المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(4) باب إثبات عذاب القبر - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٢

[الطيبي]

الفصل: ‌(4) باب إثبات عذاب القبر

(4) باب إثبات عذاب القبر

الفصل الأول

125 -

وعن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((المسلم إذا سئل في القبر؛ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ})).

وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} نزلت في عذاب القبر، يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيي محمد)). متفق عليه.

ــ

باب إثبات عذاب القبر

الفصل الأول

الحديث الأول عن البراء بن عازب رضي الله عنه: قوله: ((المسلم إذا سئل)) المسئول عنه محذوف أي عن ربه، وعن نبيه، ودينه، و ((الفاء)) في ((فذلك)) سببية، ولفظة ((ذلك)) إشارة إلى سرعة الجواب التي يعطيها، جعل الظرف معمولا ((ليشهد)) يعني: إذا سئل لم يتلعثم، ولم يتحير كالكافر، بل يجيب بديهاً بالشهادتين، وذلك دليل على ثباته عليه، واستقراره على كلمة التوحيد في الدنيا، ورسوخها في قلبه؛ ولذلك أتى بلفظ الشهادة؛ لأنها لا يصدر إلا عن صميم القلب، ومطابقة الظاهر بالباطن، ونظير هذه ((الفاء)) ((الباء)) في قوله تعالى:{بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} والتعريف فيه إشارة إلى قوله تعالى: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} وهي كلمة التوحيد. وعن ابن عباس: ((هي شهادة أن لا إله إلا الله)) وثبوتها تمكنها في القلب واعتقاد حقيقتها، واطمئنان القلب بها. وتثبيتهم في الدنيا: إنهم إذا فتنوا لم يزالوا عنها – وإن ألقوا في النار – ولم يرتابوا بالشبهات، وتثبيتهم في الآخرة: إنهم إذا سئلوا في القبر لم يتوقفوا في الجواب، وإذا سئلوا في الحشر، وعند مواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم لم يبهتوا من أهوال الحشر، وأعاد الجار ((في الدنيا وفي الآخرة))؛ ليدل على استقلاله في التثبت. فإن قلت: ليس في الآية ما يدل على عذاب المؤمن، فما معنى قوله:((نزلت في عذاب القبر؟)) قلت: لعله سمى أحوال العبد في القبر بعذاب القبر على تغليب فتنة الكافر على فتنة المؤمن ترهيباً وتخويفاً؛ لأن القبر مقام الهول والوحشة؛ ولأن ملاقاة الملكين مما يهيب المؤمن.

ص: 587

126 -

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه [و] إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولون: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد صلى الله عليه وسلم: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً. وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري! كنت أقول ما يقول الناس! فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)). متفق عليه، ولفظه للبخاري.

ــ

الحديث الثاني عن أنس رضي لله عنه: قوله: ((إذا وضع)) شرط، ((أتاه)) جزاءه، والجملة خبر ((إن))، و ((إنه ليسمع قرع نعالهم)) إما حال بحذف الواو كأحد الوجهين في قوله تعالى:{ويَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} أي ووجوههم، على أن الرؤية بمعنى الإبصار، ونحو كلمة ((فوه)) إلى ((في)) ذكره شارح اللباب، أو يكون جواباً للشرط على إضمار ((الفاء)) فيكون ((أتاه)) حالا من فاعل ((ليسمع)) و ((قد)) مقدرة، ويحتمل أن يكون ((إذا)) ظرفاً محضاً.

قوله: ((إنه)) تأكيد لقوله: ((إن العبد)) كقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إنَّا لا نُضِيعُ} في أحد الوجهين. قوله: ((إنه ليسمع قرع نعالهم)) ((شف)): ظاهره دال على تعلق الروح ببدن الميت عند سؤال منكر ونكير في القبر عن الميت، إذا قالوا له:((من ربك؟)) ((فيقعدانه)) وفي حديث البراء ((فيجلسانه)). ((تو)): هذا اللفظ أولى من اللفظين بالاختيار؛ لأن الفصحاء إنما يستعملون القعود في مقابلة القيام، فيقولون: القيام والقعود، لا نسمعهم أن يقولوا: القيام والجلوس، يقال: قعد الرجل عن قيامه، وجلس عن ضجعه واستلقائه.

وحكى أن نضر بن شميل دخل على المأمون عند مقدمه مرو فمثل بين يديه وسلم، فقال له المأمون: اجلس، فقال: يا أمير المؤمنين، لست بمضطجع فأجلس، فقال: كيف أقول؟ قال: قل: اقعد. فعلى هذا المختار من بين الروايتين هو الإجلاس لما أشرنا إليه من دقيق المعنى وفصيح الكلام، وهو الأحق والأجدر ببلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعل من روى ((فيعقدانه)) ظن أن اللفظين ينزلان من المعنى بمنزلة واحدة؛ ومن هذا الوجه أنكر كثير من السلف رواية الحديث بالمعنى خشية أن يزل في الألفاظ المشتركة، فيذهب عن المراد جانباً.

ص: 588

ــ

أقول: لا ارتياب أن الجلوس والقعود مترادفان، وأن استعمال القعود مع القيام والجلوس مع الاضطجاع مناسبة لفظية، ونحن نقول بموجبه إذا كانا مذكورين، كقوله تعالى:((دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا)) لكن لم قلت: إنه إذا لم يكن أحدهما منه مذكوراً كان كذلك؟ ألا ترى إلى حديث جبريل عليه السلام ((حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم) بعد قوله: ((إذا طلع علينا؟)) ولا خفاء أنه عليه السلام لم يضطجع بعد الطلوع عليهم، وكذلك لم يرد في هذا الحديث الاضطجاع ليوجب أن يذكر معه الجلوس، وأما الترجيح بما رواه عن النضر وهو من رواة العربية على رواية الشيخين الثقتين فبعيد عن مثله، وهو من مشاهير المحدثين.

قوله: ((في هذا الرجل لمحمد)) ((محمد)) بيان من الراوي للرجل، أي لأجل محمد عليه الصلاة والسلام، دعا له بالرجل من كلام الملك، فعبر بهذه العبارة التي ليس فيها تعظيم؛ امتحاناً للمسئول؛ لأن لا يتلقن تعظيمه عن عبارة القائل، ثم ((يثبت الذين آمنوا)). قوله:((فيراهما جميعاً)) فيزداد فرحاً إلى فرح، ويعرف نعمة الله عليه بتخليصه من النار، وإدخاله الجنة، وأما الكافر فيزداد غماً إلى غم، وحسرة إلى حسرة، بتفويت الجنة وحصول النار.

قوله: ((لا دريت ولا تليت)) أي اتبعت الناس بأن تقول شيئاً يقولونه، ويجوز أن يكون من قولهم: تلا فلان تلو غير عاقل، إذا عمل عمل الجهال، أي لا علمت ولا جهلت، يعني هلكت فخرجت من القبيلتين. وقيل: لا قرأت، فقلبت الواو ياء للازدواج، معناه ما علمت بنفسي بالنظر والاستدلال، ولا اتبعت العلماء بالتقليد وقراءة الكتب.

قوله: ((ضربة)) أفرد ((الضربة)) وجمع ((المطارق)) على نحو قوله: ((معاً جياعاً)) ليؤذن بأن كل جزء من أجزاء تلك المطرقة مطرقة برأسها مبالغة، و ((الثقلان)) الإنس والجن، سميا به لثقلهما على الأرض، وإنما عزلا عن السماع لمكان التكليف والابتلاء، ولو سمعا ارتفع الابتلاء والامتحان، وصار الإيمان ضرورياً، لأعرضوا عن التدابير والصنائع ونحوهما مما يتوقع عليه بقاء الشخص والنوع، فينقطع معاشهم.

((مح)): اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة إثبات عذاب القبر، وقد تظاهرت عليه الدلائل من الكتاب والسنة، قال الله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًا وعَشِيًا} الآية، وأما الأحاديث فلا تحصى كثرة، ولا مانع في العقل أن يخلق الله تعالى الحيوة في جزء من الجسد أو في جميعه – على الخلاف بين الأصحاب – فيثيبه ويعذبه، وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به وجب قبوله واعتقاده. ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاؤه، كما يشاهد في العادة، أو أكلته السباع والطيور وحيتان البحر، كما أن الله تعالى يعيده للمحشر، وهو سبحانه قادر على ذلك.

ص: 589

127 -

وعن عبد الله بن عمر، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان

ــ

فإن قيل: نحن نشاهد الميت على حاله فكيف يسأل، ويقعد، ويضرب، ولا يظهر أثر؟ فالجواب: أن ذلك غير ممتنع بل له نظير في الشاهد وهو النائم؛ فإنه يجد لذة أو ألما يحسه ولا تحسه، وكذا يجد اليقظان لذة وألما يسمعه، أو يتفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه، وكذا كان جبريل عليه السلام يأتي النبي عليه الصلاة والسلام فيوحي إليه بالقرآن المجيد ولا يدركه الحاضرون، وكل ذلك دليل ظاهر جلي.

((قض)): من مات وتفرقت أجزاؤه في الشرق والغرب، فإن الله تعالى يعلق روحه بجزئه الأصلي الباقي في أول عمره إلى آخره، المستمر على حاله – حالتي النمو الذبول – الذي يتعلق به الروح أولا فيحي ويحيي بحياته سائر أجزاء البدن، ليسأل فيثاب أو يعذب. ولا يستبعد ذلك؛ فإن الله تعالى عالم بالجزئيات كلها حسب ما هي عليها، فيعلم الأجزاء بتفاصيلها، ويعلم مواقعها ومحالها، ويميز بين ما هو أصل وما هو فضل، ويقدر على تعليق الروح بالجزء الأصلي منها حال الانفراد، وتعليقه به حال الاجتماع؛ فإن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة، بل لا يستبعد تعلق روح الشخص الواحد في آن واحد بكل واحد من تلك الأجزاء المتفرقة في المشارق والمغارب؛ فإن تعلقه ليس على سبيل الحلول حتى يمنعه الحلول في جزء من الحلول في آخر، والحديث ورد على ما هو الغالب.

((حس)): في الحديث دليل على جواز المشي بالنعال بحضرة القبور وبين ظهرانيها، والله أعلم.

قوله: ((من يليه)) لا يذهب فيه إلا المفهوم في أن من بعد منه لا يسمعه، لما ورد نصاً في الفصل الثاني في حديث البراء بن عازب من أنه ((يسمعها ما بين المشرق والمغرب)) والمفهوم لا يعارض المنطوق و ((من)) لذوي العقول من الملائكة والثقلين، فغلب هاهنا على غير ذوي العقول، و ((غير الثقلين)) منصوب على الاستثناء.

الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة)) ((تو)): تقدير الكلام إن كان من أهل الجنة فمقعده من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه، وفيه ((حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)) و ((الهاء)) يرجع إلى المقعد، ويجوز أن يعود الضمير إلى الله، وهذا لفظ المصابيح، وقد روي أيضاً في الأحاديث الصحاح ((حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة)) أي محشر يوم القيامة، فحذف المضاف.

أقول: ويجوز أن يكون المعنى: فمن كان من أهل الجنة فيبشر بما لا يكتنه كنهه، ويفوز بما

ص: 590

من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)). متفق عليه.

128 -

وعن عائشة، رضي الله عنها، أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

ــ

لا يقادر قدره، وإن كان من أهل النار فبالعكس؛ لأن هذا المنزل طليعة تباشير السعادة الكبرى، ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى؛ لأن الشرط والجزاء إذا اتحدا دل الجزاء على الفخامة، كقولهم: من أدرك الضمان فقد أدرك المرعى، وضع الضمان موضع كثير العشب، والضمير في ((يبعثك الله إليه)) إما أن يرجع إلى المقعد فالمعنى: هذا مقعدك تستقر فيه حتى تبعث إلى مثله من الجنة أو النار كقوله تعالى: ((هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ)) أي مثل الذي، وقولهم: أبو يوسف، أبو حنيفة، أو يرجع إلى الله أي إلى لقاء الله، أو إلى يوم الحشر، أي هذا الآن مقعدك إلى يوم الحشر، فيرى عند ذلك كرامة أو هواناً ما تنسي عنده هذا المقعد، كقوله تعالى:((وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ)). ((الكشاف)): أي إنك مذموم ومدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما تنسي اللعن معه. ونظيره قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًا وعَشِيًا ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} . ((الكشاف)): عرضهم عليها إحراقهم بها، يقال: عرض الإمام الأساري على السيف إذا قتلهم و ((حتى)) في الحديث كحتى في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الفصل الثاني ((حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)).

الحديث الرابع عن عائشة رضي الله تعالى عنها: قوله: ((فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد)) أي بعد سؤالي. ((تو)): المشكل لا ندري أكان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم ذلك ولا يتعوذ، أو كان يتعوذ ولم تشعر به عائشة رضي الله عنها، أو سمع ذلك من اليهودية فتعوذ؟ قال: ثم إني وجدت نقلا من الإمام الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم سمع اليهودية بذلك فارتاع عليه الصلاة والسلام، ثم أوحي إليه بعد ذلك بفتنة القبر، ووجدت في حديث آخر أن عائشة رضي الله عنها قالت:((لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ قبل ذلك ولم أشعر به، أو تعوذ لقول اليهودية)) ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى استغرابها حيث سمعت من اليهودية، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلن بعد لما كان يسر ليترسخ ذلك في عقائد أمته ويكونوا من قتنة القبر على خيفة.

ص: 591

عذاب القبر. فقال: ((نعم، عذاب القبر حق)). قالت عائشة: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ بالله من عذاب القبر. متفق عليه.

129 -

وعن زيد بن ثابت، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادث به وكادت تلقيه. وإذا أقبر ستة أو خمسة، فقال:((من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟)) قال رجل: أنا. قال: ((فمتى ماتوا؟)) قال: في الشرك.

ــ

وأقول: فيه إرشاد للخلق وتواضع منه صلى الله عليه وسلم، فإن مثله حين سمع من مثل تلك اليهودية الحق ما استنكف من ذلك، وعمل بما يوجب ما قاله عليه الصلاة والسلام:((كلمة الحكمة ضالة كل حكيم)) ونعم ما قال علي رضي الله عنه: ((فانظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال)).

الحديث الخامس عن زيد رضي الله عنه: قوله: ((في الحائط)) الحائط البستان، و ((بنو النجار)) قبيلة من الأنصار، و ((على بغلة)) حال من الضمير المستتر في الخبر، و ((نحن معه)) حال متداخلة؛ لأنه حال من الضمير في الحال، و ((إذا)) للمفاجأة، وقد سبق في أول الكتاب إعرابه، وهو أيضاً حال، كقول أبي الطيب: تدوس بنا الجماجم والتريبا، أي حادت ونفرت ملتبسة به عليه الصلاة والسلام. و ((إذا أقبر)) ((إذا))، للمفاجأة والواو للحال أي نحن على ذلك مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، ((وإذا أقبر)) أي ظهرت لنا قبور متعددة فاجأناها.

قوله: ((في الشرك)) لابد من تقدير ليطابق الجواب السؤال، أي متى ماتوا في الجاهلية مشركين أم بعدها مؤمنين؟ فأجاب: في أيام الشرك، أو يقال: متى ماتوا؟ فأجاب أي منذ سنة في الشرك. و ((إن هذه الأمة)) أي جنس الإنسان. ((غب)): الأمة كل جماعة يجمعهم أمر ما، إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيراً أو اختياراً. و ((هذه)) إشارة إلى ما في الذهن، والخبر بيان له، كقوله: هذا أخوك. قوله: ((أن يسمعكم)) مفعول ثان لقوله: ((دعوت)) على تضمين سألت.

((تو)): هذا كلام مجمل، وما يسبق إلى الفهم هو أنهم لو سمعوا ذلك لتركوا التدافن حذراً من عذاب القبر. وفيه نظر؛ لأن المؤمن لا يليق به ذلك، بل يجب عليه أن يعتقد أن الله تعالى إذا أراد تعذيب أحد عذبه – ولو في بطون الحيتان، وحواصل الطيور – وسيان دون القدرة الأزلية بطن الأرض وظهرها، وبعد ذلك فإن المؤمنين أمروا بدفن الأموات فلا يسعهم ترك ذلك إذا قدروا عليه. والذي نهتدي إليه بمقدار علمنا، وهو أن الناس لو سمعوا ذلك لهم كل واحد منهم خويصة نفسه، وعمهم من ذلك البلاء العظيم حتى أقضى بهم إلى ترك التدافن، وخلع الخوف أفئدتهم حتى لا يكادوا يقربوا جيفة ميت. مثل قوله عليه الصلاة والسلام:((لو عملتم ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيراً)). وفيه أن الكشف بحسب الطاقة، ومن كوشف بما لا يسعه يطيح

ص: 592

فقال: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوات الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه))، ثم أقبل بوجهه علينا، فقال:((تعوذوا بالله من عذاب النار)). قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال: ((تعوذوا بالله من عذاب القبر)). قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: ((تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)). قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: ((تعوذوا بالله من فتنة الدجال)). قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال. رواه مسلم [129].

الفصل الثاني

130 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قبر الميت أتاه ملكان

ــ

ويهلك. قوله: ((الذي)) مفعول و ((أن يسمعكم من عذاب القبر)) بيان له، حال منه متقدم عليه، و ((بوجهه)) تأكيد لقوله:((أقبل)) كقولك: نظرت بعيني، لمزيد الاهتمام بشأن التذكير. وقوله:((ما ظهر منها وما بطن)) عبارة عن شمولها؛ لأن الفتنة لا تخلو من هذين الأمرين، عمم بعد التخصيص تأكيداً وتقريراً، ثم خص ذكر الرجال كالمستدرك لما فاته، والله أعلم بالصواب.

الفصل الثاني

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا أقبر)) أي أدفن، ((أسودان أزرقان)) الشارحون: أراد بالسواد سواد منظرهما، والزرقة زرقة أعينهما، وذلك لما في لون السواد وزرقة العين من الهول والنكير، والزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب؛ لأن الروم أعداؤهم وهو زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد أزرق العينين. ويحتمل أن يكون المراد قبح المنظر وفظاعة الصورة، يقال: كلمت فلاناً فما رد على سوداء ولا بيضاء، أي فما أجابني بكلمة قبيحة ولا حسنة. والزرقة تقليب البصر وتحديد المنظر، يقال: زرقت عيناه إذا انقلبت وظهر بياضها، وهي كناية عن شدة الغضب؛ فإن الغضبان ينظر إلى المغضوب عليه شزراً بحيث تنقلب عينيه. ويحتمل أن يراد بالزرقة العمى؛ فإن العين إذا ذهب نورها أزرقت، قال الله تعالى:{ونَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} أي عمياً عيونهم لا نور لها، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:((فيفيض له أعمى وأصم)).

ص: 593

أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير. فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم. فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله، لا أدري. فيقولان: قد كنا نعلم انك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم

ــ

((خط)): النكير فعيل بمعنى مفعول من: نكر بالكسر، والمنكر مفعول من: أنكر، كلاهما ضد المعروف، سميا به؛ لأن الميت لم يعرفهما ولم ير صورة مثل صورتهما، وإنما صور بتلك الصورة القبيحة ونكر ليخاف الكافر ويتحير في الجواب، وأما المؤمنون فيريهم الله تعالى كذلك امتحاناً، ويثبتهم بالقول الثابت امتناناً، فلا يخافون؛ لأن من خاف الله تعالى في الدنيا، وآمن به، وبرسله، وبكتبه لم يخف في القبر. وقال في قوله:((قد كنا نعلم إنك تقول هذا)): يعني قد رأينا فيك سيماء أهل الإيمان وشعاع أهل اليقين، فعلمنا فيك السعادة، وأن تجيبنا على وجه يحبه الله تعالى، وعكسه الكافر.

قوله: ((يفسح له في قبره سبعون ذراعاً)) والأصل فيه: يفسح له قبره مقدار سبعين ذراعاً، فجعل القبر ظرفاً للسبعين، وأسند الفعل إلى سبعين مبالغة. قوله:((العروس)) يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في أعراسهما، يقال: رجل عروس، وامرأة عروس، وإنما مثل بنومة العروس؛ لأن الإنسان أعز ما يكون في أهله وذويه، وأرغد وأنعم وهو في ليلة الإعراس.

((مظ)): ((لا يوقظه إلا أحب أهله)) عبارة عن عزته وتعظيمه عند أهله، يأتيه غداة ليلة زفافه من هو أحب وأعطف فيوقظه، على الرفق واللطف. و ((حتى)) متعلقة بمحذوف، يعني ينام طيب العيش حتى يبعثه الله تعالى، و ((التأم)) إذا اجتمع، ((والاختلاف)) إدخال شيء في شيء، يعني يؤمر قبره حتى يقرب كل جانب منه إلى الجانب الآخر ويضمه ويعصره. وقوله:((سمعت الناس)) أي المسلمين: يقولون: إنه نبي، فقلت مثل قولهم وما شعرت غير ذلك.

أقول: قوله: ((هو عبد الله ورسوله)) هو الجواب إيجازاً وإبهاماً، وقوله:((الشهادتين)) إطناب وبسط للكلام إظهاراً لنشاطه وافتخاراً به، كما عكسه جواب الكافرين ((نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين)) عن سؤال ما تعبدون؟ ولأجل وفور نشاطه قال أيضاً:((ارجع إلى أهلي فأخبرهم)) كما قال الله تعالى: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ} . ويجوز أن يكون ((حتى)) في قوله: ((حتى يبعثه الله)) متعلقة بـ ((هم)) على الالتفات، أي نم كما ينام العروس حتى يبعثك الله، فالتفت وقال: حتى يبعثه.

ص: 594

عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)). رواه الترمذي [130].

131 -

وعن البراء بن عازب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((يأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولون له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولون له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولون: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولون له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت؛ فذلك قوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الآية. قال: فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، ويفتح. قال:

ــ

الحديث الثاني عن البراء رضي الله عنه: قوله: ((ما هذا الرجل؟)) أي ما وصف هذا الرجل؛ لأن ((ما)) يسأل به عن الوصف أي أرسول هو أم ما تقول في حقه؟ فإن قيل: قوله: ((قرأت كتاب الله فآمنت به)) يدل على أن الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام مسبوقاً بقرائته كتاب الله فهو غير مستقيم؛ لأنه ما لم يعرف صدق الرسول لم يعرف أن القرآن حق؟ قلنا: المراد قرأت كتاب الله، ورأيت ما فيه من الفصاحة والبلاغة ما يعجز عنه البشر، ويفوت دونه القوى والقدر – فعملت أنه ليس من كلام البشر فآمنت به، أو تفكرت فيما فيه من البعث على مكارم الأخلاق، وفواضل الأعمال، وما فيه من ذكر الغيوب والإخبار عن الأمم السالفة عن غير أن يسمعه من واحد، أو يقرأ كتاباً – فعلمت أنه من عند الله، وآمنت به، وذلك قوله:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ} قد سبق في الحديث الأول من هذا الباب أن ذلك إشارة إلى سرعة الجواب، وأنها مسببة عن تثبيت الله إياه، وههنا إشارة إلى السرعة مع السؤال المكرر، والجواب المبسوط من غير انقباض ودهشة، بل مع وفور نشاط واستبشار.

قوله: ((فأفرشوه)) بألف القطع أي اجعلوا له فرشاً من فرش الجنة، ولم نجد الإفراش على هذا المعنى في المصادر، وإنما هو أفرش أي أقلع عنه وأقفل، فأفرش بهذا اللفظ على هذا المعنى من الباب القياسي الذي ألحق الألف بثلاثيه، ولو كان من الباب الثلاثي لكان من حقه أن يروى بألف الوصل، والمعنى ابسطوا له، ولم يجد الرواية إلا بالقطع.

ص: 595

فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له فيها مد بصره. وأما الكافر فذكر موته، قال: ويعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان، فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري! فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري! فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري! فينادي مناد من السماء: أن كذب فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار. قال: فيأتيه م حرها وسمومها. قال: ويضيق عليه قبره حتى يختلف فيه أضلاعه، ثم يقيض له أعمى أصم، معه مرزبة من حديد، لو ضرب بها جبل لصار تراباً، فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير تراباً، ثم يعاد فيه الروح)) رواه أحمد، وأبو داود [131].

ــ

قوله: ((فيأتيه من روحها)) أي فيأتيه روحها على مذهب الأخفش، أو بعض روحها أو شيء من روحها، فلم يؤت به إلا ليفيد أنه مما لا يقادر قدره ولا يوصف كنهه.

قوله: ((ويفسح له فيها مد بصره)) أي مداه، وهي الغاية التي ينتهي إليها بصره فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله: ((ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين)) وبين قوله: ((ويفسح له مد بصره))؟ قلنا: إنما عبر بقوله: ((ويفسح له)) عن توسيع مرقده عليه، ويقول: يفسح مد بصره عما يعرض عليه وينظر إليه من رياض الجنة وروحها، ويحتمل أن تكون الكلمتان عبارتين عن فسحة القبر.

قوله: ((فذكر موته)) يريد الراوي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام ذكر ألفاظاً في شأن موت الكافر، ثم قال:((ويعاد روحه)) ((مظ)): ((هاه هاه)): هذه الكلمة يقولها المتحير في الكلام م الخوف والدهشة، و ((أن كذب)) أي كذب فيما قاله:((لا أدري)) لأن دين الله، ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم كان ظاهراً في مشارق الأرض ومغاربها، وتغلغل في كل بيت مدر ووبر. و ((أن)) يجوز أن تكون مفسرة لما في ((ينادي)) من معنى القول، وأن تكون مصدرية مجرورة لـ ((أن كذب)) فالعامل ((فأفرشوه)) والفاء في قوله تعالى:{لإيلافِ قُرَيْشٍ – إلى قوله - فَلْيَعْبُدُوا} وهي جواب شرط محذوف، وكذلك في ((أن صدق عبدي)) سمى المؤمن عبداً، وأضافه إلى نفسه تعالى

ص: 596

132 -

وعن عثمان، رضي الله عنه، أنه كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟! فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه)). قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب [132].

133 -

وعنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال:

ــ

تشريفاً له، بخلاف الكافر، قال الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وأَنَّ الكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} .

((تو)): ((ثم يقيض)) أي يقدر، وأصل الكلمة من القيض وهو القشر الأعلى من البيض، فقولك: قيض الله لي فلاناً أي أباحه فاستولى على استيلاء القيض على البيض، و ((أعمى وأصم)) أي من لا يرى عجزه فيرجمه، ولا يسمع عويله فيرق له. وأما ((المرزبة)) فإن المحدثين يشددون الباء منها، والصواب تخفيفها، وإنما يشدد الباء إذا أبدلت الهمزة من الميم وهي الإرزبة، وهي التي يكسر بها المدر، وأنشد [الفراء]: ضربك بالمرزبة عود الشجر انتهى كلامه. وكرر إعادة الروح في الكافر لبيان شدة العذاب وفظاعته، ولأنه كان ينكر الإعادة في الدنيا، فيقال له: ذق هذا جزاء ما كنت تنكره؛ إلزاماً له وتبكيتاً، ولا يبعد أن يتمسك به من يقول: إن في القبر إماتتين وإحيايين، في تفسير قوله:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} .

الحديث الثالث عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((إلا والقبر)) الواو للحال، والاستثناء مفرغ، أي ما رأيت منظراً وهو ذو هول وفظاعة ((إلا والقبر أفظع منه)) يقال: فظع الأمر بالفم فظاعة فهو فظيع أي شديد شنيع جاوز المقدار، وعبر بالمنظر عن الموضع مبالغة؛ فإنه إذا نفى الشيء مع لازمه ينتفي الشيء بالطريق البرهان، و ((فظع)) كلمة يؤكد بها النفي في الفعل الماضي، كما أن عوض يؤكد بها النفي في المستقبل.

الحديث الرابع عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((الميت)) التعريف للجنس، وهو قريب من

ص: 597

((استغفروا لأخيكم، ثم سلوا له بالتثبيت، فإنه الآن يسأل)) رواه أبو داود [133].

134 -

وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً، تنهسه وتلدغه حتى تقوم الساعة، لو أن تنيناً منها نفخ في الأرض

ــ

النكرات. ((سلوا له بالتثبيت)) اطلبوا من الله أن يثبته على جواب الملكين بالقول الثابت، وضمن ((سلوا)) معنى الدعاء، كما قال الله تعالى:{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} أي ادعوا له بدعاء التثبيت، أي قولوا: ثبته الله تعالى بالقول الثابت.

((خط)): في هذا الحديث دليل على أن الدعاء نافع للميت، وليس فيه دلالة على التلقين عند الدفن كما هو العادة، ولا نجد فيه أيضاً حديثاً مشهوراً، ولا بأس به؛ لأنه ليس فيه إلا ذكر الله تعالى، وعرض الاعتقاد على الميت، والحاضرين، والدعاء له وللمسلمين، والإرغام لمنكري الحشر، وكل ذلك حسن.

((مح)): اتفق كثير من أصحابنا على استحباب التلقين، منهم القاضي حسين نص في تعليقه ونقله عن الأصحاب، وصاحبه أبو سعيد المتولي في التتمة، والشيخ أبو الفتح نصر المقدرسي، والإمام الرافعي وغيرهم، قال النصر في (كتاب التهذيب): إذا دفن الميت يقف رأس القبر ويقول: يا فلان بن فلان! اذكر العهد الذي خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، قل: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالكعبة قبلة، وبالقرآن إماماً، والمسلمين إخواناً، ربي الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم. وروى الخراسانيون فيه حديثاً عن أبي أمامة ليس بالقائم إسناده، ولكن اعتضد بشواهد، منها الحديث المذكور، وأهل الشام يعملون به قديماً، وقال: لا يلقن الصغير إلى أن يبلغ الحنث، وذكر في الأذكار عن الشافعي وأصحابه: أنه يستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن، قالوا: وإن ختموا القرآن كله كان حسناً، وفي سنن البيهقي أن ابن عمر استحب أن يقرأ على القبر بعد الدفن أول سورة البقرة وخاتمتها.

الحديث الخامس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((تنيناً ينهسه)) التنين نوع من الحيات كثير السم كبير الجثة. النهس واللدغ هنا بمعنى كرر للتأكيد أو لبيان أنواع العذاب. ((تو)): الوقوف على تخصيص فائدة العدد إنما يحصل بطريق الوحي، ويتلقن من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إنا نجد فيه وجهاً من طريق الاحتمال. روينا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن، والإنس، والبهائم، والهوام، فبها

ص: 598

ما أنبتت خضراً)) رواه الدارمي، وروي الترمذي نحوه، وقال:((سبعون)) بدل ((تسعة وتسعون)). [134]

الفصل الثالث

135 -

عن جابر، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ حين توفى، فلما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع في قبره وسوي عليه، سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبحنا طويلاً، ثم كبر، فكبرنا. فقيل: يا رسول الله! لم سبحت ثم كبرت الله قال: ((لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عنه)) رواه أحمد [135].

ــ

يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها يعطف الوحش على ولدها، وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده)) والكافر لما كذب أوامر الله تعالى ولم يؤد حق العبودية، أعد له مكان كل رحمة تنيناً تنهسه. ويحتمل أن يقال: إن لله تسعة وتسعين اسماً كل اسم منها دال على صفة يجب الإيمان بها، والكافر لما كفر بها حرم الله بها عليه أقسام رحمته في الآخرة، وسلط عليه مكان كل عدد منها تنيناً في قبره. وإن ذهب إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام عبر عما يلحق به من التبعات، وينزل به من المكروهات بالتنانين، ففيه من طريق العربية مساغ، ولكن الأخذ بالظواهر في أمثال هذا أولى بأولى الألباب. وأما استحالة ذلك من طريق المعقول؛ فإنها سبيل من لا خلاق له في الدين، والله يعصمنا من عثرة العقل، وفتنة الصدر، ويوفقنا السلوك بحجة الكتاب والسنة.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((على هذا العبد الصالح)) ((هذا)) إشارة إلى كمال تميزه ورفع منزلته، ثم وصفه بـ ((العبد)) ونعته بـ ((الصلاح)) لمزيد التخويف، والحث على الالتجاء إلى الله تعالى من هذا المنزل الفظيع، يعني إذا كان حال هذا العبد الصالح هذا فما بال غيره – تعريضاً بالمؤمنين – و ((حتى)) متعلق بمحذوف، أي ما زلت اكبر وأسبح ويكبرون ويسبحون حتى فرجه الله عنه.

ص: 599

136 -

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه)) رواه النسائي [136].

137 -

وعن أسماء بنت أبي بكر، قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، فذكر فتنة القبر التي يفتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك، ضج المسلمون ضجة. رواه البخاري هكذا، وزاد النسائي: حالت بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سكنت ضجتهم قلت لرجل قريب مني: أي بارك الله فيك! ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر قوله؟ قال: ((قد أوحي إلى أنكم تفتنون في القبور قريباً من فتنة الدجال)) [137].

ــ

الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((هذا لذي)) المشار إليه سعد بن معاذ، و ((هو)) للتعظيم كما سبق في الحديث الأول. قوله:((تحرك)) وفي آخر: ((اهتز)) أي اهتز العرش لموت سعد، وأصل الهز الحركة، واهتز إذا تحرك، واستعمله في معنى ((الارتياح)) أي ارتاح بصعوده واستبشر لكرامته على ربه، وكل من خف لأمر وارتاح له فقد اهتز له. وقيل أراد فرح أهل العرش بموته.

وأقول: يمكن أن يقال: إن تحرك العرش لفقده على طريقة قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ والأَرْضُ} .

((الكشاف)): إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وأظلمت له الشمس، ورثى ابن جرير لعمر بن عبد العزيز وقال:

نعى النعاة أمير المؤمنين لنا يا خير من حج بيت الله واعتمرا

حملت أمراً عظيماً فاصطبرت له وقمت فيه بأمر الله يا عمرا

الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

و ((شهده)) أي حضر جنازته، ولقد ضم اللام فيه جواب القسم، والتنكير في ((ضمة)) يحتمل التفخيم والتقليل والأول أظهر؛ لدليل تسبيح رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكبيره، واقتداء المؤمنين به، فعلى هذا ((ثم)) في قوله:((ثم فرج عنه)) لتراخى مدة الضم.

الحديث الثالث عن أسماء: قوله: ((التي بفتن)) صفة للفتنة وبيان له، يعني ذكر الفتنة.

ص: 600

138 -

وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا أدخل الميت القبر مثلت له الشمس عند غروبها، فيجلس يمسح عينيه، ويقول: دعوني أصلي)) رواه ابن ماجه [138].

139 -

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الميت يصير إلى القبر، فيجلس الرجل في قبره من غير فزع ولا مشغوب. ثم يقال: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام. فيقال: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات من عند الله، فصدقناه. فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فيفرج

ــ

بتفاصيلها كما يجري على المرء في قبره، ومن ثم ضج المسلمون، وصاحوا، وجزعوا، و ((أي)) نداء يعني يا فلان بارك الله فيك، و ((قريباً)) صفته مصدر محذوف أي فتنة قريبة وذكر كما في قوله تعالى:{إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ} يريد فتنة عظيمة، إذ ليس فيه أعظم من فتنة الدجال.

الحديث الرابع عن جابر: قوله: ((مثلت له)) أي صورت وخيلت، وذلك لا يكون إلا في حق المؤمن، ولعل ذلك عند نزول الملكين إليه. ويمكن أن يقال: إن ذلك بعد السؤال والجواب، تنبيهاً على رفاهيته. وفي قوله:((يمسح عينيه)) إيماء إليها كأنه يظن أنه بعد في الدنيا، ويؤدي ما عليه من الفرائض، ويمنعه من قيامه بعض الأصحاب وذلك من رسوخه في أدائه ومداومته عليه في الدنيا، وإما لتخصيص ذكر الغروب]؛ فإنه مناسب للغريب؛ فإن أول منزل ينزله عند الغروب، والله أعلم بالمراد [قوله:((عند غروبها)) حال من الشمس لا ظرف لمثلت، و ((يمسح)) حال من الضمير في يجلس، أي يجلس ماسحاً].

الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((غير فزغ)) هو حال، و ((فزع)) صفة مشبهة يدل على المبالغة، ثم أكده بقوله:((ولا مشغوب)) من الشغف وهو تهيج الشر والفتنة وقوله: ((وكنت في الإسلام)) دليل على غاية تمكنه من الجواب لأن الجواب [الظاهر] أن يقول: في الإسلام، و ((ما)) استفهام مبتدأ، و ((هذا الرجل)) الصفة والموصوف خبره، وقد سبق أن ((ما)) يسأل به عن الوصف، ولذلك سماه ووصفه، أي صاحب ذلك الاسم المفخم المشتهر لا يخفى على كل أحد، وهو أنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقوله:((رسول الله)) يحتمل أن يكون خبراً، و ((جاءنا)) جملة استئنافية مبينة للجملة الأولى، وأن يكون صفة و ((جاءنا)) خبراً، والأول أوجه.

ص: 601

له فرجة قبل النار، فينظر إليه يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك، على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى. ويجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مشغوباً، فيقال: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري! فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولا فقلته، فيفرج له قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة إلى النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى)) رواه ابن ماجه [139].

ــ

و ((هل رأيت الله؟)) هذا السؤال إنشاء من قوله: ((من عند الله)) أي كيف تقول: من عند الله؟ هل رأيت الله في الدنيا؟ ومن ثم أجاب بقوله: ((ما ينبغي لأحد أن يرى الله)). ((فيفرج له)) أي يكشف له فرجة، ويطرح ما يمنعه من النظر، ذكر ضمير البارز في ((إليه)) بتأويل العذاب وأنثها في قوله:((بعضها)) نظراً إلى اللفظ و ((الحطم)) الحبس في الموضع المتضايق الذي يتحطم فيه الخيل، أي يدوس بعضها بعضاً. و ((إلى زهرتها)) حسنها وبهجتها وكثرة خيرها، و ((على اليقين)) حال، والعامل ما في حرف التنبيه من معنى الفعل المتضمن لصاحب الحال، أي أنبهك، والتعريف في ((اليقين)) للجنس، و ((كنت)) صفة له، وعلى هذا ينزل قوله على الشك والتقدير: أنبهك حال كونك ثابتاً أو مثبتاً على يقينك. ويمكن أن يقال: إن معنى ((على)) في الموضعين للوجوب، [يعني هذا موضعك، مقعدك حال كذبه واجباً على الله تعالى وعداً ووعيداً لسبب اليقين والشك ومعنى]((إن شاء الله)) في الموضعين للتبرك، والتحقيق كقوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} والله أعلم بالصواب.

ص: 602