المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رابعا: حب الظهور بالجدل والمماراة - الاختلاف في العمل الإسلامي الأسباب والآثار

[ناصر العمر]

فهرس الكتاب

- ‌أولًا: مقدمات

- ‌ الاختلاف باعتبار حقيقة المسائل المختلف فيها

- ‌ الاختلاف باعتبار ما يوجبه

- ‌ الاختلاف باعتبار أثره

- ‌ الاختلاف باعتبار مدح أصحابه وذمهم:

- ‌النوع الثاني: اختلاف ينقسم أهله إلى محمود ومذموم

- ‌ نوع آخر من الاختلاف:

- ‌الاختلاف بين المشيئة الكونية والشرعية:

- ‌مسألة هل الاختلاف رحمة وخير أم عذاب وشر

- ‌عمل أهل العلم على الخروج من الخلاف:

- ‌حكم الاختلاف في العمل الإسلامي

- ‌ثانيًا: أسباب الافتراق

- ‌أولًا: تفاوت الناس في الطبائع والميول وتفاضلهم في العقول

- ‌أولًا: البغي

- ‌ثانيًا: الغرور بالنفس

- ‌ثالثًا: سوء الظن بالآخرين

- ‌رابعًا: حب الظهور بالجدل والمماراة

- ‌ عوامل خارجية قادت إلى تفاقم الاختلاف

- ‌أولًا: الضعف والعجز

- ‌ثانيًا: هلاك الأمة

- ‌ثالثًا: العقوبات المعنوية

- ‌رابعًا: الجهل بالحق والبعد عنه

- ‌خامسًا: براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من المفترقين:

- ‌سادسًا: اسوداد وجوه طوائف من المفترقين يوم القيامة:

الفصل: ‌رابعا: حب الظهور بالجدل والمماراة

‌رابعًا: حب الظهور بالجدل والمماراة

ويكون دافع ذلك في الغالب هوى مطاعًا، وقد يكون قلة الفقه أو الفراغ وترك الاشتغال بما ينفع.

وقد روى الإمام أحمد (1) وغيره عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} » .

قال الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله: "الخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة. لو كانت فضلًا لسبق إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم، فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر. وقال الله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20] ، ولم يأمره بالجدل، ولو شاء لأنزل حججًا، وقال له: قل كذا وكذا". (2)

(1) المسند 2 / 252 و 2 / 256 وحسنه الألباني في غير موضع انظر صحيح الجامع 5633.

(2)

الفتاوى 16 / 476.

ص: 52

وقال ابن قتيبة رحمه الله يصف الحال في أيام السلف عليه الرحمة والرضوان: "كان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع وفيما قد انقرض.. وصار الغرض فيه إخراج لطيفة، وغوصًا على غريبة، وردًا على متقدم

وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق، قادهم الهوى بزمام الردى..". (1)

فلما وقع الناس في الجدل تفرقت بهم الأهواء، قال عمرو بن قيس:(2) قلت للحكم بن عتبة: (3) ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات. (4)

وقد روي عن أبي قلابة -وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون» . (5)

(1) الاختلاف في اللفظ ص10-11.

(2)

هو عمرو بن قيس الملائي أحد الثقات العباد روى عن عطية العوفي وغيره توفي 146هـ.

(3)

هو أبو محمد الحكم بن عتبة الكندي الكوفي ثقة ثبت فقيه توفي 113هـ.

(4)

السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 1 / 137.

(5)

سنن الدارمي 1 / 120.

ص: 53

قال معن بن عيسى: "انصرف مالك بن أنس رضي الله عنه يومًا من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الحورية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا عبد الله! اسمع مني شيئا أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأيي.

قال: فإن غلبتني؟

قال: إن غلبتك اتبعني.

قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟

قال: نتبعه!

فقال مالك رحمه الله: يا عبد الله بعث الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين".

وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل.

وجاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه! (1)

وإذا كان الجدل والمراء والخصومة في الدين مذمومة على كل حال فإنها تتأكد في حق المقلدة والجهال.

ويتأكد ترك المراء والجدل في كل ما لا طائل من ورائه كملح العلوم والنوادر، وما لا يثمر عملًا غير السفسطة والتلاسن.

(1) راجع في النقول الثلاثة السابقة الشريعة للآجري ص56-57.

ص: 54

تنبيه: هذا السبب من أعظم أسباب الاختلاف المذموم، بل لا يكاد ينجم عنه اختلاف يحمد، ولعله عامل رئيس في إذكاء نار الفرقة والفتنة بين المسلمين، ولا سيما أن التنظير العلمي مستقر عند كثيرين ولكن على الرغم من ذلك يقع الافتراق لوقوع الخلل في هذا الجانب، والله المستعان.

ص: 55

رابعًا: ومن عوامل الاختلاف والتفرق: التعصب.

سواء كان سياسيًا أو مذهبيًا أو حزبيًا أو لأفراد ورموز، وسواء كان لفرط حب أو فرط بغض.

إن التعصب ران يطغى على القلب والعقل فيحجبهما، ومهما عرضت على المتعصب من الحجج والبراهين فلن يراهها.

يقول الماوردي رحمه الله: "ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلا يناظر في مجلس حفل وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة فكان جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة، وجه فسادها أن شيخي لم يذكرها وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه. فأمسك عنه المستدل تعجبا; ولأن شيخه كان محتشما. وقد حضرت طائفة يرون فيه مثل ما رأى هذا الجاهل، ثم أقبل المستدل علي وقال لي: والله لقد أفحمني بجهله وصار سائر الناس المبرئين من هذه الجهالة ما بين مستهزئ ومتعجب، ومستعيذ بالله من جهل مغرب". (1)

وما أقبح هذا الجهل يوم يسري إلى طوائف تعد نفسها في عداد العاملين للإسلام الذائدين عن حياضه، ويزداد هذا القبح يوم يزعم أصحابها أنهم أهل الفكر المستنير والعقول غير المنغلقة! ويتضاعف القبح يوم ينتسبون إلى السلف أو السنة، والسلف والسنة من هذا التعصب المقيت براء.

(1) أدب الدنيا والدين ص70.

ص: 56

يقول العلم الإمام ابن تيميه ممتدحا الأئمة الأعلام: "ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين. كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة. وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم. ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلا بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين، فيكون جاهلا ظالما، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم". (1)

(1) الفتاوى 22 / 252.

ص: 57

وقال مشيرًا لآفة التعصب للحزب أو الجماعة: "وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزبًا فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان". (1)

(1) الفتاوى 11 / 92، وينظر فقه الائتلاف للخزندار.

ص: 58