الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الإيمان
الفصل الأول
2 -
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــ
كتاب الإيمان
الفصل الأول
الحديث الأول - قوله: ((بينا)) قال صاحب النهاية: بينا: بين، فأشبعت الفتحة فصارت ألفًا، يقال: بينا وبينما، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ومضافان إلى الجملة: من فعل وفاعل، أول مبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، كما يستدعى (إذا) والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذ وإذا، وقد جاء في الجواب كثيرًا، وفي اللباب: قال الأصمعي: لا يستفصح إلا طرحمها في جواب بينا وبينما، وأنشد:
وبينا نحن نرقبه أتانا
لأن الظهر أن العامل في ((بينا)) هو الجواب، كما في (إذا) الزمانية على الصحيح، ويلزم تقدم ما في صلة الكضافة إليه على المضاف. قال شارحه: بينا وبينما ظرفان متضمنان لمعنى الشرط،
فلذلك اقتضيا جوابًا، والقياس أن لا يكون (إذا) في جوابه، فعلى هذا يكون (أتانا) عاملا في
(بينا) مع أنَّه مضاف إليه لا يتقدم على المضاف وفيه نظر. انتهى كلامه. فيقال لا ريب أن
عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كأنا أفصح من الشاعر، وقد أتيا ب (إذا) في الحديث، فحينئذ
يكون العامل معنى المفاجأة في (إذا) كما قرره صاحب الكشاف في قوله تعالى: (وإذا ذكر الذين
من دونه إذا هم يستبشرون) العامل في (إذا) المفاجأة، تقديره، وقت ذكر الذين من دونه فاجئوا
وقت الاستبشار، فمعنى الحديث وقت حضورنا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجأنا وقت طلوع
ذلك الرجال، فحينئذ (بينا) ظرف لهذا المقدر، و (إذا) مفعول به بمعنى الوقت، فلا يلزم إذا تقدم
معمول المضاف إليه على المضاف. وقد ساعد هذا القول صاحب اللباب بعد ذلك بقولة:
والعامل فيهما الجواب إذا كان مجرداً من كلمتي المفاجأة المتضمنة هما
إياه. قوله: (هما) أي إذ وإذا، و (إياه) أي ذلك المعنى، ويدل على تضمنهما معنى الشرط
تصريح الفاء في الجواب قوله صلى الله عليه وسلم: (بينا يضحكهم النبي (صلى الله عليه وسلم) الحديث، رواه
أبو داود عن أسيد بن حضير.
ذات يوم، إِذ طلع علينا رجل شديدُ بياض الثياب، شديدُ سواد الشعر، لا يُرى عليه
أثرُ السفر، ولا يعرفُه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتبه إلى ركبتيه،
ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يامحمد! أخبرني عن الإِسلام. قال: (الإِسلام: أن
ــ
قوله: (ذات يوم) ظرف لمعنى الاستقرار في الخبر. و (ذات) يجوز أن يكون صله، قال
صاحب النهاية: في الحديث (يطلع عليكم رجل من ذي يمن على وجهه مسحة من ذي ملك)
كذا أورده عمرو الزاهد، وقال:(ذي) هنا صلة؛ وأن يكون غير صلة، في المغرب: ذو بمعنى
الصاحب، تقول للمرأة: امرأة ذات مال، ثم أجروها مجرى الأسماء التامة المستقلة بأنفسها،
فقالوا: ذات قديمة أو محدثة، ثم استعملوها استعمال النفس والشيء، فعلى هذا قوله: (ذات
يوم) يفيد من التوكيد مالا يفيده لو لم يذكر، لئلا يتوهم التجوز إلى مطلق الزمان، نحو
قولك: رأيت نفس زيد، وقولك: رأيت زيداً.
وقوله: (لا يرى عليه أثر السفر)(مح): يعنى تعجبنا من كيفية إتيانه، ووقع في خاطرنا أنه
ملك، أو من الجن؛ لأنه لو بشراً إما أن يكون من المدينة، أو غريباً، ولم يكن من
المدينة؛ لأنا لا نعرفه، ولم يكن إتيانه من بعد؛ لأنه لم يكن عليه أثر السفر من الغبار وغيره.
وقوله: (حتى جلس) متعلق بمحذوف، تقديره: استأذن وأتى حتى جلس عند النبي (عليه
الصلاة والسلام).
وقوله: (فأسند ركبتيه إلى لركبتيه) يقال: أسند، إذا اتكأ على شيء وأوصل. وأنما جلس هكذا
ليتعلم الحاضرون جلوس السائل عند المسئول؛ لأن الجلوس على الركبة أقرب إلى التواضع
والأدب، واتصال ركبة السائل بركبة المسئول يكون أبلغ في استماع كل واحد من السائل
والمسئول كلام صاحبه، وأبلغ في حضور القلب، وألزم للجواب؛ لأن الجلوس على هذه الهيئة
دليل على شدة حاجة السائل إلى السؤال، وتعلق قلبه واهتمامه إلى استماع الجواب، فإذا عرف
المسئول هذا الحرص والاحتياج من السائل إلى يلزم على نفسه جوابه، ويبالغ في الجواب
أكثر وأتم مما سأل السائل. تم كلامه.
قوله: (وضع يديه على فخذيه) قال الشيخ: التوربشتى: الضمير في الكلمتين راجع إلى
جبرئيل عليه السلام فلو ذهب مؤول إلى أن الثاني يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه،
لما يدل عليه نسق الكلام من قوله: (وأسند ركبتيه إلى ركبتيه) غير أنا نذهب إلى الوجه الأول،
لأنه أقرب إلى التوقير، وأشبه بسمت ذوى الأدب. وذهب محيي السنة إلى الوجه الثاني فى
كتابه المسمى ب (الكفاية). وكذا إسماعيل بن الفضل التيمى في كتابه المسمى ب (الترغيب
والترهيب).
ــ
وأقول: لعل هذا الوجه أرجح؛ لأن الأصل في إسناد الركبة إلى الركبة أن يكون الاعتماد
والاتكاء عليه، فإذا لا يبعد وضع جبريل عليه السلام يديه على فخذى رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك
الحالة، فأشعرت تلك الهيئة بأنها ليست كهيئة التلميذ، وكذا نداؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، بل
هما من هيئة الشيخ إذا اهتم بشأن التعليم، واراد مزيد إصغاء المتعلم وإفهامه، فكيف لا؟ وقد
شهد الله تعالى به في قوله: (علمه شديد القوى) وكفى به شاهداً. وينصره أيضا أمران:
أحدهما قوله: (جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، فلو كان جلوسه جلوس المتعلم لقيل: بين يديه، فضلا
أن يقال: عنده، فكيف بقوله:(جلس إليه)؟ لأنه متضمن معنى الميل والإسناد، كأنه قيل:
مال إليه حالة جلوسه وأسند إليه، فيكون عطف قوله:(وأسند ركبتيه) على قوله: (جلس إاليه)
للبيان والتفسير، كعطف قوله تعالى: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار_ إلى قوله_ من
خشية الله) على قوله: (فهى كالحجارة أو أشد قسوة) لما يعلم من المعطوف كون قلوبهم
أقسى من الحجارة، وثانيهما قوله:(صدقت) وإنما يقال هذا إذا طابق قول المسئول عنه قول
السائل؛ لأنه إذا عرف أن المسئول عنه أصاب المخبر وطبق المفضل صوبه، ولهذا السر
قالوا: (تعجبنا من قوله: (صدقت) وأيضاً في إيثار (إذ طلع علينا) على (إذ دخل) إشارة ألى
عظمته وعلوه. (غيب): طلع علينا فلان، مستعار من: طلعت الشمس. (الكشاف): في
قوله: (أطَّلع الغيب): ولا ختيار هذه الكلمة شأن، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى
إلى علم الغيب، فحينئذ يتعلق (حتى) بمحذوف يدل عليه (طلع) أى دنا منه حتى جلس إليه.
وإذا تقرر هذا فصورة هذه الحالة كصورة المعيد إذا امتحه عند حضور الطلبة
والمستفيدين منه، ليزيدوا طمأنينة وثقة في أنه يعيد الدرس ويلقى إليهم المسألة كما سمعه من
الشيخ بلا زيادة ولا نقصان، وفيه مسحة من قوله: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى
علمه شديد القوى) وهذا معنى قوله عليه السلام في آخر الحديث: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم
دينكم).
وأما سر إسناد ركبتيه إلى ركبتيه ففيه إشارة إلى سابقة بينهما، وشدة إخلاص واتحاد، كما
بين المتحابين، ولله در القاتل:
أخ طاهر (الأخلاق) حلو كأنه
…
جنا النحل ممزوج بماء غمام
يزيد على الأيام صفو مودة
…
وشدة إخلاص ورعى ذمام
ــ
تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا)). قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه؛ قال فأخبرني عن الإيمان. قال ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ــ
ــ
وأما طلوع جبريل عليه السلام على تلك الهيئة والشأن فإشارة إلى معنى قوله: ((حسن الأدب في الباطن)) ولذلك أدب الله رسوله عليه السلام بقوله: (وثيابك فطهر والرجز فاهجر)؛ على هذا ينزل نزوله عليه السلام أحيانا في صورة دحية رضي الله عنه؛ لأنه كان من اجمل الناس، ومن ثمة كان الإمام مالك رضي الله عنه إذغ أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته وتطيب، وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة، ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث (صلى الله عليه وسلم).
قوله: ((أخبرني عن الإسلام)) الإسلام الانقياد والطاعة عن الطوع والرغبة من غير اعتراض، يقال: سلم وأسلمو (استسلم) إذا خضع وأذعن، ولذلك أجاب عنه بالأركان الخمسة، و ((أن)) في قوله:(أن لا إله إلا الله)) هي المخففة عن المثقلة، يدل عليه عطف:((وأن محمدًا)).
قوله: ((وأن تقيم الصلاة)) إقامة الصلاة تعديل أركانها وإدامتها، والصلاة فعلة من: صلى بمعنى دعا أو حرك الصلوين؛ لأن المصلى يحركها في ركوعه وسجوده، كالزكاة من: زكى بمعنى نما او طهر، غفإن المال يزيد بأداء الزكاة ويطهر به، وكالصوم من، صام إذا امسك، والحج من: حج إذا قصد، و ((البيت)) اسم جنس غلب على الكعبة وصار علما له.
فإن قلت: كيف خص الأخير بقيد الإستطاعة دون سائرها؛ فإن الاستطاعة التي يتمكن بها المكلف من فعل الطاعة مشروطة في الكل؟ قلت: المعني بهذه الاستطاعة الزاد والراحلة. وكانت طائفة لا يعدونها منها، ويثقلون على الحاج، فنهوا عن ذلك، أو علم الله تعالى:(لاتأكلوا الربا أضعافا مضاعفة)) ولتلك العناية أنزل الله تعلى: (من استطاع)) ومع ذلك نرى كثيرًا من الناس لا يرفعون بهذا النص الجلي رأسا، ويلقون أنفسهم بأيديهم إلى التهلكة.
قوله: ((أخبرني عن الإيمان)) إفعال من الأمن، وهو طمأنينة النفس عن إزالة خوف وشك، يقال: أمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنة التكذيب والمخالفة. وإن قيل: قوله: ((أن تؤمن بالله)) في جواب الإيمان يوهم التكرار. فالجواب أن الإيمان الذي هو بمعنى التصديق تعدى بنفسه، كما تقول: آمنته وأمنته، والذي يعدى بالباء يتضمن معنى اعترف به أو وثق به، كانه قيل: الإيمان الاعتراف بالله، ووثوق به.
ــ
ــ
ــ
واعلم أن السؤال عن الإيمان وجوابه مقدم على السؤال عن الإسلام وجوابه في المصابيح،
وتكلم عليه الشيخ التوربشتى، وهو حق؛ لأنه مؤخر في صحيح مسلم، وفي كتاب الحميدي.
وجامع الأصول، ورياض الصالحين، وشرح السنة برواية عمر رضي الله عنه. ثم إن
التصديق وأن كان مقدماً في الاعتبار لقوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وعليه
سؤسس قاعدة الإسلام، لكن المقام يقتضي تقديم الإسلام؛ لأنه رأس الأمر وعموده، وشعائر
الدين به تظهر، وهو دليل على التصديق وأمارة عليه، وما جاء جبريل عليه السلام إلا ليعلم
الشريعة؛ فينبغى أن يبدأ بما هو الأهم فالأهم، ويترقى من الأدنى إلى الأعلى، فإن الإسلام
مقدم على الإيمان، وهو على الإخلاص، وفي هذا الكتاب مسطور بعد قوله: (إن استطعت إليه
سبيلا، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه).
قوله: (بالله) الله أصله إله، فحذف همزته معوضاً عنها حرف التعريف، ولذلك قطع الألف،
وأدخل عليه حرف النداء، والإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من: أله إلهة
أي عبد عبادة، أو أله ألها إذا تحير؛ لأن الفطن يدهش في معرفة المعبود، والعقول متحيرة
في كبريائه. والملائكة جمع ملاك على الأصل، كالشمائل جمع شمال، والتاء لتأنيث الجمع،
مشتق من الألوكة بمعنى الرسالة. والكتب ما أنزلت على أنبيائه (صلوات الله وسلامه عليهم) إما
مكتوباً على نحو ألواح، أو مسموعا من الله تعالى من وراء حجاب، أو من ملك مشاهد
مشافهة، أو مصوت هاتف. وإنما قدم ذكر الملك على الكتاب والرسل اتباعا للترتيب الواقع،
فإنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول لا تفضيلا للملائكة على الرسل، فإن
فيه خلافا، ولا على الكتب، فإنه لم يقل به أحد.
قوله: (رسله) يقال: أرسلت فلانا في رسالة، فهو مرسل ورسول، والجمع رُسُل ورُسل،
(قال) الكشاف: الفرق بين النبي والرسول أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب
المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه، وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله.
وعن الإمام أحمد بن حنبل عن أبى أمامة، قال أبو ذر: يارسول الله، كم وفاء عدة
الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر جما
غفيراً).
[قلت: قيل المنزَّلة مائة وأربعة كتب: على آدم عشر صحائف، وعلى شيث عليه السلام
خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس عليه السلام ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عليه
السلام عشر صحائف. والتوارة، والإنجيل، والفرقان، والزبور. فعلى هذا القول الذى ذكره جار
ــ
واليوم الآخر، وتُومن بالقدر خيرِه وشَره) قال: صدقت. قال: فأخبرني عن .....
ــ
الله بين الرسول والنبي لا يساعد الحديث المذكور؛ بل الفرق من وجه آخر؛ وهو أن يقال:
الرسول من نزل عليه جبريل، والنبي مع سمع صوتا أو رأى في المنام أنه نبي وبلغ
الرسالة]
قوله: (واليوم الآخر) هو يوم القيامة؛ لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد
الإيمان به وبما فيه من البعث والحساب، ودخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، إلى غير
ذلك مما ورد النص القاطع عليه.
قوله: (تؤمن بالقدر)(قال القاضي عياض): القضاء هو الإرادة الأزلية والعناية الإلهية المقتضية
لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر تعلق تلك الإدارة بالأشياء في أوقاتها. والقدرية
قالوا: القضاء علمه تعالى بنظام الموجودات، وأنكروا تأثير قدرة الله تعالى بنظام الموجودات،
وأنكروا تأثير قدرة الله تعالى في أعمالنا، وتعلق إرادته بأفعالنا، وزعموا أنها واقعة بقدرنا،
ودواع منا، فأثبتوا لنا قدرة مستقلة بالإيجاد والتأثير في أفعالنا_ تم كلامه. وسيجئ الكلام في
القضاء والقدر على عكس ما ذكره القاضي. فإن قيل: لم أعاد ذكر (تؤمن) عند القدر؟ فالجواب
أنه عرف أن الأمة يخوضون فيه، وبعضهم ينفونه، ويقولون: إن الأمر أُنُف ولا قدر، مثل
المعتزلة، فلذلك اهتم بذلك بإعادة (تؤمن) ثم قرره بالإبدال بقوله:(شره وخيره) فإن البدل
توضيح مع التأكيد لتكرير العامل.
قال الشيخ محيي الدين النواوى في شرح صحيح مسلم: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص،
وهو قول ابن مسعود، وحذيفة، ومالك، والثورى، والأوزاعى، والنخعى، والحسن، وعطاء،
وطاوس، ومجاهد، وابن المبارك، وسفيان بن عبينه، ومعمر بن راشد وابن جريج، وجماعة
أهل السنة من سلف الأمة وخلفها. والحجة على زيادته ونقصانه الآيات، وقوله تعالى: (فاخشوهم فزادهم
إيمانا مع إيمانهم) وقوله تعالى: (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) وقوله تعالى: (فاخشوهم فزادهم
إيمانا).
ــ
قال الشيخ: أنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة والنقصان كان شكّا وكفرًا. قال المحققون من المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته- وهي الأعمال- ونقصانها، وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة، وأقاويل السلف، وبين وصفه في اللغة وما عليه المتكلمون. وقال صاحب التحرير في شرح صحيح مسلم: الإيمان في اللغة هو التصديق، فإن عني بذلك فلا يزيد ولا ينقص لأن التصديق ليس بشيء يتجزأ، حتى يتصور زيادته مرة ونقصانه أخرى، وفي لسان الشرع هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمال بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقصان، وهو مذهب أهل السنة.
وأقول: على التفسير الأول أيضًا يمكن الزيادة والنقصان به (قال) الكشاف في قوله تعالى في سورة الأنفال):وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا):ازدادوا بها يقينًا وطمأنينة النفس؛ لأن تظاهر الأدلة أدل المدلول عليه، وأثبت لقدمه، ويؤيده ما نسب إلى علي (رضي الله عنه) (لو كشف الغطاء ما ازددت يقياا)) وقوله تعالى:(أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)).
(قال الخطابي): المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن المسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا. أقول: ومصداقه قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا)(قال الحسن) في شرح السنة في باب الإيمان من الاعمال: اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، وقال في تأويل حديث عمر وجبريل. جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الإعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة، كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال:(ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم). وأقول: يرد الشيخ بهذا زعم من يذهب إلى أن الأعمال خارجة من الإيمان، والإيمان عبارة عن مجرد التصديق، ويتمسك الزاعم بظاهر الحديث، ومعنى ما قال الشيخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، لأن يتمسك به المتمسك أن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل جعل ذلك تفصيلا للمجمل الذي هو الدين.
ــ
وتلخيص كلمه أن الإسلام في عرف الشرع يطلق تارة مجرد الانقياد وظاهر الأعمال، كما في قوله تعالى:(وقالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) وأخرى على الانقياد مع التصديق والقول المذكور في الحديث هو الأول، ليطابق المجمل والمفصل، لا الثاني، فلا يكون هذا دليل على نفي الثاني، وإنما اقتضى الحديث التفصيل في الإجمال؛ لأن المقام مقام تعليم للأمة وتفهيم لهم، فيجب حمل الإيمان والإسلام على ما يتعارفون بينهم، والقوم لما تواردت النصوص مثل قوله تعالى:(إن الدين عند الله الإسلام) وقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) وقوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) إلى غير ذلك من النصوص الدالة على الزيادة في الإيمان- اصطلحوا على ترادف الإيمان والإسلام والدين، وأن الإعمال داخلة فيها، ولا مشاحة في الصطلاح.
(قال) الراغب: اختلفوا في الايمان أهو الاعتقاد المجرد أم الاعتقاد والعمل معًا؟ واختلافهم بسبب اختلاف نظرهم، فمن قال: هو الاعتقاد المجرد فنظره إلى اشتقاق اللفظ. وإلى أنه تعالى فصل بينهما في عامة التنزيل بالعطف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما في خبر جبريل عليه السلام حين سأله عن الإسلام والإيمان، وفسر الأوال بالأعمال والثاني بالاعتقاد، ومن قال: هو الاعتقاد والعمال فلما ورد من قوله: (الإيمان معرفة في القلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان) ولأن الإيمان ليس بذي منزلة واحدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وسبعون شعبة) الحديث، ومن تأمله وعرف حقيقته على أن الإيمان الواجب هو اثنتان وسبعون درجة لا أقل ولا أكثر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
وأقول: أما تأويل الحديث فقد كفى محيي السنة أهل السنة القتال، وأما تأويل العطف فبيانه من وجهين: أحدهما: أن العطف من باب قوله تعالى: (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) وذلك لأن الأعمال لما كانت مقررة مثبتة للإ] مان، وبها يستقيم ويتقوى، كقوله تعالى:(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أو رفعا له وتشييدا لبنيانه، كقوله:(إليه يصعد الكلم الطيب والعمال الصالح يرفعه) جعل شيئا آخر، وعطف عليه ولهذا السر جعل الله تعالى في قوله:(يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم) وقوله تعالى: (وما
ــ
الإحسان. قال: (أن تعبدالله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). قال: فأخبرني
ــ
خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) المطلوب من الخلق هو العبادة التي هي غاية الخضوع والاستكانة، وجعل المعرفة والتصديق كالمقدمة للواجب، ولعل الحكمة فيه إظهار الكبرياء والعظمة لله تعالى بإبداء غاية التضرع والاستطانة من المخلوقين، وإليه الإشارة بقوله تعالى:(يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) وقوله تعالى: (والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) أي إن استكبرتم وأعرضتكم عن إظهار الافتقار يستبدل قوما غيركم.
وثانيهما- وهو الوجه-أن غالب هذا العطف في صلة الموصول، والصلة والموصول شيء واحد، والدليل عليه قوله تعالى:(الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات) مقالب لقوله: (الذين كفروا وكذبوا) وقوله تعالى: (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) في معنى هدى للمتقين المؤمنين، وهو عين المطلوب.
فإن قيل: إذا جعل الإيمان عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل، فمن أخل بواحد منها يلزم أن لا يكون مؤمنًا؛ لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء. قلت: المراد بالإيمان ههنا هو الإيمان الكامل، وإذا كان المراد ذلك فإذا انتفى بعض منها ينتفي الإيمان الكامل، لا مطلق الإيمان.
قوله: ((فأخبرني عن الإحسان)) (قال الخاطبي): إنما أراد بالإحسان هاهنا الإخلاص، وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام معًا، وذلك أن من تلفظ بالكلمة وجاء بالعمل من غير نية الإخلاص لم يكن محسنًا، ولا كان إيمانه صحيحًا، قال صلى الله عليه وسلم (أن تعبد الله كأنك تراه) أي في إخلاص العبادة لوجه الله الكريم، ومجانبته الشرك الخفي، والعبادة لله الذي لا تنبغي العبادة إلا له على نعت الهيبة والتعظيم، حتى كأنه ينظر إلى الله خوفا منه وحياء وخضوعا له. (قال الراغب): الحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب فيه، وهو ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل، ومن جهة الهوى، ومن جهة الحس. والإحسان يقال على وجهين: أحدهما: الإنعما على الغير، يقال: أحسن إلى فلان. والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علما حسنا، أو عمل عملًا حسنا.
ــ
وأقول: يجوز أن يحمل الإحسان على الإنعام، وذلك أن العمال المرائي يبطل عمله ويحبطه، فيظلم على نفسه، فقيل له: أحسن إلى نفسك، ولا تشرك بالله، واعبد الله كأنك تراه، وإلا فتهلك، قال الله تعالى:) الذين يمكرون الشيئات لهم عذاب شديد) فإنها واردة في المرائي. ويجوز أن يحمل على المعنى الثاني، وعليه قوله تعالى:(أحسن كل شيء خلقه) وقوله تعالى: (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) أي المجيدين المتقنين في تعبير الرؤيا، كأنه سأل جبريل عليه السلام بما ينبيء عنه الإخلاص، كما قال الله تعالى:(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن).
وأما تقدير الشرط والجزاء فهو أن يقال: إن لم تعبدالله كأنك تراه فاعبده كأنه يراك. وتحرير المعنى وإن لم تكن تراه كذلك أي مثل تلك الرؤية المعنوية فكن بحيث إنه يراك. وهو من جوامع الكلم، أي كن عالما متيقظا، لا ساهيا غافلا، كجدا في مواقف العبودية، مخلصا في نيتك، آخذا أهبة الحذر إلى ما لا يحصى؛ فإن من علم أن له حافظا رقيبا شاهدا بحركاته وسكناته- لا سيما ربه ومالك أمره- فلا يسىء الأدب طرفة عين، ولا فلتة خاطر، هذا هو معنى الإجادة في الإيمان والإسلام. وقيل: التقدير فإن لم تكن تراه فلا تغفل فإنه يراك.
والأولى أن نضرب عن هذا المجل صفحا، ونأخذ في منهل آخر، فنقول:(كأنك) إما مفعول مطلق، أو حال من الفاعل، والثاني أوجه؛ لأنه يحصل به للعابد ثلاث حالات، كما إذا قلت: كأن زيدا قائم، فتصور له حالات القعود والانتصاب، والقيام، فتشبه حالة الانتصاب بالقيام؛ لأنك فإدخال (كأن) توهم أن له حالة غير القيام، وهي المشبه بالقيام، كما إذا رأى الناظر شخصا من بعيد فتردد بين قيامه وقعوده، ثم خيل له أنه إلى القيام أقرب فقال: كأنه قائم، أي يشبه انتصابه بالقيام، كذلك في الحديث. للعبد بين يدي مولاه حالات ثلاث إحداها: حالة اشتغاله بالعبادة على سنن تسقط القضاء، من حفظ شرائطها وأركانها وهيآتها. وحالة تمكنه من الإخلاص في القصد، وأنه بمرأى من مولاه، وهو مراقب لحركاته وسكناته. وحالة مشاهدته، واستغراقه في بحار المكاشفة، وإليه لمح قوله صلى الله عليه وسلم:(جعلت قرة عيني في الصلاة وأرحنا بها يا بلال) فشبه الحالة الثانية التي هي المراقبة بحالة المكاشفة التي هي من خواص النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا. ووجه التشبيه حصول الاستلذاذ بالطاعة، والراحة بالعبادة، وانسداد مسالك الالتفات إلى الغير باستيلاء أنوار الكشف عليه، وهو ثمرة امتلاء زوايا القلب من المحبوب، واشتغال السر به، ونتيجته نسيان الأحوال من العلوم، واضمحلال الرسول. فلما
عن الساعة. قال: (ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل). قال: ........
ــ
استبان الصبح أدرج ضوءه بإسفاره أنوار ضوء الكواكب فقوله: فإن لم تكن تراه تنزل من مقام
المكاشفة إلى مقام المراقبة، فينبغى أن يقدر: فاعلم قولى: إنه يراك.
قال الشيخ العارف أبو إسماعيل الأنصاري: الإحسان اسم جامع لجميع أبواب الحقائق،
وبهو ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الإحسان في القصد بتهذيبه علما، وإبرامه عزما، وتصفيته
حالا. الدرجة الثانية: الإحسان في الأحوال: وهو أن يراعيها غيره، ويسترها تطرقا، ويصححها
تحقيقا، الدرجة الثالثة: الإحسان في المواقف، وهوأن لا تزايل المشاهدة أبداً، ولا تلحظ بهمتك
أملا، وتجعل هجرتك إلى الحق سرمداً. فإن قلت: قد جعل الشيخ درجات الإحسان ثلاثا،
وليس في الحالات التي قسمتها ما يدخل في معني الإحسان إلااثنين. قلت: تشبيه الثانية
بالثالثة يوجب حالة أخرى متوسطة بين الإخلاص في القصد الذي هو شريطة فيه، وبين
المشاهدة التي هي غايتها، وتلك المتوسطة هي الدرجة الثانية في قول الشيخ، لأنها نتيجة
الإخلاص في العمل، ومحصلة للحالة الثالثة، أعنى المشاهدة، والله أعلم.
قوله: (فأخبرني عن الساعة) الساعة القيامة. (قال) الكشاف: سميت ساعة لوقوعها بغتة، أو
لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند
الخلق. عني بالعكس أنها سميت بها بناء على عكس ما هي عليه من الطول تلميحاً، كما سمى
المهلكة مفازة والأسود كافوراً.
قوله: (ما المسئول عنها)(قال) المظهر: (ما) نافية، يعنى لست أنا أعلم منك ياجبريل
بعلم القيامة. أقول: أراد المظهر أن أصل الكلام هكذا، فعدل عنه إلى ما عليه، وذلك أن
الأجوبة الثلاثة على خطاب جبرئيل عليه السلام كانت (تعريضا) للسامعين على طريقة
الخطاب العام، نحو قوله تعالى:(لئن أشركت ليحبطن عملك) ولو أجري على ذلك
الأسلوب لقيل: لست بأعلم منك. ولم يفد فائدة العموم؛ لأن المعني كل مسئول عنه
وسائل، أيا ما كان فهو داخل في هذا العموم. فإن قلت: من حق الظاهر أن يقال: ما
المسئول عنه ليرجع الضمير إلى اللام. قلت: كما يقال: سألت عن زيد المسئلة، يقال: سألته
عن المسئلة، فالضمير المرفوع راجع إلى اللام، والمجرور إلى الساعة.
ــ
فأخبرني عن أماراتها. قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاةَ العُراةَ العالةَ رعاء
الشاء ــ
ــ
واعلم أن الضمير في (عنها) راجع إلى الساعة، فلا بد من تقدير مضاف في السؤال
والجواب، نحو وقت وأيان؛ إذ وجود الساعة ومجيؤها مقطوع به، وإنما يسأل عن وقتها، كقوله
تعالى (يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها) أي في وقت أي شيء أنت
من أن تذكر وقتها لهم يعني ما أنت من ذكراها لهم وبتبيين وقتها في شيء. فإن قلت:
لفظة: (أعلم) مشعرة بوقوع الاشتراك في العلم، وأحدهما أزيد من الآخر، وهما يتساويان في
انتفاء العلم منهما. فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم نفى أن يكون صالحاً لأن يسأل عنه على سبيل الكناية، لما
عرف أن المسئول في الجملة ينبغي أن يكون أعلم من السائل، فهو من باب قوله تعالى: (ولا
شفيع يطاع) ويقال: إنه صلى الله عليه وسلم نفى عن نفسه العلم بالمسئول عنه بوجه خاص، تلخيصه: أنا
متساويان في أنا نعلم أن للساعة مجيئا في وقت ما من الأوقات، وذلك هو العلم المشترك بيننا،
ولا مزيد للمسئول على هذا العلم حتى يتعين عنده المسئول عنه، وهو الوقت المتعين الذي يتحقق
فيه مجيء الساعة.
قوله: (الله ورسوله أعلم) فهو على بابه؛ لأن الأمارة السابقة وتعجبهم منها أوقعتهم في
التردد، أهو بشر أم ملك؟ وهذا القدر يكفى في الشركة.
قوله: (أن تلد الأمة ربتها) الرب مشترك بين المالك والمربى، قال صاحب الأساس: ربَّ
الدار وربَّ العبد وربَّ ولده تربيته. (قال) الجوهري: رب كل شيء مالكه، (قال) الكشاف
الرب المالك، ومنه قول صفوان لأبى سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن
يربني رجل من هوازن. هذا هو المعني في الحديث.
فإن قيل: كيف أطلق الرب علي غير الله تعالى وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك في قوله: (لا يقل
أحدكم أطعم ربك، وأرض ربك، ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي
ومولاي).،والجواب أن هذا من باب التشديدوالمبالغة، كما سنقرره.
(تو): فسر هذا القول كثير من العلماء على أن السبي يكثر بعد اتساع رقعة الإسلام،
فيستولد الناس إماءهم، فيكون الولد كالسيد لأمه؛ لأن ملك الأمة راجع في التقدير إلى الولد،
وذكر بلفظ التأنيث وأراد به النسمة؛ ليشتمل الذكور والإناث، أو كره أن يقول: ربها؛ تعظيما
لجلال رب العباد، أو أراد البنت، وإذا كانت هكذا فالابن أولى.
ــ
ــ
(قض): وتأنيث (ربتها) وإضافتها إما لأجل أنه سبب عتقها، أو لأنه ولد ربها أو مولاها
بعد الأب، وذلك إشارة إلى قوة الإسلام؛ لأن كثرة السبي والتسري دليل على استعلاء الدين،
واستيلاء المسلمين، وهي من الأمارات؛ لان قوته وبلوغ أمره غايته منذر بالتراجع والانحطاط
المؤذن بأن القيامة ستقوم.
وأقول_ والعلم عند الله_: الكلام فيه صعب، بل هو مقام دحض، قلما تثبت فيه الأقدام
الراسية في البيان، وكان قلما يلتفت الخاطر إلى معرفته، وما تكلم فيه العلماء لم يكن يشفى
العليل، إلى أن تصديت أن تصديت لأمر هذا الخطب الجليل، فالواجب أولا تعيين المقام؛ لأن بيده زمام
حكم الكلام، ولا ارتياب أن أمارات الساعة وأشراطها من عظائم الشئون، وجلائل الخطوب،
فيجب حينئذ تأويل القريتين، أعنى قوله:(أن تلد الأمة ربتها) وقوله: (وأن ترى الحفاة العراة_
إلى قوله_ يتطاولون في البنيان) بما ينبئ عن ذلك النبأ العظيم من تغير الزمان، وانقلاب
أحوال الناس، بحيث لم يشاهد قبله، ولم ير مثله، وكيف؟ ولفظة (ترى) تنادى عن ذلك؛
لأنها من الخطاب العام على الاستغراق، كقوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم
عند ربهم) يعنى بلغ الخطب في العظم والفخامة بحيث لا يختص برؤية راء ةاحد، بل
كل من يتأتى منه الرؤية فهو مخاطب به.
فإذا تقرر بيان اقتضاء المقام فنثنى العنان إلى بيان الأساليب التي يستعان بها على تطبيق
القرينتين على ما يقتضيه المقام، من (المطابقة المعنوية)، (والكناية الزبدية)، و (الإدماج) المسمى
بإشارة النص. فنقول القرينة الثانية دلت بالكناية الزبدية_ التي لا ينظر فيها إلى مفردات
التركيب، لا حقيقة ولا مجازاً، بل تؤخذ الزبدية والخلاصة من المجموع_على أن الأذلة من
الناس ينقلبون أعزه، ملوك الأرض، فينبغي أن تتول القرينة السابقة بما يقابلها؛ ليطابقا في أن
يصير الأعزة أذلة، ومعلوم أن الأم مربية للولد، ومدبرة أمره، فإذا صار الولد ربا ومالكا لها -
لا سيما إذا كانت بنتا- ينقلب الأمر، هذا هو المعنى بالتشديد والمبالغة الموعود بهما، ثم في
وضع الأمة ووصفها بالولادة موضع الأم إشعار بمعنى الاسترقاق والاستيلاء، وأن أولئك
الضعفة الأذلة الذين فهموا من القرينة الثانية هم الذين يتعدون ويتسلطون ويفتحون البلاد
ويسترقون كرائم النساء وشرائفها، ويستولدونها، فتلد الأمة ربتها.
فالحاصل: أن قوله: (أن تلد الأمة ربتها) دل بعبارته على المقصود، وبإشارته على معنى
آخر، وهو كثرة المستولدات، وإنما وصف النساء بالشرف والكرامة ليفيد المعنى المقصود، كان
الواقع كذلك، ألا ترى إلى الملكة حرقة بنت النعمان حين سبيت وأحضرت بين يدى سعد
ابن أبى وقاص رضي الله عنه كيف انشدت:
يتطاولون في البنيان).
قال: ثم انطلق، فلبثتُ مليَّا، ثم قال لي:(ياعمر أتدرى من السائل)؟ قلتُ: اللهُ
ورسوله أعلم. قال: (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). رواه مسلم
ــ
فبينا نوس الناس والأمر أمرنا
…
إذا نحن فيهم سوفة نتنصف
فأف لدينا لا يدوم نعيمها
…
تقلب تارات بنا وتصرف
والى قول أبي الطيب:
تبكى عليهن البطاريق في الدجى
…
وهن لدينا ملقيات كواسد
وفي معناه أنشد:
إذا ذل الدنيا الأعز واكتسى
…
أعزتها ذلا وساد مسودها
هناك فلا جادت سماء بضوئها
…
ولا أشرقت أرض ولا اخضر عودها
وإن استبدعت بيان المطابقة المعنوية بين القريتين على ما مر فانظر إلى قوله (تعالى)
(أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار)
وإلى تقرير صاحب الكشاف المطابقة فيها، وما في التبيان لتقف على دقة هذا
الأسلوب، ومواقع استنباط المعاني من القرينتين، وفي القرينتين إيذان بنصرة المؤمنين
وفتحهم البلاد مشارقها ومغاربها، كما ورد: (إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها
وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لى منها) أخرجه مسلم عن ثوبان. و (العالة) الفقراء، واحدها
عائل، يقال:(يتطاولون في البنيان) أي يتفاخرون في طول بيوتهم ورفعتها، تطاول الرجل إذا
تكبر، يعني من علامات القيامة أن ترى أهل البادية ممن ليس لهم لباس ولا نعل، بل كانوا
رعاء الإبل والشاء يتوطنون البلاد، ويتخذون العقار، ويبنون الدور والقصور المرتفعة، قاله
المظهر.
ــ
3 -
ورواه أبو هريرة مع اختلاف، وفيه: (وإذا رأيت الحفاة العُراة الصمَّ البكمَ،
ملوك الأرض في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم قرأ: (إن الله عنده علم الساعة وينزلُ
الغيث) الآية متفق عليه
ــ
قوله: (الصم البكم) كانت حواسهم سليمة، ولكن جعلوا لبلادتهم وعدم تمييزهم كأنه
أصيبت مشاعرهم. قوله: (في خمس) أي علم وقت الساعة داخلة في جملة خمس، وحذف
متعلق الجار سائغ شائع، كما في قوله (تعالى):(تسع أيات) أي أذهب إلى فرعون في شأن
تسع أيات، ويجوز أن يتعلق ب (أعلم) يعنى ما المسئول عنها بأعلم فى خمس أي في علم
الخمس، فكما عم في المسئول عنه أولا عم في المسئول ثانياً، أي لا ينبغي لأحد أن يسأل أحداً
في علم الخمس؛ لأن العلم بها مختص بالله (تعالى). وفيه إشارة إلى إبطال الكهانة والنجامة
وما شاكلها. قال لبيد:
لعمرك ما تدرى الضوارب بالحصى
…
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وإدشاد للأمة وتحذير لهم عن إتيان من يدعى علم الغيب، فإذا الجواب من (الأسلوب
الحكيم). أجاب عن سؤاله في ضمن أشياء مهمة لا بد من بيانها (إرشادا) للأمة وتنبيها
للمعلم عليها. كأنه قيل: سؤالك هذا يقتضي أن لا يقتصر على جواب واحد، بل يجاب مع
هذه الأمور المهمة، فإن اهتمامها كاهتمامه. أو يقال: كان يجب عليك أيها المعلم أن لا تقتصر
على سؤال واحد بل تسأل عن هذه الأشياء المهمة.
فإن قيل: أليس إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة من قبيل قوله: (وما تدرى نفس ماذا تكسب
غدا)؟ قلت: إذا أظهر بعض المرتضين من عباده بعض ما كوشف له من الغيوب لمصلحة ما
لا يكون إخباراً بالغيب بل يكون تبليغا له، قال الله تعالى: (ولا يظهر على غيبه أحدا إلا من
ارتضى من رسول)
فإن قلت: كيف يطابق تفسير سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الآية بقوله: (في خمس لا يعلمهن إلا الله)
وليس في الآية أداة الحصر كما في الحديث؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون (علم
الساعة) فاعلا للظرف؛ لاعتماده على اسم إن، ويعطف (وينزل الغيث) عن الغير، أي يعلم
الظرف وفاعله على تأويل الجملتين المنفيتين بإثبات ما نفى فيهما لله (تعالى) عن الغير، أي يعلم
ماذا تكسب كل نفس غداً، ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت. قال أبو البقاء: هذا العطف
ــ
ــ
يدل على قوة شبه الظرف بالفعل. وقال صاحب الكشاف: جاء بالظرف وما أرتفع به ثم قال:
(وينزل الغيث) فعطف الجملة على الجملة، ومثله قوله (تعالى):(نسقيكم مما في (بطونها) ولكم
فيها منافع) فصدر بالفعل والفاعل، ثم عطف بالظرف، وما ارتفع به.
وإذا تقرر هذا فنقول: إذا كان الفعل عظيم الخطر، وما بنى عليه الفعل علي القدر رفيع
الشأن فهم منه الحصر على سبيل الكناية. وفي (الكشاف) في قوله (تعالى): (الله نزل أحسن
الحديث) الآية: وإيقاع اسم الله مبتدأ وما نزل عليه من تفخيم لأحسن الحديث ورفع منه،
يصدر إلا عنه، وقال الله (تعالى):(الله يبسط الرزق لمن يشاء) [وقال في قوله تعالى:
(الله يبسط الرزق)] في الرعد الله وحده هو يبسط الرزق ويقدر، دون غيره.
فإن قلت: إذا عطف (وينزل) على الجملة كيف دل على العلم؟ قلت: إذا نفى إنزال الغيث عما كانوا ينسبون إليه من طلوع الأنواء اختص بالله (تعالى) فيلزم منه اختصاص علم الله (تعالى).
وثانيهما: أن يذهب إلى أن الظرف خبر مقدم على المبتدأ لإفادة الحصر، ويعطف (ينزل) على المضاف إليه، يعني عنده علم الساعة، وعلم تنزيل الغيث على تقدير: أن ينزل، فحذف (أن) فارتفع الفعل، نحو قوله: أحضر الوغى، ويعطف (ويعلم مافي الأرحام) وما بعده على المضاف، أي إن الله عنده علم مافي الأرحام، وعلم ماذا تكسب كل نفس غدًا، على التقدير المذكور.
فإن قلت: فأي نكتة دعت إلى العدول عن المثبت إلى المنفي في قوله: (وماتدري نفس) وما فائدة تكرير نفس تنكيرها، وإيثار الدارية على العلم؟ فإنها إدراك الشيء بالحيلة. قلت: إذا نفيت الدراية لما فيها من معنى الحيلة في اكتساب العلم من كل نفس على سبيل الاستغراق لوقوع النكرة في سياق النفي- أفاد أن كل نفس منفوسة من الإنسان وغيره إذا أعملت حيلها في معرفة ما يختص ويلصق بها، ولا شيء أخص من الإنسان من كسب نفسه وعاقية أمره، ولا يقف على شيء من ذلك، فكيف يقف على ما هو أبعد وأبعد، خصوصًا من معرفة وقت الساعة، وأيان إنزال الغيث، ومعرفة ما في الأرحام. والفائدة في بيان الأمارات هي أن يتأهب الملكف المسير إلى المعاد بزاد التقوى.
ولما اشتمل هذا الحديث على هذه المطالب العزيزة، والمقاصد السنية التي هي أمهات أصول الدين - أودعه محيي السنة في مستهل باب كتابيه: شرح السنة، والمصابيح؛ تأسيّا بالله (عز
ــ
4 -
وعن ابن عمر، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). متفق عليه.
ــ
وجل) في تقديم الفاتحة التي هي أم القرآن المشتملة على ما بعدها إجمالا براعة للاستهلال، والله أعلم بالأسرار.
قوله: (فلبثت مليّا) أي زمانا طويلًا، يقال: عشت معه ملاوة من الدهر (بالحركات الثلاث). ويقال لليل والنهار: الملوان. وفي رواية أبي داود والنسائي: (قال عمر: فلبثت مليّا).
قوله: (فإنه جبرئيل) الفاء فيه جزاء شرط محذوف. تقديره: أما إذا فوضتم العلم إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وقرينة الشرط المحذوف قولهم: (الله ورسوله أعلم). (قض): جبريل عليه السلام ملك متوسط بين الله ورسوله، ومن خواص الملك أن يتمثل للبشر، فيراه جسما مشكلا محسوسًا. ثم الدليل عليه اتفاق الحاضرين من الصحابة الكرام على ذلك، وروى محيي السنة أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر (رضي الله عنه):(ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم، وما أتى في صورة إلا عرفته فيها إلا صورته هذه). (تو): هذه الأسئلة والأجوبة صدرت قبيل حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة قريب انقطاع الوحي واستقرار الشرع.
الحديث الثاني عن ابن عمر (رضي الله عنه) قوله: (بني الإسلام على خمس). (غب): الإسلام الدخول في السلم، وهو أن يسلم كل واحد منهما أن يناله ألم من صاحبه. والإيمان هو الإذعان للحق على سبيل التصديق له باليقين. هذا أصله، ثم صار اسما لشريعو رسول الله صلى الله عليه وسلم كالإسلام. (مح): وفي رواية وقع: (خمسة) بالهاء على تأويل أركان، أو أشياء، أو نحو ذلك، وبرواية حذفها يراد به خصال، أو دعائم أو قواعد.
أقول: لا تخلو هذه الخمس من أن تكون قواعد البيت، أو أعمدة الخباء، وليس الأول؛ لكون القواعد على أربع، فتعين الثاني، وينصره ما جاء في حديث معاذ:(وعمود الصلاة). مثلت حالة الإسلام مع أركانه الخمسة بحالة خباء أقيمت على خمسة أعمدة، وقطبها الذي تدور عليها الأركان هي: شهادة أن لا إله إلا الله، وبقية شعب الإيمان كالأوتاد للخباء. روى أن
ــ
الفرزدق حضر جنازة، فسأله بعض أئمة أهل البيت رضي الله عنهم يا فرزدق! ما أعددت لمثل هذه الحالة؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: هذا العمود، فأين الأطناب؟ هذا على أن يكون استعارة تمثيلية؛ لأنها وقعت في حالتي الممثل والممثل به، ويجوز أن تكون الاستعارة تبعية، بأن يقدر الاستعارة في (بني) والقرينة الإسلام)، شبه ثبات الإسلام واستقامته على هذه الأركان الخمسة ببناء الخباء على الأعمدة الخمسة، ثم تسري الاستعارة من المصدر إلى الفعل. وأن تكون مكنية، بأن تكون الاستعارة في الإسلام، والقرينة (بني) على التخييل، ثم خيل ما يلازم الخباء المشبه به من البناء، ثم أثبت له ما هو ملازم البيت من البناء على الاستعارة التخييلية، ثم نسب إليه ليكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة.
فظهر من هذا التحقيق أن الإسلام غير، والأركان غير. كما أن البيت غير، والاعمدة غير، ولا يستقيم ذلك إلا على مذهب أهل السنة؛ فإن الإسلام عبارة عن التصديق بالجنان، والقول باللسان، والعمل بالأركان. وعلى هذا حديث الإيمان،. ولهذا السر عقب محيي السنة بهذا الحديث حديث:(الإيمان بضع وسبعون شعبة) وفيه أن أعلى شعبها (قول: لا إله إلا الله). وكما شبه الإسلام في الحديث الأول بخباء ذات أعمدة وأطناب، شبه الإيمان في الثاني بشجرة ذات أغصان وشعب، وإيرادها بعد حديث جبرئيل عليه السلام يحقق ما قررناه من أن الإصطلاح حصل بعد الاستعمال.
الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: (بضع وسبعون) البضع القطعة من الشيء، وهي في العدد ما بين الثلاث إلى التسع؛ لأنه قطعة من العدد، والشعبة غصن الشجر، وفرع كلأصل. (وأدناها) أي أقربها منزلة وأدونها مقداراً، من الدنو بمعنى القرب، يقال: فلان أدنى القدر، وقريب المنزلة، كما يعبر بالبعيد عن ضد ذلك فيقال: فلان بعيد الهمة، وبعيد المنزلة، بعنى رفيع العالي، ولذلك استعمله في مقابلة في مقابلة الأعلى. (وإماطة) الشيء عن الشيء إذا أزاله عنه، وأذهبه، و (الأذى) في الحديث اسم ما يؤذي الناس، نحو الشوك، والحجر، والطين، وما أشبهها. فإن قلت: ما معنى الفاء في (فأفضلها)؟ قلت: هي جزاء شرط محذوف، كأنه قيل: إذا كان الإيمان ذا شعب يلزم التعدد، وحصول الفاضل والمفضول، بخلافه إذا كان أمرًا واحدًا.
ــ
(قض): (الحياء) تغيير وانكسار يعتري المرء من خوف ما يلام به قيل هو مأخوذ من الحياة، وكأن الحيي صار لما يعتريه من التغيير والانكسار، مؤوف الحياة، منكسر القوى، ولذلك قيل مات حياء وجمد في مكانه خجلا. وإنما أفرده بالذكر لأنه كالداعي والباعث إلى سائر الشعب، فإن الحيي يخاف فضيحة الدنيا، وفظاعة الأخرة، فينزجر عن المعاصي، فصار من الإيمان، إذ الإيمان ينقسم إلى ائتمار لما أمر الله به وانتهاء عما نهى عنه.
(قض): قوله صلى الله عليه وسلم: (بضع وسبعون) يحتمل أن يكون المراد به التكثير دون التعديد، كما في قوله (تعالى):(إن تستغفر لهم سبعين مرة) واستعمال لفظة السبعة والسبعين للتكثير كثيرة، وذلك لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فإنه ينقسم إلى فرد وزوج، وكل منهما إلى أول ومركب، والفرد الأول ثلاثة، والمركب خمسة، والزوج الأول اثنان، والمركب أربعة، وينقسم أيضًا إلى منطقة كالأربعة، وأصم كالستة، والسبعة يشتمل على جميع هذه الأقسام. ثم إن أريد مبالغة جعلت آحادها أعشارا، ويحتمل أن حاصلها يرجع إلى أصل واحد، وهو تكميل النفس على وجه يصلح معاشه، ويحسن معاده، وذلك بأن يعتقد الحق، ويستقيم في العمل، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم حيث قال لسفيان حين سأله في الإسلام قولا جامعًا:(قل: آمنت بالله: ثم استقم).
وفنون اعتقاد الحق ينشعب ستة عشر شعبة: طلب العلم، ومعرفة الصانع، وتنزيه عن النقائص، وما يتداعى إليها، والإيمان بصفات الإكرام، مثل الحياة، والعمل، والقدرة، والإقرار بالوحدانية، والاعتراف بأن ما عداه صنعه لا يوجد، ولا يعدم إلا بقضائه وقدره، والإيمان بالملائكة المتطهرة عن الرجس، وتصديق رسله المؤيدين بالآيات في دعوى النبوة، وحسن الإعتقاد فيهم، والعلم بحدوث العالم، واعتقاد فنائه على ما ورد به التنزيل، والجزم بالنشأة الثانية، وإعادة الأرواح إلى لاجساد، والإقرار باليوم الآخر، أعني بما فيه من الصراط والحساب، وموازنة الأعمال، وسائر ما تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم والوثوق على وعد الجنة وثوابها، واليقين بوعيد النار وعقابها.
وفن العمل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها يتعلق بالمرأ نفسه، وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يتعلق بالباطن، وحاصله تزكية النفس عن الرذائل، وأمهاتها عشرة: شره الطعام، وشره الكلام، والبخل، والكبر، وحب المال، وحب الجاه، وحب الدنيا، والحقد والحسد، والرياء، والعجب، وتحلية النفس بالكمالات، وأمهاتها ثلاثة عشرة: التوبة، والخوف، والرجاء، والزهد، والحياء والشكر، والوفاء، والصبر، والإخلاص، والصدق، والمحبة، والتوكل، والرضى بالقضاء، وثانيها ما يتعلق بالظاهر، ويسمى العبادات، وشعبها ثلاث عشرة: طهارة البدن عن الحدث والخبث، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والقيام بأمر الجنايز، وصيام رمضان، والاعتكاف، وقراءة القرآن، وحج البيت، والعمرة، وذبح الضحايا، والوفاء بالنذكر، وتعظيم الإيمان وأداء الكفارات.
وثانيهما: ما يتعلق به وبخواصه وأهل منزلته وشعبها ثمان التعفف عن الزنا والنكاح والقيام بحقوقه والبر بالوالدين وصلة الرحم وطاعة السادة والإحسان إلى المماليك والعتق.
وثالثها: ما يعم الناس، وينوط به إصلاح العباد، وشعبها سبع عشرة: القيام بإمارة المسلمين، واتباع الجماعة، ومطاوعة أولى الأمر، ومعاونتهم على البر، وإحياء معالم الدين ونشرها، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الدين بالرجز عن الكفر، ومجاهدة الكفار، والمرابطة في سبيل الله، وحفظ النفس بالكف عن الجنايات، وإقامة حقوقها من القصاص والديات، وحفظ الأنساب وأعراض الناس بإقامة حدود الزنا والقذف، وصيانة العقل بالمنع عن تناول المسكرات والمخبثات بالتهديد والتأديب عليه، ودفع ضرر عن المسلمين، ومن هذا القبيل إماطة الأذى.
(غب): هذا حديث من تأمله وعرف حقيقته على أن الإيمان بالواجب هو اثنتان وسبعون درجة، لا يصح أن يكون أكثر منها ولا أقل، ولا يوجد من الإيمان ما هو خارج عنها بوجه.
وأقول: ثم شرع بعد هذا في تقسيم الإيمان بهذا العدد المخصوص، ولم نذكره لصعوبته، وها هو الإمام المتقن قدوة المحدثين أبو بكر البيهقي، قد صنف كتاب شعب الإيمان في مصنفات مجلدات مطنبا فيها كل الإطناب في حصر الاعداد.
وأقول - والعلم عند الله -: والأظهر أن يذهب إلى معنى التكثير، ويكون ذكر البضع للترقي، يعني أن شعب الإيمان أعداد مبعهمة، ولا نهاية لكثرتها، إذ لو أريد التحديد لم يبهمه، ولعمري أنه كذلك، وبيانه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ابتدائها وانتائها ووسطها. فلو أخذت من الابتداء إلى الانتهاء كان على وزن قوله (تعالى): إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) معناه من رضي بالله ربّا، وعمل بمقتضاه، لم يدع ما يحب عليه أن ياتي ويذر، فإنك إن تنزلت من حديث خالق الموجودات إلى حديث الشوكة وإماطتها هل تجد شيئا مما يحسنه الشرع والعقل من الاخلاق، ومراضي الأعمال خارجا من ذلك؟ وكذا لو عكست وترقيت من إماطة الشوكة إلى الاعلى، ولو شرعت في معنى الحياء وفسرته بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(استحيتوا من الله، قالوا: إنا نستحيي من الله يا رسول الله، والحمد لله، قال: ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وماحوى، ويذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء) لقد حاولت أمرًا عظيماً، وفيه إشارة إلى منازل السائرين إلى الله، والسالكين لطريق الآخرة.
قال الشيخ العارف أبو القاسم الجنيد (رحمة الله عليه): الحياء حالة تتولد في رؤية الآلاء ورؤية التقصير. وقد صنف الإمام أبو اسماعيل عبدالله الأنصاري فيها كتابًا، وحصرها في مائة باب، كل باب يشتمل على درجات شتى، ثم ليذق من منح الفضل الإلهي
6 -
وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمُ من سلم المسلمون
من يده، والمهاجرُ من هجر ما نهى الله عنه) هذا لفظ البخاري. ولمسلم قال:
(إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه
ويده).
ــ
ورزق الطبع السليم إفراد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب، كأنه يقول: هذه شعبة
واحد من شعبه، فهل تحصى وتعد شعبها؟ هيهات! إن البحر لا ينزف.
وكفى بهذا الحديث شاهداً على أن الإيمان جامع للتصديق والإقرار والأعمال، ومن رده كابر
عقله. وظهر من هذا معنى التكثير في سبعين، ولخص بعض المفسرين قول علي بن عيسى
النحوي في ذلك وقال: السبعة أكمل الأعداد! لأن الستة أول عدد تام؛
لأنها تعادل أجزاؤها، فإن نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وسدسها واحد، وجملتها ستة سواء،
وهي مع الواحد سبعة، وكانت كاملة؛ إذ ليست بعد التمام سوى الكمال، ولعل واضع اللغة
يسمى الأسد سبعاً لكمال قوته، كما أنه أسد لإساده في السير، ثم السبعون غاية الغاية؛ إذ
الآحاد غايتها العشرات. انظر أيها المتأمل، في هذه الألفاظ القليلة المستقلة بالمعاني الجمة الجليلة،
واشهد له أنه صلى الله عليه وسلم أوتى كنوز الحكمة، وفصل الخطاب.
الحديث الرابع عن عبدالله رضي الله عنه: قوله: (المسلم من سلم المسلمون) فإن قلت:
إذا سلم المسلمون منه يلزم أن يكون مسلما وإن لم يأت بسائر الأركان؟ قلت: هذا وارد على
سبيل المبالغة تعظيما لترك الإيذاء، كأن الإيذاء هو نفس الإسلام الكامل، ولعل واضع اللغة يسمى الأسد سبعاً لكمال قوته، كما أنه أسد لإساده في السير، ثم السبعون غاية الغاية؛ إذ الآحاد غايتها العشرات. انظر أيها المتأمل، في هذه الألفاظ القليلة المستقلة بالمعاني الجميلة الجليلة، واشهد له أنه صلى الله عليه وسلم أوتي كنوز الحكمة، وفصل الخطاب.
الحديث الرابع عن عبدالله رضي الله عنه: قوله: (المسلم من سلم المسلمون). فإن قلت: إذا سلم المسلمون منه يلزم أن يكون مسلما وإن لم يأت بسائر الأركان؟ قلت: هذا وارد على سبيل المبالغة تعظيما لترك الإيذاء، كأن ترك الإيذاء هو نفس الإسلام الكامل، وهو محصور فيه على الإدعاء كرماد. (حس): أراد أن المسلم الممدوح والمهاجر من هذه صفته، لا أن الإسلام ينتفي عمن لم يكن بهذه الصفة، فهو كقولهم: الناس العرب، والمال الإبل، يريدون أن الأفضل منهما ذلك، وكذلك أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله (تعالى) أداء حقوق المسلمين، والكف عن أعراضهم، وأفضل المهاجرين من جمع إلى هجران وطنه هجران ما حرم الله عليه. وأقول: تحقيقه أن التعريف في المسلم والمهاجر للجنس، قال ابن جني: من عادتهم أن يوقعوا على الشيء الذي يخصونه بالمدح اسم الجنس، ألا ترى كيف سموا الكعبة بالبيت؟ وكتاب سيبويه بالكتاب؟ (غب): كل اسم نوع فإنه يستعمل على وجهين: أحدهما: دلالة على المسمى وفصلا بينه وبين غيره. والثاني: لوجود المعنى المختص به، وذلك هو الذي يمدح به، وذلك أن كل ما اوجده الله في هذا العالم جعله صالحا لفعل خاص، ولا يصلح لذلك العمل سواه، كالفرس
7 -
وعن انس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين). متفق عليه.
ــ
للعدو الشديد، والبعير تقطع الفلاة البعيدة؛ والإنسان ليعلم ويعمل بحسبه، وكل شيء لم يوجد كاملا لما خلق له لم يستحق اسمه مطلقا، بل قد ينتفي عنه، كقولهم: فلان ليس بإنسان، أي لا يوجد فيه المعنى الذي خلق لأجله من العلم والعمل، فلى هذا إذا وجدت مسلما يؤذي المسلمين بلسانه ويده، فقلت له: لست بمسلم، عنيت أنك لست بكامل فيما تحليت به من حلية الإسلام، وهذا معنى قول محيي السنة: إن الإسلام ينفى عمن ليس بصفته.
فإن قيل: ما معنى تخصيص المسلم بالذكر ثم المسلمون ثم اللسان واليد؟ والجواب (والله أعلم) هو إظهار رأفته صلى الله عليه وسلم بالأمة وإلحاقه بالكل من أصحابه (رضوان الله عليهم)، كأنه قال: المسلم الكامل من تشبه بهم، واتصف بصفتهم التي وصفهم الله (تعالى) بها في قوله (تعالى):(أشداء على الكفار رحماء بينهم) وكان شدتهم على الكفار المجاهدة بالسنان واللسان، وترحمهم على غخوانهم المسلمين بكف الأذى وإيثار الموجود، كما قال الله (تعالى):(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) فخص بما ينبيء عن كف الاذى؛ ليؤذن بغاية التواضع والذلك، تلويحا إلى معنى قوله:(أذلك على المؤمنين أعزة على الكافرين). ولما كانت عزتهم على الكفرة وقهرهم باليد واللسان، فينبغي أن ينتفي عنهم ما كانت العزة به، وهو يستلزم الإيثار بطريق الأولى وفي تقديم كر اللسان، فينبغي أن ينتفي عنهم ما كانت العزة به، وهو يستلزم الإيثار بطريق الأولى وفي تقديم ذكر اللسان على اليد رمز إلى معنى قوله قوله صلى الله عليه وسلم لحسان:(اهج المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبل) او كما قال. ويمكن أن ينزل الإسلام بلسان أهل السلوك على التسليم والرضى.
(غب): الإسلام في الشرع على ضربين: أحدهما دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وبه يحقن الدم، حصل معه الاعتقاد أو لم يحصل، وإياه قصد بقوله (تعالى):(قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا). والثاني فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب، ووفاء بالفعل، واستسلام لله في جميع ما قضى وقدر، كما ذكر عن إبراهيم عليه السلام (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) انتهى كلامه. فمن أسلم وجهه لله وهو محسن، ورضي بما قضى وقدر، لم يتعرض لأحد، وكف أذاه بالكلية، لا سيما عن إخوانه المسلمين، وعيه ينطبق الزيادة في رواية مسلم، وفيها أيضًا شهادة لصحة تأويل رواية البخاري.
الحديث الخامس عن أنس (رضي اللهعنه): قوله: (أحب). (غب): المحبة إرادة ما يراه أو يظنه خيرًا، وهو على ثلاثة أوجه: محبة الرجل المرأة. ومحبة النفع، كمحبة شيء
8 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار). متفق عليه.
ــ
ينتفع به. ومحبة الفضل، كمحبة أهل العلم بعضهم بعضًا لأجل العلم. (خط): لم يرد بالحب حب الطبع، بل أراد به حب الاختيار المسند إلى الإيمان الحاصل من الاعتقاد؛ لأن حب الإنسان لنفسه ووالده طبع مركوز عريزي خارج عن حد الاستطاعة، ولا تكلف نفس إلا وسعها، ولا سبيل إلى قلبه، ومعناه لا تصدق لي حتى تفدي في طاعتي نفسك، وتؤثر رضائي على هواك وإن كان فيه هلاكك.
أقول: قوله: (لا سبيل إلى قلبه) ليس بمطلق، وذلك أن المحب ينتهي في المحبة إلى أن يتجاوز عن الهوى، فيؤثر هو المحبوب على هوى نفسه فضلا عن محبة ولده، بل يحب أعداء نفسه لمشابهتهم بمحبوبته، قال:
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
…
إذ صار حظي منك حظي منهم
وأيضا في قوله صلى الله عليه وسلم: (أحب إليه من والده وولده) إشعار بالموازنة والترجيح، وتلميح إلى قضية النفس بالأمارة، واللوامة، والمطمئنة، فإن الأمارة ما ئلة إلى اللذات وحب العاجلة، والمطمئنة مقابلة بها مرجحة لحب الآجلة، فإن من رجح جانب الأمارة كان حب أهله ووالده، راجحًا على حبه صلى الله عليه وسلم. ومن رجح جانب المطمئنة كان حكمه بالعكس، وإليه الإشارة بقوله (تعالى):(يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).
ولا ارتياب أن من دخل في زمرة عبادة المرتضين، وانخرط في سلط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين- ولا يحب أن ينكص على عقبيه، فيرجح جانب الأهل والأولاد على جانبه صلى الله عليه وسلم وهذا محال. وفي هذا التقرير أيضا معنى قوله:(ووجد حلاوة الإيمان) وذلك أن النفس الأمارة موءوفة كمن غلبت عليه الصفراء. فإنه لا يجد حلاوة العسل، فإذا صحت واطمأنت زال عنه ذلك المرض، فيجد حلاوة الإيمان. والله أعلم.
ويؤيده قول القاضي عياض: في محبته صلى الله عليه وسلم نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل ماله ونفسه دونه. وإذا تبين ما ذكرناه بين ان حقيقة الإيمان لا يتك إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق أعلى قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد، ومحسن ومفضل، ومن لم يعتقد هذا فليس بمؤمن.
الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: (ثلاث من كن فيه) ثلاث مبتدأ، والجملة
الشرطية خبره، وجاز ذلك؛ لأن التقدير: خصال ثلاث. قال المالكي في شرح التسهيل: مثال
الابتداء بنكرة هي وصف على قول العرب: ضعيف عاذ بقرملة. أي إنسان ضعيف أو حيوان
ضعيف التجأ إلى ضعيف القرملة شجرة ضعيفة. ويجوز أن تكون الجملة الشرطية صفة
لثلاث؛ كما أنه يجوز أن تكون خبر المبتدأ في قولك: زيد إن تعطه يشكرك. أو صلة
للموصل كما في قوله (تعالى): (وليخش الذين لو تركوا) أو حالا لذي الحال، كما في
قوله تعالى: (إن تحمل عليه يلهث) ويكون الخبر: (من كان الله ورسوله أحب إليه) وعلى
التقديرين لابد من تقدير مضاف قبل (من كان) لأنه على الأول إما بدل عن ثلاث، أو بيان،
وعلى الثاني خبر. قيل: لابد من إضمار مضاف قبل كل لا ستقامة المعنى، تقديره قبل (من)
الأولى والثانية: محبة من كان الله ورسوله، ومحبة من أحب عبداً، وقبل (من الأولى والثالثة:
محبة من كان الله ورسوله، ومحبة من أحب عبداً، وقبل (من) الأولى والثالثة: وكراهة من
يكره أن يعود؛ ولشدة اتصال المضاف بالمضاف إليه في الإضافات الثلاث وغلبة المحبة والكراهة
عليهم حذف المضاف منها.
وحلاوة الإيمان استعارة شبهت شدة رغبة المؤمنين في إيمانه بشيء ذي حلاوة، وأثبت له لازم
ذلك، وأضيف إليه على التخبيلية. (مح): معنى حلاوة الإيمان استلذاذالطاعات، وتحمل
المشاق في رضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ذلك على هوى نفسه وأعراض الدنيا، فمن
وجد حلاوة الإيمان اطمأن به نفسه، وانشرح له صدره، وخالط لحمه ودمه، فأحب الله تعالى
ورسوله صلى الله عليه وسلم بفعل الطاعة وترك المخالفة؛ إن المحب لمن يحب مطيع. وقيل: المحبة مواطأة
القلب على ما يرضى الرب سبحانه، فيحب ما أحب، ويكره ما كره.
وبالجملة أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان
ويستحسنه، كحسن الصورة والطعام ونحوها، وقد بعقله المعاني الباطنة كمحبة الصالحين
والعلماء وأهل الفضل مطلقا، وقد يكون لإحسانه ودفعه الضار والمكاره عنه، وهذه المعاني كلها
موجودة في النبى صلى الله عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكما خلال الجلال وأنواع
الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الطريق ودوام النعيم، والإبعاد
من الجحيم. وقد أشار بعضهم إلى أن هذا متصور في حق الله تعالى فإن الخير كله منه (سبحانه
وتعالى). قال مالك وغيره: المحبة في الله تعالى من واجبات الإسلام. (قض) إنما جعل هذه
ــ
9 -
وعن العباس بن عبد المطلب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من
رضى الله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدً رسولا) رواه مسلم.
ــ
إنما جعل هذه [كذا] الأمور الثلاثة عنواناً لكمال الإيمان المحصل لتلك اللذة لأنه لا يتم إيمانه امرئ
حتى يتمكن في نفسه أن المنعم والقادر على الإطلاق هو الله (تعالى) ولا مانح ولا مانع سواه،
وما عداه وسائط لها، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو العطوف الحقيقي الساعي في إصلاح شأنه، وإعلاء
مكانه، وذلك يقتضي أن يتوجه بشراشره نحوه، ولا يحب ما يحبه إلا لكونه وسطاً بينه
وبينه، وأن يتيقن أن جملة ما وعد به وأوعد حق لا يحوم الريب حوله، فيتيقن أن الموعود
كالواقع، وأن بما ينول إليه الشيء كملابسه، فيحسب مجالس الذكر رياض الجنة، وأكل مال
اليتيم أكل النار، والعود إلى الكفر الإلقاء في النار، فيكره أن يلقى في النار.
فإن قيل: لم ثنى الضمير ههنا؟ ورد على الخطيب (ومن عصاهما فقد غوى) في حديث
عدى بن حاتم رضي الله عنه وأمره بالإفراد؟ والجواب: ثنى الضمير ههنا إيماء إلى أن المعتبر
هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة فإنها وحدها ضائعة لا غية، وأمر بالإفراد في
حديث عدى رضي الله عنه إشعاراً بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، فإن
قوله: (ومن عصى الله ورسوله) من حيث أن العطف في تقدير التكرير، والأصل فيه استقلال
كل من المعطوف والمعَطوف عليه في الحكم في قولنا: ومن عصى الله فقد غوى، ومن عصى
الرسول فقد غوى.
وأقول: هذا كلام حسن متين، ويؤيده الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله (تعالى): (قل إن
كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) حيث أوقع متابعته صلى الله عليه وسلم مكتنفة بين نظري محبة العباد لله
ومحبة الله للعباد. وقوله (تعالى): (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) لم يعد
(أطيعوا) في (أولى الأمر منكم) كما أعاد في (أطيعوا الرسول)؛ ليؤذن بأنه لا استقلال لهم في
الطاعة استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما السنة فما روى الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن المقدام بن
معديكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا
يوشك رجل شعبان على أريكته، ويقول: عليكم بهذا القرآن).
الحديث السابع عن العباس رضي الله عنه:قوله: (ذاق طعم الإيمان) (قال الراغب:
الذوق وجود الطعم في الفم، وأصله فيما يقل تناوله، فإذا كثر يقال له: الأكل، فاستعمل في
ــ
ــ
التنزيل بمعنى الإصابة، إما في الرحمة كقوله (تعالى): (ولئن أذقنا الإنسان منا
رحمة) وإما في العذاب نحو قوله (تعالى): (ليذوقوا العذاب) وقال غيره: الذوق
ضرب مثلا لما ينالون عنده، أي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير. قال أبو بكر الأنباري: أراد لا يتفرقون إلا عن علم يتعلمونه يقوم لهم مقام الطعام والشراب؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يحفظ أرواحهم،
كما يحفظ الطعام أجسامهم.
وأقول: مجاز قوله: ذاق طعم الإيمان) كمجاز قوله: (وجد حلاوة الإيمان) وكذلك موقعه
كموقعه على ما مر، لأن من أحب أحداً يتحرى مراضيه، ويؤثر رضاه على رضاء نفسه، ومقام
الرضى عند أهل العرفان مقام جليل رفيع، روى الشيخ محيي الدين عن صاحب التحرير معنى
(رضيت بالشئ) اقتنعت به واكتفيت به، ولم أطلب معه غيره فمعنى الحديث لم يطلب غير
الله (تعالى) ولم يشرع في طريق الإسلام، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا
شك في أن من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه، وذاق طعمه. قال
القاضي عياض: معنى الحديث صح إيمانه، واطمأنت به نفسه، وخامر باطنه؛ لأن رضاه دليل
لثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة بشاشة قلبه؛ لأن من رضي أمرا سهل عليه فكذا
المؤمن إذا دخل قلبة الإيمان سهل عليه طاعة الله (تعالى) ورسوله صلى الله عليه وسلم ولذت له.
قوله: (وبالإسلام ديناً) لا يخلو الإسلام أن يراد به الانقياد كما في حديث جبريل (عليه
السلام) أو مجموع ما يعبر الدين عنه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) ويؤيد
الثاني معنى اقترانه بالدين؛ لأن الدين جامع بالاتفاق، ونحوه قوله تعالى: (ومن يتبع غير
الإسلام ديناً فلن يقبل منه). وعلى التقديرين هو عطف على قوله (بالله رباّ) عطف العام على
الخاص على منوال قوله: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) وكذا قوله:
(بمحمد رسولا) على (بالإسلام) عطف الخاص على العام على نهج قوله (تعالى): (وملائكته
ورسله وجبريل).
(مح): واعلم أن مذهب أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحداً دخل الجنة قطعاً
على كل حال، فإن كان سالماً من المعاصي كالصغير، والمجنون الذي يتصل جنونه بالبلوغ،
والتائب توبة صحيحة من الشرك وغيره من المعاصي إذا لم يجد معصية بعد توبة، والموفق الذي
ماألم بمعصية قط_ فكل هذا الصنف يدخلون النار أصلا، لكنهم يردونها
ــ
10 -
وعن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا
يسمعُ بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ
به؛ إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم.
ــ
على الخلاف المعروف في الورود، والصحيح أن المراد به المرور على الصراط، وهو منصوب
على ظهر جهنم_ عافانا الله منها ومن سائر المكاره.
وأما من كانت له معصية (كبيرة)، ومات من غير توبة، فهو في مشيئة الله تعالى إن
شاء عفا عنه، وأدخل الجنة أولا، وجعله كالقسم الأول، وإن شاء عذبه بالقدر الذي يريده
(سبحانه) ثم يدخل الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي
ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر، ولو عمل من أعمال لبر ما عمل. هذا
هو المذهب الحق الذي تظاهرت أدلة الكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به عليه، وتواترت
بذلك نصوص تحصل العلم القطعي، وإذا ورد ظاهرة مخالفة لهذا وجب تأويله؛
ليجمع بين نصوص الشرع.
الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله (والذي نفس محمد بيده) يريد
صلى الله عليه وسلم بالنفس ذاته وجملته، ويعني بيده قدرة الله وتصرفه فيه. يشير إلى أن إرادته وتصرفه
مغموران في إدارة الله وتصرفه، وهو في علم البيان من أسلوب التجريد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جرد من
نفسه الزكية (صلوات الله تعالى) من يسمى محمداً، وهو هو، وأصل الكلام: (والذي نفسي
محمد نفسي)، ثم التفت من الغيبة إلى التكلم في قوله:(لا يسمع بي) تنزيلا من مقام
الجمع إلى مقام التفرقة والاشتعال بدعوة الخلق، ومن مخدع الكمال إلى منصة التكمل.
قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي (قدس الله ووجه): (قيل: الجمع اتصال
لا يشاهد صاحبه إلا الحق، فمتى شاهد غيره فما جمع، والتفرقة شهود من شهد
بالمبانية، فقوله آمنا بالله جمع، وما أنزل إلينا تفرقة. قال الجنيد: القرب بالواحد جمع،
وغيبته في البشرية تفرقة، وكل جمع بلا تفرقة زندقة بلا جمع تعطيل. ويقال:
فلان سمع بفلان إذا بلغ إليه خبره. والباء يحتمل أن تكون رائدة، أي لا يسمعني، فقد جاء:
ــ
ــ
ــ
سمعتك، وسمعت فلاناً، ويتحمل أن يكون بمعنى (من) يقال: سمعت من فلان، فيكون
الباء كما في قوله (تعالى): (عينا يشرب بها). قال المظهر: وفيه نظر؛ لأن المعنى لا
يساعد عليه، فإن سمعني وسمع مني يقتضيان كلاماً وقولا من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم وليس
المعنى عليه.
(الكشاف): في قوله (تعالى): (سمعنا منادياً ينادي) (تقول: سمعت رجلا يقول كذا،
وسمعت زيداً يتكلم، فتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع؛ لأنك وصفته بما يسمع، أو
جعلته حالا عنه، فأغناك عن ذكره، فلولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد)، والأظهر أن
يضمن (يسمع) معنى أخبرنا فتعدى بالباء، كقوله (تعالى): (ما سمعنا بهذا في آبائنا
الأولين) أي ما أخبرنا سماعاً، وهو آكد؛ لأن الإخبار أعم من أن يكون سماعاً أو غير
سماع، فالمعني ما أخبر برسالتي أو يبعثني أحد ولم يؤمن إلا كان من أصحاب النار. وأحد
إذا استعمل في النفي يكون لاستغراق جنس العقلاء، ويتناول القليل والكثير، والذكر والأنثي،
كقوله (تعالى): (فما منكم من أحد عنه حاجزين) و (لستن كأحد من النساء) وتقول:
مافي الدار أحد، أي لا واحد، ولا اثنان فصاعداً لا مجتمعين ولا متفرقين.
قوله: (من هذه الأمة) صفة (أحد) و (يهودي) إما بيان، أو بدل من (أحد) و (من) في
(هذه الأمة) إما للبيان، أو للتبعيض، وعلى التقديرين هو مرفوع المحل، فعلى أن يكون
للتبعيض معناه: لا يسمع بي أحد وهو بعض الأمةيهودي، والإشارة بهذه إلى ما في
الذهن، والأمة بيان له، والأمة حينئذ أمة الدعوة، وعلى أن يكون للبيان ولفظة (هذه) يكون
إشارة إلى أمة اليهود والنصارى خاصة، جرد من الأمة اليهود والنصارى وهو كقوله (تعالى):
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) فسره صاحب
الكشاف بالوجهين.
فإن قلت: كيف يجعل من التبعيضية اسماّ؟ قلت: هو مجاز عن متعلق معناه.
(الكشاف) في قوله تعالى: (فلن حاش لله):حرف من حروف الجر، وضعت موضع
ــ
ــ
التنزيه والبراءة، والدليل عليه قراءة من قرأ (حاشا لله) بالتنوين، وإنما ترك على بنائه ولم
يعرب مراعاة للأصل الذي هو الحرفية، ألا ترى إلى قولهم: جلست عن يمينه، كيف تركوه
غير معرب على أصله؟ فإن قلت: كيف عطف (ولا نصراني) على (يهودي) وهو مثبت؟
والكلام الفصيح في العطف بلا: أن تكرار لفظه لا: كقوله (تعالى): (فلا صدق ولا
صلى). قلت (يهودي) في حيز النفي؛ لكونه فاعلا للفعل المنفي، كقوله: (ماأدري ما
يفعل بي ولا بكم).
قال الشارحون: الأمة جمع لهم جامع من دين أو زمان أو مكان أو غير ذلك، فأنه مجمل
يطلق تارة ويراد بها كل من هو مبعوثا إليهم، آمن به أو لم يؤمن، ويسمون أمة الدعوة،
وتطلق أخرى ويراد بها المؤمنون به المذعنون له، وهم أمة الإجابة، وهي ههنا بمعنى الأول؛
بدليل قوله: (ولم يؤمن بي) واللام فيها للاستغراق أو الجنس أو العهد، والمراد بها أهل
الكتاب، ويعضد الأخير توصف الأحد باليهودي والنصراني. وفي تخصيص ذكر اليهودي
والنصراني وأنهما من أهل الكتاب_ إشعار بأن حال العطلة وعبدة الأوثان وأضرابهم أكد، وهم
أولى بالصلى.
وتلخيص المعنى أن كل واحد من هذه الأمة إذا يسمع بي ويتبين له معجزتي ثم لا يؤمن
برسالتي، ولم يصدق في مقالتي _ كان من أصحاب النار، سواء الموجود ومن سيوجد.
(شف): لفظ ثم موضوع للتراخي، دال على أن الإيمان بما أرسل به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مهما صدر
من الكافر وحصل منه فإنه ينفعه، ويمحي عنه ما سلف في كفره، وإن تراخي ذلك الإيمان عن
أول سماعه لمبعثه، وتقدير الاستثناء: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ثم لم يؤمن بالذي
أرسلت (به) فيكون له حال من الأحوال إلا أن كان من أصحاب النار.
أقول: والوجه أن يقال: إن (ثم) هذه للاستبعاد، كما (في) قوله (تعالى): (ومن
أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها) يعني ليس أحد أظلم ممن بينت له آيات الله
الظاهرة والباطنة، ودلائله القاهرة، فعرفها ثم أنكرها، أي بعيد ذلك عن العاقل، كما تقول:
وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها! فالمعنى ما أبعد لذي العقل أن يسمع بي يهودي
ونصراني بعد انتظارهما بعثتي، واستفتاحهما الكفرة بنصرتي؛ ثم لما بعثت لم يؤمن بي، فعلى
هذا التقدير يختص الحديث بأهل الكتاب؛ ولا يحتاج إلى التكليف في نسبتهم إلى غيرهم،
كما عليه كلام الشارحين.
11 -
وعن أبي موسى الأشعري. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لهم
أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدَّى حق
الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن
تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها؛ فله أجران) متفق عليه.
ــ
فإن قلت: في الحديث السماع والإيمان كلاهما منفيان، فيلزم على هذا من لم يسمع ولم
يؤمن يكون من أصحاب النار، وهو خلاف قوله (تعالى): (وما كنا معذبين حتى نبعث
رسولا) وكان من حق الظاهر أن يقول: يسمع ولا يؤمن. قلت: إن (ثم) للاستبعاد رجع
حاصل معنى الاستثناء إلى قولنا: لا يحصل بهذا الاستبعاد المذكور في حق يهودي أو نصراني
فيكون له حال من الأحوال إلا أن كان من أهل النار، فالمنفي سماع لم يترتب عليه الإيمان؛
لأنه هو المستبعد، وفهم منه أن السماع الذي يترتب عليه الإيمان يكون حكمه بالعكس، ونظيره
قوله (تعالى): (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم
لبعض أن تحبط أعمالكم) في أحد وجهيه، وهو أن يكون الفعل المعلل منهياً، لا أن
يكون الفعل المنهي معللا، فاعرف.
الحديث التاسع عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: قوله: (ثلاثة لهم أجران
إعراب هذا التركيب كإعراب: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان) في الوجهين، لكن
لا يجب هنا تقدير مضاف كما وجب هنالك لا ستقامته بدونه قال الشارحون: المراد بأهل
الكتاب نصراني تنصر قبل المبعث، أو بلوغ الدعوة إليه، وظهور المعجزة لديه، ويهودي تهود
قبل ذلك إن لم يجعل النصرانية ناسخة لليهودية، إذ لا ثواب لغيره على دينه فيضاعف
باستحقاقه ثواب الإيمان. ويدل على ذلك أن البخاري يروي هذا الحديث وذكر بدل قوله: (آمن
بنبيه) (آمن بعيسى) ويحتمل إجراؤه على عمومه، إذ لا يبعد أن يكون طريان الإيمان به
سبباً لقبول تلك الأعمال والأديان وإن كانت منسوخة، كما ورد في الحديث أن مبرات الكفار
وحسناتهم مقبولة بعد إسلامهم. فإن قلت: أي فائدة في ذكر (آمن بنبيه) وقد علم ذلك من
قوله: (من أهل الكتاب)؟ قلت: ليشعر بعلية الأجر، أي سبب الأجرين الإيمان بالنبيين.
ــ
ــ
قوله: (فأدبها) الأدب حسن الأحوال في القيام والقعود، وحسن الأخلاق، واجتماع الخصال
الحميدة: (فأحسن تأديبها) أي أدبها من غير عنف وضرب، بل باللطف والتأني، (وعلمها) أي
وعلمها من أحكام الشريعة ما يجب عليها، (فأحسن تعليمها) أي علمها بالرفق وحسن الخلق.
فإن قلت: فيه إشكال، وهو أنه ينبغي أن يكون له أربعة أجور: أحدهما بتأديبها، والثاني
بتعليمها، والثالث بإعتاقها، والرابع بتزوجها، فلم قال (فله أجران)؟ ولم يقل: له أربعة أجور؟
(مظ): قلنا: المراد بحصول الأجرين له ههنا بالإعتاق والتزوج؛ لأن التأديب والتعليم موجبان
للأجر في الأجنبي والأولاد وجمع الناس. فلم يكن مختصاً بالإماء. أقول: موجب الأجرين
إعتاقها وتزوجها فحسب، والتأديب والتعليم موجبان لاستنهالها الإعتاق والتزوج؛ لأن تزوج
المرأة المؤدبة المعلمة أكثر بركة، وأقرب إلى تعين زوجها على دينه، والشاهد لفظه (ثم)؛
لكونها تفيد أن الإعتاق والتزوج أفضل وأعلى رتبة من التأديب والتعليم؛ لأنهما من التأديب
والتعليم. والأولى أن يقال: إن التأديب بالعنف لا يوجب الأجر، كما أن الوطء بدون العتق
لا يثبت الأجر لحصوله قبل ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم:(كانت عنده أمة يطؤها) كأنه قيل: يؤدبها
تأديباً حسنا، ويطؤها وطأ جميلا. وأما الفاء في (فأحسن) فللترتيب أيضاً، لكنها دون (ثم)
كما في قولك: الأمثل فالأمثل، والأفضل فالأفضل، يعني التأديب والتعليم بالرفق أحسن
وأفضل منه بالعنف.
ووجه اقتران هذا الحديث السابق وجه ثواب نساء النبي صلى الله عليه وسلم وعقابهن في المضاعفة،
كقوله (تعالى): (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) إلى آخره، فينبغي أن ينزل
الحديث الأول على أنهم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم بمعرفتهم به؛ لأنه مكتوب عندهم في التوراة
والإنجيل، فإذا كفروا به استوجبوا من العذاب ضعف عذاب الناس، والعكس إذا آمنوا، فدل على
هذا المعنى بالحديث، وعلى استحقاق ضعف العذاب قوله:(إلا كان من أصحاب النار)؛ لأنه
في قوة أنه من الجهنميين، فهو من أسلوب قوله: فلان من العلماء، أي له مساهمة معهم
في العلم، وأن الوصف كاللقب المشهور له.
قوله (فله أجران) هذا تكرير لطول الكلام اهتماماً بشأن الأمة وتزوجها مثله قول الحماسى:
وإن امرأ دامت مواثيق عهده
…
على مثل هذا إنه لكريم
ــ
12 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُمرتُ
أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إِلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا
الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإِذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إِلا بحق
الإسلام، وحسابهم على الله). متفق عليه. إِلا أن مسلما لم يذكر: (إِلا بحق
الإسلام.
ــ
الحديث العاشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن أقاتل الناس) قال أكثر
الشارحين: أراد بالناس عبدة الأوثان، دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم لا
يرفع عنهم السيف حتى يقروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو يعطوا الجزية. أقول: تحرير ذلك أن (حتى)
للغاية، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية المقاتلة القول بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،
ورتب على ذلك العصمة، فيكون ذلك العصمة، وأهل الكتاب إذا أعطوا الجزية سقط عنهم القتال، وثبت لهم
العصمة، فيكون ذلك تقييداً للمطلق، فالمراد بالناس إذا عبدة الأوثان. والذي يذاق من لفظ
(الناس) العموم والاستغراق، كما في قوله (تعالى): (يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً
الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله). وبيانه من
وجوه:
أولها: أنه من العام الذي خص منه البعض؛ وذلك لأن القصد الأولى من هذا الأمر حصول
هذا المطلوب، كقوله (تعالى):(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فإذا تخلف منه في
بعض الصور لعارض لا يقدح في عمومه، ألا ترى أن عبدة الأوثان إذا وقعت المهادنة معهم
تسقط عنهم المقاتلة (وتثبت العصمة).
وثانيهما: أن يعبر بمجموع الشهادتين وفعل الصلاة والزكاة عن إعلاء كلمة الله وإظهار دينه
وإذعان المخالفين، فيحصل ذلك في بعضهم بالقول والفعل، وفي بعضهم بإعطاء الجزية، وفي
الآخرين بالمهانة، ألا ترى أن المنافق إذا أظهر الإيمان سقط عنه القتل، ودخل تحت العصمة،
وهو أغلظ كفراً من الكتابي؟ وسبيل هذا الأسلوب سبيل قوله (تعالى): (الذين يؤذون الله
ورسوله) وإيذاء الله محال، فجعل عبارة عما يكرهانه، ولا يرضيان به ليعم.
ــ
ــ
ــ
وثالثهما: أن الغرض من الجزية وإنزال الصغار والهوان على الذمي اضطرارا هم إلى
الإسلام، وإبدالهم العزة بالذلة، وسبب السبب سبب؛ فيكون المقاتلة سبباً للقول والفعل.
ويظهره قوله (تعالى): (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) المنزل هو المطر، وهو سبب
لإنبات الشعب وهو سبب لتكثير الحيوان، فعلى هذا غلب في الحديث السبب الأول_ أي
المقاتلة_ على السبب الثاني_ أخذ الجزية_ كما غلب العم على أحد الأبوين، على أن الاحتمال
قائم في أن ضرب الجزية كان هذا بعد القول. (قض): إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمرت) فهم
منه أن الله (تعالى) أمره، وإذا قاله الصحابي رضي الله عنه فهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره، فإن
من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الرئيس أمره، وإنما خص الصلاة والزكاة
بالذكر والمقاتلة عليهما أيضا بحق الإسلام؛ لأنهما أم العبادات البدنية والمالية، والمعيارعلى
غيرهما والعنوان له، ولذلك سمى الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإيمان، وأكثر الله
(سبحانه تعالى) من ذكرهما مقارنتين في القرآن.
أقول قوله: (إلا بحق الإسلام) استثناء من أعم عام الجار والمجرور، فمعنى الحديث
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا عصموا
مني دماءهم (وأموالهم، فلا يجوز إهدار دمائهم) واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب، إلا
بحق الإسلام: من قتل النفس المحرمة، وترك الصلاة والزكاة بتأويل باطل، وغير ذلك. وأما
تقديم قوله: (تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة) وإزالتهما عن مقرهما هذا وعطفهما على الشهادتين_
فللدلالة على أنهما بمنزلتهما في كونهما غاية للمقاتلة، إيذاناً أم العبادات وأساسها،
قريب منه في العطف قوله (تعالى): (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء
سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء) في سالف عهده في العظم والقدم، وإليه أشار صاحب
الكشاف، حيث قال: إيذاناً بأنهما في العظم أخوان، وبأن هذا ليس بأول ما ركبوه من العظام.
ويؤيد هذا التأويل رواية أبي هريرة رضي الله عنه فإنه لم يذكر فيها الصلاة والزكاة.
قوله: (وحسابهم على الله) فيما يسرون به من الكفر والمعاصي، والمعنى أنا نحكم عليهم
بالإيمان، ونؤاخذهم بحقوق الإسلام، وبحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم، والله سبحانه وتعالى
يتولى حسابهم، فيثيب المخلص، ويعاقب المنافق، ويجازي المسر بفسقه أو يعفو عنه. (خط):
فيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر، وهو قول أكثر العلماء، وذهب
مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك أيضاً عن أحمد بن حنبل.
(مح): اختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق، وهو الذي ينكر الشرع جملة، فذكروا فيه
خمسة أوجه: أصحها قبولها مطلقا؛ للأحاديث الصحيحة المطلقة. والثاني لا تقبل، ويتحتم
13 -
وعن أنس، أنه قال رسول الله: (من صلَّى صلاتنا، واستقبل
قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمةُ الله وذمةُ رسولا، فلا تحفروا الله
في ذمته). رواه البخاري.
ــ
قتله، لكنه إن صدق في توبته نفعه ذلك في الدار الآخرة. والثالث: إن تاب مرة واحدة قبلت
توبته، فإن تكرر منه ذلك لم تقبل. والرابع: إن أسلم ابتداء من غير طلب منه، وإن كان
تحت السيف فلا. والخامس: إن كان داعيا إلى الضلال لم تقبل منه وإلا قبلت.
(شف): وفي الحديث دليل على أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضا إنما تجري على
الظاهر من أحوالهم دون باطنها، وأن أظهر شعار الدين أجري عليه حكمه، ولم يكشف
عن باطن أمره، ولو وجد مختون بين قتلى غلف عزل في المدفن، ولو وجد لقيط في بلد
المسلمين حكم بإسلامه.
(حس): لم يذكر في حديث أبي هريرة (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) وذكر في الحديث
ابن عمر وأنس رضي الله عنهما. (خط): إنما اختلف الألفاظ لاختلاف الأوقات، فإن
فرائض الدين كانت تشرع شيئًا بعد شيء، فالحديث الأول كان قبل وجوب هذه الفرائض،
والحديثان الآخران بعد وجوبهما.
الحديث الحادي عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: (من صلى صلاتنا) قالوا: أي صلى
كما نصلي، ولا يوجد ذلك إلا من معترف بالتوحيد والنبوة، ومن اعترف بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد
اعترف بجميع ما جاء به عن الله (تعالى) فلهذا جعل الصلاة علما لإسلامه، ولم يذكر
الشهادتين لأنهما داخلتان في الصلاة، وإنما ذكر استقبال القبلة والصلاة متضمنة له مشروطة به؛
لأن القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل واحد يعرف قبلته وإن كان لا يعرف صلاته، ولأن من
أعمال صلاتنا ما هو يوجد في صلاة غيرنا، كالقيام والقراءة، واستقبال قبلتنا مخصوص بنا.
ثم لما ذكر من العبادات ما يميز المسلم من غيره عبادة، أعقبه بذكر ما يميزه عبادة وعادة، فقال:
(وأكل ذبيحتنا) فإن التوقف عن أكل الذبائح كما هو من العبادات فكذلك من العادات الثابتة في
كل ملة.
أقول (والله أعلم): إذا أجري الكلام على اليهود سهل تعاطي عطف الاستقبال على الصلاة
بعد الدخول فيها، ويعضده اختصاص ذكر الذبيحة؛ لأن اليهود خصوصاً يمتنعون عن أكل
ذبيحتنا، وهم حين حولت القلبة شعنوا بقولهم: (ما ولا هم عن قبلتهم التي كانوا
ــ
14 -
وعن أبي هريرة، قال أتى أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: دُلني على عملِ إذا
عملتهُ دخلتُ الجنة. قال (تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئاً، وتقيمُ الصلاةَ المكتوبة،
وتؤدّي الزكاة المفروضة، وتصومُ رمضان). قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا
شيئا ولا أنقُصُ منه. فلما ولى، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (من سرَّهُ أن ينظرَ إلى رجل من أهل
الجنة فلينظُرُ إلى هذا).متفق عليه
ــ
عليها) أي صلوا صلاتنا، وتركوا المنازعة في أمر القبلة، والامتناع عن أكل الذبيحة لأنه من
باب عطف الخاص على العام، فلما ذكر الكلام فيه وما هو مهتم بشأنه
عليها، كما أنه يجب عليهم أيضاً عند الدخول في الإسلام أن يقروا ببطلان ما يخالفون به
المسلمين في الاعتقاد بعد إقرارهم بالشهادتين.
وخفر يحفر بالكسر خفراً فهو خفير إذا أجار، وكذلك خفر يخفر تخفيراً وأخفرته للتعدية
إلى مفعول ثان، بمعنى جعلت له خفيراً، أو للسلب بمعنى غادرته ونقضت عهده، وعليه معنى
قوله: (فلا تخفروا الله في ذمته) أي لا تعاملوا معاملة الغادر في نقض عهده واغتيال مؤمنه،
والذمة الأمان، وأذمه أجاره، أي له أمان الله نكال الكفار، وما شرع لهم من القتل
والقتال.
الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: (لا أريد على هذا شيئاً)(مح):
فإن قيل: كيف قال: (لا أزيد على هذا) وليس في هذا الحديث الواجبات، ولا المنهيات،
ولا السنن المندوبة؟ فالجواب أنه جاء في رواية البخاري في آخر هذا الحديث زيادة توضح
المقصودة: (فأخبر) رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد ولا
أنقص مما فرض الله قال: فرض الله (تعالى) على شيئاً) فعلى هذا عموم قوله: (بشرائع الإسلام) وقوله: مما
فرض الله علي) يزيل الإشكال في الفرائض، فأما النوافل فقيل: يحتمل أن هذا عموم قوله: (بشرائع الإسلام) وقوله: (مما
فرض الله علي) يزيل الإشكال في الفرائض، فأما النوافل فقيل: يحتمل أن هذا كان قبل
شرعيتها، وقيل: يحتمل أنه أراد أن لا أزيد في الفرائض، فأما النوافل فقيل: يحتمل أن هذا كان قبل
شرعيتها، وقيل: يحتمل أنه أراد أن لا أزيد في الفرائض بتغيير صفة، كأنه يقول: لا أصلى
الظهر خمسا، وهذا تأويل ضعيف. ويحتمل أنه أصلي النافلة، مع أنه لا يخل بشئ
من الفرائض، وهذا مفلح بلا شك، على أن المواظبة على ترك السنن مذمومة، وترد بها
الشهادة، إلا أنه ليس بعاص، بل هو مفلح ناج.
وأعلم أنه لم يأت في هذا الحديث ذكر الحج، ولا جاء ذكره في حديث جبريل من رواية
أبي هريرة، وكذا غيره من نحو الأحاديث، لم يذكر في بعضها الصوم، ولم يذكر في
ــ
15 -
وعن سفيان بن عبد الله الثقفيّ. قال: قلتُ يا رسولَ الله! قلُ لي في
الإسلام قولا لا أسألُ عنه أحداً بعدك_ وفي رواية: غيرك_ قال: (قُل: آمنتُ بالله،
ثم استقم). رواه مسلم.
ــ
بعضها الزكاة، وذكر في بعضها صلة أداء الخمس، ولم يقع في بعضها
ذكر الإيمان؛ فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادة ونقصانّا، إثباتاَ وحذفا. وقد
أجاب القاضي عياض وغيره عنها بجواب لخصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وهذبه، فقال:
ليس هذا باختلاف صادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو تفاوت الرواة في الحفظ والضبط،
فمنهم من قصر واختصر على ما حفظه فأداه، ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات، وقد
وقع التفاوت عن واحد، ألا ترى إلى حديث نعمان بن نوفل اختلفت الروايات في خصاله
بالزيادة والنقصان، مع أن راوي الجميع واحد_ وهو جابر بن عبد الله_ وفي قضية واحد. ثم
ذلك لا يمنع من إيراد الجميع في الصحيح؛ لما عرف في مسألة زيادة الثقة من أنها مقبولة أيضا.
(قض): وينبغي لك أن أن تعلم أن الحديث الواحد إذا رواه راويان، واشتملت إحدى
الروايتين على زيادة، فإن لم تكن مغيرة لإعراب الباقي قلبت، وحمل ذلك على نسيان الآخر
لذهوله، أو اقتصاره بالمقصود منه في صورة الاستشهاد؛ وإن كانت مغيرة تعارضت الروايتان
وتعين طلب الترجيح.
فإن قلت: كيف قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم على حلفه؟ وقد جاء النكير على من حلف أن لا يفعل
خيراً، والنهي عنه في قوله (تعالى):(ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا)؟ قلت:
المنع والنكير إنما كان عن عناد، إذا لا شك أن ترك النوافل جائز، والحلف على المباح غير
محرم، ولهذا الكلام محمل آخر، وهو أن يكون السائل رسولا، فحلف أن لا أزيد في الإبلاغ
على ما سمعت، ولا أنقص. وقال غيره: يحتمل أن يكون صدور هذا الكلام منه على المبالغة
في التصديق والقبول، أي قبلت قولك فيما سألتك عنه قبولا لا مزيد عليه من جهة السؤال،
ولا نقصان فيه من طريق القبول.
قوله: (من سره) السرور انشراح الصدر بلذة فيها طمأنينة النفس عاجلا، وذلك في الحقيقة
إنما يكون إنما يكون إذا يخف زواله، ولا يكون فيما يتعلق بالأمور الآخرة لا في الدنيوية. قال:
أشد الغم عندي في سرور
…
تيقن عنه صاحبه انتقالا
الحديث الثالث عشر عن سفيان رضي الله عنه: قوله: (قل لي في الإسلام) أي قل لي
فيما يكمل الإسلام به، ويراعى به حقوقه، ويستدل به على توابعه ولواحقه قولا لا أفتقر معه أن
ــ
ــ
أسأل أحدّا غيرك. فقال: (قل آمنت بالله ثم استقم) استقم لفظ جامع للإتيان بجميع الأوامر،
والانتهاء عن جميع المناهي؛ لأنه لو ترك أمرا لم يكن مستقيما على الطريق المستقيم، بل عدل
عنه حتى يرجع إليه، ولو فعل منهيّا فقد عدل الطريق المستقيم، أيضّا حتى يتوب، وهذا
ما عليه كلام الشارحين.
قوله: (لا أسأل أحدّا بعد سؤالك هذا، كقوله (تعالى): (وما
يمسك فلا مرسل له من بعده) أي من بعد إمساكه، وقوله في رواية أخرى (غيرك) ملزوم
ذلك اللفظ، فإنه إذا لم يسأل بعد سؤاله أحدّا يلزم منه أن لا يسأل غيره.
قوله: ثم (استقم)(شف): لفظ (ثم) موضوع للتراخي دالة على أن الكفار غير مكلفين
بفروع الإسلام، بل هم مكلفون بأصوله فقط، فإذا آمنوا كلفوا بفروعه. وأقول: اتفق علماء
البيان على أن (ثم) في مثل قوله (تعالى): (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) وقوله: (إن
الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) للتراخي في الرتبة، وأن الثبات والاستقامة على ذلك
أفضل من قول: آمنت بالله، ومقتضياته، وذلك أن هذا القول ادعاء من القائل بأنه رضي بالله
ربا، والرضى بذلك إقرار بأن المعبود الخالق المنعم على الإطلاق مالكه ومدبر أمره، يوجب
القيام بمقتضياته من الإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ومن الشكر باللسان،
وتحقيق مراضيه بالقلب والجوارح. ثم الاستقامة على هذا، والثبات عليه، وألا يروغ روغان
الثعلب_ أفضل وأكمل.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا وبين قول الشارحين؟ نقول: إن قوله: (آمنت بالله) على هذا
مستتبع لما ذهب إليه الشارحون في تفسير قوله: (ثم استقم) فيسلم على هذا معنى الاستقامة
للثبات؛ والاستدامة على القول ومقتضياته، فتحسن موقع (ثم) المستدعية للتراخي في الرتبة لا
الزمان لفساده، وينصره قوله:(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) فإن
قوله: (ثم لم يرتابوا) يفسر معنى قوله: (ثم استقاموا) بالثبات، وهو لتفسير الشارحين غير
مطابق. وأيضا لما تقرر من قبل أن مذهب الصحابة والتابعين والمحدثين على أن الإيمان مشتمل
على التصديق بالجنان والقول باللسان والعمل بالأركان_ وجب حمل معنى قوله: (آمنت) على
المجموع، وقوله:(ثم استقم) على الثبات على ذلك.
ــ
16 -
وعن طلحة بن عُبيد الله، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل
نجد، ثأئر الرأس، نسمع دويَّ صوته ولا نفقهُ ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فإذا هو يسألُ عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمسُ صلوات في اليوم
والليلة). فقال: هل عليَّ غيرُهنَّ؟ فقال: (لا) إِلا أن تطوع). قال: وذكر له
صيام شهر رمضان. قال: هل علىّ غيرها؟ فقال: (لا) إلا أن تطوع) قال:
فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقصُ منه. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
(أفلح الرجلُ إن صدق). متفقٌ عليه.
ــ
ثم إني_ بعد لطف الله وتوفيقه_ عثرت على نقل من جانب الشيخ محيي الدين عن القاضي
عياض المغربي أنه قال: هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وهو مطابق لقوله (تعالى): (إن الذين قالوا
ربنا الله ثم استقاموا) أي وحدوا الله تعالى وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يحيدوا عن توحيدهم،
والتزموا طاعته سبحانه وتعالى إلى أن يتوفوا على ذلك. وعلى ما ذكرناه أكثر المفسرين من
الصحابة فمن بعدهم، وهو معنى الحديث، هذا كلام القاضي عياض. وقال ابن عباس في قوله
(تعالى): (واستقم كما أمرت): ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت
أشد ولا أشق عليه من هذه الآية، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قالوا: قد أسرع
إليك الشيبة، قال (شيبتني هود وأخواتها) تم كلام الشيخ محيي الدين، والحمد لله على توارد
الخواطر.
قال الإمام فخر الدين الرازي في قوله (تعالى): (فاستقم كما أمرت): استقامة المأمور
صعب شديد؛ فإنها تشتمل العقائد، والأعمال، والأخلاق، والاستقامة في العقائد أن يجتنب
التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال أن يحترز عن التغيير والتبديل، وفي الأخلاق أن يبعد عن
طرفي الإفراط والتفريط.
الحديث الرابع عشر عن طلحة رضي الله عنه: (جاء رجل من أهل نجد) النجد في
الأصل ما ارتفع من الأرض، وبه سميت الأراضي الواقعة بين تهامة والعراق. و (ثائر الرأس)
ــ
ــ
منتشر شعر الرأس، من: ثار الغبار يثور ثوراً وثورانا، (والدوي) هو الصوت الذي لا يفهم منه
شيء، من: دوي النخل. و (ثائر الرأس) ينتصب. قوله: على الحال من (رجل) بوصفه، والرفع فيه
حسن على الصفة لولا (عن الإسلام) ، أي فرائضه التي فرضت على من
وحد الله وصدق رسوله، ولهذا لم يذكر فيه الشهادتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن الرجل يسأل عن
شرائع الإسلام ويمكن أنه سئل عن حقيقة الإسلام، وقد ذكر له الشهادة فلم يسمعها طلحة لبعد
موضعه منه، وقد القول أمثل وأجمع فلما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم فارتضاه حلف أني أجتهد في
تبليغ ما سمعته منك إليهم، بحيث لا أزيد عليه ولا أنقص منه.
قوله: (أفلح الرجل) قيل: وهو الظفر وإدراك البغية، وهو ضربان: دنيوي وهو الظفر بما
تطيب به الحياة الدنيا، وأخروي، وهو إدراك ما يفوز به الرجل في الدار الآخرة. وقد قيل:
إنه أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا ذل، وعلم بلا جهل، قاله الراغب.
قيل: قوله: (هل على غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع) فيه تمسك لأصحابنا في أصلين:
أحدهما: في شمول عدم الوجوب في غير ما ذكر في الحديث كعدم وجوب الوتر، والتسمية في
الذبح، والتباعد بقدر القلتين عن جوانب النجاسة في الماء الراكد، والوليمة والعقيقه. والثاني:
في أن الشروع غير ملزم؛ لأنه في وجوب شيء آخر مطلقا، شرع فيه أو لم يشرع.
وأصحاب أبي حنيفة تمسكوا به من وجه أخر قالوا: الشروع ملزم؛ لأنه نفي وجوب شيء
آخر إلا ما تطوع به، والاستثناء من النفي إثبات، والمنفي وجوب شيء آخر، فيكون المثبت
بالاستثناء وجوب ما تطوع به، وهو المطلوب. هذا مغالطة؛ لأن هذا الاستثناء من بوادي
قوله الله (تعالى): (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) وقوله (تعالى)
(لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) أي لا يجب عليك شيء قط إلا أن تطوع، وقد
علم أن التطوع ليس بواجب؛ فليزم أن لا يجب عليه شيء قط.
وإنما لم يذكر الحج؛ لأن الحديث حكاية حال الرجل لقوله: (هل على غيره؟ فأجابه
صلى الله عليه وسلم بما عرف من حاله، ولعله ممن لم يكن عليه الحج واجبا، وإذا احتمل ما ذكرنا فليحمل
عليه جمعا بينه وبين الأحاديث الدالة على وجوب الحج، ولهذا المعنى قال علماء الأصول:
حكاية الحال لا تعادل العمومات. وقيل: إنما يذكر لم يذكر الحج لأنه لم يفرض حينئذ أو سقط
عن بعض الرواة ذكره، وذكر له الزكاة، هذا قول الراوي، فإنه نسي ما نص عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم أو التبس عليه، فقال:(ثم ذكر له الزكاة) وهذا يؤذن بأن مراعاة الألفاظ مشروطة في
الرواية، فإذا التبس عليه بعضها فيشير في ألفاظه إلى ما ينبئ عنه، كما فعل راوي هذا الحديث،
أو يقول: كما قال، أو غير ذلك.
17 -
وعن ابن العباس _ رضي الله عنهما_ قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من القومُ؟ _ أو: من الوفد؟ _) قالوا: ربيعة. قال: (مرحبا
بالقوم _ أو: بالوفد _ غير خزايا ولا ندامى). قالوا يا رسول الله! إنا لا نستطيع أن
نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحيُّ من كفار مضر؛ فمرنا بأمر فصل
نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة، فأمرهم بأربع، ونهاهم
عن أربع:
ــ
الحديث الخامس عشر عن ابن عباس (رضي الله عنهما_ قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم؛
جمع وافد، كصحب جمع صاحب، يقال: وفد الوافد يفد وفدا ووفادة، إذا خرج إلى ملك في
فتح أو أمر، كزيارة واسترفاد وانتجاع. وعبد القيس من ربيعة، وهي قبيلة عظيمة، ومضر في
مقابلتهم، ولفظة (أو) شك من الراوي، و (مرحبا) مأخوذ من: رحب رحبا (بالضم) إذا وسع،
وهو من المفاعيل المنصوبة بعامل مضطر لازم إضماره ومعناه: أصبتم رحبا وسعة. و (غير) حال
من الوفد، أو القوم، والعامل فيه الفعل المقدر، و (خزايا) جمع خزيان، من خزي بمعنى ذل.
قوله: (ملا ندامى) معناه ولا نادمين، وغير العبارة فيها مراعاة للمطابقة، كقولهم: (الغدايا
والعشايا). (والأمر الفصل) هو الحكم الواضح الذي لا إجمال فيه، وقوله: (وسألوه عن
الأشربة) أي ظروف الأشربة، محذوف المضاف، أو عن الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة،
محذوفة الصفة، و (الحنتم) الجرة الخضراء، و (الدباء)(بضم الدال وتشديد الباء) القرع، و (النقير)
أصل خشبة ينقر فينبذ فيه، و (المزفت) المطلى بالزفت، وتحريم الانتباذ في هذه الظروف كان في
صدر الإسلام ثم نسخ، وهو المذهب. وقال البعض: التحريم باق، وإليه ذهب مالك وأحمد.
(قض): والمقصود بالنهى ليس استعماله مطلقا، بل التنقيع فيها، والرب منها ما يسكر،
وإضافة الحكم إليها إما لا عتيادهم استعمالها في المسكرات، أو لأنها أوعية تسرع بالاشتداد فيما
يستنقع، فلعلها تغير النقيع في زمان قريب، ويتناوله صاحبه على غفلة بخلاف السقاء فإن
التغير إنما يحدث فيه على مهل ومرور زمان، ولا يخفى أن الدليل على هذا ما روى أنه صلى الله عليه وسلم
قال: (نهيتكم عن النبيذ في السقاء، فا شربوا الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرا).
قولهم: (إنا لا نستطيع) وذلك أن هل الجاهلية كانوا يكفون فيها عن الانتهاك
الانتهاب؛ قوله: (بأمر فصل) يحتمل أن يكون الأمر واحد الأوامر، وأن يكون بمعنى الشأن،
و (فصل) يحتمل أن تكون بمعنى الفاصل، كالصوم والزور، وهو الذي يفصل بين الصحيح
والفاسد، والحق والباطل، وأن يكون بمعنى المفصل، أي مبين مكشوف ظاهر ينفصل به المراد
ــ
أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال:(أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟) قالوا: الله
ورسوله أعلم. قال: (شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة،
وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس).
ونهاهم عم أربع: عن الحنتم، والدُّباء، والنقير، والمزفتِ وقال: (احفظوهنَّ
وأخبروا بهن من وراءكم). متفق عليه، ولفظه للبخاري.
ــ
عن الاشتباه، فإذا كان بمعنى الشأن والفاصل _ وهو الظاهر _ يكون التنكير للتعظيم بشهادة
قوله: (تدخل به الجنة) كما قال صلى الله عليه وسلم: (سألتني عن عظيم) في جواب معاذ: (أخبرني بعمل يدخلني
الجنة) فالمناسب حينئذ أن يكون الفصل لتفصيله (صلى الله عليه وسلم) الإيمان بأركانه الخمسة كما
فصله في حديث معاذ. وإن كان بمعنى واحد الأوامر فيكون التنكير للتقليل، فإذا المراد به اللفظ،
والباء للاستعانة، والمأمور به محذوف، أي مرنا بعمل بواسطة افعل. وتصريحه في هذا المقام أن
يقال لهم: آمنوا وقالوا: آمنا، هذا هو المعنى بقول الراوي:(أمرهم بالإيمان بالله وحده). وعلى
أن يراد بالأمر الشأن أن يكون المراد معنى اللفظ ومواده، وعلى هذا الفصل بمعنى الفاصل، أي
مرنا بأمر فصل، أي جامع قاطع كما مرّ في قوله (صلى الله عليه وسلم):
((قل: آمنت بالله ثم استقم)) فالمأمور به هاهنا أمر واحد، وهو الإيمان، والأركان الخمسة
كالتفسير للإيمان بدلالة قوله (صلى الله عليه وسلم): (أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟) ثم بينه بما قال.
فإن قيل: على هذا في قول الراوي إشكالان: أحدهما: أن المأمور به واحد وقد قال: أربع.
وثانيهما: أن الأركان خمسة وقد ذكر أربعا. والجواب عن الأول أنه جعل الإيمان أربعا باعتبار
أجزائه المفصلة، وعن الثاني أنه من عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصوباً لغرض من الأغراض
جعلوا سياقه له وتوجهه إليه، كان ما سواه [مرفوض مطرح]، ومنه قوله تعالى: (فعززنا
بثالث) أي فعززناه، بترك المنصوب وأتى بالجار والمجرور؛ لأن الكلام لم يكن مسوقا له،
فهاهنا لما لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي
ــ
18_
وعن عبادة بن الصامت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من
أصحابه: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا
أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف.
فمن وفى منكم فأجرهُ على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا؛ فهو
ــ
الشهادة بدليل قولهم (الله ورسوله أعلم) وترحيب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، ولكن كانوا يظنون أن
الإيمان مقصور عليهما، وأنهما كافيتان لهم، وكان الأمر في صدر الإسلام كذلك_ لم يجعله
الراوي من الأوامر، وقصد به أنه صلى الله عليه وسلم نبههم على موجب توهمهم بقوله:(أتدرون ما الإيمان؟)
ولذلك خصص ذكر: (أن تعطوا من المغنم الخمس) حيث أتى بالفعل المضارع على الخطاب؛ لأن
القوم كانوا أصحاب حروب وغزوات، بدليل قوله:(بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر) لأنه
هو الغرض من إيراد الكلام، فصار أمرا من الأوامر. وفيه دليل على أن إبلاغ الخبر وتعليم العلم واجب،
حيث قال: (أخبروا بهن من وراءكم) والأمر للوجوب، ذكره في شرح السنة.
(مح): قال بعض شارحي البخاري: أمرهم بالأربع التي وعدهم، ثم زاد خامسة؛ لأنهم
كانوا مجاورين لكفار مضر، وكانوا أهل جهاد وغنائم. وقال ابن الصلاح:(وأن تؤدوا) عطف
على قوله: (بأربع) فلا يكون واحداً منها، وإن كان واحداً من مطلق شعب الإيمان. قال القاضي
عياض: إنما لم يذكر الحج، لأن وفادة عبد القيس عام الفتح قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة،
ونزلت فريضة الحج سنة تسع بعدها على الأشهر.
الحديث السادس عشر عن عبادة: قوله: (العصابة) بالكسر الجماعة من الناس ليس لها واحد،
والعصبة من الرجال ما بين العشرة إلى الأربعين، أخذ من العصب، وهو الشد، كأنه يشد
بعضهم بعضا. قوله: (بايعوني) المبايعة المعاهدة، من البيع، والبيعة والتبايع مثله، سميت بذلك تشبيهاً بالمعاملة
في المجلس.
(نه): المبايعة على الإسلام عبارة على المعاقدة عليه والمعاهدة، سميت بذلك تشبيهاً بالمعاوضة
المالية؛ فإن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره.
والبهتان الكذب الذي يبهت سامعه، أي يدهش ويتحير لفظاعته. والافتراء الاختلاق، والفرية
الكذب، كأن الافتراء من الإفراء، وهو قطع الأديم على جهة الإفساد، والعصيان في الأصل
الامتناع عن الشيء والتأبي عنه.
قوله: (المعروف)(النهاية): (هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى والتقرب إليه،
كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله عليه في الدنيا؛ فهو إلى الله: إن
شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه) فبايعناه على ذلك. متفق عليه.
ــ
والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه، من المحسنات والمقبحات، وهو من
الصفات الغالبة). قوله: (ولا تأتوا ببهتان تفترونه) فإن قلت: ما معنى الإطناب؟ حيث قال:
تأتوا، ووصف البهتان باالافتراء والبهتان من واد واحد، وهلا اقتصر على: ولا تبهتوا
الناس؟ قلت: معناه مزيد التقرير وتصوير شناعة هذا الفعل، وتعليق معنى زائداً عليه، وذلك من
أربعة أوجه:
أولها: معناه: ولا تأتوا ببهتان من قبل أيديكم وأرجلكم، أي من قبل أنفسكم جناية
يفضحونهم بها وهم برءاه، واليد والرجل كنايتان عن الذات.
وثانيها: لا تبهتوا الناس بالعيوب كفاحا يشاهد بعضكم بعضا، كما يقال: فعلت هذا
بين يديك، أي بحضرتك، وهذا النوع أشد ما يكون من البهت.
وثالثهما: معناه: لا تفتروه ولا تنشئوه من ضمائركم؛ لأن المفترى إذا أراد اختلاق قول فإنه
يقدره ويقرره أولا في ضميره) ومنشأ ذلك ما بين الأيدي والأرجل من الإنسان، وهو القلب،
الأعضاء، كما يقال: فلان صنع عندي يدا، وله عندي يد.
ورابعها: نسبة الافتراء إلى اليد والرجل بسبب أنهن عوامل، وإن شاركها سائر
الأعضاء، كما يقال: فلان صنع عندي يداً، وله عندي يد.
أقول: الوجه الأول والرابع متقاربان في المعنى، وهما كنايتان عن إلقاء بهتان من تلقاء أنفسهم
من غير أمارة، من قبيل قوله تعالى:(وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) أي أن هذا
البهتان يجري على ألسنتكم، ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم القلوب. والثاني
كناية عن الوقاحة وخرق جلباب الحياء، كما هو أدب الأوغاد والسلفه من الناس، ولذلك قيل:
هو أشد البهت. والثالث كناية عن إنشاء بهتان من دخيلة قلوبهم مبينا على الظن الفاسد والغش
المبطن. وقالوا: لفظ (ذلك) إشارة إلى ما سبق سوى الشرك، فإنه لا يكفر عنه بالقتل، ولا
ــ
19_
وعن أبي سعيد الخدري، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر
إلى المصلى، فمر على النساء، فقال: (يا معشر النساء تصدقن، فإني أريتُكُن أكثر أهل
النار) فقلن: وبم يا رسول الله، قال: (تكثرن اللعنَ، وتكفرن العشيرَ، ما رأيت من
ناقصات عقلٍ ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن). قلن: ما نقصانُ ديننا
وعقلنا؟ يا رسول الله! قال: (أليس شهادةُ المرأة مثل نصفِ شهادةِ الرجل؟). قلن: بلى
ــ
يعفى عنه، والمراد المؤمنون خاصة؛ لأنه معطوف على قوله:(فمن وفى)، وهو خاص بهم
لقوله: (منكم) تقديره: ومن أصاب منكم أيها المؤمنون من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا وأقيم
الحد عليه لم يكن له عقوبة لأجل ذلك في القيامة.
أقول: ما قالوا ضعيف؛ لأن الفاء في (فمن) للترتيب، ترتب ما بعدها على ما قبلها، وقوله:
(منكم) ضمير العصابة، وقد بين بقوله:(من أصحابه) فكيف يخصص الشرك بالغير؟ والصحيح
أن المراد بالشرك الرياء؛ لأنه الشرك الخفي، قال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل
عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) ويدل عليه تنكير (شيئا) أي شركا أيا ما كان. وقيل
لفظ (وفى) يرشد إلى أن الأجر إنما ينال بالوفاء بالجميع، والعقاب ينال بترك أي أحد كان من
ذلك؛ لأن معنى الوفاء الإتيان بجميع ما التزمه من العهد والحقوق، وأن (من) في قوله: (فمن
أصاب من ذلك) للتبعيض، وفي قوله:(فهو إلى الله) إشارة إلى ما ذهبت إليه الأشاعرة، وهو
أنه لا يجب على الله تعالى عقاب عاص، وإذا لم يجب عليه هذا لا يجب عليه ثواب مطيع
أيضّا؛ إذ لا قائل بالفصل، وفيه أيضّا إشارة إلى أنه لا يجوز الشهادة بالجنة ولا بالنار لأحد
بعينه إلا من ورد فيه النص، كالعشرة المبشرة رضي الله عنهم وغيرهم.
الحديث السابع عشر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قوله: (يا معشر) المعشر: الجماعة،
من العشرة بمعنى المعاشرة، والعشير المعاشر، والمراد به الزوج، والخطاب عام غلبت فيه
الحاضرات على الغيب، كما في قوله تعالى (يأيها الناس اعبدوا ربكم) واللام للاستغراق.
قوله: (تكفرن) قال الراغب: الكفر في اللغة ستر الشيء، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك
أداء شكرها، قال:(لا كفران لسعيه) وأعظم الكفر جحود الوحدانية، والربوبية، والنبوة،
والشريعة. والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا، والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما
ــ
قال: (فذلك من نقصان عقلها. قال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تضم؟). قلن:
بلى. قال: (فذلك من نقصان دينها). متفق عليه.
ــ
جميعا. قال (فأبى أكثر الناس إلا كفوا). وامن ناقصات) صفة موصوف محذوف، أي
ما رأيت أحداً من ناقصات العقل. والعقل غريزة في الإنسان، يدرك بها المعنى، ويمنعه عن
القبائح، وهو نور الله في قلب المؤمن. واللب العقل الخالص من الشوائب. وسمى بذلك لكونه
خالص ما في الإنسان من قواه، كاللباب من الشيء، وقيل: هو ما زكى من العقل، وكل لب
عقل وليس كل عقل لبا.
وأصل اللعن إبعاد الله تعالى العبد من رحمته بسخط، ومن الإنسان الدعاء عليه بالسخط،
وكفران العشير جحد نعمة الزوج عليهن، واستقلال ما كان منه، والحزم ضبط الرجل أمره
وأخذه بالشقة. (وأريتكن) بمعنى أخبرت وأعلمت بأنكن أكثر أهل النار، فهو يتعدى إلى ثلاثة
مفاعيل: الأول ضمير المتكلم المتصل به، والثاني ضمير المخاطب وهو كن، والثالث
قوله: (أكثر). و (من) في قوله: (من ناقصات) مزيدة استغراقية لمجيئها بعد النفى، ومن ثم
قيل: (أكثر). و (من) فيه متعلق ب (أذهب) والمفضل عليه مفروض مقدر. ويحتمل أن يكون
(من) بيانا للناقصات على سبيل التجريد، كقولك: رأيت منك أسداً، جرد من إحداكن
ناقصات، ووصفها بالجمع على طريقة (شهابا رصد)، و (أذهب) لمطلق الزيادة، صفة
موصوف محذوف، أي ما رأيت أحداً، و (أذهب) صفة (أحد)، و (ذلك) إشارة إلى الحكم
المذكور، والكاف فيه للخطاب العام، وإلا لقال: ذلكن؛ لأن الخطاب مع النساء.
(مح): وفي الحديث أحكام، منها الحث على التصدق وأفعال البر، وفيه أن الحسنات يذهبن
السيئات، وفيه أن كفران إحسان العشير من الكبائر؛ لأنهن يوعدون بالنار، وفيه أن اللعن أيضاً
من المعاصي الشديدة القبح، وليس فيه أنه كبيرة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:(تكثرن اللعن) والصغيرة إذا
كثرت صارت كبيرة.
ــ
_________
واتفق العلماء على تحريم اللعن؛ فإن معناه الإبعاد من رحمة الله، ولا يجوز أن يبعد من
رحمة الله من لا يعرف خاتمة أمره معرفة قطعية، مسلما كان أو كافراً، إلا ما علمنا بنص شرعي
أنه مات على الكفر، أو يموت عليه، كأبي جهل، وإبليس. وأما اللعن بالوصف فليس بحرام،
كاللعن للواصلة، والمستوصلة وآكل الربا وكله والمصورين والظالمين والفاسقين والكافرين وغير
ذلك مما إذا لم يظهر له معناه، وفيه تنبيه على أن شهادة رجل على ما بينه
الله تعالى في كتابه في قوله (أن تضل إحدهما فتذكر إحداهما الأخرى). أي أنهن قليلات
الضبط، وأما وصفه
…
صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان الدين لتركهن الصلاة والصوم في زمن الحيض، معناه
أن الدين والإيمان والإسلام مشتركة في معنى واحد كما مر، إذا ثبت هذا علمنا أن من كثرت
عبادته زاد إيمانه ودينه، ومن نقصت نقص دينه، ثم نقص الدين قد يكون على وجه يأثم به،
كمن ترك الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات الواجبة عليه بلا عذر، وقد يكون على وجه
هو مكلف به كترك الحائض الصلاة والصوم.
فإن قيل: فإذا كانت معذورة فهل تثاب على الصلوات المتروكة في زمن الحيض وإن كانت لا
تقضيها كما يثاب المريض والمسافر، ويكتب له في مرضه وسفره مثل نوافل الصلاة التي كان
يفعلها في صحته وحضره؟ والجواب: أن ظاهر الحديث أنها لا تثاب، والفرق أن المريض
والمسافر كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته لها، والحائض ليست كذلك، بل نيتها ترك
الصلاة في زمن الحيض، بل يحرم عليها نية الصلاة زمن الحيض؛ فنظيرها مسافر ومريض
كان يصلي النافلة في وقت، ويترك في وقت، فهذا لا يكتب له في مرضه وسفره في الزمان
الذي لم يكن يتنفل فيه.
قال الخطابي: في قوله: (فذلك من نقصان عقلها) دلالة على أن ملاك الشهادة العقل مع
اعتبار الأمانة والصدق، وعلى أن شهادة المغفل ضعيفة، وإن كان قوياً في الدين والأمانة، وفي
قوله: (وذلك من نقصان دينها) دلالة على أن النقص من الطاعات نقص في الدين.
أقول: وفي الحديث إغراب للمعنى، وإغراق في الوصف، أثبت صلى الله عليه وسلم لهن وصفين: كفران
العشير، وإكثار اللعن، ثم ذكر أن ليس لهن عقل يمنع من ارتكاب تينك الخصلتين، ولا دين
رادع عنهما؛ لأن الخصائل الرذائل [مركوزة] في جبلة الإنسان، وقلعها إما بالعقل، أو
الدين، قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
…
ذا عفة فلعلَّة لا يظلم
ــ
20_
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: كذبني ابنُ
آدم ولم ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك؛ فأما تكذيبه إياى فقوله: لن
يُعيدني كما بداني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته. وأما شتمه إياى:
فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً
أحد).
وكما تعلق العقل والدين بالخصلتين السابقتين كما بيناه تعلقا بقوله: (أذهب للب الرجل
الحازم) على طريقة التفريط في جانبيهن، والإفراط في جانب الرجل حيث وصفه بالحزم، ولو لم
يكن للحازم سوى قوله تعالى: (من خشى الرحمن بالغيب) لكفى به مدحا، يعنى بلغ من
حزمه أنه يخشى من هو واسع الرحمة، مولى جلائل النعم وعظامها، فكيف خشية من وصف
القهارية؟ ومن هو ثم ورد في الحديث: (الحزم سوء الظن) وذلك أن المتقى ذا الحجى والنهية
يرجح جانب الحزم في كل شي؛ لأن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وعليه يبنى
معظم أساس قاعدة العارفين في معاملتهم للنفس الأمارة، ومعظم مكايد الحروب.
والغرابة فيه أنه جعل هذا الرجل الكامل الحازم منقاداً مسترسل الزمام لتلك الناقصات
الحائزات للرذيلتين، وكأن جريراً رمز إلى هذا المعنى بقوله:
إن العيون التي في طرفها حور
…
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
…
وهن أضعف خلق الله أركانا
فهو من [أسلوب الرجوع]، يعنى أنتن وما فيكن من تينكن الرذيلتين خلقتن ناعمات
سالبات لنهبة الرجل الكامل بجمالكن ودلالكن. وإفراد الرجل إشارة إلى أن حبهن من جبلة
الرجال، وأنهن مزينات لهم، كقوله تعالى:(زين للناس حب الشهوات من النساء). ويجوز أن
يكون من [أسلوب الاستتباع] ذمهن بالرذيلتين، بحيث استتبع منه ذما آخر وهو سلب لب
الحازم بالخداع ولطائف الحيل، وفي عكسه فعل أبو الطيب.
نهبت الأعمار ما لو حويته
…
لهنيت الدنيا بأنك خالد
مدحه بالشجاعة بحيث استتبع منه صلاح الدنيا بحسن تدبيره، فالجواب من الأسلوب
ــ
ــ
الحكيم؛ لأن قوله: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين) إلى آخره زيادة، فإن قوله:(تكثرن اللعن وتكفرن العشير) جواب تام.
الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: (وأنا الأحد)(نه): الأزهري: الفرق بين الواحد والأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد تقول: ما جاءني أحد. والواحد أسم بني لمفتتح العدد، تقول: جاءني واحد من (الناس)، ولا تقول: جاءني أحد، والواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير، والأحد منفرد بالمعنى. والصمد: السيد الذي يصمد إليه في الحوائج، أي يقصد إليه، وقال الزجاج: الصمد: السيد الذي انتهى إليه السؤدد فلا سيد فوقه، الكفؤ: المثل المكافئ.
(قض): في قوله: (وليس أول الخلق بأهون على من إعادته) إشارة إلى برهان تحقق المعاد، وإمكان الإعادة، وهو أن يتوقف عليه تحقق البدن من أجزائه وصورته لو لم يكن وجود ممكناً لما وجد أولا. وقد وجد، وإذا أمكن لم يمتنع لذاته وجوده ثانياً، وإلا لزم انقلاب الممكن لذاته ممتنعاً لذاته، وهو محال. وتنبيه على تمثيل يرشد العامي، وهو ما يرى في المشاهدات أن من عمد إلى اختراع صنعة لم ير مثلها ولم يجد لها عددً وأصولا صعب عليه ذلك، وتعب فيها تعباً شديداً، وافتقر إلى مكابدة أفعال، ومعاونة أعوان، ومرور أزمان، ومع ذلك، فكثيراً ما لا يستتب له الأمر، ومن له المقصود. ومن أراد إصلاح منكسر، وإعادة منهدم، وكانت العُدد حاصلة، والأصول باقية_ هان عليه ذلك، وسهل جداً. فيا معشر الغواة! أتحيلون إعادة أبدانكم وأنتم معترفون بجواز ما هو أصعب منها؟ بل هو كالمعتذر بالنسبة إلى قدركم وقواكم، وأما
بالنسبة إلى قدرة الله تعالى فلا سهولة ولا صعوبة، يستوي عنده تكوين بعوض طيار، وتخليق فلك دوار، كما قال عز اسمه:(وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر).
والشتم: توصيف الشيء بما هو إزراء ونقص فيه، وإثبات الولد كذلك؛ لأنه قبول بممائلة الولد في تمام حقيقة، وهي مستلزمه للإمكان المتداعي إلى الحدوث؛ ولأن الحكمة في التوالد استبقاء النوع، فلو كان الباري تعالى متخذا ولداً لكان مستخلفا خلفا يقوم بأمره بعد عصره_ تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وأقول: ذكر الله تعالى تكذيب ابن ادم وشتمه وعظمها، ولعمري! إن أقل الخلق وأدناه) إذا نسب ذلك إليه استكف، وامتلأ غضبا، وكاد يستأصل قائله، فسبحانه ما أحمله وما أرحمة! (وربك الغفو ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا).
ثم انظر إلى كل واحد من التكذيب والشتم وما يؤديان من التهويل والفظاعة، أما الأول فإن منكر الحشر جعل الله تعالى كاذباً، والقرآن المجيد الذي هو مشحون بإثباته مفترى، ويجعل حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض عبثاً ولعباً، قال الله تعالى:(إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر _ إلى قوله_ ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) علل الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض والاستواء
ــ
ــ
على العرش لتدبير العالم بالجزاء، من ثواب المؤمن وعقاب الكافر، ولا يكون ذلك إلا في
القيامة، فيلزم منه أن لو لم يكن الحشر لكان ذلك عبثاً ولهواً؛ لقوله تعالى: (وما خلقنا
السماء والأرض وما بينهما لاعبين) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، وفيها كثرة.
وأما الثاني فإن قائله يحاول إزالة المخلوقات بأسرها، ويزاول تخريب السموات من
أصلها، قال الله تعالى: (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا
للرحمن ولداً) ثم تأمل في مفردات التركيب لفظه لفظه، لأن قوله:(لم يكن له ذلك) من
باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية؛ لأن قوله: (لم يكن له ذلك) نفي
الكينونة التي بمعنى الانتفاء، كقوله تعالى: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها).
(الكشاف): ومعنى الكينونة (الانبغاء)، أراد أن تأتي ذلك محال من غيرة، ومنه قوله
تعالى: (وما كان لنبي أن يغل) معناه ما صح له، يعنى أن النبوة تنافي الغلول؛ فحينئذ
يجب، أن يحمل لفظ (ابن آدم) على الوصف الذي يعلل الحكم به بحسب التلميح، وإلا لم يكن
لتخصيص لفظ ابن آدم دون الناس والبشر فائدة، وذلك من (وجوه): أحدها أنه تلميح إلى
قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) من الله عليهم بها،
المعنى: إنا أنعمنا عليكم بإيجادكم من العدم، وصورناكم في أحسن تقويم، ثم أكرمناكم
بأن أمرنا الملائكة المقربين بالسجود لأبيكم؛ لتعرفوا قدر الإنعام فتشكروا، فقلبتم الأمر،
فكفرتم، ونسبتم المنعم المتفضل إلى الكذب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وتجعلون رزقكم
أنكم تكذبون) أي شكر رزقكم.
وثانيها: تلميح إلى قوله: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)
المعنى ألم تر أيها المكذب إلى أنا خلقناكم من ماء مهين خرجت من إحليل أبيك واستقررت
في رحم أمك، فصرت تخاصمني بحججك وبرهانك فيما أخبرت به من الحشر والنشر
بالبرهان، فأنت خصيم لي بين الخصومة. وما أحسن موقع المفاجأة التي يعطيها قوله
تعالى: (فإذا هو خصيم مبين). وثالثها: إلى قوله تعالى: (أوليس الذي خلق السموات
والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) المعنى أوليس الذي خلق هذه الأجرام العظام بقادر
على أن يخلق مثل هذا الجرم الحقير الصغير الذي خلق من تراب، ثم من نطفة؟.
ــ
21_
وفي رواية عن ابن عباس: (وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، وسبحاني أن
أتخذ صاحبة أو ولداً). رواه البخاري.
ــ
وكذلك قوله: (أنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد) أوصاف مشعرة بعلية الحكم. أما
قوله: (الأحد) فإنه بنى لنفى ما يذكر معه من العدد، فلو فرض له ولد يكون مثله، فلا يكون
أحدا، ولذلك قال حق النبي صلى الله عليه وسلم:(ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم) أنه لو كان له
ولد لكان مثله نبيا، فلم يكن إذا خاتم النبيين، وهذا معنى الاستدراك في قوله: (ولكن رسول الله
وخاتم النبيين). (الصمد) هو الذي يصمد إليه في الحوائج، فلو كان له ولد لشرك فيه،
فليزم إذا فساد السموات والأرض، وقوله:(كفوا) أي صاحبة، ولا ينبغي له؛ لأنه لو فرض ذلك
للزم منه الاحتياج إلى قضاء الشهوة، وكل ذلك وصف له بما فيه نقض وإزراء، وهذا معنى
الشم، فالأحد ذاتي، والصمد إضافي والثالث سلبي.
فإن قلت: أي الأمرين أعظم؟ قلت: كلاهما عظيم، لكن التكذيب أقدم لما سبق أن المكونات
لم تكن إلا للجزاء، فمن أنكر الجزاء لزم منه العبث في التكوين، أو إعدام السموات والأرض؛
فينتفي بذلك سائر الصفات الكمالية التي أثبتها الشرع؛ فيلزم منه التعطيل، على أن الصفات
الثبوتية إذا انتفت يلزم منه انتفاء الذاتية والسلبية أيضاً.
قوله: (أولدا) هكذا هو في البخاري ونسخ المصابيح، وفي الحميدى:(ولا ولداً) وزيد (لا) لما
في سبحانى من معنى التنزيه. وفي الجامع (وولداً). وقالوا: إن هذا الحديث كلام قدسي،
والفرق بينه وبين القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل عليه السلام للإعجاز عن الإيتان
بسورة من مثله، والحديث القدسي إخبار الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم معناه بإلهام، أو بالمنام، فأخبر النبي
صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك المعنى بعبارة نفسه، وسائر الأحاديث لم يضفه إلى الله تعالى ولم يروه عنه،
كما أضاف وروى القدسي.
أقول: فضل القرآن على الحديث القدسي هو أن القدسي نص إلهي في الدرجة الثانية، وإن
كان من غير واسطة ملك غالبا؛ لأن المنظور فيه المعنى دون اللفظ، وفي التنزيل اللفظ والمعنى
منظوران، فعلم من هذا مرتبة بقية الأحاديث.
ــ
22_
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يؤذيني ابنُ
آدم يسب الدهر، وأنا الدهرُ، بيدي الأمرُ، أُقَلب الليل والنهار). متفق عليه.
ــ
الحديث التاسع [عشر] عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: (يؤذيني) الإيذاء إيصال
المكروه إلى الغير قولا أو فعلا، أثر فيه أو لم يؤثر، وإيذاء الله تعالى عبارة عن فعل ما يكرهه،
ولا يرضى به، وكذا إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: روى السجستانى نصب (الدهر) في (أنا الدهر)
أي أقلب الليل والنهار في الدهر. وقيل: الرفع أولى.: وهو كذلك؛ لأنه لا طائل تحته
على تقدير النصب، أما معنى فلأنه لا فائدة في قوله:(أنا أقلب الليل والنهار في الدهر)؛ لأن
الكلام مسوق للرد على الساب والإنكار عليه، وأما لفظا فإن تقديم الظرف إما للاهتمام، أو
الاختصاص، ولا يقتضي المقام ذلك؛ لأن الكلام مفرغ في شأن المتكلم، لا في الظرف، ولهذا
عرف الخبر باللام لإفادة الحصر، فكأنه قيل:(أنا أقلب الليل والنهار لا ما تنسبونه إليه).
قيل: الدهر الثاني غير الأول، وإنما هو مصدر بمعنى الفاعل، ومعناه أنا الدهر المصرف المدبر
المفيض لما يحدث. (غب) والأظهر أن معناه أنا فاعل ما يضاف إلى الدهر من الخير والشر،
والمسرة والمساءة، فإذا سببتم الذي تعتقدون أنه فاعل ذلك فقد شتمتموني. (قض): قيل: فيه
إضمار المضاف، والتقدير: أنا مقلب الدهر والمتصرف فيه، والمعنى أن الزمان يذعن لأمري لا
اختيار له، فمن ذمه على ما يظهر فيه صادراً فقد ذمني، فإني الضار والنافع.
ولقائل أن يقول: وقد تقرر في المعاني أن المعرف إذا أعيد كان الثاني غير الأول. وعلى
التقادير لا يلزم اتحاد المعنى لأن السبب غير المسبب. قلت: ورد النهى على الساب الدهرى الذي
يسب الدهر لا لذاته، بل لتصرفاته وحوادثه التي على خلاف مراده، ويعقد أنه هو الفاعل
الحقيقي، وأنه مستقل بها، كقولهم:(وما يهلكنا إلا الدهر) على قصر القلب كما مر، فقيل
لهم: ما تعتقدونه من الفاعل الحقيقي هو الله تعالى. ويعضد هذا التقرير قوله صلى الله عليه وسلم: (بيدى الأمر
أقلب الليل والنهار) فإنه صلى الله عليه وسلم أوقع: (بيدى الأمر أقلب الليل والنهار) بياناً وتفسيراً لقوله: (أنا
الدهر) ولا ارتياب أن معنى الدهر لغة ليس بذلك.
قال الراغب: (الدهر في الأصل اسم لمدة العالم)، وعليه قوله تعالى: (هل أتى على
الإنسان حين من الدهر) ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان، فإنه يقع على
المدة القليلة والكثيرة، فإذا المراد في الحديث بالدهر مقلب الليل والنهار ومصرف الأمور فيها،
ــ
23_
وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحدٌ أصبر على
أذى يسمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعُافيهم ويرزقُهم). متفق عليه.
ــ
فينبغي أن يفسر الأول بذلك، كأنه قيل: يسب مدير الأمر ومقلب الليل والنهار، وأنا المدير
والمقلب، فجاء الاتحاد.
الحديث العشرون عن أبي موسى: قوله: (ما أحد أصبر) الصبر الحبس، ومنه قتلته صبراً،
أي حبساً، ومعنى الصبر حبس النفس على ما تكرهه، والعافية السلامة ودفع البلاء والمكروه،
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (معافى في جسده). والرزق الحظ والنصيب، سواء كان مطعوما أو مالا، أو
علما، أو ولداً، وقوله:(يسمعه) صفة (أذى)، والرزق الحظ والنصيب، و (من الله) متعلق بقوله:(أصبر) لا (يسمعه)
و (يدعون) إلى آخره بيان للكلام السابق. يقول: ما أحد أشد صبراً من الله تعالى بإرسال العذاب
إلى مستحقه_ وهم كفار_ على القول القبيح، وهو قولهم:(إن لله ولداً) يسمعه منهم. ثم
يدفع عنهم البلاء والضرر، ويرزقهم السلامة وأصناف الأموال، ولا يجعل تعذيبهم. وفي
الحديث إشارة إلى أن الصبر على احتمال الأذى محمود، وترك الاشتغال بالمكافآت والانتقام
ممدوح، ولهذا كان جزاء كل عمل محصوراً، وجزاء الصبر غير محصور؛ إذا الصبر والحلم في
الأمور هو التخلق بأخلاق مالك أزمة الأمور، وبالصبر يفتح كل باب مغلق، ويسهل به كل
الأمور هو التخلق بأخلاق مالك أزمة الأمور، وبالصبر يفتح كل باب مغلق، ويسهل به كل
صعب مزيج.
أقول: في الكلام إشكال، وذلك أنك إذا قلت: زيد أجرأ من عمرو، فإنه يلزم منه فضل
جزءة زيد على جرءة عمرو، فإذا نفيته فقلت: ما زيد بأجرأ من عمرو، لزم منه إما نقصان جرأة
زيد، أو مساواتهما، وكذا هاهنا، ولكن القصد إلى أن القصد إلى أن الله تعالى أصبر من كل أحد فكيف
ذلك؟ والجواب: المراد هاهنا نفي نفي ذات المفضل وقلعه من سنخة، فإذا انتفت ذاته انتفت المساواة
والنقصان بالطريق الأولى، ألا تراهم يقولون في مثل قولك: ما زيد إلا شاعر: إن (ما) دخلت
على زيد فتفت الذات، ولما لم يكن النزاع فيها توجه النفي إلى مافيه النزاع من صفاته، والقصد
هنا إلى نفى الذات، وليس النزاع إلا فيه، فلا يلزم المساواة ولا النقصان، فإذا الغرض نفي
الموصوف، وإنما ضمت إليه الصفة ليؤذن بأن انتفاء الموصوف أمر محقق لا نزاع فيه، وبلغ في
تحققه إلى أن صار كالشاهد على نفي الصفة، كما تقوله: لا ترى الضب بها ينحجر
ــ
24_
وعن معاذ، قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، ليس بيني وبينه
إلا مؤخرة الرحل، فقال: (معاذ! هل تدري ما حقُّ الله على عباده؟ وما حقُّ العباد
على الله؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: (فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا
يشركوا به شيئاً، وحقُّ العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فقلت: يا
رسول الله! أفلا أُبشر به الناس؟ قال: (لا تُبشرهم فيتكلوا). متفق علي.
ــ
أي لا ضب هناك فيكون الانحجار، إذا لو وجد لوجد. هذا معنى ما ذكره صاحب الكشاف
في قوله: تعالى: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع). وقوله: (يسمعه) تتميم للمبالغة،
كما في قول امرئ القيس:
حملت ردينيا كأنه سنانه
…
سنا لهب لم يتصل بدخان
فإن قوله: (لم يتصل بدخان) تتميم لمعنى (سنا)، فإن النار الشاعلة إذا لم تتصل بالدخان
يكون أضوء وأثقب، فكذا (الموذِى) إذا كان بمسمع من الموذىَ ومحضر منه كان تأثير الأذى
أشد وأبلغ منه إذا سمعه من بعد وأخبر به.
الحديث الحادي والعشرون عن معاذ: قوله: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم الردف والرديف التابع،
من الردف، وهو العجز، والرديف وهو الذي يركب خلف الراكب، و (مؤخرة الرحل) العود
الذي خلف الراكب، أراد المبالغة في شدة قربه؛ ليكون أوقع في نفس السامع فيضبط،
يروى (مؤخرة)(بضم الميم وبعدها همزة ساكنة ثم خاء مكسورة) هذا هو الصحيح، وفيه لغة
أخرى بفتح الهمزة والخاء المشددة. و (الدراية): المعرفة (الزمخشرى): هي معرفة تحصيل
يضرب من الخداع، ولذلك لا يوصف بها الباري تعالى، والحق نقيضه الباطل؛ لأنه ثابت،
والباطل زائل، ويستعمل بمعنى الواجب، واللازم والجدير والنصيب والملك والاتكال والاعتماد
على الشيء من الوكل والكلة ومنه الوكالة. والبشارة إيصال خير إلى أحد يظهر أثر السرور منه
على بشرته. وأما قوله: (فبشرهم بعذاب أليم) فمن الاستعارة التهكمية، وحق الله تعالى
بمعنى الواجب واللازم، و (حق العباد) بمعنى الجدير؛ لأن الإحسان إلى من لم يتخذ ربا سواه
جدير في الحكمة أن يفعله. وقيل: حق العباد على الله تعالى ما وعدهم به، ومن صفة وعده
أن يكون واجب الإنجاز، فهو حق بوعده الحق.
ــ
25_
وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاذ رديفه على الرحل، قال:(يامعاذ!)
قال: لبيك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعديك. قال. قال: (يا معاذ!) قال: لبيك يا رسول الله
وسعديك قال: (يا معاذ!) قال: لبيك يا رسول وسعديك، _ثلاثا_ قال: قال: (ما
من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدّا رسول الله، صدفا من قلبه إلا حرمه الله
على النار). قال: يا رسول الله! أفلا أخبرُ به الناس فيستبشروا؟ قال: (إذغ يتكلوا).
فأخبر بها معاذ عند موته تأثما. متفق عليه
ــ
أقول: هذا هو الوجه، وقال الشيخ محيي الدين: حق العباد عليه تعالى جهة المقابلة
والمشاكلة لحقه عليهم، ويجوز أن يكون من نحو قول الرجل لصاحبه: حقك واجب علي، أي
قيامي به متأكد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام)،
وإنما رواه معاذ مع كونه منهيا لأنه علم أن هذا الإخبار يتغير الأزمان والأحوال، والقوم
يومئذ كانوا حديثي العهد بالإسلام، لم يعتادوا بتكاليفه، فلما استقاموا وتثبتوا أخبرهم به، أو
رواه بعد ورود الأمر بالتبليغ، والوعيد على الكتمان والتضييع. ثم إن معاذا مع جلالة قدره لم
يخف عليه ثواب من نشر علما، ووبال من كتمه ضنا، فرأى التحدث به واجبا، ويؤيده ما ورد
في الحديث الذي يتلوه: (فأخبر به معاذ عند موته).
الحديث الثاني والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: (لبيك) لبيك معناه إجابة لك بعد
إجابة، ومعنى (سعديك) ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة، والتحريم بمعنى المنع، كما في
قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها). قوله: (تأثما) مفعول له (نه): أي تجنبا للإثم،
يقال: تأثم فلان إذا فعل فعلا خرج به من الإثم، كما يقال: تحرج إذا فعل ما يخرج به من
الحرج. أقول: الإثم الذي يحرج به كتمان ما أمر الله بتبلغيه حيث قال الله تعالى: (وإذ أخذ
الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه).
فإن قلت: ثبت أنه يتأثم من هذا النص، فكيف لا يتأثم من النهي في قوله (عليه الصلاة
والسلام): (لا تبشرهم)؟ قلت: النهي مقيد بالاتكال، فإذا زال القيد زال المقيد على ما سيأتي
بيانه. قال في الحديث المتقدم: (لا تبشرهم فيتكلوا) وفي هذا الحديث: (أما الأول فمن
ــ
ــ
قبيل قوله تعالى: (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى) أي لا يكن منك تبشير فاتكال
منهم، فالنهى منصب على السبب والمسبب معا. والثاني من قبيل:(إذا أكرمك) في جواب من
قال: (أنا أحسن إليك) كأنه قال: إن أحسنت إلى أكرمك، فهو جواب وجزاء. وأما تكريره
صلى الله عليه وسلم نداء معاذ فلتأكيد الاهتمام بما بخير، وليكمل تنبه معاذ فيما يسمعه، وقد ثبت في الصحيح
أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا كان تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لهذا لهذا المعنى.
(مح): في هذا الحديث وحديث معاذ: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، وفي
رواية عنه: (من هذا لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة)، وفي رواية عنه: (لقي الله لا يشرك
به شيئا دخل الجنة)، وعنه: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله إلا حرمه
الله على النار)، وفي حديث أبي هريرة: (لا يلقى الله تعالى بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل
الجنة إن زنى وإن سرق)، وفي حديث أنس: (حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغى
بذلك وجه الله). وهذه الأحاديث كلها سردها مسلم في كتابه، فحكي عن جماعة من السلف
منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهى. وقال بعضهم: هي بالجملة
تحتاج إلى شرح، ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها، وهذا قول الحسن البصري.
وقيل: إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة، ومات على ذلك، وهذا قول البخارى.
وهذه التأويلات إنما هي إذا حملت الأحاديث على ظاهرها، وأما إذا نزلت منازلها فلا يشكل
تأويلها على ما بينه المحققون، فتقرر أولا أن مذهب أهل السنة بأجمعهم من السلف الصالح،
وأهل الحديث، والفقهاء، والمتكلمين من الأشاعرة أن أهل الذنوب في مشيئة الله تعالى وأن كل
من مات على الإيمان ويشهد مخلصا من قلبه الشهادتين فإنه يدخل الجنة، فإن كان تائبا أو سليما
من المعاصي دخل الجنة برحمة ربه، وحرم على النار بالجملة فإن حملنا اللفظين الواردين على هذا
في من هذه صفته كان بينا، وهذا معنى تأويل الحسن والبخاري، وإن كان هذا من المخلطين
بتضييع ما أوجب الله عليه، أو بفعل ما حرم الله عليه، فهو في المشيئة، لا يقطع في أمره
بتحريمه على النار، ولا باستحقاقه الجنة الأول وهلة، بل قطع بأنه لا بد من دخول الجنة آخراّ،
وحاله قبل ذلك في خطر المشيئة، إن شاء الله تعالى عذبه بذنبه، وإن شاء الله عفى عنه بفضله.
أقول: ما ذهب إليه الشيخ قانون عظيم في الدين، وعليه مبنى قواعد أهل السنة، على أن
الحسن والقبح شرعيان، وأن الله مالك الملك، وله الكبرياء في السموات والأرض، يفعل ما
يشاء، ويحكم ما يريد، ويتصرف في ملكه كيف يشاء، حتى لو يدخل الكافرين كلهم في الجنة
والمطيعين في النار لكان ذلك حكمة منه وعدلا وصوابا، ولكن حكم بأن المشرك لا يدخل الجنة
والمؤمن لا يدخل النار بنصوص من الكتاب والسنة، قال تعالى: (وإن الله لا يغفر أن يشرك به
ــ
ــ
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
الله إن يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) ومن السنة هذه الأحاديث المذكورة.
وإذا تقرر هذا فقول الشيخ: (هذه التأويلات إنما هي إذا حملت على ظاهرها) يريد
بالظاهر ظاهر الحال المتعارف بين الناس، وبقوله:(وأما إذا نزلت منازلها فلا يشكل) يعني أن
ينزل كل حديث على ما هو عليه عند الله تعالى نظرا إلى مشيئته وإرادته، وأنه يفعل ما يشاء،
ولا مجال للعقل أن يتصرف فيما يريد ويفعل.
وأشكل الأحاديث تنزيلا، وأصعبها عند الناس _ وهو عند الله هين _ هو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يلقى
الله تعالى بهما عبد شاك فيهما إلا دخل الجنة وإن زنى وسرق). فإن قيل: أليس
قوله: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار) أشكل
منه؛ لأنه أتى فيه بأداة الحصر، ومن الاستغراقية، ولم يقل:(دخل الجنه) بل (حرم) فإن دخول
الجنة قد يكون بعد دخول النار؟ فالجواب: لا؛ لأنه غير مقيد بقوله: (وإن زنى وإن سرق) لأنه
شرط بمجرد التأكيد، ولا سيما كرر ثلاث مرات، وختم بقوله:(وإن رغم أنف أبي ذر) تتميما
للمبالغة، وهذا الحديث مطلق يقبل قيداً أيضا. وقوله (وإن زنى وإن سرق) وكل ذلك على أنه
تعالى بمحض مشيئته وإرادته وفضله يعامل العباد، ولعل ورود المنع من تبشير معاذ أنه من
الأسرار الإلهية، لا يجوز كشفها وإذاعتها عند العامة، ولا يبعد أيضا أن يقال: إن نداء الرسول
صلى الله عليه وسلم معاذ ثلاث مرات كان للتوقف في إفشاء هذا السر عليه أيضا.
ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: (حفظت من رسول الله وعانين، فأما أحدهما
فبثتته فيكم، وأما الآخر فلو بثتته قطع هذا البلعوم) رواه البخاري، وقال:(البلعوم مجرى الطعام)
والله أعلم، وأحسن التأويلات ما ذهب إليه الحسن.
وتقول في هذا الحديث الذي نشرحه: هو من جوامع الكلم نحو قوله تعالى: (إن الذين
قالوا ربنا الله ثم استقاموا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم) وقد سبق بيانه، فإن صدقا
هنا أقيم مقام الاستقامة؛ لأن الصدق كما يعبر به قولا عن مطابقة المقول الضمير والمخبر عنه
وعليه كلام الراغب، قد يعبر فعلا عن تحري كل أفعال كاملة، وأخلاق مرضية، وتحقيقها،
قال الله تعالى: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) و (في مقعد صدق عند مليك مقتدر)
ــ
ــ
و (الذي جاء بالصدق وصدق به) أي حقق ما أورده قولا لما تحراه فعلا، فعلى هذا التقدير
تخصيص النهي في قوله: (لا تبشر) مخصوص ببعض الناس، دون بعض فإن مثل هذا المعنى
لا يدركه إلا الراسخ في العلم، ويعضده حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي يورده في
الفصل الثالث من هذا الكتاب، وهو قوله: (من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه
فبشره بالجنة) وفيه أنه منع عمر رضي الله عنه أبا هريرة عن التبشير، فعلم أن المراد
بالتخصيص ما ذكره؛ إذ لو لم يكن يرد ذلك لم يخبر معاذا وأبا هريرة وأنسا وعمر (رضي الله
عنهم) وأمثالهم، واحتج به محمد بن إسماعيل وبمثله أن يخص العالم بالعلم قوما دون قوم؛
كراهة أن لا يفهموا.
ثم بعد تأويل الحسن قول من قال: الحديث كان في بدء الإسلام في وقت لم يجب فيه شيء
من الأركان؛ فحينئذ يكون قد أتى بما يجب عله فحومه الله على النار، وأما بعد وجوب الأركان
فلا يكون ذلك كافيا في الخلاص، ويؤيده ما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها
قالت: (إنما نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء (لا تشربوا الخمر) لقالوا: لا ندع الخمر
أبدا، ولو نزل:(لا تزنوا) لقالوا: لا ندع الزنى، ولقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم (بل الساعة
موعدهم والساعة أدهى وأمر) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده).
قال بعض المحققين: قد يتخذ أمثال هذه الأحاديث المبطلة والمباحية ذريعة إلى طرح
التكاليف، ودفع الأحكام، وإبطال الأعمال، معتقدين بأن الشهادة وعدم الإشراف كاف، وربما
يتمسك بها المرجئة. وهذا الاعتقاد يستلزم طي بساط الشريعة، وإبطال الحدود والزواجر
السمعية، ويوجب أن يكون التكليف بالترغيب في الطاعات والتحذير عن المعاصي والجنايات
غير متضمن طائلا، وبالأصل باطلا، بل يقتضي الانخلاع عن ربقة الدين والملة، والانسلال عن
قيد الشريعة والسنة، والخروج عن الضبط، والولوج في الخبط، وترك الناس سدى مهملين
يموج بعضهم في بعض معطلين من غير مانع ولا دافع، وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد أن
أفضى إلى خراب العقبى. والمتثبت بهذا الحديث ونظيره ساقط، وعن معارج القدس إلى
حضيض النفس لا قط، مع أن قوله:(يعبدوه) يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية، وقوله: (لا
تشركوا) يشمل كلا قسمي الشرك: الجلي، والخفي.
قال أهل التحقيق: العبادة لها ثلاث درجات: الأولى: أن يعبد الله طمعا في الثواب، وهربا
من العقاب، وهذا المسمى بالعبادة، وهذه الدرجة نازلة جدا؛ لأن معبوده في الحقيقة هو ذلك
ــ
26_
وعن أني ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه ثواب أبيض، وهو نائم، ثم
أتيته وقد استيقظ، فقال: (ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك؛ إلا
دخل الجنة) قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق؟! قال: (وإن زنى
وإن سرق على رغم أنف أبيي ذر). وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف
أبي ذر. متفق عليه.
ــ
الثواب، وقد جعل الحق وسيلة إلى نيل ذلك المطلوب. الثانية: أن يعبد الله لأجل أن يتشرف
بعبادته، أو يتشرف بقبول تكاليفه أو يتشرف بالإسناد إليه، وهذه الدرجة أعلى من الأولى،
إلا أنها ليست بخالصة؛ لأن المقصود بالذات غير الله تعالى وهذا هو المسمى بالعبودية. الثالثة:
أن تعبد الله لكونه إلها وخالقا، ولكونك عبدا له، والإلهية توجب الهيبة والعزة، والعبودية
توجب الخضوع والذلة، وهذا أعلى المقامات، وأشرف الدرجات، وهذا هو المستحق بأن يسمى
العبودة، وإليه الإشارة بقول المصلى في أول الصلاة: أصلي لله، فلو قال: أصلى لثواب
الله، أو للهرب من عقابه، بطلت صلوته، فالعبادة للعوام من المؤمنين، والعبودية للخواص
الموقنين، والعبودة لخاص الخاص [من المقربين]. وقيل: العبادة لمن له علم اليقين،
والعبودية لمن عين اليقين، والعبودة لمن له حق اليقين. ولعمرى! ما أظلت الخضراء وأقلت
الغبراء على من يفي بهذا الأمر، ويستقيم على هذا الحكم.
وقال في آخر حديث معاذ: (وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم) وفيه إشارة إلى
أن هذا لا يستعقب إلا دفع العقاب، وسقوط العذاب عنهم، أما حصول الدرجات السنية والمراتب
العلية التي يتنافس فيها المتنافسون فلا يصل إليها إلا العاملون، ولا يشرب من عيونها العذبة إلا
المقربون، فالشقي يستصعبها، والسعيد يسعى إليها.
الحديث الثالث والعشرون عن أبي ذر: قوله: (وعليه ثوب أبيض) قال الشارحون: ليس هذا
من الزوائد التي لا طائل تحتها، بل قصد الراوي بذلك أن يقرر التثبت والإتقان فيما يرويه في
آذان السامعين؛ ليتمكن في قلوبهم. (خط): قوله: (ثم مات على ذلك) إشارة إلى الثبات على
الإيمان حتى يموت، احتراز عمن ارتد ومات عليه، فحينئذ لا ينفع إيمانه السابق. وقوله: دخل
الجنة) إشارة إلى أن عاقبته دخول الجنة، وإن كان له ذنوب جمة، أو ترك من الأركان شيئا،
ــ
ــ
لكن أمره إلى الله، إن شاء عفى عنه وأدخل الجنة، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم أدخله الجنة
بفضله. قال ابن مالك: حرف الاستفهام في قوله: (وإن زنى) مقدر، ولا بد من تقديره (شف):
تقديره: أو إن زنى أو إن سرق دخل الجنة؟
(قض): (رغم) لصق بالرغام _ بالفتح _ وهو التراب، ويستعمل مجازا بمعنى كره أو ذل،
إطلاقا لا سم السبب على المسبب، وفي الحديث دليل على أن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان؛ فإن
من ليس بمؤمن لا يدخل الجنة وفاقا، وأنها لا تحبط الطاعات؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عمم الحكم ولم
يفصل، فلو كانت الكبائر محبطة على طريق الموازنة أو غيره لزم أن يبقى لبعض الزناة شيء
من الطاعات، والقائل بالإحباط يحيل دخول الجنة لمن هذا شأنه، وأن أربا الكبائر من أهل
القبلة لا يخلدون في النار.
أقول _ والعلم عند الله _: لعل ذكر الثوب الأبيض والنوم والاستيقاظ ثم إيراد الحديث بحرف
التعقيب إشارة إلى حصوله (صلوات الله عليه وسلامه) في عالم الغيب، واستعداده لفيض الله
عليه حينئذ بالوحي، وتخصيص الثوب الأبيض إيماء إلى قوله (تعالى): (يا أيها المدثر قم فأنذر
وربك فكبر وثيابك فطهر) نعم! في الآية إشارة إلى الإنذار، وفي الحديث إلى البشارة، أي
قم فبشر عبادي الذين آمنوا بالجنة. ومعنى (ثم) في قوله: (ثم مات) التراخي في الرتبة، كقوله
تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)، وقوله صلى الله عليه وسلم:(قل آمنت بالله ثم استقم) وقد
مر بيانه. والاستثناء مفرغ، أي ما من عبد آمن وثبت عليه يكون له حال من الأحوال إلا حال
دخول الجنة، ولعل تقدير الاستفهام أن يقال: أدخل الجنة وإن زنى وإن سرق؟ والشرط حال،
ولا يذكر الجواب مبالغة تتميما بمعنى الإنكار في الكلام السابق.
وأما تكرير أبي ذر فلاستعظام شأن الدخول مع مباشرة الكبائر وتعجبه منه، وتكرير رسول
الله صلى الله عليه وسلم إنكار له على استعظامه، أي أتبخل يا أبا ذر برحمة الله؟ فرحمة الله واسعة على خلقه
وإن كرهت ذلك؛ فقد قال الله تعالى: (قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من
رحمة الله) الآية، وهو الزنى، أو حق العباد، وهو أخذ مالهم بغير حق. وفي تكريره أيضا معنى الاستيعاب
والعموم، كقوله تعالى:(ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) أي دائما. وأما حكاية أبي ذر قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف أبى ذر) فللشرف والافتخار.
ــ
27_
وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبدُ الله ورسوله
وابنُ أمته وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة والنار حق؛ أدخله الله الجنة
على ما كان من العمل). متفق عليه.
ــ
الحديث الرابع والعشرون عن عبادة: قوله: (من شهد أن لا إله إلا الله)(مح): هذا حديث
عظيم الواقع، وهو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد؛ فإنه جمع فيه ما يخرج عنه جميع
ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها. قوله: (وأن عيسى)(قض): ذكر عيسى صلى الله عليه وسلم تعرضا
بالنصارى، وإيذانا بأن إيمانهم مع القول بالتثليث كفر محض، لا يخلصهم من النار. (شف):
ذكر (عبده) تعرضا بالنصارى في قولهم بالتثليث، وذكر (رسوله) تعريضا باليهود في إنكارهم
رسالته، وانتمائهم إلى ما لا يحل من قذفه وقذف أمه.
وأقول: كذا قوله: (وابن أمته) تعريض بالنصارى وتقرير لعبديته، أي هو عبدي وابن أمتى،
كيف ينسبونه إلى بالنبوة؟ وتعريض باليهود، براءة ساحته من قذفهم، والإضافة في (أمته) إذا
للتشريف، وعلى هذا تسميته بالروح، ووصفه بقوله:(منه) إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم مقربه وحبيبه،
وتعريض باليهود وبحطهم من منزلته، وتنبيه للنصارى على أنه مخلوق من المخلوقات، روى أن
عظيما من النصارى سمع قارئا يقرأ: (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) قال: أفغير هذا دين
النصارى؟ يعنى هذا يدل على أن عيسى عليه السلام بعض منه. فأجاب على بن الحسين بن
واقد صاحب كتاب النظائر: إن الله تعالى يقول أيضا: (وسخر لكم ما في السموات وما في
الأرض جميعا منه) فلو أريد بقوله: (روح منه) بعض منه وجزء منه، لكان قوله ههنا:
(جميعا منه) معناه بعض منه أو جزء منه، فأسلم النصراني. ومعنى الآية أنه تعالى سخر هذه
الأشياء كائنة منه، وحاصلة من عبده، يعنى أنه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته، ثم مسخرها
لخلقه.
قوله: (والجنة والنار حق) لعله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة والنار وأخبر عنهما بقوله: (حق) _ وهو مصدر _
للمبالغة في حقيقة، وأنهما عين الحق، كقولك: زيد عدل؛ تعريضا بالزنادقة، ومن ينكر
دار الثواب ودار العقاب.
ــ
ــ
(تو): الكلمة تقع على كل واحد من الأنواع الثلاثة: الاسم، والفعل، والحرف. وتقع على
الألفاظ المنظومة، والمعاني المجموعة تحتها، وبهذا تستعمل في القضية، والحكم، والحجة.
وبجميعها ورد التنزيل، وكأن الكلام أخذ من الكلم؛ فإن الكلم يدرك تأثيره بحاسة البصر،
والكلام يدرك تأثيره بحاسة السمع. وأما تسمية عيسى بالكلمة فإنه حجة الله تعالى على عباده،
أبدعه من غير أب، وأنطقه في غير أوانه، وأحيى الموتى على يده، والحديث في ذلك ذو
شجون، ولا يخفى على ذي اللب فهمه واستنباطه. وقد قيل: إنه سمى كلمة لكونه موجدا
بكن، وقيل: لما انتفع بكلامه سمى به، كما يقال: فلان سيف الله، وأسد الله. وقيل: لما
خصه الله به في صغره حيث قال: (إنى عبد الله آتانى الكتاب). وقوله: (ألقاها إلى
مريم) أي أوصلها إليها، وحصلها فيها. وأما تسميته بالروح فلما كان له من إحياء الموتى.
وقيل: لأنه روح وجسد من غير جزء من ذي روح، كالنطفة المنفصلة من الحى، وإنما اخترع
اختراعا من عند الله.
(قض): قوله: (أدخله الله الجنة على ما كان عليه من العمل) دليل على المعتزلة في مقامين:
أحدهما: أن العصاة من أهل القبلة لا يخلدون في النار؛ لعموم قوله: (من شهد) وثانيهما: أنه
تعالى يعفو عن سيئات قبل التوبة واستيفاء العقوبة، لأن قوله:(على ما كان عليه من العمل)
حال من قوله: (أدخله الله الجنة) كما في قولك: رأيت فلانا على أكل، أي آكلا. ولا شك أن
العمل غير حاصل، بل الحاصل حال إدخاله استحقاق ما يناسب عمله من الثواب والعقاب، ولا
يتصور ذلك في حق العاصي الذي مات قبل التوبة، إلا إذا أدخل قبل استيفاء العقوبة.
فإن قلت ما ذكرت يستدعى أن لا يدخل أحد النار من العصاة. قلت: اللازم منه عموم
العفو، وهو لا يستلزم عدم دخول النار؛ لجواز أن يعفو عن بعضهم بعد دخول، وقبل استيفاء
العذاب، وليس بحتم عندنا أن يدخل النار أحد، بل العفو عن الجميع بموجب وعده حيث
قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقال (يغفر الذنوب
جميعا). مرجوا. أقول: إن التعريف في العمل للعهد، والإشارة به إلى الكبائر، والدليل
عليه أمثال قوله: (وإن زنى وإن سرق) في حديث أبي ذر، وقوله:(على ما كان عليه) حال، كما
في قول الحماسي:
فو الله أنسى قتيلا رزينة
…
بجانب قوسى ما مشيت على الأرض
على أنها تعفو الكلوم وإنما
…
يوكل بالأدنى وإن جل ما يقضى
قال أبو البقاء: على وما يتصل بها حال، أي ما أنسى بهذا الرزء في حال الكلوم، أي حال
مخالف لحال غيري في استدامة الحزن؛ فالمعنى من يشهد أن لا إله إلا الله يدخل الجنة في حال
ــ
ــ
28_
وعن عمرو بن العاص، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك
فلأبايعك، فبسط يمينه، فقبضتُ يدي، فقال:(مالك يا عمرو؟) قلت: أردتُ أن
أشترط. فقال: (تشترطُ ماذا؟) قلت: أن يغفر لي. قال (أما علمت يا عمرو! أن
الإسلام يهدم ما كان قلبه، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدمُ ما كان
ــ
استحقاقه العذاب بموجب أعماله من الكبائر، أي حال هذا مخالفة للقياس في دخول الجنة، فإن
القياس يقتضى أن لا يدخل الجنة من شأنه هذا، كما زعمت المعتزلة، وإلى هذا المعنى ذهب أبو
ذر في قوله: (وإن زنى وإن سرق؟) ورد بقوله: (وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر).
الحديث الخامس والعشرون عن عمرو: (فلأبايعك) لعل التقدير: فأن أبايعك، وأقحم
اللام توكيداً، أو التقدير: لأبايعك تعليلا للأمر، والفاء مقحمة. ويحتمل أن تكون مفتوحة،
فيكون التقدير: فإني لأبايعك وأقحم اللام توكيداً، أو التقدير: لأبايعك تعليلا للأمر، الفاء
مقحمة. ويحتمل أن تكون مفتوحة، فيكون التقدير: فإني لأبايعك، والفاء للجزاء، كقولك:
إيتنى فإني أكرمك. (خط): وحق (ماذا) أن يتقدم على (تشترط)، إلا أنه حذف (ماذا)
قبل (تشترط) وجعل المذكور تفسيراً له.
وقال المالكي في قول عائشة رضي الله عنها: أقول: (ماذا) شاهد على أن (ما) الاستفهامية إذا
ركب مع (ذا) تفارق وجوب التصدير، فيعمل فيها ما قبلها رفعا ونصبا، فالرفع كقولهم: كان
ماذا والنصب كما في الحديث، وأجاز بعض العلماء وقوعها تمييزا، كقولك لمن قال: (عندي
عشرون) عشرون: ماذا؟ أقول: كأنه صلى الله عليه وسلم لم يستحسن منه الاشتراط في الإيمان، فقال:(أتشترط)
إنكارا، فحذف الهمزة، ثم ابتدأ فقال:(ماذا)، أي ماذا تشترط، ونظيره في إعادة المجيب كلام
السائل: قول إخوة يوسف: (جزاؤه من وجد فيرحله) بعد سؤال القوم: (فما جزاؤه).
(تو): الإسلام يهدم ما كان قبله مطلقا، مظلمة كانت أو غير مظلمة، كبيرة كانت أو
صغيرة، فأما الهجرة والحج فإنهما لا يكفران المظالم، ولا يقطع فيهما أيضا بغفران الكبائر التي
بين الله وبين العباد، فيحمل الحديث على أن الحج والهجرة يهدمان ما كان قبلهما من الصغائر،
ويحتمل أنهم يهدمان الكبائر أيضا فيما لا يتعلق به حقوق العباد بشرط التوبة، عرفنا ذلك من
أصول الدين، فرددنا المجمل إلى المفصل، وعليه اتفاق الشارحين.
وأقول: نحن ما ننكر ما اتفق عليه الشارحون، لكن نتكلم في الحديث بحسب ما تقتضيه
البلاغة، وذلك أن فيه وجوها من التوكيد يدل على أن حكم الهجرة والحج حكم الإسلام:
أحدهما أنه من الأسلوب الحكيم، فإن غرض عمرو من إبائه عن المبايعة ما كان إلا حكم
قبله؟!). رواه مسلم.
والحديثان المرويان عن أبي هريرة، قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن
الشرك) والآخر: (الكبرياءُ ردائي) سنذكرها في باب الرياء والكبر إن شاء الله تعالى.
ــ
نفسه في إسلامه. وحديث الهجرة والحج زيادة في جوابه، كأنه قيل لا تهتم بشأن الإسلام
وحده، وأنه يهدم ما كان قبله، فإن حكم الهجرة والحج كذلك.
وثانيها: أن العطف في علم المعاني يستدعى المناسبة القوية بين المعطوف والمعطوف عليه
وإلا فيدخل في حكم الجمع بين الأروى والنعام. قال صاحب الكشاف في قوله
تعالى: (سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق): عطف (وقتلهم الأنبياء) على (ما قالوا)
ليدل على أن قولهم: (إن الله فقير ونحن أغنياء) في الفظاعة كقتل الأنبياء، وفي أنه يجري
مجرى الذنب السابق كقتل الأنبياء.
وثالثهما: (أما) فإن الهمزة فيها معنى النفي، وما نافية، فإذا اجتمعا دلا على التقرير، لا سيما
وقد اتبعا بقوله: (علمت) إيذانا بأن ذلك أمر مقرر لا نزاع فيه، ولا ينبغي أن يرتاب مرتاب فيما
يتلوها.
ورابعها: لفظ (يهدم) فإنه قرينة للاستعارة المكنية، شبهت الخصائل الثلاث في قلعها الذنوب
من سنخها بما يهدم البناء من أصله، من نحو الزلازل والمعاول، ثم أثبت للإسلام ما يلازم
المشبه به من الهدم وينسب إليه، على سبيل الاستعارة التخييلية.
وخامسها: الترقي، فإن قوله:(الحج يهدم ما كان قبله) في أبلغ إرادة المبالغة من الهجرة؛ لأنه
دونها، فإذا هدم الحج الذنوب فبالطريق الأولى أن تهدمها الهجرة؛ لأنها مفارقة الأوطان
والأحباء، وموافقة لنبي الله صلى الله عليه وسلم وكذا حكم الهجرة مع الإسلام، وعلى هذا قول المعرى:
سرى برق المعرة بعد وهن
…
فبات برامة نصف الكلالا
شجى ركبا وأفراسا وإبلا
…
وزاد فكاد أن يشجو الرجالا
وسادسها: تكرير (يهدم) في كل من الخصال؛ ليدل على استقلال كل منها بالهدم، ويؤيد هذا
بما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما رؤى الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا
أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام)
ــ
الفصل الثاني
29_
عن معاذ، قال: قلت يارسول الله! أخبرني بعمل يدُخلُني الجنَّة، ويباعدنُي من النار. قال: (لقد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله
ــ
الحديث. رواه مالك في المؤطأ. وبينه ما روي في حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة فأجيب: أني قد غفرت لهم ما خلا المظالم، فإنني آخذ للمظلوم منه، قال: أي رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة، وغفرت للظالم، فلم يجب عشية، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر وعمر: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: إن عدو الله إبليس لما علم أن الله عز وجل قد استجاب دعائي لأمتي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما لأمتي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه) رواه ابن ماجه في سننه، والله أعلم.
الفصل الثاني
الحديث الأول عن معاذ: قوله يدخلني ويباعدني) (تو:) الجزم فيهما على جواب الأمر غير مستقيم راوية ومعنى. قلنا: أما الرواية فغير معلومة، وأما المعنى فاستقامته ما ذكره القاضي، قال: وإن صح الجزم فيه كان جزاء لشرط محذوف، تقديره: أخبرني بعمل إن عملته يدخلني الجنة، والجملة الشرطية بأسرها صفة لعمل، أو جوابا للأمر، وتقديره أن إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم
لما كان وسيلة إلى عمله، وعمله ذريعة إلى دخول الجنة كان الإجبار سببا بوجه ما لإدخال العمل إياه في الجنة. (مظ): إذا جعل (يدخلني) جواب الأمر يبقى (بعمل) غير موصوف، والنكرة غير الموصوفة لا تفيد. والجواب أن التنكير فيه للتفخيم أو النوع، أو بعمل عظيم أو معتبر في الشرع، بقرينة قوله:(سألتني عن عظيم) ولأن مثل معاذ لا يسأل من مثله صلى الله عليه وسلم بما لا
جدوى له.
اعلم أن في مثل هذا مذهبين: أحدهما مذهب الخليل: وهو أن يجعل الأمر بمعنى الشرط، وجوابه جزاء. وثانيهما مذهب سيبويه: أن الجواب جزاء شرط محذوف، وعلى التقديرين التركيب من باب إقامة السبب الذي هو الإخبار مقام المسبب الذي هو العمل؛ لأن العمل هو السبب الظاهر لا الإخبار؛ لأن الإخبار إنما يكون سببا للعمل إذا للعمل إذا كان المخاطب مؤمنا معقدا. موافقا، كقوله تعالى:(قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) قال ابن الحاجب: (يقيموا) جواب (قل) أي قل لعبادي يقيموا. وما اعترض عليه من أن الإقامة ليست بملازمة للقول ليس بشيء، فإن الجواب لا يقتضي الملازمة العقلية، وإنما يقتضي الغلبة، وذلك حاصل، فإن أمر الشارع (صلوات الله عليه وسلامه) للمؤمن بإقامة الصلاة يقتضي إقامة الصلاة منه غالبا، وكقوله تعالى:(هل أدلكم على تجارة تنجيكم _ إلى قوله _ يغفر لكم) فإن (يغفر لكم)
ــ
تعالى عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم
رمضان، وتحج البيت) ثم قال: (ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ الصومُ جُنَّةٌ، والصدقُة
ــ
جواب للاستفهام لأن المؤمن الراسخ في الإيمان لما كان مظنة لحصول الإقامة والامتثال صار
كالمتحقق منه ذلك.
قوله: (سألتني عن عظيم)(مظ): أي سألتني عن شئ عظيم مشكل متعسر الجواب، ولكنه
سهل على من يسره الله تعالى عليه؛ لأن معرفة العمل الذي يدخل الرجل الجنة من علم الغيب،
وعلم الغيب لا يعلمه أحد إلا الله، ومن علمه الله تعالى. أقول: إنه ذهب إلى أن (عظيم) صفة
موصوف محذوف، أي عن سؤال عظيم، والأظهر أن يقال: إنه الموصوف (أمر)، ويعنى به
العمل؛ لأن قوله: (تعبد الله) إلى آخره استئناف وقع بيانا لذلك الأمر العظيم، وعنه ينبئ
كلام القاضي، حيث قال:(وإنه ليسير) إشارة إلى أن أفعال العباد واقعة بأسباب ومرجحات
يفيض عليهم من عنده، وذلك إن كان نحو طاعة سمى توفيقا ولطفا، وإن كان نحو معصية
سمى خذلانا وطبعا. أقول: إنما أسند اليسر إلى الله وأطلق العسر لئلا ينسب الخذلان إليه
صريحا، على طريقة (أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم).
قوله: (ألا أدلك على أبواب الخير) التعريف في (الخير) للجنس، (مظ): جعل هذه الأشياء
أبواب الخير لأن الصوم شديد على النفس، وكذا إخراج المال الصدقة، وكذا الصلاة في جوف
الليل، فمن اعتادها يسهل عليه كل خير، ويأتي منه كل خير؛ لأن المشقة في دخول الدار يكون
بفتح الباب المغلق. ويحتمل أن يكون التعريف للعهد الخارجي التقديري، وهو ما يعلم من
قوله: (تعبد الله ولا ت
شرك به) إلى آخره، المعني به الإسلام والإيمان الذي هو سبب لدخول الجنة،
والمباعدة من النار ظاهرة. أو المعني الخبر النوافل، دل عليه قوله: (وصلاة الرجل في
جوف الليل) لئلا يلزم التكرار، وسميت النوافل أبواب الفرائض؛ لأنها مقدمات ومكملات لها،
ومن فانته السنن حرم الفرائض.
قال بعض العلماء: من ترك الأدب عوقب بحرمان النوافل، ومن عوقب بحرمان النوافل
عوقب بحرمان السنن، ومن عوقب بحرمان السنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن عوقب بحرمان
الفرائض يوشك أن يعاقب بحرمان المعرفة، وما دل على المباعدة عن النار.
قوله: (الصوم جنة) أي عن النار؛ وإنما جعل الصوم جنة عن النار؛ لأن في الجوع سد
مجاري الشيطان، كما في الحديث: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ألا فضيقوا
مجاريه بالجوع) أو كما قال، فإذا سد مجاريه لم يدخل فيه، فلم يكن مسببا للعصيان الذي هو
سبب لدخول النار.
تطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل) ثم تلا: (تتجافى
جنوبهم عن المضاجع. .) حتى بلغ (يعملون) ثم قال: (ألا أدلك برأس الأمر وعموده
ــ
(قض): وإنما جعل الصوم جنة؛ لأنه يقمع الهوى والشهوة، مصداقه قوله صلى الله عليه وسلم: (الصوم له
وجاء) فالشبع مجلبة للآثام، منقصة للإيمان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:(ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه)
فإن الشبع يوقعه في مداحض، فيزيغ عن الحق، ويغلب عليه الكسل، فيمنعه من وظائف
العبادات، ويكثر المواد الفضول فيه، فيكثر غضبه وشهوته، ويزيد حرصه، فيوقعه في طلب ما
زاد على حاجته، فيوقعه في المحارم.
قوله: (الصدقة تطفئ الخطيئة) أصله تذهب الخطيئة، كقوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن
السيئات) ثم في الدرجة الثانية تمحو الخطيئة، كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (اتق الله حيث ما كنت
وأتبع السيئة الحسنة تمحها) أي السيئة المثبتة في صحيفة الكرام الكاتبين. وإنما قدرت الصحيفة
بقرينة (تمحو). ثم الدرجة الثالثة تطفئ الخطيئة لمقام الحكاية عن المباعدة عن النار، فلما وضع
الخطيئة موضع النار على الاستعارة المكنية أثبت لها على سبيل الاستعارة التخيبلية ما يلازم النار
من الإطفاء؛ ليكون قرينة مانعة لها من إدارة الحقيقة من الخطيئة. وأما قوله تعالى: (إنما يأكلون
في بطونهم ناراً) فمن إطلاق اسم المسبب على السبب. وأما معنى إذهاب السيئة بالحسنة تدفع
تلك الحسنة يوم القيامة إلى خصمه عوضا عن مظلمته.
فإن قلت: هل يلزم على هذا التقدير أن لا يكون الصوم أقوى حالا في المباعدة من النار
لأن الجنة هي الترس دون إطفاء النار. قلت: العكس أولى؛ لأن الجنة مانعة من صدور الخطيئة
التي هي سبب النار، والصدقة لا تمنع، وإنما تطفئ الخطيئة الحاصلة.
(قض)(وصلاة الرجل) مبتدأ، خبره محذوف، أي صلاة الرجل في جوف الليل كذلك، أي
تطفئ الخطيئة، أو هي من أبواب الخير، والأول أظهر لاستشهاده صلى الله عليه وسلم بالآية، وهي متضمنة
للصلاة والإنفاق. قلت: ويعضده تقييد القريتين السابقتين _ أعنى الصوم والصدقة _ بفائدتين
زائدتين، وهي الجنة وإطفاء الخطيئة؛ لأن الظاهر أن يقال: أبواب الخير الصوم، والصدقة لا
غير، وصلاة الرجل في جوف الليل، فلما قيدتا بهما يجب أن تقيد هذه بما يناسبها كما قدر
القاضي، والأظهر أن يقدر الخبر: شعار الصالحين، كما في جامع الأصول، ويفيد فائدة مطلوبة
زائدة على القريتين، هي أنهما لما أفادتا المباعدة عن النار فتفيد هذه الإدخال في الجنة، ويتم
ــ
وذروة سنامه؟) قلت: بلى يا رسول الله، قال: (رأس الأمر الإسلام، وعمودهُ
الصلاة، وذروةُ سنامه الجهادُ. ثم قال:(ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) قلت: بلى يا نبيَّ
ــ
الاستشهاد بالآية؛ لأن قرة العين كناية عن السرور والفوز التام، وهو مباعدة النار ودخول الجنة،
كما قال الله تعالى: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز).
قوله: (ألا أدلك برأس الأمر وعموده) الذروة _ بكسر الذال وضمها _ أعلى الشيء، وذروة
الجبل أعلاه، والجمع الذرى _ بالضم _ والسنام _ بالفتح _ ما ارتفع من ظهر الجمل. (تو):
المراد بالإسلام في قوله: (رأس الأمر الإسلام) كلمتا الشهادة، وأراد بالأمر هنا أمر الدين، يعنى مالم يقر العبد بكلمتي الشهادة لم يكن له من الدين شيء أصلا، وإذا أقر بكلمتي الشهادة حصل له أصل الدين، إلا أنه ليس له قوة وكمال، كالبيت الذي ليس له عمود، فإذا صلى وداوم على الصلاة قوى دينه، ولكن لم يكن له رفعة وكمال، فإذا جاهد حصل لدينه الرفعة.
(شف): في قوله: (رأس الأمر الإسلام) إشارة إلى أن الإسلام من سائر الأعمال بمنزلة الرأس في الجسد في احتياجه إليه وعدم بقائه دونه. وفي قوله: (ذروة سنامه الجهاد) إشارة إلى صعوبة الجهاد، وعلو أمره، وتفوقه على سائر الأعمال. (مظ): إنما خص الشاهدة والصلاة ولم يذكر الزكاة والصوم والحج لأنه ذكر الأركان الخمسة في أول الحديث، وأعاد هنا ذكر ما هو الأقوى منها تعظيما لشأنهما؛ لأنهما يتكرران في كل يوم وليلة، بخلاف الزكاة والصوم فإنهما يتكرران في سنين، والحج لا يتكرر، وزاد الجهاد وبين أن به رفعة الدين؛ ليكون محرضا للدين على الجهاد.
وقلت: وعدى (أدلك) في هذه القرينة بالباء وهو يعدى مضمنا معنى الإخبار، أي هل أخبرك برأس الأمر، وإنما عدل ليجمع بين المعنيين. قال صاحب الكشاف في قوله:(وتعد عيناك عنهم): وإنما عدى بعن لتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك: نبت عنه عينه، وعلت عنه إذا اقتحمته ولم تتعلق به. والغرض فيه إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ. فإن قلت: لم خصص هذه القرينة بالباء والأولى بعلي؟ قلت هذه القرينة أجمع وأشمل؛ لأن المعنى بالأمر الدين، وهو مشتمل على أبواب الخير، وعلى ما سبقه من قوله:(تعبد الله) إلى آخره، ولهذا أعاد الباء في القرنية الثالثة، وأكدها ب (كله) لكونها أجمع منها، وهذا الترقي ينبهك على جواز الزيادة في الجواب كما في قوله تعالى:(يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين) وهو من أسلوب الحكيم. (غب): السؤال ضربان: جدلي، وتعليمي، وحق الأول مطابقة الجواب من غير زيادة ونقص، والثاني حقه أن يتحرى المجيب الأصوب، كالطبيب الرفيق يتوخى ما فيه شفاء العليل طلبه أم لا.
قوله: (بملاك ذلك كله)(تو): ملاك الأمر _ بالكسر _ قوامه، وما يتم به، ولهذا يقال: القلب ملاك الجسد. (قض): ملاك الشيء: اصله ومبناه، وأصله ما يملك به كالنظام. (مظ): ما به إحكام
ــ
الله! فأخذ بلسانه فقال: (كف عليك هذا) فقلت: يا نبيَّ الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم
به؟ قال (ثكلتك أمُّك يا معاذ! وهل يُكبُّ الناسَ في النار على وجوههم، أو على
مناخرهم، إلا حصائدُ ألسنتهم؟) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة.
ــ
الشيء وتقويته، من ملك العجين إذا أحسن عجنه وبالغ فيه، وأهل اللغة يكسرون الميم
ويفتحونها، والرواية بكسر الميم. قوله:(فأخذ بلسانه) الباء زائدة، والضمير راجع إلى النبي
صلى الله عليه وسلم. (قض): (كف عليك) أي كف عليك لسانك، ولا تتكلم إلا بما يعنيك، فإن من كثر
كلامه كثر سقوطه، ومن كثر سقوطه كثرت ذنوبه، ولكثرة الكلام مفاسد يطول إحصاؤها، أو لا
تتكلم بما يهجس في نفسك من الوساوس، فإنك غير مأخوذ به مالم تظهر؛ لما روى أبو هريرة
رضي الله عنه أنه قال: (إن الله تعالى تجاوز عن أمتي ما وسوست صدورها مالم تعمل أو
تتكلم). أو لا نتفوه بما (ستره) الله عليك؛ فإن التوبة عنه أرجى قبولا، والعفو عنه
أرجى لازم.
قوله: (إنا لمؤاخذون) المؤاخذة أن يأخذ أحد أحدا بذنبه. و (ثكلتك أمك) فقدتك، والثكل
موت الولد، وفقد الحبيب، وهذه وأمثاله أشياء مزالة عن أصلها إلى معنى التعجب وتعظيم
الأمر. (مظ): هذا دعاء عليه، ولا يراد وقوعه بل هو تأديب وتنبيه من الغفلة. و (يكب) مضارع
كب بمعنى صرعه على وجهه، فأكب سقط على وجهه، وهذا من النوادر؛ فإن ثلاثيه متعد،
ورباعيه لازم.
قوله: (أو على مناخرهم)(أو) لشك الراوى، (المناخر) حمع منخر _ بقتح الميم وكسر الخاء،
وفتحها _ ثقبة الأنف. (الحصائد) جمع حصيدة، فعلية بمعنى مفعولة، من: حصد إذا قطع
الزرع. وهذا إضافة المفعول إلى فاعله، أي محصودات الألسنة، شبة ما تكلم به اللسان بالزرع
المحصود بالمنجل، فكما أن المنجل يقطع ولا يميز بين الرطب واليابس، والجيد والردئ، فكذلك
لسان بعض الإنسان يتكلم بكل نوع من الكلام القبيحوالحسن، ثم حذف المشبه وأقيم المشبه به
مقامه على سبيل الاستعارة المصرحة، وجعل الإضافة قرينة لها، والاستثناء مفرغ؛ لأن في
الاستفهام معنى النفي، والتقدير: لا يكب الناس في النار شيء من الأشياء إلا حصائد ألسنتهم
من الكلام القبيح، مثل: الكفر، والقذف، والشتم، والغيبة، والبهتان، ونحوها. وهذا الحكم
وارد على الأغلب والأكثر؛ لأنك إذا جربت وفكرت لم تجد أحدا حفظ لسانه عن السوء، ولا
يصدر منه شيء يوجب دخول النار إلا نادرا، هذا، ومن أراد مزيد بيان في المعانى والبيان فعليه
بكتاب التبيان وشرحه.
ــ
30_
وعن أبى أمامه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب الله، وأبغض لله،
وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان) رواه أبو داود.
ــ
الحديث الثاني عن أبي أمامه: قوله: (من أحب لله)(مظ): من أحب أحدا يحبه لله لا
لحظ نفسه، ومن أبغضه لله تعالى لكفره وعصيانه، لا لإيذائه له، ويعطى ما يعطى
لثواب الله تعالى ورضاه، لا لميل نفسه وريائه، ويمنع ما يمنع لأمر الله، فلا يصرف الزكاة عن
كافر لخسته، ولا عن بني هاشم لعزتهم، بل لأمر الله تعالى ومنعه ذلك. وفيه أنه لا يجوز
الوقف على المرتدين، وقطاع الطريق، والفرق الباغية، ويحرم بيع السلاح من هؤلاء، وبيع
العنب ممن يتخذ الخمر، فإن باع فالبيع صحيح، والفعل حرام. وقال:(استكمل) بمعنى أكمل.
أقول: هذا بحسب اللغة، وأما عند علماء البيان ففيه المبالغة؛ لأن الزيادة في اللفظ زيادة في
المعنى، كأنه جرد من نفسه شخصا وهو يطلب منه كمال الإيمان، ومنه قوله تعالى: (وكانوا من
قبل يستفتحون على الذين كفروا) أي يطلبون من أنفسهم الفتح عليهم.
هذا الحديث من تتمة الإحسان والإجادة في الإيمان في قوله: (تعبد الله كأنك تراه) يعنى إذا
اشتغلت بالله وبعبادته ينبغي أن لا يكون نظرك إلى ما سواه، واستقبل إليه بشراشرك، وكذا
إذا اشتغلت بخلق الله فلا يكون معاملتك معهم إلا لله، بل هو من الجوامع التي تضمن معنى
الإيمان، والإسلام، والإحسان؛ لأن من جملة المحبة لله محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة متابعيه.
(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وأنشد:
تعطى الإله وأنت تظهر حبه
…
هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته
…
إن المحب لمن يحب مطيع
وإن من جملة البغض لله النفس الأمارة بالسوء، وأعداء الدين، وبغضهما مخالفة
لأمرهما، والمجاهدة مع النفس بحبسها في طاعة الله بما أمره به ونهى عنه، ومع أعداء الله
بالمصابرة معهم، والمرابطة لأجلهم، قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا
ــ
31_
ورواه الترمذي عن معاذ بن أنس مع تقديم وتأخير، وفيه: (فقد استكمل
إيمانه).
32_
وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال الحب في الله
والبغض في الله). رواه أبو داود.
33_
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون
ــ
واتقوا الله. ومن تأمل فيه وقف على سلوك طريق الله، وفناء السالك في حق الله، ومن ثم
عقب الحديث بقوله: (الحب في الله والبغض في الله).
الحديث الثالث عن أبي ذر، قوله:(الحب في الله)(في) ههنا بمعنى اللام في قوله: (من
أحب لله) للإخلاص إلا أنه أبلغ، أي الحب في جهته ووجهه، كقوله تعالى: (والذين جاهدوا
فينا لنهديهم) أي في حقنا ومن أجلنا ولو جهنا خالصا.
الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: (المسلم من سلم المسلمون) مضى
شرحه في الحديث الرابع من الباب، يقال: أمنت زيدا على الأمر وائتمنته، أي جعلته
أمينا، يعنى المؤمن الكامل هو الذي ظهرت أمانته، وعدالته، وصدقه، بحيث لا يخاف منه
الناس بإذهاب مالهم، وقلتهم، ومد اليد إلى نسائهم. وفي ترتيب (من سلم) على (المسلم)
و (من أمنه) على (المؤمن) رعاية للمطابقة، ففيه ذكر المسلم والمؤمن بمعنى واحد تأكيدا وتقريرا،
إلا أنه لم يذكر في الثانية ما يدل على ما يثمر اللسان من البذاءة، والبهتان، والغيبة، واقتصر
على ما تثمر اليد من سمك الدماء وغضب الأموال اكتفاء بما سبق، ولأن آفة اللسان ظاهرة، وآفة
اليد مفتقرة إلى البيان، فبين في الثانية. (قض): من لم يراع حكم الله تعالى في ذمام المسلمين
والكف عنهم لم يكمل إسلامه، ومن لم يكن له جاذبة نفسانية إلى رعاية الحقوق وملازمة
العدل فيما بينه وبين الناس فلعله لا يراعي ما بينه وبين الله تعالى، فيخل بإيمانه.
ــ
من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم). رواه الترمذي،
والنسائي.
34_
وزاد البيهقي في (شعب الإيمان) برواية فضالة: (والمجاهد من جاهد
نفسه في طاعة الله والمهاجرُ من هجر الخطايا والذنوب).
35_
وعن أنس رضي الله عنه، قال: قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: (لا
ــ
قوله: (والمجاهد من جاهد نفسه)(مظ): يعنى المجاهد ليس من قاتل الكفار فقط، بل
المجاهد من حارب نفسه وحملها وأكرهها على طاعة الله تعالى؛ لأن نفس الرجل أشد عداوة
معه من الكفار؛ لأن الكفار أبعد منه، ولا يتفق التلاحق والتقابل معهم إلا حينا بعد حين،
وأما نفسه فأبدا تلازمه، وتمنعه من الخير والطاعة، ولا شك أن القتال مع العدو الذي يلازم
الرجل أهم من القتال مع العدو الذي هو بغيد منه، قال الله تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من
الكفار).
أقول: اللام في قوله: (المجاهد) للجنس أي المجاهد الحقيقي الذي ينبغي أن يسمى مجاهدا
من جاهد نفسه، وكأن مجاهدته مع غيره بالنسبة إليه كلا مجاهدة، ونحوه قوله (عليه الصلاة
والسلام) في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فذلكم الرباط) كما سيجيء بيانه.
قوله: (والمهاجر)(قض): الحكمة في الهجرة أن يتمكن المؤمن من الطاعة بلا مانع ولا
وازع، ويتبرأ عن صحبة الأشرار المؤثرة بدوامها في اكتساب الأخلاق الذميمة، والأفعال
الشنيعة، فهي في الحقيقة التحرز عن ذلك، والمهاجر الحقيقي من يتحاشى عنها.
ــ
إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له). رواه البيهقي و (شعب
الإيمان).
ــ
الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: (قلما)(ما) مصدرية، أي قل
خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز أن تكون كافة. قوله: (لا إيمان)(تو): هذا الكلام وأمثاله وعيد لا
يراد به الانقلاع، وإنما يقصد به الزجر والردع، ونفي الفضيلة، دون الحقيقة في رفع الإيمان
وإبطاله. (مظ): معنى (لا دين لمن لا عهد له) أن من جرة بينه وبين أحد عهد وميثاق، ثم
غدر من غير عذر شرعي _ فدينه ناقص، أما مع العذر كنقص الإمام المعاهدة مع الحربي إذا
رأى المصلحة _ فإنه جائز.
أقول: وفي الحديث إشكال، وهو أنه قد سبق أن الدين، والإيمان، والإسلام، أسماء
مترادفة موضوعات لمفهوم واحد في عرف الشرع، فلم فرق بينهما، وخصص كل واحد منهما
بمعنى؟ والجواب أنهما وإن اختلفا لفظا فقد اتفقا ههنا معنى، فإن الأمانة ومراعاتها إما مع الله،
فهي ما كلف به من الطاعة، وسمى أمانة لأنه لازم الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء، قال
الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها
وحملها الإنسان). وإما مع الخلق فظاهر. وإن العهد وتوثيقه إما مع الله تعالى فاثنان:
الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم في الأزل، وهو العهد الإقرار بربوبيته قبل خلق الأجساد،
مصداقه قوله تعالى: (وإذا أخذ ربك) والثاني ما أخذه عند هبوط آدم إلى الدنيا من متابعة
هدى الله، ومن الاعتصام بكتاب ينزله، ورسول يبعثه، مصداقه قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها
جميعا فإما يأتينكم منى هدى) وإما مع الخلق فكذا ظاهر. فحينئذ مرجع الأمانة والعهد إلى
طاعة الله تعالى بأداء حقوقه وحقوق العباد، كأنه قيل: لا إيمان ولا دين لمن لا يفي بعهد الله
بعد ميثاقة، ولا يؤدى أمانة الله بعد حملها، وهي التكاليف من الأوامر والنواهي، ويشهد له
قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين _ إلى قوله _ دين القيمة) والتكرير
المعنوي توكيد وتقرير.
ــ
الفصل الثالث
36_
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (من شهد ان لا إله اللهُ وأن الله وأن محمدا رسول الله، حرم الله عليه
النار).
37_
وعن عثمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من مات وهو يعلمُ
أنه لا إله إلا اللهُ دخل الجنة) رواه مسلم.
38_
وعن [جابر رضي الله عنه] قال: قال رسول الله (ثنان موجبتان). قال
رجل: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال: (من مات يشركُ بالله شيئا دخل النار، ومن
مات لا يشركُ بالله شيئا دخل الجنة) رواه مسلم.
ــ
الفصل الثالث
الحديث الأول والثاني عن عبادة وعثمان رضي الله عنهما: (وهو يعلم أنه لا إله إلا
الله) قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: من يوجد منه التصديق بالقلب فقبل أن ينطق باللسان أو
يشتغل بالأعمال مات، فهل نقول: مات مؤمنا بينه وبين الله؟ ففيه اختلاف، من شرط القول
لتمام الإيمان، يقول مات قبل الأيمان، وهو فاسد؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من كان
في قلبه مثقال ذرة من الإيمان)، وهذا قلب طافح بالإيمان فكيف يخلد؟ ومن يصدق بالقلب،
ويساعده من العمر مهلة النطق بكلمتي الشهادة، وعلم وجوبهما، ولكنه لم ينطق بهما، فيحتمل
أن يجعل امتناعه عن النطق بمنزلته امتناعه عن الصلاة، ونقول: هو مؤمن غير مخلد في النار.
الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: (ثنتان موجبتان)(المغرب): يقال أوجب
الرجل، إذا عمل ما يجب به الجنة أو النار، ويقال للحسنة: موجبة، وللسيئة: موجبة،
فالوجوب عند أهل السنة بالوعد والوعيد، وعند المعتزلة بالعمل. و (ثنتان) صفة مبتدأ محذوف،
أي خصلتان ثنتان، وهذا الحديث مع الحديثين السابقين عليه مضى شرحها مستقصى في الفصل
الأول من الباب.
ــ
39_
وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: كنا قُعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومعنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا،
فأبطأ علينا، وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقُمنا، فكنت أول من فزع، فخرجتُ
أبتغى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتيتُ حائطا للأنصار لبنى النجار، فساورت به، هل أجد
له بابا؟ فلم أجد، فإذا ربيع يدخلُ في جوف حائط من بئر خارجة _ والربيع الجدول _
ــ
الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: (دوننا) حال من الضمير المستتر في
(يقطع) أي خشينا أن يصاب بمكروه من عدو أو غيره متجاوزا عنا، كقوله تعالى: (وادعوا
شهداءكم من دون الله). (الكشاف): ومعنى (دون) أدنى مكان من الشيء، ومنه الشيء
الأدون، واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب، فقيل: زيد دون عمرو في الشرف والعلم،
ثم اتسع فيه واستعمل في كل تجاوز حد إلى حد.
قوله: (من بئر خارجة)(مح): هكذا ضبطناه بالتنوين في (بئر). وفي (خارجة) على أن
(خارجة) صفة ل (بئر)، وكذا نقله الشيخ أبو عمرو بن الصلاح عن الأصل، وذكر الحافظ أبو
موسى الأصفهاني وغيره أنه روى ثلاثة أوجه: أحدهما هذا، وفي الثاني من بئر خارجه _
بتنوين بئر وبهاء في آخر خارجه مضمومة، وهي هاء ضمير للحائط _ أي البئر في موضع خارج
عن الحائط. والثالث من بئر خارجة، بإضافة بئر إلى خارجه آخره تاء التأنيث، وهو اسم
رجل، والوجه الأول هو المشهور الظاهر. وقيل: البئر ههنا البستان من النخيل إذا كان
عليه جدار. والجدول النهر الصغير.
قوله: (فاحتفزت)(مح): هذا قد روى على وجهين: بالزاي، والراء، والصواب بالزاي
المعجمة، ومعناه تضاممت ليسعني المدخل. قوله:(كنت بين أظهرنا) يقال: نحن بين أظهركم،
وظهركم، وظهرانيكم _ بفتح النون _ أي بينكم، والظهر مقحم تأكيدا.
قوله: (فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا) عطف أحد المترادفين على الآخر إرادة الاستمرار،
مثل ما في قوله تعالى: (كذبت قوم نوح فكذبوا عبدنا) أي كذبوه تكذيبا غب تكذيب.
قوله: (فقال: أبو هريرة؟) أي فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنت أبو هريرة؟ فعلى هذا أبو هريرة خبر
مبتدأ محذوف، والهمزة في المبتدأ يحتمل أن يحتمل أن تكون على حقيقتها، أو التقرير، أو التعجب، أما
على التقرير الأول فلعله صلى الله عليه وسلم كان غائبا عن من بشريته بسبب إيحاء هذه البشارة إليه فلم يشعر بأنه
ــ
قال: فاحتفزت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: (أبو هريرة؟) فقلتُ: نعم يا
رسول الله! قال: (ما شأنك؟) قلتُ: كنت بين أظهرنا فقُمتَ فأبطأت علينا، فخشينا أن
تُقتطع دوننا، ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيتُ هذا الحائط، فاحتفزتُ كما يحتفز
الثعلب، وهؤلاء الناسُ ورائي. فقال:(يا أبا هريرة!) وأعطاني نعليه، فقال: (اذهب
بنعلي هاتين، فمن لقيك من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا اللهُ مستيقنا بها قبله؛
فبشرةُ بالجنة) فكان أول من لقيتُ عمرُ فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ قلت:
هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما، من لقيتُ يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها
قلبهُ، بشرتهُ بالجنة، فضرب عمرُ بين ثديي، فخررت لا ستى. فقال: ارجع يا أبا
هريرة! فرجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بالبكاء، وركبني عمرُ، وإذا هو على
ــ
هو، وأما التقرير فظاهر، وأما التعجب فإنه – صوات الله عليه- استغرب أنه من أين دخل
عليه والطرق مسدودة؟ ولعل فائدة بعثه النعلين أن يبلغ مع الشاهد فيصدقوه، وإن كان خبره
مقبولا بغير هذا، وتخصيصهما بالإرسال إما لأنه لم يكن عنده غيرهما، أو إشارة إلى أن بعثته وقدومه
لم يكن إلا تبشيرا أو تسهيلا على الأمة ورفعا لما كان إصرا على الذين من قبله من الأمم، قال الله تعالى:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). أو يكون إشارة إلى الثبات بالقدم، والاستقامة بعد الإقرار، كقوله صلى الله عليه وسلم:(قل آمن ثم استقم)، والله أعلم بأسراره.
قوله: (فأجهشت)(مح): الجهش أن يفزع الإنسان إلى الإنسان ويلجأ إليه، وهو مع ذلك يريرد البكاء، كما يفزع الصبي إلى أمه، ويروي (جهشت) بغير همزة، وهما صحيحان. قوله:(فمن لقيك – إلى قوله – مستيقنا)، معناه أخبره أن من كانت هذه صفته فهو من أهل الجنة، وإلا فأبو هريرة لا يعلم استيقانهم، وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق أنه لا ينفع اعتقاد التوحيد دون النطق، ولا النطق دون الاعتقاد، بل لا بد من الجمع بينهما، وذكر القلب هنا للتأكيد ونفي توهم المجاز، وإلا فالاستيقان لا يكون إلا بالقلب، كقولك: رأيت بعيني.
قوله: (فقال: ارجع (مح): ليس فعل عمر رضي الله عنه ومراجعة النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضا عليه، وردا لأمره؛ إذ ليس فيما بعث به أبا هريرة غير تطييب قلوب الأمة وبشراهم، فرأى عمر أن كنتم هذا عنهم أصلح لهم وأحرى؛ لئلا يتكلوا.
قوله: (وركبني عمر) أي أثقلني عدو عمر من بعيد خوفا واستشعارا منه، كما يقال: فلان
أثرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مالك يا أبا هريرة؟) فقلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي. فقال: ارجع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ياعمر! ماحملك على مافعلت؟) قال: يارسول الله! بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقى يسهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة؟ قال:(نعم). قال: فلا تفعل، فآني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فخلهم) رواه مسلم.
40 -
وعن معاذ بن جبل، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله) رواه أحمد.
ــ
ركبته الديون أي أثقلته، و (إذا) للمفاجأة، بيان لوصوله، أي فنظرت فإذا هو على عقبي. قوله على إثري) فيه لغتان فصيحتان: كسر الهمزة وإسكان الثاء، وفتحها.
قوله (بأبي أنت) الباء في (بأبي) متعلقة بمحذوف، قيل: هو اسم فيكون ما بعده مرفوعًا، تقديره: أنت مفدى بأبي، وقيل: فعل، وما بعده منصوب، أي فديتك بأبي وأمي، وحذف المقدر تخفيفا لكثرة الإستعمال، وعلم المخاطب به. (مح): في الحديث جواز قول الرجل للآخر: (بأبي أنت وأمي) سواء كان المفدى به مسلما أو كافرا، حيا أو ميتا. وفيه اهتمام الأتباع بحقوق متبوعهم، والاعتناء بتحصيل مصالحه، ودفع المفاسد عنه، وفيه جواز دخول الإنسان ملك غيره بغير إذنه إذا علم أنه يرضى بذلك لمودة بينهما أو غير ذلك، فإن أبا هريرة دخل الحائط، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم ينقل أنه أنكر عليه. وهذا غير مختص بدخول الأرض، بل يجوز له الانتفاع بأدواته، وأكل طعامه، والحمل من طعامه إلى بيته، وركوب دابته، ونحو ذلك من التصرف الذي يعلم أنه لا يشق على صاحبه، وعليه جماهير السلف والخلف. قال ابن عبدالبر: وأجمعوا على أنه لا يتجاوز الطعام ونحوه إلى الدراهم والدنانير وأشباههما. ولعل يكون هذا في الدراهم الكثيرة؛ لشك في رضاه بها.
الحديث الخامس عن معاذ رضي الله عنه: قوله: (مفاتيح الجنة) مبتدأ (وشهادة) خبر، وليس بينهما مطابقة من حيث الجمع والإفراد، فهو من وادي قول الشاعر: ومعي جياعا، جعل الناقة الضامرة من الجوع، كأن كل جزء من املعاء بمنزلة معا واحد من شدة الجوع، وكذلك جعلت الشهادة المستتبعة للأعمال الصالحة التي هي كأسنان المفتيح كل جزء منها بمنزلة مفتاح واحد
41 -
وعن عثمان، رضي الله عنه، قال: إن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي حزنوا عليه، حتى كاد بعضهم يوسوس قال عثمان: وكنت منهم، فبينا أنا جالس مر على عمر، وسلم فلم أشعر به، فاشتكى عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما، ثم أقبلا حتى سلما علي جميعا، فقال أبو بكر: ما حملك على ألا ترد على أخيك سلامه فقلت: ما فعلت. فقال عمر: بلى، والله لقد فعلت. قال: قلت: والله ما شعرت أنك مررت ولا سلمت. قال أبو بكر: صدق عثمان، قد شغلك عن ذلك أمر. فقلت: أجل. قال: ماهو؟ قلت: توفى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن نسأله عن نجاة هذا الأمر. قال أبو بكر: قد سألته عن ذلك. فقمت إليه وقلت له: بأبي أنت وأمي، أنت أحق بها. قال أبو بكر: قلت يارسول الله! ما نجاة هذا الأمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قبل مني الكلمة التي عرضت على عمي فردها؛ فهي نجاة).
ــ
الحديث السادس عن عثمان: قوله (يوسوس) الوسوسة حديث النفس، وهو لازم، قال الحريري: يقال: يوسوس- بالكسر والفتح- لحن. قوله: (والله ما شعرت أنك مررت ولا سلمت) وكان يكفيه أن يقال: ما شعرت أنك مررت، لكن جيء به توكيداً، أي ما نظرت إليك ولا سمعت كلامك.
قوله) عن نجاة هذا الأمر) 0الأمر) يجوز أن يراد به ما عليه المؤمنون من الدين، أي نساله عما يتخلص به عن النار، وهو مختص بهذا الدين، وأن يراد به ماعليه الناس من غرور الشيطان، وحب الدنيا، والتهالك فيها، والركون إلى شهواتها، وركوب المعاصي وتبعاتها، أي نسأله النجاة من هذا الأمر الهائل. ولعمري! عن كلمة التقوى تؤثر في النفس اليقظة والانتباه من الغفلة، وفي القلب جاء الصداء والرين، وفي السر محو أثر العين، ولا يعقل ذلك إلا السائرون إلى الله، والعارفون بالله، ومن ثم لزموها، وكانوا أحق بها وأهلها، كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: النجاة في الكلمة التي عرضتها على مثل أبي طالب، وهو الذي عاش في الكفر سنين ونيف على السبعين، ولم يصدر عنه كلمة التوحيد، ولو قالها مرة واحدة لكانت حجة عند الله لاستخلاصه، وله نجاة من عذاب الله وعقابه، فكيف بالمؤمن المسلم وهي مخلوطة بلحمه ودمه؟ فلو صرح بها في كلامه لم يفخم هذا التفخيم، وهذا الحديث رواه الصحابي عن الصحابي.
42 -
وعن المقداد، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعز عزيز وذل ذليل، إما يعزهم الله يجعلهم من أهلها، أو يذلهم فيدينون لها). قلت: فيكون الدين كله لله. رواه أحمد.
43 -
وعن وهب بن منبه، قيل له: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك، رواه البخاري في ترجمته باب
ــ
الحديث السابع عن المقداد: قوله: (بيت مدر ولا وبر) أي البوادي والمدن، والقرى، وهو من وبر الإبل؛ لأن بيوتهم يتخذونها منه، والمدر جمع مدرة، وهي اللبنة.
قوله: (إلا أدخله كلمة التوحيد) فاعل (أدخل) الله وإن لم يجر لد ذكر، بدليل تفصيله بقوله:(إما يعزهم الله). و (كلمة) منصوب مقعوله، والضمير المنصوب ظرف، و (بعز) حال، أي أدخل الله تعالى كلمة الإسلام في البيت متلبسة بعز شخص عزيز، أي يعزه الله بها، وهو من قوله تعالى:(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).
قوله: (فيدينون) من: دان الناس، أي ذلوا وأطاعوا، ونكير الوبر والمدر والعز والذل، للاستيعاب، فالفاء في (فيكون) إذا جوابشرط محذوف، أي إذا كان كذلك فيكون الغلبة لدين الله طوعا وكرها.
الحديث الثامن عن وهب: قوله: (قال بلى ولكن ليس – إلى آخره هو من القول بالموجب، قرر سؤاله ثم ذكر مستدركا، لكن غير نافع إن لم تصحبه الأسنان المعنى بها الأركان الأربعة: من الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج. كقوله:
وإخوان حسبتهم دروعا
…
فكانوها ولكن للأعادي
44 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله) متفق عليه.
45 -
وعن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ قال: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن). قال: يا رسول الله! فما الإثم؟ قال: (إذا حاك في نفسك شيء فدعه). رواه أحمد.
46 -
وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:
ــ
قوله: (في ترجمة باب) من عادته أن يذكر بعد الباب حديثا معلقا بغير إسناد فيه بيان ما يشتمل عليه أحاديث الباب، ويضيف إليه الباب.
الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: (إذا أحسن) أي أجاد وأخلص، كقوله تعالى:(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن). (قوله: (إلى سبع مائة ضعف) إلى لانتهاء الغايد، فيكون ما بين العشرة إلى السبعمائة درجات بحسب الأعمال، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة). الجوهري: الضعف المثل، وضعفاه مثلاه، وأضعافه أمثاله.
الحديث العاشر عن أبي أمامة: قوله: (إذا سرتك حسنتك) يعني إذا صدرت منك طاعة وفرحت بها مستيقنا بأنك تثاب عليها، وإذا أصابتك معصية وندمت عليها، فذلك علامة الإيمان بالله واليوم الآخر. قوله:(حاك في نفسك) أي أثر فيها، والحيك أثر القول في القلب، يقال: ما يحيك في الملامة، إذا لم يؤثر فيه. فإن قلت: قوله: (مالإثم) إما أن يكون سؤالا عن حقيقته أو صفته، وعلى التقديرين لا يكون الجواب مطابقا. قلت: السؤال عن الوصف
وفي الجواب تقدير، أي هو الذي يؤثر في النفس الشريفة القدسية تأثيرًا لا ينفك عن تنفير، وعلى هذا المنوال جواب الإيمان.
يارسول الله! من معك على هذا الأمر؟ قال: (حر وعبد). قلت: مالإسلام؟ قال: (طيب الكلام، وإطعام الطعام). قلت مالإيمان؟ قال: (الصبر والسماحة)) قال: قلت أي الإسلام أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده). قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال: ((خلق حسن). قال: قلت: أي الصلاة أفضل؟ قال: (طول القنوت). قال: قلت: أي الهجرة أفضل؟ قال: (أن تهجر ماكره ربك). قال: فقلت: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عقر جواده وأهريق دمه). قال: قلت: أي الساعات أفضل؟ قال: (جوف الليل الآخر) رواه أحمد.
ــ
الحديث الحادي عشر عن عمرو: قوله (من معك على هذا الأمر) أي من يوفقك على ما أتيت به من الدين؟ قال: (كل واحد من الحر والعبد). قوقوله: (طيب الكلام) جوابا على الإسلام حث له على مكارم الأخلاق، أي ما الإسلام إلا مكارم الأخلاق، ومن ثم سأل أي الإسلام –أي أي الأخلاق- أفضل؟ ومنه إسلام عبدالله بن سلام حين سمع قوله صلى الله عليه وسلم:(أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) هذا يقابل قوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فالأول تحلية، والثاني تزكية، ومن حق التحلية أن تؤخر عن التزكية، فقدمت في الحديث لأنها الغرض الأولي وإن كانت مؤخرة في الوجود.
قوله: (الصبر والسماحة) فسم الإيمان بهما لأن الأول يدل على الترك، والثاني على الفعل.
قال الحسن: الصبر عن معصية الله، والسماحة على أداء فرض الله، ثم جمع هاتين الهليقتين باللق الحسن، بناء ما قالت الصديقة رضي الله عنها:(كان خلقه القرآن) أي يأتمر بما أمره الله تعالى فيه، وينتهي عما نهى الله عنه، ويجوز أن يحملا على الإطلاق ويكون قوله:(خلق حسن) بعد ذكرهما كالتفسير له؛ لأن الصبر على أذى الناس والسماحة بالموجود يجمعهما الخلق الحسن، وفيه معنى قوله تعالى:(ولا تستوي الحنة ولا السيئة غدفع بالتي هي أحسن) يعني إذا اعترضتك حسنتان فادفع بأحسنهما السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك، فمن أساء إليك إساءة فالحسنة أن تعفو عنه، والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل من يذمك تمدحه، ومن يقتل ولده فتفتدي ولده من يد عدوه، ثم قال الله تعالى:(وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) أي ما يلقى هذه الخليقة والسجية إلا أهل الصبر
47 -
وعن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لقي الله لا يشرك به شيئان ويصلي الخمس، ويصوم رمضان؛ غفر له)). قلت: أفلا أبشرهم يا رسول الله، قال:((دعهم يعملوا)) رواه أحمد [47].
48 -
وعنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان؟ قال: ((أن تحب لله، وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله)). قال: وماذا يا رسول الله؟ قال: ((أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك)) رواه أحمد [48].
ــ
الذي وفق لحظ عظيم من الخير. وقوله: صلى الله عليه وسلم: ((صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك)) فصل ثم أجمل لمزيد الاهتمام.
قوله: ((وطول القنوت)) القنوت يرد على معان متعددة: كالطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والسكوت؛ فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد. وقال ابن الأنباري: القنوت على أربعة أقسام: الصلاة، وطول القيام، وإقامة الطاعة، والسكوت، ويجوز أن يراد هنا القيام، والخشوع، والسكوت.
الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن معاذ: قوله: ((وماذا يا رسول الله)) أي ماذا أصنع بعد ذلك؟ و ((ماذا)) يحوز أن يكون منصوبا بأصنع بمعنى أي شيء أصنع؟ وأن يكون مرفوعا بالابتداء، بمعنى أي شيء أصنعه؟ فعلى الأول يكون قوله:((أن تحب للناس)) منصوبا، وعلى الثاني مرفوعا، والحديثان لوضوحهما غنيان عن الشرح.