المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل فيما ذكره الشيخ أبو القاسم القشيرى في رسالته المشهورة من اعتقاد - الاستقامة - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصل الرأى الْمُحدث فِي الْأُصُول وَهُوَ الْكَلَام الْمُحدث وَفِي الْفُرُوع وَهُوَ الرأى

- ‌فصل فِيمَا اخْتلف فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ من الْأَقْوَال والافعال فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع

- ‌فصل مُهِمّ عَظِيم الْقدر فِي هَذَا الْبَاب وَذَلِكَ أَن طوائف كَبِيرَة من أهل

- ‌فصل وَكَذَلِكَ لفظ الْحَرَكَة أثْبته طوائف من أهل السّنة والْحَدِيث وَهُوَ الَّذِي ذكره

- ‌فصل وَقد اعْترف أَكثر أَئِمَّة أهل الْكَلَام والفلسفة من الْأَوَّلين والآخرين بِأَن

- ‌فصل فِيمَا ذكره الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم القشيرى فِي رسَالَته الْمَشْهُورَة من اعْتِقَاد

- ‌فصل قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقَالَ ابْن عَطاء لما خلق الله الأحرف جعلهَا سرا فَلَمَّا

- ‌فصل فِي الحَدِيث الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جوَيْرِية أم الْمُؤمنِينَ لما خرج النَّبِي

- ‌فصل يتَعَلَّق بِالسَّمَاعِ قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي بَاب السماع قَالَ الله

- ‌فصل فِي محبَّة الْجمال

الفصل: ‌فصل فيما ذكره الشيخ أبو القاسم القشيرى في رسالته المشهورة من اعتقاد

قَالَ وَإِلَى التَّحْرِيم ذهب الشَّافِعِي وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد بن حَنْبَل وسُفْيَان الثورى وَجَمِيع أَئِمَّة السّلف

وسَاق ألفاظا عَن هَؤُلَاءِ

قَالَ وَاتفقَ أهل الحَدِيث من السّلف على هَذَا وَلَا ينْحَصر مَا نقل عَنْهُم من التشديدات فِيهِ وَقَالُوا مَا سكت عَنهُ الصَّحَابَة مَعَ أَنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الْأَلْفَاظ من غَيرهم إِلَّا لعلمهم بِمَا يتَوَلَّد مِنْهُ من الشَّرّ

‌فصل فِيمَا ذكره الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم القشيرى فِي رسَالَته الْمَشْهُورَة من اعْتِقَاد

مَشَايِخ الصُّوفِيَّة فَإِنَّهُ ذكر من متفرقات كَلَامهم مَا يسْتَدلّ بِهِ على

ص: 81

انهم كَانُوا يوافقون اعْتِقَاد كثير من الْمُتَكَلِّمين الأشعرية وَذَلِكَ هُوَ اعْتِقَاد ابي الْقَاسِم الَّذِي تَلقاهُ عَن أبي بكر بن فورك وَأبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ

وَهَذَا الِاعْتِقَاد غالبه مُوَافق لأصول السّلف وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة لكنه مقصر عَن ذَلِك ومتضمن ترك بعض مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَزِيَادَة تخَالف مَا كَانُوا عَلَيْهِ

وَالثَّابِت الصَّحِيح عَن أكَابِر الْمَشَايِخ يُوَافق مَا كَانَ عَلَيْهِ السّلف وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يجب أَن يذكر

فَإِن فِي الصَّحِيح الصَّرِيح الْمَحْفُوظ عَن اكابر الْمَشَايِخ مثل الفضيل ابْن عِيَاض وَأبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي ويوسف بن أَسْبَاط وَحُذَيْفَة المرعشى ومعروف الْكَرْخِي إِلَى الْجُنَيْد بن مُحَمَّد وَسَهل بن عبد الله التسترِي وأمثال هَؤُلَاءِ مَا يبين حَقِيقَة مقالات الْمَشَايِخ

وَقد جمع كَلَام الْمَشَايِخ إِمَّا بِلَفْظِهِ أَو بِمَا فهمه هُوَ غير وَاحِد فصنف أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْكلاب اذى كتاب التعرف لمذاهب

ص: 82

التصوف وَهُوَ أَجود مِمَّا ذكره أَبُو الْقَاسِم وأصوب وَأقرب إِلَى مَذْهَب سلف الْأمة وأممتها وأكابر مشايخها وَكَذَلِكَ معمر بن زِيَاد الْأَصْفَهَانِي شيخ الصُّوفِيَّة وابو عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن الْحسن السّلمِيّ جَامع كَلَام الصُّوفِيَّة هما فِي ذَلِك أَعلَى دَرَجَة وَأبْعد عَن الْبِدْعَة والهوى من أَبى الْقَاسِم

وَأَبُو عبد الرَّحْمَن وَإِن كَانَ أدنى الرجلَيْن فقد كَانَ يُنكر مَذْهَب الْكلابِيَّة ويبدعهم وَهُوَ الْمَذْهَب الَّذِي ينصره أَبُو الْقَاسِم وَله فِي ذمّ الْكَلَام مُصَنف يُخَالف مَا ينصره أَبُو الْقَاسِم وَأَبُو عبد الرَّحْمَن أجل من

ص: 83

أَخذ عَنهُ أَبُو الْقَاسِم كَلَام الْمَشَايِخ وَعَلِيهِ يعْتَمد فِي أَكثر مَا يحكيه فَإِن لَهُ مصنفات مُتعَدِّدَة

وَكَذَلِكَ عَامَّة الْمَشَايِخ الَّذين سماهم أَبُو الْقَاسِم فِي رسَالَته لَا يعرف عَن شيخ مِنْهُم أَنه كَانَ ينصر طَريقَة الْكلابِيَّة والأشعرية الَّتِي نصرها أَبُو الْقَاسِم بل الْمَحْفُوظ عَنْهُم خلافهم وَمن صرح مِنْهُم فَإِنَّمَا يُصَرح بِخِلَافِهَا حَتَّى شُيُوخ عصره الَّذين سماهم حَيْثُ قَالَ

فَأَما الْمَشَايِخ الَّذين عاصرناهم وَالَّذين أدركناهم وَإِن لم يتَّفق لنا لقياهم مثل الْأُسْتَاذ الشَّهِيد لِسَان وقته وَوَاحِد عصره أَبى على الدقاق وَالشَّيْخ شيخ وقته أَبى عبد الرَّحْمَن السلمى وأبى الْحسن على بن جَهْضَم مجاور الْحرم وَالشَّيْخ أَبى الْعَبَّاس

ص: 84

القصاب بطبرستان وَأحمد الاسود الدينَوَرِي وأبى الْقَاسِم الصيرفى بنيسابور وأبى سهل الخشاب الْكَبِير بهَا وَمَنْصُور بن خلف المغربى وأبى سعيد الْمَالِينِي وأبى طَاهِر الجحدرى قدس الله ارواحهم وَغَيرهم

فَإِن هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ مثل أَبى الْعَبَّاس القصاب لَهُ من التصانيف الْمَشْهُورَة فِي السّنة وَمُخَالفَة طَريقَة الْكلابِيَّة الأشعرية مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه

وَكَذَلِكَ سَائِر شُيُوخ الْمُسلمين من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين الَّذين لَهُم لِسَان صدق فِي الْأمة كَمَا ذكر الشَّيْخ يحيى بن يُوسُف الصرصري ونظمه فِي قصائده عَن الشَّيْخ على بن إِدْرِيس شَيْخه أَنه سَأَلَ قطب العارفين أَبَا مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن عبد الله الجيلى فَقَالَ يَا سَيِّدي

ص: 85

هَل كَانَ لله ولي على غير اعْتِقَاد أَحْمد بن حَنْبَل فَقَالَ مَا كَانَ وَلَا يكون

وَكَذَلِكَ نقل الشَّيْخ شهَاب الدّين أَبُو حَفْص عمر بن مُحَمَّد السهروردى وحدثنيه عَنهُ الشَّيْخ عز الدّين عبد الله بن أَحْمد بن عمر الفاروثي أَنه سمع هَذِه الْحِكَايَة مِنْهُ ووجدتها معلقَة بِخَط الشَّيْخ

ص: 86

موفق الدّين أبي مُحَمَّد بن قدامَة المقدسى قَالَ السهروردى كنت عزمت على أَن أَقرَأ شَيْئا من علم الْكَلَام وَأَنا مُتَرَدّد هَل أَقرَأ الْإِرْشَاد لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَو نِهَايَة الْإِقْدَام للشهرستاني أَو كتاب شَيْخه فَذَهَبت مَعَ خَالِي أبي النجيب وَكَانَ يصلى بِجنب الشَّيْخ عبد الْقَادِر قَالَ فَالْتَفت الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَقَالَ لي يَا عمر مَا هُوَ من زَاد الْقَبْر مَا هُوَ من زَاد الْقَبْر فَرَجَعت عَن ذَلِك فَأخْبر أَن الشَّيْخ كاشفه بِمَا كَانَ فِي قلبه وَنَهَاهُ عَن الْكَلَام الَّذِي كَانَ ينْسب إِلَيْهِ القشيرى وَنَحْوه

وَكَذَلِكَ حَدثنِي الشَّيْخ أَبُو الْحسن بن غَانِم أَنه سمع خَاله الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن عبد الله الأرومي أَنه كَانَ لَهُ معلم يقرئه وَأَنه أقرأه اعْتِقَاد

ص: 87

الأشعرية الْمُتَأَخِّرين قَالَ فَكنت أكرر عَلَيْهِ فَسمع وَالَّذِي وَالشَّيْخ عبد الله الارميني قَالَ فَقَالَ مَا هَذَا يَا إِبْرَاهِيم فَقلت هَذَا علمنيه الْأُسْتَاذ فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم اترك هَذَا فقد طفت الأَرْض وَاجْتمعت بِكَذَا وَكَذَا ولى لله فَلم أجد أحدا مِنْهُم على هَذَا الِاعْتِقَاد وَإِنَّمَا وجدته على اعْتِقَاد هَؤُلَاءِ وَأَشَارَ إِلَى جِيرَانه أهل الحَدِيث وَالسّنة من المقادسة الصَّالِحين إِذْ ذَاك

وحَدثني أَيْضا الشَّيْخ مُحَمَّد بن أبي بكر بن قوام أَنه سمع جده الشَّيْخ أَبَا بكر بن قوام يَقُول إِذا بلغك عَن اهل الْمَكَان الفلانى سَمَّاهُ لى الشَّيْخ مُحَمَّد إِذا بلغك أَن فيهم رجلا مُؤمنا أَو رجلا صَالحا فَصدق وَإِذا بلغك أَن فيهم وليا لله فَلَا تصدق فَقلت وَلم يَا سَيِّدي قَالَ لأَنهم أشعرية وَهَذَا بَاب وَاسع

وَمن نظر فِي عقائد الْمَشَايِخ الْمَشْهُورين مثل الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَالشَّيْخ عدى بن مُسَافر وَالشَّيْخ أبي الْبَيَان الدِّمَشْقِي وَغَيرهم

ص: 88

وجد من ذَلِك كثيرا وَوجد أَنه من ذهب إِلَى مَذْهَب شئ من أهل الْكَلَام وَإِن كَانَ متأولا فَفِيهِ بعض نقص وانحطاط عَن دَرَجَة أَوْلِيَاء الله الكاملين وَوجد أَنه من كَانَ نَاقِصا فِي معرفَة اعْتِقَاد أهل السّنة واتباعه ومحبته وَبَعض مَا يُخَالف ذَلِك وذمه بِحَيْثُ يكون خَالِيا عَن اعْتِقَاد كَمَال السّنة واعتقاد الْبِدْعَة تَجدهُ نَاقِصا عَن دَرَجَة أَوْلِيَاء الله الراسخين فِي معرفَة اعْتِقَاد أهل السّنة وَاتِّبَاع ذَلِك وَقد جعل الله لكل شئ قدرا

وَمَا ذكره أَبُو الْقَاسِم فِي رسَالَته من اعْتِقَادهم وأخلاقهم وطريقتهم فِيهِ من الْخَيْر وَالْحق وَالدّين أَشْيَاء كَثِيرَة وَلَكِن فِيهِ نقص عَن طَريقَة أَكثر أَوْلِيَاء الله الكاملين وهم نقاوة الْقُرُون الثَّلَاثَة وَمن سلك سبيلهم وَلم يذكر فِي كِتَابه أَئِمَّة الْمَشَايِخ من الْقُرُون الثَّلَاثَة وَمَعَ مَا فِي كِتَابه من الْفَوَائِد فِي المقولات والمنقولات فَفِيهِ أَحَادِيث وَأَحَادِيث ضَعِيفَة بل بَاطِلَة وَفِيه كَلِمَات مجملة تحْتَمل الْحق وَالْبَاطِل رِوَايَة ورأيا وَفِيه كَلِمَات بَاطِلَة فِي الرَّأْي وَالرِّوَايَة وَقد جعل الله لكل شئ قدرا

وَقَالَ تَعَالَى كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله على أَنفسكُم أَو الْوَالِدين والأقربين إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا فَالله أولى بهما فَلَا تتبعوا الْهوى أَن تعدلوا وَإِن تلووا أَو تعرضوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا [سُورَة النِّسَاء 135]

ص: 89

فَكتبت من تَمْيِيز ذَلِك مَا يسره الله وَاجْتَهَدت فِي اتِّبَاع سَبِيل الْأمة الْوسط الَّذين هم شُهَدَاء على النَّاس دون سَبِيل من قد يرفعهُ فَوق قدره فِي اعْتِقَاده وتصوفه على الطَّرِيقَة الَّتِي هِيَ أكمل وَأَصَح مِمَّا ذكره علما وَحَالا وقولا وَعَملا واعتقادا واقتصادا أَو يحطه دون قدره فيهمَا مِمَّن يسرف فِي ذمّ أهل الْكَلَام أَو يذم طَريقَة التصوف مُطلقًا وَالله أعلم

وَالَّذِي ذكره أَبُو الْقَاسِم فِيهِ الْحسن الْجَمِيل الَّذِي يجب اعْتِقَاده واعتماده وَفِيه الْمُجْمل الَّذِي يَأْخُذ المحق والمبطل وَهَذَانِ قريبان وَفِيه منقولات ضَعِيفَة ونقول عَمَّن لَا يَقْتَدِي بهم فِي ذَلِك فهذان مردودان وَفِيه كَلَام حمله على معنى وَصَاحبه لم يقْصد نفس مَا أَرَادَهُ هُوَ ثمَّ إِنَّه لم يذكر عَنْهُم إِلَّا كَلِمَات قَليلَة لَا تشفى فِي هَذَا الْبَاب وعنهم فِي هَذَا الْبَاب من الصَّحِيح الصَّرِيح الْكَبِير مَا هُوَ شِفَاء للمقتدى بهم الطَّالِب لمعْرِفَة أصولهم وَقد كتبت هُنَا نكتا يعرف بهَا الْحَال

قَالَ القشيرى رحمه الله اعلموا أَن شُيُوخ هَذِه الطَّائِفَة بنوا

ص: 90

قَوَاعِد أَمرهم على أصُول صَحِيحَة فِي التَّوْحِيد صانوا بهَا عقائدهم عَن الْبدع ودانوا بِمَا وجدوا عَلَيْهِ من السّلف وَأهل السّنة من تَوْحِيد لَيْسَ فِيهِ تَمْثِيل وَلَا تَعْطِيل

قلت هَذَا كَلَام صَحِيح فَإِن كَلَام أَئِمَّة الْمَشَايِخ الَّذين لَهُم فِي الْأمة لِسَان صدق كَانُوا على مَا كَانَ عَلَيْهِ السّلف وَأهل السّنة من تَوْحِيد لَيْسَ فِيهِ تَمْثِيل وَلَا تَعْطِيل وَهَذِه الْجُمْلَة يتَّفق على إِطْلَاقهَا عَامَّة الطوائف المنتسبين إِلَى السّنة وَإِن تنازعوا فِي مَوَاضِع هَل هِيَ تَمْثِيل أَو تَعْطِيل

قَالَ أَبُو الْقَاسِم عرفُوا مَا هُوَ حق الْقدَم وتحققوا بِمَا هُوَ نعت الْمَوْجُود عَن الْعَدَم وَكَذَلِكَ قَالَ سيد هَذِه الطَّائِفَة

ص: 91

الْجُنَيْد رضي الله عنه التَّوْحِيد إِفْرَاد الْقدَم من الْحَدث

قلت هَذَا الْكَلَام فِيهِ إِجْمَال والمحق يحملهُ محملًا حسنا وَغير المحق يدْخل فِيهِ أَشْيَاء

والقشيري مَقْصُوده مَا يذكرهُ أهل الْكَلَام من تَنْزِيه الْقَدِيم عَن خَصَائِص المحدثات وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْمُسلمين لَكِن التَّنَازُع بَينهم فِي كثير من الصِّفَات هَل هِيَ من خَصَائِص المحدثات الَّتِي يجب تَنْزِيه الْقَدِيم عَنْهَا أَو هِيَ من لَوَازِم الْوُجُود الَّتِي يكون نَفيهَا تعطيلا

وَأما الْجُنَيْد فمقصوده التَّوْحِيد الَّذِي يُشِير إِلَيْهِ الْمَشَايِخ وَهُوَ التَّوْحِيد فِي الْقَصْد والإرادة وَمَا يدْخل فِي ذَلِك من الْإِخْلَاص والتوكل والمحبة وَهُوَ ان يفرد الْحق سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْقَدِيم بِهَذَا كُله فَلَا يشركهُ فِي ذَلِك مُحدث وتمييز الرب من المربوب فِي اعتقادك وعبادتك وَهَذَا حق صَحِيح وَهُوَ دَاخل فِي التَّوْحِيد الَّذِي بعث الله بِهِ رسله وَأنزل بِهِ كتبه وَمِمَّا يدْخل فِي كَلَام الْجُنَيْد تَمْيِيز الْقَدِيم عَن الْمُحدث وَإِثْبَات مباينته لَهُ بِحَيْثُ يُعلمهُ وَيشْهد أَن الْخَالِق مباين

ص: 92

لِلْخلقِ خلافًا لما دخل فِيهِ الاتحادية من المتصوفة وَغَيرهم من الَّذين يَقُولُونَ بالاتحاد معينا اَوْ مُطلقًا

وَلِهَذَا أنكر هَؤُلَاءِ على الْجُنَيْد قَوْله هَذَا كَمَا أنكرهُ عَلَيْهِ ابْن العربى الطَّائِي كَبِير الاتحادية

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وأحكموا أصُول العقائد بواضح الدَّلَائِل ولائح الشواهد كَمَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجريرِي من لم يقف على علم التَّوْحِيد بِشَاهِد من شواهده زلت بِهِ قدمه الْغرُور إِلَى مهواة التّلف قَالَ أَبُو الْقَاسِم يُرِيد بذلك أَن من ركن إِلَى التَّقْلِيد وَلم يتَأَمَّل دَلَائِل التَّوْحِيد سقط عَن متن النجَاة وَوَقع فِي أسر الْهَلَاك

ص: 93

قلت الْمَشَايِخ لَا يشيرون إِلَى الطَّرِيق الَّتِي سلكها المتكلمون من الِاسْتِدْلَال بالأجسام والأعراض وَمَا يدْخل فِي ذَلِك بل هم منكرون لذَلِك كَمَا ذكره أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَشَيخ الْإِسْلَام الانصاري وَغَيرهمَا عَنْهُم

وَأَبُو الْقَاسِم يرى صِحَة هَذِه الطَّرِيق وَهَذَا من الْمَوَاضِع الَّتِي خَالف فِيهَا مَشَايِخ الْقَوْم

وَقد ذكر أَبُو الْقَاسِم فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي عَليّ بن الْكَاتِب وَقد صحب أَبَا على الروذبارى وَغَيره وَتَأَخر بعد الاربعين وثلاثمائة قَالَ الْمُعْتَزلَة نزهوا الله من حَيْثُ الْعقل فأخطأوا والصوفية نزهوه من حَيْثُ الْعلم فَأَصَابُوا

قلت الْعلم فِي لِسَان الصُّوفِيَّة ووصاياهم كثيرا مَا يُرِيدُونَ بِهِ الشَّرِيعَة كَقَوْل أبي يَعْقُوب النهرجوري أفضل الْأَحْوَال مَا قَارن

ص: 94

الْعلم وكقول أبي يزِيد عملت فِي المجاهدة ثَلَاثِينَ سنة فَمَا وجدت أَشد على من الْعلم ومتابعته وَلَوْلَا اخلتلاف الْعلمَاء لبقيت وَاخْتِلَاف الْعلمَاء رَحْمَة إِلَّا فِي تَجْرِيد التَّوْحِيد

وَهَذَا كَقَوْل سهل بن عبد الله التسترِي كل فعل تَفْعَلهُ بِغَيْر اقْتِدَاء طَاعَة أَو مَعْصِيّة فَهُوَ عَيْش النَّفس وكل فعل تَفْعَلهُ بالاقتداء فَهُوَ عَذَاب على النَّفس

وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي رُبمَا يَقع فِي قلبِي النُّكْتَة من

ص: 95

نكت الْقَوْم أَيَّامًا فَلَا أقبل مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدين عَدْلَيْنِ الْكتاب وَالسّنة

وَقَالَ صَاحبه أَحْمد بن أبي الْحوَاري من عمل بِلَا اتِّبَاع سنة فَبَاطِل عمله

وَقَالَ أَبُو حَفْص النَّيْسَابُورِي من لم يزن أَفعاله وأقواله كل وَقت بِالْكتاب وَالسّنة وَلم يتهم خواطره فَلَا تعده فِي ديوَان الرِّجَال

ص: 96

وَقَالَ الْجُنَيْد بن مُحَمَّد الطّرق كلهَا مسدودة على الْخلق إِلَّا من اقتفى أثر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَقَالَ ايضا من لم يحفظ الْقُرْآن وَيكْتب الحَدِيث لَا يقْتَدى بِهِ فِي هَذَا الْأَمر لِأَن علمنَا هَذَا مُقَيّد بِالْكتاب وَالسّنة

وَقَالَ أَبُو عُثْمَان من امْر السّنة على نَفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة وَمن أَمر الْهوى على نَفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة قَالَ الله تَعَالَى وَإِن تطيعوه تهتدوا [سُورَة النُّور 54] وَقَالَ أَبُو حَمْزَة الْبَغْدَادِيّ من علم الطَّرِيق إِلَى الله سهل عَلَيْهِ سلوكه وَلَا

ص: 97

دَلِيل على الطَّرِيق إِلَى الله إِلَّا مُتَابعَة الرَّسُول فِي أَحْوَاله وأقواله وأفعاله

وَمن لفظ الْعلم فِي كَلَامهم قَول أبي عُثْمَان النَّيْسَابُورِي الصُّحْبَة مَعَ الله بِحسن الْأَدَب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بأتباع سنته وَلُزُوم ظَاهر الْعلم والصحبة مَعَ أَوْلِيَاء الله تَعَالَى بالاحترام والخدمة والصحبة مَعَ الْأَهْل بِحسن الْخلق والصحبة مَعَ الإخوان بدوام الْبشر مَا لم يكن أثما والصحبة مَعَ الْجُهَّال بِالدُّعَاءِ لَهُم وَالرَّحْمَة عَلَيْهِم

وَمِنْه قَول أبي الْحُسَيْن النوري من رَأَيْته يَدعِي مَعَ الله حَالَة تخرجه عَن حد الْعلم الشرعى فَلَا تقتربن مِنْهُ وَقَالَ أعز

ص: 98

الْأَشْيَاء فِي زَمَاننَا شَيْئَانِ عَالم يعْمل بِعِلْمِهِ وعارف ينْطق عَن حَقِيقَته

وَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى سَمِعت جدى أَبَا عَمْرو بن نجيد يَقُول كل حَال لَا يكون عَن نتيجة علم فَإِن ضَرَره أَكثر على صَاحبه من نَفعه وَسُئِلَ عَن التصوف فَقَالَ الصَّبْر تَحت الْأَمر والنهى

وَسبب تعبيرهم عَن الشَّرِيعَة بِالْعلمِ أَن الْقَوْم أَصْحَاب إِرَادَة وَقصد وَعمل وَحَال هَذَا خاصتهم لَكِن قد يعْمل أحدهم تَارَة بِغَيْر الْعلم الشرعى بل بِمَا يُدْرِكهُ ويجد إِرَادَته فِي قلبه وَإِن لم يكن ذَلِك مَشْرُوعا مَأْمُورا بِهِ وَهَذَا كثيرا مَا يبتلى بِهِ كثير مِنْهُم من تَقْدِيم علمهمْ بالذوق والوجد على مُوجب الْعلم الْمَشْرُوع وَمن الْعَمَل بذوق لَيْسَ مَعَه فِيهِ علم مَشْرُوع

ص: 99

وَلَا ريب أَن هَذَا من اتِّبَاع الْهوى بِغَيْر هدى من الله وَهُوَ مِمَّا ذمّ الله بِهِ النَّصَارَى الَّذين يضارعهم فِي كثير من أُمُورهم المنحرفون من الصُّوفِيَّة والعباد وَلِهَذَا جعله سهل من حَظّ النَّفس

وَلِهَذَا استضعف أَبُو يزِيد مُتَابعَة الْعلم فَإِن مجاهدة هوى النَّفس يَفْعَلهَا غَالب النُّفُوس مثل عبادات الْمُشْركين وَأهل الْكتاب من الرهبان وَعباد الأنداد وَنَحْوهم وكل ذَلِك من هَذَا الْبَاب وَلَهُم من الزّهْد والمجاهدة فِي الْعِبَادَة مَا لَا يَفْعَله الْمُسلمُونَ لكنه بَاطِل لَيْسَ بمشروع وَلِهَذَا لَا ينْتج لَهُ من النتائج إِلَّا مَا يَلِيق بِهِ

وَالْمُسلم الصَّادِق إِذا عبد الله بِمَا شرع فتح الله عَلَيْهِ أنوار الْهِدَايَة فِي مُدَّة قريبَة فالمهتدون من مَشَايِخ الْعباد والزهاد يوصون بإتباع الْعلم الْمَشْرُوع كَمَا ان أهل الاسْتقَامَة من الْعلم يوصون بعلمهم الَّذِي يسلكه أهل الاسْتقَامَة من الْعباد والزهاد وَأما المنحرفون من الطَّائِفَتَيْنِ فيعرضون عَن الْمَشْرُوع إِمَّا من الْعلم وَإِمَّا من الْعَمَل وهما طَرِيق المغضوب عَلَيْهِم والضالين

قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة كَانُوا يَقُولُونَ من فسد من الْعلمَاء فَفِيهِ شبه من الْيَهُود وَمن فسد من الْعباد فَفِيهِ شبه من النَّصَارَى

وَلِهَذَا قصد أَبُو الْقَاسِم فِي الرسَالَة الرَّد على هَؤُلَاءِ وَلما ذكر الْمَشَايِخ الَّذين ذكرهم قَالَ هَذَا ذكر جمَاعَة من شُيُوخ هَذِه

ص: 100

الطَّائِفَة كَانَ الْغَرَض من ذكرهم فِي هَذَا الْموضع التَّنْبِيه على أَنهم كَانُوا مُجْمِعِينَ على تَعْظِيم الشَّرِيعَة متصفين بسلوك طَرِيق الرياضة متفقين على مُتَابعَة السّنة غير مخلين بشئ من آدَاب الدّيانَة متفقين على ان من خلا عَن الْمُعَامَلَات والمجاهدات وَلم يبن أمره على اساس الْوَرع وَالتَّقوى كَانَ مفتريا على الله سُبْحَانَهُ فِيمَا يَدعِيهِ مفتونا هلك فِي نَفسه وَأهْلك من اغْترَّ بِهِ مِمَّن ركن إِلَى أباطيله

وَإِذا عرف معنى لفظ الْعلم فِي اصطلاحهم فَقَوْل أبي عَليّ بن الْكَاتِب الصُّوفِيَّة نزهوه من حَيْثُ الْعلم أَي من جِهَة الشَّرْع وَهُوَ الْكتاب وَالسّنة فنزهوه عَمَّا نزه عَنهُ نَفسه فَأَصَابُوا وَأما الْمُعْتَزلَة فنزهوه بِقِيَاس عقلهم وأهوائهم أَرَادوا ان ينفوا عَنهُ كل صفة مَوْجُودَة لظنهم أَن ذَلِك تَشْبِيه وَلم يهتدوا إِلَى أَن الْخَالِق يُوصف بِمَا

ص: 101

يَلِيق بِهِ والمخلوق يُوصف بِمَا يَلِيق بِهِ وَأَن الِاسْم وَإِن كَانَ مُتَّفقا فالإضافة إِلَى الله تخصصه وتقيده بِمَا ينفى عَنهُ مماثلة الْخلق

وَهَذَا الَّذِي ذكره الشَّيْخ أَبُو عَليّ من أَن الصُّوفِيَّة يخالفون الْمُعْتَزلَة فَأمر مُتَّفق عَلَيْهِ فَإِن أصُول الصُّوفِيَّة لَا تلائم نفى الصِّفَات بل هم أبعد النَّاس عَن الاعتزال فِي الصِّفَات وَالْقدر

وَمن الْمَعْلُوم أَن طَريقَة الْكَلَام فِي الْجَوَاهِر والأعراض فِي أَدِلَّة أصُول الدّين ومسائله هِيَ الطَّرِيقَة الَّتِي سلكها الْمُعْتَزلَة وَأَخذهَا عَنْهُم متكلمة الصفاتية من الأشعرية وَنَحْوهم وَهِي الطَّرِيقَة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا أَبُو الْقَاسِم

فَعلم أَن الْقَوْم مخالفون لهَذِهِ الطَّرِيقَة الكلامية الَّتِي أَشَارَ أَبُو الْقَاسِم إِلَى بَعْضهَا وَكَذَلِكَ قد ذكر أَبُو الْقَاسِم فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي الْحسن بن الصايغ وزمنه زمن ابْن الْكَاتِب سنة ثَلَاثِينَ وثلاثمائة قَالَ وَكَانَ من كبار الْمَشَايِخ وَقَالَ قَالَ ابو عُثْمَان المغربي مَا رَأَيْت

ص: 102

من الْمَشَايِخ أنور من ابي يَعْقُوب النهرجوري وَلَا أَكثر هَيْبَة من ابي الْحسن بن الصايغ

قَالَ القشيرى سُئِلَ ابْن الصايغ عَن الِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب فَقَالَ كَيفَ يسْتَدلّ بِصِفَات من لَهُ مثل وَنَظِير على صِفَات من لَا مثل لَهُ وَلَا نَظِير

وَالِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب فِي إِثْبَات الصِّفَات هِيَ طَريقَة شُيُوخ أبي الْقَاسِم من الْمُتَكَلِّمين الَّذين يجمعُونَ بَين الشَّاهِد وَالْغَائِب فِي الْحَد وَالدَّلِيل وَالشّرط وَالْعلم لإِثْبَات الْحَيَاة وَالْعلم وَسَائِر الصِّفَات فقد رد الشَّيْخ أَبُو الْحسن هَذِه الطَّرِيقَة

وَمِمَّا يبين هَذَا أَن أعظم الْمَشَايِخ الَّذين أَخذ عَنْهُم أَبُو الْقَاسِم جمعا لكَلَام مَشَايِخ الصُّوفِيَّة وتأليفا لَهُ وَرِوَايَة لَهُ هُوَ الشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى فَإِن القشيرى لم يدْرك شَيخا أجمع لكَلَام الْقَوْم وأحرص على ذَلِك وأرغب فِيهِ مِنْهُ وَلِهَذَا صنف فِي ذَلِك مَا لم يصنفه نظراؤه

ص: 103

كَمَا أَن الَّذين أدركوا عصر أبي الْقَاسِم من مَشَايِخ الْقَوْم لم يكن فيهم أقوم بِهَذَا الْبَاب من شيخ الْإِسْلَام أَبى إِسْمَاعِيل عبد الله بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الهروى لَا سِيمَا فِي الْمعرفَة بأخبار الْقَوْم وَكَلَامهم وطريقهم فَإِنَّهُ فِي ذَلِك وَنَحْوه من أعلم النَّاس وَكَانَ إِمَامًا فِي الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَغير ذَلِك

وَمَعَ هَذَا فالشيخ أَبُو عبد الرَّحْمَن وَشَيخ الْإِسْلَام كِلَاهُمَا لَهُ مُصَنف مَشْهُور فِي ذمّ طَريقَة الْكَلَام الَّتِي يدْخل فِيهَا كثير مِمَّا ذكره أَبُو الْقَاسِم من الدَّلَائِل والمسائل

حَتَّى ذكر شيخ الْإِسْلَام فِي كِتَابه قَالَ سَمِعت أَحْمد بن أبي نصر يَقُول رَأينَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن السّلمِيّ يلعن الْكلابِيَّة

وَمُحَمّد بن الْحُسَيْن السّلمِيّ هُوَ الشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن

ص: 104

أعرف مَشَايِخ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي بطريقة الصُّوفِيَّة وَكَلَامهم وَمَعْلُوم أَن الْقَوْم من أبعد النَّاس عَن اللَّعْن وَنَحْوه لحظوظ أنفسهم وَلَوْلَا أَن ابا عبد الرَّحْمَن كَانَ الَّذِي عِنْده أَن الْكلابِيَّة مباينون لمَذْهَب الصُّوفِيَّة المباينة الْعَظِيمَة الَّتِي توجب مثل هَذَا لما لعنهم أَبُو عبد الرَّحْمَن هَذَا

والكلابية هم مَشَايِخ الأشعرية فَإِن أَبَا الْحسن الْأَشْعَرِيّ إِنَّمَا اقْتدى بطريقة أبي مُحَمَّد بن كلاب وَابْن كلاب كَانَ أقرب إِلَى السّلف زَمنا وَطَرِيقَة وَقد جمع أَبُو بكر بن فورك شيخ الْقشيرِي كَلَام ابْن كلاب والأشعري وَبَين اتِّفَاقهمَا فِي الْأُصُول وَلَكِن لم يكن كَلَام ابي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ قد انْتَشَر بعد فَإِنَّهُ انْتَشَر فِي أثْنَاء الْمِائَة الرَّابِعَة لما ظَهرت كتب القَاضِي أبي بكر بن الباقلانى وَنَحْوه

وَقد ذكر ذَلِك الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر الْمُنْتَصر لأبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ تَبْيِين كذب المفتري فِيمَا ينْسب إِلَى الشَّيْخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ مُوَافقا للشَّيْخ أبي على الْأَهْوَازِي المُصَنّف فِي مثالب الْأَشْعَرِيّ مَعَ كَون ابْن عَسَاكِر رد على الاهوازي ذمه

ص: 105

وثلبه لَهُ لَكِن وَافقه فِي ذَلِك فَذكر أَبُو عَليّ الْأَهْوَازِي أَنه مذقوى مذْهبه أقل من ثَلَاثِينَ سنة والأهوازى توفّي سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة

قَالَ ابْن عَسَاكِر وَقَوله إِن مذ قوى من ثَلَاثِينَ سنة فلعمري إِنَّه إِنَّمَا اشتهرت هَذِه النِّسْبَة من الْأَزْمِنَة فِي عصر القَاضِي أبي بكر بن الباقلاني ذِي التصانيف المستحسنة المنتشرة فِي بَغْدَاد وَغَيرهَا من الْبلدَانِ والأمكنة

وَالْمَقْصُود هُنَا أَن الْمَشَايِخ المعروفين الَّذين جمع الشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن أَسْمَاءَهُم فِي كتاب طَبَقَات الصُّوفِيَّة وَجمع أخبارهم وأقوالهم دع من قبلهم من أَئِمَّة الزهاد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الَّذين جمع ابو عبد الرَّحْمَن وَغَيره كَلَامهم فِي كتب مَعْرُوفَة وهم الَّذين

ص: 106

يتَضَمَّن أخبارهم كتاب الزّهْد للْإِمَام أَحْمد وَغَيره لم يَكُونُوا مَذْهَب الْكلابِيَّة الأشعرية إِذْ لَو كَانَت كَذَلِك لما كَانَ أَبُو عبد الرَّحْمَن يلعن الْكلابِيَّة

وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام الْأنْصَارِيّ سَمِعت أَحْمد بن حَمْزَة وَأَبا عَليّ الْحداد يَقُولَانِ وجدنَا أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد النهاوندي على الانكار على أهل الْكَلَام وتفكير الاشعرية وذكرا عظم شَأْنه فِي الْإِنْكَار على ابي الفوارس القرمسيني وهجر ابْنه إِيَّاه لحرف وَاحِد قَالَ شيخ الْإِسْلَام سَمِعت أَحْمد بن حَمْزَة يَقُول لما اشْتَدَّ الهجران بَين النهاوندي وَأبي الفوارس سَأَلُوا ابا عبد الله الدينَوَرِي فَقَالَ لقِيت ألف شيخ على مَا عَلَيْهِ النهاوندي

ص: 107

وَقد ذكر الشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى فِي كِتَابه فِي ذمّ الْكَلَام مَا ذكر أَيْضا شيخ الْإِسْلَام أَبُو اسماعيل الْأنْصَارِيّ فَقَالَ أَخْبرنِي ابْن أَحْمد حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن فَقَالَ رَأَيْت بِخَط أبي عَمْرو بن مطر يَقُول سُئِلَ ابْن خُزَيْمَة عَن الْكَلَام فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات فَقَالَ بِدعَة ابتدعوها وَلم يكن أَئِمَّة الْمُسلمين وأرباب الْمذَاهب وأئمة الدّين مثل مَالك وسُفْيَان وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَيحيى بن يحيى وَابْن الْمُبَارك وَمُحَمّد بن يحيى وَأبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن وَأبي يُوسُف يَتَكَلَّمُونَ فِي ذَلِك وَينْهَوْنَ عَن الْخَوْض فِيهِ ويدلون أَصْحَابهم على الْكتاب وَالسّنة فإياك والخوض فِيهِ وَالنَّظَر فِي كتبهمْ بِحَال

وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن وَهُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى سَمِعت أَحْمد بن سعيد المعداني بمرو سَمِعت أَبَا بكر بن

ص: 108

بسطَام سَأَلت أَبَا بكر بن سيار عَن الْخَوْض فِي الْكَلَام فنهاني عَنهُ أَشد النَّهْي وَقَالَ عَلَيْك بِالْكتاب وَالسّنة وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْر الأول من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعي التَّابِعين فَإِنِّي رَأَيْت الْمُسلمين فِي أقطار الأَرْض ينهون عَن ذَلِك وينكرونه ويأمرون بِالْكتاب وَالسّنة

قَالَ شيخ الْإِسْلَام أَبُو اسماعيل الْأنْصَارِيّ أخبرنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس بن إِسْمَاعِيل المقرى اُخْبُرْنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن البيع وَهُوَ الْحَافِظ الْحَاكِم سَمِعت أَبَا سعيد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد المقرىء سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن اسحاق بن خُزَيْمَة يَقُول من نظر فِي كتبي المصنفة فِي الْعلم ظهر لَهُ وَبَان بِأَن الْكلابِيَّة لعنهم الله كذبة فِيمَا يحكون عني مِمَّا هُوَ خلاف أصلى وديانتي قد عرف أهل الشرق

ص: 109

والغرب انه لم يصنف أحد فِي التَّوْحِيد وَفِي أصُول الْعلم مثل تصنيفي فالحاكي عني خلاف مَا فِي كتبي المصنفة الَّتِي حملت إِلَى الْآفَاق شرقا وغربا كذبة فسقة

وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام وَأَخْبرنِي أَحْمد بن حَمْزَة حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن وَهُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى يَقُول بَلغنِي أَن بعض أَصْحَاب أبي عَليّ الجوزاني سَأَلَهُ كَيفَ الطَّرِيق إِلَى الله قَالَ أصح الطّرق وأعمرها وأبعدها من الشّبَه اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة قولا وفعلا وعقدا وَنِيَّة لِأَن الله يَقُول وتطيعوه تهتدوا [سُورَة النُّور 54] فَسَأَلَهُ كَيفَ طَرِيق اتِّبَاع السّنة قَالَ بمجانبة الْبدع وَاتِّبَاع مَا اجْتمع عَلَيْهِ الصَّدْر الأول من عُلَمَاء الْإِسْلَام وَأَهله والتباعد عَن مجَالِس الْكَلَام واهله وَلُزُوم طَريقَة الِاقْتِدَاء والاتباع بذلك أَمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقوله تَعَالَى ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة ابراهيم حَنِيفا [سُورَة النَّحْل 123]

ص: 110

قَالَ شيخ الْإِسْلَام أَخْبرنِي طب بن أَحْمد حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن وَهُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن عبد الله بن شَاذان الرَّازِيّ سَمِعت أَبَا جَعْفَر الفرغاني سَمِعت الْجُنَيْد بن مُحَمَّد يَقُول أقل مَا فِي الْكَلَام سُقُوط هَيْبَة الرب من الْقلب وَالْقلب إِذا عرى من الهيبة من الله عرى من الْإِيمَان

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَنحن نذْكر فِي هَذَا الْفَصْل جملا من متفرقات كَلَامهم فِيمَا يتَعَلَّق بمسائل الْأُصُول ثمَّ نحرر على التَّرْتِيب بعْدهَا مَا يشْتَمل على مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الِاعْتِقَاد على وَجه الإيجاز سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السلمى يَقُول سَمِعت عبد الله بن مُوسَى السلامى يَقُول سَمِعت الشبلى يَقُول جلّ الْوَاحِد الْمَعْرُوف قبل

ص: 111

الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف قَالَ وَهَذَا صَرِيح من الشبلى رضي الله عنه أَن الْقَدِيم لَا حد لذاته وَلَا حُرُوف لكَلَامه

قلت هَذَا الْكَلَام فِيهِ اسْتِدْرَاك من وُجُوه

أَحدهَا أَن الَّذِي قَالَ إِنَّه تَعَالَى مَعْرُوف قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف لم يرد أَن الْخلق عرفوه قبل ذَلِك فَإِنَّهُ قبل الْخلق لم يكن خلق يعرفونه وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه عرف أَنه كَانَ قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف فالظرف وَهُوَ قبل مُتَعَلق بالضمير فِي مَعْرُوف لَا بِنَفس الْمعرفَة اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرِيد أَنه يعرف نَفسه قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف فَيكون هُوَ الْعَارِف وَهُوَ الْمَعْرُوف وَهَذَا معنى صَحِيح يحْتَملهُ الْكَلَام وَالْمَقْصُود أَنه كَانَ قبل ذَلِك

وَمَعْلُوم ان اللَّام للتعريف فَإِذا كَانَ قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف فَإِنَّمَا اراد الْحُدُود الْمَعْرُوفَة لنا والحروف الْمَعْرُوفَة لنا وَهِي مَا كَانَ هُوَ قبلهَا وَتلك مَا للمخلوق من الْحُدُود والحروف وَلَا ريب أَن الله كَانَ قبل حُدُود الْمَخْلُوقَات وَقبل أصوات الْعباد ومدادهم فَأَما أَن يكون هَذَا يَقْتَضِي أَن الله لم يتَكَلَّم بِحرف أَو لَيْسَ لَهُ حَقِيقَة فِي ذَاته يتَمَيَّز بهَا عَن مخلوقاته فَلَيْسَ هَذَا الْكَلَام صَرِيحًا فِيهِ إِذْ لَو أَرَادَ ذَلِك لقَالَ المنزه عَن الْحُدُود والحروف وَلم يقل قبل الْحُدُود والحروف فَإِن مَا كَانَ

ص: 112

الرب قبله فَهُوَ صفة الْمَخْلُوق وَأما مَا ينزه الرب عَنهُ فَهُوَ مُمْتَنع لَيْسَ هُوَ صفة لَهُ وَلَا هُوَ أَيْضا بِعَيْنِه صفة للمخلوق وَإِن كَانَ الْمَخْلُوق قد يُوصف بنظيره

الْوَجْه الثَّانِي أَن الْكَلَام الْمُجْمل من كَلَامهم يحمل على مَا ينْسب سَائِر كَلَامهم وَهَؤُلَاء أَكثر مَا يبتلون بالاتحادية والحلولية الَّذين يجْعَلُونَ الرب حَالا فِي الْمَخْلُوقَات محدودا بحدودها متكلما بحروفها حَتَّى يجعلونه هُوَ الْمُتَكَلّم على ألسنتهم كَمَا ذكر ذَلِك أَبُو الْقَاسِم فِي أول الرساله لما ذكر مَا أحدثه فاسدو الصُّوفِيَّة حَيْثُ قَالَ زَالَ الْوَرع وطوى بساطه وَاشْتَدَّ الطمع وقوى رباطه وارتحل عَن الْقُلُوب حُرْمَة الشَّرِيعَة وعدوا قلَّة المبالاة بِالدّينِ أوثق ذَرِيعَة ورفضوا التَّمْيِيز بَين الْحَلَال وَالْحرَام ودانوا بترك الاحترام وَطرح الاحتشام واستخفوا بأَدَاء الْعِبَادَات واستهانوا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة وركضوا إِلَى ميدان الغفلات وركنوا إِلَى اتِّبَاع

ص: 113

الشَّهَوَات وَقلة المبالاة بتعاطي الْمَحْظُورَات والارتفاق بِمَا يأخذونه من السوقة والنسوان وَأَصْحَاب السُّلْطَان ثمَّ لم يرْضوا بِمَا تعاطوه من سوء هَذِه الْأَفْعَال حَتَّى أشاروا إِلَى أَعلَى الْحَقَائِق وَالْأَحْوَال فأدعوا أَنهم تحرروا عَن رق الأغلال وتحققوا بحقائق الْوِصَال وَأَنَّهُمْ قائمون بِالْحَقِّ تجرى عَلَيْهِم أَحْكَامه وهم محو لَيْسَ لله عَلَيْهِم فِيمَا يؤثرونه أَو يذرونه عتب وَلَا لوم وَأَنَّهُمْ كوشفوا بأسرار الأحدية واختطفوا عَنْهُم بِالْكُلِّيَّةِ وزالت عَنْهُم أَحْكَامه البشرية وبقوا بعد فنائهم عَنْهُم بأنوار الصمدية وَالْقَائِل عَنْهُم غَيرهم إِذا نطقوا والنائب عَنْهُم سواهُم فِيمَا تصرفوا بل صرفُوا

وَهَؤُلَاء كَثِيرُونَ فِي المنتسبين إِلَى الصُّوفِيَّة وعَلى مثل ذَلِك قتل الحلاج

ص: 114

فالشبلي وَأَمْثَاله يُرِيدُونَ أَن يميزوا بَين الْمَخْلُوق والخالق لنفي مَذْهَب الِاتِّحَاد والحلول كَمَا نقل عَن الْجُنَيْد إِفْرَاد الْقدَم عَن الْحَدث وكما قَالَ أَبُو طَالب الْمَكِّيّ صَاحب قوت الْقُلُوب لَيْسَ فِي مخلوقاته شئ من ذَاته وَلَا فِي ذَاته شئ من مخلوقاته فَذكر أَنه مَعْرُوف قبل الْحُدُود والحروف وَهِي مَا عرف من حُدُود المخلوقين وحروفهم وَإِذا كَانَ مَعْرُوفا قبل ذَلِك لم يكن محدودا بحدودهم وَلَا متكلما بكلامهم

الْوَجْه الثَّالِث أَن أصُول اعْتِقَاد أَئِمَّة الطَّرِيق إِلَى الله لَا يُؤْخَذ مِمَّا يحْكى عَن مثل الشبلى وَلَو كَانَت الْحِكَايَة صَادِقَة لما عرف من حَال الشبلي وانه كَانَ يغلب عَلَيْهِ الوجد حَتَّى يَزُول عقله وتحلق لحيته ويذهبوا بِهِ إِلَى المارستان وَيسْقط عَنهُ التَّمْيِيز بَين الْحق وَالْبَاطِل

وَمن كَانَ بِهَذِهِ الْحَالة لم يجز أَن يَجْعَل كَلَامه وَحده أصلا يفرق بِهِ بَين أَئِمَّة الْهدى والضلال وَالسّنة والبدعة وَالْحق وَالْبَاطِل لَكِن يقبل

ص: 115

من كَلَامه مَا وَافق فِيهِ أَئِمَّة الْمَشَايِخ وَهُوَ مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة

وأقبح من ذَلِك أَن يعْتَمد فِي اعْتِقَاد أَوْلِيَاء الله فِي أصُول الدّين على كَلَام لم ينْقل مثله إِلَّا عَن الحلاج وَقد قتل على الزندقة وَأحسن مَا يَقُوله النَّاصِر لَهُ إِنَّه كَانَ رجلا صَالحا صَحِيح السلوك لَكِن غلب عَلَيْهِ الوجد وَالْحَال حَتَّى عثر فِي الْمقَال وَلم يدر مَا قَالَ

وَكَلَام السَّكْرَان يطوى وَلَا يرْوى فالمقتول شَهِيد وَالْقَاتِل مُجَاهِد فِي سَبِيل الله دع مَا يَقُوله من ينْسبهُ إِلَى المخاريق وخلط الْحق بِالْبَاطِلِ

وَلَيْسَ أحد من مَشَايِخ الطَّرِيق لَا أَوَّلهمْ وَلَا آخِرهم يصوب الحلاج فِي جَمِيع مقاله بل اتّفقت الْأمة على انه إِمَّا مُخطئ وَإِمَّا عَاص وَإِمَّا فَاسق وَإِمَّا كَافِر وَمن قَالَ إِنَّه مُصِيب فِي جَمِيع هَذِه

ص: 116

الْأَقْوَال المأثورة عَنهُ فَهُوَ ضال بل كَافِر بأجماع الْمُسلمين وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَيفَ يجوز أَن يَجْعَل عُمْدَة لاهل طَرِيق الله كَلَام لم يُؤثر إِلَّا عَنهُ وَلَا يذكر فِي اعْتِقَاد مَشَايِخ طَرِيق الله كَلَام أبسط مِنْهُ وَأكْثر

وَهُوَ مَا قَالَ فِيهِ أخبرنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن غَالب قَالَ سَمِعت أَبَا نصر أَحْمد بن سعيد الأسفنجاني يَقُول قَالَ الْحُسَيْن بن مَنْصُور ألزم الْكل الْحَدث لِأَن الْقدَم لَهُ فَالَّذِي بالجسم ظُهُوره فالعرض يلْزمه وَالَّذِي بالأداة اجتماعه فقواها تمسكه وَالَّذِي يؤلفه وَقت يفرقه وَقت وَالَّذِي يقيمه غَيره فالضرورة تمسه وَلِذِي الْوَهم يظفر بِهِ فالتصوير يرتقى إِلَيْهِ وَمن آواه مَحل ادركه أَيْن وَمن كَانَ لَهُ جنس طَالبه بكيف

إِنَّه سُبْحَانَهُ لَا يظله فَوق وَلَا يقلهُ تَحت وَلَا يُقَابله حد وَلَا يزاحمه عِنْد وَلَا يَأْخُذهُ خلف وَلَا يحده أَمَام وَلم يظهره قبل وَلم يفنه بعد وَلم يجمعه كل وَلم يوجده كَانَ لم يفقده لَيْسَ

ص: 117

وَصفَة لَا صفة لَهُ وَفعله لَا عِلّة لَهُ وَكَونه لَا أمد لَهُ تنزه عَن أَحول خلقه [لَيْسَ لَهُ من خلقه] مزاج وَلَا فِي فعله علاج باينهم بقدمه كَمَا باينوه بحدوثهم

إِن قلت مَتى فقد سبق الْوَقْت ذَاته وَإِن قلت هُوَ فالهاء وَالْوَاو خَلفه وَإِن قلت أَيْن فقد تقدم الْمَكَان وجوده

فالحروف آيَاته ووجوده إثْبَاته ومعرفته توحيده وتوحيده تَمْيِيزه من خلقه

مَا تصور فِي الأوهام فَهُوَ بِخِلَافِهِ كَيفَ يحل بِهِ مَا مِنْهُ بَدَأَ أَو يعود إِلَيْهِ مَا هُوَ أنشأ لَا تماثله الْعُيُون وَلَا تقابله الظنون قربه كرامته وَبعده إهانته علوه من غير توقل ومجيئه من غير تنقل

هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن والقريب الْبعيد لَيْسَ كمثله شئ وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير

ص: 118

قلت هَذَا الْكَلَام وَالله أعلم هَل هُوَ صَحِيح عَن الحلاج أم لَا فَإِن فِي الْإِسْنَاد من لَا أعرف حَاله وَقد رَأَيْت أَشْيَاء كَثِيرَة منسوبة إِلَى الحلاج من مصنفات وكلمات ورسائل وَهِي كذب عَلَيْهِ لَا شكّ فِي ذَلِك وَإِن كَانَ فِي كثير من كَلَامه الثَّابِت عَنهُ فَسَاد واضطراب لَكِن حملوه أَكثر مِمَّا حمله وَصَارَ كل من يُرِيد أَن يَأْتِي بِنَوْع من الشطح والطامات يعزوه إِلَى الحلاج لكَون مَحَله أقبل لذَلِك من غَيره وَلكَون قوم مِمَّن يعظم المجهولات الهائلة يعظم مثل ذَلِك فَإِن كَانَ هَذَا الْكَلَام صَحِيحا فَمَعْنَاه الصَّحِيح هُوَ نفي مَذْهَب الِاتِّحَاد والحلول الَّذِي وَقع فِيهِ طَائِفَة من المتصوفه وَنسب ذَلِك إِلَى الحلاج فَيكون هَذَا الْكَلَام من الحلاج ردا على أهل الِاتِّحَاد والحلول وَهَذَا حسن مَقْبُول وَأما تَفْسِيره بِمَا يُوَافق رأى أبي الْقَاسِم فِي الصِّفَات فَلَا يُنَاسب هَذَا الْكَلَام

وَقد يُقَال إِن هَذَا الْكَلَام فِيهِ من الشطح مَا فِيهِ وَمَا زَالَ اهل الْمعرفَة يعيبون الشطح الَّذِي دخل فِيهِ طَائِفَة من الصُّوفِيَّة حَتَّى ذكر ذَلِك أَبُو حَامِد فِي إحيائه وَغَيره وَهُوَ قِسْمَانِ شطح هُوَ ظلم وعدوان وَإِن كَانَ من ظلم الْكفَّار وشطح هُوَ جهل وهذيان وَالْإِنْسَان ظلوم جهول

قَالَ أَبُو حَامِد وَأما الشطح فنعنى بِهِ صنفين من الْكَلَام

ص: 119

أحدثه بعض المتصوفة

أَحدهمَا الدَّعَاوَى الطَّوِيلَة العريضة فِي الْعِشْق مَعَ الله والوصال المغنى عَن الاعمال الظَّاهِرَة حَتَّى يَنْتَهِي قوم إِلَى دَعْوَى الِاتِّحَاد وارتفاع الْحجاب والمشاهدة بِالرُّؤْيَةِ والمشافهة بِالْخِطَابِ فَيَقُولُونَ قيل لنا كَذَا وَقُلْنَا كَذَا ويتشبهون فِيهِ بالحسين بن مَنْصُور الحلاج الَّذِي صلب لأجل إِطْلَاقه كَلِمَات من هَذَا الْجِنْس

قَالَ والصنف الثَّانِي من الشطح كَلِمَات غير مفهومة لَهَا ظواهر رائعة وفيهَا عِبَارَات هائلة وَلَيْسَ وَرَائِهَا طائل وَهِي إِمَّا أَن تكون غير مفهومة عِنْد قَائِلهَا بل يصدرها عَن خبط فِي عقله وتشوش فِي خياله لقلَّة إحاطته بِمَعْنى كَلَام قرع

ص: 120

سَمعه وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَر وَإِمَّا أَن تكون مفهومة لَهُ وَلكنه لَا يقدر على تفهيمها وإيرادها بِعِبَارَة تدل على ضَمِيره

قَالَ وَلَا فَائِدَة لهَذَا الْجِنْس من الْكَلَام إِلَّا أَنه يشوش الْقُلُوب ويدهش الْعُقُول ويحير الأذهان

قلت وَهَذَا الْكَلَام المحكى عَن الحلاج فِيهِ مَا هُوَ بَاطِل وَفِيه مَا هُوَ مُجمل مُحْتَمل وَفِيه مَا لَا يتَحَصَّل لَهُ معنى صَحِيح بل هُوَ مُضْطَرب وَفِيه مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَائِدَة وَفِيه مَا هُوَ حق لَكِن اتِّبَاع ذَلِك الْحق من غير طَرِيق الحلاج أحسن وَأَشد وأنفع

فَقَوله ألزم الْكل الْحَدث لِأَن الْقدَم لَهُ يتَضَمَّن حَقًا وَهُوَ أَنه سُبْحَانَهُ الْقَدِيم وَمَا سواهُ مُحدث وَلَكِن لَيْسَ تَعْلِيله مُسْتَقِيمًا وَلَا الْعبارَة سديدة فَإِن قَوْله ألزم الْكل الْحَدث ظَاهره أَنه جعل الْحُدُوث لَازِما لَهُم كَمَا تجْعَل الصِّفَات لَازِمَة لموصوفها مثل الأكوان والألوان وَغير ذَلِك

وَلَيْسَ كَذَلِك بل الْحُدُوث لَهُم هُوَ من لَوَازِم حقيقتهم فَلَا يُمكن الْمَخْلُوق أَن يكون غير مُحدث حَتَّى يلْزم بذلك بل هَذَا مثل قَول الْقَائِل ألزم الْمَخْلُوق أَن يكون مخلوقا وألزم الْمَصْنُوع أَن يكون مصنوعا

ص: 121

وَأما تَعْلِيل ذَلِك بقوله لِأَن الْقدَم لَهُ فَلَيْسَ كَون الْقدَم لَهُ هُوَ الْمُوجب لحدوثهم إِذْ كَونه مَوْصُوفا بِصفة لَا يمْنَع أَن يُوصف الْمَخْلُوق بِمَا يَلِيق بِهِ من تِلْكَ الصّفة كَمَا أَن الْعلم لَهُ والحياة وَالْكَلَام والسمع وَالْبَصَر وللمخلوق أَيْضا علم وحياة وَكَلَام وَسمع وبصر فقد قَالَ الله تَعَالَى وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ [سُورَة المُنَافِقُونَ 8]

فتعليل إِلْزَام الْحُدُوث لَهُم بِأَن الْقدَم لَهُ كَلَام سَاقِط بل الْمَخْلُوق مُحدث لنَفس ذَاته وَعين حَقِيقَته مثل كَونه مربوبا ومصنوعا وَفَقِيرًا ومحتاجا فَإِن هَذِه الصِّفَات النَّاقِصَة المتضمنة احتياجاته إِلَى الله وربوبية الله ثبتَتْ لَهُ لنَفس حَقِيقَته

وإلزامه إِيَّاه الْحَدث يَقْتَضِي نفى الْقدَم عَنهُ وَنفى أَنه على كل شئ قدير وَأَنه بِكُل شئ عليم وَأَنه مستغن بِنَفسِهِ عَمَّا سواهُ فآنتفاء هَذِه الصِّفَات عَنهُ هُوَ لَيْسَ لأمر وجودي وَلَا لأجل أَن الله متصف بهَا بل هَذِه الصِّفَات يمْتَنع ثُبُوتهَا لَهُ وَلَكِن قد تفسر بِتَأْوِيل حسن كَمَا سَنذكرُهُ فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَقَوله فَالَّذِي بالجسم ظُهُوره فالعرض يلْزمه هَذَا الْكَلَام يتَضَمَّن ثُبُوت الْجِسْم وشئ ظهر بالجسم وَعرض يلْزمه وَعند الَّذين نصر أَبُو الْقَاسِم طريقتهم وَسَائِر أهل الْكَلَام لَيْسَ فِي الْمَخْلُوق

ص: 122

إِلَّا جسم أَو عرض اذالجوهر الْفَرد جُزْء من الْجِسْم فَهَذَا الْكَلَام لَا يُوَافقهُ ثمَّ إِنَّه فِي نَفسه قد يُقَال هُوَ من جنس الشطح لَا حَقِيقَة

فَمَا الَّذِي بالجسم ظُهُوره أهوَ الْجِسْم أم غَيره إِن كَانَ هُوَ الْجِسْم لم يَصح أَن يُقَال الَّذِي ظُهُوره هُوَ الْجِسْم وَإِن كَانَ غَيره وَسلم ذَلِك لَهُ فَمَا الْمُوجب لتخصيص ذَلِك بالْكلَام فِيهِ دون الْجِسْم وَالْعرض يلْزم الْجِسْم أبين من لُزُومه مَا لَيْسَ بجسم

ثمَّ إِذا قيل إِن الْعرض يلْزمه هُوَ طَريقَة بعض أهل الْكَلَام الْمُحدث فِي الِاسْتِدْلَال على حُدُوث الْأَجْسَام بِلُزُوم الْأَعْرَاض لَهَا وَفِي هَذِه الطَّرِيقَة من الِاضْطِرَاب مَا قد ذَكرْنَاهُ فِي مَوْضِعه وَلَيْسَت هَذِه طَريقَة الْمَشَايِخ والعارفين

وَمن أحسن مَا يحمل عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَام أَن قَائِله إِن أَرَادَ بِهِ إبِْطَال مَذْهَب الْحُلُول والاتحاد وَظُهُور اللاهوت فِي الناسوت وَأَن الرب سُبْحَانَهُ لَيْسَ حَالا فِي شئ من الْمَخْلُوقَات وَلَا يظْهر فِي شئ من الْأَجْسَام المصنوعات كَمَا يَقُوله من يَقُول إِنَّه ظهر فِي الْمَسِيح وَفِي عَليّ وَفِي الحلاج وَنَحْو ذَلِك كَمَا يَقُوله أهل التَّعْيِين مِنْهُم وكما يَقُوله من يَقُول بذلك فِي جَمِيع المصنوعات على مَذْهَب ابْن الْعَرَبِيّ وَابْن سبعين وَنَحْوهم فَقَوله ألزم الْكل الْحَدث أَي جعله لَازِما لَهُم لَا يفارقهم فَلَا يصير الْمُحدث قَدِيما

وَقَوله الَّذِي بالجسم ظُهُوره يَعْنِي أَي شئ ظهر بِهَذِهِ الْأَجْسَام مِمَّا

ص: 123

يظنّ أَنه الْحق وَأَنه ظَاهر فِي الْأَجْسَام فالعرض يلْزم ذَلِك الظَّاهِر فِي الْجِسْم كَمَا يلْزم ذَلِك الْجِسْم وَحِينَئِذٍ فَيكون الظَّاهِر فِي الْجِسْم بِمَنْزِلَة نفس الْجِسْم لَيْسَ بِأَن يَجْعَل أَحدهمَا رَبًّا خَالِقًا وَالْآخر مخلوقا بِأولى من الْعَكْس

وَكَذَلِكَ قَوْله الَّذِي بالأداة اجتماعه فقواها تمسكه هَذَا رد على من يَقُول بقدم الرّوح أَو بحلول الْخَالِق فِي الْمَخْلُوق فَإِن أدوات الْإِنْسَان وَهِي جوارحه وأعضاؤه بهَا يكون اجْتِمَاع ذَلِك وقوى الأدوات تمسك ذَلِك فَيكون مفترا إِلَيْهَا مُحْتَاجا والمحتاج إِلَى غَيره لَا يكون حَقًا غَنِيا بِنَفسِهِ فَلَا يكون هُوَ الله وَلَيْسَ فِي هَذَا تعرض لصفات الْحق فِي نَفسه نفيا وإثباتا بِقبُول مَذْهَب ورد مَذْهَب إِذْ لم يقل اُحْدُ من الْخلق ان الْحق يجْتَمع بالادوات حَتَّى ان من وَصفه بالجوارح والأعضاء من ضلال المجسمة لَا يَقُولُونَ إِن اجتماعه بهَا

وَإِن أُرِيد بآجتماعه بهَا أَنه لَا بُد لَهُ مِنْهَا فَقَوله فقواها تمسكه هُوَ مثل قَوْله إِنَّه لَا بُد لَهُ مِنْهَا لَا يكون أَحدهمَا إبطالا للْآخر بل لُزُوم ذَلِك عِنْدهم كلزوم صِفَاته لَهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِك فقر مِنْهُ إِلَى غَيره كَمَا أَنه قَائِم بِنَفسِهِ غنى بِنَفسِهِ وَلَا يُقَال إِنَّه مفتقر إِلَى غَيره إِذْ مَا هُوَ من لَوَازِم ذَاته هُوَ دَاخل فِي اسْمه فَلَا يكون مفتقرا إِلَى غَيره

وَكَذَلِكَ قَوْله الَّذِي يؤلفه وَقت يفرقه وَقت هَذَا منطبق على إِفْسَاد مَذْهَب الاتحادية فَإِن الْآدَمِيّ تأليفه وتركيبه فِي

ص: 124

بعض الْأَوْقَات كَمَا يكون تفريقه فِي بعض الاوقات فَلَا يكون التَّأْلِيف وَلَا التَّفْرِيق لَازِما لَهُ بل هُوَ مُحْتَاج فيهمَا إِلَى غَيره وَكَذَلِكَ مَا يُقَال إِنَّه يتحد فِيهِ أَو يتحد بِهِ من اللاهوت هُوَ مفارق لَهُ فِي وَقت آخر

وَأما قَوْله الَّذِي يقيمه غَيره فالضرورة تمسه فَهَذَا كَلَام حسن وَهُوَ حق وكل مَا سوى الله فَإِنَّمَا يقيمه غَيره وَالله هُوَ الْحَيّ القيوم الَّذِي لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم الَّذِي يقوم بِنَفسِهِ وَيُقِيم كل شئ وكل مَا يقيمه غَيره فَهُوَ مُضْطَر إِلَى ذَلِك الْغَيْر فَلَا يكون رَبًّا وَهَذَا فِيهِ دلَالَة على أَنه لَيْسَ فِي شئ من الإلهية والربوبية إِذْ الضَّرُورَة لَازِمَة لَهُم كلهم

وَأما قَوْله الَّذِي الْوَهم يظفر بِهِ فالتصوير يرتقي إِلَيْهِ فقد يُقَال فِيهِ شَيْئَانِ

أَحدهمَا أَن مَا يتوهمه العَبْد لَا يكون إِلَّا ضَرُورَة مصورة لَكِن هَذَا لَا يدل على فَسَاد مَا يتَوَهَّم وَلَا على فَسَاد الصُّورَة

وَالثَّانِي يكون المُرَاد بالتصوير تَصْوِير الْإِنْسَان فِي نَفسه لَهُ فَيكون تَصْوِيره مثل ظفر الْوَهم بِهِ فَيَعُود الْأَمر إِلَى أَن يُقَال مَا يتوهمه العَبْد فقد تصَوره وَهَذَا لَا فَائِدَة فِيهِ وَذَلِكَ أَن التَّصْوِير إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ أَنه فِي ذَاته مُصَور أَو يُرَاد أَن العَبْد تصَوره فِي نَفسه إِذْ لَيست الصُّورَة إِلَّا عَيْنِيَّة خَارِجَة مَوْجُودَة فِي الْخَارِج أَو ذهنية فِي نفس الْإِنْسَان مثلا وَنَحْوه مِمَّا يتَصَوَّر فِيهِ وَالْكَلَام إِذا كَانَ تكريرا بِلَا فَائِدَة كَانَ من الشطح وَإِن كَانَ بِلَا حجَّة كَانَ دَعْوَى

ص: 125

وَقَوله من آواه مَحل أدْركهُ أَيْن اسْتِدْلَال مِنْهُ على انْتِفَاء إيواء الْمحل بآنتفاء الأين وَهَذِه سَاقِطَة فَإِن الْعلم بِهِ أظهر من الْعلم بآنتفاء الأين عَنهُ فَإِن عَامَّة أهل السّنة وَسلف الْأمة وأئمتها لَا ينفون عَنهُ الأين مُطلقًا لثُبُوت النُّصُوص الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بذلك سؤالا وجوابا

فقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَنهُ انه قَالَ لِلْجَارِيَةِ أَيْن الله قَالَت فِي السَّمَاء وَكَذَلِكَ قَالَ ذَلِك لغَيْرهَا

وَقَالَ لَهُ أَبُو رزين الْعقيلِيّ أَيْن كَانَ رَبنَا قبل أَن يخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض قَالَ فِي عماء مَا فَوْقه هَوَاء وَمَا تَحْتَهُ هَوَاء ثمَّ خلق عَرْشه على المَاء

وَمن نفي الأين عَنهُ يحْتَاج إِلَى أَن يسْتَدلّ على انْتِفَاء ذَلِك بِدَلِيل

ص: 126

أما أَن يَجْعَل انْتِفَاء الأين عَنهُ دَلِيلا فَهَذَا لَا يَقُوله عَاقل وَمن نفى الأين قَالَ لِأَن الأين سُؤال عَن الْمَكَان يَقُول وَالله لَيْسَ فِي الْمَكَان لِأَن الْمَكَان لَا يكون إِلَّا للجسم وَالله لَيْسَ بجسم لِأَن الْجِسْم لَا يكون إِلَّا مُحدثا مُمكنا فَلَا بُد لَهُ من هَذِه الْمُقدمَات أَو مَا يُنَاسِبهَا

ثمَّ الْمُثبت لما جَاءَت بِهِ السّنة يرد عَلَيْهِ بِمَنْع بعض هَذِه الْمُقدمَات وَالتَّفْصِيل فِيهَا أَو بَعْضهَا وَبَيَان الْحق فِي ذَلِك من الْبَاطِل مثل أَن يُقَال الْمَكَان يُرَاد بِهِ مَا يُحِيط بالشئ وَالله لَا يُحِيط بِهِ مَخْلُوق أَو يُرَاد بِهِ مَا يفْتَقر إِلَيْهِ الْمُمكن وَالله لَا يفْتَقر إِلَى شئ وَقد يُرَاد بِالْمَكَانِ مَا يكون الشئ فَوْقه وَالله فَوق عَرْشه فَوق سماواته فَلَا يسلم نفى الْمَكَان عَنهُ بِهَذَا التَّفْسِير

ونقول قد وَردت الْآثَار الثَّابِتَة بِإِثْبَات لفظ الْمَكَان فَلَا يَصح نَفْيه مُطلقًا وَكَذَلِكَ نقُول فِي سَائِر الْمُقدمَات فَظهر أَن هَذَا الْكَلَام لَا تصح دلَالَته إِلَّا أَن يُرَاد بِهِ نفي الِاتِّحَاد والحلول فَيكون الْمَعْنى لَو آواه بطن مَرْيَم أَو جَسَد وَاحِد من الْبشر كَمَا قد يَقُول بعض ذَلِك بعض الحلولية لَكَانَ الأين يلْزمه كَمَا يلْزم مَحَله فَفرق بَين أَحدهمَا وَالْآخر فِي جعل هَذَا خَالِقًا وَهَذَا مخلوقا

وَأما نفس الْمَعْنى الْمَقْصُود بنفى أيواء الْمحل عَنهُ فَإِنَّهُ صَحِيح إِذا قصد بِهِ أَنه لَا فَوْقه شئ من الْمَخْلُوقَات فتحيط بِهِ أَو يكون الرب مفتقرا إِلَيْهِ

ص: 127

وَأما إِن قصد أَنه لَيْسَ فَوق الْعَرْش فَهَذَا بَاطِل وَلَكِن لفظ إيواء الْمحل بِالْمَعْنَى الاول أشبه

وَأما قَوْله من كَانَ لَهُ جنس طَالبه بكيف فَهُوَ نمط الَّذِي قبله فَإِنَّهُ يتَضَمَّن نفي المجانسة عَنهُ بآنتفاء طلب الكيف وَالْعلم بِأَن الله لَيْسَ لَهُ مثل وَلَا سمي وَلَا كفو أبين من الْعلم بِأَنَّهُ لَا يُقَال لَهُ كَيفَ فَإِن كثيرا من النَّاس دخلت عَلَيْهِم الشُّبْهَة فطلبوا التكييف حَتَّى بَين لَهُم أَن الكيف غير مَعْلُوم لنا

فَالَّذِي ثَبت نَفْيه بِالشَّرْعِ وَالْعقل واتفاق السّلف إِنَّمَا هُوَ علم الْعباد بالكيفية وسؤالهم عَن الْكَيْفِيَّة الَّتِي لَا يُمكن مَعْرفَتهَا بِخِلَاف المجانسة فَإِنَّهَا منتفية عَنهُ فِي نفس الْأَمر فَكيف نجْعَل هَذَا دَلِيلا على الآخر

وَلَو قلب الْعبارَة وَقَالَ فَالَّذِي يطْلب لَهُ كَيفَ لَهُ جنس لَكَانَ قد سلك سَبِيل الِاسْتِدْلَال لَكِن قد لَا يسلم لَهُ ذَلِك وَيُقَال لَهُ من أَيْن تعلم ان كل مَا يُقَال لَهُ كَيفَ يجب أَن يكون لَهُ مثل يجانسه

وَحِينَئِذٍ يُمكن الِاسْتِدْلَال على ذَلِك بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه وَلَعَلَّ الْمُتَكَلّم بِهَذَا الْكَلَام قصد هَذَا الْمَعْنى مَعَ أَنه فِي نفي السُّؤَال بكيف كَلَام قد ذَكرْنَاهُ فِي غير هَذَا الْموضع

ص: 128

وَأما قَوْله لَا يظله فَوق وَلَا يقلهُ تَحت وَلَا يُقَابله حد وَلَا يزاحمه عِنْد وَلَا يَأْخُذهُ خلف وَلَا يحده أَمَام وَلم يظهره قبل وَلم يفنه بعد وَلم يجمعه كل وَلم يوجده كَانَ وَلم يفقده لَيْسَ فَهَذَا الْكَلَام أَكْثَره مُجمل وَفِيه مَا هُوَ حق وَفِيه مَا هُوَ بَاطِل

فَقَوله لَا يظله فَوق حق إِذْ ظَاهره أَن الله لَيْسَ فَوْقه شئ وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَنْت الأول فَلَيْسَ قبلك شئ وَأَنت الآخر فَلَيْسَ بعْدك شئ وَأَنت الظَّاهِر فَلَيْسَ فَوْقك شئ وَأَنت الْبَاطِن فَلَيْسَ دُونك شئ

واما قَوْله لَا يقلهُ تَحت فَإِن اراد بِهِ أَن الله لَيْسَ فَوق الْخلق فَهَذَا لَيْسَ بِحَق وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما قَالَ أَنْت الظَّاهِر فَلَيْسَ فَوْقك شئ لم يقل لست فَوق شئ بل قَالَ انت الْبَاطِن فَلَيْسَ دُونك شئ وَلم يقل لَيْسَ لَك دون وَلَا قَالَ لست مَوْصُوفا

ص: 129

بالفوق فَفرق بَين قَوْله لَيْسَ دونه شئ وَلَيْسَ شئ فَوْقه وَبَين قَوْله لَيْسَ مَوْصُوفا بفوق وَمَا هُوَ مَوْصُوف بتحت

وَأما قَوْله لَا يُقَابله حد وَلَا يزاحمه عِنْد فَظَاهره بَاطِل إِذْ ظَاهره أَن الله لَا يُقَابله شئ من الْمَخْلُوقَات وَلَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ المحدودات وَلَا يكون عِنْده شئ من الْمَخْلُوقَات وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع سلف الامة

فَإِن الله تَعَالَى يَقُول إِن الَّذين عِنْد رَبك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف 206]

وَقَالَ وَله من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض وَمن عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته وَلَا يستحسرون [سُورَة الْأَنْبِيَاء 19]

وَقَالَ إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ [سُورَة فاطر 10]

وَقَالَ تَعَالَى يَا عِيسَى إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَى [سُورَة آل عمرَان 55]

وَقَالَ تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ [سُورَة المعارج 4]

ص: 130

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْأَحَادِيث المستفيضة إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ الشَّمْس وَالْقَمَر

وَقَوله لَا يَأْخُذهُ خلف وَلَا يحده أَمَام كَلَام مُجمل وَالله مَوْصُوف فِي الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع سلف الْأمة بِأَن الْمَخْلُوق يكون أَمَامه وَبَين يَدَيْهِ فِي غير مَوضِع فَلَا يجوز نفي ذَلِك عَنهُ

وَأما قَوْله وَلم يظهره قبل وَلم يفنه بعد فَظَاهره صَحِيح فَإِن ظَاهره أَنه مَا ظهر بقبل كَانَ قبله وَلَا يفنى فَيكون شئ بعده وَهَذَا حق فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنْت الأول فَلَيْسَ قبلك شئ وَأَنت الآخر فَلَيْسَ بعْدك شئ

وَأما قَوْله وَلم يجمعه كل وَلم يوجده كَانَ وَلم يفقده لَيْسَ فَفِيهِ إِجْمَال فَإِن أَرَادَ أَنه لَا يُقَال كَانَ الله فَهَذَا بَاطِل

فَفِي الصَّحِيح عَن عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن أهل الْيمن قَالُوا يَا رَسُول الله جئْنَاك لنتفقه فِي الدّين ولنسألك عَن أول

ص: 131

هَذَا الْأَمر مَا كَانَ قَالَ كَانَ الله وَلم يكن شئ قبله وَكَانَ عَرْشه على المَاء ثمَّ خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَكتب فِي الذّكر كل شئ

وَكَذَلِكَ إِن اراد أَنه لَا يُوصف بليس فَإِن الله ينفى عَنهُ أَشْيَاء كَمَا ثبتَتْ لَهُ أَشْيَاء وَإِن أَرَادَ أَنه لم يُوجد بكان وَلَا يفقد بليس فَهَذَا حق فَإِنَّهُ لَيْسَ بمحدث فِي وَقت دون وَقت وَلَا يجوز عَلَيْهِ الْعَدَم فَلَا حدث بكان وَلَا يفقد بليس

وَأما قَوْله وَصفه لَا صفة لَهُ فمجمل فَإِن اراد أَن صِفَاته لَا تُوصَف بالْكلَام فَالله وَرَسُوله قد وصف صِفَاته مثل وصف علمه بِأَنَّهُ بِكُل شئ مُحِيط وَقدرته بعمومها وَأَنه على كل شئ قدير وَرَحمته بِأَنَّهَا وسعت كل شئ

ص: 132

وَإِن أَرَادَ أَن العَبْد لَا تحيط صفته بِصفة ربه فَحق وَمَا أَظُنهُ أَرَادَ مَا يُريدهُ بعض الْمُتَكَلِّمين من أَن صفة لَا تقوم بهَا صفة لِأَن الْعرض لايقوم بِالْعرضِ بل تكون الصفتان والعرضان جَمِيعًا قَائِمين بِالْعينِ

وَأما قَوْله فعله لَا عِلّة لَهُ فمجمل وَهُوَ اقْربْ إِلَى الْحق إِن أَرَادَ أَنه لم يفعل شَيْئا لعِلَّة من غَيره فَهَذَا حق وَإِن أَرَادَ أَنه لم يفعل الْأَشْيَاء لعِلَّة من نَفسه مثل مَشِيئَته وإرادته وَعلمه فَهَذَا لَيْسَ بِحَق وَالْأَشْبَه أَنه أَرَادَ الْمَعْنى الأول

واما قَوْله كَونه لَا أمد لَهُ فَهَذَا حق صَحِيح

وَأما قَوْله تنزه عَن أَحْوَال خلقه فَصَحِيح إِذا أَرَادَ أَنه لَيْسَ مثل خلقه فِي شئ من الْأَشْيَاء وَلَكِن من جعل فِي هَذَا الْكَلَام أَنه لَا يُوصف بِالصِّفَاتِ الَّتِي تلِيق بِهِ كَمَا يُوصف خلقه من تِلْكَ الصِّفَات بِمَا يَلِيق بهم فَهَذَا بَاطِل فَإِنَّهُ يُوصف بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة والسمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام وَإِن كَانَ خلقه يوصفون بِمَا يَلِيق بهم من ذَلِك

وَأما قَوْله لَيْسَ لَهُ من خلقه مزاج وَلَا فِي فعله علاج فَهُوَ صَحِيح فَإِن الله لَا عون لَهُ ولاظهير كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا لَهُم فيهمَا

ص: 133

من شرك وَمَا لَهُ مِنْهُم من ظهير [سُورَة سبأ 22] بل هُوَ الْغَنِيّ عَن جَمِيع خلقه وَكَذَلِكَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون لَا يحْتَاج إِلَى مَا يحْتَاج إِلَيْهِ خلقه من المعالجة

وَكَذَلِكَ قَوْله باينهم بقدمه كَمَا باينوه بحدوثهم صَحِيح وَإِن كَانَ مَا باين الله بِهِ خلقه أَعم من مُجَرّد الْقدَم فَإِنَّهُ باينهم بِجَمِيعِ صِفَاته لَيْسَ لَهُ فِي شئ مِنْهَا مثل

وَأما قَوْله إِن قلت مَتى فقد سبق الْوَقْت ذَاته فَهَذَا صَحِيح فَأن الله لَا يُقَال مَتى كَانَ إِذْ هُوَ الْقَدِيم الَّذِي لم يزل وَلَا يزَال

وَأما قَوْله إِن قلت هُوَ فالهاء وَالْوَاو خلقه فَهُوَ كَلَام فَاسد فَإِنَّهُ إِن أَرَادَ أَنه لَا يُقَال هُوَ فَهَذَا خلاف إِجْمَاع الْمُسلمين وَسَائِر الْأُمَم وَهُوَ فَاسد بضرورة الْعقل وَالشَّرْع

قَالَ تَعَالَى هُوَ الأول وَالْآخر [سُورَة الْحَدِيد 3] وَقَالَ وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش [سُورَة هود 7] وَقَالَ وَهُوَ الغفور الْوَدُود [سُورَة البروج 14] وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم [سُورَة الْحَدِيد 4]

وَفِي الْقُرْآن من ذكر هُوَ أَكثر من أَن يحصر هُنَا فنفي قَول هُوَ من أعظم الْبَاطِل

ص: 134

وَإِن أَرَادَ أَن يُقَال مَا هُوَ لعدم الْعلم بحقيقته فَلَا يصلح أَن يدل على ذَلِك بقوله فالهاء وَالْوَاو خلقه فَإِن هَذَا لَو كَانَ حجَّة لصَحَّ أَن يحْتَج بِهِ فِي مَتى وَأَيْنَ وَبِتَقْدِير كَون الْحُرُوف مخلوقة لَا يصلح أَن يحْتَج بذلك على نفى الْإِخْبَار بهَا عَن الله أَو الإستفهام بهَا عَن بعض شؤوونه وَصِفَاته وَإِدْخَال لفظ هُوَ بَين مَتى وَأَيْنَ يدل على أَنه أَرَادَ الِاسْتِفْهَام

وَإِن

أَرَادَ انا إِذا قُلْنَا هُوَ فَإِنَّمَا تكلمنا بحروف مخلوقة وَإِن ذَلِك يُفِيد نفى معرفتنا بِهِ فَهَذَا من أبطل الْكَلَام فَإِن الْقَائِلين بِأَن الْحُرُوف مخلوقة والحروف غير مخلوقة متفقون على أَن الْإِخْبَار عَنهُ بهو لَا ينفى مَعْرفَته فَظهر أَن قَوْله الْهَاء وَالْوَاو خلقه كَلَام لَيْسَ فِيهِ هُنَا فَائِدَة بِحَال

وَإِذا كَانَ الْمُتَكَلّم بذلك لم يذكر كلَاما منتظما مُفِيدا سَوَاء كَانَ حَقًا أَو بَاطِلا فَهُوَ جدير على أَن لَا يسْتَدلّ بِكَلَامِهِ على أَنه حق أَو بَاطِل ثمَّ قَالَ ذَلِك إِن أَرَادَ ان نفس أصوات الْعباد مخلوقة فَهَذَا صَحِيح وَإِن أَرَادَ أَن نفس الْحُرُوف حُرُوف الْقُرْآن وَغَيره مَا تكلم الله بهَا وَلَيْسَت من كَلَامه وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة وَخلاف سلف الْأمة وأئمتها

وَأما قَوْله إِن قلت أَيْن فقد تقدم الْمَكَان وجوده

ص: 135

فحجة ضَعِيفَة لِأَن وجوده قبل الْمَكَان لَا يمْنَع بعد خلق الْمَكَان أَن يُقَال وَأَيْنَ هُوَ فَإِن الأين نِسْبَة وَإِضَافَة لَا تكون إِلَّا بعد وجود الْمُضَاف إِلَيْهِ وَأما مَتى فَهُوَ يقتضى حُدُوث المسؤول عَنهُ فجواب مَتى يقتضى حُدُوثه إِلَّا أَن يُجَاب عَنْهَا بِأَنَّهُ لم يزل فَإِذا قَالَ قَائِل مَتى كَانَ قيل لَهُ لم يزل وَلَا يزَال وَأما جَوَاب أَيْن فَهُوَ يقتضى علوه وَهُوَ عَليّ عَظِيم ليسبمحدث فَلَا يشبه أَحدهمَا بِالْآخرِ

وَأما قَوْله فالحروف آيَاته فَكَلَام صَحِيح وَكَذَلِكَ الْقُرْآن هُوَ كَلَام الله غير مَخْلُوق وَهُوَ آيَاته وَكَون الْقُرْآن بِحُرُوفِهِ ومعانيه آيَاته لَا يسْتَلْزم كَون ذَلِك مخلوقا

وَأما قَوْله وَوُجُود إثْبَاته فَلم يرد بِهِ وَالله أعلم مَا يعنيه الْمُتَكَلّم بِلَفْظ الْوُجُود وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا يُريدهُ الصُّوفِيَّة وَهُوَ مُطَابق اللُّغَة يَقُول وجود العَبْد لَهُ هُوَ إِثْبَات

وَأما قَوْله مَعْرفَته توحيده وتوحيده تميزه من خلقه فَلَا ريب أَن هَذَا إبِْطَال لمَذْهَب الِاتِّحَاد والحلول وَهُوَ حق وتمييزه من خلقه مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل الْإِيمَان وَلَا يَسْتَقِيم ذَلِك إِلَّا إِذا كَانَ بَائِنا من خلقه غير دَاخل فيهم

ص: 136

وَأما قَوْله مَا تصور فِي الأذهان فَهُوَ بِخِلَافِهِ فَهُوَ كَلَام مُجمل وَمَعْنَاهُ الصَّحِيح أَن حَقِيقَة الرب لَا يتصورها العَبْد من تصور شَيْئا اعْتقد انه حَقِيقَة الرب فَالله بِخِلَاف ذَلِك وَالْمعْنَى الْبَاطِل أَن يُقَال كلما تصَوره العَبْد وعقله فَهُوَ مُخَالف للحق فَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك

وَأما قَوْله كَيفَ يحل بِهِ مَا مِنْهُ بدأه أَو يعود إِلَيْهِ مَا هُوَ أنشأه فَكَلَام مُجمل فَإِن من يَقُول الْقُرْآن مَخْلُوق خلقه الله مُنْفَصِلا عَنهُ قد يَقُول مثل هَذَا الْكَلَام فَيَقُول لايحل الْقُرْآن بِهِ وَلَا يقوم بِذَاتِهِ فَإِنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ وَلَا يعود إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أنشأه وَالْقَوْل بِأَن كَلَام الله مَخْلُوق مُنْفَصِل عَن قَول بَاطِل وَهُوَ شعار الْجَهْمِية وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة تَكْذِيب للرسل

وَكَذَلِكَ قَوْله لَا تماقله الْعُيُون قد يشْعر أَنه لَا تجوز رُؤْيَته بالعيون وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل رُؤْيَته بالعيون جَائِزَة وَالْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة يرونه عيَانًا كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَإِن كَانَت الْأَبْصَار لَا تُدْرِكهُ

وَأما قَوْله لَا تقَابل الظنون فَمن المجملات

وَقَوله قربه كرامته وَبعده اهانته فمردود

أما أَولا فَإِنَّهُ وَصفه بالبعد وَالله لَا يُوصف بالبعد وَإِن وصف

ص: 137

بِالْقربِ هَذَا إِن أَرَادَ قربه من عباده وَبعده مِنْهُم وَإِن أَرَادَ تقريبه لَهُم وتبعيده لَهُم فاللفظ لَا يدل على ذَلِك فَإِن الْقرب والبعد غير التَّقْرِيب والتبعيد

وَأما ثَانِيًا فَلِأَن قربه من عباده وتقريبه لَهُم عِنْد سلف الْأمة وأمتها وَعَامة الْمَشَايِخ الأجلاء لَيْسَ مُجَرّد الإنعام والكرامة بل يقرب من خلقه كَيفَ شَاءَ وَيقرب إِلَيْهِ مِنْهُم من يَشَاء كَمَا قد بَينا ذَلِك فِي مَوْضِعه

وَقد ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ أقرب مَا يكون العَبْد من ربه فِي جَوف اللَّيْل الآخر

وَثَبت فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ أقرب مَا يكون العَبْد من ربه وَهُوَ ساجد

ص: 138

وَقَالَ تَعَالَى واسجد واقترب [سُورَة العلق 19]

وَأما قَوْله علوه من غير توقل ومجيئه من غير تنقل فَكَلَام مُجمل هُوَ إِلَى الْبِدْعَة أقرب فَإِنَّهُ قد يظْهر مِنْهُ أَنه لَيْسَ هُوَ فَوق خلقه وَيفهم مِنْهُ نفى مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة من وَصفه بالإستواء المجئ والإتيان وغيرذلك وَهَذِه الْمَسْأَلَة وَالَّتِي قبلهَا كبيرتان ذكرناهما فِي غير هَذَا الْموضع مثل جَوَاب الإعتراضات المصرية وَغير ذَلِك

وَقَوله هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن والقريب والبعيد لَيْسَ فِي أَسمَاء الله الْبعيد وَلَا وَصفه بذلك أحد من سلف الْأمة وأمتها بل هُوَ موصفوف بِالْقربِ دون الْبعد

وَفِي الحَدِيث الْمَشْهُور فِي التَّفْسِير أَن الْمُسلمين قَالُوا يَا رَسُول الله أَقَرِيب رَبنَا فنناجيه أم بعيد فنناديه فَأنْزل الله وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب [سُورَة الْبَقَرَة 186] وَهَذَا يَقْتَضِي وَصفه

ص: 139

بِالْقربِ دون الْبعد

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لأَصْحَابه لما جعلُوا يرفعون أَصْوَاتهم بِالتَّكْبِيرِ أَيهَا النَّاس اربعوا على أَنفسكُم فَإِنَّكُم لَا تدعون أَصمّ وَلَا غَائِبا إِنَّمَا تدعون سميعا قَرِيبا إِن الَّذِي تَدعُونَهُ أقرب إِلَى أحدكُم من عنق رَاحِلَته

وَإِنَّمَا الْوَاجِب أَن يُوصف بالعلو والظهور كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَنْت الظَّاهِر فَلَيْسَ فَوْقك شئ وَأَنت الْبَاطِن فَلَيْسَ دُونك شئ

وَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم [سُورَة الْبَقَرَة 255] فَلَو قَالَ هُوَ الْعلي الْقَرِيب كَانَ حسنا صَوَابا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ قريب فِي علوه عَليّ فِي دنوه

فَأَما وَصفه بِأَن الْقَرِيب الْبعيد فَلَا أصل لَهُ بل هُوَ وصف بأسم حسن وبضده كَمَا لَو قيل العلى السافل اَوْ الْجواد الْبَخِيل اَوْ الرَّحِيم القاسي وَنَحْو ذَلِك وَالله تَعَالَى لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى وَإِنَّمَا يُؤْتِي

ص: 140

مثل هَؤُلَاءِ من الْقيَاس الْفَاسِد لما سَمِعُوهُ يخبر عَن نَفسه بِأَن الأول الآخر الظَّاهِر الْبَاطِن قاسوا على ذَلِك الْقَرِيب والبعيد وَهَذَا خطأ لِأَن تِلْكَ الْأَسْمَاء كلهَا حَسَنَة دَالَّة على كَمَال إحاطته مَكَانا وزمانا وَأما هَذَا فَهُوَ جمع بَين الإسم الْحسن وضده

الْوَجْه الرَّابِع إِنَّه قدم كَلَام الشبلى فِي الِاعْتِقَاد قبل كَلَام جَمِيع الْمَشَايِخ الَّذين هم اجل مِنْهُ وَأعظم مَعَ أَن هَذِه الْمَسْأَلَة لَا تسْتَحقّ التَّقْدِيم وَإِنَّمَا مرتبته فِيمَا بعد كَمَا ذكرهَا هُنَاكَ وَكَانَ الْوَاجِب ان يُؤَخر ذَلِك إِلَى مَوْضِعه فَإِنَّهُ ذكر بعد ذَلِك أول الْوَاجِبَات وَهَذَا هُوَ الَّذِي يسْتَحق التَّقْدِيم وَمثل هَذَا يَقْتَضِي كَون المُصَنّف فِيهِ نوع من الْهوى وَمن أعظم الْوَاجِبَات على أهل هَذَا الطَّرِيق خلوهم من الْهوى فَإِن مبناه على قَوْله وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى [سُورَة النازعات 40]

ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم رحمه الله سَمِعت أَبَا حَاتِم يَقُول سَمِعت ابا نصر السراج رحمه الله يَقُول سُئِلَ رُوَيْم عَن أول

ص: 141

فرض افترضه الله على خلقه مَا هُوَ قَالَ الْمعرفَة يَقُول الله عز وجل وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون [سُورَة الذاريات 56] قَالَ ابْن عَبَّاس ليعرفون

قلت هَذَا الْكَلَام [صَحِيح] فَإِن أول مَا أوجبه الله على لِسَان رَسُوله هُوَ الاقرار بِالشَّهَادَتَيْنِ كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِمعَاذ ابْن جبل لما بَعثه إِلَى الْيمن إِنَّك تقدم على قوم أهل كتاب فَلْيَكُن أول مَا تدعوهم إِلَيْهِ شَهَادَة أَلا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ

وَكَذَلِكَ قَالَ الْمَشَايِخ المعتمدون مثل الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَغَيره وَالْإِقْرَار بِالشَّهَادَتَيْنِ يتَضَمَّن الْمعرفَة لَكِن ذهب طَائِفَة من أهل الْكَلَام وَمِمَّنْ اتبعهم من الْفُقَهَاء والصوفية إِلَى أَنه يجب على العَبْد الْمعرفَة أَولا قبل وجوب الشَّهَادَتَيْنِ وَمِنْهُم من قَالَ يجب على العَبْد

ص: 142

النّظر قبل الْمعرفَة وَمِنْهُم من قَالَ يجب الْقَصْد إِلَى النّظر وَمن غالبيتهم من أوجب الشَّك وَقد بسطنا القَوْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي غير هَذَا الْموضع

فَهَذَا القَوْل يُوَافق هَؤُلَاءِ لَكِن فِي صِحَة الْحِكَايَة بِهَذَا اللَّفْظ عَن رُوَيْم نظر فَإِن رويما من أهل الْعلم والمعرفة وَمَا ذكره من الْحجَّة لَا يدل على هَذَا الْجَواب فَلَيْسَ فِي قَوْله إِلَّا ليعبدون مَا يدل على أَن الْمعرفَة أول الْوَاجِبَات سَوَاء فسر يعْبدُونَ بيعرفون أَو فسر بِغَيْر ذَلِك فَإِن خلقهمْ لشئ لَا يدل على أَنه أول وَاجِب إِن لم يبين ذَلِك بشئ آخر

وَأما التَّفْسِير الْمَذْكُور عَن ابْن عَبَّاس فَالَّذِينَ ذَكرُوهُ عَنهُ جعلُوا هَذِه الْمعرفَة هِيَ الْمعرفَة الفطرية الَّتِي يقربهَا الْمُؤمن وَالْكَافِر ومقصودهم بذلك أَن جَمِيع الْإِنْس وَالْجِنّ قد وجد مِنْهُم مَا خلقوه لَهُ من الْعِبَادَة الَّتِي هِيَ مُجَرّد الْإِقْرَار الفطري وَجعلُوا ذَلِك فِرَارًا من احتجاج الْقَدَرِيَّة بِهَذِهِ الْآيَة

وَلَا ريب أَن هَذَا ضَعِيف لَيْسَ المُرَاد أَن الله خلقهمْ لمُجَرّد الْإِقْرَار الفطري وَقد تكلمنا على الْآيَة فِي غير هَذَا الْموضع

وَلَعَلَّ السَّائِل سَأَلَهُ عَن أعظم وَاجِب فَقَالَ الْمعرفَة لقَوْله إِلَّا ليعبدون أَي يعْرفُونَ واعتقد رُوَيْم أَن هَذِه الْمعرفَة هِيَ الْمعرفَة الَّتِي يُشِير

ص: 143

إِلَيْهَا مَشَايِخ الطَّرِيق وَهِي معرفَة الْخَواص فَيكون جَوَابه عَن أعظم وَاجِب لَا عَن أول وَاجِب فَهَذَا كَمَا ترى

ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم بِغَيْر إِسْنَاد عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ إِن أول مَا يحْتَاج إِلَيْهِ العَبْد من عقد الْحِكْمَة معرفَة الْمَصْنُوع صانعه والمحدث كَيفَ كَانَ إحداثه فَيعرف صفة الْخَالِق من الْمَخْلُوق وَالْقَدِيم من الْمُحدث ويذل لدعوته ويتعرف بِوُجُوب طَاعَته فَإِن لم يعرف مَا لله لم يعْتَرف بِالْملكِ لمن استوجبه

وَهَذَا كَلَام حسن يُنَاسب كَلَام الْجُنَيْد وَقد ضمن هَذَا الْكَلَام التَّمْيِيز بَين الْمَخْلُوق والخالق لِئَلَّا يَقع السالك فِي الِاتِّحَاد والحلول كَمَا وَقع فِيهِ طوائف وَذكر أصيلين التَّصْدِيق والانقياد لِأَن الايمان قَول وَعمل فَذكر معرفَة الصَّانِع وَذكر الذل لدعوته وَالِاعْتِرَاف بِوُجُوب طَاعَته

وَهَذَا من أصُول اهل السّنة وأئمة الْمَشَايِخ خُصُوصا مَشَايِخ الصُّوفِيَّة فَإِن أصل طريقهم الْإِرَادَة الَّتِي هِيَ أساس الْعَمَل فهم فِي الإرادات والعبادات والأعمال والأخلاق أعظم رسوخا مِنْهُم فِي المقالات والعلوم وهم بذلك أعظم اهتماما وَأكْثر عناية بل من لم يدْخل فِي ذَلِك لم يكن من أهل الطَّرِيق بِحَال

ص: 144

وَهَذَا حق فَإِن الدّين وَالْإِيمَان قَول وَعمل وأوله قَول الْقلب وَعَمله فَمن لم ينْقد بِقَلْبِه وَلم يذل لله لم يكن مُؤمنا وَلَا دَاخِلا فِي طَرِيق الله وَلِهَذَا لم يتنازع الْمَشَايِخ أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص وَأَن النَّاس يتفاضلون فِيهِ وَأَن أَعمال الْقُلُوب من الْإِيمَان كَمَا يتنازع غَيرهم

وَذكر أَبُو الْقَاسِم بعد هَذَا كلَاما عَن الْمَشَايِخ فِي جمل مستحسنة قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحُسَيْن سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الله يَقُول سَمِعت أَبَا الطّيب المراغى يَقُول لِلْعَقْلِ دلَالَة وللحكمة إِشَارَة وللمعرفة شَهَادَة فالعقل يدل وَالْحكمَة تُشِير والمعرفة تشهد أَن صفاء الْعِبَادَات لَا ينَال إِلَّا بصفاء التَّوْحِيد

وَقَالَ وَسُئِلَ الْجُنَيْد وَلم يسْندهُ عَن التَّوْحِيد فَقَالَ إِفْرَاد الموحد بتحقيق وحدانيته بِكَمَال أحديته أَنه الْوَاحِد الَّذِي لم يلد وَلم يُولد بنفى الأضداد والأنداد والأشباه فَلَا تَشْبِيه وَلَا تكييف وَلَا تَصْوِير وَلَا تَمْثِيل لَيْسَ كمثله شئ وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير [سُورَة الشورى 11]

وَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى الصُّوفِي

ص: 145

حَدثنَا عبد الله بن عَليّ التَّمِيمِي الصُّوفِي يحْكى عَن الْحُسَيْن بن عَليّ الدَّامغَانِي قَالَ سُئِلَ ابو بكر الزَّاهِد عَن الْمعرفَة فَقَالَ الْمعرفَة اسْم وَمَعْنَاهَا وجود تَعْظِيم فِي الْقلب يمنعك عَن التعطيل والتشبيه وَقَالَ أَبُو الْحسن البوشنجي رحمه الله التَّوْحِيد أَن يعلم أَنه غير مشبه للذوات وَلَا منفى الصِّفَات

وَهَذَانِ قَولَانِ حسنان وَلَا يتنازع فى هَذِه الْجُمْلَة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة

قَالَ أَبُو الْقَاسِم القشيرى سَمِعت أَبَا حَاتِم السجستانى يَقُول سَمِعت أَبَا نصر الطوسى السراج يَحْكِي عَن يُوسُف بن الْحُسَيْن قَالَ قَامَ رجل بَين يَدي ذى النُّون فَقَالَ أَخْبرنِي عَن التَّوْحِيد مَا هُوَ فَقَالَ

ص: 146

أَن تعلم أَن قدرَة الله فى الْأَشْيَاء بِلَا مزاج وصنعه للأشياء بِلَا علاج وَعلة كل شئ صنعه وَلَا عِلّة لصنعه وَلَيْسَ فِي السَّمَوَات الْعلَا وَلَا فى الْأَرْضين السُّفْلى مُدبر غير الله وكل مَا تصور فى وهمك فَالله بِخِلَافِهِ

هَذَا الْكَلَام غالبه فِي ذكر فعل الْحق سُبْحَانَهُ وربوبيته أخبر أَنه رب كل شئ لَا مُدبر غَيره ردا على الْقَدَرِيَّة وَنَحْوهم مِمَّن يَجْعَل بعض الْأَشْيَاء خَارِجَة عَن قدرَة الله وتدبيره وَأخْبر أَن قدرته وصنعه لَيْسَ مثل قدرَة الْعباد وصنعهم فَإِن قدرَة أبدانهم عَن امتزاج الأخلاط وأفعالهم عَن معالجة وَالله تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِك

وَأما قَوْله عِلّة كل شئ صنعه وَلَا عِلّة لصنعه فقد تقدم أَن هَذَا يُرِيد بِهِ أهل الْحق مَعْنَاهُ الصَّحِيح أَن الله سُبْحَانَهُ لَا يَبْعَثهُ ويدعوه إِلَى الْفِعْل شئ خَارج عَنهُ كَمَا يكون مثل ذَلِك للمخلوقين فَلَيْسَ لَهُ عِلّة غَيره بل فعله عِلّة كل شئ مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن

ومقصود أَبى الْقَاسِم يبين أَن الْقَوْم لم يَكُونُوا على رأى الْقَدَرِيَّة من الْمُعْتَزلَة وَهَذَا حق فَمَا نعلم فى الْمَشَايِخ المقبولين فى الْأمة من كَانَ على رأى الْمُعْتَزلَة لَا فِي قَوْلهم فِي الصِّفَات بقول جهم وَلَا فِي قَوْلهم فِي الْأَفْعَال بقول الْقَدَرِيَّة بل هم أعظم النَّاس إِثْبَاتًا للقدر وشهودا لَهُ

ص: 147

وافتقارا إِلَى الله والتجاء إِلَيْهِ حَتَّى أَن من المنتسبين إِلَى الطَّرِيق من غلوا فِي هَذَا حَتَّى يذهب إِلَى الْإِبَاحَة والجبر ويعرض عَن الشَّرْع وَالْأَمر والنهى فَهَذِهِ الآفة تُوجد كثيرا فِي المتصوفة والمتفقرة وَأما التَّكْذِيب بِالْقدرِ فقليل فيهم جدا

ثمَّ ذكر عَنْهُم فِي الْإِيمَان كَلِمَتَيْنِ يدل بهما على أَن الْإِيمَان عِنْدهم مُجَرّد التَّصْدِيق وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَب الْقَوْم بل الَّذِي حَكَاهُ عَن الْجُنَيْد فَقَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد التَّوْحِيد علمك وإقراراك بِأَن الله فَرد فِي أزليته لَا ثَانِي مَعَه وَلَا شئ يفعل فعله وَقَالَ أَبُو عبد الله بن خَفِيف الْإِيمَان تَصْدِيق الْقُلُوب بِمَا أعمله الْحق من الغيوب

وَهَذَا الْمَذْكُور عَن الْجُنَيْد وَابْن خَفِيف حسن وصواب لَكِن لم يدل على أَن أَعمال الْقُلُوب لَيست من الْإِيمَان

ثمَّ ذكر عَنْهُم فِي مَسْأَلَة الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِيمَان شَيْئا حسنا فَقَالَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس السيارى عطاؤه على نَوْعَيْنِ كَرَامَة واستدارج فَمَا

ص: 148

أبقاه عَلَيْك فَهُوَ كَرَامَة وَمَا أزاله عَنْك فَهُوَ اسْتِدْرَاج فَقل أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله تَعَالَى

قَالَ ابو الْعَبَّاس السياري كَانَ شيخ وقته

وَقَالَ سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا على الدقاق يَقُول غمز رجل رجل أَبى الْعَبَّاس السياري فَقَالَ تغمز رجلا مَا نقلتها قطّ فِي مَعْصِيّة الله تَعَالَى

قَالَ وَقَالَ أَبُو بكر الواسطى من قَالَ أَنا مُؤمن بِاللَّه حَقًا قيل لَهُ الْحَقِيقَة تُشِير إِلَى إشراف واطلاع وإحاطة فَمن فَقده فقد بَطل دَعْوَاهُ مِنْهَا

قَالَ أَبُو الْقَاسِم يُرِيد بذلك مَا قَالَه أهل السّنة من أَن الْمُؤمن الْحَقِيقِيّ من كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْجنَّةِ فَمن لم يعلم ذَلِك من سر حِكْمَة الله تَعَالَى فدعواه بِأَنَّهُ مُؤمن حَقًا غير صَحِيحَة

قلت الِاسْتِثْنَاء فِي الايمان سنة عِنْد عَامَّة أهل السّنة وَقد ذكره

ص: 149

طَائِفَة من المرجئة وَغَيرهم وأوجبه كثير من أهل السّنة وَمن وجوهه وَجْهَان حسنان

أَحدهمَا أَن الْإِيمَان الَّذِي أوجبه الله على العَبْد من الامور الْبَاطِنَة اَوْ الظَّاهِرَة لَا يتَيَقَّن أَنه أَتَى بهَا على الْوَجْه الَّذِي أَمر بِهِ كَامِلا بل قد يكون أخل بِبَعْضِه فيستثنى لذَلِك

وَالْوَجْه الثَّانِي ان الْمُؤمن الْمُطلق من علم الله أَنه يوافى بِالْإِيمَان فَأَما الْإِيمَان الَّذِي تتعقبه الرِّدَّة فَهُوَ بَاطِل كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاة الَّذِي يبطل قبل فَرَاغه فَلَا يعلم العَبْد أَنه مُؤمن حَتَّى يقْضى جَمِيع إيمَانه وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بِالْمَوْتِ

وَهَذَا معنى مَا يرْوى عَن ابْن مَسْعُود أَنه قيل لَهُ إِن فلَانا يَقُول إِنَّه مُؤمن قَالَ فَقولُوا لَهُ اهو فِي الْجنَّة فَقَالَ الله أعلم قَالَ فَهَلا وكلت الاولى كَمَا وكلت الثَّانِيَة

وَهَذَا الْوَجْه تختاره طَائِفَة من متكلمي أهل الحَدِيث المائلين إِلَى الإرجاء كالأشعري وَغَيره مِمَّن يَقُول بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يدْخل الاعمال فِي مُسَمّى الايمان فَيجْعَل الاسثثناء يعود إِلَّا إِلَى النوايا فَقَط وَهُوَ الَّذِي ذكره أَبُو الْقَاسِم وَفسّر بِهِ كَلَام أبي بكر الوَاسِطِيّ وَكَلَام الوَاسِطِيّ يحْتَمل الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَإِن الإشراف والاطلاع قد يكون على الْحَقِيقَة الَّتِي هِيَ عِنْد الله فِي هَذَا الْوَقْت وَقد يكون على مَا يوافى بِهِ العَبْد وَأما كَلَام أبي الْعَبَّاس فَظَاهر فِي أَنه رَاعى الخاتمة

ص: 150

فَإِن قيل فَإِذا كَانَ الْقدر السَّابِق لَا ينافى الْأَسْبَاب فَمَا وَجه مَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قلت يَا رَسُول الله إِنِّي رجل شَاب وَأَنا أَخَاف على نَفسِي الْعَنَت وَلَا أجد مَا أَتزوّج بِهِ النِّسَاء فَسكت عني ثمَّ قلت مثل ذَلِك فَسكت عني ثمَّ قلت مثل ذَلِك فَسكت عني ثمَّ قلت مثل ذَلِك فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَا أَبَا هُرَيْرَة جف الْقَلَم بِمَا أَنْت لَاق فاختص على ذَلِك أَو دع

فَهَذَا يقتضى أَن اختصاءه الَّذِي قصد أَن يمْتَنع بِهِ من الْفَاحِشَة لَا يدْفع الْمَقْدُور

وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنهم سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن الْعَزْل فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا عَلَيْكُم أَن تَفعلُوا فَمَا من نسمَة كتب الله أَن تكون إِلَّا وَهِي كائنة فَهَذَا

ص: 151

يقتضى ان عزل المَاء وَهُوَ سَبَب لعدم الْعلُوق لَا فَائِدَة فِيهِ لدفع مَا كتبه الله من الاولاد

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ فِي مُسلم عَن عمرَان بن حُصَيْن وَهَذَا لَفظه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ يدْخل الْجنَّة من أمتِي سَبْعُونَ ألفا بِغَيْر حِسَاب قَالَ وَمن هم يَا رَسُول الله قَالَ هم الَّذين لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يسْتَرقونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ

فَقَالَ عكاشة ادْع الله يَجْعَلنِي مِنْهُم قَالَ أَنْت مِنْهُم فَقَامَ رجل فَقَالَ يَا نَبِي الله ادْع الله ان يَجْعَلنِي مِنْهُم فَقَالَ سَبَقَك بهَا عكاشة

فقد جعل التَّوَكُّل هَا هُنَا مُوجبا لترك الاكتواء والاسترقاء وهما من الْأَسْبَاب

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ قَالَت ام حَبِيبَة زوج النَّبِي صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ امتعنى بزوجي رَسُول الله وبأبي أبي سُفْيَان وبأخي مُعَاوِيَة قَالَ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد سَأَلت الله لآجال مَضْرُوبَة وَأَيَّام مَعْدُودَة وأرزاق مقسومة لن يعجل الله

ص: 152

شَيْئا قبل أَجله وَلنْ يُؤَخر شَيْئا عَن أَجله وَلَو كنت سَأَلت الله أَن يعيذك من عَذَاب فِي النَّار أَو عَذَاب فِي الْقَبْر كَانَ خيرا وَأفضل قَالَ وَذكرت عِنْده القردة والخنازير هِيَ من مسخ فَقَالَ إِن الله لم يَجْعَل لمسخ نَسْلًا وَلَا عقبا وَقد كَانَت القردة والخنازير قبل ذَلِك

وَفِي رِوَايَة قَالَ رجل يَا رَسُول الله القردة والخنازير هِيَ مِمَّا مسخ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن الله لم يهْلك قوما أَو يعذب قوما فَيجْعَل لَهُم نَسْلًا فَهَذَا الحَدِيث أخبر فِيهِ أَن الدُّعَاء وَهُوَ من الْأَسْبَاب لَا يُفِيد فِي إطالة الْأَعْمَار ويفيد فِي النجَاة من عَذَاب الْآخِرَة

قيل لَيْسَ كل مَا يَظُنّهُ الْإِنْسَان سَببا يكون سَببا وَلَيْسَ كل سَبَب مُبَاحا فِي الشَّرِيعَة بل قد تكون مضرته أعظم من منفعَته فينتهي عَنهُ وَلَيْسَ كل سَبَب مَقْدُورًا للْعَبد فَالْعَبْد يُؤمر بِالسَّبَبِ الَّذِي أحبه الله وَيُؤذن لَهُ فِيمَا أذن الله فِيهِ مَعَ أمره بالتوكل على الله تَعَالَى فَأَما مَا لَا قدرَة لَهُ فِيهِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّوَكُّل على الله وَالدُّعَاء لَهُ وَذَلِكَ من أعظم الْأَسْبَاب الَّتِي يُؤمر بهَا العَبْد أَيْضا

وَمَا كَانَ من الْأَسْبَاب محرما لرجحان فَسَاده على صَلَاحه أَو غير

ص: 153

نَافِع لَا يُفِيد بل يظنّ أَنه نَافِع فَإِنَّهُ لَا يُؤمر بِهِ أَيْضا فَلَا يُؤمر بِمَا لَا فَائِدَة فِيهِ وَمَا كَانَ فَسَاده راجحا نهى عَنهُ

وجماع الْأَمر أَن الْأَسْبَاب إِمَّا أَن تكون مقدورة أَو غير مقدورة فَغير الْمَقْدُور لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الدُّعَاء والتوكل والمقدور إِمَّا أَن يكون فَسَاده راجحا أَو لَا يكون فَإِن كَانَ فَسَاده راجحا نهى عَنهُ وَإِن لم يكن فَسَاده راجحا فينهى عَنهُ كَمَا ينْهَى عَن إِضَاعَة المَال والعبث وَأما السَّبَب الْمَقْدُور النافع مَنْفَعَة راجحة فَهُوَ الَّذِي ينفع وَيُؤمر فقه بِهِ وَينْدب اليه الْأَحَادِيث

وايضا فينبغى أَن التَّوَكُّل على الله من أعظم الْأَسْبَاب فَرُبمَا كَانَ بعض الْأَسْبَاب يضعف التَّوَكُّل فَإِذا ترك ذَلِك كمل توكله فَهَذَا التَّقْسِيم حاصر وَالْقدر يأتى على جَمِيع الكائنات وَبِهَذَا يتَبَيَّن فقه الْأَحَادِيث

أما حَدِيث الاختصاء فَإِن الاختصاء محرم لرجحان مفسدته وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن سعد بن أبي وَقاص رضي الله عنه قَالَ زجر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عُثْمَان بن مَظْعُون عَن التبتل وَلَو أذن لاختصينا

ص: 154

وَبَين النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه مَعَ ركُوب الاختصاء الْمحرم لَا يسلم من الزِّنَا بل لَا بُد أَن يفعل مَا كتب عَلَيْهِ مِنْهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ كتب الله على ابْن آدم حَظه من الزِّنَا فَهُوَ مدرك ذَلِك لَا محَالة فالعينان تزنيان وزناهما النّظر وَاللِّسَان يَزْنِي وزناه الْمنطق والأذنان تزنيان وزناهما الِاسْتِمَاع وَالْيَد تَزني وزناها الْبَطْش وَالرجل تَزني وزناها الخطا وَالنَّفس تتمنى والفرج يصدق ذَلِك أَو يكذبهُ

وَأما حَدِيث الْعَزْل فالعزل لَا يمْنَع انْعِقَاد الْوَلَد وَلَا تَركه يُوجب الْولادَة وَلِهَذَا لَو عزل عَن سريته وَأَتَتْ بِولد ألحق بِهِ فَإِن المَاء سباق مَعَ مَا فِيهِ من ترك لَذَّة الْجِمَاع فَأخْبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِأَن الْوَلَد الْمَكْتُوب يكون عزلت أَو لم تعزل كَمَا قَالَ لَيْسَ من كل المَاء يكون الْوَلَد فَلَا يكون ترك الْعَزْل سَببا للولادة وَلَا الْعَزْل

ص: 155

سَببا لمنعها وَالْقدر مَاض بالأمرين فَلَا فَائِدَة فِيهِ

وَمثل هَذَا مَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه نهى عَن النّذر وَقَالَ لَا يَأْتِي بِخَير وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل فَأخْبر أَن النّذر لَيْسَ من الْأَسْبَاب الَّتِي تجتلب بهَا الْمَنْفَعَة وتدفع بهَا الْمضرَّة وَلَكِن نلقيه إِلَى مَا قدر لَهُ فَنهى عَنهُ لعدم فَائِدَته

وَأما حَدِيث السّبْعين ألفا فَلم يصفهم بترك سَائِر التطبب وَإِنَّمَا وَصفهم بترك الاكتواء والاسترقاء والاكتواء مَكْرُوه وَقد نهى عَنهُ فِي غير هَذَا الحَدِيث لما قَالَ وَأَنا أنهى أمتِي عَن الكى والمسترقى لم يفعل شَيْئا إِلَّا اعْتِمَاده على الراقى فتوكله على الله سُبْحَانَهُ وَحده لَا شريك لَهُ أَنْفَع لَهُ من ذَلِك

وَهَذَا الْجَواب الآخر وَهُوَ ان المسترقى يضعف توكله على الله فَإِنَّهُ

ص: 156

إِنَّمَا طلب دُعَاء الْغَيْر ورقيته فاعتماد قلبه على الله وَحده وتوكله عَلَيْهِ أكمل لإيمانه وأنفع لَهُ

وَأما حَدِيث أم حَبِيبَة فَفِيهِ أَن الدُّعَاء يكون مَشْرُوعا نَافِعًا فِي بعض الْأَشْيَاء دون بعض وَكَذَلِكَ هُوَ وَلِهَذَا لَا يحب الله الْمُعْتَدِينَ فِي الدُّعَاء فالاعمار الْمقدرَة لم يشرع الدُّعَاء بتغييرها بِخِلَاف النجَاة من عَذَاب الْآخِرَة فَإِن الدُّعَاء مَشْرُوع لَهُ نَافِع فِيهِ وَقد كتبت مَسْأَلَة زِيَادَة الْعُمر بصلَة الرَّحِم فِي غير هَذَا الْموضع وَلَا يلْزم من تَأْثِير صلَة الرَّحِم وَنَحْو ذَلِك أَن يزِيد الْعُمر كَمَا قد يُقَال بِزِيَادَة الْعُمر بتأثير الدُّعَاء وَلذَلِك كَانَ يكره أَحْمد أَن يدعى لَهُ بطول الْعُمر وَيَقُول هَذَا فرغ مِنْهُ

ثمَّ ذكر مَا جَاءَ فِي الرُّؤْيَة قَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السلمى رحمه الله يَقُول سَمِعت مَنْصُور بن عبد الله يَقُول سَمِعت أَبَا الْحسن العنبرى يَقُول سَمِعت سهل

ص: 157

ابْن عبد الله التسترى يَقُول ينظر إِلَيْهِ [تَعَالَى] الْمُؤْمِنُونَ بأبصار من غير إحطة وَلَا إِدْرَاك نِهَايَة

وَهَذَا الْكَلَام من أحسن الْكَلَام وَكَلَام سهل بن عبد الله فِي السّنة وأصول الاعتقادات أَسد وأصوب من كَلَام غَيره وَكَذَلِكَ الفضيل ابْن عِيَاض وَنَحْوه فَإِن الَّذين كَانُوا من الْمَشَايِخ أعلم بِالْحَدِيثِ وَالسّنة وَاتبع لذَلِك هم أعظم علما وإيمانا وَأجل قدرا فِي ذَلِك من غَيرهم

وَقَول سهل وَلَا إِدْرَاك نِهَايَة يتَضَمَّن شَيْئَيْنِ أَحدهمَا نفى الْإِدْرَاك الَّذِي نَفَاهُ الله عَنهُ يجمع بَين مَا أثْبته الْكتاب وَالسّنة وَمَا نَفَاهُ وَالثَّانِي أَنه نفى إِدْرَاك النِّهَايَة وَلم ينف نفس النِّهَايَة وَهَذَا فِي الظَّاهِر يُخَالف قَول أبي الْقَاسِم لَا حد لذاته

ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم قَالَ أَبُو الْحُسَيْن النوري شَاهد الْحق الْقُلُوب فَلم ير قلبا أشوق إِلَيْهِ من قلب مُحَمَّد ص فَأكْرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة

وقصده بِهَذِهِ الْحِكَايَة إِثْبَات رُؤْيَة مُحَمَّد ص ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج وَهَذَا هُوَ قَول أَكثر أهل السّنة [أَنه رأى ربه بفؤاده]

ص: 158

ثمَّ ذكر مَا جَاءَ فِي الْعُلُوّ فَقَالَ سَمِعت الإِمَام أَبَا بكر مُحَمَّد بن الْحسن بن فورك يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن المحبوب خَادِم أبي عُثْمَان المغربي يَقُول قَالَ لي أَبُو عُثْمَان المغربي يَوْمًا يَا مُحَمَّد لَو قيل لَك أَيْن معبودك إيش تَقول قلت أَقُول حَيْثُ لم يزل قَالَ فَإِن قَالَ فَأَيْنَ كَانَ فِي الْأَزَل إيش تَقول قلت أَقُول حَيْثُ هُوَ الْآن قَالَ يعْنى أَنه كَانَ وَلَا مَكَان فَهُوَ الْآن على مَا عَلَيْهِ كَانَ فارتضى منى ذَلِك وَنزع قَمِيصه وأعطانيه

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت أَبَا بكر بن فورك يَقُول سَمِعت أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول كنت أعتقد شَيْئا من حَدِيث الْجِهَة فَلَمَّا قدمت

ص: 159

بَغْدَاد زَالَ ذَلِك عَن قلبِي فَكتبت إِلَى أَصْحَابنَا بِمَكَّة أَنى أسلمت الْآن إسلاما جَدِيدا

قلت هَذَا الْكَلَام الَّذِي ذكره عَن أبي عُثْمَان كَلَام مُجمل لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على انه كَانَ يَقُول لَيْسَ فَوق السَّمَاوَات رب وَلَا هُنَاكَ إِلَه كَمَا يَقُول من يَقُول إِن الله لَيْسَ فَوق الْعَرْش وَقد يعبر عَن ذَلِك بَعضهم بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجِهَة بل إِقْرَاره لِخَادِمِهِ على جَوَاب السَّائِل لَهُ أَيْن معبودك يُخَالف مَا ذكره أَبُو الْقَاسِم الَّذِي قَالَ فِي خطْبَة كِتَابه تَعَالَى عَن ان يُقَال كَيفَ هُوَ أَو أَيْن هُوَ فَلَو أَرَادَ مَا ذكره أَبُو الْقَاسِم لقَالَ لَا يُقَال أَيْن هُوَ بل قَالَ حَيْثُ لم يزل وَهَذَا لَا يُوَافق قَول من يَقُول لَيْسَ بداخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا هُوَ فَوق الْعَرْش وَلَا فِي جِهَة لِأَن قَوْله حَيْثُ لم يزل إخْبَاره بِأَنَّهُ حَيْثُ لم يزل وَحَيْثُ ظرف من ظروف الْمَكَان لَا يُطلق إِلَّا على الْجِهَة والحيز وَعند النفاة لَا يُقَال حَيْثُ لم يزل وَلَا كَانَ فِي الْأَزَل بِحَيْثُ

وَكَذَلِكَ قَوْله فَإِن قَالَ فَأَيْنَ كَانَ فِي الْأَزَل فَقَالَ اقول حَيْثُ الْآن لَا يَسْتَقِيم عِنْد من ينفى الْجِهَة فَإِنَّهُ لَا يُقَال أَيْن كَانَ فِي الْأَزَل وَلَا يُقَال حَيْثُ الْآن بل هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب

ص: 160

مُمْتَنع عِنْدهم وَإِن كَانُوا فِي ذَلِك مخالفين للنصوص وَإِجْمَاع السّلف وأئمة الدّين فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم سَأَلَ بأين فَقَالَ أَيْن الله فَقَالَ لَهُ الْمَسْئُول فِي السَّمَاء فَحكم بأيمان من قَالَ ذَلِك وَكَذَلِكَ سُئِلَ فَقيل لَهُ أَيْن كَانَ رَبنَا قبل ان يخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فَأجَاب عَن ذَلِك وَلَكِن جَوَاب أَبى عُثْمَان يُوَافق قَول أهل الْإِثْبَات وهم أهل الْفطْرَة الْعَقْلِيَّة السليمة من الاولين والآخرين الَّذين يَقُولُونَ إِنَّه فَوق الْعَالم إِذْ الْعلم بذلك فطرى عقلى ضَرُورِيّ لَا يتَوَقَّف على سمع

أما الْعلم بِأَنَّهُ اسْتَوَى على الْعَرْش بعد ان خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام فَهَذَا سَمْعِي إِنَّمَا علم من جِهَة أَخْبَار الْأَنْبِيَاء وَلِهَذَا شرع الله تَعَالَى لأهل الْملَل الِاجْتِمَاع كل أُسْبُوع يَوْمًا وَاحِدًا ليَكُون الْأُسْبُوع الدائر دَلِيلا على الْأُسْبُوع الَّذِي خلق الله فِيهِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش وَلِهَذَا لَا يعرف الْأُسْبُوع إِلَّا من جِهَة أهل الْكتب الإلهية بِخِلَاف الْيَوْم فَإِنَّهُ مَعْلُوم بالحس وَكَذَلِكَ الشَّهْر وَالسّنة يعلم بالحس وسيرالقمر فَيعلم بالحس والحساب وَأما الْأُسْبُوع فَلَيْسَ لَهُ سَبَب حسى وَكَذَلِكَ لَا يُوجد لأيام الْأُسْبُوع ذكر عِنْد الْأُمَم الَّذين لَا كتاب لَهُم وَلَا أخذُوا عَن أهل الْكتب كالترك البَاقِينَ فِي بواديهم فِي لغتهم اسْم الْيَوْم والشهر وَالسّنة دون أَيَّام الْأُسْبُوع

ص: 161

بِخِلَاف الْفرس وَنَحْوهم مِمَّن أَخذ عَن الْمُرْسلين فَإِن فِي لغتهم أَيَّام الْأُسْبُوع

وَأهل الْإِثْبَات منازعون فِي أَن الاسْتوَاء هَل هُوَ مُجَرّد نِسْبَة وَإِضَافَة بَين الله وَبَين الْعَرْش من غير أَن يكون الْبَارِي تصرف بِنَفسِهِ بصعود أَو علو وَنَحْو ذَلِك أَو هُوَ يتَصَرَّف بِنَفسِهِ وَأَنه اسْتَوَى على الْعَرْش بعد أَن لم يكن مستويا

وَكَذَلِكَ استواؤه إِلَى السَّمَاء ونزوله وَنَحْو ذَلِك عَن قَوْلَيْنِ مشهورين

وَالْأول قَول كثير مِمَّن يمِيل إِلَى الْكَلَام وَقَول طَائِفَة من الْفُقَهَاء والصوفية

وَالثَّانِي قَول أهل الحَدِيث وَقَول كثير من أهل الْكَلَام وَالْفُقَهَاء والصوفية

فَكَلَام أبي عُثْمَان ظَاهِرَة يُوَافق القَوْل الأول وَأما الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدهُ فِي الْجِهَة ثمَّ رَجَعَ عَنهُ فَهُوَ أَمر مُجمل لم يذكرهُ فَلَعَلَّهُ كَانَ يعْتَقد من التجسيم والتمثيل مَا يَقُوله أهل الضلال من الرافضة والمجسمة فَرجع عَن ذَلِك فَإِن هَذَا مُمكن وَلَعَلَّه كَانَ يعْتَقد أَن البارى تَعَالَى

ص: 162

مَحْصُور فِي السَّمَوَات تظله وتقره وَأَنه مفتقر إِلَى عرش يحملهُ فَرجع عَن ذَلِك

وَأعظم مَا يُقَال إِنَّه كَانَ يعْتَقد أَن الاسْتوَاء من الصِّفَات الفعلية المتجددة أَنه يَفْعَله بِنَفسِهِ ثمَّ رَجَعَ عَن ذَلِك إِلَى أَنه على مَا كَانَ عَلَيْهِ مَعَ كَونه مستويا على الْعَرْش لكنه خلق الْعَرْش بعد أَن لم يكن مخلوقا فَيلْزم أَن يكون مَوْصُوفا بِأَنَّهُ فَوق الْعَرْش وَهَذَا يَقُوله كثير من المثبتة وَإِن كَانَ هَذَا لَيْسَ مَوضِع الْكَلَام فِيهِ

فَأَما أَن يُقَال إِن أَبَا عُثْمَان رَجَعَ عَن اعْتِقَاد علو الله على خلقه وَأَنه سُبْحَانَهُ بَائِن عَن مخلوقاته عَال عَلَيْهِم فَلَيْسَ فِي كَلَامه مَا يفهم مِنْهُ ذَلِك بِحَال ثمَّ لَو فرض أَن أَبَا عُثْمَان قَالَ قولا فِيهِ غلط لم يصلح أَن يَجْعَل ذَلِك أصلا لاعتقاد الْقَوْم فَإِن كَلَام أَئِمَّة الْمَشَايِخ الْمُصَرّح بِأَن الله فَوق الْعَرْش كثير منتشر فَإِذا وجد عَن بَعضهم مَا يُخَالف ذَلِك كَانَ ذَلِك خلافًا لَهُم

والصوفية يُوجد فيهم الْمُصِيب والمخطئ كَمَا يُوجد فِي غَيرهم وَلَيْسوا فِي ذَلِك بِأَجل من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَيْسَ أحد مَعْصُوما فِي كل مَا يَقُوله إِلَّا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

نعم وُقُوع الْغَلَط فِي مثل هَذَا يُوجب مَا نقُوله دَائِما إِن الْمُجْتَهد فِي

ص: 163

مثل هَذَا من الْمُؤمنِينَ إِن استفرغ وَسعه فِي طلب الْحق فَإِن الله يغْفر لَهُ خطأه وَإِن حصل مِنْهُ نوع تَقْصِير فَهُوَ ذَنْب لَا يجب ان يبلغ الْكفْر وَإِن كَانَ يُطلق القَوْل بِأَن هَذَا الْكَلَام كفر كَمَا أطلق السّلف الْكفْر على من قَالَ بِبَعْض مقالات الْجَهْمِية مثل القَوْل بِخلق الْقُرْآن أَو إِنْكَار الرُّؤْيَة أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا هُوَ دون إِنْكَار علو الله على الْخلق وَأَنه فَوق الْعَرْش فَإِن تَكْفِير صَاحب هَذِه الْمقَالة كَانَ عِنْدهم من أظهر الْأُمُور فَإِن التَّكْفِير الْمُطلق مثل الْوَعيد الْمُطلق لَا يسْتَلْزم تَكْفِير الشَّخْص الْمعِين حَتَّى تقوم عَلَيْهِ الْحجَّة الَّتِي تكفر تاركها

كَمَا ثَبت فِي الصِّحَاح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الرجل الَّذِي قَالَ إِذا أَنا مت فأحرقوني ثمَّ استحقوني ثمَّ ذروني فِي اليم فوَاللَّه لَئِن قدر الله على ليعذبني عذَابا لَا يعذبه أحدا من الْعَالمين فَقَالَ الله لَهُ مَا حملك على مَا فعلت قَالَ خشيتك فغفر لَهُ

فَهَذَا الرجل اعْتقد أَن الله لَا يقدر على جمعه إِذا فعل ذَلِك أَو شكّ وَأَنه لَا يَبْعَثهُ وكل من هذَيْن الاعتقادين كفر يكفر من

ص: 164

قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة لكنه كَانَ يجهل ذَلِك وَلم يبلغهُ الْعلم بِمَا يردهُ عَن جَهله وَكَانَ عِنْده إِيمَان بِاللَّه وبأمره وَنَهْيه ووعده ووعيده فخاف من عِقَابه فغفر الله لَهُ بخشيته

فَمن أَخطَأ فِي بعض مسَائِل الِاعْتِقَاد من أهل الْإِيمَان بِاللَّه وبرسوله وباليوم الآخر وَالْعَمَل الصَّالح لم يكن أَسْوَأ حَالا من الرجل فَيغْفر الله خطأه أَو يعذبه إِن كَانَ مِنْهُ تَفْرِيط فِي اتِّبَاع الْحق على قدر دينه وَأما تَكْفِير شخص علم إيمَانه بِمُجَرَّد الْغَلَط فِي ذَلِك فعظيم

فقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن ثَابت بن الضَّحَّاك عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لعن الْمُؤمن كقتله وَمن رمى مُؤمنا بالْكفْر فَهُوَ كقتله

وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن من قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِر فقد بَاء بِهِ أَحدهمَا وَإِذا كَانَ تَكْفِير الْمعِين على سَبِيل الشتم كقتله فَكيف

ص: 165

يكون تكفيره على سَبِيل الِاعْتِقَاد فَإِن ذَلِك أعظم من قَتله إِذْ كل كَافِر يُبَاح قَتله وَلَيْسَ كل من أُبِيح قَتله يكون كَافِرًا فقد يقتل الدَّاعِي إِلَى ى بِدعَة لإضلاله النَّاس وإفساده مَعَ إِمْكَان أَن الله يغْفر لَهُ فِي الْآخِرَة لما مَعَه من الْإِيمَان فَإِنَّهُ قد تَوَاتَرَتْ النُّصُوص بِأَنَّهُ يخرج من النَّار من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان

وَقد رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ بَينا جِبْرِيل قَاعِدا عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذْ سمع نقيضا من فَوْقه فَرفع رَأسه فَقَالَ هَذَا بَاب من السَّمَاء فتح الْيَوْم لم يفتح قطّ إِلَّا الْيَوْم فَنزل مِنْهُ ملك فَقَالَ هَذَا ملك نزل إِلَى الأَرْض لم ينزل قطّ إِلَّا الْيَوْم فَسلم وَقَالَ أبشر بنورين أُوتِيتهُمَا لم يؤتهما نَبِي قبلك فَاتِحَة الْكتاب وخواتيم سُورَة الْبَقَرَة لن تقْرَأ بِحرف مِنْهُمَا إِلَّا أَعْطيته

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لما نزلت وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله [سُورَة الْبَقَرَة 284] دخل فِي قُلُوبهم مِنْهَا شئ لم يدْخل قُلُوبهم من شئ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قُولُوا سمعنَا وأطعنا قَالَ فَألْقى الله الايمان فِي قُلُوبهم فَأنْزل الله لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا لَهَا مَا كسبت

ص: 166

وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا [سُورَة الْبَقَرَة 286] قَالَ قد فعلت

وَكَلَام الْمَشَايِخ فِي مَسْأَلَة الْعُلُوّ كثير مثل مَا ذكر مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي الْحَافِظ الصُّوفِي الْمَشْهُور الَّذِي صنف للصوفية كتاب صفة التصوف وَمَسْأَلَة السماع وَغير ذَلِك ذكر عَن الشَّيْخ الْجَلِيل أبي جَعْفَر الْهَمدَانِي أَنه حضر مجْلِس أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَهُوَ يَقُول كَانَ الله وَلَا عرش وَهُوَ على مَا عَلَيْهِ كَانَ أَو كلَاما من هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ يَا شيخ دَعْنَا من ذكر الْعَرْش أخبرنَا عَن هَذِه الضَّرُورَة الَّتِي نجدها فِي قُلُوبنَا فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِف قطّ يَا الله إِلَّا وجد من قلبه ضرورو بِطَلَب الْعُلُوّ وَلَا يلْتَفت يمنة ولايسرة فَكيف ندفع هَذِه الضَّرُورَة عَن قُلُوبنَا قَالَ فَصَرَخَ أَبُو المعالى وَلَطم على رَأسه وَقَالَ حيرني الهمدانى حيرني الْهَمدَانِي

ص: 167

وَقَالَ الإِمَام الْعَارِف معمر بن أَحْمد الاصبهاني شيخ الصُّوفِيَّة فِي أَوَاخِر الْمِائَة الرَّابِعَة قبل الْقشيرِي فِي رِسَالَة لَهُ أَحْبَبْت أَن أوصى أَصْحَابِي بِوَصِيَّة من السّنة وموعظة من الْحِكْمَة وَأجْمع مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل الحَدِيث والأثر وَأهل الْمعرفَة والتصوف من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين قَالَ فِيهَا اوإن الله اسْتَوَى على عَرْشه بِلَا كَيفَ وَلَا تَشْبِيه وَلَا تَأْوِيل والاستواء مَعْقُول والكيف فِيهِ مَجْهُول وَأَنه عز وجل مستو على عَرْشه بَائِن من خلقه والخلق بائنون مِنْهُ بِلَا حُلُول وَلَا ممازجة وَلَا اخْتِلَاط وَلَا ملاصقة لِأَنَّهُ الْفَرد الْبَائِن من الْخلق الْوَاحِد الْغَنِيّ عَن الْخلق وَأَن الله سميع بَصِير عليم خَبِير يتَكَلَّم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لِعِبَادِهِ يَوْم الْقِيَامَة ضَاحِكا وَينزل كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كَيفَ شَاءَ فَيَقُول هَل من دَاع فآستجيب لَهُ هَل من مُسْتَغْفِر فآستغفر لَهُ هَل من تائب فأتوب عَلَيْهِ حَتَّى يطلع الْفجْر ونزول الرب إِلَى

ص: 168

السَّمَاء بِلَا كَيفَ وَلَا تَشْبِيه وَلَا تَأْوِيل فَمن أنكر النُّزُول أَو تَأَول فَهُوَ مُبْتَدع ضال

ثمَّ ذكر كَلَامهم فِي الْقدر قَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت مُحَمَّد ابْن الْحُسَيْن السلمى يَقُول سَمِعت أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول وَقد سُئِلَ عَن الْخلق فَقَالَ قوالب وأشباح تجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَام الْقُدْرَة

قَالَ وَقَالَ الوَاسِطِيّ لما كَانَت الْأَرْوَاح والأجساد قامتا بِاللَّه وظهرتا بِهِ لَا بذواتها كَذَلِك قَامَت الخطرات والحركات بِاللَّه لَا بذواتها إِذْ الخطرات والحركات فروع جساد والأرواح

قَالَ أَبُو الْقَاسِم صرح بِهَذَا الْكَلَام أَن أكساب الْعباد مخلوقة لله وكما أَنه لَا خَالق للجواهر إِلَّا الله فَكَذَلِك لَا خَالق للأعراض إِلَّا الله

وَهَذَا الَّذِي قَالَه صَحِيح وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْمَشَايِخ لَا يعرف مِنْهُم من أنكر شَيْئا من أصُول السّنة فِي مسَائِل الْقدر

ص: 169

وَقَالَ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السَّامِي يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الله سَمِعت أَبَا جَعْفَر الصيدلاني سَمِعت أَبَا سعيد الخراز يَقُول من ظن أَنه ببذل الْجهد يصل فمتعن وَمن ظن أَنه بِغَيْر الْجهد يصل فمتمن

وَهَذَا كَلَام حسن كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح احرص على مَا ينفعك واستعن بِاللَّه وَلَا تعجز وَإِن أَصَابَك شئ فَلَا تقل لَو أَنِّي فعلت كَذَا وَكَذَا وَلَكِن قل مَا قدر الله وَمَا شَاءَ فعل فَإِن اللو تفتح عمل الشَّيْطَان

وَقَالَ لن يدْخل أحدا عمله الْجنَّة قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله بفضله وَرَحمته

ص: 170

ثمَّ قَالَ وَقَالَ الوَاسِطِيّ المقامات أَقسَام قسمت ونعوت أجريت كَيفَ تستجلب بحركات أَو تنَال بسعايات

وَهَذَا الْكَلَام الظَّاهِر لَيْسَ بجيد بل هُوَ مَرْدُود وَهَذِه الْمَسْأَلَة بِعَينهَا سُئِلَ عَنْهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَمَا ثَبت عَنهُ فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن وعَلى ابْن أبي طَالب وَغَيرهمَا لما أخبر بِالْقدرِ فَقَالُوا أَلا نَدْعُو الْعَمَل ونتكل على الْكتاب فَقَالَ لَا اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَليّ بن ابي طَالب قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَة فِي بَقِيع الْغَرْقَد فَأَتَانَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقعدَ وقعدنا حوله وَمَعَهُ مخصرة فَنَكس وَجعل ينكت بمخسرته ثمَّ قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد كتب مَقْعَده من النَّار ومقعده من الْجنَّة

ص: 171

فَقَالُوا يَا رَسُول الله أَفلا نَتَّكِل على كتَابنَا فَقَالَ اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ أما من كَانَ من أهل السَّعَادَة فسيصير لعمل السعاده واما من كَانَ من أهل الشَّقَاء فسيصير لعمل الشِّفَاء ثمَّ قَرَأَ فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى وَصدق بِالْحُسْنَى فسنيسره لليسرى [سُورَة اللَّيْل 6]

وَفِي الصَّحِيح عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله أيعرف أهل الْجنَّة من أهل النَّار قَالَ نعم قَالَ فَلم يعْمل الْعَامِلُونَ قَالَ كل يعْمل لما خلق لَهُ أَو لما يسر لَهُ وَفِي رِوَايَة كل ميسر لما خلق لَهُ

وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أبي الْأسود الدئلي قَالَ قَالَ لي عمرَان بن حُصَيْن أَرَأَيْت مَا يعْمل النَّاس الْيَوْم ويكدحون فِيهِ أشئ

ص: 172

قضى عَلَيْهِم وَمضى عَلَيْهِم من قدر قد سبق أَو فِيمَا يستقبلون مِمَّا أَتَاهُم بِهِ نَبِيّهم وَثبتت الْحجَّة عَلَيْهِم فَقلت بل شئ قضى عَلَيْهِم وَمضى عَلَيْهِم قَالَ فَقَالَ أَفلا يكون ظلما قَالَ فَفَزِعت من ذَلِك فَزعًا شَدِيدا وَقلت كل شئ خلق الله وَملك يَده فَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون فَقَالَ لي يَرْحَمك الله إِنِّي لم أرد بِمَا سَأَلتك إِلَّا لأحزر عقلك إِن رجلَيْنِ من مزينة أَتَيَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَا يَا رَسُول الله أَرَأَيْت مَا يعْمل النَّاس الْيَوْم ويكدحون فِيهِ أشئ قضى عَلَيْهِم وَمضى فيهم من قدر قد سبق أَو فِيمَا يستقبلون مِنْهُ مِمَّا أَتَاهُم بِهِ نَبِيّهم وَثبتت الْحجَّة عَلَيْهِم قَالَ لَا بل شئ قضى عَلَيْهِم وَمضى فيهم وتصديق ذَلِك فِي كتاب الله وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها [سُورَة الشَّمْس 6 7]

وَفِي السّنَن حَدِيث عمر أَنه سُئِلَ عَن تَفْسِير الْآيَة وَإِذ أَخذ

ص: 173

رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ [سُورَة الاعراف 172] قَالَ عمر رضى الله عَنهُ سَمِعت رَسُول ص يَقُول إِن الله خلق آدم ثمَّ مسح ظَهره بِيَمِينِهِ فأستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ [خلقت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ ثمَّ مسح ظَهره فأستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ] خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ فَقَالَ رجل فَفِيمَ الْعَمَل يَا رَسُول الله فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله إِذا خلق العَبْد للنار اسْتَعْملهُ بِعَمَل اهل النَّار حَتَّى يَمُوت على عمل من أَعمال النَّار فَيدْخل بِهِ النَّار وَإِذا خلق العَبْد للجنة اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى يَمُوت على عمل من أَعمال الْجنَّة فيدخله بِهِ الْجنَّة

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر بن عبد الله قَالَ جَاءَ سراقَة بن مَالك بن جعْشم فَقَالَ يَا رَسُول الله بَين لنا ديننَا كأنا خلقنَا الْآن فيمَ الْعَمَل الْيَوْم أفيما جَفتْ بِهِ الأقلام وَجَرت بِهِ الْمَقَادِير أم فِيمَا

ص: 174

يسْتَقْبل قَالَ لَا بل فِيمَا جَفتْ بِهِ الأقلام وَجَرت بِهِ الْمَقَادِير قَالَ فَفِيمَ الْعَمَل فَقَالَ اعْمَلُوا فَكل ميسر وفى لفظ كل عَامل ميسر لعمله

وَفِي السّنَن عَن ابْن أبي خزامة عَن أَبِيه قَالَ قلت يَا رَسُول الله أَرَأَيْت رقى نسترقيها ودواء نتداوى بِهِ وتقاة نتقيها هَل ترد من قدر الله شَيْئا قَالَ هِيَ من قدر الله

فَهَذِهِ السّنَن وَغَيرهَا تبين أَن الله سُبْحَانَهُ وَإِن كَانَ قد تقدم علمه وكتابيه وَكَلَامه بِمَا سَيكون من السَّعَادَة والشقاوة فمما قدره أَن يكون ذَلِك بالأسباب الَّتِي قدرهَا فالسعادة بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة والشقاوة بِالْفُجُورِ وَكَذَلِكَ الشِّفَاء الَّذِي يقدره للْمَرِيض يقدره بالأدوية والرقى وَكَذَلِكَ سَائِر مَا يقدر من أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة

فَقَوْل الْقَائِل كَيفَ تستجلب الْأَقْسَام بالحركات

ص: 175

جَوَابه ان الْأَقْسَام تناولت الحركات كَمَا تناولت السعادات وَالله تَعَالَى قدر ان يكون هَذَا بِهَذَا فَإِذا ترك العَبْد الْعَمَل ظَانّا أَن السَّعَادَة تحصل لَهُ كَانَ هَذَا التّرْك سَببا لكَونه من أهل الشقاوة

وَهنا ضل فريقان فريق كذبُوا بِالْقضَاءِ وَالْقدر وَصَدقُوا بِالْأَمر والنهى وفريق آمنُوا بِالْقضَاءِ ولاقدر لَكِن قصروا فِي الْأَمر والنهى وَهَؤُلَاء شَرّ من الْأَوَّلين فَإِن هَؤُلَاءِ من جنس الْمُشْركين الَّذين قَالُوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا [سُورَة الْأَنْعَام 148] وَأُولَئِكَ من جنس الْمَجُوس

لَكِن إِذا عَنى بِهَذَا الْكَلَام أَن العَبْد لَا يتكل على عمله وَلَا يظنّ أَنه ينجو بسعيه فَهَذَا معنى صَحِيح فالأسباب الَّتِي من الْعباد بل وَمن غَيرهم لَيست مُوجبَات لَا لأمر الدُّنْيَا وَلَا لأمر الْآخِرَة بل قد يكون لَا بُد مِنْهَا وَمن أُمُور أُخْرَى من فضل الله وَرَحمته خَارِجَة عَن قدرَة العَبْد وَمَا ثمَّ مُوجب إِلَّا مَشِيئَة الله فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن

وكل ذَلِك قد بَينه النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَعْرُوف عِنْد من نور الله بصيرته

وَأما التَّفْرِيق بَين الْمَقْدُور عَلَيْهِ والمعجوز عَنهُ فَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف وَفِي كل خير احرص على مَا

ص: 176

ينفعك واستعن بِاللَّه وَلَا تعجز وَإِن أَصَابَك شئ فَلَا تقل لَو أَنِّي فعلت كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِن قل قدر الله وَمَا شَاءَ فعل فَإِن اللو تفتح عمل الشَّيْطَان

وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه اخْتصم إِلَيْهِ رجلَانِ فَقضى على أَحدهمَا فَقَالَ المقضى عَلَيْهِ حسبي الله وَنعم الْوَكِيل فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن الله يلوم على الْعَجز وَلَكِن عَلَيْك بالكيس فَإِذا أحزنك أَمر فَقل حسبي الله وَنعم الْوَكِيل

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَسُئِلَ الوَاسِطِيّ عَن الْكفْر بِاللَّه أولله فَقَالَ الْكفْر وَالْإِيمَان وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة من الله وَإِلَى الله وَبِاللَّهِ وَللَّه من الله ابْتِدَاء وإنشاء وَإِلَى الله مرجعا وانتهاء وَبِاللَّهِ بَقَاء وفناء وَللَّه ملكا وخلقا

قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد سُئِلَ بعض الْعلمَاء عَن التَّوْحِيد

ص: 177

فَقَالَ هُوَ الْيَقِين فَقَالَ السَّائِل بَين لي مَا هُوَ فَقَالَ هُوَ معرفتك أَن حركات الْخلق وسكونهم فعل الله وَحده لَا شريك لَهُ فَإِذا فعلت ذَلِك فقد وحدته وَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول سَمِعت عبد الْوَاحِد بن عَليّ يَقُول سَمِعت الْقَاسِم بن الْقَاسِم سَمِعت مُحَمَّد بن مُوسَى الوَاسِطِيّ سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْجَوْهَرِي سَمِعت ذَا النُّون الْمصْرِيّ يَقُول وجاءه رجل فَقَالَ ادْع الله لي فَقَالَ إِن كنت أيدت فِي علم الْغَيْب بِصدق التَّوْحِيد فكم من دَعْوَة مجابة قد سبقت لَك وَإِلَّا فَإِن النداء لَا ينفع الغرقى

قَالَ وَقَالَ الوَاسِطِيّ ادّعى فِرْعَوْن الربوبية على الْكَشْف وَادعت الْمُعْتَزلَة على السِّرّ تَقول مَا شِئْت

ص: 178

فعلت وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن النوري التَّوْحِيد كل خاطر يُشِير إِلَى الله بعد أَن لَا تزاحمه خواطر التَّشْبِيه

قلت كَلَام الوَاسِطِيّ والجنيد الْمَذْكُور هُنَا هُوَ تَوْحِيد الربوبية وَأَن الله رب كل شئ ومليكه وخالقه وَفِيه الرَّد على الْقَدَرِيَّة الَّذين يجْعَلُونَ أَفعَال العَبْد خَارِجَة عَن قدرته وخلقه وَملكه وَكَذَلِكَ جعل فيهم الوَاسِطِيّ شبها من فِرْعَوْن فَإِن فِرْعَوْن كشف كفره وَقَالَ أَنا ربكُم الْأَعْلَى فَادّعى الربوبية عَلَانيَة والقدرية تدعى أَنَّهَا رب الْأَفْعَال وَمَا يتَوَلَّد عَنْهَا فقد أدعت ربوبيته لَكِن فِي السِّرّ وَهِي ربوبية أَفعَال الْأَعْيَان

لَكِن مَقْصُود أهل التَّحْقِيق كالجنيد وَنَحْوه أَن يكون هَذَا التَّوْحِيد للْعَبد خلقا ومقاما بِحَيْثُ يُعْطِيهِ ذَلِك كَمَا توكله على الله تَعَالَى وتفويصه إِلَيْهِ وَالصَّبْر لحكمه وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ مالم يُخرجهُ ذَلِك إِلَى إِسْقَاط الْأَمر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب والوعد والوعيد كَمَا يَقع فِي بعض ذَلِك طَائِفَة من المتصوفة

وَأما قَول ذِي النُّون إِن كنت أيدت فِي علم الْغَيْب بِصدق التَّوْحِيد فَلَا يُرَاد بِهِ مُجَرّد الْإِقْرَار بالربوبية الْعَامَّة فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يوحدون هَذَا التَّوْحِيد كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله [سُورَة الزمر 38] وَقَالَ تَعَالَى وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إلاوهم مشركون [سُورَة يُوسُف 106]

ص: 179

قَالُوا غيمانهم هُوَ إِيمَانهم بِأَنَّهُ خَالق كل شئ وشركهم أَن عبدُوا مَعَه إِلَهًا آخر

وَإِنَّمَا أَرَادَ تَحْقِيق تَوْحِيد الربوبية وتوحيد الإلهية وَهُوَ أَن يعبد الله وَحده لايشرك بِهِ شَيْئا فَهَذَا التَّوْحِيد الَّذِي جَاءَت بِهِ الرُّسُل هُوَ يسْعد صَاحبه وَيدخل الْجنَّة لَا محَالة لَهُ من دَعْوَة مجابة وَمن فَاتَهُ هَذَا التَّوْحِيد فَإِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ فَلَا يَنْفَعهُ الدُّعَاء

وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيد الْمَذْكُور فِي قَول المراغى صفاء الْعِبَادَات لَا ينَال إِلَّا بصفاء التَّوْحِيد

وَأما قَول النوري التَّوْحِيد كل خاطر يُشِير إِلَى الله فَهُوَ يعم ذَلِك يَقُول كل توجه إِلَى الله وَحده بقول أَو عمل فَهُوَ تَوْحِيد إِذا لم يكن فِيهِ تَشْبِيه الْخَالِق بالمخلوق أَو الْمَخْلُوق بالخالق كَمَا فِي قَول الْجَهْمِية والممثلة والقدرية وَنَحْوهم وَقد تقدم مَا ذكره الْمَشَايِخ من نفي التَّشْبِيه والتعطيل

وَكَذَلِكَ مَا ذكره عَن الشَّيْخ أبي عبد الرَّحْمَن سَمِعت عبد الْوَاحِد بن بكر سَمِعت هِلَال بن أَحْمد يَقُول سُئِلَ أَبُو عَليّ الرُّوذَبَارِي عَن التَّوْحِيد فَقَالَ استقامة الْقلب بِإِثْبَات مُفَارقَة

ص: 180

التعطيل وإنكار التَّشْبِيه والتوحيد فِي كلمة وَاحِدَة كل مَا صورته الأفهام والأفكار فَإِن الله سُبْحَانَهُ بِخِلَافِهِ لَيْسَ كمثله شئ وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير [سُورَة الشورى 11]

قَالَ وَقَالَ ابو الْقَاسِم النصراباذي الْجنَّة بَاقِيَة بإبقائه وَذكره لَك ومحبته لَك بَاقٍ بِبَقَائِهِ فشتان بَين مَا هُوَ بَاقٍ بِبَقَائِهِ وَبَين مَا هُوَ بَاقٍ بإبقائه

قَالَ الْقشيرِي وَهَذَا الَّذِي قَالَه الشَّيْخ النصراباذي غَايَة التَّحْقِيق فَإِن أهل الْحق قَالُوا صِفَات ذَات الْقَدِيم سُبْحَانَهُ باقيات بِبَقَائِهِ تَعَالَى فنبه على هَذِه الْمَسْأَلَة وَنبهَ على أَن الْبَاقِي بَاقٍ بِبَقَائِهِ خلاف مَا قَالَه مخالفو الْحق

ص: 181

قلت النصراباذي مَقْصُوده التَّفْرِيق بَين من طلب النَّعيم بالمخلوق وَطلب النَّعيم لحظه من الْخَالِق فَقَالَ مَا فِي الْمَخْلُوق بَاقٍ بإبقائه وَأما محبته لَك وَذكره لَك فباق بِبَقَائِهِ وَلَيْسَ مَقْصُوده أَن الْبَقَاء الَّذِي يُوصف بِهِ الرب هُوَ صفة زَائِدَة على الذَّات بِمَا لَيْسَ بِصفة كَمَا يُنَازع فِيهِ أهل الْكَلَام مثل متكلمة أهل الْإِثْبَات وَغَيرهم بل القَاضِي أَبُو بكر الَّذِي يعظمه الْقشيرِي وَيَقُول هُوَ اوحد وقته كَانَ يَقُول لَيْسَ الْبَاقِي بَاقِيا بِبَقَاء

ولاالنزاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا حقق لم يرجع إِلَى معنى مُحَصل يسْتَوْجب النزاع

ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن سَمِعت النصراباذي يَقُول أَنْت مُتَرَدّد بَين صِفَات الْفِعْل وصفات الذَّات وَكِلَاهُمَا صفته تَعَالَى على الْحَقِيقَة فَإِذا هيمك فِي مقَام التَّفْرِقَة قربك بِصِفَات فعله وَإِذا بلغك إِلَى مقَام الْجمع قربك بِصِفَات ذَاته

ص: 182

قَالَ وَأَبُو الْقَاسِم النصراباذي كَانَ شيخ وقته

قلت هَذَا الْكَلَام من النصراباذي يَقْتَضِي أَنه مَوْصُوف بِصِفَات فعله على الْحَقِيقَة مثل الْخلق والرزق كَمَا أَنه مَوْصُوف بِصِفَات الذَّات عل ى الْحَقِيقَة كَالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَهَذَا هوالذي ذكره أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق الكلاباذي عَن مَذْهَب الصُّوفِيَّة فِي كتاب التعرف وَهُوَ قَول جُمْهُور الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث وَطَوَائِف من اهل الْكَلَام وَلَيْسَ هُوَ قَول الأشعرية الَّذين سلك سبيلهم أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي

قَالَ الْخلق والرزق عِنْدهم عين الْمَخْلُوق وَلَا يسْتَحق أَن يُسمى بالخالق الْبَاعِث الْوَارِث إِلَّا بعد وجود هَذِه المفعولات والنزاع فِي أَن الْفِعْل هَل هُوَ صفة لله وَهل يُوصف بالأسماء الفعلية فِي الْأَزَل وَقد بسطنا الْكَلَام فِي هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي مَوْضِعه

وَقَالَ سَمِعت الإِمَام أَبَا إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ يَقُول لما قدمت من بَغْدَاد كنت أدرس فِي جَامع نيسابور فِي مَسْأَلَة الرّوح وأشرح القَوْل أَنَّهَا مخلوقة وَكَانَ ابو الْقَاسِم النصراباذي قَاعِدا

ص: 183

متباعدا عَنَّا يصغي إِلَى كَلَامي فأجتاز بِنَا بعد ذَلِك بأيام قَلَائِل فَقَالَ لمُحَمد الْفراء أشهد اني أسلمت جَدِيدا على يَد هَذَا الرجل وَأَشَارَ إِلَيّ

قلت لَعَلَّه كَانَ عِنْده بعض شُبْهَة أَو رَأْي فَاسد فِي خلقهَا كَمَا يعرض مثل ذَلِك لبَعض النَّاس

وَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن السّلمِيّ يَقُول سَمِعت أَن حُسَيْن الْفَارِسِي يَقُول سَمِعت إِبْرَاهِيم بن فاتك يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول مَتى يتَّصل من لاشبيه لَهُ وَلَا نَظِير بِمن لَهُ شَبيه وَنَظِير هَيْهَات هَذَا ظن عَجِيب إِلَّا بِمَا لطف اللَّطِيف من حَيْثُ لَا دَرك وَلَا وهم وَلَا إحاطة إِلَّا إِشَارَة الْيَقِين وَتَحْقِيق الْإِيمَان

قلت هَذَا الْكَلَام يَقْتَضِي أَن الْعباد إِنَّمَا عرفُوا رَبهم بِمَا الطف بِهِ من تعرفة إِلَيْهِم وهدايته إيَّاهُم بِمَا أَعْطَاهُم لَا معرفَة إِدْرَاك وإحاطة وَهَذَا حسن وَرُبمَا يتَضَمَّن نوعا من الرَّد على طَريقَة أهل النّظر الَّذين يجعلونه بِمُجَرَّدِهِ محصلا للمعرفة الْمَطْلُوبَة

وَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن سَمِعت عبد الْوَاحِد بن

ص: 184

بكر حَدثنِي أَحْمد بن مُحَمَّد البردعي حَدثنَا طَاهِر بن إِسْمَاعِيل الرَّازِيّ قَالَ قيل ليحيى بن معَاذ أَخْبرنِي عَن الله فَقَالَ إِلَه وَاحِد فَقَالَ كَيفَ هُوَ فَقَالَ ملك قَادر فَقَالَ أَيْن هُوَ فَقَالَ بالمرصاد فَقَالَ السَّائِل لم أَسأَلك عَن هَذَا فَقَالَ مَا كَانَ غير هَذَا كَانَ صفة الْمَخْلُوق فَأَما صفته فَمَا أَخْبَرتك عَنهُ

قلت لَا تعلم صِحَة هَذَا الْكَلَام عَن يحيى بن معَاذ إِذْ فِي الْإِسْنَاد من لَا نعرفه وَكَلَام يحيى بن معَاذ عِنْدهم دون كَلَام الْكِبَار من أهل

ص: 185

التَّحْقِيق فِي الْمُعَامَلَات وَغَيرهَا فَإِنَّهُ يتَكَلَّم فِي الرَّجَاء بِكَلَام يشبه كَلَام سفلَة المرجئة لَا يُوَافق أصُول الْمَشَايِخ الْكِبَار المتمسكين بِالسنةِ ويدعى فِي التَّوْحِيد مقَاما هُوَ الْغَايَة وَقد عَابَ عَلَيْهِ ابو يزِيد وَغَيره وَكَلَامه يشبه كَلَام الوعاظ وَهِي طَريقَة أبي الْقَاسِم وَنَحْوه

وَهَذَا الْكَلَام الْمَذْكُور من هَذَا الْبَاب فَإِنَّهُ لَيْسَ كل مَا لم يذكرهُ فِي هَذَا الْجَواب بِصفة الْمَخْلُوق لله بل لله صِفَات كَثِيرَة عَظِيمَة لم تدخل فِي هَذَا الْكَلَام ثمَّ صفة الْمَخْلُوق إِن كَانَ لأجل الِاشْتِرَاك فِي الِاسْم فَقَوله ملك قَادر وَإنَّهُ بالمرصاد كَمَا قَالَ تَعَالَى واقعدوا لَهُم كل مرصد [سُورَة التَّوْبَة 5]

وَأَيْضًا فَالْجَوَاب عَن أَيْن هُوَ خلاف الْجَواب الَّذِي رضيه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأقرهُ وَحكم بِإِيمَان قَائِله وَخلاف مَا أجَاب بِهِ هُوَ سائله فَإِنَّهُ لما قَالَ أَيْن الله فَقيل لَهُ فِي السَّمَاء رضى بِهَذَا وَأقر صَاحبه وَلم يقل هَذَا صفة الْمَخْلُوق

وَقد روى شيخ الْإِسْلَام الْأنْصَارِيّ الهروى صَاحب علل المقامات ومنازل السائرين فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالفاروق بِإِسْنَاد عَن يحيى بن معَاذ أَنه قَالَ إِن الله على الْعَرْش بَائِن من خلقه وَقد أحَاط بِكُل شئ علما وأحصى كل شئ عددا لايشذ عَن هَذِه الْمقَالة إِلَّا جهمى ردئ

ص: 186

ضليل وهالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخالط مِنْهُ الذَّات بالأقذار والإتيان فِي هَيئته وَهُوَ يُخَالف إِنْكَاره الأين فِي هَذِه الرِّوَايَة

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم حَدثنِي بن الْحُسَيْن سَمِعت أَبَا بكر الرَّازِيّ يَقُول سَمِعت أَبَا عَليّ الروذبارى يَقُول كل مَا توهم متوهم بِالْجَهْلِ أَنه كَذَلِك فالعقل يدل على أَنه بِخِلَافِهِ

قَالَ وَسَأَلَ ابْن شاهين الْجُنَيْد عَن معنى مَعَ فَقَالَ على مَعْنيين مَعَ الْأَنْبِيَاء بالنصرة والكلاءة قَالَ الله إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى [سُورَة طه 46] وَمَعَ الْعَامَّة بِالْعلمِ والإحاطة قَالَ الله تَعَالَى مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم [سُورَة المجادلة 7] فَقَالَ ابْن شاهين مثلك يصلح أَن يكون دَالا للْأمة على الله

ص: 187

قلت هَذَا كَلَام حسن مُتَّفق على صِحَة مَعْنَاهُ بَين ائمة الْهدى وَكَانُوا يَقُولُونَ مثل هَذَا الْكَلَام ردا على من يَقُول من الْجَهْمِية إِن الْحق بِذَاتِهِ فِي كل مَكَان وَيُمكن أَن يَقُول فَوق الْعَرْش وَقد وَقع فِي ذَلِك طَائِفَة من المتصوفة حَتَّى جَعَلُوهُ عين الموجودات وَنَفس المصنوعات كَمَا يَقُوله أهل الِاتِّحَاد الْعَام

قَالَ الْقشيرِي وَسُئِلَ ذُو النُّون الْمصْرِيّ عَن قَوْله الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى [سُورَة طه 5] فَقَالَ اثْبتْ ذَاته وَنفى مَكَانَهُ فَهُوَ مَوْجُود [بِذَاتِهِ والأشياء مَوْجُودَة] بِحكمِهِ كَمَا شَاءَ

قلت هَذَا الْكَلَام لم يذكر لَهُ إِسْنَادًا عَن ذِي النُّون وَفِي هَذِه الْكتب من الحكايات المسندة شئ كثير لَا أصل لَهُ فَكيف بِهَذِهِ المنقطعة المسيئة الَّتِي تَتَضَمَّن أَن ينْقل عَن الْمَشَايِخ كَلَام لَا يَقُوله عَاقل فَإِن هَذَا الْكَلَام لَيْسَ فِيهِ مُنَاسبَة لِلْآيَةِ بل هُوَ مُنَاقض لَهَا فَإِن هَذِه الْآيَة لم تَتَضَمَّن إِثْبَات ذَاته وَنفى مَكَانَهُ بِوَجْه من الْوُجُوه فَكيف تفسر بذلك

وَأما قَوْله هُوَ مَوْجُود بِذَاتِهِ والأشياء مَوْجُودَة بِحكمِهِ فَهُوَ حق لَكِن لَيْسَ هَذَا معنى الْآيَة

ص: 188

قَالَ وَسُئِلَ الشبلي عَن قَوْله الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى فَقَالَ الرَّحْمَن لم يزل وَالْعرش مُحدث وَالْعرش بالرحمن اسْتَوَى

قلت هَذَا الْكَلَام أَيْضا لَيْسَ لَهُ إِسْنَاد عَن الشبلي وَهُوَ يتَضَمَّن من الْبَاطِل مَا هُوَ تَحْرِيف لِلْقُرْآنِ

أما قَوْله الرَّحْمَن لم يزل وَالْعرش مُحدث فَحق وَأما قَوْله الْعَرْش بالرحمن اسْتَوَى فَهُوَ أَولا خلاف الْقُرْآن فَإِن الله أخبر أَنه هُوَ الَّذِي اسْتَوَى على الْعَرْش فَكيف يُقَال إِن المستوى إِنَّمَا هُوَ الْعَرْش

وَأما ثَانِيًا فَإِنَّهُ إِذا قَالَ الْعَرْش اسْتَوَى بِهِ فَهَذَا لَيْسَ أبلغ من قَوْله إِنَّه اسْتَوَى على الْعَرْش

كَمَا فِي حَدِيث ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أهل حِين اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون الْعَرْش اسْتَوَى بِاللَّه واستقل بِهِ وَحمله وَإِن لم يرد هَذَا الْمَعْنى وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن الْعَرْش اعتدل

ص: 189

واستوى بقدرة الله فَهَذَا لَيْسَ هُوَ معنى الْآيَة بل تَحْرِيف صَرِيح يسْتَحق قَائِله الْعقُوبَة البليغة وَلَا يصلح ان يحْكى مثل هَذ عَن قدوة فِي الدّين بل وَلَا عَن أَطْرَاف النَّاس

قَالَ وَسُئِلَ جَعْفَر بن نصير عَن قَوْله تَعَالَى الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى فَقَالَ اسْتَوَى علمه بِكُل شئ فَلَيْسَ شئ أقرب إِلَيْهِ من شئ

وَهَذَا من نمط الَّذِي قبله وأردى وَهُوَ أسخف من تأويلات القرامطة الباطنية فَإِن اللَّفْظ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على ذَلِك أصلا وجعفر ابْن نصير أجل من أَن يَقُول هَذَا التحريف الَّذِي لَا يصدر مثله إِلَّا عَن بعض غلاة الرافضة والقرامطة والملحدين الطاعنين فِي الْقُرْآن

قَالَ وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق من زعم أَن الله فِي شئ أَو من شئ أَو على شئ فقد أشرك إِذْ لَو كَانَ على شئ لَكَانَ مَحْمُولا أَو كَانَ فِي شئ لَكَانَ محصورا أَو كَانَ من شئ لَكَانَ مُحدثا

ص: 190

قَالَ وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق فِي قَوْله ثمَّ دنا فَتَدَلَّى [سُورَة النَّجْم 8] من تودهم أَنه بِنَفسِهِ دنا جعل ثمَّ مسافلة وانما تدنى أَنه كلما قرب مِنْهُ بعده عَن أَنْوَاع المعارف إِذْ لَا دنو وَلَا بعد

قلت هَذَا الْكَلَام وأشباهه مِمَّا اتّفق أهل الْمعرفَة على أَنه مَكْذُوب على جَعْفَر مثل كثير من الإشارات الَّتِي ذكرهَا عَنهُ أَبُو عبد الرَّحْمَن فِي حقائق التَّفْسِير وَالْكذب على جَعْفَر كثير منتشر وَالَّذِي نَقله الْعلمَاء الثِّقَات عَنهُ مَعْرُوف يُخَالف رِوَايَة المفترين عَلَيْهِ

قَالَ وَرَأَيْت بِخَط الاستاذ أبي على أَنه قيل لصوفي أَيْن الله فَقَالَ أسحقك الله تطلب مَعَ الْعين أثرا

قلت هَذَا كَلَام مُجمل قد يَعْنِي بِهِ الصّديق معنى صَحِيحا وَيَعْنِي بِهِ الزنديق معنى فَاسِدا فَإِن السَّائِل أَيْن الله قد يكون سُؤَاله عَن شكّ عَن معرفَة مَا يسْتَحقّهُ الله من الْعُلُوّ وَقد يكون الاستعلام

ص: 191

عَن حَال الْمَسْئُول كَمَا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْجَارِيَة أَيْن الله فَالَّذِي سَأَلَ الصُّوفِي أَيْن الله إِن كَانَ شاكا فِي نعت ربه أَو جَاهِلا بِحَال الْمَسْئُول فَهُوَ نَاقص فَيحْتَمل أَن الصُّوفِي كَانَ عَارِفًا بِاللَّه وَقد عاين السَّائِل من حَاله مَا عرف بِهِ صدقه فَقَالَ سؤالك سُؤال من يُرِيد أَن يسْتَدلّ بالأثر على حَال وَأَنت قد عَايَنت مَا يُغْنِيك عَن ذَلِك فَقَالَ أتطلب مَعَ الْعين أثرا أَو هدى

كَمَا أَن المعروفين بِالْإِيمَان من الصَّحَابَة لم يكن النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول لأَحَدهم أَيْن الله وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لمن شكّ فِي إيمَانه كالجارية وَهَذَا كَمَا يذكر فِي حِكَايَة أُخْرَى أَن بَعضهم لقى شخصا فَقَالَ أَيْن رَبك فَقَالَ لَا تقل أَيْن رَبك وَلَكِن قل أَيْن مَحل الْإِيمَان من قَلْبك أَي ان مثلى لَا يُقَال لَهُ أَيْن رَبك وَإِنَّمَا أسأَل عَمَّا يَلِيق بمثلي أَن يسْأَل عَنهُ

بل كَمَا فِي الْحِكَايَة الْمَعْرُوفَة عَن يزِيد بن هَارُون الوَاسِطِيّ وَنَحْوهَا أَيْضا لِأَحْمَد بن حَنْبَل أَن مُنْكرا أَو نكيرا لما أَتَيَاهُ وسألاه من رَبك وَمَا دينك وَمن نبيك فَقَالَ أتقولان لي هَذَا وَأَنا يزِيد بن هَارُون الوَاسِطِيّ أعلم النَّاس السّنة سِتِّينَ سنة فَقَالَا اعذرنا فَإنَّا بِهَذَا أمرنَا وانصرفا وتركاه

وَظَاهر الْأَمر فِي حَال الصُّوفِي الَّذِي ذكره الْأُسْتَاذ أبي على أَنه قصد هَذَا لِأَنَّهُ قَالَ للسَّائِل أسحقك الله أتطلب مَعَ الْعين اثرا وَهَذَا

ص: 192

الْعين الَّذِي أغناه عَن الْأَثر إِمَّا أَن يكون فِي مَعْرفَته بربه أَو مَعْرفَته بِحَال الْمَسْئُول فَلَو كَانَ الأول لم يَك جَاهِلا فَيسْأَل أَيْن الله وَلم يجب عَلَيْهِ الصُّوفِي حَتَّى يَقُول لَهُ أسحقك الله فَعلم أَنه كَانَ عَارِفًا بِحَال الصُّوفِي وَطلب مِنْهُ زِيَادَة امتحان لَهُ عَن مَعْرفَته بربه فَقَالَ أتطلب مَعَ الْعين أثرا

وَأما الْعين الَّذِي يعنيه الزنديق فَأن يكون من أهل الِاتِّحَاد الْمعِين فيعتقد أَنه عاين الله بِعَين بَصَره فِي الدُّنْيَا فَيَقُول أتطلب مَعَ الْعين أثرا

أَو يعْتَقد أَن الْوُجُود المعاين هُوَ عين وجود الْحق كَمَا تَقوله الاتحادية أهل الِاتِّحَاد الْمُطلق أَو نَحْو ذَلِك من مقالات الزَّنَادِقَة الْمُنَافِقين

وَلَكِن ظَاهر الْحِكَايَة لَا يُوَافق هَذَا فَإِنَّهُ عِنْد هَؤُلَاءِ الْعين والأثر وَاحِد والصوفي قَالَ أتطلب مَعَ الْعين أثرا وَهَذَا يَقْتَضِي أَن السَّائِل بأين يَصح مِنْهُ طلب الْأَثر بعد الْعين

وَلَيْسَ فِي الْحِكَايَة مَقْصُود لأبي الْقَاسِم من نفى كَون الله على الْعَرْش وَلَا يَقُول ابو الْقَاسِم بِأَن الْعَارِف حصل لَهُ فِي الدُّنْيَا من مُعَاينَة الله تَعَالَى مَا يُغْنِيه عَن الْأَثر

ص: 193

قَالَ ابو الْقَاسِم حَدثنَا الشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس بن الخشاب الْبَغْدَادِيّ سَمِعت أَبَا الْقَاسِم بن مُوسَى سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد سَمِعت الانصاري سَمِعت الخراز يَقُول حَقِيقَة الْقرب فقد حسن الْأَشْيَاء من الْقلب وهدوء الضَّمِير إِلَى الله

قلت هَذِه الْحِكَايَة فِي إسنادها من لَا يعرف حَاله وَإِن صَحَّ هَذَا الْكَلَام عَن أبي سعيد الخراز فَلَيْسَ مَقْصُوده أَن الْقرب من الله لَيْسَ إِلَّا مُجَرّد ذَلِك وَلَكِن أَرَادَ أَن هَذَا هُوَ الَّذِي يُحَقّق الْقرب وَحَقِيقَة الشئ عِنْدهم مَا يحققه فَيكون عِلّة لوُجُوده ودليلا على صِحَّته

كَمَا يروون فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر مُرْسلا وروى مُسْندًا من وَجه ضَعِيف لَا يثبت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لحارثة ابْن سراقَة كَيفَ أَصبَحت يَا حَارِثَة قَالَ أَصبَحت مُؤمنا حَقًا قَالَ فَمَا حَقِيقَة أيمانك فَقَالَ عزفت نَفسِي عَن الدُّنْيَا فآستوى عِنْدِي حجرها وذهبها وَكَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا وَكَأَنِّي أنظر إِلَى أهل الْجنَّة يتمتعون فِيهَا وَإِلَى أهل النَّار يُعَذبُونَ فِيهَا فَقَالَ

ص: 194

عرفت فألزم عبد نور الله قلبه

فَقَوْلهم فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي يَرْوُونَهُ مَا حَقِيقَة إيمانك أَي مَا يحققه ويصدقه فَذكر مَا يصدقهُ ويحققه من الْيَقِين والزهد كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث نجا أول هَذِه الْأمة بِالْيَقِينِ والزهد

فَقَوْل أبي سعيد حَقِيقَة الْقرب أَي الَّذِي يحققه هُوَ خلو الْقلب مِمَّا سوى الله وسكونه إِلَى الله وَهَذَا تَحْقِيق الْإِخْلَاص والتوحيد الَّذِي من حَقَّقَهُ كَانَ أقرب الْخلق إِلَى الله وَهُوَ تَحْقِيق كلمة الْإِخْلَاص لَا إِلَه إِلَّا الله وَهَذَا على دَرَجَتَيْنِ فَأهل الفناء يفقدون إِدْرَاك الْأَشْيَاء ومعرفتها مصطلمين فِي ذكر الله وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم وَهُوَ سُبْحَانَهُ شهد وحدانيتهم فِي الإلهيته متضمنه شَهَادَته لجَمِيع خلقه فَإِنَّهُ شَهِيد عليم لَيْسَ عَن الْمَخْلُوقَات بغائب فأولو الْعلم

ص: 195

الشاهدون أَلا إِلَه إِلَّا هُوَ إِذا لم يكن فيهم عجز يُوجب الفناء يُعْطون من الْقُوَّة على مَا يشْهدُونَ بِهِ الْأَمر وَتلك شَهَادَة كَامِلَة أكمل من شَهَادَة اهل الفناء فيفقدون تأله قُلُوبهم للأشياء ووجدهم وطمأنينتهم إِلَيْهَا معتاضين بتأله قُلُوبهم لله ووجدهم بِهِ وطمأنينة قُلُوبهم بِذكرِهِ لَا يفقدون الشَّهَادَة الَّتِي تزيد فِي علمهمْ وَإِيمَانهمْ من شُهُود الربوبية المحيطة جملَة وتفصيلا والإلهية الْوَاجِبَة جملَة وتفصيلا وَمَا يدْخل فِي ذَلِك من أَصْنَاف الْمَخْلُوقَات والمأمورات

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن سَمِعت مُحَمَّد بن عَليّ الْحَافِظ سَمِعت ابا معَاذ الْقزْوِينِي سَمِعت أَبَا عَليّ الدَّلال سَمِعت أَبَا عبد الله بن قهرمان سَمِعت إِبْرَاهِيم الْخَواص يَقُول انْتَهَيْت إِلَى رجل وَقد صرعه الشَّيْطَان فَجعلت أؤذن فِي أُذُنه فناداني الشَّيْطَان من جَوْفه دَعْنِي أَقتلهُ فَإِنَّهُ يَقُول الْقُرْآن مَخْلُوق

قلت هَذِه الْحِكَايَة مُوَافقَة لأصول السّنة وَقد ذكرُوا نَحْوهَا حكايات وَاعْترض فِي ذَلِك الْغَزالِيّ وَغَيره بِأَن هَذَا الِاسْتِدْلَال

ص: 196

بِكَلَام الشَّيَاطِين فِي أصُول الدّين وَذكر عَن الإِمَام أَحْمد فِي ذَلِك حِكَايَة بَاطِلَة ذكرهَا فِي المنخول فَقَالَ رب رجل يعْتَقد الشئ دَلِيلا وَلَيْسَ بِدَلِيل كَمَا يذكر

وَجَوَاب هَذَا أَن الْجِنّ فيهم الْمُؤمن وَالْكَافِر كَمَا دلّ على ذَلِك الْقُرْآن وَيعرف ذَلِك بِحَال المصروع وَيعرف بِأَسْبَاب قد يقْضِي بهَا أهل الْمعرفَة فَإِذا عرف ان الجني من أهل الْإِيمَان كَانَ هَذَا مثل مَا قصه الله فِي الْقُرْآن من إِيمَان الْجِنّ بِالْقُرْآنِ وكما فِي السِّيرَة من أَخْبَار الهواتف

وَإِبْرَاهِيم الْخَواص من أكبر الرِّجَال الَّذين لَهُم خوارق فَلهُ علمه بِأَن هَذَا الجني من الْمُؤمنِينَ لما ذكر هَذِه الْحِكَايَة على سَبِيل الذَّم لمن يَقُول بِخلق الْقُرْآن

ص: 197