الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسًا:
عوامل خارجية قادت إلى تفاقم الاختلاف
.
وتتلخص في الحضارات والديانات التي ناصبت الإسلام العداء في القديم أو الحديث، وحتى لا يتشعب الحديث أتناول بالبيان العامل النصراني كمثال فأقول:
لقد جاء الإسلام فألف بين أشتات العرب، بل ألف بين أهل الخير من العالمين، فبلال رضي الله عنه حبشي، وصهيب رومي، وسلمان فارسي، ومحمد بن إسماعيل شيخ المحدثين بخاري، وصلاح الدين الأيوبي بطل الحروب الصليبية كردي، ومحمد بن إسحاق أول من دون السيرة النبوية فارسي، والطبري شيخ المؤرخين والمفسرين تركي وإذا نظرت في سير تراجم أعلام الإسلام ومبدعيه وجدتهم من أقطار الأرض وأطرافها.
ومع ائتلاف هذه الخبرات المتنوعة وانسجامها ازدهرت حضارة الإسلام وقويت شوكة أهله.
وكان لهذا الائتلاف أثر في صد الغزو الصليبي عن بلاد المسلمين على مر التاريخ، وباسترجاع سير أولئك الذين وقفوا في وجه المد الصليبي تتضح هذه الحقيقة بجلاء ولعل أشهر نموذج هو صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله.
وقد أدرك أعداء الإسلام من النصارى واليهود هذه الحقيقة، فكانت الخطوة الأولى التي قاموا بها من أجل السيطرة على بلاد الإسلام وجعلها تابعة ذليلة هي العمل على تفكيك وحدتهم عملًا بمشورة القساوسة ووصيتهم للساسة، ومن بعض أقوالهم في ذلك ما يلي:(1)
"1 - يقول القس سيمون:
إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد التملص من السيطرة الأوربية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية.
2-
ويقول المبشر لورنس براون:
إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنةً على العالم وخطرًا، أو أمكن أن يصبحوا أيضًا نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين، فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير.
ويكمل حديثه:
يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
3-
ويقول أرنولد توينبى في كتابه الإسلام والغرب والمستقبل:
إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ.
(1) مستقاة من كتاب: قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله.
4-
وقد فرح غابرائيل هانوتو وزير خارجية فرنسا حينما انحل رباط تونس الشديد بالبلاد الإسلامية، وتفلتت روابطه مع مكة، ومع ماضيه الإسلامي، حين فرض عليه الفرنسيون فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية.
5-
من أخطر ما نذكره من أخبار حول هذه النقطة هو ما يلي:
في سنة 1907 عقد مؤتمر أوربى كبير، ضم أضخم نخبة من المفكرين والسياسيين الأوربيين برئاسة وزير خارجية بريطانيا الذي قال في خطاب الافتتاح:
إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء، والواجب يقضي علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا.
واستمر المؤتمر شهرًا من الدراسة والنقاش.
واستعرض المؤتمرون الأخطار الخارجية التي يمكن أن تقضي على الحضارة الغربية الآفلة، فوجدوا أن المسلمين هم أعظم خطر يهدد أوربا.
فقرر المؤتمرون وضع خطة تقضي ببذل جهودهم كلها لمنع إيجاد أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط، لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد يشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوربا.
وأخيرًا قرروا إنشاء قومية غربية معادية للعرب والمسلمين شرقي قناة السويس، ليبقى العرب متفرقين.
وبذا أرست بريطانيا أسس التعاون والتحالف مع الصهيونية العالمية التي كانت تدعو إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين".
وقد ترجم المنصرون وأتباعهم تلك التصورات إلى حركات ونعرات عنصرية أو قومية نجحت في التأليب على دولة الخلافة الإسلامية وفي تفكيك عرى الإخوة بين المؤمنين عربًا وتركًا.
وإذا تأملت رواد حركة القومية العربية وجدت "كثرة كبيرة من رجال الرعيل الأول في هذه الحركة وفي هذا البعث من مسيحيي لبنان، مثل البستاني واليازجي والشدياق وأديب إسحاق ونقاش وشمّيل وتقلا ومشاقة وزيدان ونمر وصروف. وأغلبهم ممن اتصلوا بالإرساليات الإنجيلية الأمريكية التي بدأت تتوارد على بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لنشر مذهبهم البروتستانتي. وأكثرهم في الوقت نفسه قد رموا بالماسونية، فإبراهيم اليازجي (1847 - 1906م) وأبوه ناصيف اليازجي (1800 - 1871م) كانا على صلة حسنة بالإرساليات الأمريكية الإنجيلية، وكانا يترددان على مطبعتهم في بيروت التي كان يشرف عليها وقتذاك الدكتور فانديك. وقد علم اليازجي الكبير في مدارسهم، وأعان ابنه في ترجمتهم التوراة إلى العربية، ثم قدم بعد ذلك إلى مصر ومات بها، واحتفلت المحافل الماسونية في القاهرة والإسكندرية بتأبينه، وهو صاحب قصيدتين مشهورتين في استنهاض همم العرب ودعوتهم إلى إحياء أمجاد آبائهم، ورفض التجبر والاستبداد، وفيهما دعا قومه من العرب إلى الثورة على الأتراك، وختم قصيدته مهددًا الترك بقوله:
صبرًا هيا أمة الترك التي ظلمت
…
دهرًا فعما قليلٍ تُرفع الحجبُ
لنطلبن بحد السيف مأربنا
…
فلن يخيب لنا في جنبه أَرَبُ
ونتركن علوج الترك تندب ما
…
قد قدمته أياديها فتنتحبُ
ومن يعش يرَ والأيام مقبلة
…
يلوح للمرء في أحداثها العجبُ
ومن مؤسسي هذه الدعوة أيضًا بطرس البستاني (1819 - 1883م) ، وقد كان أيضًا على صلة بدعاة المذهب الإنجيلي والبروتستانت من الأمريكان، وتولي منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت. وأعان الدكتور سمث المبشر الأمريكي ثم الدكتور فانديك من بعده في الترجمة البروتستانتية للتوراة التي تمت في سنة 1864م، ثم طبعت في أمريكا سنة 1866. وأعان الدكتور فانديك أيضًا في إنشاء مدرسة عبية الأمريكية، وهي مدرسة عليا ترجع أهميتها إلى أنها كانت تقوم بتدريس العلوم الحديثة من جغرافيا وطبيعة وكيمياء ورياضة باللغة العربية. وقد وضعت لذلك كتبًا خاصة قامت بطبعها، فشاركت بذلك في حركة الإحياء العربية
…
ومن الذين شاركوا في هذه الدعوة أيضًا من مسيحيي لبنان فارس الشدياق (1801 - 1887) ، الذي تسمى بعد إسلامه
…
بأحمد، واتبع المذهب الإنجيلي على يد المرسلين الأمريكان، فتولوا حمايته من بطش رجال الإكليروس الذين حبسوا أخاه، وعذبوه حتى مات في سجنهم بسبب تغييره مذهبه. حضر على نفقتهم إلى مصر في أيام محمد علي، ثم طوف كثيرًا بين دول أوروبا والأستانة وتونس ومصر. ووصف كثيرًا من هذه الأسفار في صحيفته (الجوائب) التي أصدرها سنة 1277هـ. وقد
استدعته جمعية ترجمة التوراة البروتستانتية في لندن سنة 1848م فأعان في ترجمتها إلى العربية. وله كتب كثيرة تغلب عليها النزعة اللغوية.. ومن دعائم هذه الدعوة أيضًا سليم تقلا مؤسس صحيفة (الأهرام) المصرية (1849 - 1892م) . تلقى علومه في مدرسة عبية التي أنشأها المبشر الأمريكي الدكتور فانديك أحد مؤسسي الجامعة الأمريكية، التي بدأت سنة 1866م باسم (الكلية السورية الإنجيلية) .
ومنهم جرجي زيدان (1861 - 1914م) الذي كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان. وكان يدعى إلى احتفالات الخريجين بكليتهم، ثم التحق بالجامعة الأمريكية سنة 1881 لدراسة الطب، وغادرها دون أن يتم دراسته في العام التالي. وهو صاحب المباحث المعروفة في اللغة العربية وآدابها. ومؤلف سلسلة من القصص التاريخية العربية
…
ومنذ ذلك الوقت نشأت التفرقة بين العروبة والإسلام على يد هذه الطائفة من المفكرين والكتاب من نصارى الشام". (1)
ولهذا لم يكن مستغربًا أن ينقلب الشاعر العراقي معروف الرصافي على دعاة الجامعة العربية حين عقدوا مؤتمرهم في باريس سنة 1913 بعد أن كان مؤيدًا لهم بشد أزر دعوتهم بشعره، وذلك في قصيدته (ما هكذا) التي بدأها بقوله:
(1) الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين ص225 باختصار وتصرف.
أصبحت أوسعهم لومًا وتثريبًا
…
لما امتطوا غارب الإفراط مركوبًا
وفيها يقول:
إني لأُبصر في (بيروت) قَائِبَةً
…
للشَّرِ موشِكةً أنْ تخُرِج القُوبَا
لو كان في غير (باريزٍ) تألُّبَهم
…
ما كنت أحسبهم قومًا مناكيبا
لكن (باريزَ) مازالت مطامِعُها
…
ترنو إلى الشام تصعيدًا وتصويبا
ولم تزل كلَّ يوم في سياستها
…
تلقي العراقيلَ فيها والعراقيبا
هل يأمن القوم أن يحتل ساحتهم
…
جيش يَدكُّ من الشام الأهاضيا
وما قاله تحقق فما انتهت الحرب العالمية الأولى إلاّ والشام وغيرها من بلاد الإسلام موزعة بحسب القسمة التي تنبأ بها شكيب أرسلان في خطابه الموجه إلى الشريف حسين حين بلغه عزمه على غزو سوريا مع جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. فأرسل ينهاه عن المضي فيما هو فيه من دعوة زعماء السوريين للخروج على الدولة العثمانية، والالتحاق بالجيش الحسيني العربي، ويحذره عاقبة هذه الغارات التي يضرب فيها العرب بالعرب، فيقول له فيما يقول:"أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير، حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سورية، واليهود على فلسطين؟ "ثم يخاطب القائمين بالدعوة قائلًا: "قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية، الناهضين لحفظ حقوقها وأخذ تاراتها: ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟
يقولوا لنا: ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم، ونقر بفضلهم، لأننا عرب نحب كل من أحب العرب، ونبغض كل من أبغض العرب، ولا نبالي بالقيل والقال أمام الحقائق". (1) وحتى لا نستغرق في الاستطراد نرجع فنؤكد على التأثير النصراني في تفرقة المسلمين، وننبه إلى أنه لم يكن وليد العصر الحديث ولكنه اشتد ونجح في القرون الأخيرة فأتى أكله وثماره المريرة، ولا يعني ذلك بحال عدم وجود محاولات قديمة من النصارى لتفريق صف المسلمين بل كانت لهم صولات وجولات كان لها أثرها الفعال في شق صف أمة الإسلام.
فـ"المراجع القديمة تثبت لنا أن القدرية أخذوا أقوالهم في القدر عن النصرانية، وتذكر لنا اسمين ارتبط بهما شيوع ذلك الاتجاه ونقله إلى المسلمين، وهما معبد الجهني وغيلان الدمشقي، قال ابن قتيبة رحمه الله عن غيلان: كان قبطيًا قدريًا، لم يتكلم أحد في القدر قبله، ودعا إليه معبد الجهني.. ونحوًا مما ذكره ابن قتيبة نقل عن الأوزاعي وابن نباتة والمقريزي وغيرهم". (2)
فأثر النصارى في اختلاف المسلمين قديم، وأما أثر اليهود فهو أظهر وأخطر في القديم والحديث، ولعله لا يتسع المقام لبسطه، وقد ركزت على الأثر النصراني لخفائه عن البعض.
(1) الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين ص225 بتصرف.
(2)
الماتريدية للدكتور أحمد الحربي ص41-42 باختصار.