات والتشبيه كما فعلت المشبهة فقالوا: إن صفات الخالق كصفات المخلوق، فلا بد أن تتوقى هذين الأمرين، تتوقى النفي في باب التنزيل، وتتوقى التشبيه والتمثيل في باب الإثبات وهذا هو الذي فعله أهل السنة والجماعة أثبتوا الصفات لله عز وجل علي بجلاله وعظمته، وتوقوا النفي في باب التنزيل فلم يعطلوا ولم ينفوا الصفات، وتوقوا التشبيه في باب الإثبات فلم يقولوا: إنها مماثلة لصفات المخلوقين بل أثبتوا الصفات ونفوا الكيفية، وهذان النوعان مرض مرض النفي ومرض التعطيل والتشبيه مرضان عظيمان وهما مرضان للقلوب المرض الأول مرض شبهة والمرض الثاني مرض شهوة.

فأمراض القلوب تنقسم إلى قسمين: القسم الأول مرض الشبهة والقسم الثاني مرض الشهوة وكلاهما مذكوران في القرآن فمن مرض الشهوة قول الله -تعالى-: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي: مرض الشهوة ومن مرض الشبهة، ومن الأدلة على مرض الشبهة قول الله -تعالى-:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) } ومرض الشبهة أشد من مرض الشهوة؛ لأن مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة ومرض الشبهة لا شفاء له إلا أن يتداركه الله برحمته والشبهة تكون في الصفات، وتكون في مسألة القدر وأشد الشبهتين ما كان من أمر القدر. نعم

ص: 143

فإن ربنا -جلا وعلا- موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ليس في معناه أحد من البرية

فإن ربنا -جلا وعلا- موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ليس في معناه أحد من البرية المعنى أن الله سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه من النفي والإثبات فموصوف بصفات الوحدانية، وهذا مأخوذ من قول الله -تعالى- من سورة الإخلاص موصوف بصفات الوحدانية كما في قوله -تعالى- {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } منعوت بنعوت الفردانية كما في قوله -تعالى- {اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) } ليس في معناه أحد من البرية يعني: لا يماثله أحد من خلقه كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } والوحدانية والوصف، والنعت متقاربان الوصف والنعت إما مترادفان أو متقاربان.

فالوصف يطلق على الذات، والنعت يطلق على الفعل، وكذلك الوحدانية والفردانية متقاربتان، فالوحدانية للذات يقصد بها الذات والفردانية للصفات فهو سبحانه وتعالى متوحد في ذاته متفرد في صفاته لا يشبه أحدا من خلقه، وهذا المؤلف رحمه الله أتى بهذه الكلمات وهي من باب السجع لو لم يلتزم السجع كان أحسن، فقول ليس في معناه أحد من البرية قول الله -سبحانه- {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أحسن من قوله: ليس في معناه أحد من البرية. نعم.

ص: 144

وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات

هذه الاعتبارات التي أطلقها المؤلف رحمه الله فيها إجمال وفيها احتمال وإلهام، ولهذا شراح الطحاوية الذين شرحوها قبل ابن أبي العز فسروها على ما يتأوله أهل الصفات، وهو يتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات هذه العبارات موهمة، وإن كان رحمه الله أراد معنى حسنا أراد بذلك نفي التشبيه وأن الله -تعالى- لا يماثل أحدا من خلقه ـ ولا يريد أن ينفي العلو ولكن بعضهم قال: إن مرادهم في العلو لا تحويه الجهات الست وهي معروفة الجهات الست الفوقية والتحتانية والأمام والخلف واليمين والشمال قال بعضهم: إن مراده أن ينكر علو الله وأن الله في العلو، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه كما سيأتي.

قال: محيط بكل شيء وفوقه عن الرب سبحانه وتعالى فهو أثبت الفوقية فلا بد أن يفسر أن يفسر كلامه المشتبه بكلامه الواضح فهو لا يقصد رحمه الله نفي العلو، وإنما أراد تنزيه الرب سبحانه وتعالى عن مشابهة المخلوقات لكن الأولى في مثل هذا ألا يطلق الإنسان هذه العبارات وأن يعتصم بالنصوص.

فالواجب الوقوف في باب أسماء الله وصفاته عند ما جاء في الكتاب والسنة نفيا وإثباتا، وينظر في هذا الباب يعني: باب الأسماء والصفات فما أثبته الله ورسوله أثبتناه وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي فيثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان معنى صحيحا قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إلا المخاطب بها مثل هذه الألفاظ الذي ذكرها المصنف، ومثل المركب والجسم والحيز والجوهر والجهة والعرض والحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، وقد لا تحويه الجهات الست كل هذه الألفاظ مجملة ألفاظ تحتمل حقا وباطلا.

ولا ينبغي للإنسان أن يطلق مثل هذه الألفاظ بل يعتصم بنصوص الكتاب، نصوص الكتاب والسنة كافية، والناس لهم في مثل إطلاق هذه الألفاظ ثلاث أقوال طائفة من الناس تنفيها وتقول: ليس مركبا ولا جسما ولا حيزا ولا جوهرا ولا تحويه الجهة، وطائفة تثبتها وتقول: هو جوهر هو عرض، وطائفة تفصل وهم المتبعون للسلف الصالح فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا تبين ما أثبت بها أن ما أثبت بها ثابت وما نفي بها فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإيهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية هذه الألفاظ لم يرد بها نص من الكتاب ولا من السنة، فمثلا إذا قال: الله ليس مركبا نقول: ما مرادك بمركب، التركيب له معاني:

أحدها: التركيب لمتباينين فأكثر، ويسمى تركيب مزج كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء يكون هذا المعنى منفيا عن الله.

والثاني: تركيب الجوار كمصراعي الباب ونحو ذلك نقول: لازم من إثبات صفات الله إثبات هذا التركيب.

الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة ويسمونها الجواهر المفردة، وهذا يكون الجسم مركب من الجواهر المفردة، وهل يمكن التركيب من جزئين أو أكثر؟ كل هذا باطل لا يقال: إن صفات الله مركبة بهذا المعنى.

الرابع: التركيب من الهيولة الصورة كالخاتم مثلا هيولها الفضة وصورتها معروفة هذا لا يقال في صفة الله.

الخامس: التركيب من الذات والصفات هذا يسمونه تركيبا لأجل أن ينفوا به الصفات يقولون: هذا صحيح يقولون: الله مركب يعني: له ذات وصفات نقول: هذا صحيح الله له ذات وصفات لكن تسمية غير تسميتكم، وهذا تركيب باطل لا يعرف في اللغة ولا في استعمال الشرط فلا نوافقكم على هذه التسمية. السادس: التركيب من الماهية ووجوبها وهذا يرفضه الذهن، كذلك الجسم يقول: الله ليس بجسم نقول: ما مرادكم بجسم؟ يطلق الجسم على ما تركب من جزءين فصاعدا أو ما تركب من ثلاثة أجزاء ويقال: والحق أن لفظ جسم لفظ مجمل لا يثبت ولا ينفى إلا بعد الاستفسار، فإن أردتم بنفي الجسم نفي الصفات فهذا باطل، وإن أردتم به أن الله مستغنن عن غيره عال على خلقه بائن منهم فهذا حق لكن لا ينبغي التعبير بالجسمية لا تقولوا جسم وهو ليس بجسم الجوهر يقول: الله جوهر أو ليس بجوهر فما مرادكم بجوهر؟ يطلق الجوهر على ما يقابل العرض، ويطلق عند أهل الكلام على العين التي لا تقبل الانقسام، وكل هذا معاني باطلة فهي من الألفاظ المجملة، كذلك التحيز والحيز يراد بالتحيز الوجود في محل أو مكان والحيز المكان والمحل، وبهذا الكلام اصطلحوا على تسمية استواء الله على العرش وعلوه على خلقه تحيزا نقول: هذا باطل تسمية التحيز باطل، فالله مستو على عرشه، وأما تسمية التحيز فهذا باطل.

ص: 145

والجواب أن يقال: من المعروف أن الموجود شيئ إنما ينسب إلى الوجود فإن كان موجودا هو أشرف الموجودات فواجب أن ينتسب من الموجود المحسوس إلى الحيز الأشرف وهي السماوات ولشرف هذا الحيز قال الله -تعالى-: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) } أما إذا أردتم بنفي التحيز والحيز أن الله مستغن عن خلقه بائن منهم عال على خلقه فهذا حق لكن ينبغي التعبير بألفاظ النصوص كذلك يقولون: إن الله منزه عن الحدود ما مرادكم بالحدود؟.

يقولون: بأن الله له حد أو ليس له حد بقول مجمل لا بد من استفصال الشيخ الطحاوي رحمه الله أراد بلفظ الحد الرد على المشبهة كداود والجواربي وأمثالهم من القائلين بأن الله جسم وأنه جثة وله أعضاء، لكن أهل الكلام جروا الطحاوي وأدخلوا في عباراته معنى باطلا فنقول مثلا ما مرادكم بالحد إذا قلتم: الله له حد أو ليس له حد، إن أردتم بالحد العلم والقول، والمعنى أن العباد يحدون الله ويعلمون لله حدا فهذا منتف بلا منازعة، فالعباد لا يعلمون لله حدا فالله -تعالى- له حد يعلمه والعباد لا يعلمون لله حدا كما قال سهل بن عبد الله وقد سئل عن ذات الله فقال: ذات الله موصوفة بالعلم غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدينا وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول وتراه العيون في العقبى ظاهرا في ملكه وقدرته وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته ودلهم عليه بآياته فالقلوب تعرفه والعيون لا تدركه ينظر إليه المؤمن بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.

فإن أردتم بقولكم: إن لله له حدا وأن العباد قد يعلمون لله حدا فهذا باطل، وإن أردتم بنفي الحد وقلتم: إن الله ليس لله حدا يعني: أن البشر لا يعلمون حدا ولا يحدون شيئا من صفاته فهذا حق فإن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حدا وأنهم لا يحدون شيئا من صفاته.

قال أبو داود والطياليسي: كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون يروون الحديث ولا يقولون: كيف، وإذا سئلوا قالوا: بالأثر فمراد الشيخ الطحاوي -رحمه الله تعالى-- هنا أن يتعالى عن الحدود أن يتعالى على أنه يحيط أحد بحده؛ لأن المعنى أن الله متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم سئل عبد الله بن المبارك رحمه الله: بم نعرف ربنا؟ قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل: بحد قال بحد يعني: أنه متميز عن خلقه منفصل لم يدخل في ذاته شيء من صفاته وفي خلقه ولا في خلقه شيء من ذاته، ومن نفى الحد بهذا المعنى معنى جعل الله فوق من المخلوقات.

فإذا قال: ليس لله حد يعني: أن الله إذا قال لله حد يعني: بأن الله منفصل عن مخلوقاته بائن منهم فهذا صحيح، وإذا قال: ليس لله حد أراد بذلك أن الله خلق من المخلوقات فهذا باطل، وإذا قال: لله حد يعني: لله حد يعلمه فهذا صحيح، وإذا قال: ليس لله حد يعني: العباد لا يعلمون لله حدا فهذا صحيح فلا بد من التفسير كذلك الغايات قوله: يتعالى عن الحدود والغايات اصطلح نفاة الحكمة والتعليل من الجبرية وغيرهم من المعتزلة وغيرهم على تسمية الحكم والغايات التي يفعل من أجلها أغراضا فيسمونها الغاية فيقولون: إن الله منزه عن الغايات التي يتكلم ويفعل لأجلها ويفعل لأجلها غرضا وقالوا لضعفاء العقول: اعلموا أن ربكم منزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه، واستقر ذلك في قلوب المبلغين عنهم فيبقى السامع إذا صرحوا بذلك يبقى السامع متحيرا بين نفي هذه الحقائق التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة وبين إثباتهم، فنقول لهم: أنتم قلتم إن الله منزه عن الغايات فما مرادكم بالغايات إن أردتم بالغايات هذا المعنى من أنه سبحانه لا يفعل ولا يتكلم لحكمة ومصلحة ورحمة فهذا باطل، وإن أرتم بنفي الغايات أن الله لا يحتاج إلى أحد ولا يفعل لحاجة ولا يفعل لمؤثر لمؤثر يؤثر فيه وموجب يوجب عليه فهذا حق لكن ينبغي الاعتصام بألفاظ النصوص؛ لأنها أسلم.

ص: 146

كذلك قول الطحاوي: يتعالى عن الأركان والأعضاء والأدوات والجوارح، أهل الكلام لهم مصطلحات فيسمون إثبات الصفات لله تجسيما وتشبيها وتمثيلا ويسمون العرش حيزا وجهة، ويسمون الصفات أعراض ويسمون الأفعال حوادث، ويسمون الحكم والغايات التي يفعل لأجلها أغراضا، ويسمون إثبات الوجه واليدين أبعاضا فيقولون: الله منزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه فيستدلون بهذه الألفاظ الأركان والأعضاء والأدوات والجوارح على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية كاليد والوجه، ولكن لا يقال لهذه الصفات: إنها أعضاء أو جوارح أو أدوات أو أركان؛ لأنها تحتمل معاني باطلة؛ لأن الركن جزء ماهية فيقال: إذا سميتها أركانا، والركن جزء ماهية والله -تعالى- هو الأحد الصمد لا يتجزأ ولا يتفرق {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) } وقولكم: الأعضاء فيها معنى التفريق والتبعيض أي: التقطيع وجعل الشيء أعضاء وهذا المعنى منفي، ومن هذا المعنى قول الله -تعالى-:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91) } والجوارح فيها معنى الاكتساب والانفتاح، والأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة فكل هذه المعاني منتفية عن الله -تعالى- فإذا أريد بذلك بها ذلك فهو بحق، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله لكن ينبغي التعبير بالألفاظ الشرعية؛ لأن الألفاظ الشرعية صحيحة المعاني سالمة من الاحتمالات الفاسدة فلا يجوز العدول عنها نفيا ولا إثباتا لئلا يثبت بها معنى فاسد أو ينفى معنى صحيح، كذلك إن أريد بنفي الصفات نفي الجوارح والأعضاء نفي الصفات الثابتة، إن أريد بها نفي الصفات الثابتة كالوجه واليدين فهذا باطل فهذه ثابتة كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: له يد ووجه ونفس كما ذكر الله -تعالى- في القرآن بذكر اليد والوجه والنفس فهو له صفة بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته ونعمته؛ لأن فيها

إبطال الصفة.

وهذا الذي قاله الإمام أبو حنيفة ثابت بالأدلة القطعية قال الله -تعالى-: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وقال -تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ صلى الله عليه وسلمèŒ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } وقال سبحانه: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) } وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وقال في حديث الشفاعة: "لما يأتي الناس آدم فيقولون له: (

خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء) وقال صلى الله عليه وسلم (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) من خلقه هذا كله ثابت كذلك الجهة نفيها مجمل فلا يجوز إطلاق نفيه ولا إثباته إلا مع البيان التفصيلي كما سبق بالأمس الرد على نفاة الرؤية.

كذلك أيضا قول الطحاوي رحمه الله ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات مراده رحمه الله أن الله لا يشبه المخلوقات، لكن أهل الكلام قالوا: مراده نفي العلو؛ لأن العلو من الجهات الست ولكن هذا ليس بصحيح بل مراده نفي جهة مخلوقة أن الله ليس في جهة مخلوقة بدليل أنه أثبت العلو، فيما بعد وقال: محيط بكل شيء وفوقه، لكن الطحاوي رحمه الله ينتقد لماذا عبر بهذه التعبيرات هذه التعبيرات التي تشتمل على حق وباطل كان الأولى بألا يعبر بهذه التعبيرات ويكتفي ويعتصم بنصوص الكتاب والسنة.

ثم أيضا في قول الطحاوي رحمه الله لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات إشكال إشكالات الإشكال الأول أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى وإلا تسلط عليه الخصوم وألزموه بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو يقولون: أنت يا طحاوي متناقض كيف أنت تقول: لا تحويه الجهات الست فتنفي العلو ثم تقول: محيط بكل شيء وفوقه وتثبت العلو ألزموه بالتناقض لكن نقول: إن الطحاوي ما يقصد مقصوده أن الله منزه عن الجهات الست المخلوقة فهو يقصد معنى صحيحا، لكن مع ذلك نقول: الأولى أن يعتصم الطحاوي وغيره بالألفاظ الشرعية حتى لا تسلط عليه الخصوم.

ص: 147

الإشكال الثاني: أن قول الطحاوي كسائر المبتدعات يفهم المبتدعات المخلوقات يفهم منه أنه ما من مخلوق إلا وهو محوي وهذا فيه نظر فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجوده فممنوع فإن العالم ليس في عالم آخر وإلا لزم التسلسل ليس كل شيء مخلوق محوي بمخلوق آخر فإننا نرى العالم ليس محويا بعالم آخر، وإن أراد أمرا عدميا فليس كل مبتدع في العدم بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعا للتسلسل.

ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأن قول الطحاوي: كسائر المبتدعات بمعنى البقية لا بمعنى الجميع، ويؤيد هذا أن هذا أصل معناها أصل معناها البقية، ومنه السؤر وهو ما يلقيه الشارب في الإناء فيكون مراد الطحاوي بقول: كسائر المخلوقات كغالب المخلوقات لا جميعها إن السائر على الغالب أدل منه على الجميع فيكون المعنى أن الله -تعالى- غير محوي كما يقول أكثر المخلوقات، محويا بل هو غير محوي بشيء -تعالى- الله عز وجل والخلاصة أن الطحاوي رحمه الله أراد بذلك بهذه المعاني أراد بها معنى صحيحا وأن الله منزه عند الحدود والغايات والأركان والأعضاء مراده إثبات صفة الله عز وجل وأن الله لا يشابه المخلوقين، وأن الله ليس فيه شيء من مخلوقاته بدليل أنه أثبت العلو فيما بعد قال: محيط بكل شيء لكن تسلط عليه الخصوم لما أطلق هذه العبارات فكان الأولى بالطحاوي أن يعتصم بألفاظ النصوص حتى لا يوصف بالتناقض وحتى لا يتسلط عليه الخصوم نعم.

ص: 148

والمعراج حق وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء ثم إلى حيث شاء الله من العلا وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى

هذا البحث في إثبات الإسراء والمعراج للنبي صلى الله عليه وسلم والإسراء ثابت في كتاب الله عز وجل قال -تعالى- {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ومن أنكر الإسراء كفر؛ لأنه مكذب لله وما كذب بشيء من كتاب الله، والمعراج ثابت بالأحاديث الصحيحة التي تفيد العلم والقطع، لكن من أنكر ذلك فحتى تقوم عليه الحجة ويبين له.

والإسراء أصل الإسراء لغة السير ليلا يقال: أسرى يسري إسراء ويأتي لازما فيقال: سرى الرجل ويأتي متعديا فيقال: أسرى به، وأما الإسراء شرعا واصطلاحا فهو السفر برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ليلا على البراق، والبراق دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض طويل.

والعلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي أنهما يشتركان في السير ليلا المعنى اللغوي والاصطلاحي كلاهما فيه السير ليلا فكل من المعنيين فيه السير في الليل، لكن المعنى اللغوي أوسع، ثم يأتي المعنى الاصطلاحي بقيود وشروط زائدة على المعنى اللغوي وهو كونه سفرا وبرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى البراق ومن مكة إلى بيت المقدس.

أما المعراج لغة فهو على وزن مفعال مشتق من العروج وهي آلة العروج التي يعرج فيها ويصعد، يشمل السلم ويشتمل الدرجة والمعراج شرعا واصطلاحا هو العروج برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا من بيت المقدس إلى السماء، والآلة التي عرج عليها عليه الصلاة والسلام هي بمنزلة السلم، ولا يعلم كيف هو؟ لا يعلم كيفية هذه الآلة وحكمه حكم غيره من المغيبات نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته.

والعلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي في المعراج يشتركان في أن كلا منهما صعود وعروج من أسفل إلى أعلى، فالعروج لغة الصعود من أسفل إلى أعلى، والعروج شرعا العروج برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا من بيت المقدس إلى السماء بآلة غيبية لا تعلم كيفيتها، فالمعنى اللغوي والاصطلاحي يشتركان في أن كلا منهما فيه الصعود وعروج من أسفل إلى أعلى وهذا قدر مشترك، ثم يأتي المعنى الاصطلاحي بقيود وشروط زائدة على المعنى اللغوي وهو أن العروج بآلة خاصة وغيبية ومن مكان خاص وإلى علو خاص من بيت المقدس إلى السماء، والمعنى اللغوي أوسع دائرة، فإذن عرفنا أن الإسراء هو الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا من مكة إلى بيت المقدس على الدابة على البراق والبراق دابة فوق الحمار ودون البغل يعني: أكبر من الحمار وأقصر من البغل دابة بيضاء، والعروج هو صعود النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس إلى السماء بآلة غيبية.

العلماء لهم أقوال في الإسراء والمعراج هل أسري به عليه الصلاة والسلام وعرج به وهو نائم؟ هل أسري به بروحه أو بروحه وجسده؟ العلماء لهم أقوال أربعة في هذا أقوال العلماء في الإسراء والمعراج أربعة:

القول الأول: أن الإسراء كان مناما أسري به صلى الله عليه وسلم وهو نائم وهذا أضعف.

القول الثاني: أن الإسراء كان بروحه صلى الله عليه وسلم دون جسده وهذا نقله إسحاق عن عائشة رضي الله عنها ونقل عن معاوية ونقل عن الحسن البصري.

القول الثالث: أن الإسراء كان مرارا مرة مناما ومرة يقظة وبعضهم قال: مرة قبل الوحي ومرة بعد الوحي وبعضهم قال: الإسراء ثلاث مرات مرة قبل الوحي ومرتين بعده وهذا يفعله ضعفاء الحديث كما سيأتي كلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة يقولون: الإسراء كان مرة مناما وكان مرة يقظة فتكون مرة منام كالتوطئة والتمهيد لليقظة كما حصل في الوحي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الوحي أول ما ابتدأ به الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا وقعت مثل فلق الصبح ستة أشهر كان بدئ به الوحي من ربيع إلى رمضان ثم فاجأه الحق وجاء بعد ذلك جبريل وجاءه الوحي في رمضان قالوا: كما أن الوحي كان في المنام ثم في اليقظة فكذلك الإسراء والمعرج كان مرة مناما كتوطئة ثم كان يقظة.

القول الرابع: إن الإسراء كان بروحه وجسده مرة واحدة بعد الوحي يقظة لا مناما وهذا أرجح الأقوال وأصحها، وهذا هو الصواب أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة لا في النوم بروحه وجسده بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه بعد البعثة، فالإسراء كانت بروحه وجسده يقظة لا مناما مرة واحدة في ليلة واحدة بعد البعثة وقبل الهجرة وإلى هذا ذهب جمهور العلماء والمحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت على هذا القول ظاهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك وليس في العقل ما يحيل ذلك حتى يحتاج إلى تأويل.

ص: 149

الفرق بين القول الأول والثاني الفرق بين من قال: إن الإسراء كان مناما وبين من قال: إن الإسراء كان بروحه هو أن من قال: إن الإسراء كان مناما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في نومه أمثالا مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة من قبيل الحلم فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذهب به إلى مكة وجسده باق وروحه باقية جسده باق وروحه أيضا لم تصعد ولم تذهب وإنما ملك الرؤيا ضرب له الأمثال هذا معنى الإسراء كذبا، ومن قال: إن الإسراء كان بروحه قال: إن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد ثم عادت إليه قالوا: وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم إذ أن غيره لا تنال روح الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت، والقدر مشترك بين القولين الذي اتفقوا فيه هو أن الجسد باق كل من القولين بقول الجسد باق لكن من قال: إن الإسراء كان مناما قال: الروح أيضا باقية والملك هو الذي ضرب له الأمثال، ومن قال: الإسراء كان بروحه قال الجسد باق والروح هي التي صعدت وأسري بها ثم رجعت.

الأدلة استدل أهل القول الأول القائلون بأن الإسراء كان مناما بدليل شرعي ودليل عقلي الدليل الشرعي استدلوا بحديث الإسراء والمعراج الذي رواه شريك بن أبي نمر فإنه قال في بعض ألفاظ حديث شريك: إنه ختم القصة بقوله: ثم استيقظت (ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام) لما ذكر الحديث الإسراء النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام) قالوا: هذا دليل على الإسراء كان مناما لكن أجاب عنها نقاد الحديث بأن هذه اللفظة غير ثابتة لما فيها هذه اللفظة غير ثابتة، والحديث الذي رواه شريك بن أبي نمر غلطه الحفاظ في ألفاظ من حديث الإسراء فهذه الألفاظ وهي قوله:(ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام) لم تثبت لا سيما وأن الأحاديث لم ترد بذكرها وشريك بن عبد الله بن أبي نمر له أغلاط غلطه الحفاظ في ألفاظ من حديث الإسراء ولهذا قال الإمام مسلم رحمه الله بعدما روى حديث شريك بن أبي نمر: أورد مسلم منه ثم قال: فقدم وآخر وزاد ونقص هو شريك بن عبد الله بن أبي نمر.

الدليل الثاني للذين قالوا: إن الإسراء كان مناما: عقلي قالوا: إن الأجسام الأرضية من طبيعتها الثقل فلا يعقل أن تصعد إلى السماء وليست في الروحانيات كالملائكة فإنها خفيفة بخلاف الروح، فإن من طبيعتها الخفة والجواب أن نقول هذا معارضة لمقصد العقل العقل لا يعارض النقل إذا صح النقل فلا يجوز لنا أن نعارضه الواجب التسليم والخضوع لكلام الله وكلام رسوله وأن نتلقاه بقبول وتسليم ولا نعارضه بعقولنا.

وأيضا نقول لهم: لو لم يعقل صعود البشر أيضا نرد عليهم به بدليل عقلي نقارع الحجة بالحجة لو لم يعقل صعود البشر لما صح المقابل له وهو نزول الملائكة الأرض، فأنتم تقولون: الأجسام الأرضية من طبيعتها الثقل فلا يعقل أن تصعد إلى السماء نقول لكم: الملائكة من طبيعتها العلو والخفة فلا يعقل أن تنزل إلى الأرض، فلو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة والوحي وهذا كفر، وبهذا يبطل قول الذين قالوا: إن الإسراء بروحه عليه الصلاة والسلام.

دليلهم على هذا هو الدليل العقلي الذي استدل به أهل القول الأول قالوا: أن الأجسام الأرضية من طبيعتها الثقل فلا يعقل أن تصعد إلى السماء بخلاف الروح فإن من طبيعتها الخفة فلا مانع من العروج بها.

والجواب أن نقول: هذا معارضة للنصوص بالعقل والعقل لا يعارض النصوص، والواجب التسليم لله ولرسوله ثم أيضا لو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهذا كفر، ويرد على هذا القول أيضا بقول الله سبحانه:

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} والعبد يطلق على الروح والجسد وأيضا من أدلتهم استدلوا بها استدلوا بقول عائشة رضي الله عنها:

ص: 150

(ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أسري بروحه) فلا ينكر ذلك من قولها، وهذا إن صح عن عائشة فهو اجتهاد منها لا تعارض به النصوص. ويرد أيضا على من قال: إن الإسراء كان مناما أو الإسراء بالروح يرد عليهم أنه لو كان الإسراء مناما، وأن جسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه باق في مكة، ولو كان الإسراء بروحه وجسده باق لما بادرت كفار قريش إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ولا ما ارتدت جماعة ممن كان أسلم لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإسراء والمعراج لما أخبر بذلك ارتدت جماعة بسبب ذلك، وقالوا: لا يمكن أن يصعد بروحه لا يمكن كيف يسافر إلى بيت المقدس مسافة شهر في ليلة واحدة ثم يصعد إلى السماوات وبين كل سماء إلى سماء مسافة خمسمائة عام ويرجع في ليلة واحدة استبعدوا هذا -والعياذ بالله- فارتدوا، ولو كان مناما أو الإسراء كان مناما أو كان بروحه وجسده باق لما أنكروه ولما بادروا؛ لأنهم يصدقون بالرؤية يقال: جسده باق عندهم ولما كان هناك كبير شيء في النوم والله -تعالى- قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} والتسبيح إنما يكون في الأمور العظام، وهذا يدل على أن الإسراء بروحه وجسده فإذن الصواب أن الإسراء بروحه وجسده.

وأما أهل القول الثالث فإذن لو كان الإسراء بالروح أو الإسراء مناما لما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وما ارتدت جماعة ممن كان أسلم؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث قريش حديث الإسراء والمعراج تهكموا به وسخروا منه، ولو كان الإسراء مناما أو بروحه دون جسده لما سخروا منه وتهكموا به؛ لأنهم يصدقون بالرؤيا ولا يستغربون صعود الروح مادام الجسد باقيا عندهم؛ ولأن الله قال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وهذا إنما يكون التسبيح عند الأمور العظام وهو الإسراء بروحه وجسده.

أما أهل القول الثالث الذين قالوا: كان الإسراء مرة مناما ومرة يقظة أو مرة قبل الروح ومرة بعده أو مرتين مرة قبل الروح ومرة بعده أو مرتين أو مرة قبل الروح ومرتين بعده دليلهم قالوا: أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله حين ختم القصة: (ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام) وبين سائر راويات الحديث التي لم تذكر هذه الألفاظ هذه اللفظة المستيقظة فقالوا: إن الإسراء كان مرارا مرة مناما كما يفيده حديث شريك ومرة يقظة كما يفيد سائر الروايات، وبعضهم قال: مرة قبل الوحي ومرة بعده وبعضهم قال: ثلاث مرات مرة قبل الوحي ومرتين بعده جمعا بين الأدلة في زعمهم كلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق بين الأدلة في نظرهم، وهذا يفعله ضعفاء الحديث.

والجواب عن شبهتهم أجاب عنها العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد أجاب عنها بما ملخصه قال: بأنه ثبت في حديث الإسراء والمعراج أن الله فرض على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر خمسين صلاة في اليوم والليلة، ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين ربه وبين موسى في السماء السادسة في كل مرة يأمره موسى عليه الصلاة والسلام بأن يسأل ربه التخفيف لأمته فيحط الله تبارك وتعالى عنه خمسا وعشرا حتى صارت إلى خمس صلوات ثم (نادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) فلو كان الإسراء والمعراج مناما للزم من ذلك أن يعيد الله فرضية الصلاة مرة ثانية خمسين ثم يحطها إلى خمس وهذا فاسد.

وبهذا يبطل هذا القول أما أهل القول الرابع الذين قالوا: إن الإسراء مرة واحدة بجسده وروحه يقظة لا مناما في ليلة واحدة قبل البعثة قبل الوحي وبعد البعثة وقبل الهجرة، هذا القول تؤيده النصوص من الكتاب والسنة من ذلك هذا هو الصواب أن الإسراء مرة واحدة لا مرارا بروحه وجسده لا مناما ولا بالروح فقط يقظة لا مناما في ليلة واحدة الإسراء والمعراج بعد البعثة وقبل الهجرة من أدلة هذا القول قول الله -تعالى- {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} ووجه الدلالة أن العبد إذا أطلق فهو عبارة عن مجموع الجسد والروح {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} العبد اسم للروح والجسد كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح إذا أطلق وهذا يدل على أن الإسراء بروحه وجسده.

ولهذا قال الطحاوي رحمه الله: وعرج بشخصه بشخصه أسري بشخصه وأسري بشخصه والشخص اسم للروح والجسد، فالطحاوي رحمه الله يثبت أن الإسراء بروحه وجسده كما عليه المحققون.

ص: 151

الدليل الثاني: ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم -رحمهما الله- بروايات متعددة أنه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه إلى السماء وأنه اجتمع بالأنبياء وصلى بهم إماما وأنه التقى بعدد من الأنبياء في كل سماء وأن الله فرض عليه الصلاة خمسين ثم خففها إلى خمس بواسطة تردده بين ربه وبين موسى وأنه رأى جبريل عند سدرة المنتهى على صورته التي خلق عليها، وكل هذه الروايات ظاهرها أنه أسري بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام.

وبهذا يتبين أن الصواب أنه أسري بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام وأنه لا بد للمسلم أن يؤمن بالإسراء والمعراج، ومن أنكر الإسراء كفر؛ لأنه مكذب لله ومن أنكر المعراج فلا بد من إقامة الحجة عليه، الفوائد الأصولية المستنبطة من حديث الإسراء والمعراج، هناك فوائد أصولية وهناك فوائد عامة، من الفوائد الأصولية المستنبطة من حديث الإسراء والمعراج

أولا: جواز النسخ قبل التمكن من الفعل جواز النسخ قبل التمكن من الفعل حيث فرضت الصلاة خمسين أولا ثم نسخت بأن خففت إلى خمس وهذا في السماء قبل تمكن العباد من الفعل.

ثانيا: الفائدة الثانية الأصولية: جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة حيث أعلم النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بفرضية الصلاة إجمالا بدون تفصيل لأركانها وشروطها وهيئاتها وأوقاتها، ثم لما جاء وقت الصلاة نزل جبريل فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وجاء وحدد له الأوقات أما الفوائد الأخرى العامة المستنبطة من حديث الإسراء والمعراج ففيه أولا إثبات العلو لله عز وجل من وجوه: حيث إن الرسول عليه الصلاة والسلام عرج به إلى ربه عز وجل ثم جاوز السبع الطباق ثم لما كان يتردد بين ربه وبين موسى في كل مرة يعلو به جبرائيل إلى الجبار تبارك وتعالى فيه الرد على من أنكر العلو من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم.

ثالثا: إثبات الكلام لله عز وجل حيث فرض الله -سبحانه- عليه الصلاة بدون واسطة وفيه الرد على من أنكر الكلام.

رابعا: فضيلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعظم منزلته عند الله عز وجل حيث جاوز الأنبياء كلهم وجاوز السبع الطباق وصلى بالأنبياء إماما بعضهم استنبط أن رسول الله رآه بعين رأسه لكن هذا ضعيف كما سبق بالأمس.

خامسا: مشاركة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لموسى عليه الصلاة والسلام في التكليم وأن التكليم ليس خاصا بموسى كما أن الخلة ليست خاصة بإبراهيم بل يشاركه فيها نبينا أيضا، فكما أن إبراهيم خليل الله فمحمد خليل الله وكما أن موسى كليم الله فمحمد كليم الله كلمه الله بدون واسطة ليلة المعراج.

سادسا: شفقة موسى ورحمته بهذه الأمة حيث أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه التخفيف لأمته في الصلاة.

سابعا: عظم مخلوقات الله -تعالى- وسعتها هذا يدل على عظمة الخالق.

ثامنا: معجزة الرسول عليه الصلاة والسلام في الإٍسراء والمعراج في ليلة واحدة تاسعا استشارة أهل الفضل والصلاح حيث التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره.

مسألة: والحكمة من تقديم الإسراء إلى بيت المقدس قبل المعراج ما الحكمة من تقديم الإسراء إلى بيت المقدس قبل المعراج الحكمة والله أعلم لإظهار صدق دعوى النبي صلى الله عليه وسلم المعراج حيث سألته قريش عن نعت بيت المقدس فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة لما حصل ذلك إذ لا يمكن اطلاعه ولا يمكن اطلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته، وقيل: الحكمة أن يجمع صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة بين رؤية القبلتين أو؛ لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله، وحصل له الرحيل إليه في الجملة ليجمع بين أشراف الفضائل أو؛ لأنه محل الحشد وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية فكان المعراج منه أليق بذلك أو للتفاعل ليحصل وللتفاعل بحصوله أنواع التقديس له حسا ومعنى، أو ليجتمع بالأنبياء جملة وذهب بعض العلماء إلى أن الحكمة هي لتحصيل العروج مستويا بغير تعويج؛ لأن كعب الأحبار روى أن باب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس لكن هذا فيه نظر لورود أن في كل سماء بيتا معمورا وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة فكان المناسب أن يصعد من الكعبة من مكة ليصعد إلى البيت المعمور بغير تعويج وهذا ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري.

والبراق دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض طويل يضع خطوه عند أقصى طرفه وبهذا ننتهي من هذا البحث تعيد كلام المؤلف رحمه الله

قال رحمه الله -تعالى-: والمعراج حق وقد أسري بالنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وعرج به.

قوله: المعراج حق يعني: ثابت وكذلك أسري بشخصه حق ثابت لا بد من الإيمان به نعم.

وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء.

عرج بشخصه يعني: الشخص اسم للروح والجسد هذا إلى السماء عرج بروحه وجسده نعم.

ص: 152

ثم إلى حيث شاء الله من العلا وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى.

لا شك أن الله أكرمه في عروجه وصلاته بالأنبياء ورفعته فوقهم وأكرمه الله بتكليمه له وفرضه الصلاة عليه نعم

{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) }

نعم {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) } {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) } لم يزغ بصره ولم يكذب فؤاده عليه الصلاة والسلام بل كل ما رآه فهو حق نعم.

فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى.

عليه الصلاة والسلام فصلاة الله على عبده أحسن ما قيل فيها: إنها ما رواه أبو العالية ما رتبه في البخاري عن أبي العالية رضي الله ورحمه الله- أنه قال: (صلاة الله على عبده ثناؤه في الملأ الأعلى) .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وكان من حديث الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم (أسري بجسده في اليقظة - على الصحيح - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكبا على البراق بصحبة جبرائيل عليه الصلاة والسلام فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماما، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم فصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة، ثم عرج به من بيت المقدس في تلك الليلة إلى السماء الدنيا فاستفتح له جبريل ففتح له فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له فرأى فيها يحيي بن زكريا وعيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام- فلقيهما فسلم عليهما فردا عليه السلام ورحبا به وأقرا بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فرأى فيها يوسف عليه الصلاة والسلام فسلم عليه فرد عليه السلام ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الرابعة فرأى فيها إدريس فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الخامسة فرأى فيها هارون ابن عمران فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته فلما جاوزه بكى موسى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي؛ لأنه غلام بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم رفع إلى سدرة المنتهى ثم رفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى وفرض عليه خمسين صلاة فرجع حتى مر على موسى فقال: بم أمرت؟ قال: بخمسين صلاة قال: إن أمتك لا تطيق ذلك ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن نعم. إن شئت فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار -تبارك

وتعالى- وهو في مكانه) هذا نص البخاري في صحيحه.

وفي بعض الطرق (فوضع عنه عشرا ثم نزل حتى مر بموسى فأخبره فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمسا فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف فقال: قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ نادى مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) .

ص: 153

والحوض الذي أكرمه الله -تعالى- به غياثا لأمته حق

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين -نبينا محمد- وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فالحوض مما يتواتر فيه الأحاديث الصحيحة، وأصل الحوض في اللغة مجمع الماء أو ما يكون محلا لجمع الماء في الحقل مشتق من السيلان ومنه قولهم: حاض الوادي إذا سال وأما الحوض الوارد في الأحاديث فهو المراد به شرعا هو الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة، وقد أنكر الحوض طوائف بعض الطوائف الخوارج وبعض المعتزلة.

وأما أهل الحق أهل السنة فإنهم يؤمنون بالحق ويؤمنون بالحوض وهو حق يجب اعتقاده والإيمان به، هكذا يراه أهل الحق يرون أهل السنة والجماعة أن الحوض حق يجب اعتقاده والإيمان به، والأدلة على ثبوته كثيرة تبلغ حد التواتر رواه من الصحابة بضع وثلاثون صحابيا منها حديث أنس رضي الله عنه (مثل ما بين ناحيتي حوضي مثل ما بين المدينة وصنعاء أو مثل ما بين المدينة وعمان) .

ومنهما حديث أنس رضي الله عنه (إن قدر حوضي ما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن وإن فيه من الأباريق عدد نجوم السماء) ومنها حديث يزيد الرقاشي (إن لي حوضا كما بين إيليا إلى الكعبة أو قال: صنعاء) ومنها حديث أبي بريدة عن أبيه رضي الله عنه (حوضي كما بين عمان إلى اليمن) ومنها حديث ثوبان (إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء) وعمان بفتح العين وتشديد الميم وهي مدينة معروفة.

يقول في النهاية ابن الأثير: إنها مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء ومنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء) ومنها عند ابن ماجة (حوضي ما بين المدينة إلى بيت المقدس) ومنها في رواية الدارقطني (ما بين ناحيتي حوضي كما بين المدينة وجرباء وأذرح) وهما قريتان بالشام قيل بينهما مسيرة ثلاثة أيام.

فهذه ثمانية أحاديث وهذه الأحاديث مختلفة في تحديد المسافة واختلف العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث التي اختلفت في تحديد المسافة على أقوال منها: أن اختلافها إنما هو؛ لأنها على وجه التقريب لا التحديد، ومنها أن اختلافها إنما هو بالنسبة للطول والعرض، ومنها أن اختلافها بحسب ما يعرفه السائل من حجازي ويماني وشامي، ومنها أن اختلافها إنما هو بالنسبة للمجد في السير والبطيء فيه، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالمسافة القريبة أولا ثم أعلمه الله بالزيادة فضلا منه ورحمة.

أما القول الأول من هذا الاختلاف إنما هو على وجه التحديد التقريب لا التحديد المعنى أنه يقرب في كل منها مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته بما تسنح له العبارة عليه الصلاة والسلام ويقرب ذلك للعلم ببعد ما بين البلاد النائية بعضها من بعض لا على إرادة المسافة من حقها، لكن يجاب عن هذا القول بأن ضرب المثل والتقدير إنما يكون فيما يتقارب، وأما هذا الاختلاف المتباعد الذي يزيد تارة على ثلاثين يوما وينقص إلى ثلاثة أيام فل.

وأما الثاني وهو أن الاختلاف بالنسبة إلى الطول والعرض فيجاب عنه أو فيرده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء) وبهذا يكون هذان القولان ضعيفان وأرجح هذه الأقوال الثلاثة أرجحها الثلاث الأخيرة وهي أن الاختلاف بالنسبة إلى المجد في السير والبطيء أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بالمسافة القريبة أولا ثم أعلمه الله بالزيادة أو أن الاختلاف بحسب ما يعرفه السائل لكن أرجحها الرابع، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالمسافة القريبة أولا، ثم الثالث وهو بحسب ما يعرفه السائل، ثم الخامس والرابع وهو أن اختلافه بالنسبة إلى المجد في السير هذا أرجحها الأرجح أن الاختلاف بالنسبة للمجد في السير والبطيء، ثم يليه الثالث وهو أن الاختلاف بحسب ما يعرفه السائل، ثم الرابع ثم الخامس وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره الله بالمسافة القريبة أولا ثم أعلمه بالزيادة.

مسألة: هل في العرصات حوض غير حوض النبي صلى الله عليه وسلم ورد في الأحاديث أن هناك أحواضا أخرى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن لكل نبي حوضا لكن حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعظمها وأوسعها وأحلاها وأكثرها واردا -جعلنا الله منهم بمنه وكرمه- من الأدلة على أن للأنبياء لكل نبي حوض حديث الحسن عن سمرة الذي أخرجه الترمذي في جامعه (إن لكل بني حوضا يتباهون أيهم أكثر واردا وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردا) ولكن هذا من رواية الحسن عن سمرة، وسماع الحسن من سمرة اختلفوا فيه والأرجح أنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة.

ص: 154

ومنها حديث أبي سعيد رضي الله عنه (إن لي حوضا طوله ما بين الكعبة إلى بيت المقدس أشد بياضا من اللبن آنيته عدد نجوم السماء وكل نبي يدعو أمته ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام، ومنهم من يأتيه العصبة، ومنهم من يأتيه النفر، ومنهم من يأتيه الرجلان والرجل، ومنهم من لا يأتيه أحد فيقال: لقد بلغت وإني لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة) .

مسألة: الحوض قبل الصراط أو بعد الصراط في هذه المسألة قولان للسلف في هذه المسألة قولان: أحدهما أن الحوض يورد بعد الصراط يعني: يكون المرور على الصراط أولا ثم بعد المرور على الصراط يورد الحوض واختار هذا الحافظ ابن حجر رحمه الله والسيوطي -رحمهما ال-له واحتج هؤلاء بحديث النضر بن أنس، فإن ظاهره يقتضي ذلك وذلك أن النضر قال:(سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة قال: أنا فاعل قال: وأين أطلبك يا نبي الله؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني عند الصراط قال: قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فأنا عند الميزان قال: قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فأنا عند الحوض لا أخطئ هذه الثلاثة مواطن يوم القيامة) .

وكذلك أيضا من أدلتهم حديث لقيط واقد بني المنتفق فإن فيه أنه قال في آخر الحديث: (فتطلعون على الحوض) يعني: بعد المرور على الصراط القول الثاني: أن الحوض يكون في الموقف قبل الصراط وهذا هو الصواب هذا هو الصحيح لما يأتي من الأدلة من الشرع والعقل، منها من أدلة هذه القول الأحاديث التي تدل على منع المرتدين على أعقابهم وأنهم يذادون عن الحوض كحديث أنس رضي الله عنه (ليردن علي ناس من أصحابي حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول: أصحابي، فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك) ومنها حديث سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه (إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم - وزاد أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فأقول: إنهم من أمتي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي) .

فهذه الأحاديث تدل على أن الحوض يورد قبل الصراط من وجهين الأول: لو كان الورود على الصراط قبل الحوض لكان مثل هؤلاء المذادين الذين يذادون عن الحوض ويطردون لا يجاوزون الصراط؛ لأنهم إن كانوا كفارا فالكافر لا يجاوز الصراط بل يكب على وجهه في النار قبل أن يجاوزه وإن كانوا عصاة وهم من المسلمين، فهؤلاء وإن كانوا عصاة وهم من المسلمين فجازوا الصراط لم يشفع لهم في دخول النار أو عفا الله عنهم بدون شفاعة، وإن لم يكن شفاعة ولا عفو دخلوا النار ولبثوا فيها بقدر عصيانهم وحينئذ يلزم حجبهم عن الحوض مع أنهم من المسلمين وهذا بعيد حجبهم عن الحوض لا سيما وعليهم سيما الوضوء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أعرفهم غرا محجلين من أثر الوضوء) .

الثاني: لو كان الورود على الصراط قبل الحوض للزم ألا يحجب عن الحوض أحد؛ لأن من جاوز الصراط لا يكون إلا ناج مسلم ومثل هذا لا يحجب عن الحوض، ومن الأدلة من العقل أن الناس يردون الموقف عطاشا فمن المناسب ورود المؤمنين الحوض قبل مرورهم على الصراط، وأما حديث النضر بن أنس الذي استدل به أهل القول الأول على أن الصراط يكون قبل الحوض يجاب عنه بأجوبة: منها: أن المراد بالحوض فيه حوض آخر يكون بعد الجواز على الصراط لا يذاد عنه أحد كما جاء في بعض الأحاديث كحديث لقيط بن عامر وفيه: (ثم ينصرف نبيكم وينصرف على أثره الصالحون فيسلكون جسرا من النار فيطأ أحدكم الجمر فيقول: حس يقول ربك عز وجل أو أنه ألا فتطلعون على حوض نبيكم على أظمأ -والله- ناهلة عليها قط ما رأيتها، فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وضع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى) .

ثانيا: أن الحوض نفسه يمتد إلى ما وراء الجسر كما يفيده حديث ليقط هذا وأن المؤمنين إذا جاوزوا الصراط وقطعوه دنا لهم الحوض فشربوه منه فإنه ورد أن طوله شهر وعرضه شهر، فإذا كان بهذا الطول والسعة فما الذي يحيل امتداده إلى ما وراء الجسر، وعلى هذا فيرده المؤمنون مرتين مرة قبل الصراط ومرة بعده جمعا بين الأدلة وهذا في حيز الإمكان ووقوعه موقوف على خبر الصادق.

وهذا كلام العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد يقول: إذا كان الحوض بهذه السعة طوله شهر مسافته شهر فهذا يدل على أنه يمتد وأنه طويل وأنه يكون ما وراء الجسر وأن الناس يردونه مرة قبل الصراط ومرة بعد المرور على الصراط، وجمع بعض أهل العلم فقال: إن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين: أحدهما في الموقف قبل الصراط والآخر داخل الجنة وهو الكوثر وكل منهما يسمى كوثرا، ولكن هذا لا يصلح جوابا عن حديث النضر؛ لأنه صرح أنه يوم القيامة وأجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذا الجواب قال: وفيه نظر؛ لأن الكوثر نهر داخل الجنة وماؤه يصب في الحوض ويطلق على الحوض كوثرا لكونه يمد من نهر الكوثر.

ص: 155

وقال الحافظ أيضا: ظاهر الأحاديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها وهذا يدل على أن الحوض بعد الصراط؛ إذ لو كان قبل الصراط لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر فيه.

وأجاب الحافظ عن الأحاديث التي تدل على منع المرتدين على أعقابهم قال: وأما ما أورد عليه من أن جماعة يدفعون من الحوض بعد أن يروه ويذهب بهم إلى النار، فجوابه أنهم يقربون من الحوض بحيث يرونه ويرون الجنة فيدفعون في النار قبل أن يخلصوا من بقية الصراط، ولكن هذا تأويل بعيد.

وأجاب السيوطي عن إشكال يرد على القول أن الحوض يورد بعد الصراط قال: فإذا قيل: إذا خلصوا من الموقف دخلوا الجنة فلا يحتاجون إلى الشرب من الحوض، فالجواب بل هم محتاجون إلى ذلك؛ لأنهم محبوسون هناك لأجل المظالم فكان الشرب في موقف القصاص يعني: يكون الشرب على ما ذكر السيوطي بعد المرور على الصراط؛ لأنه ثبت أن المؤمنين إذا تجاوزوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار قيل: إنها طرف الصراط وقيل: إن الصراط خاص بالمؤمنين حتى يقتص بعضهم من البعض من الآخر المظالم التي بينهم، فإذا هذبوا ونقوا دخلوا الجنة.

قال السيوطي رحمه الله: يكون في هذا المكان يكون هو الحوض في هذا المكان، ولكن هذا أيضا بعيد؛ لأن هذا التأويل يرده الأحاديث الكثيرة التي صرحت بأنه يزاد عن الحوض أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، وهذا يدل على أن الحوض في موقف الحساب لا في موقف قصاص المؤمنين بعضهم من بعض، وجمع بعض العلماء بين الأحاديث بجمع آخر وهو أنه يقع الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم ويتأخر الشرب بعد الصراط لآخرين بحسب ما عليهم من الذنوب والأوزار حتى يهذبوا منها على الصراط، قال بعض أهل العلم: وهو جمع حسن القول، وعلى هذا الجمع يكون هناك حوضان حوض قبل الصراط وحوض بعده أو أن الحوض نفسه يمتد إلى ما وراء الجسر كما سبق هذا في الجواب عن حديث النضر.

هذه أقوال العلماء في الحوض هل قبل الصراط أو بعد الصراط ولكن يعني: الحافظ ابن حجر يقول: إنه الصراط وابن القيم رحمه الله يقول: لا مانع إذا صح الحديث يكون من وراء الجسر وبعض العلماء يقول: الناس محتاجون إلى أن يشربوا أيضا بعد الجسر.

لكن سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -غفر الله له ورحمه وجمعنا به في الفردوس الأعلى- تنبه لأمر لم يتنبه له هؤلاء العلماء الذين قالوا إن الحوض قبل الصراط قال سماحة شيخنا رحمه الله: إن صحت الأخبار أنهم يردون بعد الصراط فهذا نهر يردونه في الجنة؛ لأن الصراط ممدود على متن جهنم يصعد الناس عليه إلى الجنة، فمن جاوز الصراط وصل إلى الجنة، والحوض في الأرض فلا يرجعون إلى الأرض مرة ثانية بعد صعودهم إلى الجنة يعني: كيف يكون الحوض بعد الصراط؟ الصراط ممدود على متن جهنم صعود يصعد الناس فيه من الأرض إلى السماء فإذا انتهوا وصلوا إلى الجنة ما فيه حوض هناك كيف وأين يكون الحوض؟ الحوض في موقف القيامة قبل الصراط قبل المرور على الصراط وهذا هو الذي تدل عليه الأحاديث وتدل على أنه، ويدل على ذلك أنه يذاد أقوام قد غيروا وبدلوا هذا يكون في موقف القيامة أما بعد المرور على الصراط انتهى الأمر، من سقط في النار سقط في النار، ومن تجاوز الصراط وصل إلى الجنة.

لكن السيوطي يقول: يكون في مكان قبل دخولهم الجنة لكن هذا بعيد والصواب الذي تدل عليه النصوص أن الحوض يكون قبل الصراط هذا هو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة.

وهل الحوض قبل الميزان أو بعد الميزان؟ أيضا في المسألة قولان لأهل العلم: أحدهما: أن الميزان أسبق من الحوض حجة هذا القول ظاهر حديث النضر بن أنس فإنه قدم الميزان على الحوض الثاني: أن الحوض قبل الميزان، وهذا هو الراجح حجة هذا القول الأحاديث التي تدل على أنه يزاد عن الحوض أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، فلو كان ورود الحوض بعد الميزان لما حجب عنه أقوام؛ لأن هؤلاء الذي خفت موازينهم يعرفون أنه لا سبيل لهم إلى الشرب من الحوض فلا يردونه إطلاقا.

ويدل على ذلك أيضا من العقل أن المعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشا، فمن المناسب أن يكون الورود على الحوض قبل الميزان للحاجة الشديدة إلى الشرب فيقدم قبل الميزان.

صفة الحوض: صفة الحوض كما وردت في الأحاديث الذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض أنه حوض عظيم ومورد كريم يمد من شراب الجنة من نهر الكوثر الذي هو أشد بياضا من اللبن وأبرد من الثلج وأحلى من العسل وأطيب ريحا من المسك، وأنه في غاية الاتساع وأن عرضه وطوله سواء وأن كل زاوية من زواياه مسيرة شهر، وكلما شرب منه فهو في زيادة واتساع وأنه ينبت في خلاله من المسك والرفراف من اللؤلو وقضبان الذهب ويثمر ألوان الجواهر، -فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء-.

ص: 156

مكان الحوض: بين القرطبي رحمه الله في التذكرة أن مكان الحوض لا يكون على هذه الأرض وإنما يكون في الأرض المبدلة {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} يكون في الأرض المبدلة التي تظهر لنزول الجبار -تعالى- فقال القرطبي رحمه الله ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض بل في الأرض المبدلة أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم ولم يظلم على ظهرها أحد ولم يظلم على ظهرها أحد، قط تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء.

شبه المنكرين للحوض: قال القرطبي رحمه الله تبعا للقاضي عياض: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله قد خص نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي؛ إذ قد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة ينيف على الثلاثين منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين وفي غيرها بقية ذلك مما صح نقله، واشتهرت رواته، ثم رواه كلا من التابعين أمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم، وهلم جرا وأجمع إلى إثباته السلف وأهل السنة من الخلف وأنكر ذلك طائفة من المبتدعة وأحالوه على ظاهره وغلوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته ولا حاجة إلى تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته لا حاجة تدعو إلى تأويله، فحرفه من حرف إجماع السلف وفارق مذهب أئمة الخلف، والذي أنكره الخوارج وبعض المعتزلة، وممن كان ينكر الحوض عبيد الله بن زياد أحد أمراء العراق لمعاوية وولده الذي يطرد من الحوض ويذاد عنه دلت الأحاديث على أن الذين ارتدوا كالأعراب الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يطردون ويذادون، ولهذا أخبرنا هذه الحديث أنه (يذاد أقوام فيقول النبي أصحابي أصحابي) وفي لفظ (أصحابي أصحابي فيقال للنبي صلى الله عليه وسلم إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) قال بعد السفاريني رحمه الله: إنه يطرد عن الحوض أقوام، أنواع جنس المفترين على الله وعلى رسوله من المحدثين في الدين كالخوارج وسائر أهل الأهواء والبدع المضلة، وثانيا: كل من يرتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم يأذن به، وأشدهم من خالف جماعة المسلمين كالخوارج والروافض والمعتزلة، وثالثا: الظلمة المسرفون في الظلم في الظلم والجور وطمس معالم الحق وإذلال أهله، ورابعا: المتهتكون

في ارتكاب المناهي والمعلنون في اقتراف المعاصي المستخفون بها.

هذا قول السفاريني رحمه الله يرى أن هذه الأنواع كل هؤلاء يطردون عن الحوض، لكن ظاهر الأحاديث الصحيحة أن الذين يزادون إنما هم الكفرة المرتدون على أعقابهم المرتدون عن الديانة هذه هو ظاهر الأحاديث، أما هذه الأنواع التي ذكرها المفترون على الله الكذب وعلى رسوله الكفرة لا بأس، أما كون العصاة يذادون، فهذا محل نظر ويحتاج إلى دليل والله أعلم. نعم.

ص: 157

والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار

الشفاعة التي ادخرها لهم حق كما جاء في الأخبار الشفاعة في اللغة قيل: الوسيلة والطلب، والحق أنها مشتقة من الشفع الذي هو ضد الوتر، فهي إذا الشفاعة في اللغة ضم الشيء إلى الشيء به يصير الشيء زوجا بعد إذ كان منفردا فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له هذه الشفاعة في اللغة مشتقة من الشفع وهي ضم الشيء إلى الشيء به يصير الشيء زوجا بعد إذ كان منفردا، وقيل: الوسيلة والطلب، وأما الشفاعة شرعا واصطلاحا فقيل: سؤال الخير للغير، وقيل: هي التجاوز هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، وقيل: هي مساعدة ذي الحاجة صاحب الحاجة عند من يملك الحاجة، والمشفِّع والمشفَّع المشفع اسم فاعل من شفع يشفع فهو شافع وشفيع وهو الذي يقبل الشفاعة والمشفع اسم مفعول من شفع يشفع وهو الذي تقبل شفاعته.

أقسام الشفاعة: الشفاعة قسمان: مثبتة وهي لأهل التوحيد، ومنفية وهي لأهل الشرك إذا الشفاعة نوعان: شفاعة مثبتة وهي لأهل التوحيد الشفاعة لا تكون إلا للموحدين من مات على التوحيد فله الشفاعة، والثانية: شفاعة منفية، وهي لأهل الشرك الشرك الأصلي كما قال الله:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) } الشفاعة المثبتة والشفاعة المثبتة هي التي لا تكون إلا للموحدين لأهل التوحيد لأهل الإيمان، أما الكفرة لا نصيب لهم في الشفاعة منفية عنهم إذا الشفاعة المنفية للكفرة والشفاعة المثبتة للموحدين أقسام الشفاعة المثبتة ثمانية:

القسم الأول: الشفاعة العظمى وهي التي تكون في موقف القيامة لإراحة الناس من الموقف وهي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ودليلها حديث الصور الطويل وفيه (أن الناس يأتون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم يأتون نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفحص فيقول الله: ما شأنك وهو أعلم؟ قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فأقول: يا ربي وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك، فاقض بينهم فيقول الرب سبحانه وتعالى شفعتك أنا آتيكم فأقضي بينهم قال: فأرجع فأقف مع الناس) .

ولكن الأئمة حينما يوردون أحاديث الشفاعة حديث الشفاعة من طرق متعددة لا يذكرون فيه الشفاعة العظمى في أن يأتي الرب لفصل القضاء كما ورد في حديث الصور مع أن فصل القضاء هو المقصود في هذا المقام ومقتضى سياق أول الحديث بل يعتدون إلى الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار فما الحكمة من ذلك؟ يعني: العلماء إذا ذكروا حديث الشفاعة وصلوا إلى موقف القيامة عدلوا وذكروا الشفاعة في إخراج العصاة من النار ولم يتكلموا في الشفاعة لإراحة الموقف، فما السر وما الحكمة؟.

جواب ذلك أن مقصود السلف في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث مقصودهم هو الرد على الخوارج والمعتزلة والزيدية الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي في النص الصريح في الرد عليهم في بدعتهم هذه المخالفة للأحاديث.

النوع الثاني من الشفاعة الشفاعة لأهل الجنة في الإذن لهم في دخولها، ودليلهم ما في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أنا أول شفيع في الجنة) .

النوع الثالث: الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب ودليله حديث عكاشة بن محصن حين دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب وهو في الصحيحين ومن الأدلة أيضا قول الله -تعالى- في جواب قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: أمتي أمتي قال: (أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن) أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه الذين يدخلون الجنة بغير حساب وهم شركاء الناس في بقية الأبواب.

النوع الرابع: الشفاعة في رفع درجات قوم من أهل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثوابهم ومن دليل ذلك حديث أنس (أنا أول شفيع في الجنة) .

هذه أربعة أنواع ما خالف فيها أحد وافق فيها حتى الخوارج والمعتزلة هذه الأنواع بأن الشفاعة خاصة بالمؤمنين الشفاعة العظمى ما أنكرها أحد وهي الشفاعة لفصل القضاء بين الناس، والشفاعة لأهل الجنة في الإذن لهم في دخولها هذه للمؤمنين، والشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب هذه للمؤمنين، والشفاعة في رفع درجات قوم من أهل الجنة هذه للمؤمنين ما أنكرها الخوارج أو المعتزلة بقي أربعة أنواع هي التي أنكرها أهل البدع.

ص: 158

النوع الخامس: الشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ليدخلوا الجنة ودليلها ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (السابق يدخل الجنة بغير حساب) والمتصل برحمة الله والظالم نفسه وأصحاب الأعراف يدخلونها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. السادس: الشفاعة في قوم قد أمر بهم إلى النار لا يدخلونها ودليلها حديث حذيفة عند مسلم وفيه: (ونبيكم على الصراط يقول: رب سلم)

السابع: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه وهي خاصة بأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ودليلها ما ورد في طرق متعددة أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (إن أبا طالب يحميك ويذود عنك ويؤويك فهل نفعته؟ قال نعم وجدته في غمرات من نار فأخرجته منها إلى ضحضاح من نار يغلي منها دماغه) أسأل الله السلامة والعافية.

الثامنة: الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن دخلوا النار ليخرجوا منها وهذا أدلته متواترة تواتر بهذا النوع الأحاديث من ذلك حديث أنس رضي الله عنه (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وهذه شفاعة تتكرر من النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات كما ثبت في حديث أنس وأنه في المرة الأولى يقال: (أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، وفي الثانية يقال له: أخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، وفي الثالثة يقال له: أخرج من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان، وفي الرابعة يقال له: يقول لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله أو أخرج منها من قال: لا إله إلا الله)

فالمتفق عليه من الأمة الأربعة الأولى، وهذه الأربعة الأخيرة مختلف فيها خالف فيها الخوارج والمعتزلة وأنكروها جهلا منهم بصحة الأحاديث وعنادا ممن علم ذلك واستمر على بدعته الوعيدية، يعني: الخوارج والمعتزلة زعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع بعض الدرجات، والفائدة والحكمة من الشفاعة هي إكرام الشفيع في قبول شفاعته كما في الحديث:(اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) وحكمة إلهام الناس التردد إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم في موقف القيامة يسألون الأنبياء أن يشفعوا لهم، ولم يلهموا لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم من أول وهلة لإظهار فضله وشرفه صلى الله عليه وسلم.

أقسام الناس في الشفاعة ثلاثة:

قسم غلوا في إثباتها فأثبتوها مطلقة وهم المشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وبعض الصوفية فأثبتوا شفاعة الأصنام والأوثان ويجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا.

وقسم غلوا في نفيها فنفوا شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الكبائر، وهم الخوارج والمعتزلة.

وقسم توسطوا وهم أهل السنة والجماعة فيقرون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وشفاعة غيره ويشترطون لها شرطين أخذوهما من النصوص:

أحدهما: إذن الله للشافع أن يشفع ودليله قول الله -تعالى -: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}

والثاني: والثاني رضى الله عن المشفوع له، ودليله قول الله -تعالى-:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وينفون الشفاعة التي تكون للمشرك عملا بقول الله -تعالى-: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ويوفون الشفاعة التي تكون للمشرك عملا بقول الله --تعالى-: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) }

مسألة: الأعمال الموعود عليها الشفاعة قال السفاريني رحمه الله إن الأعمال الموعود عليها الشفاعة خمسة:

الأول: إخلاص التوحيد من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه ودليله حديث أبي هريرة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله. قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه)

الثاني: الدعاء بما ورد بعد سماع النداء يعني: إجابة المؤذن والدعاء بما ورد ودليله حديث جابر: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة)

الثالث: الصبر على لأواء المدينة وجدبها، ودليله حديث سعد بن أبي وقاص:(لا يصبر أحد على لأواء المدينة وجدبها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة)

الرابع: الموت في أحد الحرمين، ودليله حديث سلمان (من مات في أحد الحرمين استوجب شفاعتي وكان يوم القيامة من الآمنين)

الخامس: الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم عشرا في الصباح وعشرا في المساء، ودليله حديث أبي الدرداء:(من صلى علي حين يصبح عشرا وحين يمسي عشرا أدركته شفاعتي يوم القيامة) هذا الذي ذكره السفاريني رحمه الله لكن هذه الأنواع فيها نظر.

ص: 159

أما النوع الأول: وهو إخلاص التوحيد فهذا لا شك فيه أن من أخلص التوحيد لله فهو من أهل الشفاعة وهذا في الحديث في الصحيحين قال: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه) كذلك الثاني إجابة نداء المؤذن إذا أجاب المؤذن وقال هذا الدعاء لكنه مقيد بإخلاص التوحيد يعني: إخلاص التوحيد هذا قيد، وأما الثالث الصبر على لأواء المدينة وجدبها فالحديث إن صح فهو محمول على الموحد الذي اجتنب الكبائر جمعا بين الأحاديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) لا بد من اجتناب الكبائر قال --تعالى-: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) }

أما الموت في أحد الحرمين وهو في حديث سلمان (من مات في أحد الحرمين استوجب شفاعتي وكان يوم القيامة من الآمنين) فلا أظن الحديث يصح ما أظن الحديث يصح، والموت في أحد الحرمين ليس باختيار الإنسان وهذا ليس من عمل الإنسان {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ما أظن الحديث يصح، ولكن لو صح فهو محمول على المؤمن الموحد والمؤمن الموحد لا شك أنه من أهل الشفاعة أنه من أهل الشفاعة، وكذلك الصلاة على الرسول عشرا في الصباح وعشرا في المساء إن صح الحديث فهو محمول على من قال، على من فعل ذلك وكان من المؤمنين الموحدين.

شبه المنكرين للشفاعة:

وهم المعتزلة والخوارج أنكروا الشفاعة وأنكروا أن يخرج أحد من النار بعد دخولها استدلوا أولا بقول الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} وقول الله --تعالى-: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} وقول الله --تعالى-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} دلت هذه الآيات على أن من دخل جهنم من أهل الكبائر يخلد فيها ولا تقبل فيه الشفاعة هكذا قالوا، الرد عليهم أن هذه الآيات مخصوصة بالكفار، ويؤيد هذا سياق الخطاب في الآية الأولى والثالثة، فإن الآية نزلت ردا على اليهود في زعمهم أن آباءهم يشفعون لهم.

الدليل الثاني: استدلوا بقول الله --تعالى-: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) } ووجه الدلالة أنها دلت على أن صاحب الكبيرة لا تنفعه الشفاعة الرد عليهم من قبل أهل السنة أن الآية في الكفار بدليل وصفهم في الآيات السابقة لها في قوله -تعالى-: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) } إلى قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) }

الدليل الثالث: استدلوا بقول الله -تعالى-: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) } ووجه الدلالة أن الآية دلت على أن الظالم ليس له شفيع يطاع، والعاصي ظالم، الرد أن المراد بالظالمين الكفار؛ لأن الظلم إذا أطلق انصرف إلى الكفر إذا الكفر أعظم الظلم بدليل قول الله -تعالى-:{إِن الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) }

الدليل الرابع: قول الله -تعالى-: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} ووجه الدلالة أن الآية دلت على أن من دخل النار فهو هالك لا تنفعه الشفاعة بل هو مبعد ممقوت غير مرضي عنه فلا يدخل في قول الله -تعالى-: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} لأن من أخزاه الله لا يرتضي الرد أن المراد بقوله: تدخل النار يعني: تخلد المراد إنك من تدخل النار يعني: تخلد والمخلد في النار هالك لا تنفعه الشفاعة؛ إذ الخلود في النار خاص بمن مات على الكفر.

ويجاب عن الشبه الثلاث الأولى بجواب آخر وهو أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة المعروفة عند الناس على الإطلاق وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء بدون إذن فيقبل شفاعته، فأما إذا أذن له في أن يشفع فشفع لم يكن مستقلا بالشفاعة بل يكون مطيعا له تابعا له في الشفاعة وتكون شفاعته مقبولة ويكون الأمر كله للآمر المسئول كما قال الله --تعالى-:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} والذي يبين أن هذه هي الشفاعة المنفية قول الله -تعالى-: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وقوله -سبحانه-: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}

ص: 160

والخلاصة أن المنفي الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك ومن شابههم من أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه كما يشفع الناس بعضهم عند بعض فيقبل المشفوع إليه شفاعة شافع لحاجته إليه رغبة ورهبة، وكما يعامل المخلوق المخلوق بالمعاوضة الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين في الآخرة، ولكن قد يخف العذاب عن بعض الكفار بسبب نصرته ومعونته فإنه تنفعه الشفاعة في تخفيف العذاب لا في إسقاط العذاب بالكلية، وهذا خاص بأبي طالب وخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبهذا يتبين أن أدلة الخوارج والمعتزلة إنما هي الأدلة التي يستدل بها كلها في الكفرة.

التوسل طلب الشفاعة والاستشفاع طلب الشفاعة وهي الانضمام وانضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يطلبه ويروجه، الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إلى الله في الدعاء بمعنى التوسل به إذا قال إنسان: أنا أتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو أنا أستشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا فما المراد بالتوسل والاستشفاع؟ وهل هو جائز أو غير جائز؟.

الجواب: أن هذا مجمل فيه تفصيل؛ لأن التوسل والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم يراد به ثلاثة أمور أمران متفق عليهما بين المسلمين والثالث مختلف فيه، أما الأمران المتفق عليهما التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى التوسل بالإيمان به وطاعته فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به وهو أصل الإيمان والإسلام.

الثاني: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بمعنى التوسل بدعائه وشفاعته وهذا أيضا جائز ونافع يتوسل به من دعا له وشفع وهذا كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته، ومن أنكر التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا، وإن كان الثاني أخفى من الأول التوسل بالنبي بمعنى التوسل بالإيمان به وطاعته هذا فرض أو التوسل بدعائه بمعنى أنه يدعو وأنت تؤمن كما في حياته وكما يكون يوم القيامة.

الثالث: التوسل بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته لا عند قبره ولا غير قبره ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية.

فالصواب: أن هذا ممنوع فإذا التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم التوسل بالإيمان به هذا فرض التوسل بدعائه في حياته ويوم القيامة هذا أيضا جائز التوسل بذاته هذا ممنوع، وأما حديث الأعمى الذي فيه قل:(اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد إني أتشفع بك في رد بصري اللهم شفعه في) فالصواب أن الأعمى توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم يدعو النبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤمن فإذا التوسل بالذات هذا ممنوع وكذلك التوسل بالجاه كأن يقول: أتوسل بجاه فلان أو بحق فلان أو بحرمة فلان هذا ممنوع وهذا مبتدع.

ولكن التوسل الشرعي إما بدعاء الحي الحاضر كأن يدعو وأنت تؤمن أو تتوسل بالإيمان والتوحيد -إيمانك بالله ورسوله وتوحيده- أو تتوسل بعملك الصالح كالثلاثة كما توسل الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة توسل أحدهم ببره لوالديه، والثاني توسل بعفته عن الزنا، والثالث توسل بأمانته هذا بعملك الصالح تتوسل بفقرك وحاجتك إلى الله لا بأس كقول موسى:{إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) } هذا لا بأس تتوسل بدعاء شخص حاضر تتوسل بالتوحيد والإيمان تتوسل بأعمالك الصالحة تتوسل بفقرك وحاجتك إلى الله تتوسل بأسماء الله وصفاته لا بأس، أما أن تتوسل بذاته فلان هذا ممنوع تتوسل بجاه فلان هذا ممنوع تتوسل بحرمة فلان هذا ممنوع تتوسل بحق فلان هذا ممنوع. وفي الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم في حديث الشفاعة.

منهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فدفع إليه منها الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي.

ص: 161

اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسماك الله عبدا شكورا فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: نوح إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وذكر كذباته نفسي نفسي نفسي.

اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي نفسي.

اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه قال: هكذا هو وكلمت الناس في المهد فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا.

اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتونني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء ما لم يفتحه على أحد قبلي فيقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأقول: يا رب أمتي أمتي يا رب أمتي أمتي يا رب أمتي أمتي فيقال: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب ثم قال: والذي نفسي بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبُصرى) أخرجاه في الصحيحين بمعناه واللفظ للإمام أحمد.

وقد جاء في حديث الصور التصريح بالشفاعة العظمى ومن مضمونه أنهم يأتون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم يأتون رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفحص فيقول الله ما شأنك وهو أعلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقول: (يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك فاقض بينهم فيقول سبحانه وتعالى: شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم قال: فأرجع فأقف مع الناس) ثم ذكر انشقاق السماوات وتنزل الملائكة في الغمام ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء والكروبيون والملائكة المقربون يسبحونه بأنواع التسبيح قال: (فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه ثم يقول: إني أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع أقوالكم وأرى أعمالكم فأنصتوا لي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) .

إلى أن قال: (فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا: من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم؟ إنه خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا فيأتون آدم فيطلب ذلك إليه وذكر نوحا، ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتي الجنة فآخذ بحلقة الباب ثم أستفتح فيفتح لي فأُحيا ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي عز وجل فخررت له ساجدا فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه ثم يقول الله -تعالى- لي: ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي قال الله وهو أعلم: ما شأنك؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة فيقول الله عز وجل قد شفعتك وأذنت لهم في دخول الجنة) الحديث رواه الأئمة ابن جرير في تفسيره والطبراني وأبو يعلى الموصلي والبيقهي وغيرهما والله أعلم.

ص: 162

والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق.

الميثاق الذي أخذه الله -تعالى- من آدم وذريته حق ما هو الميثاق؟ الميثاق لغة العهد والميثاق شرعا واصطلاحا هو العهد الذي أخذه الله -تعالى- من آدم وذريته، فما هو هذا العهد الذي أخذه الله من آدم وذريته؟ والأصل في ذلك قوله -تعالى-:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) }

ما هو هذا العهد؟ اختلف العلماء في هذا العهد ما هو على قولين مشهورين القول الأول أن الله -تعالى- استخرج ذرية آدم من صلبه من ظهره وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال بأن الله ربهم ثم عاهدهم وأن الله ميزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال فيكون العهد هذا أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد وأنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها ربها فشهدت ونطقت.

القول الثاني: أن الله استخرج ذرية بني آدم بعضهم من بعض من أصلابهم بعد الولادة شاهدون على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، فالإخراج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض، ومعنى أشهدهم على أنفسهم بلسان الحال لا بلسان المقال أي: دلهم على توحيده وفطرهم عليه بأن بسط لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم، فكل بالغ يعلم ضرورة أن له ربا واحدا.

فالمراد بالإشهاد فطرتهم على التوحيد، فكل مولود يولد على الفطرة فقام ذلك مقام الإشهاد فيكون إذا الميثاق هو قوله: إن الله استخرج ذرية آدم من ظهره الأرواح وأنطقها ونطقت وشهدت ثم أعادها، والثاني: أن المراد الأدلة التي نصبها الله كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربا بما فطره الله عليه وبما رصد له من الأدلة، وهي كل شاهد بلسان الحال لا بلسان المقال.

الأدلة التي استدل أهل القول الأول الذين قالوا: إن الله استخرج ذرية آدم وأنطقهم بلسان المقال بما يأتي:

أولا: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية فقال: إنه سئل يعني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها قال: إن الله خلق آدم عليه الصلاة والسلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار)

الدليل الثاني: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال: أي ربي من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال: يا رب من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود قال: يا رب كم عمره؟ قال: ستون سنة قال: أي رب أعطه من عمري أربعين فأخذ الله عليه الميثاق فلما انتهت المدة جاء ملك الموت ليقبض روح آدم فقال: أولم يبق من عمري أربعين؟ قال: أولم تعطها لابنك لداود؟ فنسي آدم ونسيت ذريته وجحد آدم وجحدت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته)

ص: 163

هكذا جاء في الحديث والذي فيه الإشهاد على الصفة التي قالها أهل هذا القول، وردت في أحاديث عن ابن عباس رواه ابن عباس وابن عمر وتكلم فيها بعضهم، ومن الأدلة حديث ابن عباس الذي رواه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام بنعمان وهو واد إلي جنب عرفة - يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلا قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} ) إلى آخر الآية وحديث عبد الله بن عمرو الذي يرويه مجاهد عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قال: أخذوا من ظهره كما يؤخذ المشط من الرأس فقال لهم: ألست بربكم قالوا: بلى قالت الملائكة: شهدنا {أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) } )

وأقوى ما يشهد لصحة هذا القول حديث أنس المخرج في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا؟ قال: فيقول: نعم قال: فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي شيئا) وقد روي من طريق أخرى (قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل) فيرد إلى النار وليس فيه في ظهر آدم.

أدلة القول الثاني الذين يقولون: إن الله -تعالى- نصب الأدلة وأن الإشهاد بلسان الحال قالوا: الآية تدل على هذا القول من وجوه:

أحدها: أنه قال في الآية: من بني آدم ولم يقل: من آدم.

الثاني: أنه قال: من ظهورهم ولم يقل: من ظهره وهو بدل بعض أو بدل اشتمال وهو أحسن.

الثالث: أنه قال: ذريتهم ولم يقل: ذريته.

الرابع: أنه قال: وأشهدهم على أنفسهم ولا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به وهو لا يذكر شهادته إلا بعد خروجه إلى هذه الدار لا يذكر شهادته قبله.

الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمته بهذا الإشهاد إقامة للحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها بدليل قول الله -تعالى-:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}

سادسا: تذكرهم بذلك لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين ولا شك أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت هذا لا يذكره أحد منهم.

سابعا: أن هناك حكمتين في هذا الإشهاد لئلا يدعوا الغفلة أو يدعوا التقليد في قوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} إذ الغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره، ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.

الثامن: أن الله توعدهم بجحودهم وشركهم في ادعائهم التقليد في قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) } والله -سبحانه- إنما يهلكهم بمخالفة رسلهم وتكذيبهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل إذا أخبر أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون.

التاسع: أنه سبحانه أخبر أنه أشهد كل واحد على نفسه واحتج عليه بهذا في غير موضع من كتابه كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وإنما ذلك بالفطرة وهي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

العاشر: أنه جعل الإشهاد آية وهي الدلالة الواضحة المبينة المستلزمة لمدلولها وإنما يتضح ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، وهذا شأن آيات الرب تكون واضحة بينة مستلزمة لمدلولها قال -تعالى-:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) } ويؤيد ما قالوا ويؤيد هذا القول أحاديث منها رواية الحسن عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات قال: فتناول القوم ذرية بعدما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد عليهم مما قال، وقال: ما بال أقوام يتناولون الذرية فقال رجل يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: إن خياركم أبناء المشركين ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها)

قال الحسن: ولقد قال الله في كتابه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة) وفي رواية: (على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد بهيمة جماء هل تحسون فيها من جدعاء)

ص: 164

ومنها حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم)

قالوا: والقول الأول يضعفه أمران إذ هو متضمن لها أحدهما كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم عليهم الحجة يوم القيامة الثاني: أن الآية دلت على هذا، والآية لا تدل عليه بالوجوه العشرة السابقة.

أما الآثار التي استدل بها أهل القول الأول، فأجاب عنها أهل القول الثاني بأنها تدل على أن الله -سبحانه- صور النسمة وقدر خلقها وأجلها وعملها واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثم يوصل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة كما قال ابن حزم: هذا لا تدل الآثار عليه كما أنها لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا، كما قال من قال: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد بل الرب يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولا فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق كشأنه -سبحانه- في جميع مخلوقاته فإنه قدر لها أقدارا وآجالا وصفات وهيئات ثم أخرجها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير السابق.

فالآثار المروية إنما تدل على هذا المقدار وبعضها يدل على أن الله استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة عليهم هناك، وأما الآثار التي في بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار كما في حديث عمر، وفي بعضها الأخذ وإبراء آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد كما في حديث أبي هريرة السابق، والذي فيه الإشهاد على الصفة التي قالها أهل الأول قالوا: إنه موقوف على ابن عباس وابن عمر، وتكلم فيه أهل الحديث، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين وهو معروف بتساهله رحمه الله لكن قال المحقق الشيخ أحمد محمد شاكر: حديث ابن عباس وعمر صحيحان مرفوعان وتعليلهما بالوقف على ابن عباس وعمر غير سديد كما بين ذلك في شرحهما في المسند.

بعد هذا هل بين هذين القولين تناف؟ أو هل يمكن الجمع بين هذين القولين؟ قال شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله: لا تنافي بين القولين فإن الأخذ للذرية من ظهر آدم والإشهاد عليهم كان تقدمة لبعثة الرسل، والحجة إنما قامت ببعثة الرسل فهم الذين ذكروهم بتلك الشهادة فقامت للرسل الحجة على الناس كما لو كان عند الإنسان شهادة ثم نسيها ثم ذكره أحد إياها وقال له: يا فلان اذكر أن عندك شهادة في وقت كذا على كذا وأيضا فإن الأخذ من ظهور بني آدم أخذ من ظهر آدم فإن ظهورهم ظهر له وعلى هذا فلا منافاة بين الأقوال وظاهر هذه الأحاديث، وهذه الأحاديث ظاهرة في أن الله -تعالى- استخرج ذرية آدم أمثال الذر الأرواح وأشهدهم ثم أعادهم سبحانه وتعالى وكون الإنسان لا يذكر الشهادة لا يستلزم أن يكون ذلك وقع، جاءت الرسل بعد ذلك وذكرتهم بالشهادة، والحجة إنما قامت ببعثة الرسل، وعلى ذلك فلا منافاة بين القولين نعم

ص: 165

وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار جملة واحدة فلا يزداد في ذلك العدد ولا ينقص منه

نعم هذا في مبحث القدر وأن الله سبحانه وتعالى علم كل شيء ولا يخفى عليه والمؤلف رحمه الله بحث القدر في مواضع، والقدر بالفتح والسكون لغة مصدر قدرت الشيء إذا أحطت بمقداره، واصطلاحا تعلق علم الله وإرادته أزلا بالكائنات قبل وجودها فلا حاجة إلا وقدرها الله أزلا أي سبق به علم الله وتعلقت به إرادته.

منزلة الإيمان بالقدر من الدين الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان الستة ودليله حديث جبريل وفيه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) فجعله سادس أصول الإيمان، فمن لم يؤمن بالقدر فقد ترك أصلا من أصول الإيمان وجحده فيشبه من قال الله فيهم:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}

فإذا من أنكر القدر فليس بمؤمن بل ولا مسلم فلا يقبل عمله قال العلامة ابن القيم رحمه الله بعد ذكر آثار الإيمان بالقدر: وهذه الآثار كلها تحقق هذا المقام، وتبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه، وهذا في كل كتاب أنزله على رسله. انتهى كلامه رحمه الله كلام عظيم للإمام ابن القيم يقول رحمه الله: هذه الآثار كلها تحقق هذه المقام وتبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه وهذا في كل كتاب أنزله على رسله قال: هذا من لم يؤمن بالقدر ما آمن بالله ليس مؤمنا ما صح إيمانه.

الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، ومن أنكر جحد أصلا من هذه الأصول فقد خرج عن دائرة الإسلام وصار من الكافرين -نسأل الله السلامة والعافية-؛ لأن هذه الأصول أجمعت عليها نزلت بها الكتب وجاءت بها الرسل وأجمع عليها المسلمون فمن جحد واحدا منها فقد خرج عن دائرة المسلمين ودخل في دائرة الكافرين، وهناك آثار جاءت في مقت القدرية لكن هي عند أهل العلم فيها ضعف وهي موقوفة على الصحابة المرفوع منها فيه ضعف والوقف على الصحابة أصح وذلك ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم) وقال ابن عمر رضي الله عنهما: والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم يعني: القدرية الذين ينكرون القدر، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم استدل بالحديث السابق حديث ابن عمر:(الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخره)

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات على غير هذا ليس مني) وفي رواية لابن وهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار) وهذا ذكره الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد.

وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء -لعل الله يذهبه من قلبي- فقال: (لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه، قد ذكر هذا الحديث الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد.

حقيقة الإيمان بالقدر أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك والقدر كما سيأتي أنه سنة الله في خلقه وهو أن الله -سبحانه- أوجد وأفنى وأفقر وأغنى وأمات وأحيا وهدى وأضل وهو شامل لكل شيء في هذا الكون للذوات والصفات والحركات والأفعال، ولكن من أهم ما يجب الإيمان به أن يعلم المسلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

متى خرجت القدرية وما زمن خروجهم ومن أول من تكلم بالقدر القدرية خرجوا في أواخر عهد الصحابة رضوان الله عليهم وأول من تكلم في القدر شخص يقال له: معبد الجهني بالبصرة

مراتب الإيمان بالقدر مراتب الإيمان أربع:

ص: 166

الأولى: مرتبة العلم، وصفة العلم من الصفات الذاتية وهي تتناول الموجود والمعدوم والواجب والممكن والمبتدع، وذلك أن علم الله محيط بالأشياء على ما هي عليه لا محو فيه ولا تغيير ولا زيادة ولا نقص فإن الله يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف يكون؛ إذا علم الله يتناول الموجود ويتناول المعدوم ويتناول الواجب ويتناول الممكن ويتناول المبتدع أيضا، والأدلة على إثباتها من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصى واتفق عليه الصحابة والتابعون ولم يخالف فيها إلا مجوس هذه الأمة.

المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة وهي أن الله كتب مقادير الخلائق وما هو كائن إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ والأدلة على إثباتها قول الله -تعالى- {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} وفي الحديث (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب قال: وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) ومن الأدلة على المرتبتين الأوليين قول الله -تعالى- {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ}

المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة وهي إثبات مشيئة الله النافذة الماضية إثبات نفوذ قدرته ومشيئته وشمول قدرته ومن الأدلة على إثباتها قول الله -تعالى-: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} وقول الله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}

الرابعة: مرتبة الخلق والإيجاد وهي إثبات خلق الله وإيجاده لكل شيء ومن الأدلة على إثباتها قول الله -تعالى-: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} هذه مراتب القدر العلم والكتاب والإرادة والخلق وقد نظمها بعضهم فقال:

علم كتابة مولانا مشيئته

وخلقه وهو إيجاد وتقدير

وخلقه وهو إيجاد وتقدير مذاهب الناس في القدر ثلاثة:

المذهب الأول: مذهب أهل السنة أن كل شيء بقضاء الله وقدره حتى العجز والكيس حتى العجز والكيس يعني: حتى العجز والجد والنشاط كله بقدر كل شيء بقضاء الله وقدره، مذهبهم أن كل شيء بقضاء الله وقدره حتى العجز والكيس وأن الله -تعالى- خلق أفعال العباد كما قال الله -تعالى-:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) } وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } وأن الله -تعالى- يريد الكفر من الكافر ويشاؤه ولا يرضاه ولا يحبه فيشاؤه كونا ولا يرضاه دينا وأنه لا حادث إلا، وقد قدره الله أزلا أي: سبق به علمه، ويعتقد أهل السنة أن الإرادة قسمان: كونية قدرية خلقية ترادف المشيئة ودينية شرعية أمرية ترادف المحبة، ويثبتون أن العبد فاعل حقيقة ولكنه مخلوق لله ومفعول له ولا يقولون: هو نفس فعل الله فيفرقون بين الخالق والمخلوق والفعل والمفعول ويعتقدون العبد تابعة لمشيئة الله في كل شيء مما يوافق ما شرعه وما يخالفه من أفعال العبد وأقواله، فالكل بمشيئة الله، فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه، وما خالفه كرهه كما قال الله -تعالى-:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِن اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}

المذهب الثاني: مذهب القدرية مذهب القدرية، ومن أصولهم نفي خلق الفعل مطلقا نفي خلق الفعل يقولون: أفعال العباد ليست مخلوقة لله أفعالهم من خير وشر وطاعة ومعصية لم يقدرها الله ولم يشأها ولم يخلقها، وغلاة القدرية والرافضة أنكروا أن الله عالم بالأزل، فالقدرية قسمان غلاة ومتوسطون، فالغلاة أنكروا المرتبتين الأوليين علم الله وكتابته، والمتوسطون أنكروا عموم المرتبتين الأخريين آمنوا بالعلم والكتابة اعترفوا صدقوا بالمرتبتين الأوليين ولكن جحدوا عموم المرتبتين الأخريين كما سيأتي، فغلاة القدرية القدامى -وهم قدامى- كمعبد الجهني الذي سأل ابن عمر عن مقالته وكعمرو بن عبيد، فإنهم ينكرون علم الله المتقدم وكتابته السابقة ويزعمون أن الله أمر ونهى وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه بل الأمر أنف أي: مستأنف، وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وكان أول من أظهر ذلك بالبصرة معبد الجهني وأخذ عنه هذا المذهب غيلان الدمشقي فرد عليه بقية الصحابة كعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وواثلة بن الأسقع وغيرهم.

فالقدرية ينقسمون إلى فرقتين:

الأولى: تنكر أن الله سبق علمه بالأشياء مطلقا وتزعم أن الله لم يقدر الأمور أزلا ولم يتقدم علمه بها وإنما يعلمها إذا وقعت، وهؤلاء هم الغلاة قال العلماء: والمنكرون لهذا وهؤلاء الطائفة انقرضوا وهم الذين كفرهم الأئمة، مالك والشافعي وأحمد، وهم الذين قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصبوا وإن أنكروه كفروا.

ص: 167

الفرقة الثانية: المتوسطون أو عامة القدرية الذين أقروا بالعلم والكتاب المقرون بالعلم، وإنما خالفوا السلف في زعمهم أن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال يعني: يقولون: أفعال الله أفعال العباد ما شاءها الله ولا خلقها فيقولون: إن مشيئة الله عامة إلا أفعال العباد وخلق الله لكل شيء عام إلا أفعال العباد، وهذا المذهب مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهؤلاء مبتدعة ضالون لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد يعني: يوجد من العلماء من اعتنق هذا المذهب ومنهم من أخرج له البخاري ومسلم في صحيحهما لكن من كان داعية إلى بدعته لم يخرجوا له، وهذا مذهب فقهاء الحديث كأحمد وغيره ومن كان داعية إلى بدعته فإنه يستحق التعزير لدفع ضرره عن الناس وإن كان في الباطن مجتهدا فأقل عقوبته أن يهجر فلا يكون له مرتبة في الدين فلا يستقضى ولا تقبل شهادته. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله.

فالقدرية والمعتزلة نفاة القدر يثبتون للعبد مشيئة تخالف مشيئة الله أي: تخالف ما أراده الله من العبد وشاءه ويزعمون أن العبد يخلق فعل نفسه استقلالا بدون مشيئة الله وإرادته شبهتهم قالوا: لئلا يلزم على ذلك أن يخلق المعاصي ويعذب عليها فشبهتهم قالوا: فالقدرية على أصل وهو أنه يجب على الله فعل الأصلح للعبد، فلو قلنا: وفعل الأصلح للعبد وهو أن يقدر لهم الطاعة لا المعصية فلو قدر المعصية وعذب عليها للزم عليه أن يخلق المعاصي ويعذب عليها.

الرد عليهم نقول: أنتم في قولكم هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار فإنهم هربوا من شيء فوقعوا في شر منه، فإنه يلزم على قولهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، فإن الله قد شاء الإيمان منه على قولهم، والكافر شاء الكفر فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله وهذا من أقبح الاعتقاد وهو قول لا دليل عليه بل هو مخالف للدليل النقلي والعقلي، وهل أضل ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله؟.

ثانيا: أنه يلزم على قولهم أنه يقع في ملك الله ما لا يريد.

ثالثا: يلزم على قولهم على الإشراك في الربوبية وأن الله ليس ربا لأفعال الحيوانات أن الله ليس ربا لأفعال العباد ومذهبهم أن الله سبحانه ليس على كل شيء قدير وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه وأن الله -سبحانه- لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا، وهذا كما قال بعض العلماء: شرك في الربوبية مختصر؛ ولهذا ورد أن القدرية مجوس هذه الأمة لمشابهة قولهم لقول المجوس، فهم يثبتون مع الله خالقين للأفعال ليست أفعالهم مقدورة لله بل هي قادرة بغير مشيئة الله وإرادته ولا قدرة له عليها بل العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة الله، والله لم يخلق أفعالهم وأنها واقعة بمشيئتهم وقدرتهم دون مشيئة الله، وأن الله لم يقدر ذلك عليهم ولم يكتبه ولا شاءه فشابهوا المجوس في كونهم أثبتوا خالقا مع الله؛ ولهذا سموا مجوس هذه الأمة وسموا قدرية لإنكارهم القدر.

والرد عليهم: يرد عليهم بأن ربوبية الله سبحانه الكاملة المطلقة تبطل قول هؤلاء؛ لأن مقتضى ربوبية الله لجميع ما في هذا الكون من الذوات والصفات والحركات والأفعال، وحقيقة قول هؤلاء أن الله ليس ربا لأفعال الحيوانات ولا تناولتها ربوبيته وكيف تتناول ما لا يدخل تحت قدرة الله ومشيئة وخلقه؟ وهذا قول عامتهم ومتصوفتهم، وهذا القول هو قول شائع في القدرية يعني: هذا القول هذا المذهب إنما هو مذهب عامة القدرية.

المذهب الثالث: مذهب الجبرية أن العبد ليس بفاعل أصلا بل هو مجبور على أفعاله وأفعاله واقعة باختياره وأن الفاعل منه سواه والمحرك له غيره فهو آلة محضة وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات المرتعش هذا قول عامة الجبرية، وأما متصوفتهم ممن يزعمون الترقي في مقام الشهود للحقيقة الكونية والربوبية الشاملة فيرون أن كل ما يصدر من العبد من ظلم وكفر وفسوق هو طاعة محضة؛ لأنها إنما تجري وفق ما قضاه الله وقدره فهو محبوب لديه مرضي عنه، فإنه إن خالف أمر الشرع فقد أطاع إرادته ونفذ مشيئته، وهؤلاء شر من القدرية النفاة وأشد عداوة لله ومناقضة لكتابه ورسله ودينه، وتسمى الجبرية قدرية لاحتجاجهم بالقدر وخوضهم فيه والتسمية على الطائفة الأولى أغلب والجبرية والقدرية في طرفي نقيض

فالقدرية غلوا في نفي القدر حتى أخرجوا أفعال العباد عن خلق الله ومشيئته والجبرية غلوا في الإثبات حتى سلبوا العباد قدرتهم واختيارهم وزعموا أنهم لا يفعلون شيئا البتة، وإنما الله هو فاعل تلك الأفعال حقيقة فهي نفس فعله لأفعالهم والعبيد ليس لهم قدرة ولا إرادة ولا فعل البتة وأن أفعالهم بمنزلة حركات الجماد لا قدرة لهم عليها وإمامهم الجهم بن صفوان.

ص: 168

الرد عليهم أن هذا المذهب باطل ضرورة؛ لأننا نفرق بالضرورة بين حركة البطش وحركة المرتعش ونعلم أن الأول باختياره بالاختيار دون الثاني.

ثانيا: ولأنه لو لم يكن العبد فعل أصلا لما صح التكليف ولا ترتب استحقاق الثواب والعقاب على أفعاله ولا إسناد الأفعال التي تقضي سابقة قصد إليه على سبيل الحقيقة، مثل صلى وصام وكتب بخلاف مثل طال واسود لونه وجرى النهر وذهبت الريح.

ثالثا: النصوص القطعية تنفي ذلك وتنسب الأفعال إلى العباد قال الله -تعالى-: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } وقال -سبحانه-: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} وقال -سبحانه-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فالعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم حقيقة ولا يصح وصف الله بأفعال عباده، فالعبد هو الفاعل حقيقة بجعل الله له فاعلا، منشأ الضلال من شبه الجبرية أنهم يقولون: إننا نقول: إن العبد لا فعل له لئلا يقع في ملك الله ما لا يريد ولئلا يوجد خالق غير الله يعني: عكس شبهات القدرية.

ما هو منشأ ضلال كل منهما؟ التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا هذا هو الضلال يعني: كل من القدرية سووا بين إرادة الله ومحبته وإن كان كل من الطائفتين لم يثبت إلا إرادة القدرية ما أثبته إلا الإرادة الدينية لكن قالوا: كل ما قضاه الله وقدره فهو محبوب له مرضي وأنكروا أن يكون هناك إرادة كونية، والجبرية قالوا: ليس هناك إلا إرادة كونية وكل ما قضاه الله وقدره فهو محبوب له مرضي.

فإذا منشأ ضلال كل منهما التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا، فالإرادة عند الجبرية واحدة وهي الكونية فقالوا: الكون كله بقضاء الله وقدره، فيكون محبوبا مرضيا حتى المعاصي والكفر والإرادة عند القدرية واحدة وهي الشرعية، فقالوا: ما شرعه الله فقد قدره وأمر به وأحبه وليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له فليست مقدرة ولا مقضية بل هي خارجة عن مشيئته وخلقه.

الرد عليهم أن نقول: قد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما المشيئة فمن الكتاب قول الله -تعالى-:{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقال: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وأما نصوص المحبة والرضا فقال -سبحانه-: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) } وقال: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) } عقب ما نهى عنه الشرك والظلم والفواحش والكبر، وفي الحديث:(إن الله كره لكم ثلاثا -قيل: وقال-: وكثرة السؤال وإضاعة المال) وفي المسند (يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)

ومذهب أهل السنة أن المشيئة والمحبة ليس مدلولهما واحدا ولا هما متلازمان بل قد يشاء الله ما لا يحبه، ويحب ما لا يشاء كونه، فالأول كمشيئته لوجود إبليس وجنوده ومشيئته العامة لجميع ما في الكون ما بغضه لبعضهم والثاني كمحبته لإيمان الكفار والفجار، ولو شاء ذلك لوجد ذلك كله فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ويرد على الطائفتين بقول الله -تعالى-:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) } أي: خلقكم والذي تعملون فدلت على أن أفعال العباد مخلوقة لله وعلى أن أفعال لهم حقيقة، ففيها الرد على الجبرية الذين يقولون: إن العبد لا فعل له وفيها الرد على القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه استقلالا ويرد عليهم بحديث حذيفة: (إن الله خالق كل صانع وصنعته) فالله سبحانه خلق الإنسان بجميع أغراضه وحركاته، وهؤلاء الجبرية والجهمية يخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها فيزعمون أن الله -تعالى- لا يفعل لعلة ولا لحكمة، وإنما هو محض مشيئة وصرف إرادة، وكان شيخهم الجهم بن صفوان يقف على الجذمة -قبحه الله- يقف على الجذمة يعني: المصاب بالجذام فيقول: أرحم الراحمين يفعل هذا! إنكارا للرحمة والحكمة.

ص: 169

ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة فاسدة ذكرها ابن القيم رحمه الله من تسعين وجها والذي عليه أهل السنة والجماعة هو إثبات العلة والحكمة في أفعال الله وشرعه وقدره فما خلق شيئا ولا قضاه ولا شرعه إلا لحكمة بالغة وإن قصرت عنها عقول البشر، والأدلة الدالة على إثبات هذا الأصل كثيرة وأنه سبحانه حكيم شرع الأحكام لحكمة ومصلحة فما خلق شيئا عبثا ولا خلق شيئا سدى من ذلك قول الله -تعالى-:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} وقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) } وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} وقال {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } وقال: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) } وأهل السنة توسطوا فأثبتوا أن العباد فاعلون ولهم قدرة على أعمالهم ولهم إرادة ومشيئة وأن الله خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم فأفعال العبد تضاف إليه على جهة الحقيقة والله خلقه وخلق فعله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) } فأخبر أن العباد يعملون ويصنعون ويؤمنون ويكفرون ويفسقون ويكذبون فللعبد مشيئة ولا تكون إلا بمشيئة الله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} والله أعلم نعم اقرأ.

قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وقد علم الله -تعالى- فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار جملة واحدة.

نعم، وهذه الإرادة هذه المرتبة الأولى من مراتب القدر أن الله علم ما يعمله العباد يعلم كل شيء سبحانه كما ثبت يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهو يعلم أفعال عباده وحركاتهم وسكناتهم وأفعالهم وما يشاءن خلق ذلك وكتب ذلك علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ قبل خلقه كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) فالله علم أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم وأعمالهم وخلق ذلك قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء نعم.

فلا يزداد في ذلك العدد ولا ينقص منه.

نعم، لا يزداد ولا ينقص منه مكتوب في اللوح المحفوظ قال -سبحانه-:{وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) } والإمام المبين هو اللوح المحفوظ قال -سبحانه-: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} وهو اللوح المحفوظ، وقال -سبحانه-:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) } وهو اللوح المحفوظ نعم.

أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه

وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه.

نعم كذلك أفعالهم وغير أفعالهم حركاتهم وسكناتهم كلها مكتوبة نعم.

كل ميسر لما خلق له

وكل ميسر لما خلق له.

نعم كل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم الله -تعالى- يسر أهل السعادة للسعادة يسر أهل الجنة للسعادة يعملون بعمل أهل الجنة يموتون على التوحيد والإيمان ويعملون بعملهم ويسر الكفرة للكفر يعملون بعمل أهل النار فيموتون على الكفر فيدخلون النار المؤمنون يسرهم للإيمان والتوحيد والعمل الصالح ويموتون على التوحيد فيدخلون الجنة والكفار يسرهم للكفر وللمعاصي فيموتون على الكفر فيدخلون النار -نسأل الله السلامة والعافية- نعم.

الأعمال بالخواتيم

والأعمال بالخواتيم.

نعم، الأعمال بالخواتيم من ختم له بالتوحيد والإيمان صار من أهل الجنة، ومن ختم له بالكفر صار من أهل النار كما في الأحاديث الصحيحة من أحاديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو من أحاديث الأربعين النووية (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمة أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالله الذي لا إله إلا هو إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) .

ص: 170

هذا يدل على أن الأعمال بالخواتيم ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله هل ما يعمله العباد في شيء فرغ منه أو في شيء مستقبل؟ قال: بل في شيء فرغ منه كتب في اللوح المحفوظ قالوا: يا رسول الله ففيم العمل؟ أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل على الكتاب الأول؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ قول الله -تعالى-:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) } نعم.

ص: 171

وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه

نعم، أصل القدر سر الله في خلقه أفقر وأغنى أوجد وأفنى وأفقر وأغنى وأحيا وأمات وهدى وأضل هذا سر الله في خلقه ما أحد يطلع عليه ولا تسأل نعم.

سر الله في خلقه

لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل.

نعم، ما اطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل هذا سر الله في خلقه يعني: ما يطلعون لماذا أفقر هذا؟ ولماذا أغنى هذا؟ ولماذا أضل هذا؟ ولماذا هدى هذا؟ ولماذا أحيا هذا؟ ولماذا أمات هذا؟ ولماذا أوجد هذا؟ هذا سر الله له الحكمة البالغة مبني على علم وحكمة ما يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وليس لك أن تسأل ولا أن تعترض على الله هذا سر الله في خلقه نعم.

ص: 172

والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان

نعم، ذات التعمق والغوص والبحث في هذا في الحكمة، والاعتراض على الله وسيلة إلى الحرمان ووسيلة إلى الطغيان والذريعة والوسيلة والدرجة متقاربان نعم.

"والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان"

ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان هذه متقاربة الحرمان والخذلان والطغيان كلها متقاربة لكن الطغيان يكون في مقابلة الاستقامة والحرمان يكون في مقابلة النصب والطغيان في مقابلة الاستقامة ذريعة ودرجة أيش أعد والتعمق.

"والتعمق في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان".

نعم الحرمان في مقابلة النصب والخذلان في مقابلة النصب والحرمان في مقابلة الحصول على الظفر والطغيان في مقابلة الاستقامة فالخذلان هو الهزيمة في مقابلة النصب هذه متقاربة، والمعنى أن التعمق والبحث والغوص والسؤال عن سر الله في خلقه وسيلة إلى حرمان الشخص وخذلانه ومجاوزة الحد ووسيلة إلى حرمانه من التوحيد والإيمان الخالص ووسيلة إلى طغيانه وتجاوزه الحد إذا تجاوز حده أنت عبد مأمور بأن تسلم ولا تعترض، فإذا اعترضت وتعمقت صار ذلك وسيلة إلى طغيانك ومجاوزتك لحد العبودية، أنت عبد مأمور فلا تتجاوز حدك ولا تسأل فلا يقال في قدر ال: له لماذا فعل كذا؟ لا يقال: لماذا؟ ولا يعترض على أفعال الله فلا يقال: كيف؟ لا تعترض على الله بـ لماذا ولا كيف لا تعترض على حكمة الله ولا على أفعال الله، فمن اعترض على حكمة الله وقدر الله وقال: لماذا فعل كذا؟ أو قال: كيف فعل كذا؟ فقد تجاوز حده ولم يكن موحدا يخشى عليه الانحراف والهلاك نعم.

ولهذا قال المؤلف: "التعمق في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان الحرمان" كونه يحرم من التوحيد والإيمان، وكذلك كونه يخذل فلا يوفق والطغيان كونه يتجاوز الحد المعنى أن من تعمق واعترض على الله وسأل هذا وسيلة إلى حرمانه من التوحيد والإيمان وهو درجة إلى خذلانه وعدم توفيقه وهي وسيلة أيضا إلى طغيانه ومجاوزته الحد الذي حد له؛ لأنه عبد مأمور نعم.

ص: 173

فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة

نعم، هكذا التحذير ينبغي للإنسان أن يحذر كل الحذر بالتفكير والنظر والوسوسة، والاعتراض على الله لماذا خلق هذا؟ لماذا أوجد هذا؟ لماذا هذا هدى هذا؟ لماذا أضل هذا؟ ما تعترض على الله لماذا جعل هذا غنيا وهذا فقيرا تعترض على الله وتقول: هذا ما يستحق فلان ما يستحق قد يقول بعض العامة: فلان ليس كفئا لذلك هذا نوع اعتراض الله حكيم عليم الله -تعالى- قدر أن يكون هذا غنيا فلا تعترض على الله له الحكمة في ذلك قدر أن يكون هذا فقيرا قدر أن يكون هذا مؤمنا، قدر أن يكون هذا كافرا قدر أن يكون هذا مطيعا قدر أن يكون هذا عاصيا لا تعترض، هذا سر الله في خلقه له الحكمة البالغة فلا تقول: لم؟ ولا تقول: كيف؟ نعم، فإن فعلت فهذا ذريعة ووسيلة إلى حرمانك من التوحيد الخالص وسبب في طغيانك ومجاوزتك الحد نعم.

ص: 174

فإن الله -تعالى- طوى علم القدر عن أنامه

عن أنامه طوى علمه عن أنامه الأنام هم الناس الخلق يعني: طوى الله علم القدر عنهم يعني: أخفاه سبحانه وتعالى طوى بمعنى أخفى الإعلام عن الناس أخفاه عنهم، فهذا مما اختص به -سبحانه- فلا يعلم ذلك لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ما يعلموا لماذا؟ الحكمة في خلق هذا وإيجاد هذا وإغناء هذا وإفقار هذا وإضلال هذا وإماتة هذا، هذا يعيش لمدة طويلة، هذا يعيش عمره ستين وهذا سبعين، وهذا مائة يعيش للمائة، وهذا يعيش للمائة وعشرين وهذا يموت وهو ابن أربعين، وهذا يموت وهو ابن ثلاثين وهذا يموت ابن عشرين وهذا يموت ابن عشر سنوات وهذا يموت طفلا وهذا يموت في بطن أمه ما تقول: لماذا؟ ما تقول لم ولا تقول كيف؟ هذا سر الله في خلقه له الحكمة البالغة سبحانه وتعالى هذا غني عنده ملايين وهذا فقير لا يجد غداء ولا عشاء، له الحكمة البالغة، هذا عالم كبير وهذا جاهل، له الحكمة البالغة، فلا تسأل فلا تعترض فلا تقل: لم؟ ولا كيف؟ هذا سر الله طواه يعني: أخفاه عن أنامه عن الناس نعم.

ص: 175

ونهاهم عن مرامه

نهاهم عن مرامه: عن طلبه وعن السؤال عنه وعن البحث عنه نعم.

الله حكيم لا يسأل عما يفعل

كما قال -تعالى- في كتابه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) } .

نعم لا يسأل سبحانه عما يفعل لحكمته البالغة لكون حكيم لا؛ لأنه يفعل بالقدرة كما تقول: الجبرية لا يسأل لكمال حكمته؛ لأنه حكيم وهم يسألون العباد يسألون؛ لأنهم مأمورون منهيون مكلفون أنت تسأل والله لا يسأل ليس فوقه أحد سبحانه وتعالى هو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله وهو الحكيم فيما يقدره وفيما يشرعه فلا تسأل ولا يسأل سبحانه، وأما العباد فهم يسألون نعم.

ص: 176

فمن سأل لما فعل فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين

من سأل قال: لم فعل كذا؟ لماذا؟ فقال لم؟ لم أغنى هذا؟ لم أفقر هذا؟ لم هدى هذا؟ لم ضل؟ قد رد حكم الكتاب يعني: عارض قول الله في قوله لا يسأل عما يفعل الله يقول: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} وأنت تقول: لماذا فعل؟ هذا رد لحكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين نعم.

ص: 177

فهذا جملة من يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله -تعالى-

نعم هذه الجملة التي يحتاجها من نور الله قلبه من أولياء الله من عباده المؤمنين أحبابه هذه الأمور هذه الذي ذكرها المؤلف رحمه الله في القدر وهي عدم الاعتراض على الله والتسليم لله وعدم التعمق هذا الذي يحتاجه من نور الله قلبه من أوليائه يعني: من أحبابه المؤمنين أولياء الله هم المؤمنون كما قال سبحانه: {أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } نعم.

ص: 178

وهي درجة الراسخين في العلم

نعم الراسخون في العلم هم الذين يسلمون لقضاء الله وقدره ويعلمون أن الله -تعالى- حكيم في شرعه وقدره وفي أمره ونهيه نعم.

ص: 179

لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود وعلم في الخلق مفقود

نعم العلم علمان: علم في الخلق موجود هذا علم الشريعة وتفاصيلها وعلم في خلقه مفقود وهو علم الغيب وعلم القدر الذي غاب طواه الله عن أنامه فلا تسأل عن العلم المفقود فعلم الغيب لا يعلمه إلا الله قال -سبحانه-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) } قال {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} فلا يعلم الأنبياء شيئا إلا ما أعلمهم الله وأطلعهم عليه فالعلم المفقود لا تسأله ولا تطلبه وهو علم الغيب ومن ذلك علم القدر والعلم الموجود علم الشريعة وتفاصيلها نعم.

ص: 180

فإنكار العلم الموجود كفر وادعاء العلم المفقود كفر

إنكار العلم الموجود وهو علم الشريعة من أنكر علم الشريعة كفر علم الشريعة ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله من أنكرها كفر ومن ادعى العلم المفقود وهو علم الغيب كفر من ادعى علم الغيب فهو كافر ومن أنكر الشريعة فهو كافر نعم.

ص: 181

ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود

لا يثبت الإيمان إلا بأن تطلب العلم الشرعي علم الشريعة المقصود بها الكتاب والسنة وتترك طلب العلم المفقود وهو علم الغيب نعم.

ص: 182

ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.

فهذا مبحث فيما يتعلق باللوح والقلم قال: ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه رقم يعني: بجميع ما كتب به القلم، القلم قلم القدر والقلم هو القلم في اللغة ما يكتب بهن والمراد به هنا شرعا القلم الذي خلقه الله وكتب به في اللوح المحفوظ المقادير، واللوح في اللغة ما يكتب عليه والمراد به شرعا اللوح الذي كتب الله مقادير الخلائق فيه، والأدلة على ثبوت اللوح والقلم كثيرة منها قول الله -تعالى-:{بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) } وفي الحديث الذي رواه الطبراني بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء كفتاه ياقوتة حمراء قلمه النور وعرضه ما بين السماء والأرض ينظر الله فيه كل يوم ستين وثلاثمائة نظرة يخلق في كل نظرة ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء) الحديث رواه الطبراني بسند ضعيف.

ولكن قول الله -تعالى-: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) } يكفي وكذلك قول الله -تعالى-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) } قال -سبحانه-: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) } هذا الكتاب هو اللوح المحفوظ ومن الأدلة من السنة حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال يا رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) والحديث صحيح ثابت.

واختلف العلماء في القلم والعرش أيهما أسبق في الوجود على قولين ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهمداني أصحهما أن العرش كان قبل القلم.

والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) ووجه الدلالة أن الحديث صريح أن التقدير إنما وقع بعد خلق العرش فدل على أن العرش مخلوق قبل القلم والتقدير وقع عند أول خلق القلم بلا مهلة يعني: أن الله يعني: أن الله أول ما خلق القلم كتبت فيه المقادير لما رواه أبو داود لما روى أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب) الحديث يعني: أنه عند أول خلقه القلم قال له اكتب بدليل الرواية الأخرى (أول ما خلق الله القلم قال له اكتب) بنصب أول على الظرفية ونصب القلم على المفعولية فيكون قوله (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) جملة واحدة، وأما على رواية رفع الأول والقلم أول ما خلق الله القلم فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم المحسوس المشاهد من هذا العالم ويكون قوله:(أول ما خلق الله القلم وقال له: اكتب) جملتان ليتفق الحديثان.

إذ حديث عبد الله بن عمرو أفاد أن العرش سابق على التقدير وحديث عبادة بن الصامت أفاد أن التقدير مقارن لخلق القلم يوضحه اللفظ الآخر لما خلق الله القلم قال له اكتب فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة فهي توضح أن الأولية بالنسبة للكتابة قد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية الخلاف في العرش والقلم أيهما خلق أولا واختار أن العرش مخلوق أولا فقال رحمه الله:

والناس مختلفون في القلم الذي *** كتب القضاء به من الديان

هل كان قبل العرش أو هو بعده *** قولان عند أبي العلا الهمداني

والحق أن العرش قبل؛ لأنه *** قبل الكتابة كان ذا أركان

فرجح أن العرش مخلوق قبل القلم؛ لأنه قبل الكتابة والعرش كان ذا أركان يعني: موجود وأقلام المقادير التي وردت في السنة:

أولا: القلم العام الشامل لجميع المخلوقات وهو الذي كتب به في اللوح المحفوظ المقادير هذا القلم العام الشامل لجميع المخلوقات وهو الذي كتب به في اللوح المحفوظ المقادير وما بعده من الأقلام كلها مأخوذة منه وتوافقه.

الثاني: القلم الثاني خبر خلق آدم وهو قلم عام أيضا لكن لبني آدم وورد فيه آثار تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم عقيب خلقهم.

ص: 183

القلم الثالث: حين يرسل القلم إلى الجنين في بطن أمه فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.

القلم الرابع: الموضوع على العبد عند بلوغه الذي بأيدي الكرام الكاتبين الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم كما ورد ذلك في الكتاب والسنة أعد.

ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم.

وهذا لا بد منه الإيمان لأن اللوح مذكور في الكتاب العظيم اللوح المحفوظ والقلم كذلك قال بعض العلماء إنه هو القلم الذي أقسم الله به في قوله -سبحانه-: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) } فيجب على المسلم أن يؤمن باللوح المحفوظ، وأن الله كتب فيه مقادير كل شيء ولا يختلف شيء عما كتب في اللوح المحفوظ، اللوح المحفوظ شامل عام لا يخرج عنه أي شيء، كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} والمقادير الأخرى كلها مأخوذة منه راجعة إليه، ولهذا قال:{وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) } وكل من صيغ العموم والإمام المبين هو اللوح المحفوظ {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) }

وهذا من الأدلة على إثباته أن نؤمن باللوح المكتوب الذي كتب فيه المقادير ونؤمن بالقلم الذي يكتب المقادير وبجميع ما فيه رقم رقم يعني: كتب يعني: نؤمن بجميع ما قد كتب به القلم، والقلم كتب في اللوح المحفوظ كل شيء كل شيء مكتوب فيه كل شيء مكتوب فيه كما قال -سبحانه-:{وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) } ومعنى رقم يعني: كتب يعني: نؤمن باللوح ونؤمن بالقلم ونؤمن بجميع ما كتب به القلم في اللوح نعم.

ص: 184

فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله -تعالى- فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله -تعالى- فيه ليجعلوه كائنا لم يقدروا عليه

نعم لأن ما قدره الله وكتبه لا يغير ولا يبدل ولا يستطيع أحد أن يغيره أو يبدله كما قال الله عز وجل {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} وثبت في حديث ابن عباس حين ما علمه وقال له: (يا غلام ألا أعلمك كلمات؟ احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة -إلى أن قال-: واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف) أقلام القدر رفعت الأقلام وجفت الصحف لا يغير ولا يبدل ولو اجتمع الكون كلهم على أن يغيروا شيئا مما كتبه الله ما استطاعوا لا يستطيعون أن يغيروا ما كتب ليجعله غير مكتوب ولا يستطيعون أن يزيدوا فيكتب فيه شيء لم يكتب نعم.

ص: 185

جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة

نعم كما جاء في حديث ابن عباس رفعت الأقلام وجفت الصحف نعم.

ص: 186

وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه

نعم لا بد من الإيمان بهذا لا بد من الإيمان أن تعلم أن الشيء الذي أخطأك لا يمكن أن يصيبك والشيء الذي أصابك لم يكن أن يخطئك لأن كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ كل شيء حتى العجز والكيس من حركاتك وسكناتك وأقوالك وأفعالك وتصرفاتك كلها مكتوبة وكما في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له السابق: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك) نعم.

ص: 187

وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه

هذا لا بد منه كما سبق الأدلة على هذا واضحة على العبد أن يعلم أن كل شيء كل شيء قد سبق به علم الله علم الله شامل لا بد من الإيمان بهذا أن تعلم أن الله أن علم الله سابق في كل شيء وأن الله يعلم ما كان في الماضي وما يكون في المستقبل وما لم يكن لو كان كيف يكون كما قال -سبحانه-: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) } {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) } {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) } .

هذا أيضا في الكتاب الذي هو اللوح المحفوظ، ومن لم يؤمن بعلم الله الشامل، فليس بمسلم؛ ولهذا لما أنكر القدرية الغلاة الأولى لما أنكروا علم الله الشامل كفروا، كفرهم العلماء كمالك والشافعي وأحمد.

وقال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا.

فمن أنكر العلم نسب الله للجهل، ومن نسب الله إلى الجهل كفر، فلا بد من الإيمان بعلم الله الشامل. نعم.

والقدرية الأولى كانوا يقولون: إن الله لا يعلم الشيء حتى يقع؛ فكفروا بذلك نعوذ بالله. نعم.

الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه

وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدَّر ذلك تقديرا محكما مبرما.

نعم قدر تقديرا محكما مبرما، يعني لا يغير ولا يبدل التقدير المبرم المحكم الذي لا خلل فيه، ولا يمكن أن ينقض.

نعم.

ص: 188

ليس فيه ناقض ولا معقب

نعم "ليس فيه ناقض"، يعني: لا يستطيع أحد أن ينقض حكم الله، وما قدره وما كتبه في اللوح المحفوظ لا يستطيع أحد أن ينقضه، ولا يستطيع أحد أن يغيره بزيادة أو نقصان.

ناقض من الانتقاض، يعني لا يستطيع أحد أن ينقض ما قدره الله، ولا يستطيع أحد أن يعقب حكم الله، ولا أن يؤخره ولا أن يقدمه. ما قضاه الله وقدره وكتبه لا يستطيع أحد أن يغيره، ولا يستطيع أحد أن يقدمه أو يؤخره، ولا يستطيع أحد أن يزيد فيه أو ينقص منه نعم.

ص: 189

ولا مزيل ولا مغير

نعم ولا مزيل ولا مغير، يعني لا أحد يزيله، يعني لا أحد ينقض ولا أحد يغير بالزيادة أو النقصان، ولا أحد يزيل أو يمحو شيئا مما كتب. نعم لا يستطيع أحد من المخلوقين. نعم.

لا يستطيع أحد أن يزيد مما قضاه الله وقدره في خلقه السماوات والأرض

ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه.

نعم لا يستطيع أحد أن ينقص، ولا يستطيع أحد أن يزيد مما قضاه وقدره في خلقه السماوات والأرض سبحانه وتعالى.

ص: 190

وذلك من عُقَد الإيمان وأصول المعرفة

من عَقْد الإيمان يعني من اعتقاد الإيمان وأصل المعرفة، هذا من اعتقاد المؤمن اعتقاد المسلم هكذا يعتقد أن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، وأنه لا يستطيع أحد أن يغير ما كتبه الله، ولا أن ينقضه ولا أن يقدمه أو يؤخره، ولا أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن ينقض شيئا منه هذا من عقيدة المسلم، من اعتقاد المسلم من الإيمان من الإيمان الذي يعتقده المسلم.

هكذا لا بد من أن تعتقد هذا من اعتقد أن أحدا من المخلوقين يستطيع أن يغير قدر الله وما كتبه الله، فليس بمسلم من قال: إن هناك أحدا من المخلوقين يستطيع أن ينقض حكم الله أو أن يزيد فيه شيئا أو ينقص منه أو يبدله أو يغيره فهو خارج من تعداد المسلمين؛ لأن هذا من عقيدة الإيمان من عقيدة الإيمان من اعتقاد المسلم من الإيمان الذي يعتقده المسلم أنه لا يستطيع أحد أن يغير ما قضاه الله وقدره في اللوح المحفوظ لا بزيادة ولا بنقصان ولا بتقديم ولا بتأخير ولا بمحو. نعم ولا بغير ذلك نعم.

ص: 191

والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته

نعم إن من الاعتراف بتوحيد الله وربوبيته -هذا لا يتم الإيمان إلا بهذا، لا يتم الإيمان بربوبية الله، وأن الله رب الخلائق ومالكهم ومتصرف فيهم إلا بأن تؤمن بأن قضاء الله وقدره وما كتبه في اللوح المحفوظ نافذ، ولا يستطيع أحد أن يغيره ولا أن يبدله ولا أن يزيد منه ولا أن ينقص منه ولا أن يمحوه، وإلا من لم يؤمن بذلك، لم يؤمن بربوبية الله، ومن لم يؤمن بربوبية الله لم يوحد الله، فيكون كافرا، من توحيد الله أن تؤمن بربوبيته، ومن الإيمان بربوبية الله أن تعتقد بأن ما قضاه الله وقدره، فهو نافذ، ولا يستطيع أحد من البشر أن يغيره، ولا أن ينقص منه ولا أن يزيد منه، ولا أن ينقض شيئا منه ولا أن يبدل نعم.

ص: 192

{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } وكل من صيغ العموم كل شيء مخلوق لله كل شيء في هذا الكون مخلوق لله، فقدره تقديرا يعني سبحانه وتعالى خلقه بتقدير وبإحكام؛ لأن الله -سبحانه- هو الحكيم فيما يخلقه، وفيما يقدره وفيما يشرعه خلقه مبني على الحكمة شرعه، مبني على الحكمة أمره ونهيه مبني على الحكمة، فالله تعالى من صفاته الحكمة، وأنه حكيم من أسمائه الحكيم خلافا للجبرية الذين يقولون: إنه ليس هناك حكمة لله، ويقولون: إن الرب يخبط خبط عشواء، فيجمع بين المختلفين، ويفرق بين المتماثلين -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-، بل الله حكيم خلق كل شيء فقدره تقديرا حكمة. نعم. سبحانه وتعالى نعم.

ص: 193

كذلك كان أمر الله قدرا مقدورا، أمر الله الديني الشرعي مقدر مقدر تقديرا، فهو مبني على الحكمة كما أن الآية الأولى أفادت أن خلق الله مبني على الحكمة، والآية الثانية أفادت أن أمر الله وشرعه ودينه مبني على الحكمة، فهو حكيم سبحانه وتعالى، وأما الجبرية قبحهم الله من الجهمية وغيرهم يقولون: الإرادة الإلهية تخبط خبط عشواء من دون تقدير ومن دون حكمة، فتجمع بين المتفرقات والمختلفات، وتفرق بين المتماثلات، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وهذه الآيات رد عليهم {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } هذا في المخلوقات، وكان أمر الله قدرا مقدورا، هذا في الشرعيات في الأوامر فيما يأمره الله ويشرعه. نعم.

ص: 194

فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما

ويل: شدة العذاب والهلاك، وقيل: وادٍ في جهنم، ويل لمن صار لله في القدر خصيما، ويل لمن كان خصيما لله، خصيم: فعيل بمعنى مخاصم، ويل لمن خاصم الله في قضائه وقدره، فالذي لا يؤمن بقضاء الله وقدره، أو الذي يعترض على الله، يقول: لماذا فعل كذا؟، كيف فعل كذا؟، لماذا أغنى هذا؟، ولماذا أفقر هذا؟، ولماذا أشقى هذا؟، ولماذا أسعد هذا؟، ولماذا هدى هذا؟، ولماذا أضل هذا؟، ولماذا خلق الله كذا؟، لماذا خلق الله الحيات والعقارب؟، لماذا خلق الله السباع والهوام؟، لماذا جعل الله الحر والبرد،؟ لماذا ولماذا؟ يعترض على الله هذا خصيم لله مخاصم لله، ويل له ويل لمن كان لله في القدر خصيما، هذا قدر الله سر الله في خلقه، كيف تخاصم الله، ويل لمن كان خصيما لله. نعم. فويل ويل لمن كان لله في القدر، يعني ما قدره في خلقه وأمره ونهيه، ويل لمن خاصم الله، فاعترض على الله في خلقه وفي شرعه ودينه.

ويل لمن تكلم في القدر وقلبه سقيم

وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما.

نعم أحضر للنظر في القدر قلبا سقيما يعني قلبا مريضا بأن هذا القلب المريض هو الذي يعترض على الله، ويشك في حكمته، ويتهم ربه ويظن به الظنون السيئة كظن المنافقين والكفرة، قال سبحانه:{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) } وقال سبحانه فيه: {ويعذب الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائرة السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) } .

فالمنافقون يظنون أن الله لا يتم هذا الدين، وأن الله يخذل رسوله، وأنه يقضى على هذا الدين، ويقضى على الرسول والصحابة، هذا ظن السوء، كذلك من اتهم ربه، وظن به ظنا سيئا، وأنه ليس حكيما في شرعه أو ليس حكيما في قدره أو اتهم ربه، وقال: إنه ليس حكيما فيما يقدره ويخلقه هذا أحضر للنظر فيه قلبا سقيما قلبه مريض القلب يمرض.

والمرض نوعان: مرض شبهة، ومرض شهوة، مرض الشبهة مرض الشكوك، كمرض النفاق كقوله سبحانه:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) } ومرض الشهوة شهوات المعاصي كقوله سبحانه: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وأسوأ الشبهة ما كانت الشبهة في الصفات، الشبهة تكون في الصفات، وتكون في القدر، فهذا مريض قلبه في القدر، وأيضا القلب قد يموت أيضا قد يموت القلب، كما قال سبحانه:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا} بالكفر {فَأَحْيَيْنَاهُ} بالإيمان، ومن علامة مرض القلب أنه لا يشعر بالمعاصي والمنكرات، لا تؤثر فيه ولا يتأثر ولا ينكر المنكر، ولا يؤلمه جراحات الجهل كونه جاهلا بالله وبأسمائه وصفاته كونه جاهلا بحقائق الإيمان، وبما يجب لله ما يتعلم، هذا دليل على أن القلب مريض، وبعض الناس يشعر بمرضه، لكن لا يستطيع تحمل مرارة الدواء، يعرف أن دواءه طلب العلم وسؤال العلماء ومزاحمة الطلبة في الركب، ولكنه لا يصبر على ذلك، لا يصبر على مرارة الدواء، فيبقى قلبه مريضا -نسأل الله السلامة والعافية.

ويل لمن كان لله في القدر خصيما، وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما، مريض مرض شبهة في القدر، كهؤلاء الذين يعترضون على الله من الجبرية وغيرهم، والذين ينفون حكمة الله كل هؤلاء قلوبهم مريضة سقيمة. نعم.

ص: 195

لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما

التمس يعني طلب بوهمه بتوهمه وظنونه وشكوكه في فحص، يعني في البحث عن الغيب والغيب، كالقدر سر الله هذا غيب مغيب عن المخلوقين، لا يعلمه إلا الله فلا تعترض على الله، ولا تقل لماذا جعل هذا غنيا، وجعل هذا فقيرا؟ لماذا جعل هذا عالما، ولماذا جعل هذا جاهلا؟، لماذا خلق الله كذا ولماذا أوجد كذا؟، ولماذا فضل هذا على هذا؟، ولماذا هذا يموت صغيرا؟، وهذا يموت كبيرا وهذا يموت وسطا؟، لا تعترض على الله إذا كنت تريد أن تبحث في هذا السر، فإنك في هذا الغيب، فإنك تلتمس ببحثك سرا مكتوما عنك كتيما، يعني مكتوما أنت تلتمس في بحثك سرا مكتوما عنك، هذا قدر الله سر لم يطلع عليه أحدا، فكيف تريد أن تلتمس بظنونك وشكوك وشبهاتك وقلبك المريض في بحثك سرا مكتوما؟ فقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما، يعني طلب بتوهمه وشكوكه وظنونه في البحث عن الغيب الذي هو سر الله في خلقه سرا مكتوما كتيما، يعني فعيل بمعنى مفعول. نعم.

ص: 196

وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما

أعاد بما قال فيه، في القدر يعنى بظنونه وتوهمه أفاك، يعني كذابا، أثيم مأثوم، هذه النتيجة، النتيجة أنه لما تعدى حدوده، وطغى وتجاوز الحد، وطلب معرفة الغيب وسر الله في خلقه بوهمه وظنونه، عاد بما قال أفاكا كذابا أفاكا أثيما، يعني مأثوما صار مأثوما وعاصيا، وقد يكون كافرا بسبب تجاوزه الحد وطغيانه، وكما سبق أن المؤلف قال: هذه درجة الطغيان، وسلم الحرمان وذريعة الخذلان ودرجة الطغيان، وهنا قال: عاد بما قال فيه أفاكا يعني كذابا أثيما مأثوما.

فالواجب على المسلم أن يسلم لله في قدره، ولا يبحث عن الغيب ولا عن القدر يعلم أن ربه حكيم، ولا يتجاوز الحد أنت عبد لله مأمور مخلوق لعبادة الله، مأمور بطاعة الله منهي عن معصيته، الزم حدك، لا تتجاوز هذا الحد، وإن تجاوزت حدك فهذا طغيان، وهذا هو الطاغوت الذي يتجاوز به العبد حده، يقال له: طاغوت من الطغيان، فلا تتجاوز حدك ولا تلتمس الغيب، فإنه من خصائص الله وسر من أسراره، وليس إليك سبيل، فإذا تجاوزت حدك، فإنك تعود بمقالتك بسبب تجاوز الحد أفاكا كذابا أثيما مأثوما. نعم.

ص: 197

والعرش والكرسي حق، وهو مستغن عن العرش وما دونه محيط بكل شيء وفوقه وقد أعجز عن الإحاطة خلقه

نعم في هذا بيان أن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين، وأنه سبحانه وتعالى محيط بكل شيء فهو -سبحانه- غني عن العالمين، متصف بالغنى، فلا يحتاج إلى أحد، لا إلى العرش ولا إلى الكرسي ولا إلى السماوات ولا إلى الخلائق أجمعين؛ لأنه سبحانه وتعالى له وصف الغني، فهو غني بالذات كما قال -سبحانه-:{إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) } وقال تعالى: {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) } وهو سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات، قال سبحانه:{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) } وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) } وليس المراد من إحاطته بخلقه -سبحانه- أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، هذا معنى فاسد قد يفهمه البعض، بعض الملاحدة بعض الحلولية الذين يقولون: إن الله حال في المخلوقات، يقولون: معنى إحاطة الله بخلقه، أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخله، هذا باطل.

والمعنى الصحيح للإحاطة، المراد بإحاطة عظمته، سبحانه وسعة علمه وقدرته، وأن المخلوقات بالنسبة إلى عظمته كالخردلة حبة صغيرة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم، السماوات السبع والأرضين السبع في يد الرحمن كخردلة حبة صغيرة في يد أحدكم، ومعلوم ولله المثل الأعلى أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها وأحاط قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها عال عليها فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف، لو شاء سبحانه لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة هو سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، وهو محيط بكل شيء.

والعرش والكرسي مخلوقان عظيمان من مخلوقات الله عز وجل وأصل العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك سمي عرشا؛ لارتفاعه عليه قال ابن عباس رضي الله عنهما: والاشتقاق يشهد لذلك، كقول الله تعالى:{مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} وقال سبحانه: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) } المعروشات: الشجر المعروش ما قام على ساق وغير المعروش ما كان منبطحا على الأرض، فالعين والراء والشين تدل على الارتفاع، فالشجر المعروش ما قام على ساق، وغير المعروش ما كان منبطحا على الأرض؛ ولأن مقعد الملك يكون أعلى من غيره قال الله تعالى عن بلقيس:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) } وقال عن يوسف عليه الصلاة والسلام: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} إذن العرش في اللغة سرير الملك.

والمراد بالعرش في النصوص هنا العرش الذي أضافه الله لنفسه سبحانه وتعالى في مثل قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وقوله سبحانه: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } وهو سرير عظيم ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف هذه المخلوقات سرير عظيم ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف هذه المخلوقات، وهذا العرش وصفه الله بأوصاف وصفه الله بالعظمة.

ص: 198

كما في قوله سبحانه: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) } ووصفه بأنه كريم، كما في قوله تعالى:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } وكما تمدح -سبحانه- بأنه ذو العرش كما في قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) } وقال سبحانه: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ صلى الله عليه وسلمèŒ الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} كما أخبر -سبحانه- أن للعرش حملة، فقال:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وقال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } فأخبر أن للعرش حملة اليوم ويوم القيامة، وأن حملته ومن حوله يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون للمؤمنين كما أخبر -سبحانه- أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض، فقال -سبحانه-:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن للعرش قوائم، ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جزي بصعقة يوم الطور) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العرش فوق الفردوس، الذي هو أوسط الجنة وأعلاها، وأن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها، وفوقه عرش الرحمن، ففي الحديث:(إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العرش مقبب

على هذا العالم مقبب كما في حديث الأعرابي (أتدري ما الله؟ إن عرشه فوق سماواته هكذا وأشار بيده مثل القبة) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن التقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السماوات والأرض.

ففي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) .

فتلخص من مجموع هذه النصوص في أوصاف العرش ما يأتي:

أولا: أن الله مدح نفسه بأنه رب العرش وذو العرش مما يدل على أهمية العرش وميزته على المخلوقات.

ثانيا: وصف العرش بأنه عظيم، وأنه كريم، وأنه مجيد.

ثالثا: وصف العرش بأن له حملة، وأن الملائكة تحف به من حوله.

رابعا: أن العرش هو أعلى المخلوقات وسقفها، فهو فوق الفردوس الذي هو وسط الجنة وأعلى الجنة.

خامسا: أن للعرش قوائم.

سادسا: أن العرش مقبب على العالم.

سابعا: أن العرش سابق وجوده على تقدير المقادير، وأن تقدير المقادير سابق خلق السماوات والأرض، هذا هو الصواب، وذهب بعض أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه الفلك التاسع والفلك الأطلس.

يقول بعض أهل الكلام: إن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة، يعني أن العرش مغلف لجميع العالم، فالعالم كله السموات والأرض كلها في جوف العرش هذا قاله بعض أهل الكلام، لكن هدا ليس بصحيح لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم كما سبق في حديث الصحيحين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العرش مقبب ولم يثبت أنه مستدير مطلقا بل ثبت أنه فوق الأفلاك وأن له قوائم وفي علوه قوله صلى الله عليه وسلم (إذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلاها، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة) وعلى كل تقدير، فالعرش فوق المخلوقات سواء كان محيطا بالأفلاك أو غير ذلك، وهو فوق الكرسي، والكرسي فوق الأفلاك كلها، ونسبة الأفلاك وما فيها إلى الكرسي كحلقة في فلاة، قال تعالى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إذن العرش أعظم المخلوقات، ثم يليه في العظم الكرسي، وهو مخلوق عظيم، وقد نقل بعضهم أن الكرسي هو علم الله، لكن هذا قول ضعيف، ونسبته إلى ابن عباس لم تثبت، فإن علم الله وسع كل شيء كما قال تعالى:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} والله يعلم نفسه، ويعلم ما كان وما لم يكن، ولو فسر الكرسي بالعرش، ولو فسر الكرسي بالعلم في الآية لقيل وسع علمه السماوات والأرض، وهذا المعنى لا يكون مناسبا لا سيما، وقد قال تعالى:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي: لا يثقله ولا يترفه، وهذا يناسب القدرة لا العلم، وقال بعضهم: إن الكرسي هو العرش، لكن الأكثرون أنهما شيئان، إذن الأقوال ثلاثة، قيل: العرش مخلوق، قيل: إن الكرسي هو العرش، وقيل: إن الكرسي مخلوق آخر غير العرش، وقيل: إن الكرسي هو العلم.

ص: 199

والصواب أن الكرسي مخلوق آخر غير العرش، والصحيح أن الكرسي غير العرش، وهو موضع قدمي الرحمن جل جلاله.

قال الإمام عثمان بن سعيد الدرامي رحمه الله: هذا الذي عرفناه عن ابن عباس صحيحا مشهورا، فالكرسي مخلوق عظيم، وهو موضع القدمين لله -سبحانه- كما روى ابن أبي شيبة والحاكم، وقال: على شرط الشيخين، عن ابن عباس في قوله:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أنه قال: "الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله"، وذكر ابن جرير عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في ظهر سلاسل من الأرض) .

والله سبحانه وتعالى استوى على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته، وجاء ذكر استواء الله -سبحانه- على عرشه في سبعة مواضع من القرآن.

الموضع الأول في سورة الأعراف قال تعالى: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} .

الموضع الثاني: في سورة يونس قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} .

الموضع الثالث: في سورة الرعد، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .

الموضع الرابع: في سورة طه قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } .

الموضع الخامس: في سورة الفرقان قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} .

الموضع السادس: في سورة الم السجدة، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .

الموضع السابع: في سورة الحديد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .

والعلو صفة من صفات الله، والاستواء صفة من صفات الله، لكن هل هناك فرق بين العلو والاستواء، العلو صفة من صفات الله، والاستواء صفة من صفات الله، فما الفرق بينهما بين الصفتين؟ يتبين الفرق واضحا بين هاتين الصفتين من وجهين:

الوجه الأول: أن العلو من صفات الذات، فهو ملازم للرب الرب لا يكون قط إلا عاليا، والاستواء من صفات الأفعال، وكان بعد خلق السماوات والأرض كما أخبر الله بذلك في كتابه، فدل على أنه -سبحانه- تارة كان مستويا على العرش وتارة لم يكن مستويا عليه، فاستواؤه على العرش كان بعد خلق السماوات والأرض العرش مخلوق قديم، ولكن استواء الله على العرش كان بعد خلق السماوات والأرض، فالاستواء علو خاص، فكل مستو على شيء عال عليه، وليس كل عال على شيء مستويا عليه.

فالأصل أن علوه سبحانه على المخلوقات وصف لازم له، كما أن عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعل يفعله سبحانه بمشيئته وقدرته، ولهذا قال: ثم استوى.

الثاني: أن العلو من الصفات المعلومة بالسمع والعقل هذا الفارق الثاني، العلو من الصفات المعلومة بالسمع والعقل، وأما الاستواء على العرش فهو من الصفات المعلومة بالسمع لا بالعقل، يعني أن العلو صفة العلو ثابتة بالعقل والشرع كل الناس يثبتون ويدركون أن الله في العلو حتى البهائم أما الاستواء على العرش هذا ما عرف إلا من الشرع، والعلو من الصفات الذاتية من الصفات التي اشتد فيها النزاع صفة العلو من الصفات التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين المخالفين من أهل البدع، فهي من الصفات العظيمة.

وقلت لكم إن هناك ثلاث صفات من أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدعة، ما هي؟ الكلام صفة الكلام، صفة الرؤية، وصفة العلو هذه الصفات هي العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدعة من أثبتها، فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدعة، ولهذا الأشاعرة والجهمية والمعتزلة نفوا العلو، ونفوا الكلام، الأشاعرة أثبتوا الكلام معنى قائم بالنفس، وأثبتوا الرؤية لكن ما أثبتوا الفوقية، ما أثبتوا الجهة، قالوا: يرى لا في مكان.

والعلو في اللغة العربية معناه الارتفاع، والمراد به شرعا: هو وصف ذاتي لله -سبحانه- وصف ذاتي لله -سبحانه-، وهو ثلاثة أنواع، علو الله ثلاثة أنواع: النوع الأول علو الذات ذاته -سبحانه- عالية، النوع الثاني علو القدر، قدره وشأنه عال، النوع الثالث علو القهر والغلبة والسلطان، فله -سبحانه- العلو المطلق بأنواعه الثلاثة علو ذاته فوق مخلوقاته، وعلو قدره وعظمته، وشأنه وعلو قهره وسلطانه، كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية:

والفوق أنواع ثلاث كلها

لله ثابتة بلا نكران

ص: 200

مذاهب الناس في العلو مذاهب الناس في العلو للناس في العلو أربعة مذاهب.

المذهب الأول: افترق الناس في علو الله في العلو على أربعة أقوال:

القول الأول: مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين والأئمة والعلماء، مذهبهم أن الله فوق سمواته، مستوى على عرشه، بائن من خلقه أن الله فوق سمواته مستو على عرشه بائن من خلقه.

المذهب الثاني مذهب معطلة الجهمية ونفاتهم، مذهب معطلة الجهمية ونفاتهم أن الله ليس هو داخل العالم ولا خارجه، ولا هو مباين له ولا محايد له ولا فوقه ولا تحته، فينفون عنه الوصفين المتقابلين الذين لا يخلو موجود عن أحدهما، وهذا يقوله أكثر المعتزلة ومن وافقهم من متأخري الأشاعرة، إذا ماذا يكون، يقولون: الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايد له، يعني: لا منفصل ولا منقطع ولا فوقه ولا تحته، ماذا يكون أشد من العدم يكون ممتنعا أعوذ بالله.

المذهب الثالث: مذهب حلولية الجهمية الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان كما يقوله النجاري، فعلى هذا الجهمية لهم مذهبان: مذهب النفاة ومذهب الحلولية، النفاة ينفون الوصفين، والحلولية يقولون: حال في كل مكان.

المذهب الرابع مذهب طوائف من أهل الكلام والتصوف، أن الله فوق العرش، وهو في كل مكان، فهم يقولون: هو بذاته فوق العرش، وهو بذاته في كل مكان، وهذا موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية.

أدلة السلف والأئمة وأهل السنة على علو الله على خلقه بذاته أولا عرفنا أن العلو ثلاثة أقسام أو ثلاثة أنواع:

النوع الأول: علو الله بالذات، والنوع الثاني: علو القدر والشأن، والنوع الثالث: علو القهر والسلطان، نوعان وافق فيهما أهل البدع، ونوع أنكروه ما هما النوعان اللذان وافقوا؟ علو القدر وعلو القهر، قالوا: نحن نوافق أن الله علو شأنه عال وقهره عال، أما كونه هو بذاته فوق، فهذا نخالفه، ولهذا أهل السنة إنما يستدلون على هذا النوع، فالسلف يستدلون أهل السنة والأئمة على أن علو الله على خلقه بذاته، استدلوا بالنقل الصحيح والعقل الصريح والفطرة السليمة.

أما النقل الصحيح: فمن وجوه كثيرة الأدلة النقلية، يقول العلماء: أدلة العلو تزيد على ثلاثة آلاف دليل تزيد على ثلاثة آلاف دليل، لكن الآن نريد أن نأتي بقواعد يندرج تحتها أفراد كثيرة، نحن نأتي بنوع نوع من الأدلة أنواع أنواع الأدلة، ولكن كل نوع تحته أفراد:

النوع الأول: التصريح والإخبار بأن الله استوى على العرش في سبعة مواضع من كتابه، كلها جاءت بلفظ على، وهي تدل على العلو والارتفاع، وهذا نص لا يقبل الاحتمال ولا الاشتباه في المعنى، هذا نوع كم تحته من أفراد سبعة أدلة سبعة، كلها ثم استوى على العرش، نحن الآن نأتي بقواعد أنواع ما نستطيع أن نحصر الأدلة، أكثر من ثلاثة آلاف، لكن نستطيع أن نأتي بالنوع الذي يدخل تحته أفراد.

النوع الثاني: التصريح بلفظ العلو، وقد تكرر في الكتاب وصف الله بالعلي والأعلى، كقوله:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) } وهذا يدل على ثبوت العلو لله بجميع أنواعه علو الذات وعلو القهر وعلو القدر علوالذات وعلو القدر وعلو القهر.

الثالث: التصريح بالفوقية لله تعالى تارة مقرونة بمن، كقوله تعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وتارة غير مقرونة، كقوله:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فالمقرون بمن نص في معناه لا يقبل التأويل وغير المقرون ظاهر في المراد، ولا يقبل تأويله ممن ادعاه؛ لأن الأصل الحقيقة ودعوى المجاز لا تقبل بغير دليل، ولا دليل هنا.

هذه كلها أنواع ليس الأصل الحقيقة، ودعوى المجاز لا تقبل بغير دليل ولا دليل هنا.

الرابع: هذه كلها أنواع ليس أفراد، التصريح بالعروج إليه، كقوله:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} والعروج معناه الصعود إلى أعلى.

الخامس: التصريح بالصعود إليه، كقوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} والصعود إنما يكون إلى أعلى. السادس: التصريح برفع بعض المخلوقات إليه، كقوله في المسيح عليه الصلاة والسلام:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وقوله في العمل الصالح: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وثبت في الأحاديث والآثار ارتفاع دعوات المضطرين والمظلومين إلى الله، وذلك كله صريح في علو الله وفوقيته.

السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) } {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) } {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) } {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} والنزول إنما يكون ممن هو فوق، وممن هو عال، وهذا يدل على علو الله وارتفاعه.

ص: 201

الثامن: التصريح بأنه في السماء، كقوله:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) } وقول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاه: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمه) الحديث، و"في" إذا فسرت "السماء" بمعنى العلو، فهي للظرفية، وإذا فسرت السماء بالطباق المبنية فهي بمعنى على، كقوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} لأن الله سبحانه لا يحصره ولا يحيط به شيء من خلقه.

التاسع: الإخبار عن رفعته وعظمته بأنه رفيع الدرجات، كقوله: تعالى في سورة غافر: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فقوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} فعيل بمعنى مفعول، أي مرفوعة درجاته برفعته وارتفاعه وعلو شأنه، وليس رفيع هنا بمعنى رافع درجات المؤمنين، فيكون فعيل بمعنى فاعل، كما يقوله المعطلة؛ لأن السياق يأبى هذا القول.

وذلك أن الله -سبحانه- وصف نفسه قبل هذا بالعلو في قوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) } ثم وصف نفسه بأنه رفيع الدرجات ذو العرش، فالأوصاف كلها راجعة إلى رفعته هو وارتفاعه على الخلق، لا إلى رفعه بعض خلقه، ونظير هذا قول الله -تعالى- في سورة المعارج:{مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) } أي المصاعد التي تصعد فيها الملائكة إليه جل سلطانه، وهي الدرجات الرفيعة، والقرآن يفسر بعضه بعضا.

العاشر: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، كقوله تعالى:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) } وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (206) } وقوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) (38) } وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم

(لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) واختصاص هذه المخلوقات بأنها عنده دليل على علو الله على خلقه، وإلا لم يكن لتخصيص هذه الأشياء بأنها عنده فائدة، ولكان أشرف المخلوقات وأدناها في القرب عنه والعندية سواء.

الحادي عشر: الإخبار بأن من أسمائه الظاهر، وتفسير أعلم الخلق به له بنفي فوقية شيء عليه كقوله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} مع قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه واستفتاحه:

(اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء..) فتفسير الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم للظاهر بنفي ضده تقرير لإثبات العلو، إذ الظهور والعلو متلازمان، فكل ما علا الشيء ظهر، وبان كما أنه كلما سفل الشيء خفي واستتر.

الثاني عشر: إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه إلى السماء حين خطب الناس يوم عرفة مخاطب ربه بقوله: (اللهم اشهد ثلاث مرات) وذلك يدل على علو الله على خلقه، وإلا لم يكن لتخصيص السماء بالإشارة فائدة.

الثالث عشر: ما ثبت في القرآن والسنة المتواترة من رؤية أهل الجنة لربهم عز وجل كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } وقوله صلى الله عليه وسلم (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته) فالرؤية قطعية الثبوت بالأدلة المتواترة، والرؤية المعقولة عند جميع بني آدم تقتضي مقابلة الرائي للمرئى ومواجهته له.

الرابع عشر: سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بأين، كقوله صلى الله عليه وسلم للجارية:(أين الله قالت: في السماء قال: أعتقها فإنها مؤمنة) .

ص: 202

والسؤال عن الله بأين وإقرار الجارية على أن الله في السماء يدل دلالة قطعية على إثبات علو الله على خلقه، والرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يسأل سؤالا فاسدا، ومنزه -أيضا- عن أن يقر الجارية أيضا على جواب فاسد، ويلزم من يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب الجارية بما تعرف، وإن كان على خلاف الحقيقة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين الحق وأن يكون قد أقر على الخطأ وما شاه صلى الله عليه وسلم من ذلك يعني المعطلة هذا الحديث في صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية:(أين الله قالت: في السماء قال: اعتقها فإنها مؤمنة) ماذا يجيب أهل البدع أهل البدع أهل البدع يقولون: لو رفعت إصبعك إلى السماء عند الجهمي والمعتزلي قطع أصبعك، يقول: لا تشير إليه هو في كل مكان، فاحذر أن ترفع أصبعك عند جهمي أو معتزلي، وليس عندك أحد يقطع أصعبك يقول: هذا تنزيه لله، هذا قذف الله جعلته محصور في مكان، فقيل لهم الرسول قال: أين الله؟ وأين يسأل عنها في المكان، قالوا: هذا الرسول صلى الله عليه وسلم سأل سؤالا فاسدا، هذا يخاطبها بقدر عقلها، هذه جارية جاهلة ما تفهم أعجمية، فهو يخاطبها على مقدار فهمها، وإلا مقصود الرسول أن يقول: من الله؟ مقصوده أن يقول: من الله؟ لكن قال: أين لأن من غير من يسأل بها عن الشيء، أما أين يسأل بها عن المكان، فقالوا: أين الله؟ مقصود الرسول أن يقول: من الله، لكن الجارية ما تفهم خاطبها بمقدار عقلها أعجمية، الرسول أفصح الخلق ما يقدر أن يقول: من الله طيب، ولما قالت: في السماء، قال الرسول:(أعتقها فإنها مؤمنة) قالوا: أقرها على جواب فاسد موافقة لعقلها.

هذه أربعة عشر نوع من أيش؟ أربعة عشر نوع من الأدلة، وكل نوع تحته من تحته أفراد، هذه تعتبر قواعد المبتدعة، هل سكتوا اعترضوا على هذه الأدلة، وأجاب أهل السنة على اعتراضهم، وهناك أدلة عقلية لأهل السنة واعتراض وجواب عليه، وهناك أيضا أدلة من الفطرة واعتراض من النفاة وجواب عليه، وهناك أدلة أيضا عقلية لأهل البدع للنفاة وجواب عليهم.

في مبحث العلو اعترض النفاة على الأدلة التي استدل بها أهل السنة والجماعة على علو الله على خلقه، وهي كما سبق أربعة عشر نوعا من الأدلة اعترض نفاة العلو على الأدلة العقلية التي تثبت علو الله على خلقه بذاته، وتأولوها بأن المراد بها علو وفوقية القدر والعظمة والشأن وعلو وفوقية القهر والغلبة والسلطان، تأولوها بأنها بأن المراد بها علو وفوقية القهر، علو وفوقية القدر والعظمة والشأن والخيرية والأفضلية وفوقية القهر والغلبة والسلطان لأن النفاة يثبتون هذين النوعين من العلو، وهو علو القهر وعلو القدر، والخلاف بينهم وبين أهل السنة في علو الذات قالوا: فمعنى قوله سبحانه: {فَوْقَ عِبَادِهِ} خير من عباده وأفضل، ومعنى كونه فوق العرش، خير من العرش وأفضل، قالوا: ونظير ذلك قول العرب: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم، والذهب فوق الفضة، قالوا: هذا يدل على أن المراد بالفوقية الخيرية الأمير فوق الوزير، يعني في الرتبة، والدينار فوق الدرهم، والذهب فوق الفضة في الرتبة، وليس المراد أن ذاك فوق ذاك.

أجاب أهل الحق أن هذا الاعتراض بأجوبة:

الجواب الأول: أن صرف الفوقية إلى فوقية الرتبة، أو إلى فوقية القهر، حمل حمل على المجاز حمل للفظ على مجازه، وهذا خلاف الأصل، إذ الأصل الحقيقة وحقيقة الفوقية علو ذات الشيء على غيره، والمجاز على خلاف الأصل؛ لأنه خلاف الظاهر، فلا يقبل إلا بدليل يخرجه عن حقيقته، كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون أنه قال:{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) } فهذه فوقية قهر وغلبة؛ لأنه قد علم أنهم جميعا مستقرون على الأرض، ولا يلزم مثل ذلك في قوله تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} إذ قد علم بالضرورة أنه وعباده ليسوا مستوين في مكان واحد، حتى تكون فوقية قهر وغلبة.

الجواب الثاني: أن تفضيل الله -سبحانه- على أحد من خلقه لم يذكر في القرآن ابتداء، وإنما ورد ذلك في سياق الرد على من اتخذ ذلك الشيء ندا لله -تعالى-، وعبده معه، وأشركه في إلهيته، فبين الله -سبحانه- أنه خير من تلك الآلهة، وذلك الند كقوله -تعالى-:{آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) } وقوله سبحانه: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) } وقوله حكاية عن سحرة فرعون: {إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) } وقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) } وذلك لأنه يحسن في الاحتجاج على المنكر وإلزامه من الخطاب الداحض لحجته ما لا يحسن في سياق غيره، وهذا أمر واضح لا ينكره إلا غبي.

ص: 203

الجواب الثالث: أن تأويل الفوقية بالخيرية والأفضلية تأويل باطل، إن تأويل الفوقية والخيرية والأفضلية بهذه النصوص تأويل باطل تنفر منه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة، إذ ليس في ذلك تمجيد، ولا تعظيم ولا مدح، والرب -سبحانه- لم يتمدح في كتابه وعلى لسان رسوله ولا على لسان رسوله بأنه أفضل من العرش، وأن رتبته فوق رتبة العرش، وأنه خير من السماوات والعرش والكرسي، ولو تكلم أحد بمثل هذا الكلام في حق المخلوق لكان مستهجنا جدا، فلو قال شخص: الشمس أضوء من السراج، والسماء أكبر من الرغيف، أو أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله أفضل من اليهود لعد ذلك من ساقط القول، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه لما فيه من التنقص، كما قيل في المثل السائر

ألم تر أن السيف ينقص قدره *** إذا قيل يوما هو أمضى من العصا

وإنما يصح أن يقال هذا المعنى في حق المتقاربين في المنزلة، وأحدهما أفضل من الآخر، وإذا كان يقبح كل القبح أن تقول: الجوهر فوق قشر البصل، ويضحك من ذلك العقلاء للتفاوت العظيم الذي بينهما فالتفاوت بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم.

الجواب الثالث: أن الله أثبت لنفسه الفوقية المطلقة، وهي تشمل فوقية الذات وفوقية القدر وفوقية القهر، فمن أثبت البعض ونفى البعض، فقد جحد ما أثبته الله لنفسه، وتنقصه ولا يلزم من إثبات فوقية الله بذاته على كل شيء على السماء وعلى العرش، أن يكون هناك شيء يحويه أو يحصره أو يكون محلا له أو وعاء أو ظرفا، تعالى الله عن ذلك، بل هو -سبحانه - فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق، وكل شيء مفتقر إليه، وهو الحامل بقوته وقدرته للعرش ولحملة العرش، وهو {اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) } .

أما أدلة السلف والأئمة وأهل السنة على إثبات العلو من العقل الدليل الأول دليل العقل بطريقة السبر والتقسيم وطريقة السبر والتقسيم عند المناطقة وأهل الأصول، هو أن يحصر المستدل الأقسام التي يتصورها العقل، ثم يبطلها واحدا بعد واحد، ويبقي ما قام عليه الدليل. وصياغة الدليل هكذا: أن يقال: إن الله لما خلق الخلق لا يخلو إما أن يكون خلقهم داخل ذاته، أو خلقهم خارج ذاته، أو خلقهم لا داخلها ولا خارجها، هذه هي الأقسام التي يتصورها العقل.

أما الأو ل وهو كونه خلقهم داخل ذاته، فباطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا، لأنه يلزم عليه أن يكون الرب محلا للحوادث والخسائس والقاذورات، تعالى الله عن ذلك، وهذا قول الحلولية وهو الكفر.

وأما الثالث وهو كونه خلقهم لا داخل ذاته ولا خارجه، فهو ممتنع عقلا؛ لأنه يلزم عليه نفيه تعالى وعدم وجوده بالكلية؛ لأنه وصف له بارتفاع النقيضين، وهو وصف له بالعدم، وهو قول معطلة الجهمية ونفاتهم وهو كفر، فتعين الثاني، وهو كونه خلقهم خارج ذاته الكريمة، فلزمت المباينة، ويلزم حينئذ أن يكون عليا على خلقه مستويا على عرشه؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون مباينا لهم من فوقهم أو من تحتهم أو أمامهم أو خلفهم أو عن إيمانهم أو عن شمائلهم وأليقها بالله صفة العلو؛ لأنها من صفات المدح والكمال اعترض نفاة العلو اعترض نفاة العلو المعطلة على هذا الدليل، قالوا: نحن ننكر بداهته، لأنه أنكره جمهور العقلاء، فلو كان بديهيا لما كان مختلفا فيه بين العقلاء، بل هو قضية وهمية خيالية، وأجيب عن هذا الاعتراض أن يقال: إن العقل إن قبل قولكم فهو لقول الله أعظم قبولا، وإن رد العقل قولنا فلقولكم أعظم ردا، فإن كان قولنا باطلا في العقل، فقولكم أشد بطلانا، وإن كان قولكم حقا مقبولا في العقل، فقولنا أولى بأن يكون مقبولا في العقل، فإن دعوى الضرورة مشتركة، فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك، فإذا قلتم تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا: هي من حكم الوهم لا من حكم العقل، قابلناكم بنظير قولكم وعامة فطر الناس ليسوا منا ولا منكم موافقون لنا على هذا.

فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولا ترجحنا عليكم، وإن كان مردودا غير مقبول بطل قولكم بالكلية، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضا وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم، والمراد بالسمع الأدلة الشرعية الكتاب والسنة، وقولكم إن أكثر العقلاء يقولون بقولنا وينكرون بداهة دليلكم، يقال: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم شيء موجود ليس هو فوق العالم، وأنه لا مباين له ولا حال في العالم طائفة من النظار، وهم قلة وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام الجهم بن صفوان واتباعه.

ص: 204

الدليل الثاني من الأدلة العقلية لأهل السنة على علو الله على خلقه دليل بطريق الملازمة والاستثنائية، وهذا يسمى دليل بطريق الملازمة والاستثنائية، لو كان كذا لكان كذا، لكنه لا يكون كذا فيكون كذا صياغة الدليل هكذا لو لم يتصف الرب بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم، لو لم يتصف الرب بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم، لكان متصفا بضدها؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده وضد الفوقية السفول، وهو مذموم على الإطلاق، وهو مستقر إبليس وجنوده، يعني يقال: لو لم يكن الرب متصفا بفوقية الذات لكان متصفا بضدها، وهو السفول، لكنه لا يتصف بالسفول، فدل على أنه متصف بالفوقية، اعترض نفاة العلو على هذا الدليل العقلي، فقالوا: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، وأجيب على هذا الاعتراض بجوابين، الجواب الأول لو لم يكن قابلا للفوقية والعلو لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيا فقط لزم إثبات علوه وفوقيته.

الجواب الثاني: لو لم يقبل العلو والفوقية، لو كان الرب لا يقبل العلو والفوقية، لكان كل عال على غيره أسفل منه، فإنما يقبل العلو فإن ما يقبل العلو أكمل مما لا يقبله، والعلو والفوقية صفة كمال لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصا، ولا يوجب محذورا، ولا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا، فنفي حقيقته عين الباطل.

أدلة السلف والأئمة وأهل السنة على إثبات العلو من الفطرة استدلوا بالفطرة الدليل الفطري أن يقال: هو أن الخلق جميعا بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء إلى السماء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى، وهذا أمر فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقوه من الرسل يجدون في قلوبهم طلبا ضروريا يتوجه إلى الله، ويطلبه في العلو، فالجارية الأعجمية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم (أين الله قالت: في السماء) إنما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله عليها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وشهد لها بالإيمان.

اعترض نفاة العلو على هذا الدليل باعتراضين.

الاعتراض الأول: قالوا: إن رفع الإنسان يديه عند الدعاء إنما كان لكون السماء قبلة للدعاء كما أن الكعبة قبلة للصلاة، لا لأن الله في العلو، وأجيب عنه بأجوبة، الجواب الأول أن ادعاءكم أن السماء قبلة للدعاء، لم يرد بذلك كتاب ولا سنة، ولم يقله أحد من سلف الأمة، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على سلف الأمة وعلمائها.

ثانيا: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة فمن ادعى أن للدعاء قبلة فمن ادعى أن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فهو مبتدع في الدين ومخالف لجماعة المسلمين.

ثالثها: أن القبلة هي ما يستقبلها العابد بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذكر والذبح، أما الموضع الذي ترفع الأيدي إليه فلا يسمى قبلة لا حقيقة ولا مجازا.

رابعها: لو كانت السماء قبلة للدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع.

خامسا: أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وأمر التوحيد في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، لا يقبل التحويل.

سادسها: أن المستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك بخلاف الداعي فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده.

الاعتراض الثاني للنفاة: قالوا: إن دليلكم منقوض بوضع المصلي جبهته على الأرض مع أن الله ليس في جهة الأرض، فكما أن المصلي يضع جبهته على الأرض، والله ليس في جهة الأرض، فكدلك يرفع يديه في الدعاء، والله ليس في العلو، وأجيب عنه بأن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له والخشوع، وليس قصده بأن يميل إليه؛ لأنه تحته، هذا لا يخطر في قلب ساجد إلا ما حكي عن بشر المريسي -قبحه الله- أنه سمع وهو يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

شبهة نفاة العلو، شبه نفاة العلو نفاة العلو، لهم شبه لهم شبه عقلية، وليس عندهم أدلة شرعية.

ص: 205

الشبهة الأولى: قالوا: إن إثبات العلو يلزم منه أن يكون الله في جهة، وإذا كان في جهة كان محتاجا إلى تلك الجهة، وكان محدودا ومتحيزا، والله منزه عن ذلك منزه عن الجهة، ومنزه عن أن يحتاج إلى شيء، ومنزه عن كونه محدودا متحيزا، أجاب أهل الحق عن هذه الشبه بجوابين بجوابين، جواب إجمالي وجواب تفصيلي، الجواب الإجمالي: أن يقال: تنزيهكم الله عن الجهة إن أردتم أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف بالمظروف، فنعم هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى، فليس هو داخل المخلوقات، وإن أردتم بالجهة ما وراء العالم، فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات.

الجواب التفصيلي أولا: إن لفظ الجهة يراد به أمر موجود، ويراد به أمر معدوم، فإن أريد بالجهة، فإن أريد بالجهة أمر موجود جهة وجودية، وأن الله داخل السماوات، أو داخل العرش، فهذا باطل فإن الله لا يدخل في ذاته شيء من مخلوقاته، ولم يدخل في مخلوقاته شيء من ذاته، بل هو مباين للمخلوقات منفصل عنها، يعني إن أردتم بالجهة أمرا وجوديا العرش السماوات أو العرش، وأنه داخل فيها هذا باطل، وإن أردتم بالجهة أمرا عدميا، وأردتم بالعرش، ويراد بكونه فيها أنه عليها، كما قيل في قوله: إنه في السماء، أي: على السماء، وعلى هذا التقدير، فهو فوق الموجودات كلها، وهو غني عنها لم يكن عنده جهة وجودية يكون فيها، فضلا عن أن يحتاج إليها.

فالخلاصة: أنه إن أريد بالجهة أمر وجودي، فالله ليس فيه شيء من مخلوقاته، وإن أريد بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فذاك ليس بشيء، ولا هو أمر وجودي حتى يقال: إنه محتاج إليه، أو غير محتاج إليه.

ثانيا: إنما يكون محتاجا إلى الجهة، أن يقال: إنما يكون محتاجا إلى الجهة لو كان في جهة مخلوقة تحويه وتحصره وتحيط به، أما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم لم يلزم ذلك، بل لا يلزم من كون المخلوق فوق مخلوق آخر أن يكون محتاجا إليه، فإن الله خلق هذا العالم بعضه فوق بعضه، ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس محتاجا إليها، والسحاب فوقها، وليس محتاجا إليها، والسماوات فوق السحاب، والهواء والأرض، وليست محتاجة إلى ذلك، والعرش فوق السماوات والأرض وليس محتاجا إليها، فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء سبحانه وتعالى محتاجا إلى مخلوقاته، لكونه فوقها عاليا عليها.

وثالثا: أن لفظ الجهة أن لفظ الجهة والحيز والحد والجسم والجوهر والعرض ألفاظ اصطلاحية فيها إجمال وإبهام، قد يراد بها معان متعددة، ولم ترد هذه الألفاظ في الكتاب والسنة بنفي ولا إثبات، ولا جاء عن أحد من سلف الأمة وأئمتها فيها نفي ولا إثبات، فالمعارضة بها ليست معارضة بدلالة شرعية، بل الأئمة الكبار أنكروا على المتكلمين وجعلوهم من أهل الكلام الباطل المبتدع، ومعروف موقف الإمام الشافعي رحمه الله وحكمه على أهل الكلام موقفه من أهل الكلام، وحكمه عليهم أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام، وصح عن إمام الأئمة في زمانه محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه قال: من لم يؤمن بأن الله فوق سمواته، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وطرح على مذبلة.

الشبهة الثانية لنفاة العلو: هذه الشبهة جاءت على لسان الرازي أبو عبد الله الرازي، يقول أبو عبد الله الرازي في صياغة هذا الدليل مكون من مقدمتين ونتيجة يقول: لو كان الله تعالى في جهة فوق لكان سماء ولو كان سماء لكان مخلوقا لنفسه وذلك محال فكونه في جهة فوق محال.

المقدمة الأولى: لو كان الله في لو كان الله تعالى في جهة فوق لكان سماء أثبت هذه المقدمة بدليلين أو بأمرين:

الأمر الأول أن الاشتقاق اللغوي للسماء من السمو وكل شيء سماك فهو سماء، وعرف القرآن متقدم عليه.

الثاني: لو كان الأمر الثاني الذي يثبت في هذه المقدمة يقول أبو عبد الله الرازي: لو كان الله فوق العرش؛ لكان من جلس في العرش ونظر إلى فوق لم يرى إلا نهاية ذات الله تعالى، فكان نسبة نهاية السطح الأخير من ذات الله إلى سكان العرش كنسبة السطح الأخير من السماوات إلى سكان الأرض، فثبت أنه لو كان فوق لكان سماء، أما المقدمة الثانية: ولو كان سماء لكان مخلوقا لنفسه، دليلها أن السماء مخلوقة بنص القرآن قال تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} وقال {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فلو كان سماء لكان مخلوقا لنفسه، وذلك محال، فكونه في جهة فوق محال. أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه الشبهة بقوله لما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء

ص: 206

كان مفهوما من قوله: إنه في السماء، أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء، وكذلك الجارية لما قال لها:(أين الله؟ قالت: في السماء) إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها، وإذا قيل العلو، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به؛ إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله كما لو قيل: العرش في السماء فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق، وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك كان المراد أنه عليها، كما قال تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وكما قال: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} وكما قال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} ويقال: فلان في الجبل وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء منه.

ثانيا: ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به، فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحدا يفهمه من اللفظ، ولا رأينا أحدا نقله عن واحد، ولو سئل سائر المسلمين: هل يفهمون من قوله سبحانه ورسوله: إن الله في السماء أن السماء تحويه؟ لبادر كل أحد منهم أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا وإذا كان الأمر هكذا، فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ، أن يجعل أحد ظاهر اللفظ شيئا محالا لا يفهمه الناس منه، ثم يريد أن يتأوله، بل عند المسلمين إن الله في السماء، وهو على العرش واحد، إذ السماء إنما يراد به العلو بمعنى أن الله في العلو لا في السفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وسع السماوات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقا يحصره ويحويه.

ثالثا: وما في الكتاب والسنة كقوله سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ونحو ذلك قد يفهم منه بعضهم أن السماء هي نفس المخلوق العالي العرش، العرش فما دونه، فيقولون: قوله: في السماء، يعني على السماء، كما قال:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي على جذوع النخل، وكما قال:{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي على وجه الأرض ولا حاجة إلى هذا، بل السماء اسم جنس للعالي، لا يخص شيئا، فقوله: في السماء، أي في العلو دون السفل، وهو العلي الأعلى، فله أعلى العلو، وهو ما فوق العرش، وليس هناك غيره العلي الأعلى سبحانه وتعالى.

ص: 207

ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وكلم الله موسى تكليما إيمانا وتصديقا وتسليما

نعم ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وكلم الله موسى تكليما، في هذا ثبوت الخلة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وثبوت التكليم لموسى عليه الصلاة والسلام.

والدليل على إثبات صفة الخلة من الكتاب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) } وليست الخلة خاصة بإبراهيم كما قد يوهم البعض كلام المؤلف، صدق الكلام على قول المؤلف وحبيب الرحمن.

وقلنا: إن الرسول له وصف الخلة، وإن كلام المؤلف الطحاوي يوهم بأن الخلة لن تثبت لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قاله بعض الناس، والصواب أنها ثابتة لنبينا صلى الله عليه وسلم كما في الحديث (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا) فالخلة ثابتة لإبراهيم ولمحمد -عليهما الصلاة والسلام-.

والخلة بالنسبة للرب صفة تليق بجلال الله وعظمته، كما أن التكليم ثابت لموسى عليه الصلاة والسلام، وليس خاصا بموسى بل شارك نبينا صلى الله عليه وسلم موسى في صفة التكليم، فإن الله كلم نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من دون واسطة؛ ولهذا قال الله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } وفي الحديث الآخر: (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا) فهذان الحديثان يبطلان قول من قال: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد -عليهما الصلاة والسلام-، ويثبتان لنبينا صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المحبة، وهي الخلة، بل الخلة خاصة بالخليلين الخلة خاصة بالخليلين بمحمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

أما المحبة فهي عامة كما سبق، ككل المتقين ككل المتطهرين {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) } {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) } والخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب، ومن كمالها أنها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة، وسميت خلة لتخللها شغاف القلب كما قيل:-

قد تخللت مسلك الروح مني *** ولذا سمي الخليل خليلا

والنسبة بين الخلة والمحبة العموم والخصوص، فالخلة أخص من مطلق المحبة، والمحبوب بها لكمالها يكون محبوبا لذاته، لا لشيء آخر إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ففيها كمال التوحيد وكمال الحب، فنبينا صلى الله عليه وسلم له كمال التوحيد وكمال الحب، وكذلك إبراهيم.

والمحبة والخلة بالنسبة للرب سبحانه وتعالى كسائر صفات الله كما يليق بجلال الله وعظمته، والجهمية أنكروا حقيقة المحبة والخلة من الجانبين من جانب الله ومن جانب العبد، قالوا: شبهتهم في ذلك قالوا: المحبة لا تكون إلا لمشاكلة ومناسبة بين الحب والمحبوب، هذه شبهة لا تكون إلا لمناسبة لمشاكلة ومناسبة بين الحب والمحبوب ولا مناسبة بين القديم والمحبوب توجب المحبة، لا مناسبة بين المخلوق والخالق، وهذا باطل أي أعرف مناسبة رب عبد، فالرب سبحانه وتعالى مربي خلقه مربيهم بنعمه، والعبد يعبد الله لذاته هذه مناسبة، فقولهم: لا مناسبة هذا من أبطل الباطل.

والجهمية يقولون: إن معنى الخليل ليس معناها المحب، معنى الخليل الفقير المحتاج، ولا شك في فساد هذا التأويل، إذ لا يكون حينئذ لتخصيص إبراهيم بالخلة معنى، فإن الفقر والاحتياج وصف لازم لجميع الخلق لزوما ذاتيا لا يمكن الانفكاك عنه، لو كان معنى الخلة الفقر كان كل الناس فقراء إلى الله، ما في أحد ما هو فقير كل المخلوقات، وبذلك يكون وصف الخلة متناولا لجميع الناس حتى عبدة الأوثان الذين هم ألد أعداء الرحمن فقراء إلى الله.

وكذلك أنكرت الجهمية حقيقة التكليف تكليف الله لبعض عباده من وراء حجاب، كما هو ثابت لموسى عليه الصلاة والسلام، وكما ثبت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وزعموا أن تكلم الله لموسى، إنما هو تكليم خلقه في الشجر أو في الهواء، تعالى الله عما يقولون علو كبيرا. نعم.

ص: 208

ونؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة على المرسلين

نعم، نؤمن بالملائكة الموكلين والكتب والرسل واليوم الآخر هذه أصول الإيمان، أصول الدين أصول الدين، وأصول الإيمان هي الإيمان بالله والإيمان بالملائكة والإيمان بالكتب والإيمان بالرسل والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر، هذه أصول الدين وهذه أركان الإيمان، فهي داخلة في حقيقة الإيمان وماهيته، من لم يؤمن بهذه الأركان الستة، فليس بمؤمن، والأدلة كثيرة عليها من كتاب الله، قال الله تعالى:{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فسمى الله من آمن بهذه الجملة مؤمنا، قال تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} فجعل الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة.

وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) } فجعل الكافرين من كفر بهذه الجملة.

ومن السنة حديث جبرائيل حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) أما الإيمان بالملائكة، فنؤمن بهم جملة وتفصيلا، فنؤمن بمن سمى الله في كتابه منهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ورضوان ومالك خازن النار، من سمى الله منهم تفصيلا، ونؤمن إجمالا بأن لله ملائكة سواهم لا يعلم أسمائهم وعددهم إلا الله {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} لأنه لم يأت في عددهم نص، فنؤمن بهم جملة.

وأما الأنبياء والمرسلون فنؤمن بهم جملة وتفصيلا، فنؤمن بمن سمى الله في كتابه من رسله وهم خمس وعشرون ذكروا في آية النساء {* إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وفي آية الأنعام:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) } وَقَالَ {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا} إلى آخر الآيات.

ونؤمن بأن الله تعالى أرسل رسلا سواهم وأنبياء لا يعلم أسماءهم إلا الله، وورد في حديث أبي ذر أن عدد الأنبياء مائة ألف وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، ويحتاج إلى ثبوت الحديث، والحديث فيه ضعف، فنؤمن بهم، وعلى كل حال لا بد من الإيمان الإجمالي نؤمن بهم جملة، قال الله تعالى:{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} وأما أولو العزم من الرسل، فأحسن الأقوال فيهم أنهم المذكورون في آية الأحزاب والشورى، في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) } وقوله سبحانه في سورة الشورى: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .

وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا بد من الإيمان به تفصيلا زائدا على الإيمان بتلك الرسل، الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم تصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالا وتفصيلا.

وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين، فنؤمن بهم جملة وتفصيلا، نؤمن بمن سمى الله في كتابه من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وصحف إبراهيم وصحف موسى، نؤمن بها تفصيلا، ونؤمن بأن الله بأن الله تعالى سوى ذلك كتبا أنزلها على أنبيائه ورسله، لا يعرف أسمائها وعددها إلا الله؛ لأنه لم يأت في عددها نص، فنؤمن بها جملة، وأنها حق وهدى ونور وشفاء، وأما الإيمان بالقرآن فالإقرار به واتباع ما فيه وتحكيمه في كل شيء في المنشط والمكره واليسر والعسر، مع اعتقاد بأنه أفضل الكتب وأنه ناسخ لها ومهيمن عليها، وذلك أمر زائد على غيره من الكتب ذلك أمر زائد على غيره من الكتب.

كذلك أيضا نؤمن باليوم الآخر، وبما يكون قبل ذلك في البرزخ من سؤال منكر ونكير، ومن نعيم القبر وعذابه، وكذلك نؤمن بالبعث بعث الأجساد وإعادة الأرواح إليها والحشر والنشر والوقوف بين يدي الله وتطاير الصحف ووزن الأعمال والحوض والصراط والجنة والنار، كل هذا نؤمن به، ويؤمن به أهل الحق.

ص: 209

أما أعداء الله من الفلاسفة وغيرهم، فلهم تفصيلات في هذه الأصول الستة، وحقيقتهم أنهم لم يؤمنوا بالله ولا بالملائكة ولا بالكتب ولا بالرسل ولا باليوم الآخر ولا بالقدر خيره وشره، ومعتقدهم في ذلك وتفصيلاته يؤجل إن شاء الله.فيما بعد.

أصول الإيمان عند الفلاسفة سبق الكلام على أصول الإيمان عند أهل السنة، وأن أهل الحق يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وأن هذه الأصول أصول الدين جاءت بها الرسل والكتب المنزلة، وأجمع عليها المسلمون، ومن أنكر شيئا منها فهو خارج عن ملة الإسلام، وليس في عداد المسلمين بإجماع المسلمين، لكن الفلاسفة المتأخرين أرسطو واتباعه وابن سينا ملاحدة زنادقة ينتسبون إلى الإسلام، وهم براء منه، وتأثر بهم كثير من أهل الكلام من المبتدعة وغيرهم، حتى إن ابن سينا يقدسه يعظمه كثير من الناس، ويسمونه الفيلسوف الإسلامي، وهو كما قال.. كما نقل عنه ابن القيم رحمه الله في غزل الأحوال أنه قال: أنا وأبي من دعوة الحاكم العبيدي، والحاكم العبيدي رافضي خبيث، لا يؤمن بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر ولا القدر.

فالفلاسفة ينتسبون إلى الإسلام، والإسلام بريء منهم، ولم يجرءوا على على إنكار أصول الدين صراحة؛ لأنهم لو أنكروا أصول الإيمان لعرف الناس كفرهم ووضح كفرهم، لكنهم لبسوا لأنهم منافقون ذنادقة يتسترون بالإسلام، فهم يثبتون هذه الأصول في اللفظ، يقولون: أصول الدين خمسة الإيمان بالله ويدخل فيها الإيمان بالقدر والإيمان بالملائكة والإيمان بالكتب المنزلة والإيمان بالرسل والإيمان باليوم الآخر في اللفظ، لكن في الحقيقة لا يثبتون هذه الأصول، فهم لم يؤمنوا في الحقيقة بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا باليوم الآخر.

أما إيمانهم بالله وهو أصل الدين، فمذهبهم أن الله -سبحانه- موجود وجودا مطلقا يعني موجود في الذهن لا ماهية له ولا حقيقة، فلا يعلم جزيئات بأعيانها إذ لو علم جزيئات للحقه الكلل والتعب من تصور تلك المعلومات، ولكان كاملا بنفسه لا بغيره، بل يعلم الكليات، والكليات أمر ذهني ولا يسأل عندهم بقدرته ومشيئته، وليس له صفة البتة لا يثبتون له السمع ولا البصر ولا العلم ولا القدرة، وليس العالم مخلوقا لله بمشيئته وقدرته، بل العالم عندهم لازم لله أزلا وأبدا، لا يستطيع انفكاكا عنه، فليس العالم مخلوقا بقدرته ومشيئته، بل العالم مقارن لله ليس متقدما عليه ينكرون أن يكون متقدما عليه في الزمان، بل هو مقارن له، وهو العلة المحرك لهذا العالم، وهو أول هذا العالم، والعالم ملازم لله أزلا وأبدا، فهو لازم له كلزوم النور للسراج هذا مذهبهم في الإيمان بالله، وحقيقة مذهبهم الإيمان بالله أنهم لم يثبتوا وجودا الله إلا في اللفظ، وفي الذهن فقط، لم يثبتوا ربا هذا رب الفلاسفة، ربهم معدوم لا وجود له؛ لأن الموجود لا بد أن يتصف بصفة ولا بد أن يكون له اسم وهؤلاء يسلبون جميع الأسماء والصفات، فتبين بهذا أنه لا وجود له إلا في الذهن، وفي اللفظ وأما الملائكة، فإنهم لا يثبتون الملائكة على أنهم أشخاص محسوسة، تنزل وتذهب وترى وتجيء، وتخاطب الرسول وتصفه عند ربها، وتكتب أعمال العباد ولها وظائف كما جاء في الكتاب والسنة، بل يقولون: إنها هي العقول، وهي مجردات ليست داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، ولا هي أشخاص تتحرك وتصعد وتنزل، وتدبر وتكلم وتكتب أعمال العبد، وتجيء وترى وتخاطب الرسول، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان، وإذا تقربوا إلى أهل الإسلام، وإذا تقرب بعضهم إلى أهل الإسلام قالوا: الملائكة هي القوى الخيرة الفاضلة التي في العبد والشياطين، هي القوى الشريرة الرديئة هذا إذا تقربوا إلى أهل الإسلام، وإلا فإنهم

يقررون أن الملائكة عبارة عن أشكال نورانية، يتصورها النبي في نفسها أشباح وأشكال نورانية، وإذا تقربوا إلى أهل الإسلام قالوا: هي أمور عقلية، فالأمور العقلية تبعث على الخير وعلى الإحسان وعلى الشجاعة وعلى الإيثار.

والشياطين هي القوى الشريرة الرديئة التي تبعث على الإيذاء وعلى الظلم وعلى الطغيان وعلى العدوان أمور عقلية ليست معنوية، هذا إذا تقربوا إلى أهل الإسلام وإلا فهم يقررون أنها أشخاص وأشباح وأشكال نورانية يتصورها النبي في ذاته، وأما الإيمان بالكتب فإنهم لا يثبتون الكلام لله عز وجل ولا يثبتون أن الله تكلم بكلام أنزله على أنبيائه ورسله، ولم يكن لله كلام لا يثبتون لله كلاما ولا كتبا أنزلها، ولا يصفون الله بالكلام فلا يكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر، يعني أمورا معاني تفيض معاني، ليس بحرف ولا صوت معاني تفيض من العقل الفعال على قلب بشر ذاك النفس طاهر متميز عن النوع الإنساني متميز عن النوع الإنساني بخصائص.

ص: 210

وهذا هو الرسول، وهو الإيمان بالرسل، فلا يؤمنون بأن الله تعالى اصطفى أنبياءه ورسله، بل يقولون: إن الرسالة ليست هبة من الله وليست محنة، بل هي صنعة من الصناعات وكسب يكسبه الإنسان وسياسة من السياسات، ولها ثلاث خصائص ثلاث خصائص من توافرت فيه فهو نبي، فالنبي رجل عبقري متميز عن غيره بهذه الخصائص.

الخصيصة الأولى قوة الإدراك وسرعته؛ لينال من العلم أعظم مما يناله غيره رجل ليس عاديا، بل هو رجل عبقري ذكي عنده سرعة الإدراك والحفظ لينال من العلم أكثر مما يناله غيره.

الثاني الصفة الثانية: قوة النفس أو قوة التأثير، ليؤثر بها في سيول العلم بقلب صورة إلى صورة، يعني يكون عنده قوة تأثير يشبه الساحر بحيث يقلب ما ارتسم في ذهنك من صورة إلى صورة، وأنت لا تشعر من قوة تأثيره من قوة نفسه، فإذا ارتسم في ذهنك صورة كذا وكذا، نوعها كذا وكذا استطاع أن يقلبها من صورة إلى صورة بقوة تأثيره وقوة نفسه.

الصفة الثالثة: قوة التخيل وقوة التخيل قوة التخيل، حتى يتخيل الملائكة الذين هم العقول، يتخيلهم في صورة شيء محسوس أمامه، كأن أمامه رجل يخاطبه، فيتخيل أن الملائكة أشخاص، وقد يقوى الوهم فيسمع أصواتا تخاطبه.

جزى الله فضيلة الشيخ خيرا على ما قدم، وجعله في ميزان حسناته.

وأما الإيمان بالكتب فإنهم لا يثبتون الكلام لله عز وجل ولا يثبتون أن الله تكلم بكلام أنزله على أنبيائه ورسله، ولم يكن لله كلام، لا يثبتون لله كلاما ولا كتبا أنزلها، ولا يصفون الله بالكلام، فلا يكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر، يعني أمورا، معاني تفيض، معاني ليس بحرف ولا صوت، معاني تفيض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر متميز عن النوع الإنساني، متميز عن النوع الإنساني بخصائص، وهذا هو الرسول وهو الإيمان بالرسل، فلا يؤمنون بأن الله -تعالى- اصطفى أنبياءه ورسله، بل يقولون: إن الرسالة ليست هبة من الله، وليست محنة، بل هي صنعة من الصناعات، وكسب يكسبه الإنسان، وسياسة من السياسات، ولها ثلاث خصائص، ثلاث خصائص من توافرت فيه، فهو نبي، فالنبي رجل عبقري متميز عن غيره بهذه الخصائص.

الخصيصة الأولى قوة الإدراك وسرعته؛ لينال من العلم أعظم مما يناله غيره، رجل ليس عاديا، بل هو رجل عبقري ذكي، عنده سرعة الإدراك والحفظ؛ لينال من العلم أكثر مما يناله غيره.

الثاني

الخصيصة الثانية: قوة النفس أو قوة التأثير؛ ليؤثر بها في سيول العلم بقلب صورته إلى صورة، يعني يكون عنده قوة تأثير، يشبه الساحر بحيث يقلب ما ارتسم في ذهنك من صورة إلى صورة، وأنت لا تشعر من قوة تأثيره، من قوة نفسه، فإذا ارتسم في ذهنك صورة كذا وكذا، نوعها كذا وكذا، استطاع أن يقلبها من صورة إلى صورة بقوة تأثيره وقوة نفسه.

الصفة الثالثة: قوة التخيل، وقوة التخييل قوة التخيل حتى يتخيل الملائكة الذين هم العقول، يتخيلهم في صورة شيء محسوس أمامه، كأن أمامه رجل يخاطبه، فيتخيل أن الملائكة أشخاص، وقد يقوى الوهم فيسمع أصواتا تخاطبه، وليس لذلك حقيقة، وقوة التخييل، يعني يستطيع أن يخيلها للآخرين، حتى يرونها ويسمعون خطابها، فإذا وجدت هذه الخصائص، فهو نبي، وقالوا: إن النبوة لا كل أحد يستطيع أن يدركها بالمراس والكسب والخبرة، وقالوا: إن النبوة ليست بالدرجة العالية، بل هناك ما هو أعلى منها؛ لأن النبوة سياسة العامة، ولكن الفلسفة أعلى منها لأنها سياسة الخاصة، ولهذا فإن بعض الفلاسفة لا يرضون بها بالنبوة، ويقولون هي مرتبة ليست عالية، وإنما أعلى منها الفلسفة، ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب ابن هود وابن سبعين وغيرهما، هذا إيمانهم بالرسل، فالرسول أو النبي رجل عبقري، توفرت فيه هذه الخصائص، أما وهذه الخصائص أي تحصل بالاكتساب، ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين وابن هود وأضرابهما، قالوا والنبوة صنعة من الصنائع، بل من أشرف الصنائع كالسياسة، بل هي سياسة العامة عندهم، وكثير منهم لا يرضى بها، ويقول الفلسفة نبوة الخاصة، والنبوة فلسفة العامة.

وأما الإيمان باليوم الآخر، فهم من أشد الناس تكذيبا وإنكارا له في الأعيان وفي الخارج، فعندهم أن هذا العالم لا يخرج، ولا تنشق السماوات، ولا تنفطر، ولا تنكدر النجوم، ولا تكور الشمس والقمر، ولا يقوم الناس من قبورهم، ويبعثون إلى جنة ونار، وكل هذا عندهم لا حقيقة له، بل هي أمثال مضروبة لتفهيم العوام، لا حقيقة لها في الخارج كما يفهم منها أتباع الرسل، يقول هذه من تخييلات هذا العبقري من سياسته، فيسوس الناس ويخبر أن هناك بعث وجزاء وجنة ونار حتى يتعايش الناس بسلام، وحتى لا يعتدي أحد على أحد، هذا من سياسته، وهو يكذب، لكن يكذب لهم ولا يكذب عليهم، قالوا: لا بأس هو يكذب لهم، ولا يكذب عليهم.

ص: 211

فرق بين من يكذب لك، ومن يكذب عليك، فهو يكذب للناس لأجل مصلحة الناس، وإلا فليس هناك بعث ولا جزاء ولا نشور ولا جنة ولا نار، هذا مذهب الفلاسفة في أصول الإيمان، وبهذا يتبين أنهم ملاحدة زنادقة، ينتسبون إلى الإسلام نفاقا، فيكون من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، ونعوذ بالله إذا ماتوا على ذلك، نسأل الله السلامة والعافية.

الإيمان بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة الإيمان بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة

ونؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين.

يعني هذه الأصول هي أصول الدين أصول الإيمان وأركان الإيمان، من لم يؤمن بها فهو كافر خارج من ملة الإسلام، الإيمان بالله والإيمان بالملائكة، الإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالقدر خيره وشره. نعم.

ص: 212

ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين

نعم نؤمن بأهل القبلة بأهل القبلة، ونؤمن أنهم من أهل الإسلام، ولا نخرجهم من ملة الإسلام، من هم أهل القبلة؟ أهل القبلة هم من يدعي الإسلام، وينتسب إلى الإسلام، ويستقبل القبلة في الصلاة وفي الذبح وفي الدعاء، وإن كان من أهل البدع ولو كان من أهل البدع، وإن كان من أهل البدع أو من أهل المعاصي ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فنسميهم مسلمين ونسميهم مؤمنين، ما داموا معترفين ومقرين بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مصدقين بأخباره وأقواله، ولم يكذبوا بشيء مما جاء به، هؤلاء نسميهم المسلمين إلا من فعل ناقضا من نواقض الإسلام، فارتد، أما إذا التزم بالإسلام، ونطق بالشهادتين، وكان يصلي ويستقبل القبلة، والتزم ظاهرا بالإسلام، هذا نسميه مسلما، ولا نكفره، ولو كان عنده بعض البدع، ولو كان عنده بعض المعاصي، إلا إذا ارتكب مكفرا، كأن أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة، أو سب الله أو سب الرسول أو استهزأ بالله، كما سيأتي، أما إذا لم يفعل شيئا من ذلك؛ فنسميه مسلما ونسميه مؤمنا، ولا نكفره، والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا) . نعم.

ص: 213

ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله

نعم لا نخوض في الله، يعني لا نخوض في ذات الله، في الكيفية كيفية الله كيفية ذاته.

يعني لا يعلمها إلا هو، قال سبحانه:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) } فلا نخوض في ذات الله، ولا نخوض في الكنه، في كنه الصفات، ولا نقول شيئا، طبعا ما كيفية الاستواء؟ ما كيفية العلو؟ ما كيفية العلم؟ ما كيفية السمع؟ ما كيفية البصر؟ ما كيفية المحبة؟، لا يعلمها إلا الله، ولهذا لما قيل للإمام مالك عن الاستواء، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا يقال في جميع الصفات، فلا نماري فلا نخوض في ذات الله، ولا نخوض في كنه الصفات؛ لأن هذا لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى.

كذلك لا نجادل ولا نخاصم، ولا نورد الشبه في دين الله وشرعه، ولا نعترض على الله في تشريعه ولا في أوامره ولا في نواهيه. نعم، بل نسلم، سلم الأمر لله، نحن عبيد مأمورون، لا نعترض على الله، لا نقول لماذا شرع كذا؟ لماذا كذا وكذا؟ لماذا قطع شرع قطع يد السارق؟ لماذا كان كذا؟ لا نعترض على الله، هذا نحن نعلم أن الله حكيم، وأنه ما شرع شيئا إلا لحكمة، وأنه ما شرع ذلك إلا لما فيه مصلحة، في مصلحة ورحمة للعباد، فنسلم لله، ونعلم أن ربنا حكيم حكيم، فيما يخلق، وحكيم فيما يشرع حكيم فيما يأمر به وينهى عنه، فلا نجادل، ولا نعترض، ولا نورد الشبه نعم.

ص: 214

ولا نجادل في القرآن

قوله: لا تجادل في القرآن، يحتمل معنيين: المعنى الأول يحتمل أنّا، أنه أراد: أنا لا نقول فيه كما قال أهل الزيغ، واختلفوا في قولهم: إن القرآن مخلوق، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، بل نقول: إن القرآن كلام رب العالمين، ما نقول ما قاله أهل الزيغ: إنه مخلوق، بل نقول: إنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.

المعنى الثاني يحتمل أنا، أنه أراد أنا لا نجادل في القراءة الثابتة، بل نقرؤه بكل ما ثبت بكل ما ثبت وصح، وكل من المعنيين حق، ويشهد لصحة المعنى الثاني ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال (سمعت رجلا قرأ آية، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بخلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، فعرفت في وجهه الكراهه وقال كلاكما محسن، لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) وهناك فرق بين ترتيب سور القرآن وترتيب آياته، ترتيب سور القرآن لم يكن واجبا منصوصا عليه على الصحيح، بل كان بالاجتهاد من الصحابة ولهذا كان ترتيب مصحف ابن مسعود رضي الله عنه على غير ترتيب المصحف العثماني، وأما ترتيب الآيات، فهو ترتيب منصوص عليه، فليس لأحد أن يقدم آية علي آية، وجمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد اجتماعا سائغا جائزا، وقيل واجبا.

اختلف العلماء في الأحرف السبعة ما هي؟ فقال جمهور

جمهور السلف من العلماء والقراء: إن قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة رخصة من الله، وقد جعل الاختيار إليه في أي حرف اختاره، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد جمعهم الصحابة وعثمان على حرف واحد اجتماعا سائغا لا واجبا، هم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في جمعهم له ترك لواجب ولا فعل لمحظور.

والثاني أن الترخص في الأحرف السبعة صار منسوخا إذ أن الترخص كان في أول الإسلام لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تزللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم، وهو أوفق لهم وأرفق بهم أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة عرضة جبريل القرآن، وترك ما سواه فكان اجتماعهم واجبا، وذهب طوائف من الفقهاء وأهل الكلام إلى أن المصحف مشتمل على الأحرف السبعة، والجمهور على أن المصحف مشتمل على حرف واحد. نعم، وأما ما روي عن ابن مسعود أنه يجوز القراءة بالمعنى فغير صحيح؛ لأنه إنما قال: قد نظرت إلى القراءة، فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم: هلموأقبل وتعال واقرأ واجمع علمتم، أو كما قال. نعم.

ص: 215

ونشهد أنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم

كما سبق في مبحث الكلام وأن القرآن كلام الله، وأنه أن الله تكلم به وسمعه جبرائيل وألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما قال:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} الروح الأمين هو جبريل لتكون من المنذرين. نعم.

القرآن كلام الله لا يساويه شيء من البشر

وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ولا نقول بخلقه.

نعم، هذا هو حق، وهو معتقد الصحابة والتابعين وأهل السنة، أن القرآن كلام الله، وأنه لا يساويه شيء من البشر، جاء في الحديث:(فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه) ولا نقول: إنه مخلوق كما تقول المعتزلة، المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق لفظه ومعناه، والأشاعرة يقولون: المعنى الكلام هو المعنى القائم بالنفس، وأما الحروف والألفاظ هي مخلوقة، والعلماء يقولون: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، فهو كافر على العموم، أما الشخص المعين إذا قال: القرآن مخلوق، هذا لا نكفره حتى تقوم عليه الحجة؛ لأنه قد يكون له شبهة، فإذا كشفت الشبهة، وأصر يكفر بعد ذلك، لكن نقول على العموم: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، هكذا قال أهل العلم كالإمام أحمد وغيره، وقالوا: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر. نعم.

ص: 216

ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين

نعم، من قال: إن القرآن مخلوق، قد خالف جماعة المسلمين، الجماعة هم الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. نعم.

ص: 217

ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله

هذا معتقد أهل السنة والجماعة، أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، وعرفنا أهل القبلة من هم أهل القبلة، هم الذين استقبلوا القبلة في الصلاة والذبح والتزموا بالإسلام، ولم يفعلوا شيئا من نواقض الإسلام، لا نكفر أحدا منهم، ولو فعل ذنبا ولو زنا أو سرق، إذا لم يستحله، لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، يعني إذا فعل كبيرة المسلم زنا أو سرق أو شرب الخمر أو تعامل بالربا، أو عق والديه، أو قطع الرحم، نقول: هذا عاصٍ، عاصٍ مرتكب لكبيرة، ضعيف الإيمان ناقص الإيمان، إلا إذا استحلها، إذا قال الزنا حلال أو الخمر حلال أو الربا حلال أو عقوق الوالدين حلال، كفر؛ لأنه مكذب لله، مكذب لله في تحريم الزنا، مكذب لله في تحريم الربا، مكذب لله في تحريم عقوق الوالدين، ولا بد أن يكون هذا الذي استحله ما فيه خلاف بين أهل العلم، أمر قطعي، إما واجب أو حرام إذا أنكر أمرا واجبا، كأن أنكر وجوب الصلاة، أو أنكر وجوب الزكاة، أو أنكر وجوب الحج، هذه أمور قطعية -كفر، أو أنكر تحريم أمر معلوم من الدين بالضرورة، أنكر تحريم الزنا أو تحريم الخمر أو تحريم الربا أو تحريم عقوق الوالدين -كفر، أما إذا فعله ويعلم أنه حرام، ويعلم أنه.. أن الزنا حرام، يعلم أن الربا حرام، لكن فعل الزنا غلبته الشهوة طاعة للشيطان، فعل الربا غلبه حب المال، نقول هذا عاص ضعيف الإيمان، مرتكب لكبيرة.

هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة والناس لهم في هذه المسألة أربعة مذاهب.

المذهب الأول ل: مذهب أهل السنة والجماعة أن مرتكب الكبيرة سواء كانت هذه الكبيرة عملية أو كبيرة قولية؛ ضعيف الإيمان وناقص الإيمان كما سيأتي ولا يكفر.

المذهب الثاني: مذهب المرجئة، المرجئة الغلاة كالجهمي وغيره، تنفي التكفير نفيا عاما، فتعمم النفي والسلب، فتقول: لا نكفر من أهل القبلة أحدا، بل هو.. بل يقولون: إنه كامل الإيمان، يقولوا: الزاني والسارق وشارب الخمر إيمانه كامل، ويدخل الجنة من أول وهلة، هذا مذهب من؟ هذا مذهب المرجئة.

المذهب الثاني: مذهب الخوارج عكس هؤلاء الخوارج والمعتزلة، يقولون:.. يطلقون التكفير، فيكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب، فهم يقولون: يكفر المسلم بكل ذنب أو بكل ذنب كبير، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب، وإن كانت متواترة، ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه بالارتداد عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما.. فيقولون: الزاني كافر، وشارب الخمر كافر، والمرابي كافر، والعاق لوالديه كافر، ومن تكلم بكلمة الكفر كلمة من الكبائر كفر، هذا مذهب من مذهب الخوارج والمعتزلة.

المذهب الثالث: مذهب طوائف من أهل الكلام والفقه، يقولون: نفرق بين العمل وبين القول والابتداع، فيقولون: إن مرتكب الكبيرة لا يكفر كما يقول أهل السنة، لكن المبتدع الذي ابتدع وتكلم بكلام كفري أو بكلام هو كبيرة نكفره، ما هو دليلهم في هذا؟ يقولون: إن البدع مظنة الردة، فتعطى حكمها، فالبدع مظنة للردة، فتعطى حكمها؛ فلذلك يقولون، وهم طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث، يفرقون بين الأعمال وبين الاعتقادات البدعية، فلا يكفرون الذين يعملون الكبائر ويكفرون أصحاب الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولا، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، أو يقولون: يكفر كل مبتدع، شبهتهم: أن البدع مظنة النفاق والردة، فحملوا النصوص عليها، حملوا النصوص على هذا، يقولون: يكفر كل مبتدع، المبتدع وكل من تكلم بقول مبتدع أو ابتدع بدعة يكفر، أما من عمل كبيرة، فلا يكفر، أما أهل السنة والجماعة، فهم خالفوا هؤلاء الطوائف كلها، فيقولون: من ارتكب الكبيرة سواء كانت الكبيرة عملية أو بدعية أو قولية، هذا لا يكفر إلا إذا استحلها، ولكن نسميه، ولكن نصفه بأنه ضعيف الإيمان وناقص الإيمان، فلا يسلبون عنه اسم الإيمان ولا يعطونه اسم الإيمان.

ص: 218

فيقولون: لا نطلق عليه.. لا نعطيه اسم الإيمان المطلق، ولا نسلبه مطلق الإيمان، فلا يعطى الإيمان المطلق، فلا يقولون: هو مؤمن ولا يقولون: ليس بمؤمن، عند أهل السنة العاصي كالزاني والسارق وشارب الخمر، ماذا يقولون له؟ يقولون: مؤمن، ما يقولون: مؤمن ويسكتوا، ولا يقولون: ليس بمؤمن، لا بد من التقييد في الإثبات والنفي، فإذا أثبت تقول: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وفي النفي ما تقول: ليس بمؤمن وتسكت، تقول: ليس بمؤمن حقا، ليس بصادق الإيمان، فالعاصي ومرتكب الكبيرة عند أهل السنة إذا قلت: مؤمن وسكت تكن مخطئا، وإذا قلت: ليس بمؤمن، وسكت تكن مخطئا، ماذا تعمل؟ قيد في النفي وفي الإثبات، في الإثبات تقول: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، في النفي ليس بصادق الإيمان ليس بمؤمن حقا، أما الأدلة والمناقشات والردود يأتي الكلام عليها فيما بعد -إن شاء الله- ستسجل فيما بعد.

أهل الكبائر، أهل الكبائر، حكم أهل الكبائر والفساق والعصاة وأهل البدع من أهل القبلة ومذاهب الناس فيهم، قلنا: إن للناس في هذا مذاهب سبق استعراض المذاهب.

وإن المذهب الأول مذهب المرجئة، تنفي التكفير نفيا عاما، فتعمم النفي والسلب، فتقول: لا نكفر من أهل القبلة أحدا، وهذا قول غلاة المرجئة، ولهم شبة ومن شبههم وأدلتهم عموما نصوص الوعد. نصوص الوعد، مثل:(من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق) ومثل حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله) .

ومثل حديث البطاقة، وفيها:(يؤتى برجل فيخرج له تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر سيئا، ثم يخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة) ومنها أحاديث الشفاعة كحديث: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) وحديث أبي هريرة: (أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه) .

ويناقش المرجئة في قولهم: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يناقش أصل مذهبهم أولا، نقول: قولكم: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، يرد عليه بأمرين:

الأمر الأول: أن في أهل القبلة المنافق، أن في أهل القبلة المنافقين الذين يتظاهرون بالشهادتين، ويتجهون إلى القبلة في الصلاة والذبح، ويتظاهرون ببعض ما يمكنهم إظهاره من شعائر الإسلام، وفيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} فقولكم: لا نكفر من أهل القبلة أحدا بذنب، يلزمكم أن لا تكفروا المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، هم من أهل القبلة.

ثانيا: أنه لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمة، أو المحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا؛ لأنه أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة، أنكر وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو وجوب الحج، أو أنكر تحريم الزنا أو تحريم الربا، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا، ويرد أيضا عليهم بنصوص الوعيد، فإن نصوص الوعد تدل على بقاء الإيمان معهم، ونصوص الوعيد تدل على أن الإيمان يضعف وينقص، فقولكم: لا يتأثر إيمانه، هو كامل الإيمان، باطل ترده نصوص الوعيد.

المذهب الثاني: مذهب الخوارج والمعتزلة، يطلقون التكفير، فيكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب، فإنهم يقولون: يكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب، وإن كانت متواترة، ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه الارتداد عندهم مالا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهم، وكفروا أهل صفين الطائفتين، في نحو ذلك من المقالات الخبيثة لهم، ومستندهم شبهتهم نصوص الوعيد، مثل حديث:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) .

ص: 219

فإن قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) } ويرد عليهم أولا بنصوص الوعد التي استدل بها المرجئة، فيرد على الخوارج بنصوص الوعد التي استدل بها المرجئة، فإنها تدل على بقاء الإيمان تدل على بقاء الإيمان، وأنهم لا يكفر، كما أنه يرد على المرجئة القائلين بأنه مؤمن كامل الإيمان بنصوص الوعد التي استدل بها الخوارج، تدل على أن الإيمان يضعف وينقص، ويرد أيضا على الخوارج في تكفيرهم أهل الكبائر، نقول: إن الله أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافرا مرتدا لوجب قتله، ولا يقام عليه الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من بدل دينه فاقتلوه) وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إسلام وزنا بعد إحصان وقتل نفس يقتل بها) وأمر الله بجلد الزانيين وجلد القاذف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلد شارب الخمر، ولم يقتله، فلو كان من ارتكب الكبيرة كافرا؛ لوجب قتله، ولا تقام عليه الحدود، ويرد عليهم أيضا بالإجماع الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر إذا صلوا إلى القبلة وانتحلوا دعوة الإسلام من قراباتهم المؤمنين الذين ليسوا بتلك الأحوال، فلو كان الزاني والسارق وشارب الخمر كافرا لما ورث، لما ورث من أقاربهم المستقيمين، فكونهم يرثون يدل على أنهم ليسوا كفارا، كما يقول هؤلاء الخوارج، ويرد عليهم أيضا أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن رجل يشرب الخمر، وكان اسمه حمارا، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلما أتي به إليه جلده، فأتي إليه مرة فلقيه فلعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تلعنه فإنه يحب

الله ورسوله) فنهى عن لعنه في عينه، وشهد له بحب الله ورسوله مع أنه قد لعن شارب الخمر عموما (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها) لكن بالخصوص بعينه لا يلعن، ويرد عليهم -أيضا- بأن الله -تعالى- قال:{وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وقد وصفهم الله بالإيمان والإخوة، وأمر بالإصلاح بينهم مع أنهم يقتتلون، وهذا من الكبائر، والقتال من الكبائر، فدل على أن على أن الكبيرة لا تخرجه من الإسلام.

الطائفة الثالثة: الذين يفرقون بين البدعة بين الأقوال المبتدعه بين البدعة وبين الأقوال وبين الأعمال، فيقولون: إذا ارتكب إذا ارتكب بدعة، أو قال قولا مبتدعا، فإنه يكفر أما إذا أما إذا فعل كبيرة من كبائر الذنوب، فإنه لا يكفر.

فيفرقون بين الأعمال وبين الاعتقادات البدعية، وهذا ينسب إلى طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث، يفرقون بين الأعمال وبين الاعتقادات البدعية، فلا يكفرون الذين يعملون الكبائر ويكفرون أصحاب الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولا، فيقولون يكفر من قال هذا القول، يكفر من قال هذا القول لا يفرقون بين مجتهد بين مجتهد مخطئ وغيره، أو يقولون يكفر كل مبتدع، شبهتهم قالوا: إن البدعة مظنتها البدعة مظنتها النفاق والردة، فهي أصل البدع، مظنتها النفاق والردة، فهي أصل وسببه، فحملوا النصوص على هذا، وقالوا إنه إذا ارتكب بدعة أو قال قولا مبتدعا يكفر، أما إذا فعل كبيرة عملية فلا يكفر.

ويرد عليهم.

أولا أن البدع الاعتقادية من جنس الأعمال، لا فرق بينها، فإن الرجل يكون مؤمنا باطنا وظاهرا، لكن تأول تأويلا أخطأ فيه، إما مجتهدا وإما مفرطا مذنبا، فلا يقال: إن إيمانه يحبط بمجرد ذلك الاعتقاد أو العمل بغير دليل شرعي، بل هذا يوافق قول الخوارج والمعتزلة، ولا يقال: لا يكفر، بل يفرق بين المقالة والقائل.

ثانيا: أن نصوص كثيرة قد دلت على أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وهذا يشمل الاعتقادات والأعمال، ولهذا فإن مذهب أهل السنة: ألا يقال لا نكفر أحدا بذنب، ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحدا بذنب، بل يقال: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بكل ذنب، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب الذين يعممون السلب، فيقولون يكفر بكل ذنب أو بكل ذنب كبير.

ص: 220

ثالثا: سلك أهل السنة مسلكا عدلا، هو الوسط، وهو الفرق بين الأقوال والقائل المعين، فالأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفى ما أثبته الله ما أثبته الرسول، أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه، أو النهي عما أمر به، يقال فيها الحق ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال من قالها فهو كافر، وهذا عام لا يعين شخصا بعينه كالقول بخلق القرآن والوعيد في الظلم في النفس والأموال، فيقال من قال بخلق القرآن، فهو كافر، وأما الشخص المعين، فلا نشهد عليه أنه من أهل الوعيد، وأنه كافر إلا بأمر تجوز معه الشهادة، كأن يعلم بأنه منافق، أو ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويستتاب فلا يتوب؛ لأن الحكم عليه بالكفر بدون دليل من أعظم البغي، من أعظم البغي أن نشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، كما بوب أبو داود في سننه باب النهي عن البغي، وذكر فيه قصة الرجلين المتواخيين من بني إسرائيل أحدهما مذنب والآخر مجتهد في العبادة فالشهادة

إلى آخر الحديث، وأن المجتهد كان يأتي المذنب، ويقول:(اتق الله فرآه يوما على ذنب، فقال له: اتق الله فغضب المذنب، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا، فقال المجتهد: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال: من ذا الذي تألى علي ألا أغفر لفلان إني قد غفرت له، وأحبطت عملك، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) .

فالشهادة على المعين بالكفر من البغي. وثانيا: لأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له. وثالثا: يمكن أن يكون لم يبلغه ما وراء ذلك القول من النص من النصوص، فيكون معذورا لجهله بالنصوص.

ورابعا: يمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غفر الله للذي قال:(إذا مت فاسحقوني، ثم أذروني) ثم غفر الله له من خشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته أو شك في ذلك.

وهذا في الصحيحين قصة الرجل الذي من بني إسرائيل الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه في البحر لما حضرته الوفاة جمع أهله وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يحرقوه ويذروه، وقال:(إن قدر الله علي ليعذبني عذابا شديدا) وفي بعض ألفاظ الحديث أنهم سحقوه وأحرقوه، وأنه قال:(ذروا بعضي في البحر وبعضي في البر، ففعلوا ذلك فأمر الله البحر فجمع ما فيه، والبر فجمع ما فيه، فقال: قم فإذا هو قائم قال الله: ما حملك على ذلك، قال: خشيتك) قال: في الحديث (فما تلافاه بل رحمه) قال العلماء: إن هذا الرجل إنما فعل ذلك عن جهل ليس معاندا ولا مكذبا ولا متعنتا، ولكن فعله عن جهل، وحمله على ذلك الخوف العظيم، أما لو أنكر البعث أو أنكر ثم أيضا، هو لم ينكر البعث، بل هو معترف مقر بالبعث، ولم ينكر قدرة الله، لكن ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة وأحرق وسحق وذري في البحر والبر، إنه يفوت على الله، وإلا فهو معترف ومصدق بأنه لو ترك على حاله لبعثه الله.

وإن الله يقدر عليه، لكن هذه مسألة دقيقة خفيت عليه، ولهذا قال العلماء: وأن من أنكر أمرا دقيقا مثله يجهله؛ يكون معذور فلا يكفر في هذه الحالة، أما لو كان متعمدا أنكر البعث متعمدا عن عناد وعن تكذيب، فهذا لا شك في كفره، لكن هذا الرجل ما فعل ذلك عامدا ولا متعنتا، ولكن فعل ذلك عن جهل، وحمله عليه الخوف العظيم، فلهذا ما يحكم على الشخص المعين بالكفر إلا بعد التثبت ومعرفة حاله.

وخامسا: قد يكون حديث الإسلام، وحديث عهد بالإسلام، قد يكون نشأ في بادية بعيدة عن الإسلام، ولكن التوقف في أمر الآخرة في أهل البدع لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا، لمنع بدعته وأن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه، إذا كان مستحقا للقتل، ثم إذا كان القول في نفسه كفرا، قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، أما معتقد أهل السنة والجماعة، فكما سبق أنهم لا يكفرون بالكبائر كما يفعل الخوارج والمعتزلة أو الخوارج، ولا يخرجونهم من الإيمان كما تفعل الخوارج، ولا يقولون: إنه كامل الإيمان كما تقول المرجئة، بل يقولون: إنه مؤمن، يثبتون له أصل الإيمان، وينفون عنه مطلق الإيمان، يثبتون أصل الإيمان، وهو مطلق الإيمان، وينفون عنه الإيمان المطلق، فيقولوا مطلق الإيمان ثابت له، والإيمان المطلق منفي عنه، فلا بد من التقييد، فيقولون هو مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن عاص، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وكذلك في النفي لا ينفون عنه الإيمان، ويسكتون، بل لا بد من التفصيل ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقا، كما هو الأدلة على هذا كثيرة من الكتاب والسنة والله أعلم.

ص: 221

ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله

نعم لا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، هذا قول المرجئة الجهمية، يقولون: لو ارتكب جميع الكبائر والمنكرات ما يضر إيمانه، كامل الإيمان مرجئة من هم المرجئة المحضة، هم الجهمية، يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فإذا قال الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله وآمن، لا يضره أي ذنب، لو ارتكب جميع الجرائم والكبائر، حتى قالوا: لو هدم المساجد وقتل الأنبياء والرسل، وداس المصحف بقدميه ما يكون كافرا حتى يكذب بقلبه، ما دام قلبه مصدق، فلو ارتكب جميع الجرائم والكبائر، فهو مؤمن كامل الإيمان يدخل الجنة من أول وهلة، هذا من أبطل الباطل، عكسهم الخوارج إذا فعل.. الخوارج والمعتزلة يقولون: الخوارج: إذا فعل الكبيرة كفر ومخلد في النار والمعتزلة يقولون: إذا فعل الكبيرة خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، صار في منزلة بينهما لا مؤمن ولا كافر فاسق، وفي الآخرة يتفقون مع الخوارج على تخليده في النار، فلا نقول كما في قول المرجئة، لا نكفر أحدا من أهل القبلة، لا نقول بقول الخوارج فنكفر بالذنب، ولا نقول بقول المرجئة: فلا يضر مع الإيمان ذنب، اقرأ العبارة الأولى، لا نكفره.

(ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)

نعم هذا مذهب الخوارج التكفير بكل ذنب، مالم يستحله، فإذا استحله كفر. نعم ولا يضره.

ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.

هذا مذهب المرجئة، يقولون: لا يضر مع الإيمان أي ذنب. نعم.

ص: 222