المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(5) باب الاعتصام بالكتاب والسنة - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٢

[الطيبي]

الفصل: ‌(5) باب الاعتصام بالكتاب والسنة

(5) باب الاعتصام بالكتاب والسنة

الفصل الأول

140 -

عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه.

ــ

باب الاعتصام بالكتاب والسنة

العصمة المنعة، والعاصم المانع الحامي، والاعتصام الاستمساك بالشيء، افتعال منه، قال الله تعالى:{واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} أي تمسكوا بالقرآن والسنة.

الفصل الأول

الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من أحدث في أمرنا)) ((قض)): الأمر حقيقة في القول الطالب للفعل، مجاز في الفعل، والشأن والطريق، وأطلق ههنا على الدين، من حيث إنه طريقه، أو شأنه الذي يتعلق به، وهو متهم بشأنه بحيث لا يخلو عن شيء من أقواله وأفعاله. والمعنى أن من أحدث في الإسلام رأياً لم يكن له من الكتاب والسنة سند ظاهر أو خفي، ملفوظ أو مستنط - فهو مردود عليه.

أقول: في وصف الأمر بـ ((هذا)) إشارة إلى أن أمر الإسلام كمل واشتهر، وشاع وظهر ظهور المحسوس، بحيث لا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة، كقوله تعالى:{اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} ، فمن رام الزيادة عليه حاول آمراً غير مرضي؛ لأنه من قصور فهمه رآه ناقصاً. فعلى هذا يناسب أن يقال: قوله: ((فهو)) راجع إلى ((من)) أي من ابتغى الزيادة على الكمال فهو ناقص مطرود. وفي قوله: ((ما ليس منه)) إشارة إلى أن إحداث ما لا ينازع الكتاب والسنة - كما سنقرره بعد - ليس بمذموم. روى محيي السنة عن يحيى بن سعيد سمعت أبا عبيد رضي الله عنه يقول: جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة: {من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد} ، وجميع أمر الدنيا في كلمة:{إنما الأعمال بالنيات} ، فإنهما يدخلان في كل باب.

قوله: ((ما ليس منه)) هكذا في البخاري، والمسلم، والحميدي، والجامع، وشرح السنة، وفي بعض نسخ المصابيح، وفي بعضها، وفي المشارق:((ما ليس فيه)).

ص: 603

141 -

وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) رواه مسلم [141].

ــ

الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((أما بعد)) هاتان الكلمتان يقال لهما فصل الخطاب، وأكثر استعمالهما بعد تقدم قصة، أو حمد لله تعالى، والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، والأصل أن يقال: أما بعد حمد الله تعالى، و ((بعد)) إذ أضيف إلى شيء ولم يقدم عليه حرف جر فهو منصوب على الظرف، وإذا قطع عنه المضاف إليه يبنى على الضم، والمفهوم منهما أنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك في أثناء خطبته ووعظه، وأنشد التوربشتي لسحبان:

لقد علم الحي اليمانون أنني إذا قلت: ((أما بعد)) أني خطيبها

((تو)): والفاء لازمة لما بعد ((أما)) من الكلام، لما فيها من معنى الشرط.

أقول: ((أما)) وضع للتفصيل، فلابد من التعدد، روى صاحب المرشد عن أبي حاتم: أنه لا يكاد يوجد في التنزيل ((أما)) وما بعدها إلا وتثنى أو تثلث، كقوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ} ، و {وأَمَّا الغُلامُ} ، و {وأَمَّا الجِدَارُ} وعامله مقدر أي مهما يكن من شيء بعد تلك القصة؛ فإن خير الحديث كتاب الله، فالذي يتضمن القرينة السابقة قول الراوي في الحديث:((إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين – ويفرق بين إصبعيه السبابة والوسطى – ويقول: ((أما بعد)) إلى آخره.

و ((الهدى)) السيرة، يقال: هدى هدى زيد، إذا سار سيرته، من: تهادت المرأة في مشيها إذا تبخترت. ولا يكاد يطلق إلا على طريقة حسنة، وسنة مرضية، ولذلك حسن إضافة الخير إليه، والشر إلى الأمور. واللام في ((الهدى)) للاستغراق؛ لأن أفعل التفضيل لا يضاف (إلا) إلى متعدد وهو داخل فيه؛ ولأنه لو لم تكن للاستغراق لم تفد المعنى المقصود، وهو تفضيل دينه وسنته على سائر الأديان والسنن. وروى ((شر الأمور)) بالنصب، عطفاً على اسم ((إن)) وبالرفع، عطفاً على محل ((إن)) مع اسمه.

و ((المحدثات)) – بالفتح – جمع محدثة، والمراد بها البدع والضلالات من الأفعال والأقوال. يعني كل خصلة أتى بها جديداً فهي مخالفة للسنة، وكل مخالفة للسنة ضلالة؛ فحينئذ يكون

ص: 604

142 -

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبغض الناس إلى الله

ــ

قوله عليه الصلاة والسلام: ((وكل بدعة ضلالة)) [عطف على محذوف. ((مج)): قوله: ((كل بدعة ضلالة))] عام مخصوص، كقوله تعالى:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} وقوله: {وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} ، والمراد بها غالب البدعة.

و ((البدعة)) كل شيء عمل على مثال سابق، وفي الشرع: إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام. قال الشيخ المجمع على إمامته وجلالته أبو محمد عزالدين بن عبد السلام – رحمه الله – في آخر كتاب القواعد: البدع منقسمة على خمسة: واجبة، كالاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكحفظ غريب الكتاب والسنة، وكتدوين أصول الفقه، والكلام في الجرح والتعديل، وتمييز الصحيح من السقيم.

ومحرمة كمذاهب الجبرية، والقدرية، والمرجئة، والمجسمة. والرد على هؤلاء من البدع الواجبة؛ لأن حفظ الشريعة من هذه البدع فرض كفاية.

ومندوبة، كإحداث الربط، والمدارس، وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول، وكالتراويح، والكلام في دقائق التصوف، وكمجمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجه الله تعالى.

ومكروهة، كزخرفة في المساجد وتزويق المصاحف.

ومباحة، كالمصافحة عقيب الصبح، والعصر، والتوسيع في لذيذ المأكل، والمشرب، والملابس، والمساكن، وتوسيع الأكمام.

وقد اختلف في كراهية بعض ذلك، روى البيهقي عن الشافعي في كتاب مناقبه: المحدثات من الأمور ضربان: ما أحدث مما يخالف كتاباً، أو سنة، أو أثراً، أو إجماعاً فهذه البدعة الضلالة. وما أحدث من الخير مما لا خلاف فيه لواجد من المذكورات فهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان:((نعمت البدعة هذه)) يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت ليس فيها رد لما مضى. هذا آخر كلام الشافعي رضي الله عنه. وهذا أيضاً آخر كلام الشيخ محيي الدين – رحمة الله عليه – في كتاب تهذيب الأسماء واللغات، والله أعلم.

الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((أبغض الناس)) المراد بالناس المسلمون؛ لقوله: ((ومبتغ في الإسلام)) يعني أبغض المسلمين إلى الله تعالى هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم جمعوا بين الذنب وما يزيد به قبحاً من الإلحاد، وكونه في الحرام، وإحداث البدعة في الإسلام، وكونها من أمر الجاهلية، وقتل نفس لا لغرض من الأغراض، بل لمطلق كونه قتلا، كما يفعل شطار

ص: 605

ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه)) رواه البخاري.

143 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) قيل: ومن أبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)). رواه البخاري.

ــ

زماننا، وإليه الإشارة بقوله:((ليهريق دمه)) ومزيد القبح في الأول باعتبار المحل، وفي الثاني باعتبار الفاعل، وفي الثالث باعتبار الفعل وفي كل من لفظي المطلب والمبتغى مبالغة أخرى، وذلك أن هذا الوعيد إذا ترتب على الطالب والمتمني فكيف بالمباشر للفعل؟ وإطلاق السنة على فعل الجاهلية إما وارد على أصل اللغة، أو على التهكم، وهي مثل النياحة، والميسر، والنيروز.

((قض)): الإلحاد الميل عن الصواب، ومنه اللحد، والملحد في الحرام من أحدث فيه جنابة، أو أتى فيه بمعصية، فهو مخالف لأمر الله، وهاتك لحرمته من وجهين، فهو أحق بالغضب على الإطلاق ومزيد البغضاء، وكذا الطالب في الإسلام سنة الجاهلية. وأما القاصد لقتل امرئ بغير حق فهو يقصد ما يكرهه الله تعالى من وجهين: من حيث أنه ظلم، والظلم على الإطلاق مكروه مبغوض، ومن حيث أنه يتضمن موت العبد، وهو يسوءه، والله سبحانه وتعالى يكره مساءته، فيستحق مزيد المقت.

و ((ليهريق)) أصله ليؤريق من أراق على الأصل، فأبدلت الهمزة هاء، يقال: هرقت الماء وأرقته، كما يقال: هردت الشيء وأردته. قال سيبويه: وقد أبدلوا من الهمزة هاء، ثم التزمت، فصارت كأنها من نفس الحرف، ثم أدخلت الألف على الهاء، - وتركت به الهاء – عوضاً عن حذفهم حركة العين؛ لأن الأصل أهرق أريق.

الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كل أمتي يدخلون الجنة)) يحتمل أن يراد بالأمة أمة الدعوة، أي كلهم يدخلون الجنة على التفصيل السابق في باب الإيمان، و ((الآبي)) هو الكافر. أو يراد بها أمة الإجابة، فـ ((الآبي)) هو العاصي من أمته، استثناه تغليظاً عليهم، وزجراً عن المعاصي ((ومن أبى)). عطف على محذوف، أي عرفنا الذين يدخلون الجنة، ومن الذي أبى؟ أي والذي أبى لا نعرفه، وكان من حق الجواب أن يقال: من عصاني، فعدل إلى ما هو عليه تنبيهاً به على أنهم ما عرفوا ذلك ولا هذا، إذ التقدير: من أطاعني وتمسك بالكتاب والسنة دخل الجنة، ومن اتبع هواه، وزل عن الصواب، وضل عن الطريق المستقيم – فقد دخل النار. فوضع ((أبى)) موضعه وضعاً للسبب موضع المسبب. ويشد هذا التأويل إيراد محيي السنة هذا الحديث في باب الاعتصام بالكتاب والسنة، والتصريح بذكر الطاعة؛ فإن المطيع هو الذي يعتصم بالكتاب والسنة، ويجتنب عن الأهواء والبدع.

ص: 606

144 -

وعن جابر، قال: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً؛ فاضربوا له مثلاً. قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل معه من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم

ــ

الحديث الخامس عن جابر: قوله: ((مأدبة)) ((فا)): المأدبة – بالضم – اسم للصنيع نفسه كالوليمة، وشبهها سيبويه بالمشربة، وغرضه أنها ليست كفعلة ومفعلة في كونهما بنائين للمصادر والظروف. و ((المأدبة)) – بالفتح – مصدر بمعنى الأدب، وهو الدعاء إلى الطعام، كالمعتبة بمنزلة العتب، أو عبيدة:((المأدبة)) المدعاة، وهي صنيع الرجل لضيفه يدعو إليه الناس.:((قض)): الحديث يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون حكاية سمعها جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فحكاها، وثانيهما أن يكون إخباراً عما شاهده هو نفسه وانكشف له. وقول بعضهم:((إنه نائم))، وقول بعضهم:((إن العين نائمة، والقلب يقظان)) مناظرة جرت بينهما بياناً وتحقيقاً لما أن النفوس القدسية الكاملة لا يضعف إدراكها بضعف الحواس، واستراحة الأبدان.

و ((أولوها)) أي فسروا الحكاية أو التمثيل بمحمد عليه الصلاة والسلام، من: أول تأويلاً، إذا فسر بما يؤول إليه الشيء والتأويل في اصطلاح العلماء تفسير اللفظ بما يحتمله احتمالا غير بين. والفاء في ((فمن أطاع محمداً)) فاء السببية، أي لما كان الرسول يدعوهم إلى الله بأمره، وهو سفير من قبله، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله. و ((فرق)) روى بالتشديد على صيغة الفعل، وبالسكون على المصدر، وصف به للمبالغة كالعدل، أي هو الفارق بين المؤمن والكافر، والفاسق والصالح، إذ به تميز الأعمال والعمال.

أقول – وبالله التوفيق -: قوله: ((مثله كمثل رجل)) مطلع للتشبيه، وهو مبني على أن هذا التشبيه ليس من التشبيهات المفرقة، كقول امرئ القيس:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب، والحشف البالي

شبه القلوب الرطبة بالعناب، واليابسة بالحشف على التفريق؛ بل هو من التمثيل الذي ينتزع فيه الوجه من أمور متعددة متوهمة منضم بعضها مع بعض، إذ لو أريد التفريق لقيل: مثله كمثل داع بعثه رجل، ومن ثم قدمت الملائكة في التأويل الدار على الداعي وعلى المضيف. روعي في التأويل أدب حسن، حيث لم يصرح المشبه بالرجل، لكن لمح في قوله:((من أطاع الله)) ما يدل على أن المشبه من هو؟ ونظيره في التمثيل قوله تعالى: {إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ

ص: 607

يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها له يفقهها. قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: الدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس رواه البخاري.

ــ

أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ}، ((الكشاف)): ولى الماء الكاف وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل، لتقديره ومما هو؟ بين في هذه قول لبيد:

وما الناس إلا كالديار وأهلها وبها يوم خلوها وغدوا بلاقع

لم يشبه الناس بالديار؛ وإنما شبه وجودهم فيها وسرعة زوالهم وفنائهم بحلول أهل الديار فيها، ووشك نهوضهم عنها وتركها خلا خاوية. وتحريره أن الملائكة مثلوا سبق رحمة الله تعالى على العالمين بإرساله الرحمة المهداة إلى الخلق، كما قال تعالى:{ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ثم إعداده الجنة للخلق، ودعوته صلوات الله عليه إياهم إلى الجنة ونعيمها وبهجتها، ثم إرشاده الخلق لسلوك الطريق إليها وإتباعهم إياه بالاعتصام بالكتاب والسنة المدليان إلى العالم السفلي، وكأن الناس واقعون في هواة طبيعتهم ومشتغلون بشهواتها، وأن الله يريد بلطفه رفعهم؛ فأدلى حبل القرآن والسنة إليهم، ليخلصهم من تلك الورطة؛ فمن تمسك بهما نجا وحصل في الفردوس الأعلى والجناب الأقدس عند مليك مقتدر، ومن أخلد إلى الأرض هلك وأضاع نصيبه من رحمة الله، بحال مضيف كريم بنى داراً وجعل فيها من ألوان الأطعمة المستلذة والأشربة المستعذبة ما لا يحصى ولا يوصف، ثم بعث داعياً إلى الناس يدعوهم إلى الضيافة، إكراماً لهم – فمن اتبع الداعي نال من تلك الكرامة، ومن لم يتبع حرم منها.

ثم إنهم وضعوا مكان حلول سخط الله بهم ونزول العقاب السرمدي عليهم قولهم: ((لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة)) لأن فاتحة الكلام سيق لبيان سبق الرحمة على الغضب، فلم يطابق إن لو ختم بما يصرح بالعذاب والغضب، فجاءوا بما يدل على المراد على سبيل الكناية.

((محمد فرق بين الناس)) كالتذييل للكلام السابق، لأنه مشتمل على معناه ومؤكد له. ثم في حضور الملائكة، ورجع بعض الكلام على بعض، وتمثيلهم ذلك، ووضعهم المظهر موضع المضمر في مواضع من الحديث، وتكرير الألفاظ مرة بعد أخرى، وفي تقديم المجمل ممثلا به وتأويله – دلالة على الإرشاد التام، وإزاحة [العلل]، وإيقاظ السامعين من رقدة الغفلة وسنة الجهالة، وحث لهم على الاعتصام بالكتاب والسنة، والإعراض عما يخالفهما من البدعة والضلالة، والله أعلم.

ص: 608

145 -

وعن أنس قال: جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها؛ فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم:

ــ

الحديث السادس عن أنس: قوله: ((ثلاثة رهط)) ((فا)): الرهط العصابة دون العشرة، ويجمع على أراهيط، وقيل: هو يجمع على أراهط. وإنما جاء الرهط تمييزاً للثلاثة، لأنه في معنى الجماعة، كأنه قال: ثلاثة أنفس. وقيل: هم على، وعثمان بن مظعون، وعبد الله بن رواحة.

وقوله: ((تقالوها)) أي وجدوها قليلة، وهو تفاعل من القلة بمعنى استقلوها. ((مظ)): ظنوا أن وظائف رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، فلما سمعوا عدوها قليلة، وقد راعوا الأدب حيث لم ينسبوه إلى القصير، بل أظهروا كماله ولاموا أنفسهم في مقابلتهم إياها بالنبي صلى الله عليه وسلم. وفيه تعليم للمريد بأن لا ينظر إلى الشيخ بعين الاحتقار، وإن رأى عبادته قليلة يظهر عذره، ولئلم نفسه إن جرى منها إنكار على شيخه؛ لأنه من اعترض على شيخه لن يفلح. وفيه أن قلة وظائف النبي صلى الله عليه وسلم كانت رحمة على الأمة وشفقة عليهم، كيلا يتضرروا؛ فإن لأنفسهم عليهم حقاً، ولأزواجهم حقاً؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان محتاجاً إلى الطعام ليتقوى صلبه به، فيقوم على عبادة الله تعالى، ولابد للرجال من النساء لبقاء النسل، فيكثر به عباد الله تعالى، ويحصن دينه، وينفق عليها فيؤجر به.

((قض)): ((أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم) أي بيننا وبينه بون بعيد، فإنا على صدد التفريط وسوء العاقبة، وهو معصوم مأمون العاقبة واثق بقوله تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ} . وقوله: ((أما الله)) أي إني أعلم به وبما هو أعز لديه وأكرم عنه، فلو كان ما استأثرتموه من الإفراط في الرياضة أحسن مما أنا عليه من الاعتدال في الأمور لما أعرضت عنه. والذنب ماله تبعة دنيوية أو أخروية، مأخوذ من الذنب. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم معاتباً بترك ما هو أولى تأكيداً للعصمة أطلق عليها اسم الذنب.

((رغب عن سنتي)) أي مال عنها استهانة وزهداً فيها لا كسلا وتهاوناً ((فليس مني)) أي من أشياعي. وأقول: قوله: ((أما أنا)) قد سبق أن ((أما)) للتفصيل، فلابد من تقدير قرينتها، كأنه قال: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن خصه الله بالمغفرة فلا عليه أن لا يكثر العبادة، وأما أنا فلست كهيئته؛ فأصلى أبداً.

ص: 609

أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبداً، ولا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال:((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه.

146 -

وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخطب فحمد الله، ثم

ــ

وقوله: ((أنا أعتزل النساء)) من باب إطلاق المسبب على السبب، أي أنا أقصد اعتزال النساء ومجانبتها، فلا أتزوج أبداً، وكذا التقدير في ((أنا أصوم)) أي أنا أقصد الصوم وأدوم عليه ولا أفطر في النهار. و ((فقال)) عطف على محذوف، أي فجاء إلى أهله فأخبروه بما قالوا فقال، أو التقدير: فأوحى إليه بما جرى، فجاء إليهم فقال. وقوله:((أنتم الذين)) أي أأنتم الذين، حذفت همزة الإنكار التي وليت الفاعل المعنوي المزال عن مقره، لمزيد الإنكار، كقوله تعالى:{أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ} . فكما أكد هذه الفقرة أكد قرينتها، وهي قوله:((أما والله إني لأخشاكم)) حيث صدرها بحرف التنبيه التي هي من طلائع القسم ومقدماتها، وقرنها بالقسم لتحقيق ما بعدها وإثباته في خلد السامع. و ((الله)) مفعول به ((لأخشاكم)) وأفعل لا يعمل في الظاهر إلا في الظرف. ((ولكني أصوم)) المستدرك مقدر أي أخشاكم لله فينبغي أن أقوم في الرياضة والعبادة إلى أقصى مداه، لكني أقصد منها فأصوم وأفطر، وأصلي وأرقد لتقتدي بي الأمة رحمة من الله.

قوله: ((فمن رغب عن سنتي)) كان من حق الظاهر: من رغب عن ذلك، فعم ليشمل كل ما جاء به وما أمر به ونهى عنه، و ((الفاء)) في ((فمن رغب)) متعلق بمحذوف، أي لكني أفعل ذلك لأسن للناظر الطريقة المثلى والسنة الكملى، فمن رغب عنها فليس مني و ((من)) في ((مني)) اتصالية، كما سبق في قوله:((لست منك ولست مني)).

الحديث السابع عن عائشة: قوله: ((صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم)((غب)): الصنع إجادة الفعل؛ وكل صنع فعل ولا ينعكس. ولا ينسب إلى الحيوانات والجمادات كما ينسب إليها الفعل. ((خط)): ((يتنزهون)) يتباعدون ويحترزون. و ((أعلمهم بالله)) أي بعذاب الله وغضبه، يعني أنا أفعل شيئاً من المباحات، كالنوم، والأكل في النهار والتزوج، وقم يحترزون عنه، فإن احترزوا عنه لخوف عذاب الله تعالى فإني أعلم بقدر عذاب الله تعالى منهم، فأنا أولى أن أحترز

ص: 610

قال: ((ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فو الله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية)) متفق عليه.

147 -

وعن رافع بن خديج، قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم وهم يؤبرون النخل، فقال:((ما تصنعون؟))، قالوا: كنا نصنعه. قال: ((لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً)). فتركوه؛ فنقصت. قال: فذكروا ذلك له. فقال: ((إنما أنا بشر؛ إذا أمرتكم بشيء من

ــ

عنه ((شف)): ((أصنعه)) في موضع النصب على الحال من ((الشيء)) ويجوز أن يكون مجروراً وصفاً له، لأنه منكر معنى كقوله صلى الله عليه وسلم:((يأتيه الأمر من أمرى)) أي أمر من أموري. وفيه بحث، لأن التعريف في ((الشيء)) للعهد وهو إشارة إلى قوله:((شيئاً)) وهو فعل مخصوص تنزهوا عنه. فالحال أولى.

قوله: ((وأشدهم له خشية)) القياس وأخشاهم له، لأن التوصل بأشد إنما يكون في الممتنع، وهذا الفعل غير ممتنع بناء أفعل منه. أقول: هو كقوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} وفيه مبالغة، ذكر في الكشاف. وقوله:((فخطب فحمد الله)) تقديره: أراد أن يخطب فحمد الله. و ((يتنزهون)) صفة ((أقوام)) وفي معناها الحال في قولك: مالك قائماً؟ وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وقَارًا} . و ((فو الله)) وقع موقع {وقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} فإنه حال من الضمير في ((لا ترجون)) مقررة لجهة الإشكال، أي ما لكم غير آملين لله وقاراً والحالة هذه؟ كذلك ((ما بالهم)) أي ما بالهم يتنزهون وأنا بين أظهرهم وأعلم بالله منهم؟ فهذه الفاء نظيره في قوله تعالى:{أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وكان ينبغي لهم أن يجعلوا عدم تنزههم عن الرخص مسبباً عن عمله صلوات الله عليه فعكسوا، فأنكر عليهم. والله أعلم بالصواب.

الحديث الثامن عن رافع: قوله: ((يؤبرون)) الجوهري: أبر فلان نخله أي لقحه وأصلحه، وفي رواية طلحة بين عبيد الله ((يلقحونه)) يجعلون الذكر في الأنثى بلقح. وقوله:((كنا نصنعه)) أي هذا دأبنا وعادتنا. وقوله: ((كان خيراً)) أي تتبعون فيما لا ينفع، كما جاء في تلك الرواية ((ما أظن)) يعني ذلك شيئاً، وأضاف الدين إليهم؛ لأن المراد إذا أمرتكم بما ينفعكم في أمر دينكم فخذوه، كقوله تعالى:{ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} . وأوقع قوله: {إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} جزاء الشرط على تأويل وإذا أمرتم بشيء من رأى وأخطئ فلا تستبعدوه، فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب. كما جاء

ص: 611

أمر دينكم فخذوا به؛ وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر)) رواه مسلم [147].

148 -

وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان! فالنجاء النجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم،

ــ

في رواية أحمد: ((والظن يخطئ ويصيب)). وفي الحديث دلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما التفت إلى الأمور الدنيوية قط، وما كان على بال منه، سوى الأمور الأخروية.

الحديث التاسع عن أبي موسى: قوله: ((إنما مثلى)) ((قض)): المثل الصفة العجيبة الشأن، أي صفتي وصفة ما بعثني الله به من الأمر العجيب الشأن كصفة رجل أتى قوماً وشأنه. و ((النذير العريان)) مثل سائر يضرب لشدة الأمر، ودنو المحذور، وبراءة المحذر عن التهمة، وأصله أن الرجل إذا رأى العدو قد هجم على قومه وأراد أن يفاجئهم وكان يخشى لحقوهم عند لحوقه تجرد عن ثوبه وجعله على رأس خشبة وصاح، ليأخذوا حذرهم، ويستعدوا قبل لحوقهم. و ((النجاء)) – بالمد – مصدر نجا إذا أسرع، يقال ناقة ناجية أي مسرعة، ونصبه على المصدر، أي انجوا النجاء، أو على الإغراء. و ((أدلجوا)) أي ساروا في الدلجة – وهي الظلمة – والدلجة أيضاً السير في الليل. وكذا الدلج – بفتح اللام – وادلجوا – بتشديد الدال – ساروا آخر الليل. والمهل – بالتحريك – الهينة والسكون، وبالسكون الإمهال. و ((اجتاحهم)) استأصلهم وأهلكهم. و ((الجائحة)) الهلاك، وسمى بها الآفة لأنها مهلكة.

روى الشيخ محيي الدين عن القاضي عياض: المعروف في صحيح البخاري إذا أفرد النجاء مد، وحكى أبو زيد فيه القصر أيضاً. أما إذا كرر ففيه المد والقصر أيضا. وقال محيي الدين: في جميع نسخ مسلم: ((مهلتهم)) بضم الميم وإسكان الهاء وبتاء بعد اللام، وفي الجمع بين الصحيحين:((مهلهم)) بحذف التاء وفتح الميم والهاء، وهما صحيحان.

أقول: التشبيه من التشبيهات المفرقة، شبه ذاته عليه الصلاة والسلام بالرجل، وما بعثه الله من إنذار القوم بعذاب الله القريب بإنذار الرجل قومه: بالجيش المصبح، وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن كذب الرجل في إنذاره وصدقه. وفي قول الرجل: أنا النذير إلى آخره أنواع من التأكيد، أحدها بعيني؛ لأن الرؤية لا يكون إلا بها. وثانيها قوله:((وأنا))، وثالثها العريان؛ فإنه دل على بلوغ النهاية في قرب العدو، وفي ذلك تنبيه على أنه الذي يختص في إنذاره بالصدق، والذي لا شبهة فيه، وهو الذي يحرص جداً على خلاص قومه من الهلاك. قال في

ص: 612

فنجوا. وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومن عصاني وكذب ما جئت به من الحق)). متفق عليه.

149 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها، جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم

ــ

القرينة الأولى: فأطاعني، وقابله في الثانية: بكذب؛ ليؤذن بأن الإطاعة مسبوقة بالتصديق، ويشعر أن التكذيب مستتبع للعصيان، كأنه جمع في كل من الفقرتين بين المعنيين، وإلى المعنيين أشار بقوله عليه الصلاة والسلام:((من أطاعني)) إلى آخره. وأتبع قوله: ((اجتاحهم)) قوله: ((أهلكهم)) إعلاماً بأنه أهلكهم عن آخرهم، فلم يبق منهم أحد. ((شف)): ذكر العينين إرشاد إلى أنه صلى الله عليه وسلم تحقق عنده جميع ما أخبر عنه تحقق من رأى شيئاً بعينيه، لا يعتريه وهم ولا يخالطه شك. والله أعلم.

الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((استوقد)) بمعنى أوقد، ولكن الأول أبلغ، كعف واستعف. ((والإضاءة)) فرط الإنارة، واشتقاقه من الضوء، وهو ما انتشر من الأجسام النيرة، ويقال: أضاءت النار، وأضاءت غيرها، يتعدى ولا يتعدى، فإن جعل متعدياً يكون ((ما حوله)) مفعولا به، وإن جعل لازماً يجوز أن يكون ((ما حوله)) فاعلا له على تأويل الأماكن، ويجوز أن يكون فاعله ضمير النار، ((وما حوله)) ظرف، فيجعل حصول إشراق النار في جوانبها بمنزلة حصولها نفسها فيها مبالغة. وحول الشيء جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه، أو سمى بذلك اعتباراً بالدوران والإطافة، ويقال للعام حول؛ لأنه يدور. وفي رواية مسلم:((ما حولها)) فيكون الضمير راجعاً إلى النار. وفي رواية البخاري: ((ما حوله)) كما في التنزيل، والضمير راجع إلى المستوقد. والفراش ما يتعاقب في النار.

قوله: ((فيتقحمن فيها)) التقحم الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت. قوله: ((أنا آخذ بحجزكم)) الحجز جمع حجزة، وهي معقد الإزار والسراويل. قال الشيخ الإمام محيي الدين:((أنا آخذ بحجزكم)) يروى بوجهين: أحدهما اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال، والثاني فعل مضارع بضم الخاء، والأول أشهر، وهما صحيحان.

ص: 613

تقحمون فيها)). هذه رواية البخاري، ولمسلم نحوها، وقال في آخرها: قال: ((فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار! فتغلبوني. تقحمون فيها)). متفق عليه.

ــ

قوله: ((هلم عن النار)) قال الخليل: أصله لم، أي لم أنفسكم إلينا بالقرب مناه، و ((هاء)) للتنبيه، وإنما حذفت ألفها لكثرة الاستعمال، وجعل اسماً واحداً يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث في لغة أهل الحجاز، قال الله تعالى:{والْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا} . وقيل: أصله هل أم، أي هل لك في كذا، أمه – أي قصد؟ فركب [الكلمتان]، فقيل: هلم ومعناه هلم إلى، أعزب عن النار. ومحل ((هلم)) نصب على الحال من فاعل ((آخذ)) أي آخذ بحجزكم قائلا هلم.

قوله: ((فتغلبوني)) النون مشددة منه؛ لأن أصله فتغلبونني، فأدغم أحد النونين في الأخرى، والفاء فيه سببية على التعكيس، كالكلام في قوله:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا} وتقديره: أنا آخذ بحجزكم لأخلصكم عن النار، فعكستم وجعلتم الغلبة مسببة عن الأخذ. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل بوقوع الفراش إلى النار لجهله بما يعقبه التقحم فيها من الاحتراق والهلاك.

أقول: ولتحقير شأنها قال: ((وهذه الدواب))، كقوله تعالى:{مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} ، وقول عائشة رضي الله عنها في حق عبد الله بن عمرو رضي الله عنه:((عجبت لابن عمرو هذا)). وتخصيص ذكر الدواب والفراش لا يسمى دابة عرفاً لبيان جهلها، كقوله تعالى:{إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ} كل ذلك تعريض لطالب الدنيا المتهالك فيها، والتأنيث في ((هذه)) باعتبار الخبر لأنه جمع، ويجوز أن يراد بالفراش الجنس فيؤنث كما في قوله تعالى:{وأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا} . وفي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المهلكات نفس النار في قوله: ((فأنا آخذ بحجزكم عن النار)) وضع للمسبب موضع السبب، كما في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} .

واعلم أن تحقيق هذا التشبيه موقوف على معرفة معنى قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وذلك أن حدود الله هي محارمه ونواهيه، كما ورد:((ألا! إن حمى الله محارمه، ورأس المحارم حب الدنيا وزينتها، واستيفاء لذاتها وشهواتها)) شبه إظهار تلك الحدود ببياناته الشافيه الكافية من الكتاب والسنة باستيقاد الرجل

ص: 614

ــ

النار، وشبه فشو ذلك الكشف في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد، وشبه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان والكشف، وتعديهم حدود الله، وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات، ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عنه بأخذ حجزهم – بالفراش التي يقتحمن في النار، ويغلبن المستوقد على دفعه إياها عن الاقتحام، وكما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاهتداء والاستدفاء وغير ذلك، والفراش بجهلها جعلت له سبباً لهلاكها – كذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة وانتهاؤها عما هو سبب هلاكهم، وهم مع ذلك لجهلهم جعلوهم موجبة لترديهم. وفي قوله:((آخذ بحجزكم)) استعارة مثلت حالة منعه الأمة عن الهلاك بحالة رجل أخذ بحجرة صاحبه الذي يهوى أن يهوى في قعر بئر مردية.

وفي رواية البخاري: ((فأنا آخذ)) بالفاء، فالفاء فيه فصيحة، كما في قوله تعالى:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} فإنه تعالى لما سال بقوله: ((أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً)) وأجابوا: لا، قال: فإذا كان كذلك ((فكرهتموه)) وكذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما قال: ((مثلي ومثل الناس)) أي صفتي وصفة الناس، ثم شرع في بيان المشبه به بقوله:((مثل رجل)) إلى آخره، وعلم أنه ما يقابله على ما بيناها آنفاً – أتى بما هو أهم وأولى منها، وهو قوله:((فأنا آخذ بحجزكم)) بالفاء، كأنه قيل: إذا صح هذا التمثيل، وأنا مثل المستوقد، وأنتم كالفراش تقتحمون في النار – فأنا آخذ بحجزكم، ولهذه الدقيقة التفت من الغيبة في قوله:((مثل الناس)) إلى الخطاب في قوله: ((فأنا آخذ بحجزكم)) كما أنك إذا أخذت في حديث من لك عناية بشأنه، والحال أنه مشتغل بشيء يورطه في الهلاك، ثم أنك من غاية رأفتك عليه وشدة حرصك على نجاته تجد في نفسك أنه حاضر عندك فتتحرى خلاصه.

وفيه إشارة إلى أن الإنسان إلى النذر أحوج منه إلى البشير، ولذلك أفرده في قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وذلك أن جبلة الإنسان مائلة إلى الحظوظ العاجلة دون الآجلة، كما قال الله تعالى:{كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ (20) وتَذَرُونَ الآخِرَةَ} فأوجب قلعها أولا لتيمكن من تحري ما يزلفه إلى الله تعالى، ومن ثم قيل: التحلية بعد التخلية. وفي الحديث إظهار لرأفته ورحمته على الأمة، وحرصه على نجاتهم، كما قال الله تعالى:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .

ص: 615

150 -

وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا

ــ

الحديث الحادي عشر عن أبي موسى: قوله: ((الهدى والعلم)) أي الطريقة والعمل. روى: ((من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً)). و ((الغيث)) المطر، وإنما اختير الغيث على سائر أسماء المطر ليؤذن باضطرار الخلق إليه حينئذ، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} وقد كان الناس في الزمان الأول قبل المبعث وهم على فترة من الرسل، وقد امتحنوا بموت القلب ونضوب العلم، حتى أصابهم الله برحمة من عنده، فأفاض عليهم سجال الوحي السماوي، فأشبهت حالهم حال من توالت عليهم السنون، وأخلفتهم المحامل، حتى تداركهم الله بلطفه، وأرخت عليهم السماء، غير أنه كان حظ كل فريق من تلك الرحمة على ما ذكره من الأمثلة والنظائر، وإنما ضرب المثل بالغيث للمشابهة التي بينه وبين العلم، فإن الغيث يحيي البلد الميت، والعلم يحيي القلب الميت.

قوله: ((وكانت منها طائفة طيبة)) الطائفة من الشيء قطعة منه. قال الشيخ محي الدين: كذا هو في جميع نسخ مسلم: ((طائفة طيبة)). ووقع في البخاري: ((وكانت منها نقية)) قلبت الطاء بنون مفتوحة، ثم قاف مكسورة، ثم ياء مثناة من تحت مشددة، وهو بمعنى طيبة، هذا هو المشهور في روايات البخاري. و ((العشب والكلأ والحشيش)) كلها اسم للنبات، لكن الحشيش مختص باليابس، والعشب والكلا – مقصوراً – مختصان بالرطب، والكلأ – بالهمزة – يقع على اليابس والرطب، و ((الأجادب)) – بالجيم، والدال المهملة – هي الأرض التي لا تنبت كلأ. ((خط)): هي الأرض التي تمسك الماء، فلا يسرع فيه النضوب.

وقال الشيخ محي الدين عن بعضهم: إنما هي ((أخاذات)) بالخاء والذال المعجمتين جمع أخاذة، وهي الغدير الذي يمسك الماء، والضمير في ((بها)) يرجع إلى أجادب. قال المظهر: وفيه بحث يذكر. و ((القيعان)) بكسر القاف جمع قاع، وهو الأرض المستوية. ((فقه)) بضم القاف وكسرها، والمشهور الضم، إذا فهم وأدرك الكلام.

[مظ]: اعلم أنه ذكر في تقسيم الأرض ثلاثة أقسام، وفي تقسيم الناس باعتبار قبول العلم قسمين: أحدهما ((من فقه في دين الله – إلى آخره)((والثاني من لم يرفع بذلك رأساً)) يعني تكبر ولم يقبل الدين، يقال: لم يرفع فلان رأسه بهذا، أي لم يلتفت إليه من غاية تكبره، وإنما ذكره كذلك لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث إنه منتفع

ص: 616

تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)). متفق عليه.

ــ

به، وكذلك الناس قسمان: أحدهما من يقبل العلم وأحكام الدين، والثاني من لا يقبلهما هذا يوجب جعل الناس في الحديث على قسمين: أحدهما ينتفع به، والثاني: لا ينتفع. وأما في الحقيقة الناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من يقبل العلم بقدر ما يعمل به، ولم يبلغ درجة الفتوى والتدريس وإفادة الناس، فهو القسم الأول، ومنهم من يقبل من العلم بقدر ما يعمل به، وبلغ أيضاً درجة الفتوى والتدريس وإفادة الناس، وهو القسم الثاني، ومنهم من لا يقبل العلم، وهو القسم الثالث.

أقول: اتفق الشارحون على الوجه الثاني، وظاهر الحديث ينصر الأول؛ لأن شطره الأول من التمثيل مركب من أمرين، وذلك أن ((أصاب منها طائفة)) معطوف على ((أصاب أرضاً)) والضمير في ((منها)) يرجع إلى مطلق الأرض المدلول عليه بقوله:((أرضاً))، ثم قسمت الأرض الأولى – بحرف التعقيب في ((فكانت))، وعطف ((كانت)) على ((كانت)) – قسمين، فيلزم اشتمال الأرض الأولى على الطائفة الطيبة وعلى الأجادب، والثانية على عكسها، فالواو في ((وكانت)) ضمت وتراً إلى وتر، وفي ((أصابت)) شفعاً إلى شفع: نظيره قوله تعالى: {ومَا يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ (19) ولا الظُّلُمَاتُ ولا النُّورُ} وقوله تعالى: {إنَّ المُسْلِمِينَ والْمُسْلِمَاتِ} .

((الكشاف)): الفرق بين عطف الإناث على الذكور، وعطف الزوجين على الزوجين أن الإناث والذكور جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسطة العاطف بينهما، وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، وكان معناه أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم.

وأيضاً أن أصل التمثيل مركب من أمرين: الهدى، والعلم، لتغايرهما في الاعتبار، ويعضده مراعاة معنى التقابل بين الكلامين، من إثبات إنبات الكلأ، وإمساك الماء في أحدهما، ونفيهما في الآخر على سبيل الحصر بقوله عليه الصلاة والسلام، ثم تعقبهما بالتفصيل في قوله:((فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه)) إلى آخر الحديث؛ لأنه ذكر المثل فيه مرتين. ويؤيده ما ذكره الشيخ محيي الدين النواوي: أن ((رعوا)) بالراء من الرعي، هكذا هو في جميع نسخ مسلم، ووقع في البخاري:((وزرعوا)) وكلاهما صحيح – انتهى كلامه.

وإنما قلنا: هذه الرواية تؤيد ما ذكرنا؛ لأن في الكلام لفاً ونشراً، فإن ((رعوا)) مناسب لـ ((أنبت الكلأ، وفشربوا، وسقوا الأجادب، وأمسكت الماء))، فيكون الضمير في ((نفع الله بها)) لأرض ومعنى كلاهما صحيح؛ لأن ((زرعوا)) أيضاً متعلق بالأول لا بالأجادب، فإنها لا تكفي الشرب والسقي فضلا عن الزرع، فعلى هذا قد ذكر في الحديث الطرفان: العالي في الاهتداء، والغالي في الضلال، فعبر عمن قبل هدى الله والعلم بقوله:((فقه في دين الله – إلى آخره)) وكنى عمن أبى قبولها بقوله: ((لم يرفع بذلك رأساً)) وبقوله: ((لم يقبل هدى الله))؛ لأن الثاني عطف

ص: 617

151 -

وعن عائشة، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ)، وقرأ إلى:(ومَا يَذَّكَّرُ إلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ). قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا رأيت – وعند مسلم: رأيتم – الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سماهم الله، فاحذروهم)) متفق عليه.

ــ

تفسيري للأول، وترك الوسط، وهو قسمان: أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه فحسب، والثاني لم ينتفع هو بنفسه، ولكن نفع الغير.

وفي الحديث إشعار بأن الاستعدادات ليست بمكتسبة، بل هي مواهب ربانية يختص بها من يشاء، وكمالها أن يفيض الله عز وجل عليها من المشكاة النبوية، فإذا وجد من يشتغل بغير الكتاب والسنة وما والاهما علم أن الله لم يرد به خيراً، فلا يعبأ باستعداده الظاهر، وأن الفقيه هو الذي علم وعمل ثم علم، وفاقد أحدهما فاقد هذا الاسم، وان العالم العامل ينبغي أن يفيد الناس بعمله، كما يفيد بعلمه، ولو أفاد بالعمل فحسب لم يحظ منه بطائل، كأرض معشبة لا ماء فيها، فلا يمرأ مرعاها، ولو اقتصر على القول لأشبه السقي مجرداً من الرعي، فيشبه آخذه المستسقي، لو منعهما معاً كان كأرض ذات ماء وعشب حماها بعض الظلمة عن مستحقيها. قال:

ومن منح الجهال علما أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم.

الحديث الثاني عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((هن أم الكتاب)) سميت بها لأنها بينة في نفسها، مبينة لما عداها من المتشابهات، فهي كالأصل لهما، كما سميت مكة أم القرى لدحو الأرض منها. قد افتقرنا في بيان هذا الحديث إلى الكشف عن المراد بالمحكم والمتشابه، فيتضح المحق من المبطل من أبواب التأويل، فنقول – وبالله التوفيق -: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه بخلافه؛ لأن اللفظ الذي يفيد معنى إما أن يحتمل غيره أو لا، الثاني النص، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى راجحة أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن تكون مساوية أو لا، والأول هو المجمل، والثاني المؤول؛ فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم، وبين المجمل والمؤول هو المتشابه. هكذا ينبغي أن يقسم؛ لأنه تعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه في قوله تعالى:((مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)) وهو ما لم يتضح معناه، فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله مما يتضح معناه.

ويعضد ما ذكرنا أسلوب الآية، وهو الجمع بين التفريق والتقسيم. وذلك أنه تعالى لما فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال:{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أراد أن يضيف إلى كل منهما ما يناسبهما من الحكم، قال أولا:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} وثانياً: {والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} وكان من الظاهر أن

ص: 618

152 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، قال:

ــ

يقال: فأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم. فوضع موضع ذلك: ((الراسخون في العلم يقولون آمنا)) وإنما وضع ((يقولون آمنا)) موضع ((يتبعون المحكم)) لإيثار لفظ الرسوخ في الابتداء؛ لأن الرسوخ في العلم لا يحصل إلا من بعد التتبع التام، والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على سبيل الرشاد، ورسخ القدم في العلم – أفصح صاحبه النطق بالقول الحق إرشاداً للخلق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} شاهداً على أن {والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} مقابل لقوله: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} .

وفيه أيضاً إشارة إلى أن الوقف ((على الله)) والابتداء بقوله: ((والراسخون)) وقف تام، إلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار إليه عليه الصلاة والسلام بقوله:((إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله زائغين، فاحذروهم)). وقوله: ((رأيت)) وقع في صحيح البخاري بفتح التاء وكذا في بعض نسخ المصابيح على الخطاب العام، ومن ثم جمعه في قوله:((فاحذروهم)) ويؤيده رواية مسلم: ((رأيتم)). وفي بعضها بكسر التاء خطابا لأم المؤمنين، فيكون ((فاحذروهم)) على أسلوب قوله تعالى:{ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} لأنها أم المؤمنين بياناً لشرفها وغزارة علمها. ((الكشاف: كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان! افعلوا كيت وكيت، إظهاراً لتقدمه، واعتباراً لترؤسه.

((تو)): المتشابه الذي يحذر منه، هو صفات الله تعالى التي لا كيفية لها، وأوصاف القيامة التي لا سبيل إلى إدراكها بالقياس والاستنباط، ولا سبيل إلى استحضارها في النفوس، إلا أنها معرفة على لسان الشارع. وسئل مالك بن أنس عن قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} قال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. السجاوندي: العقل مبتلى باعتقاد حقيقة المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادات، فالحكيم إذا صنف كتاباً ربما أجمل فيه إجمالاً؛ ليكون موضع جثو المتعلم لأستاذه، والملوك يكثر في أمثلتهم علامات لا تدركها العقول. وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف لاستمر العالم في أبهة العلم على المرودة، وما استأنس إلى التذلل بغير العبودة، والمتشابه هو موضع جثو العقول

ص: 619

فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال:((إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب)). رواه مسلم. [152]

153 -

وعن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته)). متفق عليه.

ــ

لبارئها استسلاماً واعترافاً بقصورها والتزاماً – انتهى كلامه.

وأما قوله: {ومَا يَذَّكَّرُ إلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} فهو تعريض بالزائغين، ومدح للراسخين، يعني من لم يذكر ولم يتعظ ويتبع هواه ليس من أولي الألباب، ومن ثم قال الراسخون:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ} خضعوا لبارئهم لاستنزال العلم اللدني، واستعاذوا به من الزيغ النفساني. والله أعلم.

الحديث الثالث عشر عن عبد لله بن عمرو: قوله: ((هجرت)) التهجير السير في الهاجرة، وكذلك التهجر، ومنه قول النابغة: خليلي غضا ساعة وتهجرا.

((مظ)): لعل خروجه في هذا الوقت ليدركه عليه الصلاة والسلام، ويستفد منه عند خروجه من الحجرة، فلا يفوت منه شيء مما يصدر عنه عليه الصلاة والسلام من الأقوال والأفعال. وفيه تحريض على تحمل مشقة الحرارة وغيرها، والإسراع إلى المسجد، وطلب العلم.

((مح)): حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختلاف يؤدي إلى الكفر والبدعة، كاختلاف اليهود والنصارى، وذلك مثل الاختلاف في نفس القرآن، أو في معنى لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو فيما يوقع في شك، أو شبهة، وفتنة، وخصومة، وأما اختلاف استنباط فروع الدين منه، ومناظرة أهل العلم فيه على سبيل الفائدة، وإظهار الحق، واختلافهم في ذلك – فليس بمنهى عنه، بل هو مأمور به، وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون من عهد الصحابة إلى الآن على ذلك.

الحديث الرابع عشر عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((إن أعظم المسلمين جرماً)) فرع على قوله: ((أجرم المسلمين)) وفيه من المبالغة أنه جعل نفسه عظيماً ففخم، ثم فسره

ص: 620

154 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)). رواه مسلم. [154]

ــ

بقوله: ((جرماً)) ليدل على أن الأعظم نفسه جرم، كقوله تعالى:{وفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًًا} . ((وفي المسلمين)) أي في حقهم وجهتهم، وإنما كان أعظم لأن سراية هذا الضرر عمت المسلمين إلى انقراض العالم. وبيان ذلك أن القتل وإن كان اكبر الكبائر بعد الشرك فإنه يتعدى إلى القاتل، أو إلى عاقلته، أو إلى قبيلته، ولكن جرم من حرم ما سئل عنه لأجل مسألته، فإنه تعدى في سائر المسلمين، فلا يمكن أن يوجد جرم ينتهي في معنى العموم إلى هذا الحد.

السؤال في كتاب الله تعالى، وفي الحديث نوعان: أحدهما ما كان على طريق التكلف والعنت، وهو مكروه ينهى عنه، وكل ما كان من هذا الوجه ووقع السكوت عن جوابه فإنما هو ردع وزجر للسائل، فإن وقع الجواب عنه فهو عقوبة وتغليظ.

((مظ)): هذا في حق من سأل عبثاً وتكلفاً كمسألة بني إسرائيل في بيان البقرة؛ دون من يسأل سؤال حاجة، فهو مثاب، لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} واحتج بهذا الحديث من يذهب إلى أن أصل الأشياء قبل ورود الشرع بها على الإباحة، حتى يقوم دليل على الحظر.

الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الدجالون)) المزورون الملبسون، سمى دجالا لتمويهه على الناس، وتلبيسه الباطل بما يشبه الحق. يقال: دجل إذا موه ولبس. ((تو)): يقول: سيكون جماعة يقولون للناس: نحن علماء ومشايخ، وندعوكم إلى الدين، وهم كاذبون في ذلك، ويتحدثون بالأحاديث الكاذبة، ويبتدعون أحكاماً باطلة، واعتقادات فاسدة، ((فإياكم)) أي احذروهم، انتهى كلامه.

قيل: يجوز أن تحمل ((الأحاديث)) على المشهور عند المحدثين، فيكون المراد بها الموضوعات وأن يراد بها ما هو بين الناس، أي يحدثونكم بالذي ما سمعتم عن السلف من علم الكلام، فإنه لم يتكلم فيه الصحابة والتابعون.

قال محيي السنة في شرح السنة: واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه. سأل رجل عمر بن

ص: 621

ــ

عبد العزيز عن شيء من الأهواء، فقال: ألزم دين الصبي في الكتاب والأعرابي، واله عما سوى ذلك.

وقال مالك بن أنس: وإياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله! وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله، وصفاته، وكلامه، وعلمه، وقدرته، لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال: لو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل.

وسئل سفيان الثوري عن الكلام فقال: دع الباطل، أين أنت من الحق؟ اتبع السنة ودع البدعة. وقال: وجدت الأمر في الإتباع، وقال: عليكم بما عليه الجمالون، والنساء في البيوت، والصبيان في الكتاب من الإقرار والعمل.

وقال الشافعي: لأن يبتلى المرء بما نهى الله عنه خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بالكلام. وقال: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك السنة والكتاب، وأخذ في الكلام.

فإن قلت: كيف الجمع بين هذا الذم البليغ في أمر الكلام، وبين قول الشيخ محيي الدين فيما سبق: إن علم الكلام من البدع الواجبة؟ قلت: إن الوجوب من حيث الضرورة من غلو المبتدعة والملاحدة، فحينئذ واجب على المسلمين دفعهم، ورفع شبههم، والمحذور جعله صنعة وعادة، ولهذا كان تعلم علم الكلام من فروض الكفايات كسائر الصناعات المباحة، وشبه حجة الإسلام المتكلم (بالدرقة).

قوله: ((لا يضلونكم ولا يفتنونكم)) النون مانعة عن أن يكون جواباً للأمر، ففيه وجهان أحدهما: أن يكون إخباراً، فكأنه لم قيل لهم: احذروا أنفسكم عنهم، واحذروهم أن يتعرضوا لكم، قيل: ماذا يكون بعد الحذر؟ فأجيب لا يضلونكم، كقوله تعالى:{عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} إذا قرئ بالرفع على إرادة الإخبار، وينصره قراءة أبي حيان: لا يضيركم. وثانيهما: أن يكون خبراً بمعنى النهي، كقوله تعالى:{وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلَاّ اللَّهَ} وهذا أبلغ من صريح النهي، كأن المطلوب قد حصل، وهو يخبر عن حصوله، فيكون النهي تأكيداً للأمر، كأنه قيل: احذروهم ولا تتعرضوا، لما إن تعرضتم له يضلونكم كقوله تعالى:{واتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} وقوله تعالى: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَاّ يُؤْمِنُ بِهَا} .

ص: 622

155 -

وعنه، قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم و (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا))) الآية. رواه البخاري.

156 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) رواه مسلم. [156]

ــ

الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تصدقوا أهل الكتاب)) يعني إذا حدثت اليهود والنصارى بشيء من التوراة والإنجيل لا تصدقوهم، لعلهم حدثوكم بما هو محرف ومختلط منهما، ولا تكذبوهم أيضاً لاحتمال أن يكونوا حقا وصدقاً، بل قولوا:{آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا ومَا أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ} الآية، إن كان حقا آمنا به لأنا آمنا بجميع الرسل، وبما أنزل إليهم من الله تعالى، وإن لم يكن حقا فلا نؤمن به، ولا نصدقه أبداً. ((حس)): هذا أصل في وجوب التوقف عما يشكل من الأمور والعلوم، فلا يقضي فيه بجواز ولا بطلان، وعلى هذا كان السلف. سئل عثمان رضي الله عنه عن الجمع بين الأختين من ملك اليمين، قال: أحلتهما آية، وحرمتهما آية. ولم يقض فيه بشيء.

الحديث السابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كفى بالمرء كذباً)) ((مظ)): ((كذباً)) منصوب على التمييز، و ((أن يحدث)) فاعل ((كفى)) و ((بالمرء)) مفعوله، يعني لو لم يكن للرجل كذب إلا تحدثيه بكل ما سمع – من غير تبينه أنه صدق أو كذب – يكفيه وحسبه من الكذب؛ لأن الرجل إذا تحدث بكل ما سمع لم يخلص من الكذب؛ لأن جميع ما يسمع الرجل لا يكون صدقاً، بل يكون بعضه كذباً. وهذا زجر عن التحدث بشيء لم يعلم صدقه، بل يلزم على الرجل أن يبحث في كل ما سمع من الحكايات والأخبار، وخاصة من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن علم صدقه يتحدث، وإلا فلا يتحدث.

أقول: لعل محيي السنة مال إلى أن الحديث ورد في الأحاديث النبوية خاصة، حيث أورد هذا الحديث في باب الاعتصام بالكتاب والسنة، ويعضده ما روي:((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)).

ص: 623

157 -

وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويتقدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن

ــ

الحديث الثامن عشر عن ابن مسعود: قوله: ((في أمته قبلي)) ((تو)): هذا الحرف أعنى ((في أمة)) وجدنا في نسخ المصابيح ((في أمته)) بزيادة هاء، ونحن نرويه بغير هاء عن كتاب مسلم وغيره، وهو الصواب، والأمثل في فصيح الكلام.

قال المؤلف: وقد وجدت في كتاب الحميدي والجامع والمشارق بغير هاء، وفي صحيح مسلم كما في المصابيح.

((مظ)) الرواية بالهاء أصح. وأقول: إن قوله: ((نبي)) نكرة، والمناسب أن يؤتى ((أمة)) نكرة، إذ المعنى ما من نبي من الأنبياء في أمة من الأمم، لاقتضاء ((ما)) النافية و ((من)) الاستغراقية ذلك، ولأن قوله:((كان له من أمته)) عبارة عن النكرة، فهو كالتعريف باللام بعد النكرة.

((الحواري)) الناصر، وأصله أن أصحاب عيسى عليه السلام كانوا قصارين يبيضون الثياب، فلما صاروا أنصاره قيل لكل ناصر لنبيه: حواري، وهو الوجه المستقيم؛ لأنهم خلصان الأنبياء، ولأن حواري الرجل صفوته وخالصته الذي أخلص ونقى من كل عيب. و ((الخلف)) بالتحريك والتسكين، وخص الأول بالخلف الصدق، والثاني بالسوء، ويجمع خلف على أخلاف، كسلف وأسلاف، وخلف على خلوف، كعدل وعدول، والمعنى أنه يجيء من بعد أولئك السلف الصالح أناس لا خير فيهم، ولا خلاق لهم في أمور الديانات.

وقوله: ((حبة خردل)) يعني أدنى مراتب أهل الإيمان تضطرب قلوبهم لظهور المنكر، ويكون منه في جهد وعناء، حتى لا يستقر، ولا ينقطع النزاع عنها، فإن استقرت على ذلك وانقطع عنها النزاع الذي هو حق الإيمان وسمت المؤمنين وسمتهم – أذنت بأنها خالية عن القوى الإيمانية، عرية عن الصفات النورانية.

وأقول: إن ذهب إلى الرواية الصحيحة يكون ((من قبلي)) صفة ((أمة))، وإلى الأخرى يجوز أن يتعلق بـ ((نعت))، أو يكون حالا من ((أمته))، و ((أصحاب)) يجوز أن يكون عطفاً تفسيرياً على ((الحواريون))، وأن يكون الأصحاب غير الحواريين. و ((ثم)) ههنا يجوز أن يجري على الحقيقة، وعلى معنى البعد في المرتبة. والضمير في ((أنها)) للقصة، والجملة بعدها مفسرة لها، وصف الخلوف بوصفين مقابلين، لما وصف الأصحاب بهما فهم تصلفوا، حيث قالوا: فعلنا ما أمرنا به من واجبات الدين، وفضائل الأعمال، ولم يفعلوا شيئاً من ذلك، بل فعلوا ما نهوا عنه، وهو

ص: 624

جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) رواه مسلم [157]

158 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له

ــ

المعنى بقوله: ((ويفعلون ما لا يؤمرون)) إذ فعل ما لم يؤمر به شرعاً من البدع المنهي عنها، ومنه قوله تعالى:{كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} بخلاف السلف الصالح؛ فإنهم لا اقتدوا بهدي نبي الله انخرطوا في سلك الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

والفاء في ((فمن جاهدهم)) جزاء شرط محذوف، والتنكير في ((مؤمن)) للتنويع، فإن الأول دل على كمال الإيمان، والثالث عن نقصانه، والمتوسط على القصد فيه، وفي ((حبة خردل)) على نفيه بالكلية، وهي اسم ليس، و ((وراء ذلك)) خبره، و ((من الإيمان)) صفتها، قدمت فصارت حالا منها. وذهب المظهر إلى أن الإشارة بذلك إلى الإيمان في المرتبة الثالثة، ويحتمل أن يشار به إلى المذكور كله، أي ليس وراء ما ذكرت من مراتب الإيمان مرتبة قط؛ لأن من لم ينكر بالقلب رضي بالمنكر، والرضي بالمنكر كفر، فتكون هذه الجملة المصدرة بليس معطوفة على الجملة قبلها بكمالها.

الحديث التاسع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من دعا إلى هدى)) ((قض)): أفعال العباد وإن كانت غير موجبة ولا مقتضية للثواب والعقاب بذواتها إلا أنه تعالى أجرى عادته بربط الثواب والعقاب بها ارتباط المسببات بالأسباب، وفعل العبد ما له تأثير في صدوره بوجه، فكما يترتب الثواب والعقاب على ما يباشره ويزاوله، يترتب كل منهما على ما هو سبب عن فعله. كالإرشاد إليه، الحث عليه، ولما كانت الجهة التي بها استوجب المسبب للأجر والجزاء غير الجهة التي استوجب بها المباشر – لم ينقص أجره من أجره شيئاً.

أقول: ((هدى)) وهو إما الدلالة الموصلة إلى البغية، أو مطلق الإرشاد، وهو في الحديث ما يهتدي به من الأعمال الصالحة، وهو بحسب التنكير مطلق شائع في جنس ما يقال له: هدى، يطلق على القليل والكثير، والعظيم والحقير، فأعظمه هدى من دعا إلى الله، وعمل صالحا، وقال إنني من المسلمين، وأدناه هدى من دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين، ومن ثم عظم شأن الفقيه الداعي المنذر، حتى فضل واحد منهم على ألف عابد؛ لأن نفعه يعم الأشخاص

ص: 625

من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه. لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) رواه مسلم [158]

159 -

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء)) رواه مسلم [159].

ــ

والأعصار إلى يوم الدين، ونرجو من رحمة الله وكرمه أن يكون سعينا في هذا الكتاب منتظماً في هذا السلك، ويرحم الله عبداً قال: آمينا.

الحديث العشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بدأ الإسلام)) ((مح)): بدأ بالهمزة من الابتداء، كذا ضبطناه. ((تو)): يريد أن الإسلام لما بدأ في أول الوهلة نهض بإقامته والذب عنه أناس قليلون من أشياع الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزاع القبائل فشردوهم عن البلاد، ونفوهم عن عقر الديار، يصبح أحدهم معتزلا مهجوراً، ويبيت منتبذاً وحداناً كالغرباء، ثم يعود آخراً إلى ما كان عليه، لا يكاد يوجد من القليلين إلا الأفراد. ويحتمل أن تكون المماثلة بين الحالة الأولى والحالة الأخيرة لقلة من كانوا يتدينون به في الأول، وقلة من كانوا يعملون به في الآخر، فطوبى للغرباء المتمسكين بحبله المتشبثين بذيله.

أقول: لا يخلو إما أن يستعار الإسلام للمسلمين، فالغربة هي القرينة، فيرجع معنى الوحدة والوحشة إلى نفس المسلمين، وإما أن يجري الإسلام على الحقيقة، فالكلام فيه على التشبيه، والوحدة والوحشة باعتبار ضعف الإسلام وقلته، فعلى هذا ((غريباً)) إما حال، أي بدأ الإسلام مشابهاً للغرباء، أو مفعولا مطلقاً، أي الإسلام ظهر ظهور الغرباء حين بدأ فريداً وحيداً، لا مأوى له، حتى تبوأ دار الإسلام أعنى طيبة، فطوبى له وطاب عيشاً، ثم أتم الله نوره، فانبث في الآفاق فبلغ مشارق الأرض ومغاربها، فيعود في آخر الأمر وحيداً فريداً شريداً إلى طيبة كما بدأ، فطوبى له ولهفى عليه، كما ورد:((الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها)) فعلى هذا ((طوبى)) ترشيح الاستعارة والله أعلم.

ص: 626

160 -

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها)). متفق عليه.

وسنذكر حديث أبي هريرة: ((ذروني ما تركتكم)) في كتاب المناسك، وحديثي معاوية وجابر:((لا يزال من أمتي)) و (الآخر): لا يزال طائفة من أمتي)) في باب: ثواب هذه الأمة، إن شاء الله تعالى.

الفصل الثاني

161 -

عن ربيعة الجرشي، قال: أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: لتنم عينك،

ــ

الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ليأرز)) أي ينضم إليها وينقبض، يقال: أرز يأرز أرزاً أروزاً. ومنه الأروز للبخيل، سمي به لأنه ينقبض إذا سئل، والمأرز الملجأ أيضاً. قيل: يحتمل أن يكون هذا إخباراً منه صلى الله عليه وسلم عما كان في ابتداء الهجرة، ويحتمل أنه أخبر عن آخر الزمان حين يقل الإسلام، فينضم إلى المدينة، فيبقى فيها، شبه الإيمان وفرار الناس من آفات المخالفين والتجاءهم إلى المدينة – بانضمام الحية في حجرها، ولعل هذه الدابة أشد فراراً وانضماماً من غيرها، فشبه بها بمجرد هذا المعنى، فإن المماثلة يكفي في اعتبارها بعض الأوصاف، والله أعلم.

الفصل الثاني

الحديث الأول عن ربيعة قوله: ((أتى)) ((مظ)): أي أتى ملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ذلك، ومعناه لا تنظر بعينك إلى شيء، ولا تصغ بأذنك إلى شيء، ولا تجر شيئاً في قلبك، أي كن حاضراً حضوراً تاماً لتفهم هذا المثل، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأني قد فعلت ما تأمرني، ((فقيل لي)) أي قال ذلك الملك.

أقول – والله أعلم -: قوله: ((لتنم عينك)) الأوامر الثلاث واردة على الجوارح ظاهراً وهي في الحقيقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجمع بين هؤلاء الخلال الثلاث في نفسه، وأن يكون نائم العين، حاضراً بالسمع والقلب، على ما سبق في الحديث الخامس من الباب:((إن العين نائمة والقلب يقظان))، وعلى هذا جوابه قال: فنامت إلى آخره، أي امتثلت لما أمرت به، ويجوز أن لا يكون ثم قول ولا جواب، كما قال الله تعالى:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وقال سبحانه: {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ} .

ص: 627

ولتسمع أذنك، وليعقل قلبك. قال: فنامت عيني، وسمعت أذناي، وعقل قلبي)). قال: فقيل لي: سيد بنى داراً، فصنع فيها مأدبة وأرسل داعياً؛ فمن أجاب الداعي، دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد، ومن ثم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، وسخط عليه السيد)). ((قال: فالله السيد، ومحمد الداعي، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة)) رواه الدارمي [161].

162 -

وعن أبي رافع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا

ــ

((الكشاف)) معنى ((قال له ربه أسلم)) أخطر بباله النظر في الدلائل المؤدية إلى المعرفة والإسلام، فقال: أسلمت، أي فنظر وعرف، والمعنى أراد الله أن يجمع فيه صلى الله عليه وسلم بين أولئك المعاني، فأجمعت فيه. والقول يستعار كثيراً فيما لا نطق فيه، كما قال الشاعر:

إذا قالت الأنساع للبطن ألحفي يقول سني للنواة طني

وقال الجدار للوتد لم تشقني قال سل عمن يدقني

قوله: ((فقيل لي سيد)) القول هذا على حقيقته من الملائكة كما في ذلك الحديث، و ((سيد)) مبتدأ والخبر ((بنى)) أي سيد عظيم الشأن كثير الإحسان. ((شف)): يجوز أن يكون مبتدأ مخصوصاً بالصفة، والخبر محذوف، وأن يكون خبراً محذوف المبتدأ – انتهى كلامه.

فإن قلت: كيف شبه في ذلك الحديث الجنة بالدار، وفي هذا الإسلام بالدار، وجعل الجنة مأدبة؟ قلت: لما كان الإسلام سبباً لدخول الجنة اكتفى في ذلك الحديث بالمسبب عن السبب، ولما كانت الدعوة إلى الجنة لا تتم إلا بالدعوة إلى الإسلام كما قال الله تعالى:{واللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} – استقام وضع كل منهما مقام الآخر، وحين كان نعيم الجنة وبهجتها هو المطلوب الأولى جعل الجنة نفس المأدبة مبالغة فيهما.

الحديث الثاني عن أبي رافع: قوله: ((لا ألفين)) ألفيت الشيء إذا وجدته، وهو كقولك: لا أرينك. ههنا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عن أن تراهم على هذه الحالة، والمراد نهيهم عن أن يكونوا على تلك الحالة، فإنهم إذا كانوا عليها وجدهم صلى الله عليه وسلم كذلك، فهو من باب إطلاق المسبب

ص: 628

في كتاب الله اتبعناه)). رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) [162].

163 -

وعن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: حرام عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما

ــ

على السبب، ومن الكناية الإيمائية. و ((الأريكة)) سرير مزين من قبة أو بيت، فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة. ((حس)): أراد بهذه الصفة أصحاب الترفة والبدعة الذين لزموا البيوت، وصدوا عن طلب العلم والحديث. ((مظ)): أراد بالوصف التكبر والسلطنة، و ((مما أمرت به)) بدل من ((أمري))، ومعنى ((لا أدري)) لا أدري غير القرآن، ولا اتبع غيره.

أقول: يجوز أن يراد بقوله: ((الأمر من أمري)) الأمر الذي هو بمعنى الشأن، ويكون ((مما أمرت به أو نهيت عنه)) بياناً للأمر الذي هو الشأن؛ لأنه أعم من الأمر والنهي. وقوله:((فيقول: لا أدري)) مرتب على ((يأتيه))، والجملة كما هي حال أخرى من المفعول، ويكون النهي منصباً على المجموع، أي لا ألفين أحدكم حاله أنه يتكئ ويأتيه الأمر فيقول: لا أدري.

الحديث الثالث عن المقداد: قوله: ((إلا إني أوتيت)) ((نه)): يحتمل هذا وجهين من التأويل: أحدهما أنه أوتى من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أعطى من الظاهر، والثاني أنه أوتي الكتاب وحياً، وأوتي من التأويل مثله، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب، فيعمم ويخصص، ويزيد وينقص، فيكون ذلك في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن. وقيل:((ومثله معه)) أي أحكاماً ومواعظ وأمثالاً تماثل القرآن في كونها وحياً، أو كونها واجبة القبول، وتنزه نطق رسوله عن الهوى، وأمر بمتابعته فيما يأمر وينهي، فقال عز من قائل:{ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى} وقال الله تعالى: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} أو يماثله في المقدار، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض التالي لهذا الحديث:((إنها لمثل القرآن أو أكثر)).

وقوله: ((ألا يوشك)) أي أنبهكم بأنه قريب أن يقول رجل شبعان. ((قض)): إنما وصفه بـ ((الشبعان)) لأن الحامل له على هذا القول إما البلادة وسوء الفهم، ومن أسبابه الشبع وشره

ص: 629

حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله؛ ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغنى عنها صاحبها، ومن نزل بقوم، فعليهم أن

ــ

الطعام وكثرة الأكل، وإما البطر والحماقة، ومن موجباته التنعم والغرور بالمال والجاه، والشبع يكنى به عن ذلك، ((وعلى أريكته)) متعلق بمحذوف في حيز الحال، أي متكئا أو جالسا، وهو تأكيد وتقرير لحماقة القائل وبطره وسوء أدبه. ((خط)): ذكره على ما ذهب إليه الخوارج والظواهر، فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنة التي ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا. قوله:((ألا لا يحل لكم)) إلى آخره، بيان للقسم الذي يثبت بالسنة، ولم يوجد له ذكر في الكتاب، ومنه:((ولا لقطة معاهد إلا أن يستغنى عنها صاحبها)). ((خط)): معناه إلا أن يتركها صاحبها لمن أخذها استغناء عنها. ((شف)): ((يقروه)) بفتح الياء، يقال: قريت الضيف قرى، مثل قليته قلى، وقراء إذا أحسنت إليه، إذا كسرت القاف قصرت، إذا فتحت مددت.

وقوله: ((فعليهم أن يقروه)) أي سنة واستحبابا لا فرضا وإيجابا، فإن قرى الضيف غير واجب قطعا، لحديث الأعرابي، وهو قوله:((هل على غيرهن يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا، إلا أن تطوع)). وقوله: ((فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)) أي فله أن يتبعهم ويجازيهم من صنيعهم بأن يأخذ من مالهم مثل قراه، يقال: أعقبه بطاعته إذا جازاه. قلت: فهو من باب الإفعال، وبعضهم يجعله من باب التفعيل، والمعقب الطالب، قال لبيد:

طلب المعقب حقه المظلوم

قال في نهاية الجزري: أي فله أن يأخذ منهم عوضا عما حرموه من القرى، ويقال: عقبهم مشددا ومخففا وأعقبهم إذا أخذ منهم عقبى، وعقبه وهو أن يأخذ منهم بدلا عما فاته، وهذا في المضطر الذي لا يجد طعاما، ويخاف على نفسه التلف، ويحتمل أن الأمر بأخذه مقدار القرى من مال المنزو لبه كان من جملة العقوبات التي نسخت بوجوب الزكاة، ومما يؤيد هذا الاحتمال قوله صلى الله عليه وسلم في آخر حديث العرباض:((وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب – إلى قوله – ولا أكل ثمارهم – إلى قوله – إذا أعطوكم الذي عليهم من الجزية)).

أقول: قول من قال: إن المراد بالمثل العدد هو الوجه، ويؤيده الحديث التالي كما سبق، ومطابقته للرد، فإن قول الرجل:((فما وجدتم من حلال فأحلوه)) يشعر بأن الكتاب استوعب جميع الأحكام الحلال والحرام، ويعضده ما في حديث العرباض، وقوله:((يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن)) حيث أتى بأداة الحصر، فالرد إنما يستقيم إذا حمل على العدد، وأيضا قوله:((معه)) صفة لمثله؛ لأن المثل متوغل في الإبهام، لا يتعرف بلإضافة، فمعناه أوتيت مثل الكتاب مصاحبا مع الكتاب أحكام وسنن مثله في العدد أو أكثر، ولأن قوله: ((ألا لا يحل

ص: 630

يقروه، فإن لم يقروه، فله أن يعقبهم بمثل قراه)) رواه أبو داود، وروى الدارمي نحوه، وكذا ابن ماجه إلى قوله:((كما حرم الله)) [163]

ــ

الحمار الأهلى)) شروع في تعديل مسائل تتعلق بالأحكام تمثيلا لا تحديدا، فعلى هذا التمسك بالحديث على جواز نسخ القرآن بالحديث خلافا للشافعي ؤضي الله عنه ضعيف.

اعلم أن كلمة التبيه مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية معطية معنى يحقق ما بعدها، ولكونها بهذه المثابة لا يكاد يقع ما بعدها إلا كانت مصدرة بما يصدر به جواب القسم وشقيقها إما، وتكررها في هذا الحديث توبيخ وتقريع نشأ من عظيم على من ترك السنة والعمل با لحديث، استغناء عنها بالكتاب، هذا مع الكتاب فكيف بمن رجح الرأي على الحديث؟ وإذا سمع حديثا من الأحاديث الصحيحة قال: لا علي بأن أعمل بها، فإن لي مذهبا أتبعه. وفي قوله:((ومثله)) استعارة بأنه صلى الله عليه وسلم ما تكلم ولا عمل من تلقاء نفسه، بل بإذن الله تعالى.

وقيل: ما أوتي الرسول غير القرآن على أنواع: أحدها الأحاديث القدسية التي أسندها إلى رب العزة، وثانيها ما ألهم، وثالثها ما أرى في المنام، ورابعها ما نفث جبريل عليه السلام في روعه، أي في قلبه. و ((على أريكته)) يجوز أن يكون صفة بعد صفة لرجل، فتكون الصفة الثانية تكميلا للذم؛ فإن الأولى تدل على الدعة والبطر، والثانية على التكبر والتجبر. ويجوز أن تكون حالا من ((رجل)) لا تصافه بشبعان فيكون تتميما ومبالغة في بطره وأشره، وفيه تشنيع عظيم ونهي فظيع على ذلك القائل.

قوله: ((إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن يكون من كلام الراوي كما ذهبوا إليه، وأن يكون من كلامه صلى الله عليه وسلم من باب الاستدراج ولإرخاء العنان على سبيل التجرد، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ لا إلَهَ إلَاّ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ} تنبيها به على أن من اسمه رسول الله ونبيه وخيرته من خلقه حقيق بأن يستقل بأحكام سوى ما أنزله الله عليه. قالوا في ((وإنما)) للحال من قوله: ((رجل شبعان)) ، والعامل ((يوشك)) ، وهي مقررة لجهة الإشكال، أي كيف يقول ما يقول والحال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيه؟ هذا هو الوجه؛ لأن الذهاب إلى أنه من كلام الراوي تخلل بين كلامي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعسف بعيد من الفصاحة.

أما بيان النظم فإنه صلى الله عليه وسلم قرر أولا بقوله: ((ألا إني أوتيت الكتاب)) أنه صلى الله عليه وسلم شرع أيضا أحكاما

ص: 631

164 -

وعن العرياض بن سارية، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيحسب أحدكم متكئا على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن؟! ألا وإني

ــ

في الدين سوى القرآن، وثنى بتوبيخ من أنكر ذلك، وجعله متكبرا بطرا طاغيا، وثلث بما يشعر بالتعليل، وأن له أن يستقل بالأحكام، وربع ببيان صور معدودة تحقيقا للمطلوب كما مر. قوله:((ومن نزل بقوم)) إلى آخره، أخرجه من سياق المبهمات، حيث لم يقل: لا يحل للمضيف أن لا يكرم ضيفه، وأبرزه في معرض الشرط والجزاء دلالة على أن ذلك ليس بمحرم، ولكنه خارج عن سمة أهل المروءة، وهدى أهل الإيمان، وليتأهل فاعله أن يخذل، ويستهجن فعله، ويجازى بكل قبيح.

فإن قلت: دلت هذه الصور على المحرمات، فأين ذكر ما أحله صلى الله عليه وسلم قلت: الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما خصه الدليل؛ لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} فخصت منها أشياء بنص التنزيل، وبقي ما عداها في معرض التحليل، فخص منها بنص الحديث بعض، فبقي سائرها على أصل الإباحة، وكأنه صلى الله عليه وسلم نص على تحليلها، فلا يزيد ولا ينقص. والله أعلم.

الحديث الرابع عن العرباض: قوله: ((أيحسب)) ((شف)): ((يظن)) بدل من ((يحسب)) بدل الفعل من الفعل، و ((عن أشياء)) متعلق بلنهي فحسب، ومتعلق الأمر والوعظ محذوف، أي أمرت ووعظت بأشياء، ونهيت عن أشياء. أقول: يجوز أن يكون التكرار للتأكيد، كما في قوله تعالى:{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ويُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} والواو في قوله: ((ألا وإني)) كالواو في ((وإنما حرام)) في الحديث السابق؛ لأن الهمزة في ((أيحسب)) للإنكار، وكذا في ((ألا)) فلمعنى أيحسب أحدكم أن الله خص المحرمات في القرآن؟ والحال أني قد حرمت، وأحللت، ووعظت. فأقحم حرف التنبيه المتضمن للإنكار بين الحال وعاملها، كما أقحم حرف الإنكار بين المبتدأ والخبر، في قوله تعالى:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} جاءت الهمزة مؤكدة معادة بين المبتدأ المتضمن للشرط وبين الخبر، ذكره الزجاج.

((مظ)) ((أو)): في قوله: ((أو أكثر)) ليس للشك، بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يزداد علما طورا بعد طور، وإلهاما من قبل الله تعالى ومكاشفة لحظة بلحظة، فكوشف له أن ما أوتي من الأحكام غير القرآن مثله، ثم كوشف له بالزيادة متصلا به.

ص: 632

والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم)) رواه أبو داود وفي إسناده: أشعث بن شعبة المصيصي، قد تكلم فيه. [164].

165 -

وعنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل:

ــ

أقول: يمكن أن يقال: ((أو)) هذه مثلها في قوله تعالى: {وأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أي بل يزيدون. وقوله: (إن الله لم يحل)) إلى آخر الحديث كناية عن عدم التعرض لهم بأبدانهم في المسكن والأهل والمال إذا أعطوا الجزية، وإنما وضع قوله:((الذي عليهم)) موضوع الجزية ليؤذن بفخامة العلة، وبأن عدم التعرض معلل بأداء ما عليهم، ولو صرح بها لم يفخم.

الحديث الخامس عن العرباض: قوله: ((ذات يوم)) سبق معناه في حديث جبريل. ((تو)): ((بليغة)) أي بالغ فيها بالإنذار والتخويف، كقوله تعالى:{وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} ((قض)): البلاغة وجازة اللفظ وكثرة المعنى مع البيان. أقول: والأول هو الوجه، لقوله:((ذرفت منها العيون)) ، أي منها الدمع، وكان ذلك لاستيلاء الخشية على القلوب، وتأثير الرقة فيها.

أقول: فإسناد الذرف إلى العيون كإسناد الفيض إليها في قوله تعالى: {أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} كأن أعينهم ذرفت مكان الدمع مبالغة فيها، وفائدة تقديم ((ذرفت العيون)) على ((وجلت القلوب)) ومقره التأخير – على ما قاله الشيخ – للإشعار بأن الموعظة أثرت فيهم، وأخذت منهم بمجامعهم ظاهرا وباطنا.

قوله: ((إنهما لم يذكرا الصلاة)) أي الترمذي وابن ماجه لم يأتيا بصدر الحديث، وهو قوله:((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) كما في المصابيح، فإنه افتتح بقوله:((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم). قوله: ((موعظة مودع)) فائدة هذا القيد أن المودع عند الوداع لا يترك شيئا مما يهم المودع ويفتقر إليه إلا ويورده ويستقصي فيه.

ص: 633

يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فأوصانا، فقال:((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجد، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) رواه أحمد وأبو داود، والترمذي وابن ماجه إلا أنهما لم يذكرا الصلاة. [165]

ــ

قوله: ((والسمع والطاعة)) أي أوصيكم بقبول قول الأمير وطاعته، وبما أمركم به ولو كان أدنى خلق، وهذا وارد على سبيل المبالغة لا التحقيق، كما جاء:((من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة)) يعني لا تستنكفوا عن طاعة من ولى عليكم ولو كان عبدا حبشيا، إذ لو استنكفتم عنه لأدى إلى إثارة الحروب، وتهيج الفتن، وظهور الفساد في الأرض، فعليكم بالصبر والمداراة حتى يأتي أمر الله. والفاء في ((فإنه)) للتسبيب، جعلت ما بعدها سببا لما قبلها، يعني من قبل وصيتي، والتزم تقوى الله، وقبل طاعة من ولي عليه، ولم تهيج الفتن – أمن بعدي مما يرى من الاختلاف الكثير، وتشعيب الآراء، ووقوع الفتن. ثم أكد تلك الوصية بقوله:((فعليكم بسنتي)) على سبيل الالتفات، وعطف عليه قوله:((وإياكم ومحدثات الأمور)) تقريرا بعد تقرير، أو توكيدا بعد توكيد. وكذا قوله:((تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)) تشديد على تشديد. والمراد بالخلفاء الراشدين أبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي – رضي الله عنهم أجمعين -. ((تو)) ليس معناه انتفاء الخلافة عن غيرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يكون في أمتي اثني عشر خليفة)) وإنما المراد تفخيم أمرهم، وتصويب رأيهم، والشهادة لهم بالتفوق فيما يمتازون به عن غيرهم. وإنما ذكر سنتهم في مقابلة سنته؛ لأنه علم أنهم لا يخطئون فيما يستخرجونه من سنته بالاجتهاد، ولأنه صلى الله عليه وسلم عرف أن بعض سنته لا تشتهر إلا في زمانهم، فأضاف إليهم دفعا لتوهم من ذهب إلى رد تلك السنة، فأطلق القول باتباع سنتهم سدا لهذا الباب. و ((النواجذ)) الأضراس، وقيل: الضواحك، وقيل: الأنياب، والعض بالنواجذ مثل في التمسك بهذه الوصية بجميع ما يمكن من الأسباب المعنية عليه، كمن يتمسك بشيء ثم يستعين عليه بأسنانه استظهارا للمحافظة.

((حس)): في الحديث دليل على أن واحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولا وخالفه غيره من

ص: 634

166 -

وعن عبد الله بن مسعود، قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، ثم قال:((هذا سبيل الله)) ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كل

ــ

الصحابة كان المصير إلى قوله أولى، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه في القديم، قال: والحديث يدل على تفضيل الخلفاء الراشدين على غيرهم من الصحابة، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة. والله أعلم.

الحديث السادس عن عبد الله قوله: ((خط لنا خطا)) أي خط لأجلنا تقريبا وتفهيما لنا؛ لأن التصوير والتمثيل إنما يسلك ويصار إليه لإبراز المعاني المحتجبة، ورفع الأستار عن الرموز المكنونة، لتظهر في صورة المشاهد المحسوس، فيساعد فيه الوهم العقل، ويصالحه عليه.

((قض)): ((سبيل الله)) هو الدين القويم والطريق المستقيم، وهما الاعتقاد الحق والعمل الصالح، وذلك لا تتعدد أنحاؤه، ولا تختلف جهاته، لكن له درجات ومنازل، يقطعها السالك بعلمه وعمله، فمن زلت قدمه وانحرف عن أحد هذه المنازل فقد ضل سواء السبيل، وتباعد عن المقصد والمقصود، ولا يزال سيره وسعيه يزيد له انهماكا في الضلالة، وبعدا له عن المرمى، إلا أن يتداركه الله بفضله فيلهمه أنه ليس على الطريق، هذا مقام التوبة، ثم ينكص على عقبيه حتى يلحق بالمقام الذي انحرف عنه، وهو الإنابة، ثم يأخذ منها في سلوك ما يليها، وهو السداد. ((مظ)) قوله:((هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا)) إشارة إلى القصد بين الإفراط والتفريط؛ لأن سبيل أهل البدع مائل إلى جانب من الحق، مثاله مسئلة القدر والجبر، فالجبري مائل عن طريق الحق بقوله: لا كسب ولا اختار للعبد، فإنه تفريط؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الكتب والرسل، والقدري أيضا مائل عنه؛ لأنهم يجعلون الخلق خالقا لأفعالهم، فإنه إفراط لما يفضي إلى الشرك؛ فطريق أهل السنة هو القصد، لأنهم يقولون: إن كل ما يجري على العباد بقضاء الله وقدره، ويثبتون الكسب للعبد.

وأقول – والله أعلم -: ((هذا سبيل الله)) وقوله: ((هذا صراطي)) أضيف إلى رب العزة، وعرف تفخيما وتعظيما لشأنهما، ونكر حين نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} {وإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} مدحا، وثبوتها بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أنك على صراط، وتهدي إلى صراط، أي صراط الله العزيز الحميد، ثم عرف في قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} تعليما للعباد، وإرشادا لهم إلى طلب هذا البغية السنية، والرفعة العلية، والثبات عليها والمواظبة لها، ولرفعة شأنهما جيء بالفاء في قوله:{فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}

ص: 635

سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ، وقرأ:{وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} الآية)). رواه أحمد والنسائي، والدارمي. [166].

167 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم

ــ

وإلى هذا الصراط لمح رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بقوله: ((ما أنا عليه وأصحابي)) وفي حديث معاوية: بقوله ((وهي الجماعة)) وتلك الخطوط التي خطت على اليمين والشمال مشار بها إلى مذاهب أهل الأهواء والبدع الذين تفرقوا على ثنتسن وسبعين ملة.

فإن قلت: ما وثوقك على أنك على الصراط المستقيم؟ فإن كل واحد من الفرق يدعي أنه عليها دون غيره؟ قلت: ليس ذلك بالادعاء والتثبيت باستعمال الوهم القاصر، والقول الزاعم، بل بالنقل عن جهابذة هذه الصنعة وعلماء أهل الحديث الذين جمعوا صحاح الحديث في أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، وكذا أحوال الصحابة من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، مثل جامع الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن حجاج، وغيرهما من الثقات المشهورين الذين اتفق أهل الشرق والغرب على صحة ما أوردوه في كتبهم من أمور االنبي وأصحابه، ومن تكفل باستنباط معانيها، وكشف مشكلاتها، كالإمام أبي سليمان الخطابي، والإمام محيي السنة أبي محمد البغوي والإمام محيي الدين النووي جزاهم الله عن المسلمين خيرا وجعل سعيهم في الدين مشكورا ثم بعد النقل ينظر من ذا الذي تمسك بهديهم، واقتفى أثرهم، واهتدى بسيرتهم في الأصول والفروع، فنحكم من الذين هم هم. والله أعلم بالصواب.

الحديث السابع عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((لا يؤمن أحدكم)) ((تو)): الحديث محمول على نفى الكمال اتساعا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن جاره بوائقه)) فهو لوجهين: من غير كلفة وكراهية. وذلك حين يذهب عنه كدر النفس، وتبقى صفوتها، فتحلى بالصفات النورانية، وتؤيد بالتقوى الروحانية، وهذه حالة نادرة لا توجد إلا في المحفوظين من أولياء الله – ومن الله المعونة في تيسير كل عسير. ثانيهما أنه يعتقد مخالفة هواه، فإنه إذا اعتقد ذلك وعرفه بالفرضية على نفسه فقد جعل هواه تبعا للشرع وإن يستقيم في المعاملة به.

((مظ)) يجوز أن يحمل هذا على نفي أصل الإيمان، أي يكون تابعا مقتديا لما جئت به من الشرع من الاعتقاد، لا عن الإكراه وخوف السيف مثل المنافقين. وأقول: إنما قيل: ((هواه تبعا)) ولم

ص: 636

حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)). رواه في ((شرح السنة)) ، قال النووي في ((أربعينه)): هذا حديث صحيح، رويناه في ((كتاب الحجة)) بإسناد صحيح. [167].

168 -

وعن بلال بن الحارث المزني، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها من غير أن

ــ

يقل: ((هو تابع)) للإيذان بالمبالغة، وأن هواه الذي هو معبوده في قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} ومالكه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة)) إذا كانا تابعين للشرع كان أبلغ ما يقال: إنه تابع له.

ويؤيده ما ذكره الشيخ التوربشتي من أنه محمول على نفي الكمال، أن النفس في أصل خلقها مجبولة على الميل إلى الشهوات النفسانية، والركون إلى استيفاء اللذات الجسمانية، فيستدعى في قهرها على طبيعتها جاذبة قوية تقمعها من أصلها، وإيمانا كاملا على اتباع الشرع، كما قال:

الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم

أي علة قوية وباعثة عظيمة، وما أحسن موقع ((حتى)) التدريجية؛ لأنها مؤذنة بأن المضارع المنفي ب ((لا)) إنما كملت على سبيل التدريج، حتى بلغت إلى درجة ألجأت الهوى إلى اتباع الشرع. ونظيره في الإثبات قوله صلى الله عليه وسلم:((إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا)) وقد سبق بيانه، والفرق أن المنفي لم يزل في التناقص حتى يستكمل المثبت، والمثبت لم يزل في التزايد حتى ينتهي إلى الكمال – والله أعلم.

الحديث الثامن عن بلال: قوله: ((أحيا)) ((مظ)): السنة ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام الدين، وهي قد تكون فرضا كزكاة الفطر، وغير فرض كصلاة العيد، وصلاة الجماعة، وقراءة القرآن في غير الصلاة. وتحصيل العلم وما أشبه ذلك وإحياؤها أن يعمل بها، ويحرض الناس عليها، ويحثهم على إقامتها.

((شف)): نظم الحديث يقتضي ((من سنني)) بصسغة الجمع، لكن الرواية بصيغة المفرد، ((وبدعة

ص: 637

ينقص من أجورهم شيئا؛ ومن ابتدع بدعة ضلالة لا (يرضاها) الله ورسوله، كان عليه (من الإثم) مثل آثام من عمل بها لا ينقص من (أوزارهم) شيئا)) رواه الترمذي. [168].

169 -

ورواه ابن ماجه عن كثير بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه عن جده.

170 -

وعن عمرو بن عوف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين ليأرز إلى

ــ

ضلالة)) يروى بالإضافة، ويجوز أن ينتصب نعتا ومنعوتا. أقول: قوله: ((من سنتي)) على ما أورد مفردا جنس شائع في أفراد، و ((أحيا)) استعير للعمل بها، وحث الناس عليها، و ((أميتت)) استعارة أخرى لما يقابلها من الترك، ومنع الناس بإقامتها، وهي كالترشيح للاستعارة الأولى، وقوبل قوله:((أحي سنة من سنتي قد أميتت)) بقوله: ((ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله تعالى ورسوله)) ، ووصف السنة بقوله:((من سنتي)) لتمتاز عن سائر السنن، فإن السنة عبارة عن وصع الشيء ورسمه ليقتدي به، ووصف البدعة وبينهما بقوله:((ضلالة)) ليشير بأن بعضا من البدعة ليس من الضلالة، كما سبق في تقسيمها. وقوبل قوله:((قد أميتت)) بقوله: ((لا يرضاها الله ورسوله)) وذلك لأن المبتدع إنما يميت السنة لأنه لا يرضاها، ولا يحب أن يعمل بها.

الحديث التاسع عن عمر بن عوف: قوله: ((إلى الحجاز)) مكة والمدينة وما ينضم إليهما من البلاد، سميت بذلك لأنها حجزت بين نجد والغور. قوله:((ليعقلن)) جواب للقسم، والجملة معطوفة على خبر ((إن)) على تقدير: أقسم بالله. و ((الدين)) مظهر وضع موضوع المضمر، ويجوز

ص: 638

الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل. إن الدين بدأ غريبا وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي)) رواه الترمذي. [170].

171 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتين على أمتي كما أتى على إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية،

ــ

أن يكون العطف للجملة على الجملة، وإنما ضوعف أدوات التأكيد وأقيم المظهر موضوع المضمر لأن هذا التمثيل أشرف وأحسن وأنسب بالدين، وكان الاهتمام بهذه الجملة أشد.

((نه)): ((ليعقلن)) ليتحصن به، ويعتصم ويلتجئ إليه، كما يلتجئ الوعل إلى رأس الجبل، و ((الأروية)) الأنثى من الوعول، كأنه صلى الله عليه وسلم خص الأنثى بالذكر لأنها أقدر على التمكن مما توعر من الجبال. و ((معقل)) مصدر بمعنى العقل، يجوز أن يكون اسم مكان. وقيل: معناه أن بعد انضمام أهل الدين إلى الحجاز ينقرضون عنه، ولم يبق منهم فيه أحد.

الشارحون: في أكثر نسخ المصابيح: زيد بن ملحة عن أبيه عن جده، وهو غلط لأن زيد بن ملحة جاهلي جد عمرو بن عوف. والصواب رواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده. وقد مضى شرحه مستقصى في الفصل الأول من الباب في الحديث التاسع.

الحديث العاشر عن عبد الله بن عمرو قوله: ((ليأتين)) الإتيان المجيء بسهولة، وعدى بعلى لمعنى الغلبة المؤدية إلى الهلاك، ومنه قوله تعالى:{مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إلَاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} ((تو)) المراد ((بالأمة)) من تجمعهم دائرة الدعوة من أهل القبلة لأنه أضافهم إلى نفسه، وأكثر ما ورد في الحديث على هذا الأسلوب فإن المراد منه أهل القبلة، ولو ذهب إلى أن

ص: 639

لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت ثنتين وسبعين ملة، وتفرق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة)). قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) رواه الترمذي [171].

ــ

المراد أمة الدعوة فله وجه، وحينئذ يتناول أصناف أهل الكفر. والملة في الأصل ما شرع الله تعالى لعباده على ألسنة الأنبياء، ليتوصلوا به إلى جوار الله، ويستعمل في جملة الشرائع دون آحادها، ثم اتسعت فاستعملت في الملل الباطلة، فقيل: الكفر كله ملة واحدة. والمعنى أنهم يفترقون فرقا يتدين كل واحد منها بخلاف ما تتدين به الأخرى، فسمى طريقتهم ملة مجازا.

وإذا حمل الملة على أهل القبلة فمعنى قوله: ((كلهم في النار)) أنهم متعرضون لما يدخلهم النار من الأفعال الردية.

أو المعنى أنهم يدخلونها بذنوبهم، ثم يخرج منها من لم تفض به بدعته إلى الكفر برحمته، و ((إلا ملة واحدة)) أي أهل ملة واحدة، وكشف بقوله:((ما أنا عليه وأصحابي)) عما سألوه بقولهم: (من هي))؛ لأن سرت في عروقهم ومفاصلهم، و ((يتجارى)) أكثر ما يستعمل في الحديث لأن كل واحد منها يجري مع صاحبه. و ((الأهواء)) جمع هوى، وهو الميل إلى ماتشتهي النفس، ويقال: سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى الداهية، وفي الآخرة إلى الهاوية. وإنما جمعها إيذانا باختلاف أهوائهم وآرائهم، ويسلك كل منهم من الحيرة والضلال فجا غير فج الآخر. والكلب داء يعتري الإنسان من عضة الكلب، وهو داء يأخذه شبه الجنون فيكلب بلحوم الناس، فإذا عض إنسانا كلب ويستولي عليه شبه الماليخوليا.

((مظ)): ((حذو النعل بالنعل)) جعل الشيء مثل شيء آخر، وهو منصوب على المصدر، بعني أفعال بعض أمتي في القبح مثل أفعال بني إسرائيل. أقول: ذهب إلى أن فاعل ((ليأتين)) مقدر، يدل عليه سياق الكلام، والكاف منصوب على المصدر، وذهب الأشرفي إلى أنه فاعل، وقدر المعنى أنه عليهم مثل ما أتى على بني إسرائيل. وقال: ولعل المراد ب ((الأم)) زوجة الأب’ والتقييد بالعلانية لبيان وقاحته، وصفاقة وجهه.

قوله: ((لكان في أمتي)) اللام فيه جواب ((إن)) على تأويل ((لو)) كما أن ((لو)) تأتي بمعنى ((إن)) و ((حتى)) هي الداخلة على الجملة الشرطية. وقوله: ((ما أنا عليه وأصحابي)) روى محيي السنة عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله: ((إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم،

ص: 640

172 -

وفي رواية أحمد، وأبي داود، عن معاوية:((ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) [172].

ــ

فبعثه برسالته، وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس، فاختار له أصحابا، فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح)).

((حس)): ((الجماعة)) عند أهل العلم أهل الفقه والعلم. قال شريح: إن السنة قد سبقت قياسكم، فاتبع ولاتبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر. وقال الشعبي: إنما الرأي بمنزلة الميتة إذا احتجت إليها أكلتها، قال سفيان في تفسير الجماعة: لو أن فقيها على رأس الجبل لكان هو الجماعة.

قوله في رواية معاوية: واحدة في الحنة)) ((مظ)): إنه متصل بقوله: ((كلهم في النار)) وقدر كلهم وواحدة في الجنة. وفيه نظر، لأنه إذا أريد بكلهم ثلاث وسبعون ملة كيف يعطف عليه ((وواحدة))؟ والرواية الصحيحة في سنن أبي داود:((إن هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)) أقول: قوله: ((وإن بني إسرائيل)) صرح به بعد أن ذكره تقبيحا لصنيعهم، وأن ذلك دأبهم وعادتهم، و ((إن)) في قوله:((إن منهم)) مكسورة في جامع الأصول، وهي شرطية، و ((لكان)) جواب قسم محذوف، وهو جزاء الشرط. وفي قوله:((على ثلاث وسبعين ملة)) إشارة إلى أنهم ساووا بني إسرائيل في تلك الأحوال القبيحة، وزادوا في ارتكاب البدع بدرجة.

وقوله: ((ماأنا عليه وأصحابي)) الظاهر أن يقال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي، لأنه جواب عن قولهم:((من هي؟)) فعدل إلى ((ما)) ، وأراد بها الوصفية، أي هم المهتدون المتمسكون بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، كقوله تعالى:{ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا} أي القادر العظيم الشأن سواها. والواو في ((وهي الجماعة)) كما هي في قوله تعالى {وإنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} دخلت على الجملة المثبة، و ((تلك الأهواء)) إشارة إلى ما يتضمن نعنى ثنتين وسبعين ملة من هذه الأمة غير الأمة [المحققة] *، ووضع الأهواء موضوع البدع وضعا للسبب موضوع المسبب، لأن هوى الرجل هو الذي يحمله على إبداع ذلك الرأي الفاسد.

وأما تقرير التشبيه فهو أنه صلى الله عليه وسلم شبه حال الزائغين من أهل البدع في استيلاء تلك الأهواء

ص: 641

173 -

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يجمع أمتي – أو قال: أمة محمد – على ضلالة، ويج الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار)). رواه الترمذي [173].

ــ

عليهم، وذهابها في كل واد مرد، وفي سريان تلك الضلالة منهم إلى الغير يدعونهم إليها، ثم تنفرهم من العلم، وامتناعهم من قبوله حتى يهلكوا جهلا – بحال صاحب الكلب، وسريان تلك العلة في عروقه ومفاصله، وحصول شبه الجنون منه ثم تعديه إلى الغير – بعقره إياه، وتنفره من الماء، وامتناعه عنه حتى يهلك عطشا. ولعمري

1

عن هذا التمثيل أبلغ وأشنع من تمثيل بلعم بن باعوراء في قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} والله أعلم.

الحديث الحادي عشر عن ابن عمر: قوله: ((لا يجمع)) ((تو)): من الله تعالى على هذه الأمة بالنصرة والحفظ، أو من عليهم بالتوفيق لموافقة الجماعة. ((ومن شذ)) أي انفراد عن الجمهور والسواد الأعظم فقد شذ فيما يدخله النار، أو شذ في أمر النار. ((مظ)): في الحديث دليل على أن إجماع الأمة حق، والإجماع هو إجماع علماء المسلمين.

أقول: قوله: ((أو قال أمة محمد)) تردد من الراوي، ولعل هذا أظهر في الدراية لأن التخصيص يدل على امتياز أمته من سائر الأمم بهذه الفضيلة، وأن كون المنسوب إليه من اسمه محمد يقتضي هذه ثم عقبه بقوله:((ويد الله على الجماعة)) ، ومعنى ((على)) كمعنى ((فوق)) في قوله تعالى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فهو كناية عن النصرة والغلبة؛ لأن من بايع

ص: 642

174 -

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار)) رواه ((ابن ماجه من حديث أنس)).

ــ

الإمام الحق فكأنما بايع الله، ومن بايع الله فإنه ينصره، ويخذل أعداءه. أي هو ناصرهم ومصيرهم غالبين على من سواهم، فينبغي لمن ينتمي إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يفارقهم، ومن فارقهم خلع ربقة الطاعة من عنقه، وخرج عن نصرة الله تعالى فدخل النار، فالواو في قوله:((ومن شذ)) للعطف على معنى الحصول في الوجود، وتفويض ترتب الثانية على الأولى إلى فهم السامع الفطن الذكي كما تقرر في علم المعاني.

ويحتمل أن يضمن ((يد الله)) معنى الإحسان والإنعام بالتوفيق على استنباط الأحكام، وعلى الاطلاع على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الاعتقاد المستقيم، والأخلاق الفاضلة، فإن ((ضلالة)) لفظ مطلق شامل لمعنى أنواع الضلالة من الاجتماع على إمام يقتدون به، وعلى حكم يستنبطونه، وعلى اعتقاد يعتقدونه فالمناسب أن يعبر بالضلالة عن الباطل؛ لأنه يجمع المعاني الثلاثة التي يستدعيها باب التمسك بالكتاب والسنة على سبيل الاشتراك المسمى بعموم المجاز. والله أعلم.

الحديث الثاني عشر عن ابن عمر: قوله: ((السواد الأعظم)) ((غب)) السواد يعبر به عن الجماعة الكثيرة، والسيد: المتولي للسواد الكثير، ولما كان من شرط المتولي للجماعة أن يكون مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلا في نفسه: سيد، ويقال: ساد القوم يسودهم، ولا يقال: سيد الثوب والفرس.

((مظ)): المعنى انظروا إلى الناس وإلى ماهم عليه، فما عليه الأكثر من علماء المسلمين من الاعتقاد والقول والفعل فاتبعوهم فيه، فإنه هو الحق، وما عداه باطل. هذا في الأصول، كالاعتقاد في أركان الإسلام، وأما الفروع ففي نحو بطلان الوضوء بمس الفرج ولمس النساء وأشباههما فلا حاجة فيها إلى وجوب الإجماع، بل كل من أفتى فيه من المجتهدين كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد – رضي الله عنهم – يجوز العمل به.

ص: 643

175 -

وعن أنس، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يابني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل)). ثم قال: ((يابني! وذلك من سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة)) رواه الترمذي. [175].

176 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تمسك بسنتي عند فساد أمتي، فله أجر مائة شهيد)) رواه [176].

ــ

الحديث الثالث عشر عن أنس: قوله: ((أن تصبح)) أي تدخل في وقت الصبح، وقوله:((ليس)) حال تنازع فيه الفعلان، والمراد بهما الديمومة و ((الغش)) نقيض النصح الذي هو إرادة الخير لأحد، والغش مأخوذ من الغشش وهو المشرب الكدر، و ((أحد)) عام شامل للمؤمن والكافر، فإن نصيحة الكافر أن يجتهد في إيمانه، وسيعى في خلاصه من ورطة الهلاك باليد، واللسان، وبالتأليف بما يقدر عليه من المال. وقوله:((فافعل)) جزاء كناية عما سبق في الشرط من المعنى، أي إن فعلت ما نصحتك به فقد أوتيت بأمر عظيم، ولهذا أشار بقوله:((ذلك)) للإشعار بأنه رفيع المنزلة، بعيد المتناول. وأخبر عنه بقوله:((من سنتي)) وعقبه بقوله: ((ومن أحب)) إلى آخره.

الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((فله أجر مائة شهيد)) (مظ)): وذلك لأنه يلحقه مشقة في ذلك الوقت بإحياء السنة والعمل بها، فهو كالشهيد الذي قاتل الكفار لإحياء الدين حتى قتل. أقول: قيل: ((فساد أمتي)) ولم يقل: إفسادهم لأنه أبلغ، كأن ذواتهم قد فسدت، فلا يصدر منهم صلاح ولا ينجع الوعظ فيهم، ولا ينزلون عن منكر فعلوه ولا يفعلون معروفا أمروا به، ولا سيما إذا ظهر ذلك في العلماء منهم، والمقتفين لآثارهم.

ص: 644

177 -

وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال:((أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي)) رواه أحمد، والبيهقي في كتاب ((شعب الإيمان)) [177].

ــ

إلى الماء يسعى من يغص بلقمة فقل: أين يسعى من يغص بماء؟

ولن يرتجي برئي ولا كشف علتي إذا جاء دائي من مكان دوائي

فإذا المجاهدة معهم أصعب وأشق من المجاهدة مع الكفار، ولذلك ضوعف أجر من جاهدهم على من جاهد الكفار أضعافا كثيرة.

الحديث الخامس عشر عن جابر: قوله: ((من يهود)) ((الزمخشري)):الأصل في يهودي ومجوسي أن يستعملا بغير لام التعريف، لأنهما علمان خاصان لقومين أو لقبيلتين، وإنما جوز تعريفهما بالام، لأنه أجرى يهوديا مجرى شعيرة وشعير. ((فا)): تهوك وتهور أخوان في معنى وقع في الأمر بغير روية: وقيل: التهوك والتهفك الاضراب في القول، وأن يكون على غير استقامة، ((حس)): أي متحيرون أنتم في الإسلام، لا تعرفون دينكم حتى تأخذوه من أهل الكتاب؟ والضمير في ((بها)) للملة الحنيفة.

((تو)): وصفها بالبياض تنبيها على كرمها وفضلها؛ لأن البياض لما كان أفضل لون عند العرب عبر به الفضل والكرم، حتى قيل لمن يتدنس بمعاب: هو أبيض الوجه، ونقيه قريب من هذا المعنى. ويحتمل أن يراد أنها مصونة عن التبديل والتحريف، خالية عن التكاليف الشاقة، وأشار بذلك إلى أنه أتاهم بالأعلى والأفضل، واستبدال الأدنى عند مظنة التحير، وقد شهد التنزيل على نقلة تلك الأحاديث بالفسق والفرية، فلا يؤمن منهم اللبس على المؤمنين في أمر دينهم، وإنما أنكر عليهم لأن طلبهم يشعر بأنهم اعتقدوا نقصلن ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم و ((بيضاء نقية)) منصوبان على الحال، وكلاهما عبارة عن الظهور والصفاء، والخلوص عن الشك والشبهة، واليسر، لا مشقة فيها، كما في دين اليهود من قطعهم موضع النجاسة من الثوب، وإخراج ربع أموالهم للزكاة، وغيرهما من العسر. و ((ما وسعه)) أي ماينبغي له أن يفعل إلا اتباعي، فإذا كانت هذه حال موسى فكيف بكم تطلبون من هؤلاء المحرفين ما تنتفعون به؟.

أقول: قوله: ((أفترى)) الفاء فيه تستدعي معطوفا عليه، أي أيحسن ذلك فترى أن نكتب؟

و ((بيضاء نقية)) حالان مترادفان من الضمير المفسر بالملة، ((ولو كان موسى حيا)) حال متداخلة من

ص: 645

178 -

وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أكل طيبا، وعمل في سنة، وأمن الناس بوائقه، دخل الجنة)) فقال رجل: يارسول الله! إن هذا اليوم لكثير في الناس؟ قال: ((وسيكون في قرون بعدي)) رواه الترمذي [178].

ــ

الضمير في البيضاء استعارة لسطوع براهين هذه الملة المستقيمة، ووضوح دلائلها القويمة مما له بياض ونقاوة.

الحديث السادس عشر عن أبي سعيد: قوله: ((من أكل طيبا)) ((تو)): أي حلالا، وعمل في موافقة سنة، وإنما نكرها لأن كل عمل يفتقر إلى معرفة سنة وردت فيه. و ((بوائقه)) مفسرة في بعض الأحاديث، فروى: ظلمه وغشه، وقيل: غوائله وشره، والبائقة الداهية. وقوله:((إن هذا اليوم لكثير)) أي الذي تصفه، يحتمل أن الرجل قال ذلك حمدا لله تعالى وتحدثا بنعمته، ثم قال:((وسيكون في قرون بعدي)) ليوقفه على أن ذلك غير مختص بالقرن الأول. ويحتمل أنه فهم من قوله: ((من أكل طيبا)) إلى آخر التحريض على الخصال المذكورة، والزجر عن مخالفته، ووجد الناس يتدينون بذلك، ويحرصون عليه، فخاف أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على خلاف ذلك في مستقبل الأمر منهم، فأحب أن يستكشف عنه، فقال هذا القول، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ذلك، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله:((وسيكون في قرون بعدي) فاختصر الكلام اعتمادا على فهم السامع، وتحويلا للأمر المحذر.

وأقول: أراد الشيخ أن ((سنة)) نكرة وضعت موضع المعرفة لإرادة استغراق الجنس بحسب أفراده، كما في قوله تعالى:{ولَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} ولم يقل: شجرا، إرادة تقصيها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاما. وفائدته أن كل عمل واجب ومندوب ومباح وردت فيه سنة ينبغي مراعاتها، حتى قضاءالحاجة، وإماطة الأذى عن طريق المسلمين فكل من راعاها بأسرها في حركاته سكناته فقد اتصف بهذه الخصلة. وأول الظرف بقوله:((في موافقة سنة)) فقدر المضاف ليستقيم المعنى. ويمكن أن يقال: إنه وقع ((في سنة)) ظرفا للعمل إشعارا بأنها مكان العمل ومقره، فإن كل عمل لا يوقع في سنة فليس بعمل، ولا يعتد به. وقوله:((من أكل طيبا)) يجوز أن يحمل على ظاهر الإخبار كما في الوجه الأول، وأن يحمل على معنى الأمر، والحث على فعل هذه الحال، والنهي عن أضدادها،

ص: 646

179 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم في زمان ترك نمكم عشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا)) رواه الترمذي [179].

180 -

وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَاّ جَدَلاً بَلْ

ــ

كأن صلى الله عليه وسلم أشار بذلك إلى أن هذه الخلال شاقة يجب العمل بها، وقيل فاعلها، كقوله تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فقال الرجل: إن مثل هؤلاء الشاكرين لكثير في يومنا هذا، فأتى بإن واللام تقريرا وتأكيدا لكلامه، فأجابه صلى الله عليه وسلم وقرر كلام الرجل، وعطف عليه الجواب، أي نعم هم كثيرون اليوم، وسيكون بعدي أي وسيكونون بعدي و ((بعدي)) على الوجه الأول محمول على التابعين ومن يلونهم، وعلى الثاني دونهم من الأمم القاصية، كما ورد في الحديث المشهور، والله أعلم.

الحديث السابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إنكم في زمان)) الجملة الشرطية بعد صفة لزمان، والراجع محذوف، أي من ترك منكم فيه. الشارحون: لا يجوز صرف هذا إلى عموم المأمورات، لما عرف أن أحدا لا يعذر إذا ترك ما عليه من الفرض المختص به، وإنما ورد في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يعني إنكم في زمان عزة الدين، وظهور الحق، ونزول الوحي، ومشاهدات المعجزات، وبين ظهراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعذر أحدكم في التهاون، بخلاف من يأتي بعدكم في زمان تشيع فيه الفتن، ويتوارى الحق، ويقل أنصار الدين.

وأقول: لعل هذا المعنى غير مناسب لباب التمسك بالكتاب والسنة، بل حمله على مامر في الحديث السابق – وهو قوله صلى الله عليه وسلم:((من عمل في سنة)) على ما بيناه – كان أنسب، ويلزم منه معنى الأمر بالمعروف، أو النهي عن المنكر بالطريق الأولى، ويجري معنى قوله:((مما أمر به)) في أمر الندب.

الحديث الثامن عشر عن أبي أمامة: قوله: ((أوتوا)) حال، و ((قد)) مقدرة، والمستثنى منه أعم عام الأحوال، وصاحبها الضمير المستقر في خبر ((كان)) ، والمعنى ما ضل قوم مهديون كائنين على حال من الأحوال إلا على إيتاء الجدل. يعني من ترك سبيل الهدى وركب متن الضلال عارفا بذلك لابد أن يسلك طريق العناد واللجاج، ولا يتمشى له ذلك إلا بالجدل. فإن قلت:

ص: 647

هم قوم خصمون). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [180].

181 -

وعن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك يقاياهم في الصوامع، والديار {رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ})). رواه أبو داود [181].

ــ

كيف طابق هذا المعنى الآية حتى استشهد بها؟ قلت: من حيث إنهم عرفوا الحق بالبراهين الساطعة ثم عاندوا وانتهزوا مجالا للطعن، فلما تمكنوا مما التمسوه جادلوا الحق بالباطل، وكذا دأب* الفرق الزائغة من الزنادقة وغيرها.

((قض)): المراد بهذا الجدل العناد، والمراء، والتعصب في ترويج مذهبهم، وآراء مشايخهم، من غير أن يكون لهم نصرة على ماهو الحق، وذلك محرم، أما المناظرة لإظهار الحق، واستكشاف الحال، واستعلام ما ليس معلوما عنده، أو تعليم غيره ما هو عنده ففرض على الكفاية، خارج عما نطق به الحديث. {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَاّ جَدَلاً} أي ما قالوه لك:{وقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} وأرادوا به أن الملائكة خير أم عيسى؟ فإذا عبد النصارى عيسى فنحن نعبد الملائكة، ما قالوا ذلك إلا جدلا وعنادا، لا دليل وبرهان، ولم يسألوا ذلك لطلب الحق بل لمخاصمتك، وإيذائك بالباطل.

الحديث التاسع عشر عن أنس: قوله: ((فيشدد)) نصب على جواب النهي، والفاء في ((فإن قوما)) سبب للفعل المنهي المسبب عنه الشدة. والفاء في ((فتلك)) للتعقيب، و ((تلك)) إشارة إلى ما في الذهن من تصور جماعة باقية من أولئك المشددين، والخبر بيان له، كما في قوله تعالى:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ} .

قوله: {ورَهْبَانِيَّةً} وهي ترهبهم في الجبال، فارين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة، ومعناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف، فعلان من رهب، كخشيان

ص: 648

182 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فأحلوا الحلال، وحرموا الحرام، واعملوا بالمحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال)). هذا لفظ المصابيح، وروى البيهقي في ((شعب الإيمان)) ولفظه:((فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام واتبعوا المحكم)) [182].

183 -

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأمر ثلاثة: أمر بين رشده فاتبعه، وأمر بين غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فكله إلى الله عز وجل) رواه أحمد. [183].

ــ

من خشي، انتصابهما بفعل مضمر يفسره الظاهر، وهو ((ابتدعوها)) ، يعني أحدثوها من عند أنفسهم، ولم نفرضها على أنفسهم، ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها، ومن التشدد فعل بني إسرائيل من أمر البقرة وذبحها.

الحديث العسرون عن أبي هريرة قوله: ((محكم ومتشابه)) قد سبق معناهما، وطريق الحصر فيهما في الفصل الأول من هذا الباب، فهو على هذا من عطف العام على الخاص، وعكسه عطفا على الحلال والحرام، ثم عطف الأمثال عليها، فينبغي أن يحملا على التصديق، وما يتعلق بالاعتقادات من إثبات الصفات لله تعالى، وأمر الحشر والنشر، ومن صرح بذكر الإيمان في قوله:((وآمنوا بالمتشابه)).

الحديث الحادي والعشرون عن ابن عباس: قوله: ((اختلف فيه)) ((مظ)): يعني ما علمت كونه حقا بالنص فاعمل به، وما علمت بطلانه بالنص فاجتنبه، وما لم يثبت حكمه بالشرع فلا تقل فيه شيئا، وفوض أمره إلى الله مثل متشابهات القرآن، وأمر القيامة. ((واختلف فيه)) يحتمل أن

ص: 649

الفصل الثالث

184 -

عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاذة والقاصية والناحية، وإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة)) رواه أحمد [184].

185 -

وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) رواه أحمد، وأبو داود. [185].

ــ

يكون معناه اشتبه وخفى حكمه، ويحتمل أن يرا اختلاف الناس فيه من تلقاء أنفسهم. أقول: الأولى أن يفسر هذا الحديث بما ورد في آخر الفصل الثالث في حديث أبي ثعلبة.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن معاذ: قوله: ((إن الشيطان ذئب الإنسان)) الذئب مستعار للإفساد والإهلاك، أي إن الشيطان مفسد للإنسان ومهلكه، كذئب أرسل إلى قطيع من الغنم. و ((يأخذ الشاذة)) صفة الذئب، لأنه بمنزلة النكرة، كما في قوله تعالى:{كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} ويجوز أن يكون حالا، والعامل معنى التشبيه، وهو تمثيل مثل حالة مفارقة الجماعة والسواد الأعظم وانقطاعه عنهم واعتزاله عن صحبتهم ثم تسلط الشيطان عليه وإغوائه، بحالة شاة قاصية شاذة عن قطيع الغنم، ثم افتراس الذئب إياها بسبب انقطاعها. ووصف الشاة بصفات ثلاث، ف ((الشاذة)) هي النافرة التي لم تؤنس، و ((القاصية)) التي قصدت البعد لا عن التنفر، و ((الناحية)) هي التي غفلت عنها، وبقيت في جانب منها، فإن الناحية هي التي صارت في ناحية من الأرض. و ((الشعاب)) من الشعب، وهو من الوادي ما اجتمع منه طرف وتفرق طرف، ولذلك قيل: شعبت الشيء إذا جمعته، وشعبته إذا فرقته. ولما فرغ من التمثيل أكده بقوله:((إياكم والشعاب)) وعقبه بقوله: ((ربقة الإسلام)) الربقة عروة في حبل يجعل في عنق ابهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها لانقياد الرجل واستسلامه لأحكام الشرع، وخلعها لارتداده وخروجه عن طاعة الله ومتابعة رسوله.

ص: 650

186 -

وعن مالك بن أنس مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)) رواه في ((الموطأ)) [186].

187 -

وعن غضيف بن الحراث الثمالي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحدث قوم بدعة إلى رفع مثلها من السنة؛ فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة)) رواه أحمد [187].

ــ

الحديث الثالث عن مالك: قوله: ((تركت فيكم أمرين)) سيأتي شرحه مستقصى في باب مناقب أهل البيت إن شاء الله تعالى.

الحديث الرابع عن غضيف: قوله: ((مثلها)) جعل أحد الضدين مثل الآخر لشبه التناسب بين الضدين وإخطار كل منهما بالبال مع ذكر الآخر، وحدوثه عند ارتفاع الآخر، وعليه قوله تعالى:{جاء الحق وزهق الباطل} ، فكما أن إحداث السنة يقتضي رفع البدعة، كذلك عكسه، ولذلك قال:((فتمسك بسنة)) نزرة ((خير من إحداث بدعة مستحسنة))، كما إذا أحيي آداب الخلاء مثلاً على ما ورد في السنة، فهو خير من بناء رباط أو مدرسة، والسر فيه هو أن من راعي هذا الأدب فإنه يوفقه ويلطف به، حتى يترقى منه إلى ما هو أعلى منه، فلا يزال في الترقي والصعود إلى أن يبلغ مقام القرب، ومخدع الوصل كما قال:((وما يزال عبدي يتقرب إلى النوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)) الحديث. ومن تركه يؤديه ذلك إلى ترك الأفضل، حتى ينتقل إلى مقام الرين والطبع، فالفاء في ((فتمسك)) جزاء شرط محذوف.

ص: 651

188 -

وعن حسان. قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة. رواه الدارمي [188].

189 -

وعن إبراهيم بن ميسرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من وقر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) مرسلاً [189].

ــ

ويمكن أن يحمل هذا على باب قوله تعالى: ((أي الفريقين خير مقاماً)) وقولهم: ((العسل أحلى من الخل، والصيف أحر من الشتاء)) يعني أن السنة في بابها أبلغ من البدعة في بابها، وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم:((خير الهدي هدي محمد)) المراد بالهدي الطريقة التي لا شر فيها، وخيرها سنة محمد، وقوله:((شر الأمور محدثاتها)) هذه الأمور لا خير فيها، وشرها البدعة، فيلزم من هذا أن يكون هدى محمد في بابه أبلغ من الشر في بابه، لأن الخير غالباً غالب على الشر وقامع له، كما قال الله تعالى:((جاء الحق وزهق الباطل)).

الحديث الخامس عن حسان: قوله: ((لا يعيدها إلى يوم القيامة)) وذلك أن السنة القديمة كانت متأصلة مستقرة مكانها، فلما أزيلت عن مقرها لم يمكن إعادتها كما كانت أبداً، فمثلها كمثل شجرة ضربت عروقها في تخوم الأرض، فلا يكون إعادتها بعد قلعها مثل ما كانت في أصلها، قال الله تعالى:((مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة)) الآية.

الحديث السادس عن إبراهيم: قوله: ((من وقر)) الوقار السكون والحلم، يقال: هو وقور ووقار، قال الله تعالى:((ما لكم لا ترجون لله وقاراً)). قوله: ((على هدم الإسلام)) وذلك أن المبتدع مخالف للسنة ومائل عن الاستقامة، [ومن وقره حاول اعوجاج الاستقامة] لأن معاونة

ص: 652

190 -

وعن ابن عباس، قال: من تعلم كتاب الله ثم اتبع ما فيه؛ هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب.

وفي رواية، قال: من اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية:{فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى} رواه رزين.

191 -

وعن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ضرب الله مثلا صراطاً مستقيماً، وعن جنبتي الصراط سوران، فيهما أبوب مفتحة، وعلى الأبواب ستور

ــ

نقيض الشيء معاونة لدفع ذلك الشيء. وكان من حق الظاهر أن يقال: من وقر المبتدع فقد استخف بالسنة. فوضع موضعه: ((فقد أعان على هدم الإسلام)) ليؤذن بأن مستخف السنة مستخف للإسلام، ومستخفه هادم لبنيانه، وهو من باب التغليظ، فإذا كان حال الموقر هذا فما بال حال المبتدع؟ وفيه أن من وقر صاحب سنة كان الحكم بخلافه.

الحديث السابع عن ابن عباس: قوله: ((هداه الله)) ضمن ((هدى)) معنى أمن، فعداه بمن إلى المفعول الثاني، أي أمنه الله من ارتكاب المعاصي، والانحراف من الطريق المستقيم. ((ووقاه سوء الحساب)) عبارة عن كونه من أصحاب اليمين، فكما أنه أمن في الدنيا من الضلال كذلك يأمن في الآخرة من العذاب، وفيه أن سعادة الدارين منوطة بمتابعة كتاب الله، والاعتصام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحديث الثامن عن ابن مسعود: قوله: ((صراط مستقيماً)) بدل من ((مثلا)) لا على إهدار المبدل، فقولك: زيد رأيت غلامه رجلا صالحاً، إذ لو أسقطت غلامه لم يتبين. و ((سوران)) مبتدأ، و ((عن جنبتي)) خبره، والجملة حال من ((صراطاً)) و ((فيهما أبواب)) الجملة صفة لسوران، و ((على الأبواب)) الجملة حال من ضمير البواب في ((مفتحة لي)) ووضع الظاهر موضع الضمير الراجع إلى صاحبها. و ((عند رأس)) الجملة معطوفة على ((وعن جنبتي الصراط)) و ((يقول)) صفة ((داع))، و ((لا تعوجوا)) عطف على ((استقيموا)) على الطرد والعكس؛ لأن مفهوم كل منهما مقرر لمنطوق الآخر، وبالعكس، ((وفوق ذلك)) عطف على ((رأس الصراط))، والمشار إليه بـ ((ذلك)) الصراط، و ((كلما)) ظرف يستدعي الجواب، وهو قوله:((قال)((شيئاً)) أي قدراً يسيراً منها، و ((ويحك)) زجر له من تلك الهمة، وهي كلمة ترحم وتوجع، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها. و ((تلجة)) أي تدخل الباب، وتقع في محارم الله تعالى. هذا يدل على أن قوله:((أبوبا مفتحة)) أي مردودة غير مغلقة. ((ثم فسره)) أي أراد أن يفسر فأخبر، نظيره قوله صلى الله عليه وسلم:((أل إن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه)) فالسور بمنزلة الحمى، وحولها بمنزلة الباب والستر، فحينئذ لا يقصر ضرب المثل بالباب والسور فقط، فلذلك لم يأت بضمير الفصل بين تينك الجملتين، كما أتى به في الجمل الثلاث. و ((مرخاة)) أي مدلاة ومسدلة،

ص: 653

مرخاة، وعند رأس الصراط داع يقول: استقيموا على الصراط ولا تعوجوا، وفوق ذلك داع يدعو، كلما هم عبد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك! لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه)). ثم فسره فأخبر:((أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتحة محارم الله، وأن الستور المرخاة حدود الله، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن، وأن الداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مؤمن)) رواه رزين، ورواه أحمد [191].

192 -

والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عن النواس بن سمعان، وكذا الترمذي عنه إلا أنه ذكر أخصر منه. [192].

ــ

من: أرخيت الشيء إرخاء. و ((حدود الله)) الحد الفاصل بين العبد ومحارم الله تعالى، كما قال الله تعالى:{تلك حدود الله فلا تقربوها} .

و ((واعظ الله)) هو لمة الملك في قلب المؤمن، واللمة الأخرى هي لمة الشيطان، وإنما جعل لمة الملك التي هي واعظ الله فوق داعي القرآن لأنه إنما ينتفع به إذا كان المحل قابلاً، ومن ثم قال الله تعالى:{هدى للمتقين} وفي قوله: ((وعن جنبتي الصراط سوران)) إشارة إلى قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} والسبل هي الخطوط التي على يمين الصراط ويساره كالسورين، والمشار إليه بـ ((هذا)) ما دل عليه قوله تعالى:{أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً} الآية، فإن تلك الخطوط أشار بها في الحديث السابق إلى الاعتقادات الفاسدة، والأهواء الزائغة التي ينبئ عنها قوله تعالى:{ألا تشركوا به شيئاً} .

ص: 654

193 -

وعن ابن مسعود، قال: من كان مستنا؛ فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. رواه رزنين [193].

ــ

وفي هذا الحديث إلى المحارم التي لمح إليها قوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} .

الحديث التاسع عن ابن مسعود: قوله: ((مستنا)) ((غب)): يقال: تنح عن سنن الطريق وسننه، وسنة الوجه طريقته، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم طريقته التي كان يتحراها، وإنما أخرج الجملة مخرج الشرط والجزاء تنبيهاً به على الاجتهاد، وتحرى طريق الصواب بنفسه بالاستنباط من معاني الكتاب والسنة، فإن لم يتمكن منها فليقتد بأصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم نجوم الهدى، بأيهم تقتدي تهتدي. كان ابن مسعود رضي الله عنه يوصي القرون الآتية بعد قرون الصحابة والتابعين باقتفاء أثرهم، والاقتداء بسيرهم وأخلاقهم.

قوله: ((الفتنة)) وهي كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من الشدة والرخاء، وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالاً. وإنما قال:((فإن الوحي لا نؤمن)) لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أمنوا منها، كما قال الله تعالى:{إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} أي أنهم صروا على التقوى أقوياء على احتمال مشاقها، وضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى، فإن حقيقة القوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها، أو أخلص قلوبهم للتقوى، من قولهم: امتحن الذهب وفتنه، إذا أذابه فخلص إبريزه من خبثه ونقاه. وعن عمر رضي الله عنه:((أذهب الشهوات عن قلوبهم)).

وقوله: ((أولئك أصحاب محمد)) إشارة إلى قوله: ((من مات)) فاعتبر أولاً اللفظ وأفرد قوله: ((مات))، وثانياً المعنى، وجمعه بقوله:((أولئك)) و ((هذه الأمة)) إشارة إلى ما في الذهن من جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى انقراض العالم. قوله: ((فاعرفوا لهم فضلهم)) لهم مجمل، فسر بقوله:((فضلهم)) للتفخيم والعظيم، كأنه لما [تلفظ] بـ ((لهم)) فأبهم ولم يعرف ما يوجب العرفان،

ص: 655

194 -

وعن جابر، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة، فقال: يا رسول الله! هذه نسخة من التوراة، فسكت، فجعل يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير. فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل! ما ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((والذي نفس محمد بيده، لو بدا لكم موسى فاتبعتموني وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل؛ ولو كان حياً وأدرك نبوتي لا تبعني)) رواه الدارمي [194].

195 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ كلامي، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً)). [195].

ــ

ففسر بقوله: ((فضلهم)) كما قال الله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} و {رب اشرح لي صدري} والمراد بالعرفان: ما يلازمه من متابعتهم، ومحبتهم، والتخلق بأخلاقهم، فإذا قوله ((واتبعوهم على آثارهم)) إلى آخره عطف على ((اعرفوا)) على سبيل البيان، فقوله:((على إثرهم)) حال مؤكدة من فاعل ((اتبعوا))، كقوله تعالى:{ثم وليتم مدبرين} ويجوز أن يكون من المفعول، والله أعلم، رزقنا الله متابعتهم في الدنيا، ومرافقتهم في العقبى، وحسن أولئك رفيقا.

الحديث العاشر عن جابر: قوله: ((فجعل)) جعل بمعنى طفق أي طفق يقرأ، و ((ما ترى ما بوجه)) ما الأولى نافية، والهمزة مقدرة، والثانية موصولة أو موصوفة. ((ثكلتك الثواكل)) مضى شرحه في الفصل الثاني من باب الإيمان في حديث معاذ، ((ومن غضب الله)) توطئة لقوله:((وغضب رسوله))، نحو: أعجبني زيد وكرمه، إيذاناً بأن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب الله. ((ورضينا)) اعتذار مما صدر عنه، جمع الضمير إرشاداً للسامعين، وتنبيهاً للغافلين، وموقع هذه الجملة بعد الاستعاذة موقع الشروع في المقصود من الكلام بعد التثبت، كتمهيد العذر، والله أعلم.

ص: 656

196 -

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحاديثنا ينسخ بعضها بعضاً كنسخ القرآن)). [196].

197 -

وعن أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشاء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)). روى الأحاديث الثلاثة الدارقطني. [197]

ــ

الحديث الحادي عشر إلى الثالث عشر ظاهر.

ص: 657