المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(2) باب الوسوسة - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٢

[الطيبي]

الفصل: ‌(2) باب الوسوسة

(2) باب الوسوسة

الفصل الأول

63 -

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله [تعالى] تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعلم به أو تتكلم)). متفق عليه.

ــ

باب في الوسوسة

الفصل الأول

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تجاوز عن أمتي)) قال في المغرب: الوسوسة الصوت الخفي، ومنها وسواس الحلي لأصواتها. وقال الليث: الوسوسة حديث النفس؛ وإنما قيل موسوس؛ لأنه يحدث بما في ضميره، والوسواس اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة. والمراد به الشيطان في قوله:{مِن شَرِّ الوَسْوَاسِ} كأنه وسوسه في نفسه. وقيل: ما يظهر في القلب من الخواطر - إن كانت تدعوه إلى الرذائل والمعاصي يسمى وسوسه، وإن كانت تدعو إلى الخصائل المرضية والطاعات تسمى إلهاما.

اعلم أن الوسوسة ضرورية، واختبارية، فالضرورية: ما يجري في الصدر من الخواطر ابتداء، ولا يقدر الإنسان على دفعه، فهو معفو عن جميع الأمم، قال الله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَاّ وسْعَهَا} . والاختيارية هي التي تجري في القلب وتستمر، وهو يقصد أن يعمل به ويتلذذ منه، كما يجري في قلبه حب امرأة ويدوم عليه، ويقصد الوصول إليها، وما أشبه ذلك من المعاصي، فهذا النوع عفا الله عن هذه الأمة خاصة، تشريفا وتكريما لنبينا عله الصلاة والسلام وأمته، وإليه ينظر قوله تعالى:{ولا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} .

وأما العقائد الفاسدة، ومساوئ الأخلاق وما ينضم إلى ذلك؛ فإنها بمعزل عن الدخول في جملة ما وسوست به الصدور. قال صاحب النهاية: روي: ((ما حدثت به أنفسها)) بدل ((وسوست)) و ((أنفسها)) نصب على المفعول به، ويجوز الرفع على الفاعل.

((تو)): ويؤيد هذه الراية قول الرجل في حديث آخر: ((إن أحدنا يحدث نفسه)) وفي آخر ((إني أحدث نفسي)) وأهل اللغة يرفعون السين أي بغير اختيار، والفتح أسد وأصوب؛ لأن

ص: 516

ــ

الظاهر أنه أراد النوع الذي يستجلبه الطبع، فيتبعه النفس حتى يحققه فيوسوس به صدره نزوعا إلى العمل به، لا الذي يهجم عليه من غير اختيار منه، على ما تقتضيه رواية الرفع، هذا ما عليه كلام الشارحين.

وروى الشيخ محيي الدين النواوي عن الإمام المازني قال: مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبيه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه. ويحمل ما وقع من أمثال قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوا عليه، فإن عمليها فاكتبوها سيئة واحدة)) الحديث، على أن ذلك في من لم يوطن نفسه على المعصية؛ وإنما مر ذلك بفكره من غير استقرار، ويسمى هذا هما، ويفرق بين الهم والعزم، هذا مذهب القاضي أبي بكر، وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الحديث.

وقال القاضي عياض: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر؛ للأحاديث الدالة على المؤخذة بأعمال القلوب؛ لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة، وليست السيئة التي هم بها؛ لكونها لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية فيكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة، كما في الحديث ((إنما تركها من جرائي)) فصار تركه لخوف الله تعالى، ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء حسنة. وأما الهم الذي لا يكتب: فهو الخواطر التي لا يوطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم. وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها بغير خوف الله تعالى، بل لخوف الناس، هل يكتب حسنة؟ قال: لا؛ لأنه إنما حمله على تركه الحياء، وهذا ضعيف لا وجه له، هذا آخر كلام القاضي، وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه.

وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر؛ ومن ذلك قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} والآيات في هذا كثيرة، وقد تظاهرت نصوص الشرع، وإجماع العلماء على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها.

((شف)): وفي الحديث دليل على أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق، ولم يتلفظ له لا يقع الطلاق، وإليه ذهب الشافعي وجماعة. وقال الرهري: إذا عزم على ذلك وقع الثلاث وإن يم

ص: 517

64 -

وعنه، قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به! قال: ((أوقد وجدتموه؟)) قالوا: نعم. قال: ((ذاك صريح الإيمان)). رواه مسلم. [64]

65 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه؛ فليستعذ بالله ولينته)). متفق عليه.

ــ

يتلفظ به. واتفقوا على أنه لو عزم على الظهار لم يلزمه كفارة، ولو حدث نفسه في الصلاة لم تبطل صلاته، ولو كان حديث النفس بنزلة الكلام لبطلت صلاته.

الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إنا نجد في أنفسنا)) واقع موقع الحال، أي سألوه مخبرين إنا نجد، أو قائلين على احتمال فتح الهمزة وكسرها، والكسر أوجه حتى يكون بيانا للمسئول، وهو مجمل يفسره الحديثان الآتيان بعده، أي نجد في قلوبنا أشياء قبيحة، أي من خلق الله؟ وكيف هو؟ ومن أي شيء هو؟ وما أشبه ذلك مما نتعاظم به؛ لعلمنا أنه لا يليق شيء منها أن تعتقده، ونعلم أنه تعالى قديم، خالق الأشياء كلها ليس بمخلوق، فما حكم جريان هذه الأشياء في خواطرنا؟ ((تعاظم)) تفاعل بمعنى المبالغة؛ لأن زيادة اللفظ لزيادة المعنى، فإن الفعل الواحد إذا جرى بين اثنين يكون مزاولته أشق من مزاولته وحده.

((مظ)): المروي ((أحدنا)) برفع الدال، ومعناه: يجد أحدنا التكلم به عظيما، ويجوز النصب، أي يعظم ويشق التكلم به على أحدنا. وقوله:((أو قد وجدتموه؟)) الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، أي أحصل ذلك وقد وجدتموه تقريرا وتأكيدا، والمعنى: حصل ذلك الخاطر القبيح، وعلمتم أن ذلك مذموم وغير مرضي، و ((ذاك)) إشارة إلى مصدر مقدر، وهو وجدان قبح ذلك الخاطر، أو مصدر يتعاظم، أي علمكم بفساد ذلك الوسواس، وامتناع نفوسكم والتجافي عن التفوه بها، صريح الإيمان وخالصه؛ لأن الكافر يصر على ما في قلبه من تشبيه الله تعالى بالمخلوقات، ويعتقده حسنا.

الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فإذا بلغه)) الضمير راجع إلى مصدر ((يقول))، أي إذا بلغ قوله:((من خلق ربك)). ((ولينته)) أي وليترك التفكر في هذا الخاطر وليستعذ، وإن لم يزل التفكير بالاستعاذة فليقم، وليشتغل بأمر آخر؛ وإنما أمر بالاستعاذة والانتهاء عنه، والإعراض عن مقابلته، لا بالتأمل. والاحتجاج بوجهين:

ص: 518

66 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا؛ فليقل: آمنت بالله ورسله)). متفق عليه.

ــ

الأول: أن العلم باستغنائه تعالى عن المؤثر والموجد أمر ضروري، لا يقبل الاحتجاج والمناظرة له وعليه، فإن وقع من ذلك شيء كان من وسوسة الشيطان، لأنه مسلط في باب الوسوسة، ووساوسه غير متناهية، فمهما عارضته فيما يوسوس بحجة يجد مسلكا آخر إلى ما ينفيه من المغالطة والتشكيك، وأدنى ما يفيده من الاسترسال في ذلك إضاعة الوقت، فلا تدبير في دفع ذلك أقوى وأحسن من الاسعاذة بالله تعالى، قال الله تعالى:{وإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} .

وثانيهما: أن السبب في اعتوار أمثال ذلك احتباس المرء في عالم الحس، وما دام هو كذالك لا يزيد فكره، إلا انهماكا في الباطل، وزيغا عن الحق، ومن كان هذا حاله فلا علاج له إلا الالتجاء إلى الله تعالى للاعتصام بحوله وقوته بالمجاهدة والرياضة؛ فإنهما مما يزيل البلادة، ويصفي الذهن، ويزكي النفس.

الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يتساءلون)) التساؤل جريان السؤال بين اثنين فصاعدا، ويجوز بين العبد، والشيطان، أو النفس، أو إنسان آخر، ويجري بينهما السؤال في كل نوع، حتى يبلغ إلى أن يقال هذا.

قوله: لفظ ((هذا)) ((تو)): لفظ ((هذا)) يصرف على وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولا، والمعنى: حتى يقال هذا القول، والآخر: أن يكون مبتدأ قد حذف خبره، أي هذا القول أو قولك هذا قد علم أو عرف. رواه مسلم في كتابه على هذا السياق عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضا عن أنس، وفي روايته ((حتى يقال: هذا الله، خلق الخلق)) كذلك رواه البخاري في كتابه عن أبي هريرة، والحديث على هذا السياق محتمل لوجه آخر سوى الوجه الذي ذكرناه أولا، وهو أن يقول:((هذا الله)) مبتدأ وخبر، أو ((هذا)) مبتدأ و ((الله)) عطف بيان و ((خلق الله الخلق)) خبره. وأكثر رواة هذا الحديث يرونه على هذا السياق، فيرجح إذا على السياق المذكور في كتاب المصابيح، وإن كان كلاهما من جملة الصحاح.

أقول: قوله: ((هذا)) مبتدأ قد حذف خبره، أولى الوجوه، لكن تقديره على غير ما ذكره وذلك بأن يقال: هذا مقرر أو مسلم، وهو أن الله تعالى ((خلق الخلق)) فما تقول في ((الله))؟ فإن الله شيء، وكل شيء مخلوق، فمن خلقه؟ فعلى هذا الفاء رتبت ما عدها على ما قبلها. وقوله:

ص: 519

67 -

وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)). قالوا: وإياك يا رسول الله؟

قال: ((وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)). رواه مسلم. [67]

ــ

((خلق الله الخلق)) بيان لقوله: هذا مسلم، وبهذا المعنى لا يستقيم على أن يقال:((إن هذا مقول، وما بعده بيان له؛ لأن الفاء تدفعه. ووجه آخر: وهو أن يقدر: هذا القول مقرر، فوضع ((خلق الله الخلق)) موضع القول، كقوله تعالى:{وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} أي وإذا قيل لهم هذا القول؛ لأن (لا تفسدوا): فعل، لا يقع مفعولا إلا على التأويل. وهذا القول كفر فمن تكلم به فليتداركه بكلمة الإيمان وليقل: آمنت بالله خالق كل شيء، وليس بمخلوق، لا يتصور كنهه وهم وخيال، ولا يحضره فهم ومثال.

الحديث الخامس عن ابن مسعود: قوله: ((قالوا: وإياك)) ((شف)): اللائق بهذا المضمر المنفصل أن يكون صيغة المرفوع المنفصل فيقال: ((وأنت يا رسول الله)) فيقو عليه الصلاة والسلام: ((وأنا)) لكن إقامة كل واحد من الضمير المرفوع والمنصوب المتصلين مقام الآخر شائع. فمن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج إلى تسبيح الضحى، لا يبعثه إلا إياه)) والقياس إلا هو. ومن الثاني قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الوسيلة: ((فأرجو أن يكون أنا هو)).

أقول: ويمكن أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام لما قال: ((وما منكم من أحد)) الخ سألوا ((وإياك)) يعني أيضا في هذا الخطاب، فقال: نعم! وإياي؛ لأن الخطاب عام لا يختص بالمخاطبين من الصحابة، بل كل من يصح أن يخاطب به، فهو داخل فيه، كأنه قيل:((ما منكم يا بني آدم من أحد إلا وقد وكل به)) ونظيره القذة بالقذة.

قوله: ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه)) وقوله تعالى: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} والخطاب للناس. قوله: ((فأسلم)) في جامع الترمذي: قال ابن عيينة: ((فأسلم)) بالضم أي أسلم أنا منه، والشيطان لا يسلم. وفي جامع الدارمي: قال أبو محمد: ((أسلم)) بالفتح أي استسلم وذل. وذهب الخطابي إلى الأول، والقاضي عياض المغربي إلى الثاني، وهما روايتان مشهورتان. بقول ويعضد قول من قال:((اسلم)) بمعنى استسلم وذل، ما رواه الشيخان في حديث أبي هريرة:((أن عفريتا من الجن تلفت البارحة، ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فأخذته، فأردت أن أربطه إلى سارية من ساري المسجد)) الحديث.

ص: 520

68 -

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)). متفق عليه.

ــ

وقول من قال: ((لا يأمرني إلا بخير)) يدل على إسلامه؛ لأنه لو لم يسلم فكيف يأمره بالخير؟ ليس بقوي؛ لما روى البخاري في حديث أبي هريرة: ((وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفظ زكاة رمضان)) وساق الحديث. ((فأخذته)) يعني: أخذ أبو هريرة الشيطان ((فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – إلى قوله – أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك الشيطان حتى تصبح – إلى قوله صلى الله عليه وسلم – أما أنه قد صدقك، وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قلت: لا، قال: ذاك الشيطان)) وكذا قول من قال: ((إن الشيطان لا يسلم)) ضعيف.

((تو)): إن الله هو القادر على كل شيء، ولا يستبعد من فضله ورحمته أن يخص نبيه عليه الصلاة والسلام بهذه الكرامة، يعني إسلام قرينه وبما هو فوقها. قوله:((فلا يأمرني إلا بخير)) أي لا يدلني إلا على خير، كما تقدم في حديث أبي هريرة. وأما قوله:((وقرينه من الملائكة)) فليس في المصابيح، لكن ذكره الحميدي في كتابه، والصنعاني في المشارق عن مسلم.

الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يجري من الإنسان)) عدى ((يجري)) بمن على تضمين معنى التمكن، أي يتمكن من الإنسان في جريانه في عروقه مجرى الدم. قوله:((مجرى)) يجوز أن يكون مصدرا ميميا، وأن يكون اسم مكان، وعلى الأول تسبيه، شبه كيد الشيطان وجريان وساوسه في الإنسان بجريان دمه في عروقه، وجميع أعضائه، والمعنى: أن الشيطان يتمكن في إغواء الإنسان وإضلاله تمكنا تاما، ويتصرف فيه تصرفا لا مزيد فيه.

وعلى الثاني: يجوز أن يكون حقيقة، فإنا لا ننكر أن الله قادر على أن يخلق أجساما لطيفة يسري في بدن الإنسان سريان الدم فيه؛ فإن الشياطين مخلوقة من نار السموم، والإنسان من صلصال وحمإ مسنون، والصلصال فيه نارية، وبه يتمكن من الجريان في أعضائه، يدل عليه ما روى البخاري تعليقا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس)) وأن يكون مجازا، يعني: أن كيد الشيطان ووساوسه يجري في الإنسان حيث يجري فيه الدم من عروقه وأبشاره فالشيطان إنما يستحوذ على النفوس، وينفث وساوسه في القلوب بواسطة النفس الأمارة بالسوء ومركبها الدم ومنشأ قواها منه، فعلاجه سد المجاري بالجوع والصوم؛ لأنه يقمع الهوى، ويردع الشهوات التي هي من أسلحة الشيطان، فالشبع مجلبة للآثام، منقصة للإيمان مشوشة للأفكار.

ص: 521

69 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مس الشيطان، غير مريم وابنها)). متفق عليه.

ــ

الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما من بين آدم مولود)) يحتمل أن يكون ((ما)) بمعنى ليس بطل عمله بتقديم الخبر على المبتدأ، وإلا لغو؛ لأن الاستثناء مفرغ، والمستثنى حال من الضمير المستتر في الظرف. والوجه أن يقال:((مولود)) فاعل الظرف لاعتماده على حرف النفي، والمستثنى منه أعم عام الوصف، يعني: ما وجد من بني آدم مولود متصف بشيء من الأوصاف إلا بهذا الوصف، كأنه عليه الصلاة والسلام يرد من زعم أن بعض بني آدم – مثل الأنبياء، والأولياء المخلصين – لا يمسه الشيطان، فهو من باب قصر القلب. وفي التصريح بالصراخ إشارة بأن المس عبارة عن إصابة ما يؤذيه ويؤلمه، لا كما زعمت المعتزلة: أن من الشيطان تخييل، واستهلاله صارخا من مسه تصوير لطمعه فيه. كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ويقول: هذا ممن أغويه.

وأما قول ابن الرومي:

لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد

إذا أبصر الدنيا استهل كأنه بما هو لاق من أذاها يهدد

وإلا فما يبكيه منها وإنه لأوسع مما كان فيه وأرغد

فمن باب حسن التعليل، فلا يستقيم تنزيل الحديث عليه إلى أنه لا ينافيه.

((قض)): مس الشيطان: تعلقه بالمولود وتشويش حاله، والإصابة بما يؤذيه ويؤلمه أولا، كما قال الله تعالى حكاية عن أيوب:{أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وعَذَابٍ} والاهتمام بحصول ما يصير ذريعة، (ومتسلقا) في إغوائه، والاستهلال والإهلال رفع الصوت، والصراخ هو الصوت، واستثناء مريم وابنها لاستعاذة أمها حيث قالت:{إنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .

أقول: قوله: ((يؤلمه)) ظاهر في أن المس حقيقي، ويعضده الحديث الذي يليه، وهو أيضا من رواية أي هريرة ((صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان)) فإن النزغ نخس بالعود، وتفرد عيسى وأمه بالعصمة عن المس، لا يدل على فضلهما على نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن لنبينا فضائل ومعجزات لم تكن لعيسى ولا لغيره من الأنبياء، ولا يلزم أن يكون في الفاضل خصال المفضول.

ص: 522

70 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان)). متفق عليه.

71 -

وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه يفتنون الناس، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول:

ــ

الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صياح المولود)) الحديث غني عن الشرح لوضوحه.

الحديث التاسع عن جابر: قوله: ((يضع عرشه في الماء)) يحتمل بأن يجري على ظاهره، ويكون من جملة تمرده وطغيانه جعل عرشه على الماء، كما في قوله تعالى:{وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} ، وأن يجري على الكناية الإيمائية، عبر عن استيلائه على إغوائه الخلق، وتسلطه على إضلالهم بهذه العبارة.

قال صاحب الكشاف في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} : لما كان الاستواء على العرش، وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون الملك – وإن لم يقعد على السرير البتة. و ((السرايا)) جمع سرية، وهي قطيعة من الجيش يوجهها حاكم إلى جهة؛ لأن ينال من العدو. ((نه)): طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو سموا بذلك؛ لأنهم يكونون خالصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري النفيس. وقيل: سموا بذلك؛ لأنهم ينفذون سرا وخفية، وليس بالوجه؛ لأن لام السر راء وهذه ياء.

قوله: ((فتنة)) الفتنة الابتلاء والامتحان، وأصله من فتنت الفضة إذا أدخلتها على النار؛ لتعرف جيدها من رديئها، وفتن فلان بفلانة أي بلي بهواها، وسميت بها المعاصي. ((ويجيء أحدهم)) جملة مبينة لقوله:((أعظمهم فتنة)) وقولهم: ((نعم أنت)) أي نعم العون أنت، ((أراه)) أظنه، المضمر المرفوع فيه راجع إلى الأعمش، والمنصوب إلى جابر، ((فيلتزمه)) ويجوز أن يكون بدله، وذلك أن النكاح عقد شرعي يستحل به التزوج، وهو يريد حل ما عقده الشرع؛ ليستبيح ما حرمه فيكثر الزنا، وأولاد الزنا، فيفسدوا في الأرض، ويهتكوا حدود الشرع،

ص: 523

فعلت كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئا. قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. قال: فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت)). قال الأعمش: أراه قال: ((فيلتزمه)). رواه مسلم. [71]

72 -

وعنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الشيطان قد أيس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)). رواه مسلم. [72]

ــ

ويتعدوا حدود الله؛ ومن ثم ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة ولد زانية)) رواه الدارمي في سننه؛ لأن ولد الزنا يتعسر عليه اكتساب الفضائل الحسنة، ويتيسر له رذائل الأخلاق، والله أعلم بالصواب.

الحديث العاشر عن جابر: قوله: ((إن الشيطان)) تكلم في الحديث الشارحون، واختصره القاضي وقال: عبادة الشيطان عبادة الصنم، بدليل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم:{يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} وإنما جعل عبادة الصنم عبادة الشيطان، لأنه الآمر به والداعي إليه، و ((المصلون)) المؤمنون، كما في قوله صلى الله عليه وسلم ((نهيت عن قبل المصلين)) وإنما سمي المؤمن بالمصلي؛ لأن الصلاة أشرف الأعمال، وأظهر الأفعال الدالة على الإيمان. ومعنى الحديث: أن الشيطان أيس أن يعود من المؤمنين أحد إلى عبادة الصنم، ويرتد إلى شركه في جزيرة العرب. ولا يرد على هذا ارتداد أصحاب مسيلمة، ومانعي الزكاة، وغيرهم ممن ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم لم يعبدوا الصنم. و ((جزيرة العرب)) من حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن طولا، ومن رمل يربن إلى منقطع السماوة – وهي بادية في طريق الشام – عرضا، هكذا ذكره أبو عبيد معمر بن المثنى؛ وإنما سميت ((جزيرة العرب)) لأنها واقعة بين بحر فارس، والروم، ونيل، ودجلة، وفرات. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه:((جزيرة العرب)) مكة، والمدينة، واليمن. ((تو)): وإنما خص جزيرة العرب الذكر؛ لأن الدين يومئذ لم يتعد عنها.

أقول: ولعله عليه الصلاة والسلام اخبر عما يجري فيها بعده من التحريش الذي وقع بين أصحابه عيه الصلاة والسلام، أي أيس الشيطان أن يعبد فيها، لكن طمع في التحريش بين ساكنيها، وكان كما أخبر، وكان معجزة. والتحريش الإغراء على الشيء بنوع من الخداع، من

ص: 524

الفصل الثاني

73 -

عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل، فقال: إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به. قال: ((الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة)). رواه أبو داود. [73]

74 -

وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك فإيعاد

ــ

حرش الصياد الصيد إذا خدعه، أي يخدعهم ويغري بعضهم على بعض. أقول: لما ذكر العبادة سماهم المصلين تعظيما لهم، وحيث ذكر الفتنة أخرجه مخرج التحريش – وهو الإغراء بين الكلاب – توهينا وتحقيرا لهم.

الفصل الثاني

الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((بالشيء)) ((شف)): الشيء في قوة النكرة معنى – وإن كان معرفة لفظا – ويكون قوله: ((لأن أكون حممة) مبتدأ و ((أحب)) خبره، والجملة صفة له، أي شيء كوني حممة أحب إلي من التكلم به – انتهى كلامه. ونظيره قول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمة، قلت: لا يعنيني

((الحمم)) الفحم والرماد، وكل ما احترق بالنار، والواحد حمة.

وقوله: ((رد أمره)) الضمير فيه يحتمل أن يكون للشيطان – وإن لم يجر له ذكر – لدلالة السياق عليه، والأمر يحتمل أن يكون واحد الأوامر؛ لقوله تعالى:{ولآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} يعني: كان الشيطان يأمر الناس بالكفر قبل هذا، وعبادة الأوثان، وأما الآن فلا سبيل له إليهم سوى الوسوسة. ويجوز أن يكون بمعنى الشأن، ويحتمل أن يكون للرجل، والأمر بمعنى الشأن لا غير، أي رد شأن هذا الرجل من الكفر إلى الوسوسة التي سبقت من نحو قوله:((من خلق الله)) ونحو معرفة كيفية الله تعالى من التشبيه والتجسيم والتعطيل.

الحديث الثاني عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((لمة)) ((تو)): اللمة من الإلمام وهي كالخطرة والزورة، ومعناه: النزول به والقرب منه أي يقرب من الإنسان لهذيه السبيلين. وقيل:

ص: 525

بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك؛ فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى؛ فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) ثم قرأ:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [74]

ــ

((اللمة)) الهمة تقع في القلب، والإيعاد في اللمتين من باب الإفعال، والوعيد في الاشتقاق كالوعد، إلا أنهم خصوا الوعد بالخير، والوعيد بالشر. ولما كان المبتدأ بذكره في هذا الحديث ((لمة الشيطان)) ذكره بلفظ الإيعاد ثم أجرى الوعد بالخير مجرى الأول اتباعا ومشاكلة.

أقول: والأظهر أن الحديث والآية المستشهد بهما جاريان على الاستعمال اللغوي؛ لما نيط بكل واحد ما لا يلبس على السامع المراد، فاستعمل في الحديث بالإفعال، وفي الآية بفعل، نعم! لو أطلق ميز بينهما. وتطبيق الآية على الحديث، هو أن يقال: خصت ((لمة الشيطان)) بالفقر وهو الحاجة، وأصله كسر الفقار، وبالأمر بالفحشاء، وهما تفسيران للشر، وخصت ((لمة الملك)) بوعد المغفرة، وبوعد الفضل، وهما المعنيان بالخير، وقوبل الفقر بالفضل، والأمر بالفحشاء بالمغفرة، نبه سبحانه وتعالى على ما عسى أن يمنع المكلف من الإنفاق والبذل، والعصمة من الذنوب، من تسويل الشيطان، وإغوائه النفس الأمارة خوف الفقر والإعدام، وتزيينه المعاصي والفواحش، ثم [ذيله] بما هو العمدة فيه، وهو قوله:{واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} المشتمل على سعة الإفضال والغفران، ووفور العلم بأحوال العباد ومصالحهم، وما هو خير لهم في الدارين؛ ليكون تمهيدا لذكر ما هو أجل المواهب وأسنى المطالب، من إيتاء الحكمة، ومعرفة مكائد النفس الأمارة، وخطرات الشيطان، ومعرفة لمة الملك ولمة الشيطان، فعند ذلك يتنبه الطالب على أمر خطير، فاضطر إلى السؤال بلسان الحال – إلى أن قال – هذه الموهبة عامة، أو هي مختصة ببعض دون بعض، فنودي من سرادقات الجلال {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} أي خصه الله تعالى بالحكمة، ووفقه للعلم والعمل، ثم أبتعه بقوله:{ومَا يَذَّكَّرُ إلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [تعريضا] بمن لا يتفطن بهذا البيان الشافي، ولم يفرق بين اللمتين، ووهم أن الحكمة غير العلم والعمل.

وبهذا الاعتبار قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهرودي قدس الله سره: إنما يطلع على معرفة اللمتين وتمييز الخواطر طالب مريد يتشوق لذلك تشوق العطشان إلى الماء لما يعلم من موضع ذلك، وخطره، وصلاحه، وفساده. وليعلم أن الخواطر بمثابة البذر، فمنها ما هو بذر السعادة، ومنها ما هو بذر الشقاوة، وسبب اشتباه الخواطر أربعة أشياء لا خامس لها: إما ضعف

ص: 526

75 -

وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم)). رواه أبو داود. وسنذكر حديث عمرو بن الأحوص في باب خطبة يوم النحر إن شاء الله تعالى. [75]

الفصل الثالث

76 -

عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يبرح الناس يتساءلون، حتى

ــ

اليقين، أو قلة العلم بمعرفة صفات النفس وأخلاقها، أو متابعة الهوى بخرم قواعد التقوى، أو محبة الدنيا جاهها ومالها، وطلب الرفعة والمنزلة عند الناس؛ فمن عصم عن هذه الأربعة، يفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومن ابتلي بها لا يعلمهما ولا يتطلبهما – وإن كشف بعض الخواطر دون بعض – لوجود بعض هذه الأربعة دون البعض، وأقوم الناس بتمييز الخواطر أقومهم بمعرفة النفس، ومعرفة عشر المثال لا يكاد يتيسر إلا بعد الاستقصاء في الزهد والتقوى.

قال: واتفق المشايخ على أن من كال أكله من الحرام، لا يفرق بين الإلهام والوسوسة. قال أبو علي الدقاق:[من كان قوته معلوما، لا يفرق بين الإلهام والوسوسة].

الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الله أحد)) ((مظ)): يعني قولوا في رد هذه الوسوسة: الله تعالى ليس مخلوقا، بل هوأحد، و ((الأحد)) هو الذي لا ثاني ولا مثل له في الذات والصفة، و ((التفل)) إسقاط البزاق من الفم، أي ليلق البزاق من الفم ثلاث مرات، وهو عبارة عن كراهة الرجل الشيء ونفوره عنه، مراغما للشيطان، وتبعيدا له. و ((الاستعاذة)) طلب المعاونة من الله الكريم على دفع الشيطان الرجيم.

أقول: الصفات الثلاث منبهة على أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مخلوقا، أما ((أحد)) فمعناه: الذي لا ثاني له ولا مثل، فإذا جعل مخلوقا لم يكن أحدا على الإطلاق؛ لأن خالقه أولى بالأحدية، والصمد هو السيد الذي يرجع الناس في أمورهم وحوائجهم إليه فيكون ذلك الخالق أولى منه ((ولم يولد)) تصريح في المنفي. ((ولم يلد، ولم يكن له كفوا أحد)) يناديان بأنه إذا لم يكن له الكفو الذي هو المساوي، والولد الذي هو دونه في الإلهية، فأحرى بأن لا يكون فوقه شيء، والفرق بين الواحد والأحد مر في الحديث السابع عشر من الباب الأول.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أنس: قوله: ((لن يبرح)) ((غب)): برح ثبت في البراح، وهو المكان المتسع

ص: 527

يقولوا: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله عز وجل؟)) رواه البخاري، ولمسلم:((قال: قال الله عز وجل: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله عز وجل؟)).

77 -

وعن عثمان بن أبي العاص، قال: قلت: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا)) ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. رواه مسلم. [77]

78 -

وعن القاسم بن محمد: أن رجلا سأله فقال: إني أهم في صلاتي فيكثر ذلك علي، فقال له: امض في صلاتك، فإنه لن يذهب ذلك عنك حتى تنصرف وأنت تقول: ما أتممت صلاتي. رواه مالك. [78]

ــ

الظاهر، ومنه قولك: لا أبرح، وخص بالإثبات؛ لأن برح وزال اقتضيا معنى النفي، و ((لا)) للنفي، والنفيان يحصل منهما الإثبات. قوله:((هذا الله)) مبتدأ وخبره و ((خلق الخلق)) استئناف، أو حال، وقد مقدرة، والعامل معنى اسم الإشارة، أو ((هذا)) مبتدأ و ((الله)) عطف بيان، و ((خلق الخلق)) خبره، ومعنى الحديث سبق في الفصل الأول.

الحديث الثاني عن عثمان: قوله: ((حال)) أصل الحول تغير الشيء، وانفصاله من غيره باعتبار التغير. وقيل: حال الشيء يحول حؤولا واستحالة تهيأ لأن يحول، وباعتبار الانفصال قيل: حال بيني وبنك كذا. قوله: ((يلبسها)) يخلطها ويشككني فيها، والجملة بيان لقوله:((حال)) وما يتصل به.

وقوله: ((خنزب)) بخاء معجمة مكسورة، ثم نون ساكنة ثم زاي مكسورة أو مفتوحة، ويقال أيضا: بفتح الخاء والزاي، حكاه القاضي عياض، ويقال أيضا: بضم الخاء وفتح الزاي على ما في النهاية.

الحديث الثالث عن القاسم بن محمد: قوله: ((فإنه لن يذهب)) الضمير للشأن، والجملة بيان

ص: 528

باب الإيمان بالقدر

الفصل الأول

79 -

عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنه)) قال: ((وكان عرشه على الماء)). رواه مسلم [79].

ــ

له، والمشار إليه بقوله:((ذلك الوهم)) المعني به الوسوسة، المعنى: لا تذهب عنك تلك الخطرات الشيطانية، حتى تقول للشيطان:((صدقت)) ما أتممت صلوتي؛ لكن لا أقبل قولك، ولا أتمها إرغاما لك ونقضا لما أردته مني. وهذا أصل عظيم لدفع الوساوس وقمع هواجس الشيطان في سائر الطاعات، قال الجوهري: وهمت بالشيء - بالفتح - أهم وهما إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره، ووهمت في الحساب أو هم وهما إذا غلطت فيه وسهوت.

باب الإيمان بالقدر

الفصل الأول

الحديث الأول عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((مقادير الخلائق)) المقادير جمع مقدار، وهو الشيء الذي يعرف به قدر شيء كالميزان والمكيال. ويستعمل بمعنى المقدر. ((قض)): قوله: ((كتب الله)) معناه أجرى القلم على اللوح المحفوظ بتحصيل ما بينهما من التعلق، وأثبت فيه مقادير الخلائق، على وفق ما تعلقت به إرادته أزلا، إثبات الكاتب ما في ذهنه بقلمه على لوحه، أو قدر وعين مقاديرهم تعيينا ثابتا لا يتأتى خلافه. وقوله:((بخمسين ألف سنة)) معناه طول الأمد، وتمادي ما بين التقدير والخلق من المدد، أو تقديره ببرهة من الدهر الذي يوم منه ((كألف سنة مما تعدون)) وهو الزمان، أو من الزمان نفسه.

فإن قلت: كيف يحمل على الزمان ولم يخلق الزمان، ولا ما يتحدد به من الأيام والشهور، والسنين؟ قلت: يحمل الزمان على مقدار ما هو عليه الآن عند حصول ما يتجدد به، كقوله تعالى:{وَإنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} .

((حس)): الإيمان بالقدر فرض لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوم المحفوظ قبل أن خلقهم، قال الله تعالى:{واللَّهُ خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُونَ} فالإيمان، والكفر، والطاعة، والعصية كلها بقضاء الله وقدره، وإرادته ومشيئته،

ص: 529

80 -

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)) رواه مسلم [80].

ــ

غير أنه يرضى الإيمان والطاعة، ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية، وأوعد عليهما العقاب، قال الله تعالى:{ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . والقدر سر من أسرار الله تعالى لم يطلع عليه ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، لا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل، بل يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلا، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلا، قال الله تعالى:{ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ والإنسِ} وقد: سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن القدر، قال: طريق مظلم لا تسلكه. فأعاد السؤال، فقال: سر الله قد خفي عليك فلا تقتشه.

الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((كل شيء بقدر)) والقدر بالفتح والسكون يا يقدره الله من القضاء، وبالفتح اسم لما صدر مقدورا على فعل القادر، كالهدم لما صدر عن فعل الهادم، يقال: قدرت الشيء خفيفة وثقيلة بمعنى فهو قدر أي مقدور، والتقدير تبيين الشيء.

قوله: ((حتى العجز والكيس)) قوبل الكيس بالعجز على المعنى؛ لأن المقابل الحقيقي للكيس البلادة، وللعجز القوة، وفائدة هذا الأسلوب تقييد كل من اللفظين بما يضاد الآخر، يعني: الكيس، والقوة، والبلادة، والعجز من قدر الله، فهو رد على من يثبت القدرة لغير الله مطلقا، ويقول: إن أفعال العباد خيرها وشرها مستندة إلى قدرة العبد واختياره؛ لأن مصدر الفعل الداعية، ومنشأها القلب الموصوف بالكياسة والبلادة، ثم القوة والضعف، ومكانهما الأعضاء والجوارح إذا كانت بقدر الله وقضائه، فأي شيء يخرج منهما.

((تو)): ((الكيس)) جودة القريحة، وإنما أتى به في مقابلة العجز؛ لأنه هو الخصلة التي تفضي بصاحبها إلى الجلادة، وإتيان الأمور من أبوابها، وذلك نقيض العجز؛ ولهذا المعنى كنوا به عن الغلبة فقالوا: كايسته فكسته أي غلبته، والعجز ها هنا عدم القدرة، وقيل: ترك ما يجب عيه فعله بالتسويف والتأخير له. و ((العجز، والكيس)) يروى بالرفع فيهما عطفا على ((كل)) وبالخفض على ((شيء))، والأوجه أن يكون ((حتى)) في الكسر حرف خفض بمعنى إلى، ومعنى الحديث يقتضي الغاية؛ لأنه أراد بذلك أن اكتساب العباد وأفعالهم كلها بتقدير خالقها، حتى الكيس الذي يوصل صاحبه إلى البغية، والهجز الذي يتأخر به عن درك البغية.

ص: 530

81 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى؛ قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض؟ قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن

ــ

((مظ)): الكيس والكياسة كمال العقل، وشدة معرفة الرجل الأمور، وتمييز ما فيه النفع مما فيه الضر، يعني: من كان عاجزا وضعيفا في الجثة، أو الرأي والتمييز، أو ناقص الخلقة لا يعير، فإن ذلك بتقدير الله وخلق الله تعالى إياه على هذه الصفة، ومن كان كامل العقل بصيرا بالأمور، تام الجثة فهو أيضا بتقدير الله وخلقه تعالى إياه على هذه الصفة، وليس ذلك بقوته وقدرته؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. أقول: الوجه الذي يقتضيه سياق الحديث ما ذهب إليه التوبشتي.

الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((احتج آدم وموسى)) أي تحاجا.

وقوله: ((فحج آدم موسى)) عليهما السلام، أي غلب عليه بالحجة، بأن ألزمه أن جملة ما صدر عنه لم يكن هو مستقلا بها، متمكنا من تركها، بل كانت أمرا مقضيا.

وقوله: ((قال موسى: أنت آدم)) إلى آخره، جملة مبينة لمعنى ((فحج آدم موسى)) ومفسرة للجملة ثم أعاد ((فحج آدم موسى)) آخر الحديث، فذلكة للتفصيل تقريرا وتثبيتا للأنفس على توطين هذا الاعتقاد.

وقوله: ((أنت آدم الذي خلقت الله)) والظاهر خلقه ليعود إلى الموصول، لكن عدل إلى الخطاب مطابقة لقوله:((أنا الذي سمتني أمي حيدرة)) أي سمته، و ((خلقك الله)) تعالى ((بيده)) [أي بقدرته]، خصه بالذكر إكراما وتشريفا له، وأنه خلق إبداعا من غير واسطة أرحام، فإن هذا نوع إكرام له لقوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ} ، و ((من روحه)) أضاف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وتشريفا، أي من الروح الذي هو مخلوقه، ولا يد لأحد فيه، ((اصطفاك الله)) أي جعلك خالصا صافيا عن شائبة ما لا يليق بك وبكلامه، فيه تلميح إلى قوله تعالى:{وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن

ص: 531

أخلق قال: موسى بأربعين عاما. قال آدم: فهل وجدت فيها (وعصى آدم ربه فغوى)؟ قال: نعم. قال: افتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فحج آدم موسى)). رواه مسلم. [81]

ــ

كَلَّمَ اللَّهُ}. ((فيها تبيان كل شيء)) أي أعطاك التوراة فيها تبيان لكل شيء من الإخبار بالغيوب، والقصص، والحلال، والحرام، والموعظة، وغير ذلك، وهو من قوله تعالى:{وكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} . ((وقربناه نجيا)) أي خصك بالنجوى، النجي المناجي الواحد والجمع سواء، هو من يخاطب الإنسان ويحدثه سرا، هو من قوله تعالى:{ونَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وقَرَّبْنَاهُ نَجِيًا} . و ((فبكم وجدت)) أي فبكم زمانا وجدت الله أمر بكتبه التوراة قبل أن يخلقني.

((تو)): ليس معنى قول آدم عليه السلام: ((كتب الله على)) ألزمه إياي وأوجبه علي، فلم يكن لي في تناول الشجرة كسب واختيار، وإنما المعنى: إن الله تعالى أثبته في أم الكتاب قبل كوني، وحكم بأن ذلك كائن لا محالة لعلمه السابق، فهل يمكن أن يصدر عني خلاف علم الله. فكيف تغفل عن العلم السابق، وتذكر الكسب الذي هو السبب، وتنسى الأصل الذي هو القدب؛ وأنت ممن اصطفاك الله من الصطفين الأخيار، الذين يشاهدون سر الله من وراء الأستار؟

واعلم أن هذه القصة تشتمل على معاني محررة لدعوى آدم عليه السلام، مقررة لحجته، منها: أن هذه المحاجة لم تكن في عالم الأسباب الذي لم يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب وإنما كانت في العالم العلوي عند ملتقى الأرواح. ومنها: أن آدم احتج بذلك بعد اندفاع موجب الكسب منه، وارتفاع أحكام التكليف عنه. ومنها: أن اللائمة كانت بعد سقوط الذنب، ووجوب المغفرة.

أقول – والعلم عند الله -: مذهب أهل الجبر إثبات التقدير لله تعالى ونفي القدرة عن العبد أصلا، والمعتزلة بخلافه، كما سبق. وكل الفريقين من الإفراط والتفريط على شفا جرف هار، والمنهج القويم والصراط المستقيم، القصد بين الأمرين، كما هو مذهب أهل السنة، إذ لا يقدر أحد أن يسقط الأصل الذي هو القدر، ولا أن يبطل الكسب الذي هو السبب، فلما جعل موسى عليه السلام مساق كلمه وقصته إلى الثاني، بأن صدر الجملة بحرف الإنكار والتعجب وصرح

ص: 532

82 -

وعن ابن مسعود، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك،

ــ

باسم آدم ووصفه بصفات أربع كل واحدة منها مستقلة. . . في علية عدم ارتكابه الخطيئة، ثم جاء بكلمة الاستبعاد في قوله:((ثم أهبطت)) فأسند الإهباط إليه على الحقيقة، والله سبحانه وتعالى هو المهبط في الحقيقة لقوله تعالى:{قُلْنَا اهْبِطُوا} وقرن الإهباط بالأرض، والإهباط لا يكون إلا إليها؛ ليؤذن بسفالتها التي تورث الخساسة والزذالة، كما قال الله تعالى:{ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ} الآية، بل الغرض الأول من ذلك الإنكار البليغ هذا لقوله:((ثم أهبطت الناس)) كأنه صلى الله عليه وسلم قال: ما أبعد هذه السفالة عن تلك المعالي والمناصب! أجاب عنه صلى الله عليه وسلم بما يقابلها، بل أبلغ من تصدير الجملة بالهمزة، وتصريح اسم موسى ووصفه أيضا بصفات أربع كل واحدة منها مستندة في عليه عدم ذلك الإنكار عليه، ثم رتب العلم الأزلي على ذلك، ثم أتى بدل كلمة الاستبعاد بهمزة الإنكار في قوله:((أفتلومني)) وحذف ما تقتضيه الهمزة، والفاء العاطفة من الفعل أي أتجد في التوراة هذا النص الجلي، فتلومني على ذلك؟ فما أبعده من إنكار! وفي هذا التقرير تنبيه على ما قصدناه، من أن تحري قصد الأمور هو الصواب، ثم إنه صلى الله عليه وسلم ختم الحديث بقوله:((فحج آدم موسى)) بعد افتتاحه وبيانه بقوله: ((قال موسى: أنت آدم)) إلى آخر الحديث مجملا أولا، ومفصلا ثانيا، ومعيدا له ثالثا تنبها على أن بعض أمته من المعتزلة ينكر حديث القدر، فاهتم لذلك وبالغ في الإرشاد، ويحتمل أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام صدر الحديث بقوله: ((فحج)) تحريما للدعوى، وختمه به إثباتا لها، فعلى هذا تكون الفاء في الأول للعطف، وفي الآخر للنتيجة. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الحديث الرابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((وهو الصادق المصدوق)) الأولى أن تجعل الجملة الأولى اعتراضية لا حالية؛ ليعم الأحوال كلها، وأن يكون من عادته ودأبه ذلك فما أحسن موقعه هنا. قوله:((إن خلق أحدكم)) أي ما يخلق منه أحدكم يقرر ويحرز في بطنها.

وقال في النهاية: ويجوز أن يكون يريد بالجمع مكث النطفة في الرحم أربعين يوما، أي تمكث النطفة في الرحم تتخمر فيها، حتى تتهيأ للخلق. ((خط)): روي عن ابن مسعود في تفسير هذا الحديث: ((إن النطفة إن وقعت في الرحم، فأراد الله أن يخلق منها بشرا، طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تنزل دما في الرحم، فذلك جمعها)). والصحابة أعلم الناس بتفسير ما سمعوه، وأحقهم بتأويله، وأولاهم بالصدق فيما يتحدثون به، وأكثرهم احتياطا للتوقي عن خلافه، فليس لمن بعدهم أن يرد عليهم.

ص: 533

ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: فيكتب عمله وأجله ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)). متفق عليه.

ــ

وقوله: ((علقة)) وهي الدم الغليظ الجامد، و ((ذلك)) إشارة إلى محذوف أي مثل ذلك الزمان. ((والمضغة)) هي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ. و ((النطفة)) الماء القليل. وفي الحديث ((جاء رجل بنطفة في إداوة)) وبه سمى المني نطفة لقلتها. وقيل: سميت بها لنطافتها – أي سيلانها، من قولهم: ماء ناطف أي سيال – و ((الكلمات)) القضايا المقدرة، وكل قضية تسمى كلمة، قولا كان أو فعلا.

((قض)): ((ثم يبعث الله إليه ملكا)) أي يبعث إليه الملك في الطور الرابع حينما يتكامل بنيانه، وتتشكل أعضاؤه، فيعين وينقش فيه ما يليق به من الأعمال والأعمار والأرزاق حسب ما اقتضته حكمته، وسبقت كلمته، فمن وجده مستعدا لقبول الحق واتباعه، ورآه أهلا للخير، وأسباب الصلاح متوجها إليه أثبته في عداد السعداء، وكتب له أعمالا صالحة تناسب ذلك ومن وجده كذا جافيا، قاسى القلب، ضاريا بالطبع، متنائيا عن الحق، أثبت ذكره في ديوان الأشقياء الهالكين، وكتب له ما يتوقع منه من الشرور والمعاصي. هذا إذا لم يعلم من حاله وقوع ما يقتضي تغير ذلك، وإن علم من ذلك شيئا كتب له أوائل أمره وأواخره، وحكم عليه وفق ما يتم به عمله؛ فإن ملاك العمل خواتمه، وهو الذي يسبق إليه الكتاب، فيعمل عمل أهل الجنة.

((مظ)): اعلم أن الله تعالى يحول الإنسان في بطن أمه حالة بعد حالة، مع أنه قادر على أن يخلقه في لمحة البصر؛ وذلك أن في التحويل فوائد وعبرا، منها: أنه لو خلقه دفعة لشق على الأم؛ لأنها لم تكن معتادة لذلك، وربما يظن علة، فجعلت أولا نطفة لتعتاد بها مدة، ثم علقة مدة، وهلم جرا إلى الولادة. ومنها إظهار قدرة الله تعالى ونعمته ليعبدوه ويشكروا له، حيث قلبهم من تلك الأطوار، إلى كونهم إنسانا حسن الصورة، متحليا بالعقل والشهامة، متزينا بالفهم والفطانة. ومنها إرشاد الناس وتنبيههم على كمال قدرته على الحشر والنشر؛ لأن من قدر على خلق الإنسان من ماء مهين، ثم من علقة، ومضغة مهيأة لنفخ الروح فيه يقدر على تصييره ترابا، ونفخ الروح فيه، وحشره في المحشر للحساب والجزاء.

قوله: ((حتى ما يكون)) ((حتى)) هي الناصبة، و ((ما)) نافية ولفظة ((يكون)) منصوبة بـ ((حتى)) و ((ما)) غير مانعة لها من العمل و ((ذراع)) مثل يضرب بمعنى المقاربة إلى الدخول. قوله: ((شقي أو

ص: 534

83 -

وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم)). متفق عليه.

ــ

سعيد)) كان من حق الظاهر أن يقال: تكتب سعادته، وشقاوته، فعدل إما [حكاية] لصورة ما يكتبه، لأنه يكتب شقي أو سعيد، أو التقدير: أنه شقي أو سعيد، فعدل؛ لأن الكلام مسوق إليهما، والتفصيل وارد عليهما. و ((الفاء)) في ((فسبق)) للتعقيب على حصول السبق بلا مهلة، ضمن ((يسبق)) معنى يغلب أي يغلب عليه الكتاب وما قدر عليه سبقا بلا مهلة، فعند ذلك يعمل عمل أهل الجنة، أو أهل النار.

((خط)): فيه بيان ظاهر أن الأعمال من الحسنات والسيئات أمارات، وليست بموجبات؛ فإن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء، وجرى به القدر في البداية.

الحديث الخامس عن سهل: قوله: ((إنما الأعمال بالخواتيم)) هذا [تذييل] للكلام السابق، مشتمل على معناه لمزيد التقرير، كقولهم: حدثت الحوادث والحوادث جمة، وفلان ينطق بالحق والحق [أبلج]، وفيه أن العمل السابق ليس بمعتبر، وإنما المعتبر العمل الذي ختم به، كما لوح به حديث ابن مسعود حيث قال:((فيسبق عليه الكتاب)) إلى آخره. [شف]: وفي هذا حث على مواظبة الطاعات، ومراقبة الأوقات، وعلى حفظها عن معاصي الله تعالى خوفا عن أن يكون ذلك آخر عمره، وفيه زجر عن العجب والفرح بالأعمال، فرب متكل هو مغرور؛ [فإن العبد لا يدري ماذا يصيبه في العاقبة. وفيه أنه لا يجوز لأحد أن يشهد لأحد بالجنة أو النار] فإن أمور العبد بمشيئة الله وقدره السابق؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها:((أو غير ذلك؟)) لما قالت على سبيل القطع: ((طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة)) تم كلامه.

وفيه أيضا أن الله تعالى يتصرف في ملكه ما يشاء وكيف يشاء، وكل ذلك عدل وصواب، وليس لأحد اعتراض عليه؛ لأنه مالك والخلق مملوك، واعتراض المملوك على المالك قبيح موجب للتعذيب، قال الله تعالى:{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ} ومن ثم لما نزل {وإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} اشتد ذلك على المؤمنين، وقالوا: يا رسول الله! كيف نطيق دفع ما يجري في قلوبنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: {سَمِعْنَا وعَصَيْنَا}، قولوا: سمعنا وأطعنا)) واشتد ذلك عليهم ومكثوا زمانا، فأنزل الله تعالى فرجا بقوله:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَاّ وسْعَهَا} فلما أسلموا سهل الله عليهم الأمر، فإذا لا خلاص ولا نجاة إلا بالتسليم لقضاء الله وقدره.

ص: 535

84 -

وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله! طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال: ((أو غير ذلك يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلا،

ــ

الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((طوبى)) فعلى من الطيب، قلب الياء واوا للضمة قبلها، قيل: معنى طوبى له أطيب المعيشة له، وقيل: معناه أطيب خيرا على الكناية؛ لأن إصابة الخير مستلزم لطيب العيش له، فأطلق اللازم وأراد الملزوم. فإن قلت: قوله: ((عصفور من عصافير الجنة)) فيه إشكال؛ لأنه ليس من باب التشبيه، كما تقول: هذا كعصفور من عصافير الجنة، إذ ليس المراد أن ثمة عصفورا، وهذا مشابه به، ولا من باب الاستعارة؛ لأن المشبه والمشبه به مذكوران، لأن التقدير هو عصفور، والمقدر كالملفوظ؟ قلت: هو من باب الادعاء؛ كقولهم: تحية بينهم ضرب وجميع، وقولهم: القلم أحد اللسانين، جعل بالادعاء التحية والقلم ضربين، أحدهما المتعارف من الضرب واللسان [والآخر غير المتعارف من الضرب واللسان]، فبين في الأول بقوله: ضرب وجيع، أن المراد غير المتعارف، كما بين في الثاني بقوله: أحد اللسانين، أن المراد منه غير المتعارف، جعلت رضي الله عنها العصفور صنفين أحدهما: المتعارف، وثانيهما: الأطفال من أهل الجنة، وعنيت بقولها:((من عصافير الجنة)) أن المراد الثاني، وقولها:((لم يعمل السوء)) بيان لإلحاق الطفل بالعصفور وجعله منه، كما جعل القائل القلم لسانا بواسطة إفصاحهما عن الأمر المضمر.

وقوله: ((أو غير ذلك؟)) ((الفائق)): إن ((الهمزة)) للاستفهام، و ((الواو)) عاطفة على محذوف، و ((غير)) مرفوع بعامل مضمر تقديره: أوقع هذا أو غير ذلك؟ ويجوز أن يكون ((أو)) التي لأحد الأمرين: أي الواقع هذا، أو غير ذلك.

أقول: ويجوز أن يكون ((أو)) بمعنى ((بل)) أنشد الجوهري:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح

يريد بل أنت، وقوله تعالى:{وأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} بل يزيدون، كأنه عليه الصلاة والسلام لم يرتض قولها رضي الله عنها، فأضرب عنه، وأثبت ما يخالفه؛ لما فيه من الحكم بالغيب، والجزم بتعين إيمان أبوي الصبي أو أحدهما، إذ هو تبع لهما، ومرجع معنى الاستفهام إلى هذا؛ لأنه لإنكار الجزم، وتقرير لعدم التعيين.

ولعل الرد كان قبل إنزال ما أنزل عليه في ولدان المؤمنين، وكرر ((خلقهم)) لإناطة أمر زائد عليه، هو قوله:((وهم في أصلاب آبائهم)) اهتماما بشأنه، كما قال زهير:

ص: 536

خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)) رواه مسلم [84]

85 -

وعن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة)). قالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل على

ــ

من يلق يوما على علاته هرما يلق السماحة منه والندى خلقا

علاته بكسر العين أي كل حال، وهرما اسم رجل، وكرر (يلق)، وعلق به السماحة والندى اهتماما به.

((قض)): في الحديث إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال، وإلا لزم أن لا تكون ذراري المسلمين والكافرين من أهل الجنة والنار، بل الموجب لهما هو اللطف الرباني، والخذلان الإلهي المقدر لهم، وهم في أصلاب آبائهم، بل هم وآباؤهم وأصول أكوانهم بعد في العدم، فالواجب التوقف وعدم الجزم على شيء من ذلك.

((مح)): أجمع من يعتد به من علماء المسلمين، على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة؛ لأنه ليس مكلفا، وتوقف فيهم بعض من لا يعتد به لهذا الحديث، وأجابوا عنه: لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة.

قوله: ((لم يعمل سوءا)) ((مظ)): أي لم يعمل ذنبا يتعلق بحقوق الله تعالى، وأما إذا كان من حقوق العباد، كإتلاف مال، وقتل مسلم فيؤخذ منه الغرم والدية، وإذا سرق يؤخذ منه المال، ولم تقطع يده؛ لأنه من حقوق الله تعالى. ويحتمل أن يراد بقوله:((وهم في أصلاب آبائهم)) خلق الذرية في ظهر آدم عليه السلام، وإخراجها ذرية بعد ذرية من صلب كل والد إلى انقراض العالم.

الحديث السابع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((مقعده)) أي موضع قعوده، كنى عن كونه من أهل الجنة أو النار باستقراره فيها، و ((الواو)) المتوسطة بينهما لا يمكن أن تجري على ظاهرها؛ فإن ((ما)) النافية و ((من)) الاستغراقية تقتضيان أن يكون لكل أحد مقعد من النار، ومقعد من الجنة – وإن ورد في حديث آخر هذا المعنى – لأن التفصيل الآتي يأبى حمله على ذلك، فيجب أن يقال: إن ((الواو)) بمعنى أو. ((مظ)): قد ورد في هذا الحديث بلفظ ((أو)) في بعض الروايات، وليس في شرح السنة إلا بلفظ ((أو)).

ص: 537

كتابنا وندع العمل؟ قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له؛ أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتَّقَى (5) وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآية)). متفق عليه.

ــ

((أفلا نتكل)) أفلا نعتمد على ما كتب لنا في الأزل، ونترك العمل؟ يعني: إذا سبق القضاء لكل واحد منا بالجنة أو النار، فأي فائدة في السعي؛ فإنه لا يرد قضاء الله وقدره؟ وأجاب عليه الصلاة والسلام بقوله:((اعملوا)) وهو من الأسلوب الحكيم، منعهم صلى الله عليه وسلم عن الاتكال وترك العمل، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من امتثال أمر مولاه، وهو عبوديته عاجلا، وتفويض الأمر إليه آجلا، يعني: أنتم عبيد، ولا بد لكم من العبودية، فعليكم بما أمرتم به، وإياكم والتصرف في الأمور الإلهية، لقوله تعالى:{ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلَاّ لِيَعْبُدُونِ} فلا تجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار، بل أمارات وعلامات لها، ولا بد في الإيجاب من لطف الله وكرمه، أو خذلانه كما ورد ((ولا يدخل أحدكم الجنة بعمله)) الحديث،

فالفاء في ((فسييسر)) تفصح عن هذه المقدرات.

((خط)): إن قول الصحابي هذا مطالبة بأمر يوجب تعطيل العبودية فلم يرخص صلى الله عليه وسلم له. وذلك أن إخبار الرسول عن سابق الكتاب إخبار عن غيب علم الله تعالى فيهم، وهو حجة عليهم، فرام القوم أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ها هنا أمرين محكمين، أحدهما لا يبطل الآخر، باطن: هو الحكمة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر: وهو السمة اللازمة في حق العبودية، وهو أمارة ومخيلة غير مفيدة حقيقة العلم. ويشبه أن يكون – والله أعلم – إنما عوملوا بهذه المعاملة، وتعبدوا بهذا التعبد؛ ليتعلق خوفهم ورجاؤهم بالباطن، وذلك من صفة الإيمان، وبين عليه الصلاة والسلام لهم أن ((كل ميسر لما خلق له)) وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل، وتلا قوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتَّقَى (5) وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} {وأَمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنَى} . وهذه الأمور في حكم الظاهر، ومن وراء ذلك حكم الله تعالى فيهم ((وهو الحكيم الخبير))، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ}. واطلب نظيره من أمرين: الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، ومن الأجل المضروب مع المعالجة بالطب،

ص: 538

86 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمني وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه)) متفق عليه.

ــ

فإنك تجد المعتبر فيهما على موجبة، والظاهر البادي سببا مخيلا، وقد اصطلح الناس – خواصهم وعوامهم – على أن الظاهر منها لا يترك بالباطن. وقوله:((وكل ميسر)) أي مهيأ ومصروف إليه.

الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حظه من الزنا)) ((من)) البيانية مع ما يتصل بها حال من ((حظه)). ((أدرك)) أصاب ووصل. ((لا محالة)) ((لا)) لنفي الجنس، الجوهري: حال لونه أي تغير وحال عن العهد حولا انقلب، وحال الشيء بيني وبينك حجز، والمحالة الحيلة، يقال: المرء يعجز لا المحالة، وقولهم لا محالة: أي لا بد، يقال: الموت آت لا محالة – والجملة الثانية مرتبة على الأولى بلا حرف الترتيب، تفويضا لاستفادته إلى ذهن السامع، والتقدير: كتب الله تعالى وما كتبه لا بد أن يقع. ((كتب)) يحتمل أن يراد به أثبت، أي أثبت فيه الشهوة والميل إلى النساء، وخلق فيه العينين، والأذنين، والقلب، والفرج، وهي التي تجد لذة الزنا، وأن يراد به قدر أي قدر في الأزل أن يجري على ابن آدم الزنا، فإذا قدر في الأزل أدرك ذلك لا محالة.

قوله: ((زنا العين النظر)) إلى آخره، سمي هذه الأشياء باسم الزنا؛ لأنها مقدمات له مؤذنة بوقوعه، ونسب التصديق والتكذيب إلى الفرج؛ لأنه منشؤه ومكانه، أي يصدقه بالإتيان بما هو المراد منه، ويكذبه بالكف عنه والترك.

((فا)) في قوله: ((كذب عليك الحج)): ((كذب)) كلمة جرت مجرى المثل في كلامهم، وهي في معنى الأمر، كأنه يريد أن ((كذب)) ههنا تمثيل لإرادة معنى: اترك ما سولت لك نفسك من التواني في الحج، ثم استأنف بقوله:((اقصد الحج)) فشبه إيجاب الحج عليه بسبب تهيؤ أسبابه ووجوب استطاعته، ثم تقاعده عنه، كأنه يقول: لم يجب عليك الحج؟ فقيل: كذب عليك الحج، على سبيل التأكيد، وكذا ما نحن بصدده من الاستعارة التمثيلية، شبهت صورة حال الإنسان، من إرساله الطرف – الذي هو رائد القلب – إلى النظر إلى المحارم، وإصغائه الأذن إلى السماع، ثم انبعاث القلب إلى الاشتهاء والتمني، ثم استدعائه منه قصارى ما يشتهي ويتمنى باستعمال الرجلين في المشي، واليدين في البطش، والفرج في تحقيق مشتهاه، فإذا مضى الإنسان على ما استدعاه القلب حقق متمناه، وإذا امتنع عن ذلك خيبه فيه، بحالة رجل يخبره صاحبه بما يزينه له ويغريه عليه، فهو إما يصدقه بذلك ويمضي إلى ما أراده منه، أو يكذبه ويأبى عما دعاه إليه، ثم استعمل في حال المشبه ما كان مستعملا في جانب المشبه به، من التصديق والتكذيب؛ ليكون قرينة للتمثيل، وكأن الحماسي نظر إلى هذا المعنى حيث قال:

ص: 539

وفي رواية لمسلم قال: ((كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)).

87 -

وعن عمران بن حصين: أن رجلين من مزينة قالا: يا رسول الله! أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه؟ أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر سبق، أو

ــ

وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

الإسناد في قوله: ((الفوج يصدقه أم يكذبه)) مجازي؛ لأن الحقيقي هو أن يسند إلى الإنسان، فأسنده إلى الفرج؛ لأنه مصدر الفعل والسبب القوي.

الحديث التاسع عن عمران: قوله: ((أرأيت)) معناه أخبرني، من إطلاق السبب على المسبب؛ لأن مشاهده الأشياء طريق الإخبار عنها، و ((الهمزة)) فيه مقررة أي قد رأيت ذلك فأخبرني. ((الكدح)) جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها، من كدح جلده إذا خدشه، كذا في الكشاف. و ((من)) في ((من قدر)) يجوز أن تكون بيانا ((لشيء)) فيكون القضاء والقدر شيئا واحدا، وأن تكون ابتدائية متعلقة بـ ((قضي)) أي قضى عليهم لأجل قدر سبق، وقضاء نشأ وابتدأ من قدر، فيكون القدر سابقا على القضاء.

((نه)): المراد بالقدر التقدير، وبالقضاء الخلق، كقوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أي خلقهن، فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما يمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فمن رام التفصيل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه.

((غب)): القضاء من الله أخص من القدر؛ لأن الفصل بين التقدير، والقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع، وقد ذكر بعض العلماء: أن القدر بمنزلة المعد للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل؛ ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما لما أراد الفرار من الطاعون بالشام:((أتفر من القضاء؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله)) تنبيها على أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله، فإذا قضى فلا مدفع له، ويشهد بذلك قوله عز وجل:{كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًا} تنبيها على أنه صار بحيث لا يمكن تلافيه.

وأقول: يؤيد هذا حديث الرقى كما سيجيء، وهذا البيان هو الذي وعدناه في حديث جبريل

ص: 540

فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: ((لا، بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا} رواه مسلم. [87]

88 -

وعن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول الله! إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء، كأنه يستأذنه في الاختصاء،

ــ

عليه السلام، ونقلنا عن القاضي خلاف ذلك. ومما يؤاخيه أن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل فقال: أشكل على قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((جف القلم بما أنت لاق)) فأجاب: إنها شئون يبديها، لا شئون يبتديها، فقام عبد الله وقبل رأسه.

قال بعض العارفين: إن القدر كتقدير النقاش الصورة في ذهنه، والقضاء كرسمه تلك الصورة للتلميذ بالأسرب، ووضع التلميذ الصبغ عليها متبعا لرسم الأستاذ هو الكسب والاختيار، والتلميذ في اختياره لا يخرج عن رسم الأستاذ، كذلك العبد في اختياره لا يمكنه الخروج عن القضاء والقدر، ولكنه متردد بينهما.

قوله: ((أو فيما يستقبلون به مما آتاهم به نبيهم)) كذا في صحيح مسلم، وكتاب الحميدي، وجامع الأصول، ووقع في نسخ المصابيح ((أم فيما يستقبلون؟)) فقال:((لا، بل شيء قضى عليهم)).

أقول: على كلتا الروايتين ليس السؤال عن تعيين أحد الأمرين، إذ الجواب – وهو قوله – عليه الصلاة والسلام:((لا، بل)) – غير مطابق له، وإذا تقرر هذا فـ ((أم)) منقطعة، و ((أو)) بمعنى بل، وتحريره: أن السائل لما رأى الرسل يأمرون أممهم وينهونهم، اعتقد أن الأمر أنف، كما زعمت المعتزلة، فسأل أولا عن الأمر أهو شيء مقدر؟ ثم بدا له وأضرب عن ذلك، واستأنف فقال: أهو واقع فيما يستقبلون به؟ والهمزة للتقرير؛ فلذلك نفى رسول الله – عليه الصلاة والسلام – ما أثبته، وقرره وأكده بـ ((بل)) ولو كان السؤال عن التعيين لقال: أشيء قضى عليهم، أم شيء يستقبلونه بالتكلم، بل غير العبارة وعدل إلى الغيبة، وعمم الأمم كلها وأنبياءهم، فدل ذلك على صحة ما قلناه، من إضرابه عن السؤال الأول إلى الثاني.

الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((العنت)) العنت الإثم، قال الله

ص: 541

قال: فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر)) رواه البخاري.

ــ

تعالى: {} يعني – الفجور والزنا – قوله: ((في الاختصاء)) خصيت الفحل خصاء – ممدودا – إذا سللت خصيته. و ((جف القلم)) يقال: جف الثوب وغيره يجف بالكسر جفافا وجفوفا إذا ابتل ثم جف، وفيه نداوة. ((تو)): وهو كناية عن جريات القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها، أقول: هذا من باب إطلاق اللازم على الملزوم؛ لأن الفراغ بعد الشروع يستلزم جفاف القلم عن مراده.

((مظ)): والمعنى: إن ما كان وما يكون قدر في الأزل فلا فائدة في الاختصاء، فإن شئت فاختص، وإن شئت فاترك، وهذا ليس منه إذنا له، بل هو توبيخ ولوم على استئذانه قطع العضو من غير فائدة، كقوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} .

((تو)): لم نجد هذا اللفظ أي ((جف القلم)) مستعملا على هذا الوجه فيما انتهى إلينا من كلام العرب، إلا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراها من الألفاظ المستعارة التي لم يهتد إليها البلغاء، فاقتضتها الفصاحة النبوية، وما ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ((فاختصر على ذلك أو ذر))، فالصواب ((فاختص)) بتخفيف الصاد من الاختصاء، وكذلك يرويه المحققون من علماء النقل، وقد صحفه بعض أهل النقل فراه على ما هو في كتاب المصابيح، ولا يكاد يتلبس ذلك إلا على عوام أصحاب الرواية، أو على من انتهى إليه الحديث مختصرا على ما هو في المصابيح، وأما من كان معتنيا بضبط الألفاظ، واتباع المعاني فلا يخفى عليه وجه الصواب، إذا استوعب طرق هذه الحديث. وقد روى هذا الحديث مستوفى في كتب أهل العلم من وجوه. قال المؤلف: الحديث في صحيح البخاري، وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي، وفي شرح السنة، وفي بعض نسخ المصابيح مذكور – كما ذكر التوربشتي – بصاد مكسورة بغير ياء بعدها.

((شف)): معنى الرواية بالراء بعد الصاد الاختصار، وهو حذف المطولات من الكلام، والاقتصار على الألفاظ القليلة الدالة على المعنى، فإذا المعنى: اعلم أنه قد سبق في علم الله تعالى جميع ما يصدر عنك ويأتيك فاقتصر على ذلك؛ فإن الأمور مقدرة فيما سبق، أو ذر ودع ولا تخض فيه.

((قض)): ((أو)) للتسوية، ومعناه: إن الاختصار على التقدير والتسليم له، وتركه والإعراض عنه سواء؛ فإن ما قدر لك من خير أو شر فهو لا محالة لاقيك، وما لم يكتب فلا حيلة ولا طريق إلى حصوله لك. وأقول: على ذلك في رواية: ((اختصر)) متعلق بالفعل على تضمين

ص: 542

89 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه كيف يشاء)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) رواه مسلم. [89].

ــ

((اختصر)) لمعنى ((اقتصر))، أي اقتصر على ما ذكرت لك، واترك الاختصاء، وارض بقضاء الله، أو رد ما ذكرته، وامض لشأنك، واختص، فيكون تهديدا، وعلى رواية (اختص علي)) متعلق بمحذوف هو حال من المستكن في اختص؛ والمعنى اختص في حال عرفانك أن القمل جف ما هو كائن، فيكون حالك مخالفا للمؤمنين، أو ذر الاختصاء، وأذعن وأسلم لقضاء الله؛ فعلى هذا يكون الأول للتهديد على عكس السابق، و ((أو)) على التقديرين للتخيير.

الحديث الحادي عشر عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((بين إصبعين)) ((تو)): هذا الحديث ليس من جملة ما يتنزه السلف عن تأويله، كأحاديث السمع، والبصر، واليد وما يقاربها في الصحة والوضوح؛ فإن ذلك يحمل على ظاهره، ويجري بلفظه الذي جاء به من غير أن يشبه بمسميات الجنس، أو يحمل على معنى الاتساع والمجاز، بل يعتقد أنها صفات الله تعالى لا كيفية لها؛ وإنما تنزهوا عن تأويل هذا القسم، لأنه لا يلتئم معه، ولا يحمل ذلك على وجه يرتضيه العقل، إلا ويمنع منه الكتاب والسنة من وجه آخر. وأما ما كان من قبيل هذه الحديث، فإنه ليس في الحقيقة من أقسام الصفات؛ ولكن ألفاظه مشاكلة لها في وضع الاسم، فوجب تخريجه على ما يناسب نسق الكلام، وعلى ما يقتضيه من المعنى؛ ليقع الفصل بين هذا الضرب وبين ما لا يدخل فيه المجاز والاتساع. وقد أجرى بعض الأولين ((الإصبع)) في الحديث مجرى قول العرب للراعي على ماشيته: إصبح حسن أي أثر حسن، وذكر في قول القائل:

ضعيف القفا بادي العروق يرى له عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا.

وهذا من باب التعسف في التأويل؛ لأنه لا يناسب نسق الكلام، انتهى كلامه.

واعلم أن للناس فيما جاء من صفات الله ما يشبه صفات المخلوقين تفصيلا، وذلك أن المتشابه قسمان: قسم يقبل التأويل، وقسم لا يقبله، بل علمه مختص بالله تعالى، ويقفون عند قوله:{ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَاّ اللَّهُ} كالنفس في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ولا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} والمجيء في قوله: {وجَاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفًا صَفًا} وتأويل فواتح السور، مثل {حَمْ} و {الم} من هذا القبيل.

ص: 543

ــ

وذكر شيخنا شيخ الإسلام شهاب الدين أبو حفص السهرودي – قدس الله سره – في كتاب العقائد: أخبر الله عز وجل أنه استوى، فقال الله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} وأخبر رسوله عليه الصلاة والسلام بالنزول، وغير ذلك مما جاء في اليد، والقدم، والتعجب، والتردد وكل ما ورد من هذا القبيل دلائل التوحيد، فلا يتصرف فيها بتشبيه وتعطيل، فلولا إخبار الله تعالى وإخبار رسوله، ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى، وتلاشى دون ذلك عقل العقلاء، ولب الألباء.

أقول: هذا المذهب هو المعتمد عليه، وبه يقول السلف الصالح، ومن ذهب إلى القسم الأول شرط في التأويل أن ما يؤدي إلى تعظيم الله تعالى وجلاله وكبريائه فهو جائز، فعلى هذا معنى الحديث: أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء، لا يمتنع منها شيء ولا يفوته ما أراده، كما يقال: فلان في قبضتي أي في كفي، لا يراد به أنه حال في كفه، بل المراد تحت قدرتي، ويقال: فلان بين إصبعي أقلبه كيف شئت أي أنه هين علي قهره والتصرف فيه كيف شئت. ومالا تعظيم فيه فلا يجوز الخوض فيه، فكيف بما يؤدي إلى التشبيه والتجسيم؟ وهذا التقسيم خاص. وأما قول التوربشتي: وهذا من باب التعسف في التأويل، فجوابه أنهم يطلقون اليد على القدرة؛ لأنها مصدرها ومنشؤها؛ وإنما يستعملونها فيها إرادة للمبالغة في مزاولة العمل، فإذا نظروا في دقة العلم وحسن الصنع قالوا: إن له فيه إصبعا؛ لأن الأصابع منشؤها الحذق في الصناعة واللطف فيها، كالكتابة والصناعة ونحوهما.

ولما كانت داعيتا الخير والشر مصدرهما القلوب، وتقلبهما في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية أمر تتحير فيه العقول، ولا تنتهي إليها الأوهام، وليس ذلك إلا بتصرف الملك العلام، ناسب ذكره نسق الكلام، والله أعلم.

قالوا: المراد بالإصبعين صفت الله تعالى وهما صفتا الجلال والإكرام، فبصفة الجلال يلهمها فجورها، وبصفة الإكرام يلهمها تقواها، أي يقلبها تارة من فجورها إلى تقواها، بأن يجعلها تقية بعد أن كانت فاجرة، ويعدلها أخرى عن تقواها إلى فجورها، بأن يجعلها فاجرة بعد أن كانت تقية، قال الله تعالى:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا} .

((قض)): نسب تقلب القلوب إلى الله تعالى إشعارا بأن الله تعالى إنما تولى بنفسه أمر قلوبهم، ولم يكله إلى أحد من ملائكته، وخص ((الرحمن)) بالذكر إيذانا بأن ذلك التولي لم يكن إلا بمحض رحمته وفضل نعمته؛ كيلا يطلع على أحد غيره على سرائرهم، ولا يكتب عليهم ما في ضمائرهم.

ص: 544

90 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على

ــ

وقوله: ((كقلب واحد)) قالوا: يعني كما أن أحدكم يقدر على شيء واحد، الله تعالى يقدر على جميع الأشياء دفعة واحدة، ولا يشغله شأن عن شأن. أقول: ليس المراد أن التصرف في القلب الواحد أسهل عليه تعالى من التصرف في القلوب كلها؛ فإن ذلك عند الله سبحانه وتعالى سواء، وقال الله تعالى:{إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ولكن ذلك راجع إلى العباد وإلى ما شاهدوه وعرفوا ذلك فيما بينهم، كقوله سبحانه:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي أهون فيما يجب عندكم، وينقاس على أصولكم، ويقتضيه معقولكم، وإلا فالإبداء والإنشاء سواء عند الله تعالى. و ((كيف يشاء)) يجوز أن يكون حالا على التأويل أي هينا فالإبداء والإنشاء سواء عند الله تعالى. و ((كيف يشاء)) يجوز أن يكون حالا على التأويل أي هينا سهلا سريعا لا يمنعه مانع؛ لأنه جواب كيف، وأن يكون مصدرا محذوفا على التأويل أي يقلبها تقليبا سريعا سهلا لا يمنعه من التصرف فيها مانع.

و ((اللهم)) الميم فيها عوض من ياء؛ ولذلك لا يجتمعان، قال الزجاج في قوله تعالى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ} : زعم سيبويه أن هذا الاسم لا يوصف؛ لأنه قد ضمت إليه الميم. وما بعده منصوب بالنداء. والقول عندي: أنه صفة فكما لا يمتنع الصفة مع يا فلا يمتنع مع الميم. قال أبو علي: قول سيبويه عندي أصح؛ لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد ((اللهم)) ولذلك خالف سائر الأسماء، ودخل في حيز ما لا يوصف نحو حيهل؛ فإنهما صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف.

أقول: ويساعد قول سيبويه مقام التضرع والابتهال؛ فإنه استغاث أولا بقوله: يا الله، ثم أعاد النداء مقررا لمعنى الاستغاثة، ولذلك أطنب في الكلام، إذ لو قيل:((اللهم صرف قلوبنا على طاعتك)) لكان كافيا في الظاهر، وفي جمع القلوب إشعار برأفته ورحمته على الأمة – عليه الصلاة والسلام – ويجوز أن يكون معنى الدعاء في هذا المقام، أنه صلى الله عليه وسلم لما قال:((إن قلوب بني آدم)) أخطر في خلده – عليه الصلاة والسلام – ما عسى أن يتوهم متوهم خلاف الشمول، وأن مثل الأنبياء خارجون عن هذا الحكم، فأزيل التوهم بكلمة الشمول، ثم خص نفسه بالتضرع والابتهال إعلاما بأن نفسه القدسية الطاهرة المصطفوية إذا كانت مفتقرة إلى اللجأ منه إليه، كما قال:((أعوذ بك منك)) كان غيره أولى وأحرى.

الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما من مولود)) مبتدأ و ((يولد)) خبره؛ لأن ((من)) الاستغراقية في سياق النفي يفيد العموم، كقولك: ما أحد خير منك،

ص: 545

الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقولك (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)) متفق عليه.

ــ

والتقدير: ما من مولود يوجد على أمر من الأمور إلا على هذا الأمر. و ((الفطرة)) تدل على نوع منها وهو الابتداء والاختراع، كالجلسة والقعدة، والمعنى بها ها هنا تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة، والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها؛ لأن هذا الدين حسنه موجود في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية والتقليد، كقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} والفاء في ((فأبواه)) إما للتعقيب وهو ظاهر، وإما للتسبيب أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه.

وقوله: ((كما)) إما حال من الضمير المنصوب في ((يهودانه)) مثلا، فالمعنى: يهودان المولود بعد أن خلق على الفطرة شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة، وإما صفة مصدر محذوف أي يغيران تغييرا مثل تغييرهم البهيمة السليمة، فالأفعال الثلاثة أعني: يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، تنازعت في ((كما)) على التقديرين، و ((تنتج)) يروى على بناء المفعول في المغرب عن الليث: وقد نتج الناقة ينتجها نتجا إذا تولى نتاجها حتى وضعت فهو ناتج، وهو للبهائم، كالقابل للنساء، والأصل: من نتجها، ولذا يعدى إلى مفعولين، وعليه بيت الحماسة:

وهم نتجوك تحت الفيل سقيا

فإذا بني للمفعول الأول قيل: نتجت ولدا إذا وضعته، وعليه حديث الحارث ((كنا إذا نتجت فرس أحدنا فلوا – أي مهرا)) الحديث.

و ((الجمعاء)) البهيمة التي لم يذهب من بدنها شيء، سميت بها لاجتماع سلامة أعضائها، لا جدع بها ولا كي. و ((هل تحسون فيها من جدعاء؟)) في موضع الحال على التقديرين، أي بهيمة سليمة مقولا في حقها هذا القول، وفيه نوع من التأكيد، بمعنى كل من نظر إليها قال هذا القول: لظهور سلامتها. و ((الجدعاء)) البهيمة التي قطعت أذنها، من جدع إذا قطع الأذن والأنف. وتخصيص ذكر الجدع إيماء إلى أن تصميمهم على الكفر إنما كان بسبب صممهم عن الحق، وأنه كان خليقا فيهم.

((ثم يقول)) والظاهر ثم قرأ، فعدل إلى القول وأتى بالمضارع على حكاية الحال الماضية؛ استحضارا له في ذهن السامع، كأنه يسمع منه عليه الصلاة والسلام، إلا أن قوله:((لا تبديل)) لا يجوز أن يكون إخبارا محضا، لحصول التبديل، بل يؤول بأن يقال: من شأنه أن لا يبدل، أو يقال: إن الخبر بمعنى النهي، قال حماد بن سلمة في معنى الحديث: هذا عندنا حيث أخذ الله عز وجل عليهم العهد في أصلاب آبائهم فقال: ((ألست بربكم قالوا بلى)).

ص: 546

ــ

((مظ)): معنى قول حماد في هذا حسن، فكأنه ذهب إلى أنه لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المكتسب بالإرادة والفعل، إلا أنه يقول:((فأبواه يهودانه)) في حكم الدنيا، فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين. أقول – والعلم عند الله -: ويؤيد هذا وجوه.

أحدها: أن التعريف في قوله عليه الصلاة والسلام: ((يولد على الفطرة)) إشارة إلى معهود، وهو قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} لأن معنى المأمور به بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أثبت على العهد القديم، المعني به في قوله تعالى:{وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} .

وثانيها: ما جاء في طرق هذا الرواية ((ما من مولود إلا وهو على الملة)) وكذا أورد الترمذي هذا الحديث في كتابه بغير لفظة الفطرة ولفظه ((كل مولود يولد على الملة)) لأن الدين في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} هو عين الملة؛ لقوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم)) الحديث، أخرجه مسلم عن عياض المحاسبي.

وثالثها: التشبيه بالمحسوس المعاين؛ ليفين أن ظهوره بلغ في الكشف والبيان مبلغ هذا المحسوس المشاهد، ثم قيده بقوله:((هل تحسون)) تقريرا لذلك، كما سبق، تلخيضه أن العالم إما عالم الغيب، وإما عالم الشهادة، فإذا نزل الحديث في عالم الغيب أشكل معناه، وإذا صرف إلى عالم الشهادة الذي عليه مبنى ظاهر الشرع سهل تعاطيه، كما قال الخطابي.

وتحريره: أن الناظر إذا نظر إلى المولود نفسه من غير اعتبار عالم الغيب، وأنه ولد على الخلقة التي خلق الله تعالى الناس عليها من الاستعداد للمعرفة وقبول الحق، والتأبي عن الباطل، والتمييز بين الخطأ والصواب – حكم بأنه لو ترك على ما هو عليه، ولم يعتوره من الخارج ما يصده عن النظر الصحيح، من فساد التربية، وتقليد الأبوين، والإلف بالمحسوسات، والانهماك في الشهوات، ونحو ذلك – استمر على ما كان عليه من الفطرة السليمة، ولم يختر عليه شيئا، ولم يلتفت إلى جنبه سواها، لكن يصده عن ذلك أمثال هذه العوائق. فإن قلت: أمر الغلام الذي قتله الخضر ينقض عليك هذا البناء؛ لأنه لم يلحق بأبويه، بل خيف إلحاقهما به لقوله تعالى:{فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وكُفْرًا} ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث

ص: 547

91 -

وعن أبي موسى، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال:

ــ

موسى والخضر – عليهما السلام: ((الغلام الذي قتله الخضر طبع بوم طبع كافرا)) وهذا الحديث مخرج في الصحيح. قلت: لا ينقضه، بل يرفعه ويشيد بنيانه؛ لأن الخضر – عليه السلام – نظر إلى عالم الغيب، وقتل الغلام، وموسى – عليه السلام – اعتبر عالم الشهادة وظاهر الشرع فأنكر عليه؛ ولذلك لما اعتذر الخضر – عليه السلام – بالعلم الخفي الغائب أمسك موسى عليه السلام.

واعلم أن الشيخ التوربشتي ذكر في الحديث وجوها، اختارها من وجوه كثيرة استنبطها العلماء، ونحن اخترنا منها هذا الوجه؛ لكونه أظهر وإلى التحقيق أقرب، و {الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

الحديث الثالث عشر عن أبي موسى: قوله: ((قام فينا)) فيه ثلاثة أوجه من الإعراب، أحدها: أن يكون ((فينا، وبخمس)) حالين مترادفين، أو متداخلتين، وذلك أن يكون الثاني حالا من الضمير المستتر في الحال الأولى، أي قام خطيبا فينا مذكرا بخمس كلمات.

وثانيها: أن يكون ((فينا)) متعلقا بـ ((قام)) بأن يضمن معنى ((خطب)) والثاني حالا أي خطب فينا قائما مذكرا بخمس، و ((قام)) في الوجهين بمعنى القيام، على ما ورد في حديث أوس بن حذيقة الثقفي رضي الله عنه ((كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف إلينا بعد العشاء، فيحدثنا قائما على رجليه، حتى يراوح بين قدميه من طول القيام)).

وثالثها: أن تعلق ((بخمس)) بـ ((قام)) ويكون ((فينا)) بيانا، كأنه لما قيل: قام بخمس، فقيل: في حق من؟ أجيب: في حقنا وجهتنا، كقوله تعالى:{والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} .

((الكشاف)) في قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} . قيل مع من؟ قيل: معه، وكذلك قدر في قوله سبحانه:{لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} . فعلى هذا ((قام)) بمعنى قام بالأمر أي تشمر وتجلد له، فالمعنى: أنه قام بحفظ تلك الكلمات فينا؛ لأن القيام بالشيء هو المراعاة والحفظ له، قال الله تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وقال الله سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} . الشارحون: ((بخمس كلمات)) أي بخمس فصول.

ص: 548

((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) رواه مسلم [91].

ــ

((تو)): وهم يطلقون الكلمة، ويعنون الجملة المركبة المفيدة؛ ولهذا يسمون القصيدة كلمة، وإحدى الكلمات منها ((إن الله لا ينام)) والثانية ((لا ينبغي له أن ينام)) والثالثة ((يخفض القسط ويرفعه)) والرابعة ((يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل)) والخامسة ((حجابة النور)). ((شف)): لما كانت الكلمة الأولى تدل بظاهرها على عدم صدور النوم عنه تعالى أكدها بذكر الكلمة الثانية الدالة على نفي جواز صدور النوم عنه، فقال:(ولا ينبغي له أن ينام) ولا يلزم من عدم الصدور عنه عدم جواز الصدور.

قوله صلى الله عليه وسلم: ((يخفض القسط)) ((تو)): فسر بعضهم ((القسط)) في هذا الحديث بالرزق أي يقتره ويوسعه، وإنما عبر عن الرزق بالقسط؛ لأنه قسط كل مخلوق؛ وفسره بعضهم بالميزان، ويسمى الميزان قسطا لما يقع به من المعدلة في القسمة، وهذا أولى القولين بالتقدم، لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ((يرفع الميزان وبخفضه)) ويجوز أن يكون المراد من رفع الميزان ما يوزن من أرزاق العباد النازلة من عنده، وأعمالهم المرتفعة إليه.

ويحتمل أنه أشار إلى أن الله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وأنه يحكم في خلقه بميزان العدل، وبين المعنى بما شوهد من وزن الوزان الذي يزن فيخفض يده ويرفعها، وهذا التأويل يناسب الفصل الثاني أعني قوله:((ولا ينبغي له أن ينام)) أي كيف يجوز عليه ذلك، وهو الذي يتصرف أبدا في ملكه بميزان العدل؟.

قوله صلى الله عليه وسلم ((يرفع إليه)) ((قض)): أي إلى خزانته، كما يقال: حمل المال إلى الملك فيضبط إلى يوم الجزاء، ويعرض عليه – وإن كان هو أعلم به – ليأمر ملائكته إمضاء ما قضى لفاعله جزاء له على فعله. ((قبل عمل النهار)) قبل أن يؤتى بعمل النهار، وهو بيان لمسارعة الكرام الكتبة إلى رفع الأعمال، وسرعة عروجهم إلى ما فوق السموات، وعرضهم على الله تعالى، فإن الفاصل بين الليل والنهار آن لا يجزي، وهو آخر الليل وأول النهار، وقيل: قبل أن يرفع إليه عمل النهار، والأول أبلغ، وهو اختصار كلام التوربشتي.

((شف)): الثاني أبلغ؛ لأنه في بيان عظم شأن الله، وقوة عباده المكرمين، وحسن قيامهم بما أمروا؛ ولأن لفظ العمل مصدر فكأنه قال: يرفع إليه عمل الليل، أي المعمول في الليل قبل عمل النهار، فلا حاجة إلى تقدير لفظة الشروع، كاحتياجه إلى تقدير الرفع في المعنى الأول.

ص: 549

ــ

قوله صلى الله عليه وسلم: ((حجابه النور)) ((تو)): أشار بذلك إلى أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله، وأشعة عضمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول، وتذهب الأبصار، وتحير البصائر، ولو كشف ذلك الحجاب فتجلى لما وراءه من حقائق الصفات وعظمة الذات، لم يبق مخلوق إلا احترق، ولا مفطور إلا اضمحل، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئي، وهو ههنا راجع إلى منع الأبصار من الإصابة بالرؤية له بما ذكر، فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل، فعبر به عنه. وروى ((حجابه النور، أو النار)) وقد تبين لنا من أحاديث الرواية، وتوفيقات الكتاب على التجليات الإلهية، أن الحالة المشار إليها في هذا الحديث، هي التي نحن بصددها في هذه الدار المستعدة المعدة للفناء، دون الذي وعدنا بها في دار البقاء، والحجاب المذكور في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق؛ لأنهم المحجوبون عنه.

وقوله: ((سبحات وجهه)) أي جلالته، كذا فسرها أهل اللغة، وقال أبو عبيدة: نور وجهه، و ((سبحات)) بضم السين والباء جمع سبحة، كغرفة وغرفات، فقد قال بعض أهل التحقيق: إنها الأنوار التي إذا رآها الراءون من الملائكة سبحوا وهللوا، لما يروعهم من جلال الله وعظمته، انتهى كلامه.

أقول – والله أعلم -: ويعضد قول أهل التحقيق ما روى ابن الأثير في النهاية أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النظر إلى وجه علي عبادة)) قيل: معناه إن عليا رضي الله عنه كان إذا برز قال الناس: لا إله إلا الله ما أشرق هذا الفتى! لا إله إلا الله ما أعلم هذا الفتى! لا إله إلا الله ما أشجع هذا الفتى! وكانت رؤيته تحملهم على كلمة التوحيد، فعلى هذا ((سبحان الله)) كلمة تعجب وتعجيب.

((الكشاف)): فيه معنى التعجب، والأصل في ذلك أن يسبح الله في رؤية العجب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه. ((مح)): ذهبوا إلى أن معنى ((سبحات وجهه)) نوره وجلاله وبهاؤه، وأما الحجاب فأصله في اللغة المنع والستر وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة، والله تعالى منزه عن الجسم والحد، والمراد ههنا مجرد المنع من رؤيته، وسمي نورا أو نارا؛ لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما. والمراد ((بالوجه)) الذات، وبـ ((ما انتهى إليه بصره من خلقه)) جميع المخلوقات؛ لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات، ولفظه ((من)) لبيان الجنس، وكذا في شرح السنة.

وذهب المظهر وغيره إلى أن الضمير في ((بصره)) راجع إلى الخلق، و ((ما)) في ((ما انتهى)) بمعنى من، و ((من خلقه)) بيان له، والأول هو الوجه، وإليه أشار التوربشتي بقوله:((ولو كشف ذلك الحجاب فتجلى لما وراءه لم يبق مخلوق إلا احترق، ولا مفطور إلا اضمحل)). ومنى إثبات البصر لله تعالى مذكور في شرح السنة مستقصى. وها هنا وجوه متعلقة بلطائف المعاني ومحسنات البدائع، لا بد من ذكرها.

ص: 550

أحدها: أن قوله: ((ولا ينبغي له أن ينام)) جملة معترضة واردة على التتميم صونا للكلام عن المكروه؛ فإن قوله: ((لا ينام)) لا ينفي جواز النوم، كما قال الأشرف، فعقب به لدفع ذلك التجوز. قال أبو الطيب:

وتحقر الدنيا احتقار مجرب ترى كل ما فيها وحاشاك فانيا

فإن حاشاك تتميم في غاية الحسن، ومعنى ((لا ينبغي)) لا يصح، ولا يستقيم النوم؛ لأنه مناف لحال رب العالمين.

وثانيها: ((يخفض ويرفع، وعمل الليل، وعمل النهار)) من باب التضاد والمطابقة، والخفض الرفع في القرينتين مستعاران للمعاني من الأعيان.

وثالثها: ((لو كشفه)) من الشرط، والجزاء استئنافية مبنية للكلام السابق، كأنه لما قيل: إن حجابه النور، وعرف الخبر المفيد للتخصيص اتجه للسائل أن يقول: لم خص الحجاب بالنور؟ أجيب: أنه لو كان من غيره لاحترق.

ورابعها: الجملة الفعلية في النفي والإثبات كلها واردة على صيغة المضارع لإرادة الاستمرار، فالمنفيان فيها يدلان على الدوام من غير انقطاع، والأربع المثبتة على التجدد مع الاستمرار، وأما الجملة الاسمية فدلالتها على سبيل الثبات والدوام في هذا العالم، والشرطية منبئة عن ذلك، لما دلت على أنها مخالفة للنور المتعارف، فإذا انقلبت إلى النور لم يكن كذلك. وفيه دليل على أن نبينا عليه الصلاة والسلام رأى ربه تعالى لقوله في الدعاء:((اللهم اجعل قلبي نورا، وفي بصري نورا) وسيجيء أن شاء الله تعالى دلائل على ذلك. وأما المؤمنون إذا صفت بشريتهم عن الكدورات في دار الثواب فيرزقون هذه المنحة السنية، والرتبة العلية.

وخامسها: أن معنى الحديث بأسره مسبوك من معنى آية الكرسي؛ فإن قوله سبحانه: {اللَّهُ لا إلَهَ إلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ} مشعر بصفة الإكرام، ومنه إلى الخاتمة مشير إلى صفة الجلال، لما فيه من المنع عن الشفاعة إلا بإذنه، ومن ذكر الكرسي الذي هو سرير الملك، وهو مناسب لحديث الحجاب، وكذلك الحديث إلى قوله:((حجابه النور)) منبئ عن صفة الإكرام، ومنه إلى آخره عن صفة الجلال، فتكون صفة الجلال محتجبة بصفة الإكرام، فلو كشف حجاب الإكرام لتلاشت الأشياء، وتفنى بتجلي صفات الجلال الكائنات {ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ} . ومن أسماء الله الحسنى وصفاته العظمى النور، قال الله تعالى:{وأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} وبيانه أن قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} مقرر للكلام السابق.

ص: 551

92 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع)) متفق عليه.

ــ

((الكشاف)): وهو تأكيد ((للقيوم)) لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون ((قيوما)) وهو مثل قوله: ((لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام)) وقوله: {مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ} كالتعليل لمعنى القيومية أي كيف ينام، وهو مالك ما في السموات وما في الأرض ومربيهم، ومدبر أمور معاشهم ومعادهم؟ إلى الأول الإشارة بقوله:((يخفض القسط ويرفعه)) وإلى الثاني بقوله: ((يرفع إليه عمل الليل)) إلى آخره. فإن قلت: فأين معنى قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الآية، في الحديث؟ قلت: تخصيص ذكر البصر الذي هو نوع من طريق العلم ملوح إليه، فما أجمعه من كلمات! فما أفصحه من عبارات! ولعمرك إن هذا الحديث سيد الأحاديث، كما أن آية الكرسي سيدة الآيات، والله أعلم.

الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يد الله ملأى)) أي نعمة الله غزيرة، كقوله تعالى:{يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ؟ ((الكشاف)): بسط اليد مجاز عن الجود، ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا بسط، ولا فرق بين هذا الكلام وبين ما يقع مجازا عنه كأنهما عبارتان عن معبر واحد. ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال! وقال في سورة ((طه)): إنها كناية، وصرح هنا بأنها مجاز، لعله لما كانا متساويين في اللزوم أجاز إطلاق المجاز تارة، والكناية أخرى.

((مظ)): ((يد الله)) أي خزائن الله، أقول: أطلق اليد على الخزائن لتصرفها فيها، وهو المجاز المرسل، والقرينة الإضافية ((وملأى)) كالترشيح للمجاز، والمعني بالخزائن قوله:{كُن فَيَكُونُ} على ما ورد ((عطائي كلام، وعذابي كلام، وإنما أمري لشيء إذا ما أردت أن أقول: كن فيكون)). ولذلك لا ينقص أبدا بأن يصب الرزق على عباده دائما. ((لا يغيضها)) استعارة تبعية للتغيض؛ لأن الحقيقة تغيض الماء، قال الله تعالى:{وغِيضَ المَاءُ} وكذلك ((سحاء))؛ لأنه من صفة الماء، يقال: سح يسح سحا فهو ساح، والمؤنث سحاء وهي فعلاء لا أفعل لها، كهطلاء. و ((الليل والنهار)) ظرفان أي وقتهما، ويجوز أن يكون ((ملأى، وتغيضها، وسحاء، وأرأيتم)) على تأويل مقول فيه إخبارا مترادفة لـ ((يد الله)) وأن تكون الثلاثة الأخيرة وصفا

ص: 552

وفي رواية لمسلم: ((يمين الله ملأى – قال ابن نمير ملآن – سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار)).

93 -

وعنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين، قال:((الله أعلم بما كانوا عاملين)) متفق عليه.

ــ

للملأى، وأن تكون ((أرأيتم)) استئنافا، وفيه معنى الترقي؛ فإنه لما قيل:((ملأى)) أوهم جواز النقصان فأزاله بقوله: ((لم يغضها)) وربما يمتلئ الشيء ولم يغض، فقيل:((سحاء)) ليؤذن بالغيضان، وقرنها بما يدل على الاستمرار من ذكر الليل والنهار، ثم أتبعها بما يدل على أن ذلك مقررا، غير خاف على كل ذي بصر وبصيرة بعد أن انتقل من ذكر الليل والنهار إلى المدة المتطاولة بقوله:((أرأيتم)) مستأنفا؛ لأنه خطاب عام ذو خطر، والهمزة في ((أرأيتم)) للتقرير أي أرأيتم ذلك كذلك ولو كان للإنكار لكن الظاهر أن يقال غاض بدل ((لم يغض)) والكلام إلى ههنا إذا أخذته بجملته وزيادته من غير نظر إلى المفردات كان كناية إيمائية، وإليه ينظر قول التوربشتي حيث قال: كل ذلك ألفاظ استعيرت لفضل الغنى، وكمال السعة، والنهاية في الجود، وبسط اليد في العطاء وإن صرح بذكر الاستعارة.

قوله: ((وكان عرشه على الماء)) حال من ضمير ((خلق))، وكذا ((وبيده الميزان)) منه أو من الضمير في ((خبر)) كان؛ لأنه خلاف في اسم كان هل يقع منه حال أم لا؟ وسيأتي الكلام في تحقيق ((وكان عرشه على الماء)) في باب ((بدأ الخلق)) في الحديث الأول من الفصل الأول.

((مح)): في شرح صحيح مسلم: ((ملآن)) هكذا وقع في رواية عبد الله بن نمير، قالوا: هذا غلط منه، وصوابه ((ملأى)) بلا نون، كما في سائر الروايات. وأقول: إن أرادوا مما ذكروا رد هذه الرواية نقلا فلا نزاع، وإن أرادوا معنى لعدم مطابقة الخبر المبتدأ تأنيثا وتذكيرا فلا؛ لأن معنى ((يد الله)) إحسانه وإفضاله، فاعتبر المعنى وذكر، وأنشد صاحب الكشاف:

تبيت نعمى على الهجران عاتبة سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري

ابن جنى عن الإصمعي عن ابن عمرو قال: سمعت رجلا يقول: فلان لعوب جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت: أتقول: جائته كتابي؟ فقال: أليس بصحيفة؟ والله أعلم.

الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ذراري المشكرين)) الذرية من الذر بمعنى التفريق؛ لأن الله تعالى ذرهم في الأرض، وقيل: هو من ذرأ الله الخلق، فتركت همزته.

ص: 553

الفصل الثاني

94 -

وعن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر. فكتب ما كان وما هو كائن إلى الأبد)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب إسنادا [94].

ــ

الفصل الثاني

الحديث الأول عن عبادة رضي الله عنه: قوله: ((إن أول ما خلق الله القلم)) قال بعض المغاربة: وهو برفع القلم – وإن صحت الرواية بنصبه – فيكون منصوبا على لغة من ينصب خبر إن. قال المالكي: يجوز على مذهب الكسائي أن يكون منصوبا بكان المقدرة أي أن أول ما خلق الله كان القلم، وأنشد: يا ليت أيام الصبا رواجعا! أي كانت رواجعا.

وقال المغربي: لا يجوز أن يكون ((القلم)) مفعول ((خلق)) لأن المراد أن القلم أول مخلوق خلقه الله تعالى، ولو جعل مفعولا لوجب أن يقال: إن اسم ((إن)) ضمير الشأن، و ((أول)) ظرف منصوب بـ ((إن)) فينبغي سقوط الفاء من قوله:((فقال)) فرجع المعنى إلى قوله: ((فقال له: اكتب)) حين خلقه، فلا يكون في الحديث إخبار بأن القلم أول مخلوق، كما يقتضيه معنى الرواية الصحيحة، ورفع القلم. ولو صحت الرواية بالنصب لم تمنع الفاء من تنزيل الحديث على ذلك المعنى، وذلك أن يقدر قبل ((فقال)): أمره بالكتابة ((فقال اكتب)) فيكون هو العامل في الظرف، والجملة مفسرة للضمير.

قوله: ((ما كان)) ليس حكاية عما أمر القلم بكتبه، إذ لو كان كذلك لقال: اكتب ما يكون، وإنما هو إخبار باعتبار حاله عليه الصلاة والسلام.

ص: 554

95 -

وعن مسلم بن يسار، قال: سئل عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] عن هذه الآية: {وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال عمر:

ــ

الحديث الثاني عن مسلم رضي الله عنه: قوله: ((فقال)) تفسير لمحذوف، فالتقدير: سمعت جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حال سؤال السائل عنه فقال، نحو قوله تعالى:{سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي} والأصل سمعنا نداء مناد، حذف المضاف وجعل ((ينادي)) حالا من المفعول، ثم فسر النداء بقوله:((أن آمنوا)) لأن النداء في معنى القول. فإن قلت: كيف يصح أن يكون ((فقال)) تفسيرا مع وجود الفاء؟ قلت: الفاء غير مانعة من ذلك؛ لأن المفسر يعقب المفسر، كما في قوله تعالى:{فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} على أن يكون القتل عين التوبة.

قوله: ((مسح)) ((قض)): يحتمل أن يكون الماسح هو الملك الموكل على تصوير الأجنة وتخليقها، وجمع موادها، وإعداد عددها؛ وإنما أسند إلى الله من حيث هو الآمر به، كما أسند إليه التوفي في قوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} والمتوفى لها هو الملائكة؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ} ويحتمل أن يكون الماسح الباري تعالى، والمسح من باب التمثيل. وقيل: هو من المساحة بمعنى التقدير، كأنه قال: قدر ما في ظهره من الذرية، وقال في معنى الآية: نزل تمكين بني آدم من العلم بربوبيته بنصب الدلائل، وخلق الاستعداد فيهم، وتمكينهم من معرفتها، والإقرار بها منزلة الإشهاد والاعتراف تمثيلا وتخييلا، لا قول ثمة ولا شهادة حقيقة.

قال الإمام فخر الدين الرازي: أطبقت المعتزلة على أنه لا يجوز تفسير الآية بالحديث؛ لأن قوله: ((من ظهورهم)) بدل من قوله: ((بني آدم)) فالمعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم، فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئا، ولأنه لو كان المراد أنه أخرج من ظهر آدم لما قال:((من ظهورهم))، بل يجب أن يقول: من ظهره ذريته. وأجاب الإمام: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذرية من ظهور بني آدم، وأما أنه أخرج تلك الذرية من صلب آدم، فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته ولا على نفيه، إلا أن الخبر قد دل عليه، فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن، وإخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر، ولا منافاة بينهما، فوجب المصير إليهما معا، صونا للآية والخبر عن الاختلاف.

ص: 555

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال: ((إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون)). فقال رجل:. . . .

ــ

((قض)): والتوفيق بينهما أن يقال: المراد من بني آدم في الآية آدم وأولاده، وكأنه صار اسما للنوع كالإنسان، والمراد من الإخراج توليد بعضهم من بعض على مر الزمان، واقتصر في الحديث على ذكر آدم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع.

وأقول: ونظير معنى الآية على هذا قوله تعالى: {ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} فإن قوله: ((ثم صورناكم)) شامل لآدم أيضا؛ لقوله: {قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} ويعضده ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان – يعني عرفة – فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنشرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم، فتلا:{ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أخرجه أحمد بن حنبل، والنسائي.

ورواه محي السنة في معالم التنزيل عن مقاتل وغيره وفي آخره: ((ثم أعادهم جميعا في صلبه، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال، وأرحام النساء)). ويجيء من الأحاديث في الفصل الثالث ما يزيل الشك ويقطع الريب في أن المراد من هذا الحديث هذا، ولأن السائل كان أشكل عليه معنى الآية. فطلب منه عليه الصلاة والسلام حل إشكاله، فلما فسره عليه الصلاة والسلام بما فسر، وكشف له ما أبهم عليه سكت؛ لأنه كان بليغا عارفا بصناعة الكلام، وإلا لما سكت، وأما تأويل الإمام فينزل على ما تقرر في حديث (ما من مولود إلا يولد على الفطرة) أن العالم إما عالم الغيب، أو الشهادة، فالحديث وارد في عالم الغيب، والآية في عالم الشهادة، فتحقيق ذلك ما نقل عن المولى العلامة قطب الدين الشيرازي – رحمه الله – أنه تقرر في بداية العقول أن بني آدم من ظهر آدم، فيكون كل ما

ص: 556

ــ

أخرج من ظهور بني آدم في الإنزال إلى يوم القيامة، هم الذر قد أخرجهم الله تعالى في الأزل من صلب آدم، وأخذ منه الميثاق الأزلي؛ ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج في الإنزال من أصلاب بني آدم، هو الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم، وأخذ منه الميقاق الأول، وهو المقالي الأزلي، كما أخذ منه فيما لا يزال بالتدريج حين أخرجزا الميثاق الثاني، وهو الحالي (الإنزالي).

والحاصل: أن الله تعالى لما كان له ميثاقان مع بني آدم، أحدهما: تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي. وثانيهما: المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل، بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد، كالأنبياء عليهم السلام أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلم الأمة، ويخبرهم أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقا آخر أزليا، فقال ما قال من مسح ظهر آدم في الأزل، وإخراج الذرية، والميثاق الآخر، انتهى كلامه.

فإن قلت: فكيف يتطابق السؤال عن معنى الآية، والجواب عن معنى الحديث، وبينهما هذا الاختلاف؟ قلت: يتطابق من حيثية الأسلوب الحكيم على منوال قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} سألوا عن بيان ماذا ينفقونه، وأجيبوا ببيان المصرف، وضمن بيان ما ينفقونه، كذا ها هنا سأل الصحابي عن بيان الميثاق الحالي، فأجيب عن المقالي، وضمن فيه الحالي على ألطف وجه، كأنه قيل: الميثاق المسئول عنه ظاهر مكشوف بنصب الدلائل على ربوبيته ووحدانيته في العقول والبصائر، وجعلها مميزة بين الحق والباطل، لكن هنا ميثاق آخر خفي عن العقول لا يعلمه أحد إلا من أرشده الله إليه، فاسأل عن ذلك، وفائدته توكيد الميثاقين والقيام على العهدين، والله أعلم.

((شف)): قال عليه الصلاة والسلام في حق أهل الجنة: ((ثم مسح ظهره بيمينه)) لأن الخير ينسب إلى اليمين، وفي حق أهل النار ((بيده)) ليفرق بين القبيلين من أهل الجنة والنار، وأعرض عن ذكر الشمال تأديبا على ما ورد ((كلتا يدي الرحمن يمين)).

ص: 557

ففيم العمل؟ يا سول الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا خلق العبد للجنة؛ استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار؛ استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار)) رواه مالك، والترمذي، وأبو داود [95].

96 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يديه كتابان،

ــ

قوله: ((ففيم العمل)) وقع في موقع لام الغرض؛ لأن غرض كل شيء غايته، وظرف الشيء غاية حصوله فيه؛ ولهذا ((حيث)) و ((إذا)) يقعان علة، أي في أي شيء يفيد العمل إذا كان كون الرجل من أهل الجنة أو من أهل النار مقدرا قبل هذا؟.

قوله: ((استعمله)) ((مظ)): استعمله من قولهم: استعمل إذا ألزم العمل على أحد، وتحقيقه قد مضى في الفصل الأول.

الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((خرج)) ((تو)): قول الراوي هذا إخبار لتقرير صدقه عما يخبر عنه صلوات الله عليه، واستقصاء في تحقيقه. قوله:((وفي يديه كتابان)) تمثيل، وذلك أن المتكلم إذا أراد تحقيق قوله، وتفهيم غيره، واستحضار المعنى الدقيق الخفي في مشاهدة السامع حتى كأنه ينتقل إليه رأي العين صورة لصورة، وأشار إليه إشارته إلى المحسوس، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما كوشف بحقيقة هذا الأمر، وأطلعه الله تعالى عليه إطلاعا لم يبق معه خفاء،

ص: 558

فقال: ((أتدرون ما هذان الكتابان؟)) قلنا: لا، يا رسول الله! إلا أن تخبرنا فقال للذي في يده اليمنى:((هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا)). ثم قال للذي في شماله: ((هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم؛ فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا)). فقال أصحابه: ففيم

ــ

مثل المعنى الحاصل في قلبه بالشيء الحاصل في يده، هذا ونحن لا نستبعد إطلاق ذلك على الحقيقة؛ فإن الله عز وجل قادر على كل شيء، والنبي عليه الصلاة والسلام مستعد لإدراك المعاني الغيبية، ومشاهدة الصور الموضوعة لها.

وقوله: ((ألا أن تخبرنا)) استثناء منقطع، أي لا نعلم، ولكن إذا أخبرتنا نعلم، كأنهم طلبوا بالاستدراك إخباره إياهم، ويجوز أن يكون متصلا مفرغا، أي لا نعلمه بسبب من الأسباب إلا بإخبارك. قوله:((وقال للذي بييده)) أي لأجله. وخص ذكر ((رب العالمين)) من بين الأسماء، دلالة وتنبيها على أنه مالكهم، وهم له مملكون يتصرف فيهم كيف شاء وأراد، فيسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، كل ذلك عدل منه وصواب فلا اعتراض لأحد عليه.

قوله: ((وفيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم)) ((شف)): إن أهل الجنة مكتوب أسماؤهم، وأسماء آبائهم، وقبائلهم الذين هم أهل النار في الكتاب الذي باليمين، وفي عكسه أهل النار، ويكتب أسماء آبائهم، وقبائلهم من أهل الجنة في الذي بالشمال، وإلا فالآباء والقبائل إذا كانوا من جنس الأبناء في كونهم من أهل الجنة، أو من أهل النار فلا حاجة إلى إفراد ذكرهم لدخولهم تحت قوله:((فيه أسماء أهل الجنة، وفيه أسماء أهل النار)).

أقول: ولعل الظاهر أن كل واحد من أهل الجنة ومن أهل النار يكتب أسماء آبائهم وقبائلهم – سوار كان من أهل الجنة أو من أهل النار- للتمييز التام، كما يكتب في الصكوك، وهو أنسب بالكتاب، وضمن ((أجمل)) معنى أوقع، فعدى بعلى أي وقع الإجمال على ما انتهى إليه التفصيل. ويجوز أن يكون حالا، أي أجمل في حال وقوع انتهاء التفصيل إلى آخرهم، ومن عادة المحاسبين أن يكتبوا الأشياء مفصلات، ثم يوقعون في آخرها فذلكة ترد التفصيل إلى الجملة، ((فلا يزاد)) جزءا شرط محذوف، أي إذا كان الأمر على ما تقرر من التفصيل، والتعيين، والإجمال بعد التفصيل في الصك، فلا يزاد ولا ينقص.

ص: 559

العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: ((سددوا وقاربوا؛ فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل)).

ــ

فإن قلت: قد ذكرتم أن حكم الله تعالى لا يتغير فما القول في ((يمحو الله ما يشاء ويثبت)

قلت: قوله: ((لكل أجل يمحو الله ما يشاء ويثبت)) إشارة إلى القضاء ((وعنده أم الكتاب)) إلى القدر، المعنى: لكل انتهاء مدة وقت مضروب، فمن انتهى أجله يمحوه، ومن بقي من أجله يبقيه على ماهو مثبت فيه، وكل ذلك مثبت فيه، وكل ذلك مثبت عند الله تعالى في ((أم الكتاب)).

وقوله: ((سددوا)) اجعلوا أعمالكم مستقيمة على طريق الحق، ((وقاربوا)) اطلبوا قربة الله وطاعته بقدر متطيقونه، وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم، أي فيم أنتم من ذكر القدر، وإنما خلقتم للعبادة فاعملوا، وسددوا، وقاربوا، وإليه لمح ما قال الشاعر:

أتت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي

فقلت كأني ما سمعت كلامها هم الضيف جدي في قراهم وعجلي

قوله: ((فرغ ربكم)) ((شف)): أي قدر أمرهم، وذلك أنه لما قسم العياد قسمين، وقجر لكل ثسم على التعيين أن يكون من أهل الجنة، أو من أهل النار، وعينهم تعيننا لا يقبل التغيير والتبديل، فكأنه فرغ من أمرهم، وإلا فالفراغ لا يجوز على الله تعالى.

قوله: ((قال بيده)) أي أشار، ((نه)): العرب تجعل القول: عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان فتقول: ((قال بيده)) أي أخذ، و ((قال برجله)) أي مشى:

وقالت له العينان سمعا وطاعة وحدرتا كالدر لما يثقب

أي أو مأت، و ((قال بالماء على يده)) أي قلب، و ((قال بثوبه)) أي رفعه.

ص: 560

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما، ثم قال:((فرغ ربكم من العباد (فريق في الجنة وفريق في السعير)) رواه الترمذي [96].

97 -

وعن أبي خزامة، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت رقى

ــ

أقول: قوله: ((قال بيده فنبذهما)) أي نبذ الكتابين، هذا ك ((جف القلم بما أنت لاق)) كناية عن أن هذا الأمر قد فرغ منه، فصار بمنزلة ما تخلفه وراء ظهرك فيكون قوله:((فرغ ربكم)) تفسيرا لهذا الفعل.

الحديث الرابع عن أبي خزامة رضي الله عنه: قوله: ((رقى نسترقيها)) رقى وما عطف عليها منصوبات، والأفعال أوصاف لها، والمتعلق معنى ((أرأيت)) أي أخبرني عن ((رقى نسترقيها)) فنصب على نزع الخافض، ويجوز أن يتعلق بلفظ ((أرأيت)) والمفعول الأول الصفة مع الموصوف، والثاني الاستفهام على تقديرك مقولا في حقها هل ترد هذا؟ ليس هذا بتعليق؛ إنما التعليق أن يوقع بعده ما يسد مسد المفعولين جميعا، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق، ذكره صاحب الكشاف في قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} رقى جمع رقية، كظلم وظلمة، وهي ما يقرأ من الدعاء لطلب الشفاء.

ص: 561

نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال:((هي من قدر الله)) رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه [97].

ــ

قوله: ((التقاة)) أصله الوقاة، قلبت الواو تاء، أو هو اسم ما يلتجيء به الناس من خوف الأعداء. ((نه)): وقي يقي وقاية إذا حفظ، ويجوز أن يكون تقاة مصدر بمعنى الاتقاء فحينئذ الضمير في ((نتقيها)) للمصدر، أي نتقي تقاة بمعنى اتقاء وهي من قدر الله سبحانه وتعالى أي هذه الأسباب يعني: كما أن الله تعالى قدر الداء مثلا قدر زواله بالدواء. ومن تداوى ولم يبرأ فاعلم أنه لم يقدر أن يكون التداوي نافعا في ذلك الداء – وإن اجتمع عليه الأطباء – ((تو)): كأن السائل عرف أنه من حق الإيمان أن يعتقد أن المقدور كائن لا محالة ووجد الشرع يرخص في الاسترقاء، ويأمر بالتداوي، والاتقاء عن مواطن المهلكات، فأشكل عليه الأمر، كما أشكل على الصحابة حين أخبروا أن الكتاب يسبق على الرجل، فقالوا:((ففيم العمل؟)) فبين عليه الصلاة والسلام بقوله: ((هي من قدر الله)).

((نه)): وقد جاء في بعض الآحاديث جواز الرقية كقوله صلى الله عليه وسلم: ((استرقوا لها؛ فإن بها النظرة)) أي اطلبوا لها من يرقيها، وفي بعضها النهي عنها، كقوله عليه الصلاة والسلام في باب التوكل:((الذين لا يسترقون، ولا يكتوون)) والأحاديث في القسمين كثيرة. ووجه الجمع بينهما أن الرقية يكره منها: ما كان بغير أسماء الله، وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة، أو بغير اللسان العربي، وما يعتقد منها أنها نافعة لا محالة، فيتكل عليها، وإياها أراد عليه السلام بقوله:((ما توكل من استرقى)) ، ولا يكره منها ما كان على خلاف ذلك، كالتعوذ بالقرآن، وأسماء الله تعالى، والرقية المروية؛ ولذلك قال عليه السلام للذين رقى بالقرآن، وأذخ عليه أجرا:((من أخذ برقية باطل فقد أخذت برقية حق)) وقال في الآخر: ((خذوه، واضربوا لي بسهم)). وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا رقية إلا من عين، أو حمة)) فمعناه: لا رقية أولى وأنفع، وهذا كما قيل: لا فتى إلا علي، وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام غير واحد من الصحابة بالرقية، وسمع عليه الصلاة والسلام جماعة يرقون ولم ينكر عليهم. وفي اسم الراوي أبي خزامة خلاف للمحدثين.

ص: 562

98 -

وعن أبي هريرة. قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه، حتى كأنما فقيء في وجنتيه حب الرمان، فقال:((أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه)). رواه الترمذي. [98].

99 -

وروى ابن ماجه نحوه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده [99].

ــ

الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قوله: ((نتنازع)) أي نتناظر ونتخاصم في أن يقول أحد الخصمين: إذا كان جميع ما يجري في العالم بقدر الله تعالى فلم يعذب المذنبين، ولم ينسب الفعل إلى العباد، كما قالت المعتزلة؟ والآخر يقول: فما الحكمة في تقدير بعض العباد للجنة، وبعضهم للنار، وما أشبه ذلك؟ وإنما غضب رسول الله عليه الصلاة والسلام لأن القدر سر من أسرار الله تعالى وطلب سر الله تعالى منهي عنه؛ ولأن من يبحث في القدر لم يأمن أن يصير قدريا، أو جبريا، بل العباد مأمورون بقبول ما أمرهم الشرع، من غير أن يطلبوا ما لا يجوز طلب سره.

قوله: ((عزمت عليكم)) أي أقسمت عليكم، وأصله عزمت بإلقاء اليمين وإلزامها عليكم، لا تبحثوا في القدر بعد هذا. قوله:((فقىء)) شق، من فقأت البهمي إذا شققت لفائفها عن ثمرها، والبهمي نبت. و ((حتى)) الثانية غاية ((احمر)) ، والأولى غاية ((غضب)) ، والهمزة في ((أبهذا)) للإنكار، قدم الجار والمجرور على العامل، لمزيد الاهتمام بشأن المشار إليه، وكونه منكرا جدا، و ((أم)) منقطعة، والهمزة فيه أيضا للإنكار ترقيا من الأهون إلى الأغلظ، وإنكار غب إنكار ((وإنما هلك)) جملة مستأنفة جواب عما اتجه لهم من أن يقولوا: لم ينكر هذا لإنكار البليغ؟ فأجيب بقوله: ((إنما هلك)) يعني: أن ذلك الإنكار البليغ بسبب هذا العذاب البليغ الذي لا إمهال فيه.

وقوله: ((حين تنازعوا في هذا)) القيد إشارة إلى أن غضب الله تعالى وإهلاكه إياهم كان من غير إمهال يعني: من تكلم من الأمم الماضية في القدر عجل الله تعالى إهلاكهم بخلاف سائر المهلكات.

ص: 563

100 -

وعن أبي موسى، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((إ، الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب)) رواه أحمد والترمذي وأبو داود. [100].

101 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى،

ــ

الحديث السادس عن أبي موسى الأشعري رضي اله عنه: قوله: ((من قبضة))) وهي ما يضم عليه الكف من كل شيء، و ((من)) إذا كان متعلقا ب ((خلق)) تكون ابتدائية أي ابتداء خلقه من قبضة، وإذا كان حالا من ((آدم)) يكون بيانية، والقبضة هاهنا مطابقة لما في قوله تعالى:{والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} في بيان عظمة الله سبحانه وتعالى وجلالة قدره، وأن المكونات الآفاقية والأنفسية منقادة لإرادته، ومسخرات بأمره، فإذا ورد عليها ((كن)) فكانت بما شوهد من الإنسان، وقبضة الشيء على السهولة تسخيرا له.

قوله: ((على قدر الأرض)) أي مبلغها من الأكوان، ولما كانت الأوصاف الأربعة من الأمور الظاهرة في الإنسان، والأرض أجريت على حقيقتها، وتركت الأربع الأخيرة مفتقرة إلى تأويل؛ لأنها من الأخلاق الباطنة؛ فإن المعني ب ((السهل)) الرفق واللين، وب ((الحزن)) الخرق والعنف، وب ((الطيب)) الذي يعني به الأرض العذبة الؤمن الذي نفع كله، وب ((الخبيث)) الذي يراد به الأرض السبخة الكافر الذي هو ضر وخسران في الدارين، قال تعالى:{والْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلَاّ نَكِدًا} والذي سيق له الكلام في الحديث هو الأمور الباطنة؛ لأنها داخلة في حديث القدر ((من الخير والشر)) وأما الأمور الظاهرة من الأكوان وإن كانت مقدرة فلا اعتبار لها فيه، والله أعلم.

الحديث السابع عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((خلق خلقه)) أي الثقلين – من الجن، والإنس – ((في ظلمة)) أي كائنين في ظلمة النفس الأمارة بالسوء المجبولة بالشهوات

ص: 564

ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله)) رواه أحمد والترمذي [101].

ــ

المردية، والأهواء المضلة، كقوله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ} والنور الملقى عليهم ما نصب من الشواهد والحجيج، وما أنزل إليهم من الآيات والنذر، وإلى هذا المعنى أشير بقوله سبحانه:{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَاّ شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} ومن يشاء هدايته هو الذي أصابه ذلك النور فتخلص من تلك الظلمة واهتدى ومن لم يشأ هدايته بقي في ظلمات الطبيعة مخبطا في الظلمات كالأنعام، بل هم أضل، مثل حال الكفرة المنهمكين في الشهوات، المعرضين عن الآيات.

ويمكن أن يحمل قوله: ((خلق خلقة)) على خلق الذر المستخرج في الأزل من صلب آدم عليه السلام، فعبر بالنور عن الألطاف التي هي تباشير صبح الهداية، وإشراق لمعات برق العناية، ثم أشارة بقوله:((أصاب وأخطأ)) إلى ظهور أثر تلك العناية فيما لا يزال من هداية بعض، وإضلال بعض. و ((الإلقاء)) في الأصل طرح الشيء حيث تلقاه، ثم صار في المتعارف اسما لكل طرح. و ((أخطأه)) جاوزه وتعداه لشقاوته حيث لم تتعلق المشيئة بهدايته، ((فلذلك)) يعني من أجل عدم تغير ما جرى في الأزل تقديره من الإيمان، الطاعة، والكفر، والمعصية.

أقول: قوله: ((جف القلم)) ((شف)): في هذا تنبيه على أن الإنسان خلق على حالة لا ينفك عن الظللمة إلا من أصابه من النور الملقى عليهم. أقول – والعلم عند الله -: هذا التوفيق بين هذا المعنى وبين حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة)) أن يقال بأن الإنسان مركب من الروحانية التي تقتضي العروج إلى عالم القدس، هي مستعدة لقبول فيضان نور الله الهادي، ومهيأة للتجلي تجلية الدين، ومن النفسانية المائلة إلى الخلود في الأرض، والإنهماك في الشهوات، والركون إلى المرديات، لاحظ في هذا الحديث لكون الكلام مسوقا في القدر؛ لقوله:((جف القلم)) معنى ماذكره. ((شف)): وفي ذلك الحديث لمح إلى القضاء بقوله: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة)) فأجرى الكلام على ما أجراه كما مر بيانه.

ص: 565

102 -

وعن أنس، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول:((يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)) فقلت: يانبي الله: آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال:((نعم؛ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله، يقلبها كيف يشاء)) رواه الترمذي ابن ماجه [102].

103 -

وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل القلب كريشة بأرض فلاة يقلبها الرياح ظهرا لبطن)) رواه أحمد [103].

ــ

الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يا مقلب القلوب)) فإن قلت ما الفائدة في تقديم هذه الكلمات في هذا الحديث، وتأخيرها في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الفصل الأول، وتخصيصه هنا ب ((ثبت)) ، وهناك ب ((صرف)) وأضاف القلب إلى نفسه هنا، وهناك مع الجماعة؟ قلت – وبالله التوفيق -: قدم ههنا، وخص بذكر ثبت، وأضاف القلب إلى نفسه تعريضا بأصحابه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام مأمون العاقبة فلا يخاف على نفسه وعلى استقامتها؛ لقوله تعالى:{إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ومن ثم خص الدين بالذكر، ولذلك سأل أنس ((هل نخاف على ديننا)) وأخر هناك، وخص ب ((صرف)) وجمعالقلب؛ لأن سوق الكلام لبيان القدر، وكان ذكر الدعاء مستطردا له كما سبق.

فإن قلت: لم خص ذكر ((الله)) في هذا الحديث، و ((الرحمن)) في ذلك؟ قلت: كان ذكر ((الرحمن)) هناك؛ لأنه في مطلع الحديث، ورحمته هي السابقة، وهنا جواب عن التعريض، والمقام مقام الهيبة والجلال أي الإلهية مقتضية لأن يخص كل واحد بما يخصه من الإيمان، والطاعة، والكفر والمعصية.

الحديث التاسع عن أبي موسى لأشعري رضي الله عنه: قوله: ((مثل القلب)) المثل ههنا

ص: 566

104 -

وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله لإلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر)) رواه الترمذي، وابن ماجه [104].

ــ

بمعنى الصفة لا القول السائر؛ لأن المعني صفة القلب العجيبة الشأن، وورد ما يرد عليه من عالم الغيب من الدواعي، وسرعة تقلبها بسبب الدواعي، كصفة ريشة واحدة تقلبها الرياح بأرض خاالية عن العمران؛ فإن الرياح أشد تأثيرا فيها في العمران، وجمع الرياح لدلالتها على التقلب ظهرا لبطن؛ إذا لو استمر الريح على جانب واحد لم يظهر القلب، كما يظهر من الرياح المختلفة، ولفظ ((الأرض)) مقحمة؛ لأن في ذكر الفلاة استغناء عنها، وهو كقولك: أخذت بيدي ونظرت، يعني تقريرا ورفعا للتجوز، وأن يتوهم متوهم خلافه، ولا يسلك إلا في أمر خطير، و ((يقلبها) صفة أخري ل ((ريشة)).

((مظ)): ((ظهرا لبطن)) ظهر بدل البعض من الضمير في ((يقلبها)) واللام في ((لبطن)) بمعنى إلى، كقوله:{مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ} ويجوز أن يكون ((ظهرا لبطن)) مفعولا مطلقا أي يقلبها تقليبا مختلفا، وان يكون حالا أي يقلبها مختلفة؛ ولهذا الاختلاف سمي القلب قلبا.

((غب)): قلب الشيء تصريفه، وصرفه عن وجه إلى وجه، وسمي القلب قلبا لكثرة تقلبه، ويعبر القلب عن المعاني التي يختص به من الروح، والعلم، والشجاعة وغيرها.

الحديث العاشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((لا يؤمن عبد)) هذا نفي أصل الإيمان لا نفي الكمال، فمن لم يؤمن بواحد من هذه الأربعة لم يكن مؤمنا، أحدها: الإقرار بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بعثه بالحق إلى كافة الجن والإنس. الثاني: أن يؤمن بالموت حتى يعتقد أن الدنيا وأهلها تفنى، كما قال تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَاّ وجْهَهُ} وهذا احتراز عن مذهب الدهرية؛ فإنهم يقولون: العالم قديم باق. ويحتمل أن يراد ب ((الإيمان بالموت)) أن يعتقد الرجل أن الموت يحصل بأمر الله لا بالطبيعة، خلافا للطبعي؛

ص: 567

ــ

فإنه يقول: يحصل الموت بفساد المزاج. الثالث: أن يؤمن بالبعث بعد الموت. والرابع: أن يؤمن بالقدر، يعني يعتقد أن جميع مافي العالم بقضاء الله وقدره، كما ذكر قبل هذا.

أقول: إن ((حتى)) في قوله: ((حتى يؤمن)) للتدرج، كما في قوله عليه الصلاة والسلام:((إن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقا)) يعني لا يعتبر التصديق بالقلب حتى يتمكن منه التصديق إلى أن يبلغه إلى هذه الأوصاف الأربعة.

وقوله: ((بعثني بالحق)) استئناف، كأنه قيل: لم يشهد بذلك؟ فأجيب ((بعثني بالحق)) أي لأن الله بعثني بالحق. ويجوز أن يكون حالا مؤكدة، أو خبرا بعد خبر، فعلى هذا يدخل في حيز الشهادة. وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية معنى قول الشاهد لا قوله؛ فإن قوله:((أن محمدا رسول الله بعثه بالحق)).

فإن قلت: لم ذكر في الثلاث الأخيرة لفظة: ((يؤمن)) وذكر في الأولى لفظة ((يشهد))؟ قلت: ((يشهد)) إلى آخر تفصيل لقوله: ((حتى يؤمن بأربع)) فلن يكون التفصيل مخالفا للمجمل، كأن أصل الكلام أن يقال: يؤمن بالله بأن الله واحد لاشريك له، وبأني رسول الله عليه الصلاة والسلام حقا، ويؤمن بكذا، ويؤمن بكذا، فعدل إلى لفظ الشهادة أمنا من الالتباس، ودلالة على أن النطق بالشهادتين أيضا ركن من الأركان؛ ولأن هذه الشهادة غاية للإيمان، ويتدرج منه إليه، فلا يتصور الشهادة باللسان دون التصديق بالقلب، كأنه قيل: يشهد باللسان بعد التصديق الراسخ في القلب.

قوله: ((يؤمن بالموت)) أي يؤمن أن الموت حق، وان البعث حق، وتكريم الموت إيذان باهتمام شأنه، فهو مثل قوله تعالى:{ثُمَّ إنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} في أن المراد اهتمام شأن الموت، ثم الذي يليه من البعث؛ فإن الموت ذريعة إلى وصول السعادة الكبرى، ووسيلة إلى ارتقاء الدرجة العليا.

((غب)): ((الموت)) أحد الأسباب الموصلة إلى النعم، فهو وإن كان في الظاهر فناء زاضمحلالا، لكن في الحقيقة ولادة ثانية، وهو باب من أبواب الجنة، منه يتوصل إليها، ولو لم يكن لم تكن الجنة من الله تعالى على الإنسان، فقال:{خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَاةَ} قدم ((الموت)) على ((الحياة)) تنبيها على أنه يتوصل منه إلى الحياة الحقيقية، وعده علينا من الآلاء في قوله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ونبه الله تعالى بعد قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} على أن هذه التغييرات لخلق أحسن، فنقض هذه البنية لإعادتها على وجه أشرف، كالنوى المزروع الذي

ص: 568

105 -

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب [حسن صحيح][105].

ــ

لا يصير نخلا مثمرا إلا بعد فساد حبتها، وكذلك البر إن أردنا أن نجعله زيادة في أجسادنا نحتاج إلى أن يطحن، ويعجن، ويطبخ، ونأكل، فهذه تغيرات كثيرة، هي فسادات في الظاهر، وكذا البذر إذا ألقى في الأرض يعده من لا يتصور حاله فسادا، فالنفس لا تحب البقاء في هذه الدار إلا إذا كانت قذرة راضية بالأعراض الدنيئة، رضى الجعل بالحش، أو تكون جاهلة نجاتها في المآل، والله أعلم.

الحديث الحادي عشر عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((صنفان من أمتي)) ((تو)): الصنف النوع، و ((المرجئة)) بهمزة، من الإرجاء وهو التأخير، قيل:((المرجئة)) هم الذين يقولون: ((الإيمان قول بلا عمل)) فيؤخرون العمل عن القول، وهذا غلط منهم؛ لأنا وجدنا أكثر أصحاب الملل والنحل ذكروا أن ((المرجئة)) هم ((الجبرية)) الذين يقولون:((إن إضافة الفعل إلى العبد كإضافته إلى الجمادات)) فالجبرية خلاف القدرية، وبعض القدرية ألحقوا هذا النبز بالسلف ظلما وعدوانا، وسميت ((الجبرية)) مرجئة؛ لأنهم يؤخرون أمر الله، ويرتكبون الكبائر، وهم يذهبون في ذلك إلى الإفراط، كما تذهب القدرية إلى التفريط، وكلا الفريقين على شفا جرف هار.

و ((القدرية)) إنما نسبوا إلى القدر – وهو ما يقدره الله تعالى – لأنهم يدعون أن كل عبد خالق فعله من الكفر والمعصية، ونفوا أن ذلك بتقدير الله وهؤلاء الضلال يزعمون أن القدرية هم الذين يثبتون القدر. والجواب: ونحن لا نثبت هذا السر من طريق القياس حتى تقابلونا بدعواكم هذه، وإنما أخذناه من النصوص الصحيحة فمنها:((إنا كل شيء خلقناه بقدر)) ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: ((وأن يؤمن بالقدر خيره وشره)) ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: ((كل شيء بقدر)) ومنها ((القدرية مجوس هذه الأمة)) في أحاديث لا تحصى كثرة.

ص: 569

106 -

وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون في أمتي خسف ومسخ، وذلك في المكذبين بالقدر)) رواه أبو داود، وروى الترمذي نحوه [106].

ــ

وقال في قوله: ((ليس لها في الإسلام نصيب)): ربما يتمسك به من يكفر الفريقين، والصواب أن لا يسارع إلى أن يكفر أهل الأهواء المتأولين؛ لأنهم لا يقصدون بذلك اختيار الكفر، وقد بذلوا وسعهم في إصابة الحق فلم يحصل لهم غير ما زعموه، فهم إذا بمنزلة الجاهل، أو المجتهد المخطئ. وهذا القول هو الذي يذهب إليه المحققون من علماء الأمة نظراً واحتياطاً، فيجري قوله:((لا نصيب لهم)) مجرى الاتساع بين بيان سوء حظهم، وقلة نصيبهم من الإسلام: نحو قوله للبخيل: ليس له من ماله نصيب وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في أمتي خسف ومسخ)) وقوله: ((ستة)) لعنهم الله)) وأمثال ذلك؛ فإنها تحمل على المكذب به إذا أتاه من البيان ما ينقطع العذر دونه، أو على ما يفضي به المعصية إلى تكذيب ما ورد فيه من النصوص، أو إلى تكفير من خالفه. وأمثال هذه الأحاديث واردة على التغليظ والتشديد زجراً وردعاً.

الحديث الثاني عشر عن ابن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((خسف)) خسف المكان ذهب في الأرض، وخسف الله به خسفاً أي غاب به في الأرض، و ((المسخ)) تحويل صورة إلى ما هو أقبح منها. ((شف)): معنى الحديث: إن يكن خسف ومسخ يكونا في المكذبين، أقول: لعله اعتقد أن هذه الأمة المرحومة مأمونة من الخسف والمسخ فأخرج الكلام مخرج الشرطية.

وقوله: ((ذلك)) يؤذن أن الذي قبله إنما يستحق العذاب بسبب ما ذكره بعده من التكذيب على عكس قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ} {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وقد سبق عن التوربشتي أن الحديث من باب التغليظ والتشديد فلا يفتقر إلى تقدير الشرط. وأبو سليمان الخطابي ذهب إلى وقوع الخسف والمسخ في هذه الأمة، قال:((المسخ)) قد يكون في هذه الأمة، وكذلك ((الخسف)) كما كانا في سائر الأمم، خلاف قول من زعم: أن ذلك لا يكون؛ إنما مسخها بقلوبها، ذكره في أعلام السنن.

ص: 570

107 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)) رواه أحمد، وأبو داود [107].

108 -

وعن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)) رواه أبو داود [108].

ــ

الحديث الثالث عشر عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((القدرية مجوس هذه الأمة)) هذا التركيب من باب قولهم: ((القلم أحد اللسانين)) كما مر في حديث عائشة رضي الله عنها ((عصفور من عصافير الجنة)). ولفظ ((هذه)) إشارة إلى تعظيم المشار إليه، وإلى النعي إلى القدرية، والتعجب منهم، أن انظروا إلى هؤلاء، كيف امتازوا من هذه الأمة المكرمة بهذه الهيئة الشنيعة حيث نزلوا من أوج تلك المناصب الرفيعة إلى حضيض السفالة والرذالة. وخص النهي عن حقوق المسلمين على المسلمين بهاتين الخصلتين، لأنهما ألزم وأولى، وذلك أن المرض والموت حالتنا مفتقرتان إلى الدعاء له بالصحة، والصلاة عليه بالمغفرة.

((تو)): إنما قال لهم ((مجوس هذه الأمة))؛ لأنهم أحدثوا في الإسلام مذهباً يضاهي مذهب المجوس من وجه، وهو أن المجوس يضيفون الكوائن في دعواهم الباطلة إلى إلهين اثنين يسمون أحدهما يزدان، والآخر أهرمن، ويزعمون أن يزدان يأتي منه الخير والسرور وأن أهرمن يأتي منه الغم والشرور، ويقولون ذلك في الأحداث والأعيان، فيضاهي قولهم الباطل في إضافة الخير إلى الله، وإضافة الشر إلى غيره، (مذهب المجوس) غير أن القدرية يقولون ذلك في الأحداث دون الأعيان.

أقول: هذا تقرير كلام الخطابي، ومذهب المعتزلة بخلاف ذلك، قال الزمخشري في ((كتاب المنهاج)): فإن قلت: الحسنة والسيئة من الله أم من العبد؟ قلت: الحسنة التي هي الخصب {والسعة من الله} والصحة من الله، وأما الطاعات فمن العبد، ولكن الله قد لطف به في أدائها وبعثه عليها، والسيئة التي هي [الخطب والقحط] والمرض من الله تعالى، وهو صواب وحكمة، وأما المعصية فمن العبد، والله تعالى بريء منها.

الحديث الرابع عشر عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((ولا تفاتحوهم)) الفتاحة – بضم الفاء وكسرها – الحكم، قال الله سبحانه وتعالى:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} أي احكم، وقيل: لا تبتدءوهم بالمجادلة والمناظرة، و ((لا تفاتحوهم)) وهو من (باب) عطف الخاص على العام؛ لأن المجالسة تشتمل على المؤاكلة، والمؤانسة، والمحادثة

ص: 571

109 -

وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي يجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت ليعز من أذله الله ويذل من أعزه الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي)). رواه البيهقي في ((المدخل)) ورزين في كتابه [109].

ــ

وغيرها، وفتح الكلام في حديث القدر أخص من ذلك. ((مظ)):((لا تفاتحوهم)) لا تناظروهم، ولا تبحثوا معهم عن الاعتقاد؛ فإنهم يوقعونكم في الشك، ويشوشون عليكم اعتقادكم.

الحديث الخامس عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لعنهم الله)) فيه وجهان، أحدهما: أنه إنشائي دعا عليهم، فيكون ((وكل نبي يجاب)) حالا من فاعل ((لعنتهم)) والجملة معترضة بين الحال وصاحبها. وثانيها: أن يكون إخبارياً استئنافاً، كأنه لما قيل:((لعنتهم)) سئل فماذا بعد؟ فأجيب ((لعنهم الله)) فيكون الثانية مسببة عن الأولى. ويحتمل العكس، وذلك أنه حين قال:((لعنتهم)) سأل سائل لم ذا؟ فأجاب لأنه ((لعنهم الله)) فعلى هذا يكون قوله: ((وكل نبي يجاب)) معترضاً بين البيان والمبين، يعني من شأن كل نبي أن يكون (مستجاباً).

((تو)): لا يصح عطف ((وكل نبي يجاب)) على فاعل ((لعنتهم)) وصححه الأشرفي لوجود الفاصل – وإن لم يؤكد بالضمير – وفيه نظر؛ لأن المانع هو عطف الجملة على المفرد. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون ((يجاب)) صفة لا [خبراً]؟ قلت: يلزم من ذلك أن لا يكون بعض الأنبياء مجاب الدعوة، ومنه فر التوربشتي، وأبطل رواية الخبر في ((يجاب)) [فيكون المعنى على هذا التقدير: ولعنهم كل مجاب].

قوله: ((الزائد في كتاب الله)) يجوز أن يراد به من يدخل في كتاب الله ما ليس منه، أو أن يأول بما يأبى عنه اللفظ ويخالف المحكم، كما فعلت اليهود بالتوراة من التبديل والتحريف. والزيادة في كتاب الله كفر، وتأويله بما يخالف الكتاب والسنة بدعة.

((تو)): ((الجبروت)) فعلوت، من التجبر، وإنما يطلق ذلك في صفة الإنسان على من يجبر نقيصته بإدعاء منزلة من التعالي لا يستحقها. أقول:((اللام)) في قوله ((ليعز)) إذا كان للتعليل يلزم منه جواز التسلط بالجبروت لغير ذلك ظاهراً، فيجب أن تحمل اللام على مثلها في قوله:((لدوا للموت، وابنوا للخراب)) وهي التي تسمى بلام العاقبة.

ص: 572

110 -

وعن مطر بن عكام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة)). رواه أحمد، والترمذي [110].

111 -

وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله! ذراري المؤمنين؟ قال: ((من آبائهم)). فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا

ــ

وقوله: ((المستحل لحرم الله)) حرم مكة يعني من فعل في حرم مكة ما لا يجوز فعله من الاصطياد، وقطع الشجر، ودخولها بغير إحرام. ((والعترة)) القرابة، يعني من فعل بأقارب رسول الله عليه الصلاة والسلام ما لا يجوز فعله من إيذائهم، وترك تعظيمهم. وتخصيص ذكر ((الحرم)) ((والعترة)) لشرفهما؛ لأن أحدهما منسوب إلى الله، والآخر إلى رسول الله، فعلى هذا ((من)) في ((من عترتي)) ابتدائية متعلقة بالفعل. قيل: يجوز أن تكون بيانية، وأن يراد بهذا ((المستحل)) من يستحل من أولاد رسول الله عليه الصلاة والسلام شيئاً من ((مستجاب الدعوة)).

وفيه تعظيم الجرم منهم كتعظيم الجرم الصادر عنهن – أزواج الرسول – في قوله: ((من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذب ضعفين)).

قوله: ((والتارك لسنتي)) استخفافاً بها وقلة مبالاة، فهو كافر ملعون، ومن تركها تهاوناً وتكاسلا لا عن استخفاف بها فهو عاص، واللعنة عليه من باب التغليظ.

الحديث السادس عشر عن مطر بن عكام رضي الله عنه: ظاهر.

الحديث السابع عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ذراري المؤمنين)) أي ما حكم ذراري المؤمنين؟ ((من آبائهم)) ((من)) فيها اتصالية كما في قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ والْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:((ما أنا من دد، ولا الدد مني)) وقولهم: ((فإني لست منك، ولست مني)). ((الكشاف: في انتسابه، فالمعنى: هم متصلون بآبائهم.

قولون: ((بلا عمل)) وارد على سبيل التعجب في أنهم متصلون بآبائهم بلا عمل يوجب لهم الثواب والعقاب. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) رد لتعجبها، وإشارة إلى القدر؛ ولهذا وضعه محيي السنة في باب القدر.

((تو)): ((قال: من آبائهم)) أي معدودين من جملتهم؛ لأن الشرع يحكم عليهم بالإسلام لإسلام أحد الأبوين، ويأمر بالصلاة عليهم، وبمراعاة أحكام المسلمين فيهم، وكذلك يحكم على

ص: 573

عاملين. قلت: فذراري المشركين؟ قال: ((من آبائهم)). قلت: بلا عمل؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)). رواه أبو داود [111].

ــ

ذراري المشركين بالاسترقاق، وبمراعاة أحكام المشركين فيهم قبل ذلك، وبانتفاء التوارث بينهم وبين المسلمين، فهم ملحقون في ظاهر الأمر بآبائهم.

قوله: (([و] الله أعلم بما كانوا عاملين)) ومن ثمة قال النواوي في شرح صحيح مسلم: اختلف العلماء فيمن مات من أطفال المشركين، فمنهم من يقول: هم تبع لآبائهم في النار، ومنهم من توقف فيهم، والثالث – وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون -: أنهم من أهل الجنة، واستدل بأشياء، منها حديث إبراهيم خليل الله عليه السلام حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم ((وحوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله؛ وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين)) رواه البخاري في صحيحه، ومنه قوله تعالى:((ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)) ولا يتوجه على المولود التكليف حتى يبلغ فيلزم الحجة، وهذا متفق عليه.

أقول – والعلم عند الله -: والحق الأول؛ يعني التوقف، لما ورد في مسند أحمد بن حنبل عن علي في حديث خديجة في أولادها كما سيجيء في الفصل الثالث من هذا الباب، وحديث الوائدة والموءودة في النار)) مخالف لحديث إبراهيم عليه السلام، فالوجه أن يبني الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها. وقولها:((عصفور من عصافير الجنة)) في شأن ولد من المسلمين، كما سبق أن إنكار الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله:((أو غير ذلك كان))؛ لأن حكمها على الصغير حكم على أبويه، و [الجزم] بأنهما من أهل الجنة؛ لأن الصغير تابع لهما، فعلى هذا أولاد المشركين الذين كانوا بين يدي إبراهيم الخليل عليه السلام هم المشركون الذي لم يسلموا حينئذ، ثم في المآل آمنوا. وأما ولد خديجة، والموءودة، [فهم] الذين مات آباؤهم على الكفر، وأما قوله تعالى:((ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)) فيحتمل أن يراد بالعذاب الاستئصال في الدنيا؛ لأن ((حتى)) تقتضي ظاهراً أن يكون العذاب في الدنيا، ويعضده ما أتبعه من قوله:{وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} وقد يشتمل عذاب الاستئصال في الدنيا الظالم وغيره قال الله تعالى: ((واتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً)) وحديث الخسف بالزوراء ((يخسف بهم جميعاً، ويحشرون على قدر نياتهم)) معلوم، فحينئذ لا يتم الاستدلال بالآية.

ص: 574

112 -

وعن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوائدة والموءودة في النار)). رواه أبو داود [112]

ــ

((قض)): الثواب والعقاب ليسا لأحد بالأعمال، وإلا لزم أن لا يكون ذراري المسلمين والكفار من أهل الجنة والنار، بل الموجب لهما هو اللطف الرباني، والخذلان الإلهي المقدر لهم وهم في أصلاب آبائهم، بل هم [وآباؤهم] وأصول أكوانهم بعد في العدم، فالواجب فيها التوقف وعدم الجزم بشيء من ذلك، فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله تعالى فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب؛ لأن السعادة والشقاوة ليستا معللتين [عندنا]، بل الله تعالى خلق من شاء سعيداً، ومن شاء شقياً، وجعل الأعمال دليلا على السعادة والشقاوة، وأنت تعلم أن عدم الدليل وعدم العلم به – لا يوجبان عدم المدلول والعلم بعدمه، وكما أن البالغين منهم شقى وسعيد، وأما الذين شقوا، فهم مستعملون بأعمال أهل النار حتى يموتوا عليها، فيدخلوا النار فأما الذين سعدوا فهم موفقون للطاعات وصالح الأعمال، حتى يتوفوا عليها فيدخلوا الجنة، فأطفال منهم من سبق القضاء بأنه سعيد من أهل الجنة، فهو لو عاش عمل أعمال أهل الجنة، ومنهم من جف القلم بأنه شقى من أهل النار، فهو لو أمهل لاشتغل بالعصيان وانهمك في الطغيان.

الحديث الثامن عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((الوائدة)) وأد ابنته يئدها وأداً [فهي] موءودة: إذا دفنها في القبر وهي حية. ((قض)): كانت العرب في جاهليتهم يدفنون البنات حية، فالوائدة في النار لكفرها وفعلها، والموءودة فيها لكفرها، وفي الحديث دليل على تعذيب أطفال المشركين، ولعل المراد بـ ((الوائدة)) القابلة، وبـ ((الموءودة)) الموءودة لها – وهي أم الطفل – فحذفت الصلة، إذا كان من دينهم أن المرأة إذا أخذها الطلق حفر لها حفرة عميقة فجلست عليها، والقابلة وراءها تترقب الولد، فإن ولدت ذكراً [أمسكت]، وإن ولدت أنثى ألقتها في الحفرة وأهالت التراب عليها. قلت: هذا الحديث والذي قبله إنما أورد في هذا الباب استدلالا على إثبات القدر، وتعذيب أطفال المشركين، ومن أراد تأوليهما بغير هذا فيجب عليه أن يخرجهما من هذا الباب.

وأما قولهم: ورد هذا الحديث في قصة خاصة، وهي أن ابني مليكة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه عن أم لهما، كانت تئد، فقال عليه الصلاة والسلام:((الوائدة والموءودة في النار)) فلا يجوز حمله على العموم. فجوابه: أن العبرة لعموم اللفظ لا الخصوص السبب عند قيام الشواهد، روينا في كتاب جامع الصحيح لأبي محمد الدارمي عن الوضين: ((أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا كنا أهل جاهلية، وعبدة أوثان، وكنا نقتل الأولاد، وكانت عندي ابنة لي، فلما أحانت، وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها، ودعوتها يوماً فاتبعتني فممرت حتى أتينا

ص: 575

الفصل الثالث

113 -

عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل فرغ إلى كل عبد من خلقه من خمس: من أجله، وعمله، ومضجعه، وأثره، ورزقه)) رواه أحمد [113].

114 -

وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تكلم في شيء من القدر سئل عنه يوم القيامة، ومن لم يتكلم فيه لم يسأل عنه)) رواه ابن ماجه [114].

ــ

بئراً من أهلي غير بعيد، فأخذت بيدها، فرديت بها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: يا أبتاه! يا أبتاه! فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف دمع عينيه، فقال رجل من جلساء النبي صلى الله عليه وسلم: أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له: كف، فإن يسأل عما أهمه، ثم قال له: أعد على حديثك، فأعاده فبكى حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته، ثم قال له: إن الله قد وضع عن الجاهلية ما علموا، إذا فاستأنف عملك)).

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((فرغ إلى كل عبد)) فرغ يستعمل باللام يقال: فرغ لكذا، واستعماله بإلى إما للتضمين، أو يكون حالا، انتهى تقديره في الأزل من تلك الأمور إلى تدبير العبد بأبدانها، كما سبق من قوله:((شئون يبديها لا يبتديها)). ويجوز أن يكون ((إلى)) بمعنى اللام، يقال: هداه إلى كذا، أو لكذا. و ((من)) في ((من خلقه)) صلة ((فرغ))، أي من خلقته، ومما يختص به، وما لابد منه من الأجل، والعمل وغيرهما، و ((من خمس)) عطف عليه، ولعل سقوط الواو من الكاتب، ويمكن أن يقال: إنه بدل منه بإعادة الجار، والوجه أن يذهب إلى أن ((خلقه)) بمعنى مخلوقه، و ((من)) فيه بيانية، و ((من)) في ((من خمس)) متعلق بـ ((فرغ)) أي فرغ إلى كل عبد كائن من مخلوقه من خمس، و ((أثره)) أي أثر مشيته في الأرض، لقوله تعالى:{ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وآثَارَهُمْ} جمع بين مضجعه وأثره، وأراد سكونه وحركته، ليشتمل جميع أحواله من الحركات والسكنات.

الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من تكلم في شيء من القدر)) قال: ((في

ص: 576

115 -

وعن ابن الديلمي، قال: أتيت أبي بن كعب، فقلت له: قد وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني لعل الله أن يذهبه من قلبي. فقال: لو أن الله عز وجل عذب أهل سماواته وأهل أرضه؛ عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك

ــ

شيء)) ولم يقل: ((في القدر)) ليفيد المبالغة في القلة، وفي النهي عنه، أي من تكلم بشيء يسير منه يسأل عنه يوم القيامة، فكيف بالكثير منه؟ فالسؤال للتهديد.

الحديث الثالث عن ابن الديلمي: قوله: ((في نفسي شيء)) أي حرارة واضطراب عظيم أريد منك الخلاص منه، فحدثني بحديث يزيل ذلك مني، قال: أولا ((في نفسي)) وثانياً ((في قلبي)) إشعاراً بأن ذلك تمكن منه، وأخذ بمجامعه من ذاته وقبله.

وقوله: ((أن يذهبه)) أدخل ((أن)) في خبر ((لعل)) تشبيهاً لها بعسى. وقوله: ((ولو أن الله عذب)) إرشاد عظيم وبيان شاف لإزالة ما طلب منه؛ لأنه هدم به قاعدة القول بالحسن والقبح عقلاً؛ لأنه مالك السموات والأرض وما فيهن، ويتصرف في ملكه كيف يشاء، ولا يتصور فيه الظلم؛ لأنه لا يتصرف في ملك غيره. ثم عطف عليه ((لو رحمهم)) إيذاناً بأن رحمته على الخلق ليست من إيجابهم عليه سبب أعمالهم، بل هو فضل ورحمة منه ولو شاء أن يصيب برحمته الأولين والآخرين، لا يخرج ذلك من حكمة وراء ما يحيط علمنا به.

- وقوله: ((ولو أنفقت)) تمثيل على سبيل الفرض، لا تحديد، إذ لو فرض الإنفاق ملء السموات والأرض كان كذلك. وقوله:((تعلم أن ما أصابك)) شروع في التخصيص بعد التعميم، وقوله:((لم يكن ليخطئك)) وضع موضع المحال، كأنه يقول: محال أن يخطئك، كقوله تعالى:{ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَلكُمْ عَلَى الغَيْبِ} أي لا ينبغي ولا يصح، ومحال أن يطلعكم عليه؛ لأن فيه ثلاث مبالغات، أحدها: دخول الله المؤكدة للنفي في الخبر، وثانيها: تسليط النفي على الكينونة، وثالثها: سرايته في الخبر. قال بعض المغاربة: فائدة دخول ((كان)) المبالغة في نفس الفعل الداخلة هي عليه؛ لتعديد جهته، لنفيه عموماً باعتبار الكون، وخصوصاً باعتبار الخبر، فهو نفى مرتين، تم كلامه. [كأنه أشير] إلى أن هذا الفعل من الشئون التي عدمها راجح على الوجود، وأنها من قبيل المحال، ومنه قوله تعالى:{ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأَنتَ فِيهِمْ} .

ص: 577

لم يكن ليصيبك. ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان، فقال مثل ذلك. ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه [115].

116 -

وعن نافع، أن رجلاً أتى ابن عمر فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام. فقال: إنه بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((يكون في أمتي – أو في هذه الأمة – خسف، أو مسخ، أو قذف في أهل القدر)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب [116].

ــ

قوله: ((ما أخطأك)) ((غب)): الخطأ العدول عن الجهة، ومن أراد شيئاً واتفق غيره، يقال: أخطأ، وإن وقع منه كما أراده، يقال: أصاب. واستعماله في الحديث مجاز، وفي سؤاله عن الصحابة واحداً بعد واحد، واتفاقهم في الجواب من غير تغيير، ثم انتهاء السؤال إلى حضرة الرسالة – حفت بالصلوات التامات – دليل على الإجماع المستند إلى النص الجلي. انظر إلى هذه التشديدات والمبالغات، ثم احكم على من خالفها بالمكابرة والعناد. ثم في قوله:((وتعلم أن ما أصابك)) على الخطاب العام حث على التوكل، والتسليم، والرضي، ونفى الحول والقوة إلا بالله، وبعث على التصليب في دين الله مع [الأعداء]، والمضي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير مبالاة بأحد، ولزوم القناعة والصبر على المصيبات من الأهل والمال والولد، وعلى المرابطة للنفس الأمارة بالسوء في طريق السلوك، والعروج إلى معارج القدس – رزقنا الله، ووفقنا لإدراكه.

الحديث الرافع عن نافع: قوله: ((إنه)) الضمير المنصوب فيه للشأن، والجملة بعده مفسرة له، وهو الخبر. قوله:((أحدث)) أي أحدث في الدين ما ليس منه، من التكذيب بالقدر. قوله:((فلا تقرئه مني السلام)) كناية عن عدم قبول إسلامه.

قوله: ((والقذف)) الرمي بالحجارة، يريد عذاب الرمي، كقوله تعالى:{وأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [من السماء] والعطف بـ ((أو)) إما لشك الرواي، أو لتنويع العذاب. قوله:((في أهل القدر)) بدل للبعض من قوله: ((في أمتي)) بإعادة العامل.

ص: 578

117 -

وعن علي، رضي الله عنه، قال: سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم، عن ولدين ماتا لها في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((هما في النار)). قال: فلما رأى الكراهة في وجهها قال: ((لو رأيت مكانهما لأبغضتهما)). قالت: يا رسول الله! فولدي منك؟ قال: ((في الجنة)). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم [بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ]) رواه أحمد [117].

ــ

الحديث الخامس عن علي رضي الله عنه: قوله: ((عن ولدين)) أي سألت عن شأنهما، وأنهما في الجنة أم في النار؟ فقال:((هما في النار)) وفيه دليل على أن الأولاد تابعة لآبائهم في الآخرة دون أماتهم؛ ولذلك استشهد صلى الله عليه وسلم لذلك بقوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . وأما طريق الاستشهاد لإلحاق أولاد الكفار بهم بالآية، أن يقال: لا ارتياب أن هذا الإلحاق لكرامة الآباء، ومزيد سرورهم وغبطتهم في الجنة، وإلا فينغص عليهم كل نعيم، ومن ثم قالوا:((والذين آمنوا)) في موضع نصب، على تقدير: وأكرمنا الذين آمنوا ألحقنا بهم ذريتهم على شريط التفسير. الكشاف: ((والذين آمنوا)) مبتدأ، و ((إيمان)) (خبر)، والتنكير في ((إيمان)) للتعظيم. والمعنى بسبب إيمان عظيم، رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم – وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم، ليتم سرورهم، ويكمل نعيمهم، وهذا المعنى مفقود في حق [الكفار و] أولاد الكفار.

وقوله: ((لو رأيت)) أي لو رأيت منزلتهما من الحقارة والبعد عن نظر الله، لرأيت الكراهة، وأبغضتهما. ومنه حديث إبراهيم عليه السلام مع أبيه في القيامة، ورؤيته إليه [بصفة] ذبح ملطخ. أو لو علمت ((مكانهما)) أي منزلتهما، وبغض الله إياهما، لأبغضتهما، وتبرأت منهما تبرأ إبراهيم [عن] أبيه حيث تبين أنه عدو الله.

ص: 579

118 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط عن ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: ذريتك. فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، قال: أي رب! من هذا؟ قال: داود. فقال: رب! كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: رب زده من عمري أربعين سنة)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت، فقال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك

ــ

الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((نسمة)) النسمة كل ذي روح، وقيل: كل ذي نفس، مأخوذة من النسيم، و ((هو خالقها)) صفة لـ ((نسمة))، ذكرها ليتعلق به ((إلى يوم القيامة)). ((الوبيص)) البريق واللمعان. وفي هذا دليل على أن إخراج الذرية كان حقيقياً، وتفسير قوله:{ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ} بالحديث كما ذكرنا عن القاضي في الوجه الأول من ذلك الحديث أظهر من الوجه الآخر.

وقوله: ((وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً)) إيذان بأن الذرية كانت في صورة الإنسان على مقدار الذرة، وفي ذكر ((الوبيص)) تنبيه على الفطرة السليمة الأصلية كما مر، وفي تخصيص التعجب من وبيص داود عليه السلام إظهار لكرامة من كراماته، ومدح له، فلا يدل على تفضيله على الغير؛ فإن في الأنبياء من هو أفضل منه، وأكثر كرامة. وفيه إشارة إلى ما رواه الشيخان ((يهرم ابن آدم، ويشب فيه اثنان: الحرص على المال، والحرص على العمر)). و ((نسى آدم)) وارد على سبيل الاستطراد، وابن آدم مجبول من أصل خلقته على الجحد، والنسيان، والخطأ، إلا من عصمه الله بتوفيقه. و ((بين عيني)) ثاني مفعول ((جعل)) أي جعل وبيصاً علامة بين عينيه، ويجوز أن يكون جعل بمعنى خلق، وحينئذ يكون ((بين عيني)) ((ظرفاً له))، و ((كم)) مفعول مقدم؛ لكونه استفهاماً، أي كم سنة ((جعلت عمره)) و ((أربعين)) ثاني مفعولي ((زد)) كقوله تعالى:{وقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . قال أبو البقاء: زاد يستعمل لازماً كقولك زاد الماء، ويستعمل متعدياً إلى مفعولين، كقوله: زدته درهما، وعلى هذا جاء قوله تعالى:{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} . و ((من عمري)) صفة ((أربعين)) فقدم، فصار حالا.

فإن قلت: ما الفرق بين قوله: ((انقضى عمر آدم إلى أربعين)) وبينه إذا قيل: بقي من عمر آدم أربعون. قلت: في الاستثناء توكيد ليس فيه. قال الزجاج في قوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَاّ خَمْسِينَ عَامًا} : الاستثناء يستعمل في كلامهم، وتأويله تأكيد العدد وكماله، لأنك قد تذكر الجملة ويكون الحاصل أكثرها، وإذا أردت التوكيد في تمامها قلت: كلها، وإذا أردت التوكيد في

ص: 580

داود؟! فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم فأكل من الشجرة، فنسيت ذريته، وخطأ وخطأت ذريته)). رواه الترمذي [118].

119 -

وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى، فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي)). رواه أحمد [119].

120 -

وعن أبي نضرة، أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – يقال له: أبو عبد الله

ــ

نقصانها أدخلت الاستثناء، تقول: جاءني إخوتك، يعني: أن جميعهم جاءوك، وجائز أن يعني؛ أن أكثرهم جاءوك، فإذا قلت: كلهم أكدت معنى الجماعة، وأعلمت أنه لم يتخلف منهم أحد، وإذا قلت: إلا زيداً، أكدت أن الجماعة تنقص زيداً، ولهذا السر صارت هذه الصيغة أصلا في الاعتبار، ومقيساً عليها، فافهم.

الحديث السابع عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((حين خلقه)) ظرف لقوله: ((فضرب)) ولا يمنع ((الفاء)) من العمل؛ لأنه ظرف، على أن ((الفاء)) السببية أيضاً غير مانعة لعمل ما بعدها فيما قبلها؛ فإن {لإيلافِ قُرَيْشٍ} متعلق بقوله:((فليعبدوا)) على تقدير الشرط، أي إما ((لإيلاف قريش)) متعلق بقوله:((فليعبدوا)) على تقدير الشرط، أي إما لا فليعبدوا، كذا في الكشاف، يقول العرب: افعل هذا إما لا، أي إن كنت لا تفعل غيره فافعل هذا. أو تقديم الظرف مع وجود فاء التعقيب للدلالة على أن الإخراج لم يتخلف عن خلقه صلى الله عليه وسلم. ((الحمم)) جمع حمة، يقال: حمت الجمرة تحم – بالفتح – إذا صارت فحما؛ ((وإلى الجنة)) خبر مبتدأ محذوف أي لأجل الذي في يمينه هؤلاء أوصلهم إلى الجنة، و ((لا أبالي)) حال من الضمير المستتر في الخبر، وهو نحو قوله:((وإن رغم أنف أبي ذر))، فإنه تعالى علم من بعض المبتدعة القول بخلافه. [وأما ذكر اليمين والكتف فلتصوير عظمة الله وجلالته من غير تشبيه]، كما مر.

ص: 581

- دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذ من شاربك ثم أقره حتى تلقاني؟)) قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((إن الله عز وجل قبض بيمينه قبضة وأخرى باليد الأخرى وقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أبالي)) ولا أدري في أي القبضتين أنا. رواه أحمد [120].

121 -

وعن ابن عباس، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أخذ الله ميثاق من ظهر آدم بنعمان – يعني عرفة – فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه

ــ

الحديث الثامن عن أبي نضرة رضي الله عنه: قوله: ((ألم يقل لك)) دخلت همزة الاستفهام على حرف النفي فأفادت التقرير والتعجب، أي كيف تبكي وقد تقرر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد بأنك تلقاه لا محالة؟ وأجاب بأني أخاف من عد الاحتفال والاكتراث في قوله:((ولا أبالي)). و ((خذ من شاربك)) أي قصه، ((ثم أقر)) على هذا ودم عليه ((حتى تلقاني)) في الحوض أو غيره، وفيه إشارة إلى أن قص الشارب من السنن، والمداومة عليه موصلة إلى هذه المرتبة السنية، وهو القرب إلى دار النعيم في جواز نبي الله وأن من ترك سنة أي سنة حرم خيراً كثيراً، فكيف المواظبة على ترك سائرها؟ فإن ذلك يؤدي إلى الزندقة.

الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((بنعمان)) الجوهري: بالفتح، واد في طريق الطائف يخرج إلى العرفات. قوله:((ذرأها)) ((غب)): الذرأ إظهار الله تعالى ما أبدأ، يقال: ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم، قال الله تعالى:{ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ والإنسِ} والمعنى أخرج كل ذرية خلقها إلى يوم القيامة.

وقال الجوهري: رأيته قبلا وقبلا بالضم مقابلة وعياناً، وقبلا بكسر القاف كذلك، وهو حال. ((نه)): إن الله تعالى كلمهم قبلا أي عياناً ومقابلة لا من وراء حجاب، من غير أن يولى أمره أو كلامه أحداً من ملائكته. و ((شهدنا)) تقرير لقوله:{وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أي أنت ربنا شهدنا على أنفسنا، وأقررنا بوحدانيتك، وقوله:((أن تقولوا)) مفعول له، أي فعلنا ذلك كراهة أن يقولوا يوم القيامة:{إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} لم ننتبه إليه، أو كراهة أن يقولوا:((إنما أشرك آباؤها من قبل)).

((تو)): هذا الحديث مخرج في كتاب أبي عبد الرحمن النسائي، ولا يحتمل من التأويل ما يحتمل حديث عمر رضي الله عنه لظهور المراد منه، ولا أراهم يقابلون هذه الحجة، إلا بقولهم:

ص: 582

كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال:(ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) رواه أحمد [121].

ــ

إن حديث ابن عباس من جملة الآحاد فلا يلزمنا أن نترك به ظاهر الكتاب، وقال: إنما جدوا في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضي ظاهر الحديث، لمكان قوله سبحانه:{أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} فقالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار، حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم يوم القيامة أن يقولوا: شهدنا يومئذ، فلما زال عنا علمنا علم الضرورة، ووكلنا إلى رأينا كان منا من أصاب، ومنا من أخطأ – وإن كان عن استدلال – ولكنهم عصموا عنده من الخطأ، فلهم أيضاً أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة، وحرمناها من بعد، ولو مددنا بهما أبداً لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا اليوم الأول. فقد تبين أن الميثاق ما ركز الله فيهم من العقول وآتاهم وآباءهم من البصائر؛ لأنها هي الحجة الباقية المانعة لهم عن قولهم:{إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا عنه من الغيوب. ولهم في ذلك كلام كثير اكتفينا عنه بهذا المقدار، والغرض منه توفيق الطالبين على موضع الإشكال، والتوفيق بين الآية وحديث عمر على ما ذكرناه متعسر، والتوفيق بينهما وبين حديث ابن عباس على الوجه الذي لا يعارضه حجة أخرى من الكتاب مشكل جداً، إلا أن يعلل الحديث بما عللوه، انتهى كلامه.

وأيضاً الاستدلال الذي بسببه حصل لهم العلم بالوحدانية يوم الميثاق إن كان حاصلا لهم في الدنيا وقت التكليف كان كافياً في المحجوجية، فلا فائدة في الميثاق السابق، وإن لم يكن حاصلا لهم في وقت التكليف لم يصيروا محجوجين بما فقدوه، كما لا يخفي تأمل.

وأقول: خلاصة ما قالوا: أنه يلزم أن لا يكونوا محجوجين يوم القيامة. والجواب: أنهم إذا قالوا: شهدنا يومئذ، فلما زال علم الضرورة ووكلنا إلى رأينا كان منا من أصاب، ومنا من أخطأ – إلى تمام ما ذكرنا – قيل لهم: كذبتم، إنكم ما وكلتم إلى رأيكم، بل أرسلنا رسلنا تترى يوقظونكم عن سنة الغفلة؛ فإن الرسل بعثوا لينبهوا عن الغفلة، وليبعثوا على النظر. وتناسيهم، وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق. وأما الجواب عن قولهم: فلهم أن يقولوا: فإذا حرمنا اللطف والتوفيق فأي منفعة لنا في العقل، والبصيرة؟ والذي

ص: 583

122 -

وعن أبي بن كعب في قول الله عز وجل: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: جمعهم فجعلهم أزواجاً، ثم صورهم فاستنطقهم، فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق، (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم)

ــ

يقتضي منه العجب، أن الشيخ شهاب الدين التوربشتي كيف قرر مذهب المعتزلة، ولم يرد عليهم مع رسوخ علمه وعلو مرتبته، وكيف جعل حديث عمر رضي الله عنه – المذكور في الفصل الثاني، وهو من المتشابه – أصلا في الاعتبار، وفسره بما يوافق مذهب الخصم، ورد هذا الحديث وهو محكم نص جلي، بأنه من الآحاد؟ وهلا جعل المحكم أصلا، ورد عليه التشابه، وأوله بما نقلناه عن المفسرين وعن القاضي؟ لأن الحديث النبوي مبين للتنزيل، كما قال الله تعالى:{وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} ولعمري! إني لمنكر جداً لمن إذا ورد عليه حديث لا يوافق مذهبه، شمر في الرد بأنه من الآحاد. والغرض من هذا الإطناب الإرشاد إلى التفادي عن القول في الأحاديث الصادرة عن منبع الرسالة عن الثقات، بأنها متروكة العمل، لعلة كونها من الآحاد؛ لأن ذلك يؤدي إلى سد باب كثير من الفتوحات الغيبية، ويحرم قائله كثيراً من المنح الإلهية.

روى الإمام البيهقي في المدخل عن الشافعي رضي الله عنه: الذين لقيناهم كلهم مثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي عليه الصلاة والسلام ويجعلونه سنة، حمد من تبعها، وعيب من خالفها، وقال الشافعي: من فارق هذا المذهب كان عندنا مفارقاً لسبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم بعدهم، وكان من أهل الجهالة، فقال الشافعي: فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي. وجعل يردده.

وروى الدارمي عن الشعبي قال: ما حدثك هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ بيده، وما قالوا برأيهم فألقه في الحش. وذكر ابن الصلاح عن أبي داود أنه قال: لأن أعمل بحديث ضعيف خير من أن أعمل بآراء هؤلاء الرجال. لفظ هذا معناه، {واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} .

الحديث العاشر عن أبي بن كعب رضي الله عنه: قوله: في قول الله عز وجل ((أي ذكر في تفسيره قول الله عز وجل: أزواجاً)) أصنافاً، ((غب)): يقال: زوج لكل ما يقترن بآخر، قال الله

ص: 584

قالوا: بلى. قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا. اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئاً. إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا. لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك. فأقروا بذلك، ورفع عليهم آدم عليه السلام بنظر إليهم، فرأي الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك. فقال: رب لولا سويت بين عبادك! قال: إني أحببت أن أشكر ورأي فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور، خصوا بمثاق آخر في الرسالة والنبوة، وهو قوله تبارك وتعالى {وإذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} إلى قوله:

ــ

تعالى: {ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} أي أشباها وأقراناً، وبين الأصناف بقوله:((فرأى الغني، والفقير)) إلى آخره، وقوله:((فجعلهم أزواجاً)) أي أراد أن يجعلهم أصنافاً فصورهم، كقوله تعالى:{فَإذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} .

قوله: ((فإني أشهد عليكم السموات السبع)) إشارة إلى نصب الدلائل الظاهرة، والآيات الباهرة، و ((أشهد عليكم آباءكم)) – أي يذكرونكم عهدي – إشارة إلى النصوص الشاهدة، والتنبيهات من الرسل المبعوثين إليهم، فعلى هذا ينبغي أن يحمل حديث عمر رضي الله عنه؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا. و ((رفع)) أي أشرف و ((ينظر)) حال، ويجوز أن يكون مفعولا له، و ((أن مقدرة، أي لأن ينظر إليهم، كقول الشاعر: ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى. و ((لولا)) للتحضيض أي هلا سويت بينهم الغني والفقير وغير ذلك، ((أن أشكر)) أي ما سويت بينهم حتى ينظر الغني إلى الفقير، فيشكو نعمتي عليه، وينظر الفقير إلى دينه فيرى نعمته فوق الغني فيشكر نعمتي عليه، ويرى حسن الصورة إلى جماله فيشكر، وقبيح الصورة فيرى حسن خصاله فيشكر، وعلى هذا. ((ورأى الأنبياء)) يعني أن الأنبياء بعد الميثاق العام خصهم الله بميثاق آخر ((من فيها)) أي دخل الروح من في مريم عليها السلام، وذكر الروح على تأويل المنفوخ، أو في عيسى، وكذا في ((أرسله)) فكأنه أراد قوله تعالى:{ومَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} أي فيها، وقرأ ابن مسعود ((فيها)) صلى الله عليه وسلم كما قرئ في سورة الأنبياء، وتقييده بقوله:((ودخل من فيها)) تسجيل على النصارى بركاكة عقولهم، أي كيف يتخذ إليها من دون الله من هذا حاله؟ كقوله:{وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} .

ص: 585

(عيسى بن مريم) كان في تلك الأرواح، فأرسله إلى مريم عليهما السلام فحدث عن أبي: أنه دخل من فيها. رواه أحمد [122].

123 -

وعن أبي الدرداء، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر ما يكون، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا به، فإنه يصير إلى ما جبل عليه)). رواه أحمد [123].

124 -

وعن أم سلمة، قالت: يا رسول الله! لا يزال يصيبك في كل عام وجع من الشاة المسمومة التي أكلت. قال: ((ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم في طينته)). رواه ابن ماجه [124].

ــ

الحديث الحادي عشر عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((ما يكون)) ((ما)) موصولة أي الذي يحدث من الحوادث أهو شيء مقضي، أو شيء يتجدد آنفاً؟ ومن ثم قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:((وإنه يصير إلى ما جبل عليه)) يعني: الأمر على ما قدر وسبق، حتى العجز والكيس، فإذا سمعتم أن الرجل الكيس يصير بليداً أو بالعكس، وأن العاجز يرجع قوياً وبالعكس فلا تصدقوا به، وضرب زوال الجبال مثلا تقريباً؛ فإن هذا ممكن، وزوال الخلق المقدر عما كان في القدر غير ممكن.

الحديث الثاني عشر عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((آدم في طينته)) مثل للتقدير السابق لا تعيين؛ فإن كون آدم في طينته مقدر أيضاً قبله، ونحوه قوله تعالى:((وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ)). ((الكشاف)): هو قول لأبعد غاية يضربها الناس في كلامهم، وكذا قولهم في التأبيد: ما دام تغار، وما أقام ثبير، وما لاح كوكب وير ذلك من كلمات التأبيد – وإن لم تكن مؤبدة حقيقة.

ص: 586