الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) باب الكبائر وعلامات النفاق
الفصل الأول
49 -
عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله! أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: ((أن تدعو لله ندا وهو خلقك)) قال: ثم أي؟ قال: ((أن
ــ
باب الكبائر وعلامات النفاق
الفصل الأول
الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((أي الذنب أكبر؟)) ((شف)): الذنب الجرم، وهو بحسب المغفرة على ثلاثة أقسام: قسم لا يغفر، وهو الشرك بالله تعالى وقسم يرجى أن يغفر بالاستغفار والتوبة، وهو ما بين الله تعالى وبين عبده، وقسم يحتاج إلى التراد، وهو حقوق الآدميين، نقول: والتراد على أقسام، إما في الدنيا بالاستحلال، أو رد العين، وإما في الآخرة برد ثواب الظالم إليه، أو أن الله تعالى يرضى المظلوم بفضله ولطفه، كما سيجيء في حديث عرفة.
((الكشاف)): والصغيرة والكبيرة بإضافتهما إما إلى طاعة، أو معصية، أو ثواب فاعلهما، أي الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان، فلا بد من أمر آخر يقاس عليه، وهو أحد هذه الأمور الثلاثة، فكل ما يكفر بمثل الصلاة فهو من الصغائر، لقوله تعالى:{وأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فإنها نزلت في تقبيل أبي اليسر المرأة، ولقوله صلى الله عليه وسلم:((ما من مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما يأت كبيرة، وذلك الدهر كله)). وكل ما يكفر بمثل الإسلام والهجرة فهو من الكبائر، لقوله صلى الله عليه وسلم ((إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله)). أما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا وعقابا أزيد من الوعيد والعقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة، وتلك صغيرة. وأما فاعلهما فهو أن فاعل المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة؛ لما روى:
ــ
((حسنات الأبرار سيئات المقربين)). ((قض)) في تفسيره: ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال، ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في كثير من خطراته التي لم تعد على غيره بخطيئة فضلا أن يؤاخذ.
قال التوبشتي واختصره القاضي: ليس لقائل أن يقول: كيف عد الكبائر ههنا ثلاثا، وأربعا في حديث ابن عمر وأنس، وسبعا في حديث أبي هريرة؟ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للحصر في شيء من ذلك، ولم يعرب عنه كلامه، أما في هذا الحديث فظاهر، وأما في حديث ابن عمر فلأن الحكم فيه مطلق، والمطلق لا يفيد الحصر، والذي نقول: إنه صلى الله عليه وسلم أنهى في كل مجلس ما أوحى الله إليه صلى الله عليه وسلم وألهم، أو سنح له باقتضاء أحوال السائل، وتفاوت الأوقات، فالأولى والأضبط أن نجمع كلها، ونجعلها مقيسا عليها على ما قال الإمام عز الدين بن عبد السلام السلمى في كتاب قواعد الشريعة: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر فهي من الكبائر؛ فحكم القاضي بغير الحق كبيرة، فإن شاهد الزور متسبب متوسل، فإذا جعل السبب كبيرة فالمباشرة أكبر من تلك الكبيرة، فلو شهد اثنان بالزور على قتل موجب للقصاص، فسلمه الحاكم إلى الولي فقتله، وكلهم عالمون بأنهم باطلون، فشهادة الزور كبيرة، والحكم بها أكبر منها، ومباشرة القتل أكبر من الحكم.
قوله: ((أن تدعو لله ندا)) الند – بالكسر – والنديد، والنديدة، مثل الشيء الذي يضاده وناوئه في أموره. ((غب)): ند الشيء مشاركه في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت، فكل ند مثل لا عكسه. والضد هو أحد المتقابلين، وهما الشيئان المختلفان اللذان لا يجتمعان في شيء واحد. الدعاء: النداء، ويستعمل استعمال التسمية، نحو، دعوت ابني زيدا، أي سميته، ودعوته إذا سألته واستعنته، ((ادع لنا ربك)) أي سله، ((أغير الله تدعون، بل إياه تدعون))، أي تستغيثون. والدعاء ههنا متضمن معنى الجعل، أي يجعلون لله ندا، كقوله تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} يعني بسبب عبادتكم الأصنام، وتعظيمكم إياها، وتسميتها آلهة – أشبهت حالكم حال من يعتقد أنها آلهة مثله.
قوله: ((وهو خلقك)) الواو فيه للحال. ((مظ)): وأكبر الذنوب أن تدعو لله ندا شريكا، مع علمك بأنه لم يخلقك أحد غير الله، ولم يقدر على أن يدفع عنك السوء والمكاره غيره، بل لله عليك الإنعام مما لا تقدر على عده. قوله:((ثم أي)) التنوين في ((أي)) عوض عن المضاف إليه،
تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)). قال: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك)). فأنزل الله تعالى تصديقها: {والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَاّ بِالْحَقِّ ولا يَزْنُونَ} الآية [الفرقان: 68][متفق عليه].
50 -
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكبائر: الإشراك
ــ
وأصله: ثم أي شيء من الذنوب أكبر بعد الكفر؟ الحليلة: الزوجة، والحليل: الزوج؛ لأن كلا منهما حلال للآخر، من: حل يحل – بالكسر – أي مباح، أو حال عنده من حل يحل – بالضم – كما سمى الجار حليلا. فإن قلت: مع معنى ((ثم))؟ فإن تراخى الزمان لا يتصور فيه، وكذا التراخي في المرتبة لوجوب كون المعطوف بها أعلى رتبة من المعطوف عليه، وههنا بالعكس.
قلت: معناه التراخي في الإخبار، كأن قال: أخبرني عن أوجب ما يهمن السؤال عنه من الذنوب، ثم الأوجب فالأوجب. ((مظ)): لا خلاف في أن أكبر الذنوب بعد الكفر قتل نفس مسلمة بغير الحق.
قوله: ((خشية أن يطعم معك)) يعني قتل الولد أكبر من سائر الذنوب، وقتله من خوف أن يطعم طعامك أيضا ذنب؛ لأنك لا ترى الرزق من الله تعالى. قوله:((أن تزاني حليلة جارك)) يعني الزنا ذنب كبير وخاصة مع من سكن جوارك، والتجأ بأمانتك، وثبت بينك وبينه حق الجوار، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:((ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) فالزنا بزوجة جاره يكون زنا، وإبطال حق الجوار والخيانة معه، فيكون أقبح، وإذا كان الذنب أقبح يكون الإثم أعظم. هذا الكلام حسن متين.
واعلم أن قتل ولدك، وحليلة جارك يوهم أنه إذا لم يكن مقيدا لم يكن الفعل من الكبائر، ودفع هذا الوهم أن يقال: مثل هذا النهي غالبا إما ورد على الأمر الواقع المخصوص، وهو من مفهوم اللقب، ألا ترى إلى قوله تعالى:{ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ} فإنه مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)) وقد اتفقوا على أنه من باب مفهوم اللقب، وهذا يعضد ما ذهبنا إليه أن اختلاف الأحاديث في عدد الكبائر بحسب ما سنح له صلى الله عليه وسلم على مقتضى حال السائل، وتفاوت الأوقات والمجالس.
قوله: ((فأنزل الله تصديقها)) الضمير راجع إلى هذه المسألة، أو الأحكام، أو الواقعة، و ((تصديقها)) مفعول له، أي وأنزل الله هذه الآية تصديقا لها. وفيه دليل على جواز تقرير السنة وتصديقها بالكتاب.
بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس)). رواه البخاري.
51 -
وفي رواية أنس: ((وشهادة الزور)) بدل: اليمن الغموس)) متفق عليه.
52 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم
ــ
الحديث الثاني عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((الكبائر الإشراك بالله)) وهو جعل أحد شريكا لآخر، والمراد هنا اتخاذ إله غير الله. والعقوق مخالفة من حقه واجب، وعقوق الوالدين عصيان أمرهما، وترك خدمتهما. ((واليمين الغموس)) هو أن يحلف الرجل على الماضي متعمدا الكذب، بأن يقول: والله فعلت كذا أو والله ما فعلت كذا، وهو أنه كاذب ما فعله، أو أنه فعله. وقيل: اليمين الغموس أن يحلف الرجل كاذبا ليذهب بمال أحد، وسمي غموسا لأنه يدخل صاحبه في النار، أو في الإثم، أو في الكفارة.
قوله: ((شهادة الزور)) الزور أعلى الصدر، وزرت فلانا تلقيته بزوري، أو قصدت زوره نحو وجهته. وقيل للكذب زورا لكونه مائلا عن جهته، قال الله تعالى:{والَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} .
قوله: ((بدل اليمين)) نصب على الظرف، أي مكان اليمين على الكناية؛ لأن من أبدل شيئا من شيء فقد وضعه مكانه. فإن قلت: لم ذكر في حديث ابن مسعود الكبائر بـ ((ثم)) المستدعية للتراخي في الرتبة مجازا، وفي حديث عبد الله بن عمرو بالواو وهي لا تقتضي الترتيب؟ أجاب التوربشتي بقوله: يحتمل أن يكون قتل الولد وعقوق الوالدين في مرتبة، واليمين الغموس والزنا بحليلة الجار في مرتبة، أو يكون اليمين الغموس وقتل النفس في مرتبة. والأظهر أنه صلى الله عليه وسلم أجاب الرجل على مقتضى حاله، وصدور هذه الخصال منه، كما سبق أنه مما أوحى إليه أو عرف حاله معجزة، وفي الحديث الأخير سرد الخصال سردا لا على الترتيب.
الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اجتنبوا)) ابعدوا، افتعال من الجنب، وهو أبلغ من ((لا تشركوا)) نحو قوله تعالى:{ولا تَقْرَبُوا الزِّنَى} {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} ؛ لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة. و ((الموبقات)) جمع الموبقة، وهي الخصلة المهلكة، أجمل بها وسماها مهلكات، ثم فصلها ليكون أوقع في النفس، وليؤذن بأنها نفس المهلكات، كقوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} . ((التولي)) الإعراض عن الحرب والفرار منه، يعني الفرار من الكفار إذا كان بإزاء كل مسلم كافران من الكبائر، وإن كان
الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)). متفق عليه.
53 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن،
ــ
بإزاء كل مسلم أكثر من كافرين يجوز الفرار. ((الزحف)) الجماعة الذين يزحفون إلى العدو، أي يمشون إليهم، مشتقة من: زحف الصبي، إذا دب على إسته.
قوله: ((قذف المحصنات)) ((شف)): القذف الرمي البعيد، استعير للشتم والعيب والبهتان، كما استعير الرمي. ((المحصنات)) جمع محصنة – بفتح الصاد – مفعولة، أي التي أحصنها الله تعالى وحفظها من الزنا، و – بكسرها – اسم فاعلة، أي التي حفظت فرجها من الزنا. و ((الغافلات)) كناية عن البريئات؛ لأن البريء غالف عما بهت به من الزنا. واحترز بـ ((المؤمنات)) عن قذف الكافرات؛ فإن قذفهن ليس من الكبائر، فإن كانت ذمية فقذفها من الصغائر لا يوجب الحد، وفي قذف الأمة المسلمة التعزير دون الحد، والتعزير بتعلق باجتهاد الإمام، وإن كان المقذوف رجلا يكون القذف أيضا من الكبائر، ويجب الحد أيضا.
الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يزني الزاني)) الحديث، قال المالكي: ومن حذف الفاعل قوله النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يشرب الخمر حين يشربها)) وكذا قوله: ((ولا ينتهب نهبنة، ولا يغل، ولا يقتل)) أي لا يشرب شارب، ولا ينتهب ناهب، ولا يغل غال، ولا يقتل قاتل، كقوله تعالى:{ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ} في قراءة هشام، أي لا يحسبن حاسب.
وأقول: تكلم فيه العلماء أقوالا كثيرة. ((مظ)): ذكر منها قولين، وقال: هذا وأشباهه لنفي الكمال، أي لا يكون كاملا في الإيمان حالة كونه زانيا، ويحتمل أن يكون لفظه لفظ الخبر، ومعناه النهي، وقد اختار هذا التأويل بعض العلماء، والأول أولى؛ لأنا لو قلنا بالثاني لم تبق بالتقييد بالظرف والحال فائدة؛ لأن الزنا منهي عنه في جميع الأديان، وليس مختصا بالمؤمنين. وأقول: يمكن أن يقال: المراد بالإيمان المنفي الحياء، كما سبق: أن الحياء شعبة من الإيمان، أي لا يزني الزاني حين نزني وهو يستحيي من الله تعالى؛ لأنه لو استحيى من الله تعالى واعتقد أنه حاضر شاهد لحاله لم يرتكب هذا الفعل الشنيع، مثل حياءه فيه ثم وقاحته وخروج الحياء منه ثم نزعه عن الذنب وإعادة الحياء إليه بتشبيك الرجل أصابعه، ثم إخراجها منها ثم إعادتها إليها كما كانت، على ما روى عكرمة عن ابن عباس تخويفا له، وردعا حيث صورت بهذه الصورة. ويعضده حديث أبي هريرة:((إذا زنى العبد خرج منه الإيمان – إلى قوله – كأنه ظلة)) وهذا التأويل يوافق قول الأول؛ لأنه إذا انتفى الحياء الذي هو شعبة من شعب الإيمان، ينتفي
ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن؛ فإياكم إياكم)) متفق عليه.
ــ
كمال الإيمان؛ لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء، ونحوه ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)).
ومصداقه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الاستحياء من الله حق الحياء: أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى)). وما وعى الرأس: هو اللسان، والفم، والسمع، والبصر. وما حوى البطن والسرة: وهو ما دار عليها من القلب، والفرج، واليدين، والرجلين. فلو استحى هذا الرجل من الله تعالى حق الحياء، لحفظ الفرج من الزنا، والعين من النظر إلى المحارم – كما ورد:((وزنى العين النظر)) – واليد من السرقة والغصب، والرجل من المشي إلى حوانيت الزواني، والغارة ونهب أموال المسلمين، والفم من شرب الخمر وأكل الحرام، والقلب من الغل والحقد المؤديين إلى قتل النفس والجناية؛ لأنه لو حفظ منها ما غل أموال المسلمين، ومن الزنى لأن زنى القلب الاشتهاء، واللسان فإنه ملاك ذلك كله، ولو حفظه ما وقع فيها؛ لما ورد ((كف عليك هذا)). ويجوز أن يكون من باب التغليظ والتشديد، كقوله تعالى:{ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ومَن كَفَرَ} يعني: هذه الخصال ليست من صفات المؤمنين؛ لأنها منافية لحالتهم، فلا ينبغي أن يتصفوا بها، بل هي من أوصاف الكافرين. وينصره قول الحسن، وابن جعفر الطبري: إن المعنى: ينزع منه اسم المدح الذي سمى به أولياؤه المؤمنون، ويستحق اسم الذنب، فيقال: سارق، وزان، وفاجر، وفاسق – انتهى كلامه. قال الله تعالى:{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَاّ يَسْتَوُونَ} .
قوله: ((ولا ينتهب)) انتهب ونهب، بفتح العين في الماضي والغابر إذا أغار على أحد، وأخذ ماله قهرا. ((النهبة)) – بفتح النون – المصدر، وبالضم المال الذي انتهبه الجيش فيها، أي في تلك النهبة. ((أبصارهم)) مفعول ((يرفع))، يعني: أخذ الرجل مال قوم قهرا وظلما؛ وهم ينظرون إليه، ويتضرعون ويبكون، ولا يقدرون على دفعه، فهذا ظلم عظيم لا يليق بحال من هو مؤمن. ((يغل)) – بفتح الغين في الماضي وضمها في الغابر – إذا سرق شيئا من الغنيمة، أو خان في أمانة. و ((إياكم)) منصوب على التحذير، والتكرير للتأكيد والمبالغة في التحذير والتخويف.
54 -
وفي رواية ابن عباس: ((ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن)). قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان؟ قال هكذا، وشبك بين أصابعه ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه. وقال أبو عبد الله: لا يكون هذا مؤمنا تاما، ولا يكون له نور الإيمان. هذا لفظ البخاري.
55 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث)). زاد مسلم: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم))، ثم اتفقا:((إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) [55].
ــ
الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((آية المنافق ثلاث)) الآية العلامة. وإنما خص هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنها مشتملة على المخالفة التي عليها مبني النفاق، من مخالفة السر والعلن. فالكذب: هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به والأمانة حقها أن تؤدى إلى أهلها، فالخيانة مخالفة لها. والخلاف في الوعد ظاهر؛ ولذلك صرح بأخلف.
النفق سرب في الأرض، له مخلص إلى مكان. و ((النافقاء)): إحدى جحرتي اليربوع، وهو موضع يدققه، فإذا أتى من قبل القاصعاء – وهو جحره الذي يقصع فيه أي يدخل – ضرب النافقاء برأسه، فانتفق أي خرج، يقول: نافق اليربوع أي أخذ في نافقائه. ومنه اشتقاق المنافق: وهو الذي يدخل في الشرع من باب ويخرج من باب، أيضا يكتم الكفر، ويظهر الإيمان، كما أن اليربوع يكتم النافقاء، ويظهر القاصعاء، كانوا يظهرون الإسلام تسترا به، وهم مقيمون على كفرهم.
قوله: ((وإن صام، وصلى)) التثنية للاستيعاب، أي وإن عمل أعمال المسلمين من الصوم، والصلاة وغيرهما من العبادات. وهذا الشرط اعتراض وارد للمبالغة لا يستدعي الجواب، كذا عن صاحب الكشاف. ((شف)): وفي الحديث دليل على ما ذهب إليه الحسن البصري: من أن صاحب الكبيرة منافق. وعنه رضي الله عنه: أنه ذكر له هذا الحديث، فقال: إن بني يعقوب عليه السلام حدثوا فكذبوا، ووعدوا فأخلفوا، وائتمنوا فخانوا، وكان ذلك الفعل منهم نادرا، ولم يصروا عليه، وسألوا أباهم أن يستغفر لهم، فلم يتمكن منهم صفة النفاق بخلاف المنافق؛ فإن هذه الخصال هجيره وعادته بدليل إتيان الجملة الشرطية مقارنة بـ ((إذا)) الدالة على تحقق الوقوع. ((تو)): من اجتمعت فيه تلك الخصال، واستمرت أحواله عليها، فبالحري أن يسمى منافقا. وأما المؤمن المفتون بها؛ فإنه إن فعلها مرة تركها أخرى، وإن أصر عليها زمانا أقلع عنها زمانا آخر، وإن وجدت فيه خلة عدمت منه أخرى.
56 -
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)). متفق عليه.
ــ
((خط)): هذا القول إنما خرج على سبيل الإنذار للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال، فيفضي به إلى النفاق، لا أن من ندر منه هذه الخصال، أو فعل شيئا من ذلك من غير اعتباد أنه منافق. والنفاق ضربان، أحدهما: أن يظهر صاحبه الإيمان وهو مسر للكفر، كالمنافقين على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، والثاني: ترك المحافظة على حدود أمور الدين سرا، ومراعاتها علنا، فهذا سمي منافقا؛ ولكنه نفاق دون نفاق، كما قال صلى الله عليه وسلم:((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر))؛ وإنما هو كفر دون كفر.
الحديث السادس عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((أربع)) يحتمل أن يكون هذا مختصا بأبناء زمانه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام علم بنور الوحي بواطن أحوالهم، وميز بين من آمن به صدقا، ومن أذعن له نفاقا، وأراد تعريف أصحابه على حالهم؛ ليكونوا على حذر منهم، ولم يصرح بأسمائهم؛ لأنه عليه الصلاة السلام عليم أن منهم من سيتوب، فلم يفضحهم بين الناس، ولأن عدم التعيين أوقع في النصيحة، وأجلب للدعوة إلى الإيمان، وأبعد عن النفور والمخاصمة. ويحتمل أن يكون عاما لينزجر الكل عن هذه الخصال على آكد وجه؛ إيذانا بأنها طلائع النفاق الذي هو أقبح القبائح، كأنه كفر مموه باستهزاء وخداع مع رب الأرباب ومسبب الأسباب. فعلم من ذلك أنها منافية لحال المسلمين، فينبغي للمسلم أن لا يرتع حولها؛ فإن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ويحتمل أن يكون المراد بالمنافق العرفي، وهو من يخالف سره علنه مطلقا، ويشهد له قوله عليه الصلاة والسلام:((من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها)) وكذا قوله: ((كان منافقا خالصا))؛ لأن الخصائل التي تتم بها المخالفة بين السر والعلن لا تزيد على هذا، فإذا نقصت منها خصلة نقص الكمال – انتهى كلامه.
فإن قلت: أي الرذائل أقبح؟ قلت: الكذب؛ ولذلك علل سبحانه وتعالى عذابهم في قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} ولم يقل بما كانوا يصنعون من النفاق؛ ليؤذن بأن الكذب قاعدة مذهبهم وأسه، فينبغي للمؤمن المصدق أن يجتنب عنه؛ لأنه مناف لوصف الإيمان والتصديق.
57 -
وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)). رواه مسلم. [57]
الفصل الثاني
58 -
عن صفوان بن عسال، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له صاحبه: لا تقل: نبي، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين. فأتيا رسول
ــ
و ((الفجور)): في اللغة الميل والشق، فهو – إما ميل عن القصد المستقيم، وإما شق ستر الديانة، والمراد هنا الشتم والرمي بالأشياء القبيحة والبهتان، بقرينة قوله ((إذا خاصم فجر)). لا منافاة بين قوله:((آية المنافق ثلاث)) وقوله: ((أربع من كن فيه فهو منافق)) لأن الشيء الواحد قد يكون له علامات، كل واحد منها يحصل بها صفة، فتارة يذكر بعضها، وأخرى جميعها أو أكثرها.
الحديث السابع عن ابن عمر: قوله: ((مثل المنافق)) ((تو)): ((العائرة)) أكير ما يستعمل في الناقة، وهي التي تخرج من الإبل إلى أخرى؛ ليضربها الفحل، والجمل عائر يترك الشوك إلى أخرى، ثم يتسع في المواشي. وأراد بـ ((الغنمين)) الثلثين، فإن الغنم اسم جنس يقع على الواحد والجمع. ضرب النبي عليه الصلاة والسلام للمنافق مثل السوء، فشبه تردده بين الطائفتين من المؤمنين والمشركين تبعا لهواه، وقصدا لغرضه الفاسد، وميلا إلى ما يبتغيه من شهواته – بتردد الشاة العائرة، وهي تطلب الفحل فتتردد بين الثلتين، فلا تستقر على حال، ولا تثبت مع إحدى الطائفتين، وبذلك وصفهم الله في كتابه فقال عز من قائل:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ ولا إلَى هَؤُلاءِ} . أقول: وخص الشاة العائرة بالذكر إدماجا، بمعنى سلب الرجولية عن النافقين، من طلب الفحل للضراب.
الفصل الثاني:
الحديث الأول عن صفوان: قولهك ((اذهب بنا)) الباء في ((بنا)) بمعنى المصاحبة، أي كن رفيقي لنأتيه، هذا مذهب المبرد، وصاحب الكشاف. قوله:((أربع أعين)) ((تو)): أي يسر لقولك (إلى) هذا النبي سرورا، يزداد به نورا إلى نوره، كذى عينين أصبح يبصر بأربع أعين؛ لأن السرور يمد القوة الباصرة، كما أن الهم والحزن والكآبة يخل بها؛ ولهذا يقال لمن أحاطت به الهموم: أظلمت عليه الدنيا، وبذلك شهد التنزيل {وابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ} .
أقول: قوله: ((أربع أعين)) كناية عن السرور المضاعف، أي سرور بعد سرور، فلم يرد به التثنية بل الاستمرار، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} وذلك أنهم يكنون عن السرور بقرة العية، قال الله تعالى:{هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} .
الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببرئ
ــ
قوله: ((عن تسع آيات)) والآية: هي العلامة الظاهرة، ويستعمل في الحسوسات والمعقولات فيقال لكل ما تتفاوت به المعرفة بحسب الفكر والتأمل فيه، وحسب منازل الناس في العلم: آية، ويقال لكل جملة دالة على حكم من أحكام الله تعالى: آية، ويقال لكل كلام منفصل بفصل لفظي: آية، وللمعجزة: آية؛ لما فيها من الدلالة على النبوة، وصدق من ظهرت هي بسببه، والمراد بالآيات هنا: إما المعجزات التسع المذكورة في قوله تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وهي: اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنون، ونقص من الثمرات. وقيل الطمسة وانقلاب البحر مكان اليد، والعصا، ويشهد له ما روى الترمذي – رحمه الله – أنهما سألاه عن هذه الآية، وعلى هذا فقوله:((لا تشركوا)) كلام مستأنف ذكره عقيب الجواب، ولم يذكر الراوي جوابه استغناء بما في القرآن أو لغيره. وأما الأحكام العامة الشاملة للملل كلها، وبيانها ما بعدها.
فإن قلت: كيف يكون هذا جوابا وهو عشرة خصال، والمسئول عنه تسع؟ قلت: الزيادة على السؤال جائز، واقع في قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن ماء البحر:((طهور ماؤه وحل ميتته)).
هذا وقوله: ((وعليكم خاصة)) حكم مستأنف مختص بدينها، غير شامل لسائر الأديان، لا تعلق له بسؤالهم؛ فلهذا غير سياق الكلام، والله أعلم. وقد أجيب بأنه ليس في بعض الروايات ((ولا تقذفوا المحصنة)) وفي بعضها ((أو لا تولوا للفرار)) على الشك، وهو لا ينتهض جوابا بالنظر إلى ما في الكتاب.
أقول: والأظهر أن اليهود سألوا عما عندهم من الآيات المنصوصة بالعشر، وكانت تسع منها متفقا عليها بينهم وبين المسلمين، وواحدة مختصة بهم، فسألوا عن المتفق عليها وأضمرا ما كان مختصا بهم، فأجابهم عليه الصلاة والسلام عما سألوه، وعما أضمروا؛ ليكون أدل على معجزته، ولذلك قبلا يديه.
قوله: ((ولا تمشوا ببريء)) الباء في ((ببريء)) للتعدية أي لا تكلموا بسوء في من ليس له ذنب عند السلطان، كيلا يقتله، و ((عليكم)) خبر لـ ((أن لا تعتدوا)). وقيل: هي كلمة الإغراء، و ((أن لا تعتدوا)) مفعوله، أي الزموا واحفظوا ترك الاعتداء، و ((خاصة)) منون حال، و ((اليهود)) نصب على التخصيص، أي أعني اليهود. ويجوز أن يكون خاصة بمعنى: خصوصا، ويكون اليهود معمولا لفعله، أي أخص اليهود خصوصا. وفي بعض طرق الحديث ((يهود)) مضموما بلا لام على أنه منادى.
إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا للفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة – اليهود – أن لا تعتدوا في السبت)). قال: فقبلا يديه ورجليه، وقالا: نشهد أنك نبي. قال: ((فما يمنعكم أن تتبعوني؟)). قالا: إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [58]
59 -
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من أصل الإيمان، الكف عمن قال: لا إله إلا الله، لا تكفره بذنب، ولا تخرجه من الإسلام بعمل. والجهاد
ــ
قوله: ((إن داود دعا ربه)) ((مظ)): يعني دعا داود عليه السلام أن لا تقطع النبوة في ذريته إلى يوم القيامة، وإذا دعا داود عليه السلام يكون دعاءه مستجابا البتة؛ لأنه لا يرد الله دعاء نبي، فإذا كان كذلك فسيكون نبي من ذريته، ويتبعه اليهود. وربما كان لهم الغلبة والشوكة، فإن تركنا دينهم واتبعناك يقتلنا اليهود إذا ظهر لهن نبي وقوة. وهذا كذب منهم وافتراء على داود؛ لأنه عليه السلام لم يدع بهذا الدعاء، ولا يجوز لأحد أن يعتقد في داود هذا اللدعاء؛ لأنه عليه السلام لم يدع بهذا الدعاء، ولا يجوز لأحد أن يعتقد في داود هذا الدعاء؛ لأنه قرأ في التوراة والزبور نعت محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه خاتم النبيين، وأنه ينسخ به جميع الأديان والكتب، فإذا أخبر الله تعالى داود ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما، على هذه الصفة، فكيف يدعو على خلاف ما أخبره الله تعالى به؟
الحديث الثاني عن أنس: قوله: ((ثلاث من أصل الإيمان)) أصل الشيء قاعدته التي لو توهمت مرتفعة لارتفع بارتفاعه؛ ولذلك قال: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي ثلاث خصال من أصل الإيمان.
إحداها: ((الكف عمن قال)) وفيه إشارة إلى اعتقاد أن المؤمن لا يكفر بالذنب، ولا يخرج من الإسلام ردا على الخوارج والمعتزلة؛ لأن الخوارج يكفرون من يصدر منه ذنب، والمعتزلة يثبتون منزلة بين المنزلتين.
الثانية: ((الجهاد ماض)) يعني: الخصلة الثانية اعتقاد كون الجهاد ماضيا إلى خروج الدجال، يخرج بعد قتله يأجوج ومأجوج فلا يطاقون، وبعد فنائهم لم يبق كافر – انتهى كلامه. وفيه رد
ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل. والإيمان بالأقدار)). رواه أبو داود [59]
60 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل رجع إليه الإيمان)). رواه الترمذي، وأبو داود. [60]
ــ
على المنافقين وبعض الكفرة؛ لأنهم زعموا أن دولة الإسلام تنقرض بعد أيام قلائل. ((الكشاف)) في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} : زعم المنافقون أن ريح الإسلام يهب حينا ثم يسكن، ولواءه يخفق أياما ثم يقرن كأنه قيل:((الجهاد ماض)) أي أعلام دولته منشورة، وأولياؤه منصورة، وأعداؤه مقهورة إلى يوم الدين.
ولعل محيي السنة إنما أورد هذا الحديث في ((باب النفاق)) لهذا المعنى، وكذا الحديث السابق؛ فإن اليهوديين نافقا بقولهما:((نشهد أنك نبي)) ثم قولهما: ((إن داود دعا)) لأنه يدل على أنهما لم يقولا ذلك عن اعتقاد.
وقوله: ((لا يبطله)) ((مظ)): يعني لا يجوز ترك الجهاد؛ لأن يكون الإمام ظالما، بل يجب عليهم موافقته فيه، ولا أن يكون الإمام عادلا فلا يخافون من الكفار، ولا يحتاجون إلى الغنائم، فعلى هذا يكون النفي بمعنى النهي. أقول: ويمكن أن يجري على ظاهر الإخبار كما هو عليه، ويكون تأكيدا للجملة السابقة أي لا يبطله أحد إلى خرج الدجال على الكناية؛ بأن لا ينظر إلى مفردات الألفاظ، بل تؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع.
والثالثة: الإيمان بالأقدار، وأن ما يجري في العالم هو من قضاء الله وقدره، ردا على المعتزلة؛ لأنهم يثبتون للخلق القدرة المستقلة.
الحديث الثالث عن أبي هريرة: قوله: ((إذا زنى العبد)) قد مر في الفصل الأول أن الإيمان أطلق على الحياء. ((تو)): وأن الخروج والتظليل تمثيل، كما في تشبيك الأصابع، وأنه من باب
الفصل الثالث
61 -
عن معاذ، قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات، قال: ((لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا؛ فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرا فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية؛ فإن
ــ
التغليظ والتشديد في الوعيد، هذا من باب الزجر والتشديد. وهو كقول القائل لمن اشتهر بالرجولية والمروءة، ثم فعل ما ينافي شيمته عدم عنه المروءة والرجولية تعييرا وتنكيرا؛ لينتهي عما صنع، واعتبارا وزجرا للسامعين، ولطفا بهم وتنبيها إلى أن الزنا من شيم أهل الكفر وأعمالهم، فالجمع بينه وبين الإيمان كالجمع بين المتنافيين. وفي قوله صلى الله عليه وسلم:((فكان فوق رأسه مثل الظلة)) – وهي أول سحابة تظل – إشارة إلى أنه وإن خالف حكم الإيمان؛ فإنه تحت ظله لا يزول عنه حكمه ولا يرتفع عنه اسمه.
الفصل الثالث
الحديث الأول عن معاذ: قوله: ((وإن قتلت وحرقت)) شرط جيء به للمبالغة، وفيه إضمار أي وإن عرضت للقتل والتحريق، ((وإياك والمعصية)) تحذير وتعميم بعد التخصيص وإيذان بأن المعاصي السابقة أعظمها ضرا وأكثرها اعتبارا.
وقوله: ((فإن بالمعصية)) اسم ((إن)) ضمير الشأن حذف من ((إن)) المكسورة المثقلة كقول الشاعر:
فلا تخذل المولى وإن كان ظالما فإن به تنال الأمور وترأب
والتقدير فإنه يقول: لا تخذل مولاك وإن ظلمك؛ فربما تحتاج إليه، وترجع إلى معاونته في بعض الأمور ليجبر كسرك. وقيل: لا يحذف؛ لأن المقصود من الكلام المصدر به – هو التعظيم والفخامة – فلا يلائمه الاختصار. قلت: فيه نظر؛ لأنه لو كان كما قيل لوجب أن لا يحذف أصلا، وقد حذف اسم كاد في قوله تعالى:{كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} وأما قول ابن الحاجب: وحذفه منصوبا ضعيف، فقد ضعفوه أيضا، وكيف تقول ذلك؟ وقد جاء في الكلام الفصيح قال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة:((أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم)) الحديث، أي فإن الأمر والشأن حينئذ، أخرجه مسلم.
وقوله: ((موت)) أي طاعون ووباء، وقد ورد أن الطاعون إذا ورد في بلد لا يجوز الخروج منه، وقوله:((موت)) أي طاعون ووباء، وقد ورد أن الطاعون إذا ورد في بلد لا يجوز الخرج منه،
بالمعصية حل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موت وأنت فيهم، فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا وأخفهم في الله)). رواه أحمد.
62 -
وعن حذيفة، قال: إنما النفاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم، فإنما هو الكفر، أو الإيمان. رواه البخاري.
ــ
وإذا كان خارجا منه لا يجوز الدخول. ((الطول)) الفضل من المال، وقوله تعالى:{ومَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} كناية عما يصرف في المهر والنفقة.
وقوله: ((ولا ترفع عنهم عصاك، وأخفهم في الله)) كنايتان عن تأديبهم وإنذارهم، و ((أدبا)) مفعول له وفيه إضمار، أي اضربهم تأديبا يؤدي إلى أن يتأدبوا أدبا، على قدر الزجاج في قوله تعالى:{واللَّهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} أي أنبتكم فتنبتون نباتا.
الحديث الثاني عن حذيفة: قوله: ((إنما النفاق)) يعني: حكم المنافقين من إبقاء أرواحهم، وإجراء أحكام المسلمين عليهم، كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بناء على مصالح، منها: أن المؤمنين إذا ستروا على المنافقين أحوالهم، خفي على المخالفين أمرهم، حسبوا أنهم من جملة المسلمين، وأن جملتهم واحدة، فكان ذلك سببا لاجتنابهم محاربة المسلمين؛ لكثرة عددهم، بل يؤدي ذلك إلى استشعار الخوف منهم، قلة شوكتهم، وإذا ظهر الله عليهم انقلبت إلى مفاسد، منها: أن الكفار إذا سمعوا محاسنة المسلمين مع من يصحبهم واستهزاؤهم معهم، كان ذلك سببا لنفرتهم وعدم تألفهم.
ومنها: وأن من شاهد حسن تخلقه مع مخالفه رغبوا في صحبته، ووافق معه سرا وعلانية مزيد رغبته، ودخل في دين الله بوفور نشاط ورغبة. وأما بعد النبي عليه الصلاة والسلام فالحكم: إما الكفر والقتل، أو الإيمان سرا وعلانية؛ لقوة شوكة المؤمنين وغلبتهم وكثرتهم وضعف أعدائهم.
قوله: ((فأما اليوم)) إلى آخره. قوله: ((إنما هو)) هذا الضمير كما في قوله تعالى: {إنْ هِيَ إلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} . ((الكشاف)): هذا الضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه، و ((أو)) فيه كما في قوله تعالى:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} فالمعنى: ليس الكائن اليوم إلا الكفر أو الإيمان، ولا ثالث لهما.