المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في محبة الجمال - الاستقامة - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصل الرأى الْمُحدث فِي الْأُصُول وَهُوَ الْكَلَام الْمُحدث وَفِي الْفُرُوع وَهُوَ الرأى

- ‌فصل فِيمَا اخْتلف فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ من الْأَقْوَال والافعال فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع

- ‌فصل مُهِمّ عَظِيم الْقدر فِي هَذَا الْبَاب وَذَلِكَ أَن طوائف كَبِيرَة من أهل

- ‌فصل وَكَذَلِكَ لفظ الْحَرَكَة أثْبته طوائف من أهل السّنة والْحَدِيث وَهُوَ الَّذِي ذكره

- ‌فصل وَقد اعْترف أَكثر أَئِمَّة أهل الْكَلَام والفلسفة من الْأَوَّلين والآخرين بِأَن

- ‌فصل فِيمَا ذكره الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم القشيرى فِي رسَالَته الْمَشْهُورَة من اعْتِقَاد

- ‌فصل قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقَالَ ابْن عَطاء لما خلق الله الأحرف جعلهَا سرا فَلَمَّا

- ‌فصل فِي الحَدِيث الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جوَيْرِية أم الْمُؤمنِينَ لما خرج النَّبِي

- ‌فصل يتَعَلَّق بِالسَّمَاعِ قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي بَاب السماع قَالَ الله

- ‌فصل فِي محبَّة الْجمال

الفصل: ‌فصل في محبة الجمال

‌فصل فِي محبَّة الْجمال

ثَبت فِي صَحِيح مُسلم عَن عبد الله بن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَا يدْخل النَّار أحد فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة خَرْدَل من إِيمَان وَلَا يدْخل الْجنَّة أحد فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة خَرْدَل من كبر

وَفِي

رِوَايَة لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر فَقَالَ رجل إِن الرجل يحب أَن يكون ثَوْبه حسنا وَنَعله حسنا فَقَالَ إِن الله جميل يحب الْجمال الْكبر بطر الْحق وغمط النَّاس

فَقَوله إِن الله جميل يحب الْجمال قد أدرج فِيهِ حسن الثِّيَاب الَّتِي هِيَ الْمَسْئُول عَنْهَا فَعلم أَن الله يحب الْجمال والجميل من اللبَاس وَيدخل فِي عُمُومه وبطريق الفحوي الْجَمِيل من كل شئ هَذَا كَقَوْلِه فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ إِن الله نظيف يحب النَّظَافَة

ص: 422

وَقد ثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ إِن الله طيب يحب الأطيباء وَهَذَا مِمَّا يسْتَدلّ بِهِ على التجمل فِي الْجمع والأعياد كَمَا فِي الصَّحِيح أَن عمر بن الْخطاب رأى حلَّة تبَاع فِي السُّوق فَقَالَ يَا رَسُول الله لَو اشْتريت هَذِه تلبسها فَقَالَ إِنَّمَا يلبس هَذِه من لَا خلاق لَهُ فِي الْآخِرَة

وَهَذَا يُوَافقهُ فِي حسن الثِّيَاب مَا فِي السّنَن عَن ابي الْأَحْوَص الْجُشَمِي قَالَ رَآنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم وعَلى أطمار فَقَالَ هَل لَك من مَال قلت نعم قَالَ من أَي المَال قلت من كل مَا

ص: 423

أَتَى الله من الْإِبِل وَالشَّاء قَالَ فلتر نعْمَة الله وكرامته عَلَيْك

وَفِي السّنَن أَيْضا عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله يحب أَن يرى أثر نعْمَته على عَبده لَكِن هَذَا الظُّهُور لنعمة الله وَمَا فِي ذَلِك من شكره وَالله يحب أَن يشْكر وَذَلِكَ لمحبته الْجمال

وَهَذَا الحَدِيث قد ضل قوم بِمَا تأولوه عَلَيْهِ وَآخَرُونَ رَأَوْهُ مُعَارضا لغيره من النُّصُوص وَلم يهتدوا للْجمع

فالاولون قد يَقُولُونَ كل مَصْنُوع الرب جميل لقَوْله الَّذِي أحسن كل شئ خلقه [سُورَة السَّجْدَة 7] فَنحب كل شئ وَقد يستدلون بقول بعض الْمَشَايِخ الْمحبَّة نَار تحرق فِي الْقلب كل مَا سوى مُرَاد المحبوب والمخلوقات كلهَا مُرَاده وَهُوَ لَا يَقُوله قَائِلهمْ فَصرحَ بِإِطْلَاق الْجمال وَأَقل مَا يُصِيب هَؤُلَاءِ أَنهم يتركون الْغيرَة لله وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والبغض فِي الله وَالْجهَاد فِي سَبيله وَإِقَامَة حُدُوده

ص: 424

وهم فِي ذَلِك متناقضون إِذْ لَا يتمكنون من الرِّضَا بِكُل مَوْجُود فَإِن الْمُنْكَرَات هِيَ أُمُور مضرَّة لَهُم ولغيرهم وَيبقى أحدهم مَعَ طبعة وذوقه وهواه يُنكر مَا يكره ذوقه دون مَا لَا يكره ذوقه وينسلخون عَن دين الله وَرُبمَا دخل أحدهم فِي الِاتِّحَاد والحلول الْمُطلق وَمِنْهُم من يحض الْحُلُول أَو الِاتِّحَاد بِبَعْض الْمَخْلُوقَات كالمسيح أَو عَليّ بن أبي طَالب أَو غَيرهمَا من الْمَشَايِخ والملوك والمردان فَيَقُولُونَ بحلوله فِي الصُّور الجميلة ويعبدونها

وَمِنْهُم من لَا يرى ذَلِك لَكِن يتدين يحب الصُّور الجميلة من النِّسَاء الْأَجَانِب والمردان وَغير ذَلِك وَيرى هَذَا من الْجمال الَّذِي يُحِبهُ الله وَيُحِبهُ هُوَ ويلبس الْمحبَّة الطبيعية الْمُحرمَة بالمحبة الدِّينِيَّة وَيجْعَل مَا حرمه الله مِمَّا يقرب إِلَيْهِ {وَإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء} [سُورَة الْأَعْرَاف 28]

وَالْآخرُونَ قَالُوا ثَبت فِي صَحِيح مُسلم عَن ابي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِن الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَإِنَّمَا ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ وَمَعْلُوم أَنه لم ينف نظر الْإِدْرَاك لَكِن نظر الْمحبَّة

ص: 425

وَقد قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين {وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم وَإِن يَقُولُوا تسمع لقَولهم كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة} [سُورَة المُنَافِقُونَ 4]

وَقَالَ تَعَالَى {وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} [سُورَة مَرْيَم 74] والأثاث المَال من اللبَاس وَنَحْوه والرئي المنطر فَأخْبر ان الَّذين أهلكهم قبلهم كَانُوا أحسن صورا وأموالا لنتبين أَن ذَلِك لَا ينفع عِنْده وَلَا يعبأ بِهِ

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا فضل لعربي على عجمي وَلَا لأبيض على أسود إِلَّا بالتقوى

وَفِي السّنَن عَنهُ أَنه قَالَ البذاذة من الايمان

وَأَيْضًا فقد حرم علينا من لِبَاس الْحَرِير وَالذَّهَب وآنية الذَّهَب وَالْفِضَّة مَا هُوَ أعظم الْجمال فِي الدُّنْيَا وَحرم الله الْفَخر وَالْخُيَلَاء واللباس الَّذِي فِيهِ الْفَخر وَالْخُيَلَاء كإطالة الثِّيَاب

ص: 426

حَتَّى ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا ينظر الله يَوْم الْقِيَامَة إِلَى من جر إزَاره بطرا

وَفِي الصَّحِيح عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ من جر ثَوْبه خُيَلَاء لم ينظر الله إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة

وَفِي الصَّحِيح أَيْضا قَالَ بَيْنَمَا رجل يجر أزاره من الْخُيَلَاء خسف بِهِ فَهُوَ يتجلجل فِي الأَرْض إِلَى يَوْم الْقِيَامَة

وَقد قَالَ تَعَالَى فِي حق قَارون {فَخرج على قومه فِي زينته} [سُورَة الْقَصَص 79] قَالُوا ثِيَاب الأرجوان

وَلِهَذَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ رَآنِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعَلى ثَوْبَيْنِ معصفرين فَقَالَ إِن هَذِه من ثِيَاب

ص: 427

الْكفَّار فَلَا تلبسها قلت أغسلهما قَالَ احرقهما

وَلِهَذَا كره الْعلمَاء الْمُحَقِّقُونَ الْأَحْمَر المشبع حمرَة كَمَا جَاءَ النَّهْي عَن الميثرة الْحَمْرَاء وَقَالَ عمر بن الْخطاب دعوا هَذِه الرَّايَات للنِّسَاء وَقد بسطنا القَوْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي موضعهَا

وَأَيْضًا فقد قَالَ الله تَعَالَى {قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم} إِلَى قَوْله وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤمنِينَ [سُورَة النُّور 30 31]

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن ابي هُرَيْرَة العينان تزينان وزناهما النّظر

وَفِي الصَّحِيح عَن جرير بن عبد الله قَالَ سَأَلت النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن نظر الْفجأَة فَقَالَ اصرف بَصرك

ص: 428

وَفِي السّنَن أَنه قَالَ لعَلي يَا عَليّ لَا تتبع النظرة النظرة فَإِنَّمَا لَك الأولى وَلَيْسَت لَك الْآخِرَة

وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم زهرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا لنفتنهم فِيهِ ورزق رَبك خير وَأبقى} [سُورَة طه 131]

وَقَالَ وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ ازواجنا مِنْهُم وَلَا تحزن عَلَيْهِم واخفض جناحك للْمُؤْمِنين [سُورَة الْحجر 88] وَقَالَ {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين والقناطير المقنطرة من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْخَيْل المسومة والأنعام والحرث ذَلِك مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالله عِنْده حسن المآب قل أؤنبئكم بِخَير من ذَلِكُم للَّذين اتَّقوا عِنْد رَبهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَأَزْوَاج مطهرة ورضوان من الله وَالله بَصِير بالعباد} [سُورَة آل عمرَان 13 15]

وَقد قَالَ مَعَ ذمه لمذامه من هَذِه الزِّينَة {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} [سُورَة الْأَعْرَاف 32]

ص: 429

فَنَقُول أعلم أَن مَا يصفه بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من محبَّة الْأَجْنَاس المحبوبة من الْأَعْيَان وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال وَمَا يبغضه من ذَلِك هُوَ مثل مَا يَأْمر بِهِ من الْأَفْعَال وَينْهى عَنهُ من ذَلِك فَإِن الْحبّ والبغض هما أصل الامر والنهى وَذَلِكَ نَظِير مَا يعده على الاعمال الْحَسَنَة من الثَّوَاب ويتوعد بِهِ على الْأَعْمَال السَّيئَة من الْعقَاب

فَأمره وَنَهْيه ووعده وحبه وبغضه وثوابه وعقابه كل ذَلِك من جنس وَاحِد والنصوص النَّبَوِيَّة تَأتي مُطلقَة عَامَّة من الْجَانِبَيْنِ فتتعارض فِي بعض الْأَعْيَان وَالْأَفْعَال الَّتِي تندرج فِي نُصُوص الْمَدْح والذم وَالْحب والبغض وَالْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد وَقد بسطنا الْكَلَام على مَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الْقَاعِدَة فِي غير مَوضِع لتعلقها بأصول الدّين وفروعه

فَإِن من أكبر الْمسَائِل الَّتِي تتبعها مَسْأَلَة الْأَسْمَاء وَالْأَحْكَام فِي فساق اهل الْملَّة وَهل يجْتَمع فِي حق الشَّخْص الْوَاحِد الثَّوَاب وَالْعِقَاب كَمَا يَقُوله أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أم لَا يجْتَمع ذَلِك وَهل يكون الشئ الْوَاحِد محبوبا من وَجه مبغوضا من وَجه مَحْمُودًا من وَجه مذموما من وَجه كَمَا يَقُوله جُمْهُور الْخَوَارِج والمعتزلة وَهل يكون الْفِعْل الْوَاحِد مَأْمُورا بِهِ من وَجه مَنْهِيّا عَنهُ من وَجه

وَقد تنَازع فِي ذَلِك أهل الْعلم من الْفُقَهَاء والمتكلمين وَغَيرهم

ص: 430

والتعارض بَين النُّصُوص إِنَّمَا هُوَ لتعارض المتعارض الْمُقْتَضى للحمد والذم من الصِّفَات الْقَائِمَة بِذَاتِهِ تَعَالَى وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْجِنْس مُوجبا للكفر أَو الْفِتْنَة فَأول مَسْأَلَة فرقت بَين الْأمة مَسْأَلَة الْفَاسِق الملي فأدرجته الخوراج فِي نُصُوص الْوَعيد وَالْخُلُود فِي النَّار وحكموا بِكُفْرِهِ ووافقتهم الْمُعْتَزلَة على دُخُوله فِي نُصُوص الْوَعيد وخلوده فِي النَّار لَكِن لم يحكموا بِكُفْرِهِ فَلَو كَانَ الشئ خيرا مَحْضا لم يُوجب فرقة وَلَو كَانَ شرا مَحْضا لم يخف أمره لَكِن لِاجْتِمَاع الْأَمريْنِ فِيهِ أوجب الْفِتْنَة

وَكَذَلِكَ مسالة الْقدر الَّتِي هِيَ من جملَة فروع هَذَا الأَصْل فَإِنَّهُ اجْتمع فِي الْأَفْعَال الْوَاقِعَة الَّتِي نهى الله عَنْهَا أَنَّهَا مُرَادة لَهُ لكَونهَا من الموجودات وَأَنَّهَا غير محبوبة لَهُ وَلَا مرضية بل ممقوتة مبغوضة لكَونهَا من المنهيات

فَقَالَ طوائف من اهل الْكَلَام الْإِرَادَة والمحبة وَالرِّضَا وَاحِدَة أَو متلازمة ثمَّ قَالَت الْقَدَرِيَّة وَالله لم يحب هَذِه الافعال وَلم يرضها فَلم يردهَا فأثبتوا وجود الكائنات بِدُونِ مَشِيئَة

ص: 431

وَلِهَذَا لما قَالَ غيلَان القدري لِرَبِيعَة بن عبد الرَّحْمَن يَا ربيعَة نشدتك بِاللَّه أَتَرَى الله يحب أَن يعْصى فَقَالَ لَهُ ربيعَة أفترى الله يعْصى قسرا فَكَأَنَّهُ ألقمه حجرا يَقُول لَهُ نزهته عَن محبَّة الْمعاصِي فسلبته الْإِرَادَة وَالْقُدْرَة وَجَعَلته مقهورا مقسورا

وَقَالَ من عَارض الْقَدَرِيَّة بل كل مَا أَرَادَهُ فقد أحبه ورضيه ولزمهم ان يكون الْكفْر والفسوق والعصيان محبوبا لله مرضيا

وَقَالُوا أَيْضا يَأْمر بِمَا لَا يُريدهُ وكل ماأمر بِهِ من الْحَسَنَات فَإِنَّهُ لم يردهُ وَرُبمَا قَالُوا وَلم يُحِبهُ وَلم يرضه إِلَّا إِذا وجد وَلَكِن أَمر بِهِ وَطَلَبه

فَقيل لَهُم هَل يكون طلب وَإِرَادَة واستدعاء بِلَا إِرَادَة وَلَا محبَّة وَلَا رضَا هَذَا جمع بَين النقيضين فتحيروا

فَأُولَئِك سلبوا الرب خلقه وَقدرته وإرادته وَهَؤُلَاء سلبوا محبته وَرضَاهُ وإرادته الدِّينِيَّة وَمَا يَصْحَبهُ أمره وَنَهْيه من ذَلِك فَكَمَا أَن الْأَوَّلين لم يثبتوا أَن الشَّخْص الْوَاحِد يكون مثابا معاقبا بل إِمَّا مثاب وَإِمَّا معاقبه فَهَؤُلَاءِ لم يبينوا أَن الْفِعْل الْوَاحِد يكون مرَادا من وَجه دون وَجه مرَادا غير مَحْبُوب بل إِمَّا مُرَاد مَحْبُوب وَإِمَّا غير مُرَاد وَلَا مَحْبُوب وَلم يجْعَلُوا الْإِرَادَة إِلَّا نوعا وَاحِدًا وَالتَّحْقِيق أَنه يكون مرَادا غير

ص: 432

مَحْبُوب وَلَا مرضى وَيكون مرَادا من وَجه دون وَجه وَيكون محبوبا مرضيا غير مُرَاد الْوُقُوع

والإرادة نَوْعَانِ إِرَادَة دينية وَهِي الْمُقَارنَة الْأَمر وَالنَّهْي وَالْحب والبغض وَالرِّضَا وَالْغَضَب

وَإِرَادَة كونية وَهِي الْمُقَارنَة للْقَضَاء وَالْقدر والخلق وَالْقُدْرَة

وكما تفَرقُوا فِي صِفَات الْخَالِق تفَرقُوا فِي صِفَات الْمَخْلُوق فَأُولَئِك لم يثبتوا لَهُ إِلَّا قدرَة وَاحِدَة تكون قبل الْفِعْل وَهَؤُلَاء لم يثبتوا لَهُ إِلَّا قدرَة وَاحِدَة تكون مَعَ الْفِعْل

أُولَئِكَ نفوا الْقُدْرَة الكونية الَّتِي بهَا يكون الْفِعْل وَهَؤُلَاء نفوا الْقُدْرَة الدِّينِيَّة الَّتِي بهَا يَأْمر الله العَبْد وينهاه

وَهَذَا من أصُول تفرقهم فِي مَسْأَلَة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وانقسموا إِلَى قدرية مَجُوسِيَّة تثبت الْأَمر وَالنَّهْي وتنفى الْقَضَاء وَالْقدر وَإِلَى قدرية مشركية شَرّ مِنْهُم تثبت الْقَضَاء وَالْقدر وَتكذب بِالْأَمر وَالنَّهْي أَو بِبَعْض ذَلِك

وَإِلَى قدرية إبليسية تصدق بالأمرين لَكِن ترى ذَلِك تناقضا مُخَالف للحق وَالْحكمَة

وَهَذَا شَأْن عَامَّة مَا تتعارض فِيهِ الْأَسْبَاب والدلائل تَجِد فريقا يَقُولُونَ بِهَذَا دون هَذَا وفريقا بِالْعَكْسِ وفريقا رَأَوْا الْأَمريْنِ واعتقدوا

ص: 433

تناقضهما فصاروا متحيرين أَو معرضين عَن التَّصْدِيق بهما جَمِيعًا أَو متناقضين مَعَ هَذَا تَارَة وَمَعَ هَذَا تَارَة

وَهَذَا تَجدهُ فِي مسَائِل الْكَلَام والاعتقادات ومسائل الْإِرَادَة والعبادات كَمَسْأَلَة السماع الصوتي وَمَسْأَلَة الْكَلَام ومسأئل الصِّفَات وَكَلَام الله وَغير ذَلِك من الْمسَائِل

وجماع القَوْل فِي ذَلِك أَن كل أَمريْن تَعَارضا فَلَا بُد أَن يكون أَحدهمَا راجحا أَو يَكُونَا متكافئين فَيحكم بَينهمَا بِحَسب الرجحان ويحسب التكافؤ فالعملان والعاملان إِذا امتاز كل مِنْهُمَا بِصِفَات فَإِن ترجح أَحدهمَا فَهُوَ الرَّاجِح وَإِن تكافئا سوى بَينهمَا فِي الْفضل والدرجة وَكَذَلِكَ أَسبَاب الْمصَالح والمفاسد وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّة بِأَنَّهُ يعْطى كل دَلِيل حَقه وَلَا يجوز أَن تَتَكَافَأ الْأَدِلَّة فِي نفس الْأَمر عِنْد الْجُمْهُور لَكِن تَتَكَافَأ فِي نظر النَّاظر وَأما كَون الشئ الْوَاحِد من الْوَجْه الْوَاحِد ثَابتا منتفيا فَهَذَا لَا يَقُوله عَاقل

وأصل هَذَا كُله الْعدْل بالتسوية بَين المتماثلين فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ} [سُورَة الْحَدِيد 25] وَقد بسطنا القَوْل فِي ذَلِك وَبينا أَن الْعدْل جماع الدّين وَالْحق وَالْخَيْر كُله فِي غير مَوضِع

وَالْعدْل الْحَقِيقِيّ قد يكون متعذرا إِمَّا عمله وَإِمَّا الْعَمَل بِهِ

ص: 434

لَكِن التَّمَاثُل من كل وَجه غير مُمكن أَو غير مَعْلُوم فَيكون الْوَاجِب فِي مثل ذَلِك مَا كَانَ أشبه بِالْعَدْلِ وَأقرب إِلَيْهِ وَهِي الطَّرِيقَة المثلى

وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا} [سُورَة الْأَنْعَام 152]

وعَلى هَذَا فَالْحق الْمَوْجُود وَهُوَ الثَّابِت الَّذِي يُقَابله الْمَنْفِيّ وَالْحق الْمَقْصُود وَهُوَ الْمَأْمُور بِهِ المحبوب الَّذِي يُقَابله المنهى عَنهُ المبغوض ثَلَاثَة أَقسَام

فَإِنَّهَا فِي الْحق الْمَقْصُود إِمَّا أَمر ترجحت الْمصلحَة المحبوبة فِيهِ وَهَذَا يُؤمر بِهِ

وَإِمَّا أَمر ترجحت فِيهِ الْمفْسدَة الْمَكْرُوهَة فَهَذَا ينْهَى عَنهُ

وَإِمَّا أَمر اسْتَوَى فِيهِ هَذَا وَهَذَا فَهَذَا لَا يُؤمر بِهِ وَلَا ينْهَى عَنهُ وَلَا يتَرَجَّح فِيهِ الْحبّ وَلَا يتَرَجَّح فِيهِ البغض بل يكون عفوا

وَمَا دون هَذَا إِن كَانَ مثل هَذَا مَوْجُودا فَإِن النَّاس يتنازعون فِي وجوده فَقيل هُوَ مَوْجُود وَقيل بل هُوَ يقدر فِي

ص: 435

الْفِعْل لَا وجود لَهُ بل لَا بُد من الرجحان كَمَا قيل مثل ذَلِك فِي تكافؤ الْأَدِلَّة

وعَلى هَذَا فَالْأَمْر الَّذِي ترجحت فِيهِ الْمصلحَة وَأمر بِهِ غلب فِيهِ جَانب الْمحبَّة مَعَ أَن الَّذِي فِيهِ الْمفْسدَة مبغض لكنه مُرَاد فَهُوَ مُرَاد بغيض وَالْأَمر الَّذِي ترجح فِيهِ جَانب الْمصلحَة مَحْبُوب لكنه مُرَاد التّرْك مَحْبُوب فَهُوَ مَحْبُوب فِي نَفسه لَكِن لملازمته لما هُوَ بغيض وَجب أَن يُرَاد تَركه تبعا لكَرَاهَة لَازِمَة فَإِنَّهُ بغض اللَّازِم وَنفى الْمَلْزُوم

فحاصله أَن المُرَاد إِرَادَة جازمة هُوَ أحد الْأَمريْنِ إِمَّا الْفِعْل وَإِمَّا التّرْك وَالْأول هُوَ الْمَأْمُور بِهِ وَالثَّانِي هُوَ المنهى عَنهُ لَكِن مَعَ هَذَا فقد يشْتَمل الْمَفْعُول على بغيض مُحْتَمل ويشتمل الْمَتْرُوك على حبيب مرفوض فَهَذَا أصل نَافِع

فَهَذَا فِي الْفِعْل الْوَاحِد وَأما الْفَاعِل الْوَاحِد الَّذِي يعْمل الْحَسَنَة والسيئة مَعًا وَهُوَ وَإِن كَانَ التَّفْرِيق بَينهمَا مُمكنا لكنه هُوَ يعملهما جَمِيعًا أَو يتركهما جَمِيعًا لكَون محبته لأَحَدهمَا مستلزمة لمحبته للاخرى وبغضه لأَحَدهمَا مستلزما لبغضه لِلْأُخْرَى فَصَارَ لَا يُؤمر إِلَّا بالْحسنِ من الْفِعْلَيْنِ وَلَا ينْهَى إِلَّا عَن السئ مِنْهُمَا وَإِن لزم ترك الْحَسَنَة لَا يَنْبَغِي أَن يَأْمُرهُ فِي مثل هَذَا بِالْحَسَنَة المرجوحة فَإِنَّهُ يكون أمرا بِالسَّيِّئَةِ وَلَا ينهاه

ص: 436

عَن السَّيئَة المرجوحة فَإِنَّهُ يكون نهيأ عَن الْحَسَنَة الراجحة وَهَكَذَا الْمعِين يعين على الْحَسَنَة الراجحة وعَلى ترك السَّيئَة المرجوحة

وَهَذَا أصل عَظِيم تدخل فِيهِ أمورا عَظِيمَة مثل الطَّاعَة لأئمة الْجور وَترك الْخُرُوج عَلَيْهِم وَغير ذَلِك من الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة وَهَكَذَا حكم الطَّائِفَة الْمُشْتَملَة أفعالها على حَسَنَات وسيئات بِمَنْزِلَة الْفَاعِل فِي ذَلِك وَبِمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْفِعْل الْوَاحِد وَالْفَاعِل الْوَاحِد تظهر أُمُور كَثِيرَة إِمَّا الْحق الْمَوْجُود وَإِمَّا أَن يكون الشئ فِي نَفسه ثَابتا ومنتفيا لَكِن كثيرا مَا تحصل الْمُقَابلَة بَين إِثْبَات عَام وَنفي عَام وَيكون الْحق فِي التَّفْصِيل وَهُوَ ثُبُوت بعض ذَلِك الْعَام وَانْتِفَاء بعضه وَهَذَا هُوَ الْغَالِب على الْمسَائِل الْكِبَار الَّتِي يتنازع فِيهَا أحزاب الْكَلَام والفلسفة وَنَحْوهم

وَالدَّلِيل إِمَّا أَن يكون دَلِيلا مَعْلُوما فَهَذَا لَا يكون إِلَّا حَقًا لَكِن كثيرا مَا يظنّ الْإِنْسَان أَن الشئ مَعْلُوم وَلَا يكون مَعْلُوما وَحِينَئِذٍ فَإِذا ظن ظان تعَارض الْأَدِلَّة الْمَعْلُومَة كَانَ غالطا فِي تعارضها بل يكون أحد الْأَمريْنِ لَازِما إِمَّا كلهَا أَو بَعْضهَا غير مَعْلُوم وَإِمَّا أَن مُوجب الدَّلِيل حق من غير تعَارض وَإِن ظَنّه الظَّان تَعَارضا فَالْحق الْمَوْجُود لَا ينافى الْحق الْمَوْجُود بل يكون مِنْهُمَا مَوْجُودا بِخِلَاف الْحق الْمَقْصُود فَإِنَّهُ قد

ص: 437

يقْصد الضدان لما فِي كل مِنْهُمَا من الْمصَالح الْمَقْصُودَة لَكِن لَا يُوجد الضدان وَإِن كَانَ الدَّلِيل مغلبا للظن اعْتقد فِيهِ مُوجبه وَإِذا تَعَارَضَت هَذِه الْأَدِلَّة رجح راجحها وَسوى بَين متكافيها

إِذا تقرر ذَلِك فَنَقُول قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن الله جميل يحب الْجمال كَقَوْلِه للَّذي علمه الدُّعَاء اللَّهُمَّ إِنَّك عَفْو تحب الْعَفو فأعف عني وَقَوله تَعَالَى {إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين} [سُورَة الْبَقَرَة 222] وَإِن الله نظيف يحب النَّظَافَة

فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذا كَانَ يحب الْعَفو لم يُوجب هَذَا أَلا يكون فِي بعض أَنْوَاع الْعَفو من الْمعَارض الرَّاجِح مَا يُعَارض مَا فِيهِ من محبَّة الْعَفو وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ يَنْبَغِي أَن يعْفُو عَن كل محرم فَلَا يُعَاقب مُشْركًا وَلَا فَاجِرًا لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة وَهَذَا خلاف الْوَاقِع ولوجب أَن يسْتَحبّ لنا الْعَفو عَن كل كَافِر وَفَاجِر فَلَا نعاقب أحدا على شئ وَهَذَا خلاف مَا أمرنَا بِهِ وَخلاف مَا هُوَ صَلَاح لنا وَنَافِع فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة

وَكَذَلِكَ محبته للمتطهرين ومحبته للنظافة لَا تمنع حُصُول الْمعَارض الرَّاجِح مثل أَن يكون المَاء مُحْتَاجا إِلَيْهِ للعطش فمحبته لسقي العطشان راجحة على محبته للطَّهَارَة والنظافة

ص: 438

وَكَذَلِكَ سَائِر مَا يتزاحم من الْوَاجِبَات والمستحبات فَإِنَّهَا جَمِيعهَا محبوبة لله وَعند التزاحم يقدم أحبها إِلَى الله والتقرب إِلَيْهِ بالفرائض أحب إِلَيْهِ من التَّقَرُّب إِلَيْهِ بالنوافل وَبَعض الْوَاجِبَات والمستحبات إِلَيْهِ من بعض

وَكَذَلِكَ إِذا تعَارض الْمَأْمُور والمحظور فقد تعَارض حَبِيبه وبغيضه فَيقدم أعظمهما فِي ذَلِك فَإِن كَانَ محبته لهَذَا أعظم من بغضه لهَذَا قدم وَإِن كَانَ بغضه لهَذَا أعظم من حبه لهَذَا قدم

كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر قل فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} [سُورَة الْبَقَرَة 219] وعَلى هَذَا اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَة بترجيح خير الخيرين وَدفع شَرّ الشرين وترجيح الرَّاجِح من الْخَيْر وَالشَّر المجتمعين

وَالله سُبْحَانَهُ يحب صِفَات الْكَمَال مثل الْعلم وَالْقُدْرَة وَالرَّحْمَة وَنَحْو ذَلِك فَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف وَفِي كل خير وَفِي الصَّحِيح عَنهُ انه قَالَ لَا يرحم الله من لَا يرحم النَّاس

ص: 439

وَفِي الصَّحِيح أَيْضا عَنهُ إِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء

وَفِي السّنَن حَدِيث ثَابت عَنهُ الراحمون يرحمهم الرَّحْمَن ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء

وَمَعَ هَذَا فقد قَالَ تَعَالَى فِي حد الزَّانِي والزانية {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} [سُورَة النُّور 2]

وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} [سُورَة التَّوْبَة 73]

وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة من رَحْمَة الله بعباده فَإِن الله إِنَّمَا أرسل مُحَمَّدًا رَحْمَة للْعَالمين وَهُوَ سُبْحَانَهُ أرْحم بعباده من الوالدة بِوَلَدِهَا لَكِن قد تكون الرَّحْمَة الْمَطْلُوبَة لَا تحصل إِلَّا بِنَوْع من ألم وَشدَّة تلْحق بعض النُّفُوس كَمَا ورد فِي الْأَثر إِذا قَالُوا للْمَرِيض اللَّهُمَّ ارحمه يَقُول الله كَيفَ أرحمه من شئ بِهِ أرحمه

وَكَذَلِكَ كَون الْفِعْل عفوا وصف يَقْتَضِي محبَّة الله لَهُ فَإِذا عَارضه

ص: 440

مَا هُوَ احب إِلَى الله مِنْهُ اَوْ اشْتَمَل على بغض الله لَهُ أعظم من محبته لذَلِك الْعَفو قدم الرَّاجِح

فكون الشئ جميلا يَقْتَضِي محبَّة الله لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أحسن كل شئ خلقه إِذْ كل مَوْجُود فَلَا بُد فِيهِ من وَجه الْحِكْمَة الَّتِي خلقه الله لَهَا وَمن ذَلِك الْوَجْه يكون حسنا محبوبا وَإِن كَانَ من وَجه آخر يكون مستلزما شَيْئا يُحِبهُ الله ويرضاه أعظم مِمَّا فِيهِ نَفسه من البغض

فَهَذَا مَوْجُود فِينَا فقد يفعل الشَّخْص الْفِعْل كشرب الدَّوَاء الكرية الَّذِي بغضه لَهُ أعظم من حبه لَهُ وَهَذَا لما تضمن مَا هُوَ محبته لَهُ أعظم من بغضه للدواء أَرَادَهُ وشاءه وَفعله فَأَرَادَ بالإرادة الجازمة الْمُقَارنَة للقدرة فعلا فِيهِ مِمَّا يبغضه أَكثر مِمَّا يُحِبهُ لكَونه مستلزما لدفع مَا هُوَ إِلَيْهِ أبْغض ولحصول مَا محبته لَهُ أعظم من بغضه لهَذَا فَإِن بغضه للمرض ومحبته للعافية أعظم من بغضه للدواء

فالأعيان الَّتِي نبغضها كالشياطين والكافرين وَكَذَلِكَ الْأَفْعَال الَّتِي نبغضها من الْكفْر والفسوق والعصيان خلقهَا وَأَرَادَ وجودهَا لما تستلزمه من الْحِكْمَة الَّتِي يُحِبهَا وَلما فِي وجودهَا من دفع مَا هُوَ إِلَيْهِ أبْغض فَهِيَ مُرَادة لَهُ وَهِي مبغضة لَهُ مسخوطة كَمَا بَينا هَذَا فِي غير هَذَا الْموضع

وَأما الْجمال الْخَاص فَهُوَ سُبْحَانَهُ جميل يحب الْجمال وَالْجمال الَّذِي

ص: 441

لِلْخلقِ من الْعلم وَالْإِيمَان وَالتَّقوى أعظم من الْجمال الَّذِي لِلْخلقِ وَهُوَ الصُّورَة الظَّاهِرَة

وَكَذَلِكَ الْجَمِيل من اللبَاس الظَّاهِر فلباس التَّقْوَى أعظم واكمل وَهُوَ يحب الْجمال الَّذِي للباس التَّقْوَى أعظم مِمَّا يحب الْجمال الَّذِي للباس الرياش وَيُحب الْجمال لِلْخلقِ أعظم مِمَّا يحب الْجمال الَّذِي لِلْخلقِ

كَمَا ثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ أكمل الْمُؤمنِينَ إِيمَانًا أحْسنهم خلقا

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن النواس بن سمْعَان قَالَ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن الْبر وَالْإِثْم فَقَالَ الْبر حسن الْخلق وَالْإِثْم مَا حاك فِي نَفسك وكرهت أَن يطلع عَلَيْهِ النَّاس

وَفِي السّنَن عَنهُ انه قَالَ أثقل مَا يوضع فِي الْمِيزَان الْخلق الْحسن

ص: 442

وروى عَنهُ أَنه قَالَ لأم سَلمَة يَا ام سَلمَة ذهب حسن الْخلق بِخَير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة

وَمن الْمَعْلُوم أَن أحب خلقه إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فَإِذا كَانَ أكملهم إِيمَانًا أحْسنهم خلقا كَانَ أعظمهم محبَّة لَهُ أحْسنهم خلقا والخلق الدّين كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} [سُورَة الْقَلَم 4] قَالَ ابْن عَبَّاس على دين عَظِيم وَبِذَلِك فسره سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأحمد بن حَنْبَل وَغَيرهمَا كَمَا قد بَيناهُ فِي غير هَذَا الْموضع

وَهُوَ سُبْحَانَهُ يبغض الْفَوَاحِش وَلَا يُحِبهَا وَلَا يَأْمر بهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء} [سُورَة الْأَعْرَاف 28]

ص: 443

فَإِذا كَانَ الْجمال متضمنا لعدم مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ أَو لوُجُوده مَا هُوَ أبْغض لَهُ لزم من ذَلِك فَوَات مَا فِي الْجمال المحبوب فَإِذا كَانَ فِي جمال الثِّيَاب بطر وفخر وخيلاء وسرف فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يحب كل مختال فخور وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين إِذا أَنْفقُوا لم يُسْرِفُوا وَلم يقترُوا} [سُورَة الْفرْقَان 67] بل هُوَ يبغض البطر الفخور المختال والمسرف وَقَالَ إِن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار [سُورَة غَافِر 43] فَلهَذَا قَالَ ص لَا ينظر الله يَوْم الْقِيَامَة إِلَى من جر أزاره خُيَلَاء وبطرا فَإِنَّهُ ببغضه فَلَا ينظر إِلَيْهِ وَإِن كَانَ فِيهِ جمال فَإِن ذَلِك غرق فِي جَانب مَا يبغضه الله من الْخُيَلَاء والبطر

وَكَذَلِكَ الْحَرِير فِيهِ من السَّرف وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء مَا يبغضه الله وينافي التَّقْوَى الَّتِي هِيَ مَحْبُوب الله كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ أَنه نزع فروج الْحَرِير وَقَالَ لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتقين

ص: 444

وَكَذَلِكَ سَائِر مَا حرمه الله وَكَرِهَهُ مِمَّا فِيهِ جمال فَإِن ذَلِك لاشْتِمَاله على مَكْرُوه ألحق على مَا فِيهِ مِمَّا يبغضه الله أعظم مِمَّا فِيهِ من محبوبه ولتفويته مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ مِنْهُ

وَكَذَلِكَ الصُّور الجميلة من الرِّجَال وَالنِّسَاء فَإِن أحدهم إِذا كَانَ خلقه سَيِّئًا بِأَن يكون فَاجِرًا أَو كَافِرًا مُعْلنا أَو منافقا كَانَ البغض أَو المقت لخلقه وَدينه مستعليا على مَا فِيهِ من الْجمال

كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم [سُورَة المُنَافِقُونَ 4]

وَقَالَ وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا [سُورَة الْبَقَرَة 204] فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا أعجبه صورهم الظَّاهِرَة لِلْبَصَرِ وأقوالهم الظَّاهِرَة للسمع لما فِيهِ من الْأَمر المعجب لَكِن لما كَانَت حقائق أَخْلَاقهم الَّتِي هِيَ أملك بهم مُشْتَمِلَة على مَا هُوَ أبْغض الْأَشْيَاء وأمقتها إِلَيْهِ لم يَنْفَعهُمْ حسن الصُّورَة وَالْكَلَام

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالكُم وَإِنَّمَا ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ

ص: 445

وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ إِذا كَانَ فَاجِرًا فَإِن ذَلِك يفوت حسن الْخلق وَالتَّقوى الَّتِي هِيَ أحب إِلَى الله من ذَلِك وَيُوجب بغض الله للفاحشة ولصاحبها ولسئ الْخلق ومقته وغضبه عَلَيْهِ مَا هُوَ أعظم بِكَثِير مِمَّا فِيهِ من الْجمال الْمُقْتَضى للمحبة

وَكَذَلِكَ الْقُوَّة وَإِن كَانَت من صِفَات الْكَمَال الَّتِي يُحِبهَا الله

فَإِذا كَانَت الْإِعَانَة على الْكفْر والفجور الَّذِي بغض الله لَهُ ومقته عَلَيْهِ وتفويته لما يُحِبهُ من الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح أعظم بِكَثِير من مُجَرّد مَا فِي الْقُوَّة من الامر المحبوب ترجح جَانب البغض بِقدر ذَلِك

فَإِذا كَانَت الْقُوَّة فِي الْإِيمَان كَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف وَمن الْمَعْلُوم أَن الله يحب الْحَسَنَات وَأَهْلهَا وَيبغض السَّيِّئَات وَأَهْلهَا فَهُوَ يحب كل مَا أَمر بِهِ أَمر إِيجَاب أَو أَمر اسْتِحْبَاب وكل مَا حَمده وَأثْنى عَلَيْهِ من الصِّفَات مثل الْعلم وَالْإِيمَان والصدق وَالْعدْل وَالتَّقوى وَالْإِحْسَان وَغير ذَلِك وَيُحب المقسطين وَيُحب التوابين وَيُحب المتطهرين وَيُحب الْمُحْسِنِينَ وَالَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص وَيبغض الْكفْر وأنواعه وَالظُّلم وَالْكذب وَالْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَلَا أحد أغير مِنْهُ وكل مَا حرمه يبغضه

ص: 446

فَإِذا كَانَ مَعَ الْجمال أَو غَيره مِمَّا فِيهِ وَجه محبَّة مَا هُوَ بغيض من الْفَوَاحِش أَو الْكَذِب أَو الظُّلم أَو غير ذَلِك كَمَا ذكره فِي قَوْله {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [سُورَة الْأَعْرَاف 33] فَإِن ذَلِك يفوت مَا هُوَ أحب إِلَى الله من الْجمال بِكَثِير وَيُوجب من مقت الله وبغضه مَا هُوَ أعظم بِكَثِير مِمَّا لمُجَرّد الْجمال من الْحبّ وَيُوجب النَّهْي عَمَّا يُوجب هَذِه السَّيِّئَات الْكَثِيرَة ويفوت الْجمال الْأَفْضَل وَهُوَ كَمَال الْخلق وَحسنه وَمَا فِي ذَلِك من الْحَسَنَات وَكَانَ مَا فِي ذَلِك من المبغضات وَترك المحبوبات راجحا على الْحبّ الَّذِي للجمال

وعَلى هَذَا يجْرِي الْأَمر على محبَّة الْإِنْسَان للشئ الْجَمِيل من الصُّورَة وَالنَّظَر إِلَيْهِ وَمَا يدْخل فِي ذَلِك من قُوَّة الْحبّ وَالزِّيَادَة فِيهِ الَّتِي تسمى الْعِشْق فَإِن ذَلِك إِذا خلا عَن الْمفْسدَة الراجحة مثل أَن يحب الْإِنْسَان امْرَأَته وجاريته حبا معتدلا أَو يحب مَا لَا فتْنَة فِيهِ كحبه للجميل من الدَّوَابّ وَالثيَاب وَيُحب وَلَده وأباه وَأمه وَنَحْو ذَلِك من محبَّة الرَّحِم كنوع من الْجمال الْحبّ المعتدل فَهَذَا حسن

ص: 447

أما إِذا أحب النِّسَاء الاجانب أَو المردان وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا الْحبّ مُتَضَمّن للمحبة الحيوانية وَلَيْسَ فِي ذَلِك مُجَرّد محبَّة الْجمال والمحبة الحيوانية مِمَّا يبغضها الله ويمقتها وتوابعها منهى عَنْهَا مَعَ ذَلِك سَوَاء كَانَ مَعَ الْمحبَّة فعل الْفَاحِشَة الْكُبْرَى أَو كَانَت للتمتع بِالنّظرِ وَالسَّمَاع وَغير ذَلِك

فالتمتع مُقَدمَات الْوَطْء فَإِن كَانَ الْوَطْء حَلَالا حلت مقدماته وَإِن كَانَ الْوَطْء حَرَامًا حرمت مقدماته وَإِن كَانَ فِي ذَلِك رفض للجمال كَمَا فِيهِ رفض للذة الْوَطْء الْمحرم فَإِن مَا فِي ذَلِك مِمَّا يبغضه الله ويمقت عَلَيْهِ أعظم مِمَّا فِي مُجَرّد الْجمال من الْحبّ المتضمن وَذَلِكَ مُتَضَمّن لتفويت محاب الله من التَّقْوَى والعفاف والإقبال على مصَالح الدّين وَالدُّنْيَا أعظم بِكَثِير مِمَّا فِيهَا من مُجَرّد حب الْجمال فَلهَذَا كَانَت هَذِه مذمومة مَنْهِيّا عَنْهَا حَتَّى حرم الشَّارِع النّظر فِي ذَلِك بلذة وشهوة وَبِغير لَذَّة وشهوة إِذا خَافَ النَّاظر الْفِتْنَة والفتنة مخوفة فِي النّظر إِلَى الْأَجْنَبِيَّة الْحَسَنَة والأمرد الْحسن فِي أحد قولي الْعلمَاء الَّذِي يُصَحِّحهُ كثير من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد وَغَيرهمَا وَهَذَا قد يخْتَلف بأختلاف الْعَادَات والطبائع وَأما النّظر للْحَاجة من غير شَهْوَة وَلَا لَذَّة فَيجوز

وَلِهَذَا لم يَأْمر الله وَلَا رَسُوله وَلَا أهل الْعلم وَالْإِيمَان بعشق الصُّور الجميلة

ص: 448

وَلَا أثنوا على مَا كَانَ كَذَلِك وَكَذَلِكَ الْعُقَلَاء من جَمِيع الْأُمَم وَلَكِن طَائِفَة من المتفلسفة والمتصوفة تَأمر بذلك وتثنى عَلَيْهِ لما فِيهِ زَعَمُوا من إصْلَاح النَّفس ورياضتها وتهذيب الْأَخْلَاق واكتساب الصِّفَات المحمودة من السماحة والشجاعة وَالْعلم والفصاحة والاختيال وَنَحْو ذَلِك من الْأُمُور حَتَّى أَن طَائِفَة من فلاسفة الرّوم وَالْفرس وَمن اتبعهم من الْعَرَب تَأمر بِهِ وَكَذَلِكَ طَائِفَة من المتصوفة حَتَّى يَقُول أحدهم يَنْبَغِي للمريد أَن يتَّخذ لَهُ صُورَة يجْتَمع قلبه عَلَيْهَا ثمَّ ينْتَقل مِنْهَا إِلَى الله وَرُبمَا قَالُوا إِنَّهُم يشْهدُونَ الله فِي تِلْكَ الصُّورَة وَيَقُولُونَ هَذِه مظَاهر الْجمال ويتأولون قَوْله ص إِن الله جميل يحب الْجمال على غير تَأْوِيله

فَهَؤُلَاءِ وأمثالهم مِمَّن يدْخل فِي ذَلِك يَزْعمُونَ أَن طريقهم مُوَافق لطريق الْعقل وَالدّين والخلق وَإِن اندرج فِي ذَلِك من الْأُمُور الْفَاحِشَة مَا اندرج

وَهَؤُلَاء لَهُم نصيب من قَوْله تَعَالَى {وَإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء} [سُورَة الْأَعْرَاف 28]

لَكِن الْعَرَب الَّذين كَانُوا سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة إِنَّمَا كَانَت فاحشتهم الَّتِي قَالُوا فِيهَا مَا قَالُوا طوافهم بِالْبَيْتِ عُرَاة لاعتقادهم أَن ثِيَابهمْ الَّتِي

ص: 449

عصوا الله فِيهَا لَا تصلح أَن يعبد الله فِيهَا فَكَانُوا ينزهون عبَادَة الله عَن ملامسة ثِيَابهمْ فيقعون فِي الْفَاحِشَة الَّتِي هِيَ كشف عَوْرَاتهمْ

وَأما هَؤُلَاءِ فَأَمرهمْ أجل وَأعظم إِذْ غَايَة مَا كَانَ أُولَئِكَ يَفْعَلُونَ طواف الرِّجَال وَالنِّسَاء عُرَاة مختلطين حَتَّى كَانَت الْمَرْأَة مِنْهُم تَقول

الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله وَمَا بدا مِنْهُ فَلَا أحله

وَلم يكن ذَلِك الِاخْتِلَاط والاجتماع إِلَّا فِي عبَادَة ظَاهِرَة لَا يَتَأَتَّى فِيهَا فعل الْفَاحِشَة الْكُبْرَى وَلم يقصدوا بالتعري إِلَّا التنزة من لِبَاس الذُّنُوب بزعمهم

فَالَّذِينَ يَجْتَمعُونَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والمردان لسَمَاع المكاء والتصدية ويطفئون المصابيح حَتَّى لَا يرى أحدهم الآخر حَتَّى اجْتَمعُوا على غناء وزنا ومطاعم خبيثة وَجعلُوا ذَلِك عبَادَة فَهَؤُلَاءِ شَرّ من أُولَئِكَ بِلَا ريب فَأن هَؤُلَاءِ فتحُوا أَبْوَاب جَهَنَّم

كَمَا روى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا أَكثر

ص: 450

مَا يدْخل النَّاس النَّار فَقَالَ الأجوفان الْفَم والفرج قَالَ التِّرْمِذِيّ حسن صَحِيح

وَكَذَلِكَ روى عَنهُ أَنه قَالَ أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم شهوات الغي فِي بطونكم وفروجكم ومضلات الْفِتَن

وَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ حجبت النَّار بالشهوات وحجبت الْجنَّة بالمكاره وَفِي رِوَايَة مُسلم حفت مَكَان حجبت

وَإِذا كَانَت النَّار محجوبة ومحفوفة بالشهوات لم يدْخل النَّار إِلَّا بهَا وَإِذا كَانَت الْجنَّة محجوبة ومحفوفة بالمكاره لم يدْخل الْجنَّة إِلَّا بهَا

ص: 451

وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن سهل بن سعد عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ من يضمن لي مَا بَين لحييْهِ وَمَا بَين رجلَيْهِ أضمن لَهُ الْجنَّة وَمَا بَين لحييْهِ يتَنَاوَل الْكَلَام وَالطَّعَام

كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلْيقل خيرا أَو ليصمت

فَبين ص أَنه من ضمن لَهُ هذَيْن ضمن لَهُ الْجنَّة وَهَذَا يَقْتَضِي أَن من هذَيْن يدْخل النَّار وَلِهَذَا حرم الله الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَحرم أَيْضا انتهاك الْأَعْرَاض وَجعل فِي الْقَذْف بالفاحشة من الْعقُوبَة الْمقدرَة وَهِي حد الْقَذْف ثَمَانِينَ جلدَة

وَبَين ص أَن الزِّنَا من الْكَبَائِر وَأَن قذف الْمُحْصنَات الْغَافِلَات من الْكَبَائِر وَهُوَ وَهُوَ من نوع الْكَبَائِر إِذْ لم يَأْتِ عَلَيْهِ

ص: 452

الْقَاذِف بأَرْبعَة شُهَدَاء وَإِن كَانَ قد وَقع فَإِنَّهُ أظهر مَا يحب الله إخفاؤه

كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة فِي الَّذين آمنُوا لَهُم عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} [سُورَة النُّور 19]

وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كل أمتِي معافى إِلَّا المجاهرين وَإِن من المجاهرة أَن يعْمل الرجل بِاللَّيْلِ عملا ثمَّ يصبح وَقد ستره الله عَلَيْهِ فَيَقُول يَا فلَان عملت البارحة كَذَا وَكَذَا بَات يستره ربه وَيُصْبِح يكْشف ستره

وَقَالَ من ابتلى من هَذِه القاذورة بشئ فليستتر بستر الله فَإِنَّهُ من يُبْدِي لنا صفحته نقم عَلَيْهِ كتاب الله

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن صَفْوَان بن مُحرز أَن رجلا سَأَلَ ابْن عمر كَيفَ سَمِعت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول فِي النَّجْوَى قَالَ يدنو أحدكُم من ربه حَتَّى يضع كنفه عَلَيْهِ فَيَقُول عملت كَذَا وَكَذَا فَيَقُول نعم

ص: 453

وَيَقُول عملت كَذَا وَكَذَا فَيَقُول نعم فيقرره ثمَّ يَقُول سترتها عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنا أغفرها لَك الْيَوْم وَلِهَذَا يكثر وُقُوع النَّاس فِي أحد هذَيْن الذنبين

فَمن النَّاس من يبتلى بالفاحشة وَإِن كَانَ ممسكا عَن الْكَلَام وَمن النَّاس من يَبْتَلِي بالْكلَام والاعتداء على غَيره بِلِسَانِهِ وَإِن كَانَ عفيفا عَن الْفَاحِشَة

وَأَيْضًا فَإِن من الْكَلَام المنهى عَنهُ الْخَوْض فِي الدّين بالبدع والضلالات مَعَ تضمنه لشَهْوَة الطَّعَام وَمَا بَين الفرجين يتَضَمَّن أقوى الشَّهَوَات وَذَلِكَ من الِاسْتِمْتَاع بالخلاق فِي الدُّنْيَا كَمَا جمع الله تَعَالَى بَينهمَا بقوله فَاسْتَمعُوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كَمَا استمتع الَّذين من قبلكُمْ بخلاقهم وخضتم كَالَّذي خَاضُوا [سُورَة التَّوْبَة 69] الأول يتَضَمَّن الشُّبُهَات وَالثَّانِي يتَضَمَّن الشَّهَوَات الأول يتَضَمَّن الدّين الْفَاسِد وَالثَّانِي يتَضَمَّن الدُّنْيَا الْفَاجِرَة

ص: 454

وَكَانَ السّلف يحذرون من هذَيْن النَّوْعَيْنِ من المبتدع فِي دينه والفاجر فِي دُنْيَاهُ كل من هذَيْن النَّوْعَيْنِ وَإِن لم يكن كفرا مَحْضا فَهَذَا من الذُّنُوب والسيئات الَّتِي تقع من أهل الْقبْلَة

وجنس الْبدع وَإِن كَانَ شرا لَكِن الْفُجُور شَرّ من وَجه آخر وَذَلِكَ أَن الْفَاجِر الْمُؤمن لَا يَجْعَل الْفُجُور شرا من الْوَجْه الآخر الَّذِي هُوَ حرَام مَحْض لَكِن مَقْرُونا بأعتقاده لتحريمه وَتلك حَسَنَة فِي أصل الِاعْتِقَاد وَأما المبتدع فَلَا بُد ان تشْتَمل بدعته على حق وباطل لَكِن يعْتَقد ان باطلها حق أَيْضا فَفِيهِ من الْحسن مَا لَيْسَ فِي الْفُجُور وَمن السئ مَا لَيْسَ فِي الْفُجُور وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ

فَمن خلص من الشَّهَوَات الْمُحرمَة والشهوات المبتدعة وَجَبت لَهُ الْجنَّة وَهَذِه هِيَ الثَّلَاثَة الْكَلَام المنهى عَنهُ وَالطَّعَام المنهى عَنهُ وَالنِّكَاح المنهى عَنهُ فَإِذا اقْترن بِهَذِهِ الْكَبَائِر استحلالها كَانَ ذَلِك أمرا فَكيف إِذا جعلت طَاعَة وقربة وعقلا ودينا

وَهَؤُلَاء هم الَّذين يسْتَحقُّونَ عُقُوبَة أمثالهم من الْأُمَم كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه يكون فِي هَذِه الْأمة من يمسخ قردة وَخَنَازِير وكما روى أَنه سَيكون فِيهَا خسف وَقذف ومسخ

وَقَالَ بعض السّلف فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد}

ص: 455

[سُورَة هود 83] أَي من ظالمي هَذِه الْأمة وَفِي ذَلِك من الْأَحَادِيث مَا يضيق هَذَا الْموضع عَن ذكره وَفِي عامتها يذكر استحلالهم لَهَا

وأصل الضلال والغي من هَؤُلَاءِ الَّذين يستحسنون عشق الصُّور ويحمدونه ويأمرون بِهِ وَإِن قيدوه مَعَ ذَلِك بالعفة أَن الْمحبَّة هِيَ أصل كل حَرَكَة فِي الْعَالم فَالنَّفْس إِذا لم يكن فِيهَا حَرَكَة وَلَا هِيَ قَوِيَّة الهمة والإرادة حَتَّى تحصل لَهَا محبَّة شَدِيدَة كَانَت تِلْكَ المنهيات عَنْهَا هِيَ أصُول الشَّرّ وَهِي الَّتِي إِذا ظَهرت قَامَت السَّاعَة

كَمَا فِي الصَّحِيح عَن أنس أَنه قَالَ لأحدثنكم حَدِيثا لَا يحدثكمونه أحد بعدِي سمعته من النَّبِي صلى الله عليه وسلم سَمِعت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم وَيظْهر الْجَهْل وَيشْرب الْخمر وَيظْهر الزِّنَا ويقل الرِّجَال وتكثر النِّسَاء حَتَّى يكون لخمسين امْرَأَة قيم وَاحِد

ص: 456

فَمن ظُهُور الْجَهْل ظُهُور الْكَلَام فِي الدّين بِغَيْر علم وَهُوَ الْكَلَام بِغَيْر سُلْطَان من الله وسلطان الله كِتَابه وَمن ظُهُور الزِّنَا ظُهُور اللواط وَإِن كَانَ لَهُ اسْم يَخُصُّهُ فَهُوَ شَرّ نَوْعي الزِّنَا وَلكَون ظُهُور شهوات الغي الْبَطن والفرج هِيَ أغلب مَا يدْخل النَّاس النَّار كَمَا ذكر ذَلِك النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن وَالتَّوْبَة معروضة بعد

وَالسَّرِقَة بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ أعظم مَقْصُود الْأكل وَلِهَذَا يعبر عَن اخذه بِالْأَكْلِ كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [سُورَة الْبَقَرَة 188]

وَهَذِه الثَّلَاثَة هِيَ الَّتِي يعْقد الْفُقَهَاء فِيهَا أَبْوَاب الْحُدُود بَاب حد الزِّنَا بَاب حد السّرقَة بَاب حد شرب الْخمر وَرَابِعهَا بَاب حد الْقَذْف مندرجة فِيمَا بَين لحييْهِ وَبَين رجلَيْهِ

ص: 457

وَقد

روى هَذَا الحَدِيث البُخَارِيّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يَزْنِي العَبْد حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشرب وَهُوَ مُؤمن وَلَا يقتل وَهُوَ مُؤمن قَالَ عِكْرِمَة قلت لِابْنِ عَبَّاس كَيفَ ينْزع الْإِيمَان مِنْهُ قَالَ هَكَذَا وَشَبك بَين أَصَابِعه ثمَّ أخرجهَا فَإِن تَابَ عَاد إِلَيْهِ هَكَذَا وَشَبك بَين أَصَابِعه

فَإِذا اقْترن بِهَذِهِ الْكَبَائِر تِلْكَ الْمحبَّة فِي نفس صَاحبهَا فَإِنَّهَا توجب حركتها وَقُوَّة إرادتها فيعطي من المَال مَا لم يكن يُعْطِيهِ وَيقدم على مخاوف لم يكن يقدم عَلَيْهَا ويحتال وَيُدبر مَا لم يكن يحتاله ويدبره قبل ذَلِك وَيصير والها من التفكر وَالنَّظَر مَا لم يكن قبل ذَلِك فَلَمَّا رَأَوْا مَا فِيهِ من هَذِه الْأُمُور الَّتِي هِيَ من جنس المحمودات حمدوه بذلك وَهَذَا من جنس من حمد الْخمر لما فِيهَا من الشجَاعَة وَالْكَرم وَالسُّرُور وَنَحْو ذَلِك

ص: 458

وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ كلهم لحظوا مَا فِيهَا من جنس المحبوب وأغفلوا مَا تتضمنه من جنس المذموم فَإِن الَّذِي يورثه الْعِشْق من نقص الْعقل وَالْعلم وَفَسَاد الْخلق وَالدّين والاشتغال عَن مصَالح الدّين وَالدُّنْيَا أَضْعَاف مَا يتضمنه من جنس الْمَحْمُود

وأصدق شَاهد على ذَلِك مَا يعرف من أَحْوَال الْأُمَم وَسَمَاع أَخْبَار النَّاس فِي ذَلِك فَهُوَ يُغني عَن مُعَاينَة ذَلِك وتجريبه وَمن جرب ذَلِك أَو عاينه اعْتبر بِمَا فِيهِ كِفَايَة فَلم يُوجد قطّ عشق إِلَّا وضرره أعظم من منفعَته

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي رسَالَته وَمن أصعب الْآفَات فِي هَذِه الطَّرِيقَة صُحْبَة الْأَحْدَاث وَمن ابتلاه الله بشئ من ذَلِك فبإجماع الشُّيُوخ هَذَا عبد أهانه الله وخذله بل عَن نَفسه شغله وَلَو لِأَلف الف كَرَامَة أَهله وهب أَنه بلغ رُتْبَة الشُّهَدَاء لما فِي الْخَبَر من التَّلْوِيح بذلك أَلَيْسَ قد شغل ذَلِك الْقلب

ص: 459

بمخلوق وأصعب من ذَلِك تهوين ذَلِك على الْقلب حَتَّى يعد ذَلِك يَسِيرا وَقد قَالَ تَعَالَى {وتحسبونه هينا وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} [سُورَة النُّور 15]

وَهَذَا الوَاسِطِيّ رحمه الله يَقُول إِذا أَرَادَ الله هوان عبد أَلْقَاهُ إِلَى هَؤُلَاءِ الأنتان والجيف

وَقَالَ سَمِعت أَبَا عبد الله الصُّوفِي يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد النجار يَقُول سَمِعت أَبَا عبد الله الحصري يَقُول سَمِعت فتحا الْموصِلِي يَقُول صَحِبت ثَلَاثِينَ شَيخا كَانُوا يعدون من الابدال فكلهم أوصوني عِنْد فراقي إيَّاهُم وَقَالُوا لي اتَّقِ معاشرة الاحداث ومخالطتهم

وَمن ارْتقى فِي هَذَا الْبَاب عَن حَال الْفسق وَأَشَارَ إِلَى أَن ذَلِك من بلايا الْأَرْوَاح وَأَنه لَا يضر فَمَا قَالُوهُ من وساوس الْقَائِلين

ص: 460

بِالسَّمَاعِ وإيراد حكايات عَن بعض الشُّيُوخ كَانَ الأولى بهم إسبال السّتْر على هناتهم وآفاتهم فَذَلِك نَظِير الشّرك وقرين الْكفْر

فليحذر المريد من مجالسة الْأَحْدَاث ومخالطتهم فَإِن الْيَسِير مِنْهُ فتح بَاب الخذلان وبدء حَال الهجران ونعوذ بِاللَّه من قَضَاء السوء

وَهنا أصل عَظِيم نَافِع يجب اعْتِبَاره وَهُوَ ان الْأُمُور المذمومة فِي الشَّرِيعَة كَمَا ذَكرْنَاهُ هُوَ مَا ترجح فَسَاده على صَلَاحه كَمَا أَن الْأُمُور المحمودة مَا ترجح صَلَاحه على فَسَاده فالحسنات تغلب فِيهَا الْمصَالح والسيئات تغلب فِيهَا الْمَفَاسِد والحسنات دَرَجَات بَعْضهَا فَوق بعض والسيئات بَعْضهَا أكبر من بعض فَكَمَا أَن أهل الْحَسَنَات ينقسمون إِلَى الْأَبْرَار الْمُقْتَصِدِينَ والسابقين المقربين فَأهل السَّيِّئَات ينقسمون إِلَى الْفجار الظَّالِمين وَالْكفَّار المكذبين وكل من هَؤُلَاءِ هم دَرَجَات عِنْد الله

وَمن الْمَعْلُوم أَن الْحَسَنَات كلما كَانَت أعظم كَانَ صَاحبهَا أفضل فَإِذا انْتقل الرجل من حَسَنَة إِلَى أحسن مِنْهَا كَانَ فِي مزِيد التَّقْرِيب وَإِن

ص: 461

انْتقل إِلَى مَا هُوَ دونهَا كَانَ فِي التَّأَخُّر وَالرُّجُوع وَكَذَلِكَ السَّيِّئَات كلما كَانَت أعظم كَانَ صَاحبهَا أولى بِالْغَضَبِ واللعنة وَالْعِقَاب

وَقد وَقَالَ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير اولي الضَّرَر وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل الله بأمولهم وأنفسهم فضل الله الْمُجَاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم على القاعدين دَرَجَة [سُورَة النِّسَاء 95]

وَقَالَ {أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام} إِلَى قَوْله {الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله وَأُولَئِكَ هم الفائزون} [سُورَة التَّوْبَة 19 20]

وَقَالَ لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل [سُورَة الْحَدِيد 10]

وَقَالَ يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات [سُورَة المجادلة 11]

وَكَذَلِكَ قَالَ فِي السَّيِّئَات إِنَّمَا النسئ زِيَادَة فِي الْكفْر [سُورَة التَّوْبَة 37]

وَقَالَ زدناهم عذَابا فَوق الْعَذَاب [سُورَة النَّحْل 88]

وَقَالَ وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم [سُورَة التَّوْبَة 125]

وَقَالَ فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا [سُورَة الْبَقَرَة 10]

ص: 462

وَقَالَ وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين وَلَا يزِيد الظَّالِمين إِلَّا خسارا [سُورَة الْإِسْرَاء 82]

وَمَعْلُوم أَن التَّوْبَة هِيَ جماع الرُّجُوع من السَّيِّئَات إِلَى الْحَسَنَات وَلِهَذَا لَا يحبط جَمِيع السَّيِّئَات إِلَّا التَّوْبَة وَالرِّدَّة هِيَ جماع الرُّجُوع من الْحَسَنَات إِلَى السَّيِّئَات وَلِهَذَا لَا يحبط جَمِيع الْحَسَنَات إِلَّا الرِّدَّة عَن الْإِيمَان

وَكَذَلِكَ مَا ذَكرْنَاهُ فِي تفَاوت السَّيِّئَات هُوَ فِي الْكفْر وَالْفِسْق والعصيان فالكفار بَعضهم دون بعض وَلِهَذَا يذكر الْفُقَهَاء فِي بَاب الرِّدَّة وَالْإِسْلَام انْتِقَال الرجل كَأحد الزَّوْجَيْنِ من دين إِلَى دين آخر انْتِقَال إِلَى دين خير من دينه أَو دون دينه أَو مثل دينه فَيَقُولُونَ إِذا صَار الْكِتَابِيّ مجوسيا أَو مُشْركًا فقد انْتقل إِلَى شَرّ من دينه وَإِذا صَار الْمُشرك أَو الْمَجُوسِيّ كتابيا فقد انْتقل إِلَى خير من دينه وَإِذا تهود النَّصْرَانِي أَو بِالْعَكْسِ فقد انْتقل إِلَى نَظِير دينه والتمجس يقر عَلَيْهِ بالِاتِّفَاقِ وَأما الْإِشْرَاك فَلَا يقر عَلَيْهِ إِلَّا بعض النَّاس عِنْد بعض الْعلمَاء والصابئة نَوْعَانِ عِنْد الْمُحَقِّقين وعَلى قَوْلَيْنِ عِنْد آخَرين وَمَعْرِفَة مَرَاتِب الْأَدْيَان مُحْتَاج إِلَيْهَا فِي مَوَاضِع كَثِيرَة لمعْرِفَة مَرَاتِب الْحَسَنَات

وَالْفُقَهَاء يذكرُونَ ذَلِك لأجل معرفَة أحكامهم وتناكحهم وذبائحهم وَفِي دِمَائِهِمْ وقتالهم وإقرارهم بالجزية المضروبة عَلَيْهِم وَنَحْو ذَلِك من الْأَحْكَام الَّتِي جَاءَ بهَا الْكتاب وَالسّنة فِي أهل الْملَل والأحزاب

ص: 463

الَّذين قَالَ الله فيهم وَمن يكفر بِهِ من الْأَحْزَاب فَالنَّار موعده [سُورَة هود 17]

وَقد قَالَ الله تَعَالَى لنَبيه فَلذَلِك فآدع واستقم كَمَا أمرت وَلَا تتبع أهواءهم وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب وَأمرت لأعدل بَيْنكُم [سُورَة الشورى 15]

وَالْعدْل وضع كل شئ فِي مَوْضِعه كَمَا أَن الظُّلم وضع الشئ فِي غير مَوْضِعه

وَلِهَذَا لما اقْتتلَتْ فَارس الْمَجُوس وَالروم النَّصَارَى وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِمَكَّة إِذْ ذَاك وَهُوَ فِي طَائِفَة قَليلَة مِمَّن آمن بِهِ كَانَ هُوَ وَأَصْحَابه يحبونَ أَن تغلب الرّوم لأَنهم أهل كتاب وَكَانَ الْمُشْركُونَ يحبونَ أَن تغلب فَارس لأَنهم من جنسهم لَيْسُوا أهل كتاب فَأنْزل الله فِي ذَلِك آلم غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض [سُورَة الرّوم 12] والقصة مَشْهُورَة فِي كتب الحَدِيث وَالتَّفْسِير والمغازي

وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد يكون الرجل على طَريقَة من الشَّرّ عَظِيمَة فَينْتَقل إِلَى مَا هُوَ أقل مِنْهَا شرا وَأقرب إِلَى الْخَيْر فَيكون حمد تِلْكَ الطَّرِيقَة ومدحها لكَونهَا طَريقَة الْخَيْر الممدوحة مِثَال ذَلِك أَن الظُّلم كُله حرَام مَذْمُوم فأعلاه الشّرك فَإِن الشّرك لظلم عَظِيم وَالله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وأوسطه ظلم الْعباد بالبغي والعدوان وَأَدْنَاهُ ظلم العَبْد نَفسه فِيمَا بَينه وَبَين الله فَإِذا كَانَ الرجل مُشْركًا كَافِرًا فَأسلم بَاطِنا وظاهرا بِحَيْثُ

ص: 464

صَار مُؤمنا وَهُوَ مَعَ إِسْلَامه يظلم النَّاس وَيظْلم نَفسه فَهُوَ خير من أَن يبْقى على كفره وَلَو كَانَ تَارِكًا لذَلِك الظُّلم

واما إِذا أسلم فَقَط وَهُوَ مُنَافِق فِي الْبَاطِن فَهَذَا فِي الْآخِرَة فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار وَأما فِي الدُّنْيَا فقد يكون أضرّ على الْمُسلمين مِنْهُ لَو بقى على كفره وَقد لَا يكون كَذَلِك فَإِن إِضْرَار الْمُنَافِقين بِالْمُؤْمِنِينَ يخْتَلف بآختلاف الْأَحْوَال

لَكِن إِذا أسلم نفَاقًا فقد يُرْجَى لَهُ حسن الْإِسْلَام فَيصير مُؤمنا كمن أسلم تَحت السَّيْف وَكَذَلِكَ من أسلم لرغبة أَو لرهبة أَو نَحْو ذَلِك فالإسلام وَالْإِيمَان أصل كل خير وَجَمَاعَة

وَكَذَلِكَ من كَانَ ظَالِما للنَّاس فِي نُفُوسهم واموالهم وأعراضهم فانتقل عَن ذَلِك الى مَا يظلم بِهِ نَفسه خَاصَّة من خمر وزنا فَهَذَا أخف لأثمة وَأَقل لعذابه

وَهَكَذَا النَّحْل الَّتِي فِيهَا بِدعَة قد يكون الرجل رَافِضِيًّا فَيصير زيديا فَلذَلِك خير لَهُ وَقد يكون جهميا غير قدري أَو قدريا غير جهمي أَو يكون من الْجَهْمِية الْكِبَار فيتجهم فِي بعض الصِّفَات دون بعض وَنَحْو ذَلِك

فَهَؤُلَاءِ المتفسلفة وَنَحْوهم مِمَّن مدح الْعِشْق والغناء وَنَحْو ذَلِك وجعلوه مِمَّا يستعينون بِهِ على رياضة أنفسهم وتهذيبها وصلاحها

ص: 465

من هَذَا الْبَاب فَإِن هَؤُلَاءِ فِي طريقهم من الشّرك والضلال مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا ذُو الْجلَال فَإِن المتفلسفة قد يعْبدُونَ الْأَوْثَان وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَنَحْو ذَلِك فَإِذا صَار أحدهم يروض نَفسه بالعشق لعبادة الله وَحده أَو رياضة مُطلقَة لَا يعبد فِيهَا غير الله كَانَ ذَلِك خيرا لَهُ من أَن يعبد غير الله

وَكَذَلِكَ الاتحادية الَّذين يجْعَلُونَ الله هُوَ الْوُجُود الْمُطلق أَو يَقُولُونَ إِنَّه يحل فِي الصُّور الجميلة مَتى تَابَ الرجل مِنْهُم من هَذَا وَصَارَ يسكن نَفسه بعشق بعض الصُّور وَهُوَ لَا يعبد إِلَّا الله وَحده كَانَت هَذِه الْحَال خيرا من تِلْكَ الْحَال

فَهَذِهِ الذُّنُوب مَعَ صِحَة التَّوْحِيد خير من فَسَاد التَّوْحِيد مَعَ عدم هَذِه الذُّنُوب وَلِهَذَا نجد النَّاس يفضلون من كَانَ من الْمُلُوك وَنَحْوهم إِنَّمَا يظلم نَفسه بِشرب الْخمر وَالزِّنَا أَو الْفَوَاحِش ويتجنب ظلم الرّعية ويتحرى الْعدْل فيهم على من كَانَ يتَجَنَّب الْفَوَاحِش وَالْخمر وَالزِّنَا وينتصب لظلم النَّاس فِي نُفُوسهم وَأَمْوَالهمْ وأعراضهم

وَهَؤُلَاء الظَّالِمُونَ قد يجْعَلُونَ الظُّلم دينا يَتَقَرَّبُون بِهِ بجهلهم كَمَا أَن أُولَئِكَ الظَّالِمين لأَنْفُسِهِمْ قد يجْعَلُونَ ذَلِك بجهلهم دينا يَتَقَرَّبُون بِهِ فالشيطان قد زين لكثير من هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء سوء عَمَلهم فرأوه حسنا

لَكِن كثير من النَّاس يجمعُونَ بَين هَذَا وَهَذَا فَإِن من عُقُوبَة السَّيئَة

ص: 466

السَّيئَة بعْدهَا وَمن ثَوَاب الْحَسَنَة الْحَسَنَة بعْدهَا والحسنات والسيئات قد تتلازم وَيَدْعُو بَعْضهَا إِلَى بعض كَمَا فِي الصَّحِيح عَن عبد الله بن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ عَلَيْكُم بِالصّدقِ فَإِن الصدْق يهدي إِلَى الْبر وَالْبر يهدي إِلَى الْجنَّة وَلَا يزَال الرجل يصدق ويتحرى الصدْق حَتَّى يكْتب عِنْد الله صديقا وَإِيَّاكُم وَالْكذب فَإِن الْكَذِب يهدي إِلَى الْفُجُور والفجور يهدي إِلَى النَّار وَلَا يزَال العَبْد يكذب ويتحرى الْكَذِب حَتَّى يكْتب عِنْد الله كذابا

فالصدق مِفْتَاح كل خير كَمَا ان الْكَذِب مِفْتَاح كل شَرّ وَلِهَذَا يَقُولُونَ عَن بعض الْمَشَايِخ إِنَّه قَالَ لبَعض من استتابه من أَصْحَابه أَنا لَا أوصيك إِلَّا بِالصّدقِ فتأملوا فوجدوا الصدْق يَدعُوهُ إِلَى كل خير

وَلِهَذَا فرق الله سُبْحَانَهُ بَين أهل السَّعَادَة وَأهل الشقاوة بذلك فَقَالَ فَمن أظلم مِمَّن كذب على الله وَكذب بِالصّدقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون لَهُم مَا يشاؤون عِنْد رَبهم ذَلِك جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ليكفر الله

ص: 467

عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا ويجزيهم أجرهم بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ [سُورَة الزمر 32 35]

وترتيب الْكَبَائِر ثَابت فِي الْكتاب وَالسّنة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ قلت يَا رَسُول أَي الذَّنب أعظم قَالَ أَن تجْعَل الله ندا وَهُوَ خلقك قلت ثمَّ أَي قَالَ أَن تقتل ولدك خشيَة أَن يطعم مَعَك قلت ثمَّ أَي قَالَ أَن تُزَانِي بحليلة جَارك وتصديق ذَلِك فِي كتاب الله وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله بِالْحَقِّ وَلَا يزنون [الْفرْقَان 68]

وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء أكبر الْكَبَائِر الْكفْر ثمَّ قتل النَّفس بِغَيْر حق ثمَّ الزِّنَا لَكِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذكر لِابْنِ مَسْعُود من جنس أَعلَى فأعلى الْكفْر هُوَ أَن تجْعَل الله ندا بِخِلَاف الْكِتَابِيّ الَّذِي لَيْسَ بمشرك فَإِنَّهُ دون ذَلِك وَأعظم الْقَتْل ولدك وَأعظم الزِّنَا الزِّنَا بحليلة الْجَار

ص: 468

وَهَذَا كَمَا ذكرنَا أَن الظُّلم ثَلَاث مَرَاتِب الشّرك ثمَّ الظُّلم لِلْخلقِ ثمَّ ظلم النَّفس فالقتل من ظلم الْخلق فَإِذا كَانَ قتلا للْوَلَد الَّذِي هُوَ بعضه مِنْك كَانَ فِيهِ الظلمان وَالزِّنَا هُوَ من ظلم النَّفس لَكِن إِذا كَانَ بحليلة الْجَار صَار فِيهِ الظلمان أَيْضا لَكِن الْمُغَلب فِي الْقَتْل ظلم الْغَيْر وَالظُّلم فِي الزِّنَا ظلم النَّفس

وَلِهَذَا كَانَ الْقود حَقًا للآدمي إِن شَاءَ اسْتَوْفَاهُ وَإِن شَاءَ عَفا عَنهُ وَكَانَ حد الزِّنَا حدا لله لَيْسَ لآدَمِيّ فِيهِ حق معِين لَكِن قد يقْتَرن بِبَعْض انواع الزِّنَا وَيَقْتَضِي أمورا تضر النَّاس يكون بهَا أعظم من قتل لَا يضر بِهِ إِلَّا الْمَقْتُول فَقَط

وَأَيْضًا فَقتل النَّفس يدْخل فِيهِ من التَّأْوِيل مَا لَيْسَ يدْخل فِي الزِّنَا فَإِن حَلَاله بَين من حرَامه بِخِلَاف الْقَتْل فَإِن فِيهِ مَا يظْهر تَحْرِيمه وَفِيه مَا يظْهر وُجُوبه أَو اسْتِحْبَابه أَو حلّه وَفِيه مَا يشْتَبه وَلِهَذَا جعل الله فِيهِ شَيْئا وَلم يَجْعَل ذَلِك فِي الزِّنَا بقوله وَلَا يقتلُون النَّفس الْآيَة [سُورَة الْفرْقَان 68]

ص: 469