المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل يتعلق بالسماع قال أبو القاسم القشيري في باب السماع قال الله - الاستقامة - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصل الرأى الْمُحدث فِي الْأُصُول وَهُوَ الْكَلَام الْمُحدث وَفِي الْفُرُوع وَهُوَ الرأى

- ‌فصل فِيمَا اخْتلف فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ من الْأَقْوَال والافعال فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع

- ‌فصل مُهِمّ عَظِيم الْقدر فِي هَذَا الْبَاب وَذَلِكَ أَن طوائف كَبِيرَة من أهل

- ‌فصل وَكَذَلِكَ لفظ الْحَرَكَة أثْبته طوائف من أهل السّنة والْحَدِيث وَهُوَ الَّذِي ذكره

- ‌فصل وَقد اعْترف أَكثر أَئِمَّة أهل الْكَلَام والفلسفة من الْأَوَّلين والآخرين بِأَن

- ‌فصل فِيمَا ذكره الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم القشيرى فِي رسَالَته الْمَشْهُورَة من اعْتِقَاد

- ‌فصل قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقَالَ ابْن عَطاء لما خلق الله الأحرف جعلهَا سرا فَلَمَّا

- ‌فصل فِي الحَدِيث الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جوَيْرِية أم الْمُؤمنِينَ لما خرج النَّبِي

- ‌فصل يتَعَلَّق بِالسَّمَاعِ قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي بَاب السماع قَالَ الله

- ‌فصل فِي محبَّة الْجمال

الفصل: ‌فصل يتعلق بالسماع قال أبو القاسم القشيري في باب السماع قال الله

‌فصل يتَعَلَّق بِالسَّمَاعِ قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي بَاب السماع قَالَ الله

تَعَالَى فبشر عبَادي الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه [سُورَة الزمر 18]

قَالَ أَبُو الْقَاسِم اللَّام فِي قَوْله القَوْل تَقْتَضِي التَّعْمِيم والاستغراق وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه مدحهم بأتباع الْأَحْسَن

قلت وَهَذَا يذكرهُ طَائِفَة مِنْهُم أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَغَيره وَهُوَ غلط بأتفاق الْأمة وأئمتها لوجوه

احدهما أَن الله سبحانه وتعالى لَا يَأْمر باستماع كل قَول بِإِجْمَاع الْمُسلمين حَتَّى يُقَال اللَّام للاستغراق والعموم بل من القَوْل مَا يحرم استماعه وَمِنْه مَا يكره كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من اسْتمع إِلَى حَدِيث قوم وهم لَهُ كَارِهُون صب فِي أُذُنَيْهِ الآنك يَوْم الْقِيَامَة

ص: 216

وَقد قَالَ تَعَالَى وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره وَإِمَّا ينسينك الشَّيْطَان فَلَا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين وَمَا على الَّذين يَتَّقُونَ من حسابهم من شئ وَلَكِن ذكرى لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ [سُورَة الْأَنْعَام 68 69]

فقد أَمر سُبْحَانَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَن كَلَام الخائضين فِي آيَاته وَنهى عَن الْقعُود مَعَهم فَكيف يكون اسْتِمَاع كل قَول مَحْمُودًا

وَقَالَ تَعَالَى وَقد نزل عَلَيْكُم فِي الْكتاب أَن إِذا سَمِعْتُمْ آيا ت الله يكفر بهَا ويستهزئ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم [سُورَة النِّسَاء 140]

فَجعل الله المستمع لهَذَا الحَدِيث مثل قَائِله فَكيف يمدح كل مستمع كل قَول

وَقَالَ تَعَالَى قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون وَالَّذين هم عَن اللَّغْو معرضون [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 1 3]

وَقَالَ تَعَالَى وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما إِلَى قَوْله وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما [سُورَة الْفرْقَان 63 72]

وروى أَن ابْن مَسْعُود سمع صَوت لَهو فَأَعْرض عَنهُ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن كَانَ ابْن مَسْعُود لكريما

ص: 217

فَإِذا كَانَ الله تَعَالَى قد مدح وَأثْنى عَليّ من أعرض عَن اللَّغْو وَمر بِهِ كَرِيمًا لم يستمعه كَيفَ يكون اسْتِمَاع كل قَول مدوحا

وَقد قَالَ تَعَالَى وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسئولا [سُورَة الْإِسْرَاء 36] فقد أخبر أَنه يسْأَل العَبْد عَن سَمعه وبصره وفؤاده وَنَهَاهُ أَن يَقُول مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم

وَإِذا كَانَ السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل ذَلِك منقسم إِلَى مَا يُؤمر بِهِ وَإِلَى مَا ينْهَى عَنهُ وَالْعَبْد مسئول عَن ذَلِك كُله كَيفَ يجوز أَن يُقَال كل قَول فِي الْعَالم كَانَ فَالْعَبْد مَحْمُود على استماعه هَذَا بِمَنْزِلَة أَن يُقَال كل مرئي فِي الْعَالم فَالْعَبْد ممدوح على النّظر إِلَيْهِ

وَلِهَذَا دخل الشَّيْطَان من هذَيْن الْبَابَيْنِ على كثير من النساك فتوسعوا فِي النّظر إِلَى الصُّور المنهى عَن النّظر إِلَيْهَا وَفِي اسْتِمَاع الْأَقْوَال والأصوات الَّتِي نهوا عَن استماعها وَلم يكتف الشَّيْطَان بذلك حَتَّى زين لَهُم أَن جعلُوا مَا نهوا عَنهُ عبَادَة وقربة وَطَاعَة فَلم يحرموا مَا حرم الله وَرَسُوله وَلم يدينوا دين الْحق

كَمَا حكى عَن أبي سعيد الخراز أَنه قَالَ رَأَيْت إِبْلِيس فِي النّوم

ص: 218

وَهُوَ يمر عني نَاحيَة فَقلت لَهُ تعال مَالك فَقَالَ بقى لي فِيكُم لَطِيفَة السماع وصحبة الْأَحْدَاث

وَأَصْحَاب ذَلِك وَإِن كَانَ فيهم من ولَايَة الله وتقواهم ومحبته والقرب إِلَيْهِ مَا فاقوا بِهِ على من لم يساوهم فِي مقامهم فليسوا فِي ذَلِك بأعظم من أكَابِر السّلف المقتتلين فِي الْفِتْنَة وَالسَّلَف المستحلين لطائفة من الْأَشْرِبَة المسكرة والمستحلين لربا الْفضل والمتعة والمستحلين للحشوش كَمَا قَالَ عبد الله بن الْمُبَارك رب رجل فِي الْإِسْلَام لَهُ قدم حسن وآثار صَالِحَة كَانَت مِنْهُ الهفوة والزلة لَا يقْتَدى بِهِ فِي هفوته وزلته

والغلط يَقع تَارَة فِي استحلال الْمحرم بالتأويل وَفِي ترك الْوَاجِب بالتأويل وَفِي جعل الْمحرم عبَادَة بالتأويل كالمقتتلين فِي الْفِتْنَة حَيْثُ رَأَوْا ذَلِك وَاجِبا ومستحبا وكما قَالَ طَائِفَة مثل عبد الله بن دَاوُد

ص: 219

الْحَرْبِيّ وَغَيره إِن شرب النَّبِيذ الْمُخْتَلف فِيهِ أفضل من تَركه

فالتأويل يتَنَاوَل الْأَصْنَاف الْخَمْسَة فَيجْعَل الْوَاجِب مُسْتَحبا ومباحا ومكروها ومحرما وَيجْعَل المرحم مَكْرُوها ومباحا ومستحبا وواجبا وَهَكَذَا فِي سائرها

وَمِمَّا يعْتَبر بِهِ أَن النساك وَأهل الْعِبَادَة والإرادة توسعوا فِي السّمع وَالْبَصَر وَتوسع الْعلمَاء وَأهل الْكَلَام وَالنَّظَر فِي الْكَلَام وَالنَّظَر بِالْقَلْبِ حَتَّى صَار لهَؤُلَاء الْكَلَام الْمُحدث ولهؤلاء السماع الْمُحدث هَؤُلَاءِ فِي الْحُرُوف وَهَؤُلَاء فِي الصَّوْت وتجد أهل السماع كثيري الْإِنْكَار على أهل الْكَلَام كَمَا صنف الشَّيْخ ابو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ مصنفا فِي ذمّ الْكَلَام وَأَهله وهما من أَئِمَّة أهل السماع ونجد أهل الْعلم وَالْكَلَام مبالغين فِي ذمّ أهل السماع كَمَا نجده فِي كَلَام أبي بكر بن فورك وَكَلَام الْمُتَكَلِّمين فِي ذمّ السماع وَأَهله والصوفية مَا لَا يُحْصى كَثْرَة

وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ فيهم انحراف يشبه انحراف الْيَهُود أهل الْعلم

ص: 220

وَالْكَلَام وَهَؤُلَاء فيهم انحراف يشبه انحراف النَّصَارَى أهل الْعِبَادَة والإرادة

وَقد قَالَ الله فِي الطَّائِفَتَيْنِ وَقَالَت الْيَهُود لَيست النَّصَارَى على شئ وَقَالَت النَّصَارَى لَيست الْيَهُود على شئ وهم يَتلون الْكتاب كَذَلِك قَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ مثل قَوْلهم فَالله يحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سُورَة الْبَقَرَة 113]

وَلِهَذَا تَجِد تنافرا بَين الْفُقَهَاء والصوفية وَبَين الْعلمَاء والفقراء إمن هَذَا الْوَجْه

وَالصَّوَاب أَن يحمد من حَال كل قوم مَا حَمده الله وَرَسُوله كَمَا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة ويذم من حَال كل قوم مَا ذمه الله وَرَسُوله كَمَا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة ويجتهد الْمُسلم فِي تَحْقِيق قَوْله اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين [سُورَة الْفَاتِحَة 6 7] قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْيَهُود مغضوب عَلَيْهِم وَالنَّصَارَى ضالون وَقد تكلمنا على بعض مَا يتَعَلَّق

ص: 221

بِهَذِهِ الْأُمُور فِي غير هَذَا الْموضع فِي مَوَاضِع

الْوَجْه الثَّانِي أَن المُرَاد بالْقَوْل فِي هَذَا الْموضع الْقُرْآن كَمَا جَاءَ ذَلِك فِي قَوْله وَلَقَد وصلنا لَهُم القَوْل لَعَلَّهُم يتذكرون [سُورَة الْقَصَص 51] فَإِن القَوْل الَّذِي أمروا بتدبره هُوَ الَّذِي أمروا بأستماعه والتدبر بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال وَالِاعْتِبَار وَالِاسْتِمَاع فَمن أمرنَا بأستماع كل قَول أَو بأستماع القَوْل الَّذِي لم يشرع استماعه فَهُوَ بِمَنْزِلَة من أَمر بتدبر كل قَول وَالنَّظَر فِيهِ أَو بالتدبر للْكَلَام الَّذِي لم يشرع تدبره وَالنَّظَر فِيهِ فالمنحرفون فِي النّظر وَالِاسْتِدْلَال بِمثل هَذِه الْأَقْوَال من أهل الْكَلَام المبتدع

وَذَلِكَ أَن اللَّام فِي لُغَة الْعَرَب هِيَ للتعريف فتنصرف إِلَى الْمَعْرُوف عِنْد الْمُتَكَلّم والمخاطب وَهِي تعم جَمِيع الْمَعْرُوف فَاللَّام فِي القَوْل تَقْتَضِي التَّعْمِيم والاستغراق لَكِن عُمُوم مَا عَرفته وَهُوَ القَوْل الْمَعْهُود الْمَعْرُوف بَين الْمُخَاطب والمخاطب وَمَعْلُوم ان ذَلِك هُوَ القَوْل الَّذِي أثنى الله عَلَيْهِ وأمرنا بأستماعه والتدبر لَهُ واتباعه فَإِنَّهُ قَالَ فِي أول هَذِه السُّورَة تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْحَكِيم إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ فأعبد الله مخلصا لَهُ الدّين الا لله الدّين

ص: 222

الْخَالِص [سُورَة الزمر 1 3] فَذكر فِي السُّورَة كَلَامه وَدينه الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح

وَخير الْكَلَام كَلَام الله وأصل الْعَمَل الصَّالح عبَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ كَمَا فِي قَوْله قل الله أعبد مخلصا لَهُ ديني فأعبدوا مَا شِئْتُم من دونه قل إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة أَلا ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين إِلَى قَوْله وَالَّذين اجتنبوا الطاغوت أَن يعبدوا وأنابوا إِلَى الله لَهُم الْبُشْرَى فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله وَأُولَئِكَ هم اولو الْأَلْبَاب [سُورَة الزمر 14 18]

ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله أُولَئِكَ فِي ضلال مُبين الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابها مثاني تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله} [سُورَة الزمر 22 23]

فَأثْنى على أهل السماع والوجد للْحَدِيث الَّذِي نزله وَهُوَ أحسن الحَدِيث وَلم يثن على مُطلق الحَدِيث ومستمعه بل تضمن السِّيَاق الثَّنَاء على أهل ذكره وَالِاسْتِمَاع لحديثه كَمَا جمع بَينهمَا فِي قَوْله {ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله وَمَا نزل من الْحق} [سُورَة الْحَدِيد 16] وَفِي قَوْله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله}

ص: 223

{وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} [سُورَة الْأَنْفَال 2]

وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا وخيفة وَدون الْجَهْر من القَوْل} [سُورَة الْأَعْرَاف 204 205]

ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك {وَلَقَد ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل لَعَلَّهُم يتذكرون قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} [سُورَة الزمر 27 28] فَذكر الْقُرْآن وَبَين أَنه قدر فِيهِ من جَمِيع المقاييس والأمثال المضروبة لأجل التَّذْكِير فدعى هُنَا إِلَى التَّذْكِير وَالِاعْتِبَار بِمَا فِيهِ من الْأَمْثَال وَذَلِكَ يتَضَمَّن النّظر وَالِاسْتِدْلَال وَالْكَلَام الْمَشْرُوع كَمَا أَنه فِي الْآيَة الأولى أثنى على أهل السماع لَهُ والوجد وَذَلِكَ يتَضَمَّن السماع والوجد الْمَشْرُوع

ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون [سُورَة الزمر 32 33]

ذكر البُخَارِيّ فِي صَحِيحه تَفْسِير مُجَاهِد وَهُوَ أصح تَفْسِير التَّابِعين قَالَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ الْقُرْآن وَصدق بِهِ الْمُؤمن

ص: 224

يجِئ يَوْم الْقِيَامَة يَقُول هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتنِي عملت بِمَا فِيهِ فَذكر الصدْق والمصدق بِهِ مثنيا عَلَيْهِ وَذكر الْكَاذِب والمكذب للحق وهما نَوْعَانِ من القَوْل ملعونان هما وَأَهْلهَا فَكيف يكون مثنيا على من استمعها

وَلَا ريب أَن الْبِدْعَة الكلامية والسماعية الْمُخَالفَة للْكتاب وَالسّنة تَتَضَمَّن الْكَذِب على الله والتكذيب بِالْحَقِّ كالجهمية الَّذين يصفونَ الله بِخِلَاف ماوصف بِهِ نَفسه فيفترون عَلَيْهِ الْكَذِب أَو يروون فِي ذَلِك آثَار مُضَافَة إِلَى الله أَو يضْربُونَ مقاييس ويسندونها إِلَى الْعُلُوم الضرورية والمعقول الصَّحِيح الَّذِي هُوَ حق من الله وكل ذَلِك كذب ويكذبون بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ وَهُوَ مَا ورد بِهِ الْكتاب وَالسّنة من الْخَبَر بِالْحَقِّ والأمثال المضروبة لَهُ وَكَذَلِكَ كثير من الأشعارالتي يسْمعهَا اهل السماع قد يتَضَمَّن من الْكَذِب على الله والتكذيب بِالْحَقِّ أنواعا

وَنَفس الِانْتِصَار لما خَالف الشَّرِيعَة من السماع وَغَيره يتَضَمَّن الْكَذِب على الله مثل أَن يَقُول الْقَائِل إِن الله أَرَادَ بقوله {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل} [سُورَة الزمر 18] مستمع كل قَول فِي الْعَالم فَهَذَا كذب على الله وَإِن كَانَ قَائِله منا وَلِأَنَّهُم يكذبُون بِالْحَقِّ الْمُخَالف لأهوائهم

ص: 225

ثمَّ قَالَ تَعَالَى بعد ذَلِك إِنَّا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ فَمن اهْتَدَى فلنفسه وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا وَمَا انت عَلَيْهِم بوكيل [سُورَة الزمر 41] فَأخْبر أَنه أنزل القَوْل الَّذِي هُوَ الْكتاب بِالْحَقِّ وَإِن المهتدى لنَفسِهِ هداه وضلاله على نَفسه وَالرَّسُول لَيْسَ بوكيل عَلَيْهِم يُحْصى أَعْمَالهم ويجزيهم عَلَيْهَا بل إِلَى الله إيابهم وعَلى الله حسابهم

ثمَّ قَالَ يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم وَلَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِلَى قَوْله {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} [سُورَة الزمر 53 55] وَهَذَا الْأَحْسَن هُنَا هُوَ الْأَحْسَن الَّذِي فِي قَوْله {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} [سُورَة الزمر 18] وَفِي قَوْله لمُوسَى عَن التَّوْرَاة {فَخذهَا بِقُوَّة وَأمر قَوْمك يَأْخُذُوا بأحسنها} [سُورَة الْأَعْرَاف 145] كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله

ثمَّ قَالَ وسيق الَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم زمرا حَتَّى إِذا جاؤوها فتحت ابوابها وَقَالَ لَهُم خزنتها ألم يأتكم رسل مِنْكُم يَتلون عَلَيْكُم آيَات ربكُم وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا بِلَا إِلَى قَوْله {وسيق الَّذين اتَّقوا رَبهم إِلَى الْجنَّة زمرا} إِلَى قَوْله {وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده وأورثنا الأَرْض نتبوأ من الْجنَّة حَيْثُ نشَاء فَنعم أجر العاملين} [سُورَة الزمر 71 74] مَعَ قَوْله وجئ بالنبيين وَالشُّهَدَاء [سُورَة الزمر 69]

ص: 226

فَجعل الْفرْقَان بَين أهل الْجنَّة وَالنَّار هَؤُلَاءِ الْآيَات الَّتِي تلتها الرُّسُل عَلَيْهِم فَمن استمعها واتبعها كَانَ من الْمُؤمنِينَ أهل الْجنَّة وَمن أعرض عَنْهَا كَانَ من الْكَافرين أهل النَّار

وَالْكتاب هُوَ الَّذِي جعله الله حَاكما بَين النَّاس كَمَا قَالَ {وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ} [سُورَة الْبَقَرَة 213]

فَهَذَا كُله إِذا تدبره الْمُؤمن علم علما يَقِينا أَن الْكتاب وَالْقَوْل والْحَدِيث وآيات الله كل ذَلِك وَاحِد والمحمودون الَّذين أثنى الله عَلَيْهِم هم المتبعون لذَلِك استماعا وتدبرا وإيمانا وَعَملا أما مدح الِاسْتِمَاع لكل قَول فَهَذَا لَا يَقْصِدهُ عَاقل فضلا عَن ان يُفَسر بِهِ كَلَام الله وَهَذَا يتوكد بِالْوَجْهِ الثَّالِث

وَهُوَ ان الله فِي كِتَابه إِنَّمَا حمد اسْتِمَاع الْقُرْآن وذم المعرضين عَن استماعه وجعلهم أهل الْكفْر وَالْجهل الصم الْبكم فَأَما مدحه لاستماع كل قَول فَهَذَا شئ لم يذكرهُ الله قطّ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون} [سُورَة الْأَعْرَاف 204]

وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} [سُورَة الْأَنْفَال 2]

وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين من ذُرِّيَّة}

ص: 227

{آدم وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم وَإِسْرَائِيل وَمِمَّنْ هدينَا واجتبينا إِذا تتلى عَلَيْهِم آيَات الرَّحْمَن خروا سجدا وبكيا} [سُورَة مَرْيَم 58]

وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق} [سُورَة الْمَائِدَة 83]

وَقَالَ تَعَالَى {الَّذين أُوتُوا الْعلم من قبله إِذا يُتْلَى عَلَيْهِم يخرون للأذقان سجدا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبنَا إِن كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا ويخرون للأذقان يَبْكُونَ ويزيدهم خشوعا} [سُورَة الْإِسْرَاء 107 109]

وَقَالَ الله تَعَالَى فِي ذمّ المعرضين عَنهُ {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [سُورَة الْأَنْفَال 22 23]

وَقَالَ تَعَالَى {وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دُعَاء ونداء صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ} [سُورَة الْبَقَرَة 171]

وَقَالَ تَعَالَى وَالَّذين إِذا ذكرُوا بآيَات رَبهم لم يخروا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا [سُورَة الْفرْقَان 73]

وفال تَعَالَى وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تغلبون سُورَة فصلت 26

وَقَالَ تَعَالَى فَمَا لَهُم عَن التَّذْكِرَة معرضين كَأَنَّهُمْ حمر

ص: 228

مستفرة فرت من قسورة [سُورَة المدثر 49 51]

وَقَالَ تَعَالَى أَفَمَن هَذَا الحَدِيث تعْجبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُم سامدون [سُورَة النَّجْم 59 61] قَالَ غير وَاحِد من السّلف هُوَ الْغناء فَقَالَ اسمد لنا أَي عَن لنا فذم المعرض عَمَّا يجب من اسْتِمَاع المشتغل عَنهُ باستماع الْغناء كَمَا هُوَ فعل كثير من الَّذين أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات وَحَال كثير من المتنسكة فِي اعتياضهم بِسَمَاع المكاء والتصدية عَن سَماع قَول الله تَعَالَى

وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث ليضل عَن سَبِيل الله بِغَيْر علم ويتخذها هزوا [سُورَة لُقْمَان 6]

وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين كفرُوا سَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ ختم الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم ثمَّ قَالَ وعَلى أَبْصَارهم غشاوة [سُورَة الْبَقَرَة 6 7]

وَقَالَ تَعَالَى وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ وَفِي آذاننا وقر وَمن بَيْننَا وَبَيْنك حجاب فاعمل إننا عاملون [سُورَة فصلت 5]

ص: 229

وَقَالَ تَعَالَى وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك حَتَّى إِذا خَرجُوا من عنْدك قَالُوا للَّذين أُوتُوا الْعلم مَاذَا قَالَ آنِفا أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم وَاتبعُوا أهواءهم [سُورَة مُحَمَّد 16]

وَقَالَ وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك أفأنت تسمع الصم وَلَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ [سُورَة يُونُس 42]

وَقَالَ وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك أفأنت تهدى الْعَمى وَلَو كَانُوا لَا يبصرون [سُورَة يُونُس 43]

وَقَالَ تَعَالَى وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا [سُورَة الْأَنْعَام 25]

الْوَجْه الرَّابِع أَنهم لَا يستحسنون اسْتِمَاع كل قَول منظوم ومنثور بل هم من أعظم النَّاس كَرَاهَة ونفرة لما لَا يحبونه من الْأَقْوَال منظومها ومنثورها ونفورهم عَن كثير من الْأَقْوَال أعظم من نفور المنازع لَهُم فِي سَماع المكاء والتصدية عَن هَذَا السماع وَإِذا لم يكن الْعُمُوم مرَادا بالِاتِّفَاقِ كَانَ حمل الْآيَة عَلَيْهِ بَاطِلا

الْوَجْه الْخَامِس أَنه قَالَ فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه سُورَة الزمر 17 18] فمدحهم بأستماع القَوْل وَاتِّبَاع أحْسنه

وَمَعْلُوم أَن كثيرا من القَوْل لَيْسَ فِيهِ حسن فضلا عَن ان يكون فِيهِ أحسن بل فِيهِ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَمثل كلمة خبيثة

ص: 230

كشجرة خبيثة اجتثت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار [سُورَة إِبْرَاهِيم 26]

وَقَالَ تَعَالَى وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أوكذب بِالْحَقِّ لما جَاءُوهُ [سُورَة العنكبوت 68]

وَقَالَ وَكَذَلِكَ نجزي المفترين [سُورَة الاعراف 152]

وَقَالَ وَلَا يغتب بَعْضكُم بعبضا [سُورَة الحجرات 12]

وَقَالَ تَعَالَى وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ [سُورَة الحجرات 11]

وَقَالَ إِذا تناجيتم فَلَا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرَّسُول [سُورَة المجادلة 9]

وَقَالَ تَعَالَى وَيَقُولُونَ طَاعَة فَإِذا برزوا من عنْدك بَيت طَائِفَة مِنْهُم غير الَّذِي تَقول وَالله يكْتب مَا يبيتُونَ فَأَعْرض عَنْهُم وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا [سُورَة النِّسَاء 81]

وَهُوَ قد اسْتدلَّ بقوله فيتبعون أحْسنه [سُورَة الزمر 18] على الْعُمُوم وَهُوَ حجَّة على صدق ذَلِك كَمَا تقدم

وَقَوله فيتبعون أحْسنه كَقَوْلِه فِي هَذِه السُّورَة وَاتبعُوا أحسن مَا انْزِلْ إِلَيْكُم من ربكُم [سُورَة الزمر 55] فَهَذِهِ الْكَلِمَة مثل هَذِه الْكَلِمَة سَوَاء بِسَوَاء

وَهَذَا من مَعَاني تشابه الْقُرْآن كَمَا قَالَ تَعَالَى الله نزل أحسن

ص: 231

الحَدِيث كتابا متشابها مثانى [سُورَة الزمر 23] فأتباع أحسن مَا أنزل إِلَيْنَا من رَبنَا هُوَ اتِّبَاع أحسن القَوْل

وَبِهَذَا أَمر بني إِسْرَائِيل حَيْثُ قَالَ وكتبنا لَهُ فِي الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فَخذهَا بِقُوَّة وَأمر قَوْمك يَأْخُذُوا بأحسنها [سُورَة الْأَعْرَاف 145]

ثمَّ قَالَ ابو الْقَاسِم وَقَالَ تَعَالَى فهم فِي رَوْضَة يحبرون [سُورَة الرّوم 15] جَاءَ فِي التَّفْسِير أَنه السماع

قلت فَهَذَا قد ورد عَن طَائِفَة من السّلف أَنه السماع الْحسن فِي الْجنَّة وان الْحور الْعين يغنين بِأَصْوَات لم يسمع الْخَلَائق بِأَحْسَن مِنْهَا لَكِن تنعيم الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ بالأصوات الْحَسَنَة فِي الْجنَّة واستماعها لَا يَقْتَضِي أَنه يشرع أَو يُبِيح سَماع كل صَوت فِي الدُّنْيَا فقد وعد فِي الْآخِرَة بأَشْيَاء حرمهَا فِي الدُّنْيَا كَالْخمرِ وَالْحَرِير واواني الذَّهَب وَالْفِضَّة

بل قَالَ ص من شرب الْخمر فِي الدُّنْيَا لم يشْربهَا فِي الْآخِرَة وَقَالَ من لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي

ص: 232

الْآخِرَة وَقَالَ لَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا تَأْكُلُوا فِي صحافها فَإِنَّهَا لَهُم فِي الدُّنْيَا وَلكم فِي الْآخِرَة

وَهَذِه الْأَحَادِيث من الصِّحَاح الْمَشَاهِير الْمجمع على صِحَّتهَا فقد أخبر أَنه من اسْتعْمل هَذِه الامور فِي الدُّنْيَا من المطعوم والملبوس وَغَيرهَا لم يستعلمه فِي الْآخِرَة

فَلَو قيل لَهُ هَذَا السماع الْحسن الْمَوْعُود بِهِ فِي الْجنَّة هُوَ لمن نزه مسامعه فِي الدُّنْيَا عَن سَماع الملاهي لَكَانَ هَذَا أشبه بِالْحَقِّ وَالسّنة وَقد ورد بِهِ الْأَثر يَقُول الله يَوْم الْقِيَامَة أَيْن الَّذين كَانُوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عَن اللَّهْو وَمَزَامِير الشَّيَاطِين أدخلوهم وأسمعوهم تحميدي وتمجيدي وَالثنَاء على وأخبروهم أَنهم لَا خوف عَلَيْهِم ولاهم يَحْزَنُونَ

ص: 233

ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَاعْلَم أَن سَماع الْأَشْعَار بالألحان الطّيبَة والنغم المستلذة إِذا لم يعْتَقد المستمع مَحْظُورًا وَلم يسمع على مَذْمُوم فِي الشَّرْع وَلم ينجر فِي زمَان هَوَاهُ وَلم ينخرط فِي سلك لهوه مُبَاحا فِي الْجُمْلَة وَلَا خلاف أَن الْأَشْعَار أنشدت بَين يَدي النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَنه سَمعهَا وَلم يُنكر عَلَيْهِم فِي إنشادها فَإِذا جَازَ سماعهَا بِغَيْر الألحان الطّيبَة فَلَا يتَغَيَّر الحكم بِأَن يسمع بالألحان هَذَا ظَاهر من الْأَمر ثمَّ مَا يُوجب للمستمع توفر الرَّغْبَة على الطَّاعَات وتذكر مَا أعد الله لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ من الدَّرَجَات ويحمله على التَّحَرُّز من الزلات وَيُؤَدِّي إِلَى قلبه فِي الْحَال صفاء الواردات مُسْتَحبّ فِي الدّين ومختار فِي الشَّرْع

قَالَ وَقد جرى على لفظ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مَا هُوَ قريب من الشّعْر وَإِن لم يقْصد أَن يكون شعرًا وَذكر الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ عَن أنس بن مَالك قَالَ كَانَت الْأَنْصَار يحفرون الخَنْدَق

ص: 234

فَجعلُوا يَقُولُونَ

نَحن الَّذين بَايعُوا مُحَمَّدًا على الْجِهَاد مَا بَقينَا أبدا

فأجابهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

اللَّهُمَّ لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة فَأكْرم الْأَنْصَار والمهاجرة

وَقَالَ لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ مِنْهُ ص على وزن الشّعْر

قلت تضمن هَذَا الْكَلَام شَيْئَيْنِ

أَحدهمَا إِبَاحَة سَماع الألحان والنغمات المستلذة بِشَرْط أَلا يعْتَقد المستمع مَحْظُورًا وَألا يسمع مذموما فِي الشَّرْع وَألا يتبع مِنْهُ هَوَاهُ

وَالثَّانِي أَنما أوجد للمستمع الرَّغْبَة فِي الطَّاعَات والاحتراز من

ص: 235

الذُّنُوب وتذكر وعد الْحق ووصول الْأَحْوَال الْحَسَنَة إِلَى قلبه فَهُوَ مُسْتَحبّ

وعَلى هَاتين المقدمتين بني من قَالَ بأستحباب ذَلِك مثل أبي عبد الرَّحْمَن السلمى وَأبي حَامِد وَغَيرهمَا وَفِي هَؤُلَاءِ من قد يُوجِبهُ أَحْيَانًا إِذا رَأَوْا أَنه لَا يُؤَدِّي الْوَاجِب إِلَّا بِهِ

وَكَذَلِكَ يفضلونه على سَماع الْقُرْآن إِذا رَأَوْا أَن مَا يحصل بِسَمَاع الألحان أَكثر مِمَّا يحصل بِسَمَاع الْقُرْآن وهم فِي ذَلِك يضاهون لمن يُوجب من الْكَلَام الْمُحدث مَا يُوجِبهُ وَلمن يفضل مَا فِيهِ من الْعلم على مَا يُسْتَفَاد من الْقُرْآن والْحَدِيث

لَكِن فِي أُولَئِكَ من يرى الْإِيمَان لَا يتم إِلَّا بِمَا ابتدعوه من الْكَلَام وَفِيهِمْ من يفكى بمخالفته اَوْ يفسق

وَأهل السماع أَيْضا فيهم من يرى الْإِيمَان لَا يتم إِلَّا بِهِ وَفِيهِمْ من يَقُول فِي منكره الْأَقْوَال الْعَظِيمَة وَقد يكون يسْعَى فِي قتل منكره لَكِن جنسهم كَانَ خيرا من جنس المتكلمة مِمَّا فعلوا غير ذَلِك

ص: 236

من الذُّنُوب كَمَا يستحبون علم الْكَلَام ويوجبونه ويذمون تَاركه ويسبونه ويعاملونه من الْعَدَاوَة بِمَا يُعَامل بِهِ الْكَافِر وبإزاء اسْتِحْبَاب هَؤُلَاءِ أَو ايجابهم أَن قوما من أهل الْعلم يكفرونهم بأستحباب ذَلِك أَو إِيجَابه وَلِهَذَا تَجِد فِي المستحبين لَهُ وَفِي المنكرين لَهُ من الغلو مَا اوجب الِافْتِرَاق والعداوة والبغضاء وأصل ذَلِك ترك الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا لما شَرعه الله من السماع الشَّرْعِيّ الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله وعباده الْمُؤْمِنُونَ

وَهَاتَانِ المقدمتان كِلَاهُمَا غلط مُشْتَمل على دَلِيل مُجمل من جنس استدلالهم بِمَا ظنوه من الْعُمُوم فِي قَوْله الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه [سُورَة الزمر 18] وَبِمَا وعد الله بِهِ فِي الْآخِرَة من السماع الْحسن

وَلِهَذَا نَشأ من هَاتين المقدمتين اللَّتَيْنِ لبس فيهمَا الْحق بِالْبَاطِلِ قَول لم يذهب إِلَيْهِ أحد من سلف الْأمة وَلَا أئمتها فَإِنَّهُ وَإِن نقل عَن بعض أهل الْمَدِينَة وَغَيرهم أَنه سمع الْغناء فَلم يقل أحد مِنْهُم أَنه مُسْتَحبّ فِي الدّين ومختار فِي الشَّرْع اصلا بل كَانَ فَاعل ذَلِك مِنْهُم يرى مَعَ ذَلِك كَرَاهَته وَأَن تَركه أفضل أَو يرى أَنه من الذُّنُوب وغايته أَن يطْلب سَلَامَته من الْإِثْم اَوْ يرَاهُ مُبَاحا كألتوسع فِي لذات المطاعم والمشارب والملابس والمساكن فَأَما رَجَاء الثَّوَاب بِفِعْلِهِ والتقرب إِلَى الله فَهَذَا لَا

ص: 237

يحفظ عَن أحد من سلف الْأمة وأئمتها بل الْمَحْفُوظ عَنْهُم أَنهم رَأَوْا هَذَا من ابتداع الزَّنَادِقَة كَمَا قَالَ الْحسن بن عبد الْعَزِيز الجروي سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول خلفت بِبَغْدَاد شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التغبير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن

والتغبير هُوَ الضَّرْب بالقضيب غبر أَي أثار غبارا وَهُوَ آلَة من الْآلَات الَّتِي تقرن بتلحين الْغناء

وَالشَّافِعِيّ بِكَمَال علمه وإيمانه علم ان هَذَا مِمَّا يصد الْقُلُوب عَن الْقُرْآن ويعوضها بِهِ عَنهُ كَمَا قد وَقع أَن هَذَا إِنَّمَا يَقْصِدهُ زندبق مُنَافِق من منافقة الْمُشْركين أَو الصابئين وَأهل الْكتاب فَإِنَّهُم هم الَّذين أمروا بِهَذَا فِي الأَصْل كَمَا قَالَ ابْن الرواندي اخْتلف الْفُقَهَاء فِي

ص: 238

السماع فَقَالَ بَعضهم هُوَ مُبَاح وَقَالَ بَعضهم هُوَ محرم وَعِنْدِي أَنه وَاجِب وَهَذَا مِمَّا اعتضد بِهِ أَبُو عبد الرَّحْمَن فِي مَسْأَلَة السماع وَهَذَا مُتَّهم بالزندقة

وَكَذَلِكَ ابْن سينا فِي إشاراته أَمر بِسَمَاع الألحان وبعشق الصُّور وَجعل ذَلِك مِمَّا يُزكي النُّفُوس ويهذبها ويصفيها وَهُوَ من

ص: 239

الصابئة الَّذين خلطوا بهَا من الحنيفة مَا خلطوا وَقَبله الفارابي كَانَ إِمَامًا فِي صناعَة التصويت موسيقيا عَظِيما

فَهَذَا كُله يُحَقّق قَول الشَّافِعِي رضي الله عنه وَنحن نتكلم على المقدمتين إِن شَاءَ الله بِكَلَام يُنَاسب مَا كتبته هُنَا

فَأَما احتجاجه بِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم سمع مَا أنْشد بَين يَدَيْهِ من الْأَشْعَار وَلم يُنكره وَأَنه قَالَ مَا يشبه الشّعْر فَيُقَال بل الشّعْر أعظم مِمَّا وَصفته فقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِن من الشّعْر حِكْمَة

ص: 240

وَقَالَ جاهدوا الْمُشْركين بِأَيْدِيكُمْ وألسنتكم وَأَمْوَالكُمْ

وَكَانَ ينصب لحسان منبرا لينشد الشّعْر الَّذِي يهجو فِيهِ الْمُشْركين وَقَالَ اللَّهُمَّ أيده بِروح الْقُدس وَقَالَ ص لَهُ إِن روح الْقُدس مَعَك مَا دمت تنافح عَن نبيه

وَقَالَ عَن عبد الله بن رَوَاحَة إِن أَخا لكم لَا يَقُول الرَّفَث

ص: 241

وَقد استنشد الشريد بن سُوَيْد الثَّقَفِيّ مائَة قافية من شعر أُميَّة بن أبي الصَّلْت وَهُوَ يَقُول هيه هيه

وَسمع قصيدة كَعْب بن زُهَيْر وَهَذَا بَاب وَاسع

وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه بعد ان قَالَ وَالشعرَاء يتبعهُم الْغَاوُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء 224] ألم تَرَ أَنهم فِي كل وَاد يهيمون وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد مَا ظلمُوا وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون [سُورَة الشُّعَرَاء 225 227] فَلم يذم الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَذكروا الله كثيرا من الشُّعَرَاء المنتصرين من بعد مَا ظلمُوا

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا

ص: 242

حَتَّى يرِيه خير من أَن يمتلئ شعرًا فذم الممتلئ بالشعر الَّذِي لم يسْتَعْمل بِمَا يُوجب الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح وَذكر الله كثيرا وَلم يذم الشّعْر مُطلقًا بل قد يبين معنى الحَدِيث مَا قَالَه الشَّافِعِي الشّعْر كَلَام فحسنه كحسن الْكَلَام وقبيحه كقبيحه هَذَا قَوْله فِي الشّعْر مَعَ قَوْله فِي التغبير

ليبين أَن إِبَاحَة أَحدهمَا غير مستلزمة الآخر

وَأما قَوْله فَإِذا جَازَ سماعهَا بِغَيْر الألحان الطّيبَة فَلَا يتَغَيَّر الحكم بِأَن تسمع بالألحان الطّيبَة هَذَا ظَاهر من الْأَمر فَإِن هَذِه حجَّة فَاسِدَة جدا وَالظَّاهِر إِنَّمَا هُوَ عكس ذَلِك فَإِن نفس سَماع الالحان مُجَردا عَن كَلَام يحْتَاج إِلَى ان تكون مُبَاحَة مَعَ انفرادها وَهَذَا من أكبر مواقع النزاع فَإِن أَكثر الْمُسلمين على خلاف ذَلِك وَلَو كَانَ كل من الشّعْر أَو التلحين مُبَاحا على الِانْفِرَاد لم يلْزم الْإِبَاحَة عِنْد الِاجْتِمَاع إِلَّا بِدَلِيل خَاص فَإِن التَّرْكِيب لَهُ خَاصَّة يتَعَيَّن الحكم بهَا

ص: 243

وَهَذِه الْحجَّة بِمَنْزِلَة حجَّة من قَالَ إِن خبر الْوَاحِد إِذا لم يفد الْعلم عِنْد انْفِرَاده لم يفد الْعلم مَعَ نَظَائِره وَمَعَ الْقَرَائِن فَجحد الْعلم الْحَاصِل بالتواتر

وبمنزلة مَا يذكر عَن إِيَاس بن مُعَاوِيَة أَن رجلا قَالَ لَهُ مَا تَقول فِي المَاء قَالَ حَلَال قَالَ وَالتَّمْر قَالَ حَلَال قَالَ فالنبيذ قَالَ مَاء وتمر

فَقَالَ لَهُ إِيَاس بن مُعَاوِيَة أَرَأَيْت لَو ضربتك بكف من تُرَاب أَكنت أَقْتلك قَالَ لَا قَالَ فَإِن ضربتك بكف من تبن أَكنت أَقْتلك قَالَ لَا قَالَ فَإِن ضربتك بِمَاء أَكنت أَقْتلك قَالَ لَا قَالَ فَإِن أخذت المَاء والتبن وَالتُّرَاب فَجَعَلتهمَا طينا وَتركته حَتَّى جف وضربتك بِهِ أَقْتلك قَالَ نعم فَقَالَ كَذَلِك النَّبِيذ يَقُول إِن الْقَاتِل هُوَ الْقُوَّة الْحَاصِلَة بالتركيب والمفسد لِلْعَقْلِ هُوَ الْقُوَّة المسكرة الْحَاصِلَة بالتركيب

وَكَذَلِكَ هُنَا الَّذِي يسكر النُّفُوس ويلهيها ويصدها عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة قد يكون فِي التَّرْكِيب وَلَيْسَت الْأَصْوَات المجتمعة فِي استفزارها للنفوس وإزعاجها إِمَّا بنياحة وتحزين وَإِمَّا بإطراب وإسكار وَإِمَّا بإغضاب وحمية بِمَنْزِلَة الصَّوْت الْوَاحِد

وَهَذَا الْقُرْآن الَّذِي هُوَ كَلَام الله وَقد ندب النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى تَحْسِين الصَّوْت بِهِ وَقَالَ زَينُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ

ص: 244

وَقَالَ لأبي مُوسَى لقد مَرَرْت بك البارحة وَأَنت تقْرَأ فَجعلت أستمع لقراءتك فَقَالَ لَو علمت أَنَّك تستمع لحبرته لَك تحبيرا

وَكَانَ عمر يَقُول يَا أَبَا مُوسَى ذكرنَا رَبنَا فَيقْرَأ أَبُو مُوسَى وهم يَسْتَمِعُون

ص: 245

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا أذن الله لشئ كأذنه لنَبِيّ حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ ويجهر بِهِ

وَقَالَ لله أَشد أذنا إِلَى الرجل الْحسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ من صَاحب الْقَيْنَة إِلَى قَيْنَته

وَمَعَ هَذَا فَلَا يسوغ أَن يقْرَأ الْقُرْآن بألحان الْغناء وَلَا أَن يقرن بِهِ من الألحان مَا يقرن بِالْغنَاءِ من الْآلَات وَغَيرهَا لَا عِنْد من يَقُول بِإِبَاحَة ذَلِك وَلَا عِنْد من يحرمه بل الْمُسلمُونَ متفقون على الْإِنْكَار لِأَن يقرن بتحسين الصَّوْت بِالْقُرْآنِ الْآلَات المطربة بالفم كالمزامير وباليد كالغرابيل

فَلَو قَالَ قَائِل النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد قَرَأَ الْقُرْآن وَقد استقرأه من ابْن مَسْعُود وَقد اسْتمع لقِرَاءَة أبي مُوسَى وَقَالَ لقد أُوتى مِزْمَارًا من مَزَامِير دَاوُد فَإِذا قَالَ قَائِل إِذا جَازَ ذَلِك بِغَيْر هَذِه الألحان فَلَا

ص: 246

بِتَغَيُّر الحكم بِأَن يسمع بالألحان كَانَ هَذَا مُنْكرا من القَوْل وزورا بأفاق النَّاس

وَأما الْمُقدمَة الثَّانِيَة وَهِي قَوْله بعد أَن أثبت الْإِبَاحَة إِن مَا أوجب للمستمع أَن يوفر الرَّغْبَة على الطَّاعَات وَيذكر مَا أعد الله لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ من الدَّرَجَات ويحمله على التَّحَرُّز من الزلات وَيُؤَدِّي إِلَى قلبه فِي الْحَال صفاء الواردات مُسْتَحبّ فِي الدّين ومختار فِي الشَّرْع فَنَقُول تَحْقِيق هَذِه الْمُقدمَة أَن الله سُبْحَانَهُ يحب الرَّغْبَة فِيمَا أَمر بِهِ والحذر مِمَّا نهى عَنهُ وَيُحب الْإِيمَان بوعده ووعيده وتذكر ذَلِك وَمَا يُوجِبهُ من خَشيته ورجائه ومحبته والإنابة إِلَيْهِ وَيُحب الَّذين يحبونه فَهُوَ يحب الْإِيمَان أُصُوله وفروعه وَالْمُؤمنِينَ وَالسَّمَاع يحصل المحبوب وَمَا حصل المحبوب فَهُوَ مَحْبُوب فالسماع مَحْبُوب

وَهَذِه الْمُقدمَة مبناها على أصلين أَحدهمَا معرفَة مَا يُحِبهُ الله

وَالثَّانِي أَن السماع يحصل مَحْبُوب الله خَالِصا أَو راجحا

فَإِنَّهُ إِذا حصل محبوبه ومكروهه وَالْمَكْرُوه أغلب كَانَ مذموما وَإِن تكافأ فِيهِ المحبوب وَالْمَكْرُوه لم يكن وَلَا مَكْرُوها

ص: 247

أما الأَصْل الأول وَهُوَ معرفَة مَا يُحِبهُ الله فَهِيَ أسهل وَإِن كَانَ غلط فِي كثير مِنْهَا كثير من النَّاس

وَأما الأَصْل الثَّانِي وَهُوَ ان السماع الْمُحدث يحصل هَذِه المحبوبات فالشأن فِيهَا فَفِيهَا زل من زل وضل من ضل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه

وَنحن نتكلم على ذَلِك بِوُجُوه نبين بهَا إِن شَاءَ الله الْمَقْصُود

الْوَجْه الأول أَن نقُول يجب أَن يعرف أَن الْمرجع فِي الْقرب والطاعات والديانات والمستحبات إِلَى الشَّرِيعَة لَيْسَ لأحد أَن يبتدع دينا لم يَأْذَن الله بِهِ وَيَقُول هَذَا يُحِبهُ الله بل بِهَذِهِ الطَّرِيق بدل دين الله وشرائعه وابتدع الشّرك وَمَا لم ينزل الله بِهِ سُلْطَانا

وكل مَا فِي الْكتاب وَالسّنة وَكَلَام سلف الْأمة وأئمة الدّين ومشايخه من الحض على اتِّبَاع مَا أنزل إِلَيْنَا من رَبنَا وَاتِّبَاع صراطه الْمُسْتَقيم وَاتِّبَاع الْكتاب وَاتِّبَاع الشَّرِيعَة وَالنَّهْي عَن ضد ذَلِك فكله نهى عَن هَذَا وَهُوَ ابتداع دين لم يَأْذَن الله بِهِ سَوَاء كَانَ الدّين فِيهِ عبَادَة غير الله وَعبادَة الله بِمَا لم يَأْمر بِهِ بل دين الْحق أَن نعْبد الله وَحده لَا شريك لَهُ بِمَا أمرنَا بِهِ على أَلْسِنَة رسله كَمَا قَالَ الفضيل بن عِيَاض فِي قَوْله ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا [سُورَة الْملك 2] قَالَ أخلصه وأصوبه قيل يَا أَبَا عَليّ مَا أخلصه وأصوبه فَقَالَ إِن الْعَمَل

ص: 248

إِذا كَانَ خَالِصا وَلم يكن صَوَابا لم يقبل وَإِذا كَانَ صَوَابا وَلم يكن خَالِصا لم يقبل حَتَّى يكون خَالِصا صَوَابا والخالص أَن يكون لله وَالصَّوَاب أَن يكون على أَلْسِنَة

وَكَلَام الْمَشَايِخ الَّذين ذكرهم أَبُو الْقَاسِم فِي هَذَا الأَصْل كثير مثل مَا ذكره عَن الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي أَنه قَالَ رُبمَا يَقع النُّكْتَة فِي قلبِي من نكت الْقَوْم أَيَّامًا فَلَا أقبل مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدين عَدْلَيْنِ الْكتاب وَالسّنة

وَعَن صَاحبه أَحْمد بن أبي الْحوَاري أَنه قَالَ من عمل بِلَا أَتبَاع سنة فَبَاطِل عمله

وَعَن سهل بن عبد الله التسترِي أَنه قَالَ كل فعل يَفْعَله العَبْد بِغَيْر اقْتِدَاء طَاعَة كَانَ أَو مَعْصِيّة فَهُوَ عَيْش النَّفس وكل فعل يقفعله بالاقتداء فَهُوَ عَذَاب على النَّفس وَعَن أبي حَفْص النَّيْسَابُورِي أَنه قَالَ من لم يزن أَفعاله وأحواله كل وَقت بِالْكتاب وَالسّنة وَلم يتهم خواطره فَلَا تعده فِي ديوَان الرِّجَال

وَعَن الْجُنَيْد بن مُحَمَّد أَنه قَالَ الطّرق كلهَا مسدودة على الْخلق إِلَّا من اقتفى أثر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم

وَعَن الْجُنَيْد أَيْضا أَنه قَالَ من لم يحفظ الْقُرْآن وَلم يكْتب الحَدِيث لَا يقْتَدى بِهِ فِي هَذَا الْأَمر لِأَن علمنَا هَذَا مُقَيّد بِالْكتاب وَالسّنة وَعَن أبي

ص: 249

عُثْمَان النَّيْسَابُورِي أَنه قَالَ من أَمر السّنة على نَفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة وَمن أَمر الْهوى على نَفسه نطق بالبدعة قَالَ الله تَعَالَى وَإِن تطيعوا تهتدوا [سُورَة النُّور 54]

وَعَن أبي حَمْزَة الْبَغْدَادِيّ قَالَ من علم طَرِيق الْحق تَعَالَى سهل عَلَيْهِ سلوكه وَلَا دَلِيل على الطَّرِيق إِلَى الله إِلَّا مُتَابعَة الرَّسُول فِي أَحْوَاله وأقواله وأفعاله

وَعَن ابي عَمْرو بن نجيد قَالَ كل حَال لَا يكون نتيجة علم فَإِن ضَرَره أَكثر على صَاحبه من نَفعه وَسُئِلَ عَن التصوف فَقَالَ الصَّبْر تَحت الْأَمر والنهى

وَعَن أبي يَعْقُوب النهرجورى قَالَ أفضل الْأَحْوَال مَا قَارن الْعلم وَمثل هَذَا كثير فِي كَلَام أَئِمَّة الْمَشَايِخ وهم إِنَّمَا وصوا بذلك لما يعلمونه من حَال كثير من السالكين أَنه يجْرِي مَعَ ذوقه ووجده وَمَا يرَاهُ ويهواه غير مُتبع لسبيل الله الَّتِي بعث بهَا وَهَذَا نوع الْهوى بِغَيْر هدى من الله

وَالسَّمَاع الْمُحدث يُحَرك الْهوى وَلِهَذَا كَانَ بعض الْمَشَايِخ المصنفين فِي ذمه سمى كِتَابه الدَّلِيل الْوَاضِح فِي النهى عَن ارْتِكَاب الْهوى الفاضح وَلِهَذَا كثيرا مَا يُوجد فِي كَلَام الْمَشَايِخ الْأَمر بمتابعة الْعلم يعنون بذلك

ص: 250

الشَّرِيعَة كَقَوْل أبي يزِيد البسطامي رحمه الله عملت فِي المجاهدة ثَلَاثِينَ سنة فَمَا وجدت شَيْئا أَشد عَليّ من الْعلم ومتابعته وَلَوْلَا اخْتِلَاف الْعلمَاء لتفتت وَاخْتِلَاف الْعلمَاء رَحْمَة إِلَّا فِي تَجْرِيد التَّوْحِيد

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن النوري من رَأَيْته يدعى مَعَ الله حَالَة تخرجه عَن حد الْعلم الشَّرْعِيّ فَلَا تقربن مِنْهُ

وَقَالَ أَبُو عُثْمَان النَّيْسَابُورِي الصُّحْبَة مَعَ الله بِحسن الْأَدَب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مَعَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بأتباع سنته وَلُزُوم ظَاهر الْعلم والصحبة مَعَ أَوْلِيَاء الله بالاحترام والخدمة والصحبة مَعَ الْأَهْل بِحسن الْخلق والصحبة مَعَ الإخوان بدوام الْبشر مَا لم يكن إِثْمًا والصحبة مَعَ الْجَهَالَة بِالدُّعَاءِ لَهُم وَالرَّحْمَة عَلَيْهِم

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لما كَانَ أصل الطَّرِيق هُوَ الْإِرَادَة وَالْقَصْد وَالْعَمَل فِي ذَلِك فِيهِ من الْحبّ والوجد مَا لَا يَنْضَبِط فكثير مَا يعْمل السالك بِمُقْتَضى مَا يجده فِي قلبه من الْمحبَّة وَمَا يُدْرِكهُ ويذوقه من طعم الْعِبَادَة وَهَذَا إِذا لم يكن مُوَافقا لأمر الله وَرَسُوله وَإِلَّا كَانَ صَاحبه فِي ضلال من جنس ضلال الْمُشْركين وَأهل الْكتاب الَّذين اتبعُوا أهوائهم بِغَيْر هدى من الله

ص: 251

قَالَ الله تَعَالَى أَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ أفأنت تكون عَلَيْهِ وَكيلا [سُورَة الْفرْقَان 43]

وَقَالَ تَعَالَى فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك فَأعْلم أَنما يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين [سُورَة الْقَصَص 50]

وَقَالَ تَعَالَى وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم إِن رَبك هُوَ أعلم بالمعتدين [سُورَة الْأَنْعَام 119]

وَقَالَ تَعَالَى وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم قل إِن هدى الله الله هُوَ الْهدى وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم مَا لَك من الله من ولى وَلَا نصير [سُورَة الْبَقَرَة 120]

وَقَالَ تَعَالَى {قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل} [سُورَة الْمَائِدَة 77]

وَكَثِيرًا مَا يبتلى من أهل السماع بشعبة من حَال النَّصَارَى من الغلو فِي الدّين وَاتِّبَاع أهواء قوم قد ضلوا من قبل وَإِن كَانَ فيهم من فِيهِ فضل وَصَلَاح فهم فِيمَا ابتدعوه من ذَلِك ضالون عَن سَبِيل الله يحسبون أَن هَذِه الْبِدْعَة تهديهم إِلَى محبَّة الله وَإِنَّهَا لتصدهم عَن سَبِيل الله فَإِنَّهُم عشوا عَن ذكر الله الَّذِي هُوَ كِتَابه عَن استماعه وتدبره واتباعه

ص: 252

وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين وَإِنَّهُم ليصدونهم عَن السَّبِيل وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون حَتَّى إِذا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْت بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس القرين وَلنْ ينفعكم الْيَوْم إِذْ ظلمتم أَنكُمْ فِي الْعَذَاب مشتركون} [سُورَة الزخرف 36 39]

وَقد قَالَ تَعَالَى {ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر فاتبعها وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ إِنَّهُم لن يغنوا عَنْك من الله شَيْئا وَإِن الظَّالِمين بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالله ولي الْمُتَّقِينَ} [سُورَة الجاثية 18 19] فالشريعة الَّتِي جعله عَلَيْهَا تَتَضَمَّن مَا أَمر بِهِ وكل حب وذوق وَوجد لَا تشهد لَهُ هَذِه الشَّرِيعَة فَهُوَ من أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ فَإِن الْعلم بِمَا يُحِبهُ الله إِنَّمَا هُوَ مَا أنزلهُ الله إِلَى عباده من هداه

وَلِهَذَا قَالَ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ {وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم} [سُورَة الْأَنْعَام 119] وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى {فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} [سُورَة الْقَصَص 50]

فَكل من اتبع ذوقا أَو وجدا بِغَيْر هدى من الله سَوَاء كَانَ ذَلِك عَن حب أَو بغض فَلَيْسَ لأحد أَن يتبع مَا يُحِبهُ فيأمر بِهِ ويتخذه دينا وَينْهى عَمَّا يبغضه ويذمه ويتخذ ذَلِك دينا إِلَّا بهدى من الله وَهُوَ شَرِيعَة الله الَّتِي جعل عَلَيْهَا رَسُوله وَمن اتبع مَا يهواه حبا وبغضا بِغَيْر الشَّرِيعَة فقد اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله

ص: 253

وَلِهَذَا كَانَ السّلف يعدون كل من خرج عَن الشَّرِيعَة فِي شئ من الدّين من أهل الْأَهْوَاء ويجعلون أهل الْبدع هم أهل الْأَهْوَاء ويذمونهم بذلك ويأمرون بألا يغتر بهم وَلَو أظهرُوا مَا أظهروه من الْعلم وَالْكَلَام وَالْحجاج أَو الْعِبَادَة وَالْأَحْوَال مثل المكاشفات وخرق الْعَادَات كَقَوْل يُونُس بن عبد الْأَعْلَى قلت للشَّافِعِيّ تَدْرِي يَا أَبَا عبد الله مَا كَانَ يَقُول فِيهِ صاحبنا أُرِيد اللَّيْث بن سعد وَغَيره كَانَ يَقُول لَو رَأَيْته يمشي على المَاء لَا تثق بِهِ وَلَا تعبأ بِهِ وَلَا تكَلمه قَالَ الشَّافِعِي فَإِنَّهُ وَالله مَا قصر

وَعَن عَاصِم قَالَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة تعلمُوا الْإِسْلَام فَإِذا تعلمتموه فَلَا ترغبوا عَنهُ وَعَلَيْكُم بالصراط الْمُسْتَقيم فَإِنَّهُ الْإِسْلَام وَلَا تحرفوا الْإِسْلَام يَمِينا وَشمَالًا وَعَلَيْكُم بِسنة نَبِيكُم وَالَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابه وَإِيَّاكُم وَهَذِه الْأَهْوَاء الَّتِي تلقى بَين النَّاس الْعَدَاوَة والبغضاء فَحدثت الْحسن قَالَ صدق ونصح قَالَ فَحدثت حَفْصَة بنت سِيرِين فَقَالَت أَبَا عَليّ أَنْت حدثت مُحَمَّدًا بِهَذَا قلت لَا قَالَت فحدثه إِذا

وَقَالَ أبي بن كَعْب عَلَيْكُم بالسبيل وَالسّنة فَإِنَّهُ مَا على الأَرْض عبد على السَّبِيل وَالسّنة ذكر الله فَفَاضَتْ بِهِ عَيناهُ من خشيَة الله فيعذبه

ص: 254

وَمَا على الأَرْض عبد على السَّبِيل وَالسّنة ذكر الله فِي نَفسه فأقشعر جلده من خشيَة الله إِلَّا كَانَ مثله كَمثل شَجَرَة قد يبس وَرقهَا فهى كَذَلِك إِذْ أصابتها ريح شَدِيدَة فتحات عَنْهَا وَرقهَا ولتحط عَنهُ خطاياه كَمَا تحات عَن تِلْكَ الشَّجَرَة وَرقهَا وَإِن اقتصادا فِي سَبِيل وَسنة خير من اجْتِهَاد فِي خلاف سَبِيل وَسنة فانظروا أَن يكون عَمَلكُمْ إِن كَانَ اجْتِهَادًا أَو اقتصادا أَن يكون على منهاج الْأَنْبِيَاء وسنتهم

وَكَذَلِكَ قَالَ عبد الله بن مَسْعُود الاقتصاد فِي السّنة خير من الِاجْتِهَاد فِي الْبِدْعَة

وَقيل لأبي بكر بن عَيَّاش يَا أَبَا بكر من السنى قَالَ الَّذِي إِذا ذكرت الْأَهْوَاء لم يغْضب لشئ مِنْهَا

وَهَذَا أصل عَظِيم من أصُول سَبِيل الله وَطَرِيقه يجب الاعتناء بِهِ وَذَلِكَ أَن كثيرا من الْأَفْعَال قد يكون مُبَاحا فِي الشَّرِيعَة أَو مَكْرُوها أَو متنازعا فِي إِبَاحَته وكراهته وَرُبمَا كَانَ محرما أَو متنازعا فِي تَحْرِيمه فتستحبه طَائِفَة من النَّاس يَفْعَلُونَهُ على أَنه حسن مُسْتَحبّ وَدين وَطَرِيق يَتَقَرَّبُون بِهِ حَتَّى يعدون من يفعل ذَلِك أفضل مِمَّن لَا يَفْعَله وَرُبمَا جعلُوا ذَلِك

ص: 255

من لَوَازِم طريقتهم إِلَى الله أَو جَعَلُوهُ شعار الصَّالِحين وأولياء الله وَيكون ذَلِك خطأ وضلالا وابتداع دين لم يَأْذَن بِهِ الله

مِثَال ذَلِك حلق الرَّأْس فِي غير الْحَج وَالْعمْرَة لغير عذر فَإِن الله قد ذكر فِي كِتَابه حلق الرَّأْس وتقصيره فِي النّسك وَذكر حلقه لعذر فِي قَوْله {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} [سُورَة الْبَقَرَة 196]

وَأما حلقه لغير ذَلِك فقد تنَازع الْعلمَاء فِي إِبَاحَته وكراهته نزاعا مَعْرُوفا على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَلَا نزاع بَين عُلَمَاء الْمُسلمين وأئمة الدّين أَن ذَلِك لَا يشرع وَلَا يسْتَحبّ وَلَا هُوَ من سَبِيل الله وَطَرِيقه وَلَا من الزّهْد الْمَشْرُوع للْمُسلمين وَلَا مِمَّا أثنى الله بِهِ على أحد من الْفُقَرَاء

وَمَعَ هَذَا فقد اتَّخذهُ طوائف من النساك الْفُقَرَاء والصوفية دينا حَتَّى جَعَلُوهُ شعارا وعلامة على أهل الدّين والنسك وَالْخَيْر وَالتَّوْبَة والسلوك إِلَى الله المشير إِلَى الْفقر والصوفية حَتَّى أَن من لم يفعل ذَلِك يكون منقوصا عِنْدهم خَارِجا عَن الطَّرِيقَة المفضلة المحمودة عِنْدهم وَمن فعل ذَلِك دخل فِي هديهم وطريقهم

وَهَذَا ضلال عَن طَرِيق الله وسبيله بآتفاق الْمُسلمين واتخاذ ذَلِك دينا وشعارا لاهل الدّين من أَسبَاب تَبْدِيل الدّين بل جعله عَلامَة على المروق من الدّين أقرب فَإِن الَّذِي يكرههُ وَإِن فعله صَاحبه عَادَة لَا عبَادَة

ص: 256

يحْتَج بِأَنَّهُ من سيماء الْخَوَارِج المارقين الَّذين جَاءَت الْأَحَادِيث الصِّحَاح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بذمهم من غير وَجه وروى عَنهُ ص سِيمَاهُمْ التحليق

فَإِذا كَانَ هَذَا سيماء أُولَئِكَ المارقين وَفِي الْمسند وَالسّنَن عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من تشبه بِقوم فَهُوَ مِنْهُم كَانَ هَذَا على بعده من شعار أهل الدّين أولى من الْعَكْس

ص: 257

وَلِهَذَا لما جَاءَ صبيغ بن عسل التَّمِيمِي إِلَى عمر بن الْخطاب رضي الله عنه وَسَأَلَهُ من الْمُتَشَابه ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله وضربه ضربا عَظِيما كشف رَأسه فَوَجَدَهُ ذَا ضفيرتين فَقَالَ لَو وَجَدْتُك محلوقا لضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك لِأَنَّهُ لَو وجده محلوقا اسْتدلَّ بذلك على أَنه من الْخَوَارِج المارقين وَكَانَ يقْتله لأمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقتالهم

وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي صفتهمْ يحقر أحدكُم صلَاته مَعَ صلَاتهم وصيامه مَعَ صِيَامهمْ وقراءته مَعَ قراءتهم يقرأون الْقُرْآن لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَام كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية

وَلَا ريب أَن الْخَوَارِج كَانَ فيهم من الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة والورع مَا لم

ص: 258

يكن فِي الصَّحَابَة كَمَا ذكره النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَكِن لما كَانَ على غير الْوَجْه الْمَشْرُوع أفْضى بهم إِلَى المروق من الدّين

وَلِهَذَا قَالَ عبد الله بن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب اقتصاد فِي سنة خير من اجْتِهَاد فِي بِدعَة

وَقد تَأَول فيهم على بن أبي طَالب الَّذِي قَاتلهم بِأَمْر النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَكَانَ قِتَاله لَهُم من أعظم حَسَنَاته وغزواته الَّتِي يمدح بهَا لِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم حض على قِتَالهمْ وَقَالَ لَئِن أدركتهم لأقتلنهم قتل عَاد

وَقَالَ أَيْنَمَا لقيتموهم فآقتلوهم فَإِن فِي قَتلهمْ أجرا عِنْد الله لمن قَتلهمْ يَوْم الْقِيَامَة

وَفِي الصَّحِيح عَن عَليّ أَيْضا لَو يعلم الَّذين يقاتلونهم مَاذَا لَهُم على لِسَان مُحَمَّد لنكلوا عَن الْعَمَل

ص: 259

وَكَانُوا يتشددون فِي أَمر الذُّنُوب والمعاصي حَتَّى كفرُوا الْمُسلمين وأوجبوا لَهُم الخلود فِي النَّار

وَلَا ريب أَن كثيرا من النساك والعباد والزهاد قد يكون فِيهِ شُعْبَة من الْخَوَارِج وَإِن كَانَ مُخَالفا لَهُم فِي شعب أُخْرَى فلزوم زِيّ معِين من اللبَاس سَوَاء كَانَ مُبَاحا أَو كَانَ مِمَّا يُقَال إِنَّه مَكْرُوه بِحَيْثُ يَجْعَل ذَلِك دينا ومستحبا وشعارا لأهل الدّين هُوَ من الْبدع أَيْضا فَكَمَا أَنه لَا حرَام إِلَّا مَا حرمه الله فَلَا دين إِلَّا مَا شَرعه الله

الْوَجْه الثَّانِي ان قَوْلهم إِن هَذَا السماع يحصل مَحْبُوب الله وَمَا حصل محبوبه فَهُوَ مَحْبُوب لَهُ قَول بَاطِل وَكثير من هَؤُلَاءِ أَو أَكْثَرهم حصل لَهُم الضلال والغواية من هَذِه الْجِهَة فظنوا أَن السماع يثير محبَّة الله ومحبة الله هِيَ أصل الْإِيمَان الَّذِي هُوَ عمل الْقلب وبكمالها يكمل وَهِي فِيمَا يذكرهُ أَبُو طَالب وَغَيره نِهَايَة المقامات وَرُبمَا قَالَ بَعضهم هِيَ الْمقَام الَّتِي يرتقي مُقَدّمَة الْعَامَّة وَسَاقه الْخَاصَّة وَيَقُول من يَقُول مِنْهُم إِن السماع هُوَ من تَوَابِع الْمحبَّة وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوهُ لما يحركه من محبَّة الله سبحانه وتعالى إِذْ السماع يُحَرك من كل قلب مَا فِيهِ فَمن كَانَ فِي قلبه حب الله

ص: 260

وَرَسُوله حرك السماع هَذَا الْحبّ وَمَا يتبع الْحبّ من الوجد والحلاوة وَغير ذَلِك كَمَا يثير من قُلُوب أُخْرَى محبَّة الْأَوْثَان والصلبان والإخوان والخلان والأوطان والعشراء والمردان والنسوان وَلِهَذَا يذكر عَن طَائِفَة من أعيانهم سَماع القصائد فِي بَاب الْمحبَّة كَمَا فعل ابو طَالب

فَيُقَال إِن مَا يهيجه هَذَا السماع المبتدع وَنَحْوه من الْحبّ وحركة الْقلب لَيْسَ هُوَ الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله بل اشتماله على مَا لَا يُحِبهُ الله وعَلى مَا يبغضيه أَكثر من اشتماله على مَا يُحِبهُ وَلَا يبغضبه وَحده عَمَّا يُحِبهُ الله وَنَهْيه عَن ذَلِك أعظم من تحريكه لما يُحِبهُ الله وَإِن كَانَ يثير حبا وحركة ويظن أَن ذَلِك يُحِبهُ الله وَأَنه مِمَّا يُحِبهُ الله فَإِنَّمَا ذَلِك من بَاب اتِّبَاع الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى

وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن الله سبحانه وتعالى بَين فِي كِتَابه محبته وَذكر موجباتهما وعلاماتها وَهَذَا السماع يُوجب مضادا لذَلِك منافيا لَهُ

وَذَلِكَ أَن الله يَقُول فِي كِتَابه {وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} [سُورَة الْبَقَرَة 165]

وَقَالَ {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله وَيغْفر لكم ذنوبكم} [سُورَة آل عمرَان 31]

وَيَقُول {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ}

ص: 261

{أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم} [سُورَة الْمَائِدَة 54]

فَهَذِهِ ثَلَاثَة أصُول لاهل محبَّة الله إخلاص دينهم ومتابعة رَسُوله وَالْجهَاد فِي سَبيله

فَإِنَّهُ اخبر عَن الْمُشْركين الَّذين يتخذون الأنداد أَنهم يحبونهم كَمَا يحبونَ الله ثمَّ قَالَ {وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} [سُورَة الْبَقَرَة 165] فالمؤمنون أَشد حبا لله من الْمُشْركين الَّذين يحبونَ الأنداد كَمَا يحبونَ الله فَمن أحب شَيْئا غير الله كَمَا يحب الله فَهُوَ من الْمُشْركين لَا من الْمُؤمنِينَ

ومحبة رَسُوله من محبته وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ

وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ أَن عمر قَالَ لَهُ يَا رَسُول الله وَالله لأَنْت أحب إِلَيّ من كل شئ إِلَّا من نَفسِي فَقَالَ لَا يَا عمر حَتَّى أكون أحب إِلَيْك من نَفسك قَالَ فَأَنت أحب إِلَى من نَفسِي قَالَ فَأَنت الْآن يَا عمر

ص: 262

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه قَالَ ثَلَاث من كن فِيهِ فقد وجد حلاوة الْإِيمَان وَفِي لفظ لَا يجد حلاوة الْإِيمَان إِلَّا من كَانَ فِيهِ ثَلَاث خِصَال أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله وَأَن يكره أَن يرجع فِي الْكفْر بعد إِذْ أنقذه الله مِنْهُ كَمَا يكره أَن يلقى فِي النَّار

وَقد قَالَ الله تَعَالَى قل إِن كَانَ أباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فيتربصوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره فَلم يرض مِنْهُم أَن يكون حبهم لله وَرَسُوله كحب الْأَهْل وَالْمَال وَأَن يكون حب الْجِهَاد فِي سَبيله كحب الْأَهْل وَالْمَال بل حَتَّى يكون الْجِهَاد فِي سَبيله الَّذِي هُوَ تَمام حبه وَحب رَسُوله أحب إِلَيْهِم من الْأَهْل وَالْمَال

فَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون حبهم لله وَرَسُوله مقدما على كل محبَّة لَيْسَ عِنْدهم شئ يحبونه كحب الله بِخِلَاف الْمُشْركين

ص: 263

وَيَقْتَضِي الأَصْل الثَّانِي وَهُوَ ان يكون الْجِهَاد فِي سَبيله أحب إِلَيْهِم من الْأَهْل وَالْمَال فَإِن ذَلِك هُوَ تَمام الْإِيمَان الَّذِي ثَوَابه حب الله وَرَسُوله

كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم برتابوا إِيمَانًا لَا يكون بعده ريب {وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله} [سُورَة الحجرات 15]

وَبِذَلِك وصف أهل الْمحبَّة فِي قَوْله {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم} [سُورَة الْمَائِدَة 54] فَأخْبر سُبْحَانَهُ بذلهم للْمُؤْمِنين وعزهم على الْكَافرين وجهادهم فِي سَبيله وَأَنَّهُمْ لَا يخَافُونَ لومة لائم فَلَا يخَافُونَ لوم الْخلق لَهُم على ذَلِك

وَهَؤُلَاء هم الَّذين يحْتَملُونَ الملام والعذل فِي حب الله وَرَسُوله وَالْجهَاد فِي سَبيله وَالله يُحِبهُمْ وهم يحبونه لَيْسُوا بِمَنْزِلَة من يحْتَمل الملام والعذل فِي محبَّة مَا لَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله وَلَا بِمَنْزِلَة الَّذين أظهرُوا من مكروهات الْحق مَا يلامون عَلَيْهِ ويسمون بالملامتية ظانين أَنهم لما أظهرُوا مَا يلومهم الْخلق عَلَيْهِ من الْمُنْكَرَات مَعَ صحتهم فِي الْبَاطِن كَانَ ذَلِك من صدقهم وإخلاصهم وهم فِي ذَلِك إِنَّمَا يتبعُون الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس

ص: 264

فَإِن ذَلِك الْمُنكر الَّذِي يكرههُ الله وَرَسُوله لَا يكون فعله مِمَّا يُحِبهُ الله وَرَسُوله وَلَا يكون من الصدْق وَالْإِخْلَاص فِي حب الله وَرَسُوله وَالنَّاس يلامون عَلَيْهِ

وسنام ذَلِك الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فَإِنَّهُ أَعلَى مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله واللائمون عَلَيْهِ كثير إِذْ كثير من النَّاس الَّذين فيهم إِيمَان يكرهونه وهم إِمَّا مخذلون مفترون للهمة والإرادة فِيهِ وَإِمَّا مرجفون مضعفون للقوة وَالْقُدْرَة عَلَيْهِ وَإِن كَانَ ذَلِك من النِّفَاق

قَالَ الله تَعَالَى {قد يعلم الله المعوقين مِنْكُم والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يأْتونَ الْبَأْس إِلَّا قَلِيلا} [سُورَة الْأَحْزَاب 18]

وَقَالَ تَعَالَى لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض والمرجفون فِي الْمَدِينَة لنغرينك بهم ثمَّ لَا يجاورونكم فِيهَا إِلَّا قَلِيلا [سُورَة الْأَحْزَاب 60]

وَأما الأَصْل الثَّالِث وَهُوَ مُتَابعَة السّنة والشريعة النَّبَوِيَّة قَالَ الله تَعَالَى {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} [سُورَة آل عمرَان 31]

قَالَ طَائِفَة من السّلف ادّعى قوم على عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنهم يحبونَ الله فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة فَجعل حب العَبْد لرَبه مُوجبا

ص: 265

ومقتضيا لاتباع رَسُوله وَجعل اتِّبَاع رَسُوله مُوجبا ومقتضيا لمحبة الرب عَبده فَأهل اتِّبَاع الرَّسُول يُحِبهُمْ الله وَلَا يكون حبا لله إِلَّا من يكون مِنْهُم

وَإِذا عرفت هَذِه الْأُصُول فعامة أهل السماع الْمُحدث مقصرون فِي هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة وهم فِي ذَلِك متفاوتون تَفَاوتا كثيرا بِحَسب قُوَّة اعتياضهم بِالسَّمَاعِ الْمُحدث عَن السماع الْمَشْرُوع وَمَا يتبع ذَلِك حَتَّى آل الْأَمر بِأخر إِلَى الانسلاخ من الْإِيمَان بِالْكُلِّيَّةِ ومصيره منافقا مَحْضا أَو كَافِرًا صرفا

وَأما عامتهم وغالبهم الَّذين فيهم حب الله وَرَسُوله وَمَا يتبع ذَلِك فهم فِيهِ مقصرون تَجِد فيهم من التَّفْرِيط فِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَمَا يدْخل فِيهِ من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر والتفريط فِي مُتَابعَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي شَرِيعَته وسنته وأوامره وزواجره أمرا عَظِيما جدا وَكَذَلِكَ فِي أَمر الْإِخْلَاص لله تَجِد فيهم من الشّرك الْخَفي أَو الجلى أمورا كَثِيرَة

وَلِهَذَا كَانَ هَذَا السماع سَماع المكاء والتصدية إِنَّمَا هُوَ فِي الأَصْل سَماع الْمُشْركين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} [سُورَة الْأَنْفَال 35] وَفِيهِمْ من اتِّخَاذ أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله مَا ضاهوا بِهِ النَّصَارَى فِي كثير من ذَلِك حَتَّى ان مِنْهُم من يعبد بعض الْبشر ويعبد قُبُورهم فيدعوهم ويستغيث بهم ويتوكل عَلَيْهِم ويخافهم ويرجوهم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا هُوَ من حُقُوق الله وَحده لَا

ص: 266

شريك لَهُ ويطيعون سادتهم وكبارهم فِي تَحْلِيل الْحَرَام وَتَحْرِيم الْحَلَال وَيَقُول بَعضهم فِي اتِّحَاد الله بِبَعْض مخلوقاته وحلوله فيهم شَبيه مَا قالته النَّصَارَى فِي الْمَسِيح عليه الصلاة والسلام

وَلِهَذَا يكون كثير من سماعهم الَّذِي يُحَرك وجدهم ومحبتهم إِنَّمَا يُحَرك وجدهم ومحبتهم لغير الله كَالَّذِين اتَّخذُوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله

وَأما الشَّرِيعَة وَمَا أَمر الله بِهِ وَنهى عَنهُ وأحله وَحرمه ففيهم من الْمُخَالفَة لذَلِك بل من الاستخفاف بِمن يتَمَسَّك بِهِ مَا الله بِهِ عليم حَتَّى سقط من قلبوهم تَعْظِيم كثير من فَرَائض الله وَتَحْرِيم كثير من مَحَارمه فكثيرا مَا يضيعون فَرَائِضه ويستحلون مَحَارمه ويتعدون حُدُوده تَارَة اعتقادا وَتارَة عملا

وَكثير من خيارهم الَّذين هم مُؤمنُونَ يقعون فِي كثير من فروع ذَلِك وَإِن كَانُوا مستمسكين بأصول الْإِسْلَام

وَأما غير هَؤُلَاءِ فيصرحون بِسُقُوط الْفَرَائِض كالصلوات الْخمس وَغَيرهَا وبحل الْخَبَائِث من الْخمر وَالْفَوَاحِش اَوْ الظُّلم أَو الْبَغي أَو غير ذَلِك لَهُم وتزول عَن قُلُوبهم الْمحبَّة لكثير مِمَّا يُحِبهُ الله وَرَسُوله كالمحبة التَّامَّة الَّتِي هِيَ كَمَال الْإِيمَان بل لَا بُد أَن ينقص فِي

ص: 267

قُلُوبهم حب مَا أحبه الله وَرَسُوله فَلَا يبْقى لِلْقُرْآنِ وَالصَّلَاة وَنَحْو ذَلِك فِي قُلُوبهم من الْمحبَّة والحلاوة وَالطّيب وقرة الْعين مَا هُوَ الْمَعْرُوف لاهل كَمَال الْإِيمَان بل قد يكْرهُونَ بعض ذَلِك ويستثقلونه كَمَا هُوَ من نعت الْمُنَافِقين الَّذين قَالَ الله فيهم {وَإِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى} [سُورَة النِّسَاء 142] وَقد يهجرون الْقُرْآن الَّذِي مَا تقرب الْعباد إِلَى الله بِأحب إِلَيْهِ مِنْهُ بل قد يستثقلون سَمَاعه وقراءته لما اعتاضوا عَنهُ من السماع وَقد يقومُونَ بِبَعْض هَذِه الْعِبَادَات الشَّرْعِيَّة صورا ورسما كَمَا يَفْعَله المُنَافِقُونَ لَا محبَّة وَحَقِيقَة ووجدا كَمَا يَفْعَله الْمُؤْمِنُونَ

وَأما الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فالغالب عَلَيْهِم أَنهم ابعد عَنهُ من غَيرهم حَتَّى نجد فِي عوام الْمُؤمنِينَ من الْحبّ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والمحبة والتعظيم لأمر الله وَالْغَضَب والغيرة لمحارم الله وَقُوَّة الْمحبَّة والموالاة لأولياء الله وَقُوَّة البغض والعداوة لأعداء الله مَا لَا يُوجد فيهم بل يُوجد فيهم ضد ذَلِك

وَمَعْلُوم أَن أهل الْإِيمَان وَالصَّلَاح مِنْهُم لَا يفقدون هَذَا بِالْكُلِّيَّةِ لَكِن هَذَا السماع الْمُحدث هُوَ وتوابعه سَبَب ومظنة لضد الْجِهَاد فِي سَبِيل الله حَتَّى ان كثيرا مِنْهُم يعدون ذَلِك نقصا فِي طَرِيق الله وعيبا ومنافيا للسلوك الْكَامِل إِلَى الله

وَمن السَّبَب الَّذِي ضل بِهِ هَؤُلَاءِ وغووا مَا وجدوه فِي كثير مِمَّن ينتسب

ص: 268

إِلَى الشَّرِيعَة من الداعين إِلَى الْجِهَاد من ضعف حَقِيقَة الْإِيمَان وَسُوء النيات والمقاصد وبعدهم عَن النيات الْخَالِصَة لله وَصَلَاح قُلُوبهم وسرائرهم وَعَن أَن يقصدوا بِالْجِهَادِ أَن تكون كلمة الله هِيَ الْعليا وَأَن يكون الدّين كُله لله كَمَا وجدوه فِي كثير مِمَّن يذم السماع الْمُحدث من قسوة الْقلب والبعد عَن مَكَارِم الْأَخْلَاق وذوق حَقِيقَة الْإِيمَان

فَهَذَا التَّفْرِيط فِي حُقُوق الله والعدوان على حُدُوده الَّذِي وجد فِي هَؤُلَاءِ وأمثالهم مِمَّن لَا يتدين بِالسَّمَاعِ الْمُحدث بل يتدين بِبَعْض هَذِه الْأُمُور صَار شُبْهَة لأولئك كَمَا أَن التَّفْرِيط والعدوان الْمَوْجُود فِي أهل السماع الْمُحدث صَار شُبْهَة لأولئك فِي ترك كثير مِمَّا عَلَيْهِ كثير مِنْهُم من حقائق الْإِيمَان وَطَاعَة الله وَرَسُوله

وَلِهَذَا تفرق هَؤُلَاءِ فِي الدّين وَصَارَت كل طَائِفَة مبتدعة لدين لم يشرعه االله ومنكرة لما مَعَ الطَّائِفَة الْأُخْرَى من دين الله وَصَارَ فيهم شبه الْأُمَم قبلهم

كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمن الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخذنَا ميثاقهم فنسوا حظا مِمَّا ذكرُوا بِهِ فأعرينا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة [سُورَة الْمَائِدَة 14]

وَقَالَ تَعَالَى وَقَالَت الْيَهُود لَيست النَّصَارَى على شئ وَقَالَت

ص: 269

النَّصَارَى لَيست الْيَهُود على شئ [سُورَة الْبَقَرَة 113]

وَقَالَ تَعَالَى {أفتؤمنون بِبَعْض الْكتاب وتكفرون بِبَعْض} [سُورَة الْبَقَرَة 85]

وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات} [سُورَة آل عمرَان 105]

وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شئ [سُورَة الْأَنْعَام 159]

وَأما دين الله وهداه الَّذِي أنزل بِهِ كِتَابه وَبعث بِهِ رَسُوله فَهُوَ اتِّبَاع كِتَابه وسنته فِي جَمِيع الْأُمُور وَترك اتِّبَاع مَا يُخَالف ذَلِك فِي جَمِيع الْأُمُور وَالْإِجْمَاع على ذَلِك

كَمَا قَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حق تُقَاته وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ كُنْتُم أَعدَاء فألف بَين قُلُوبكُمْ فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا وكنتم على شفا حُفْرَة من النَّار فأنقذكم مِنْهَا كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تهتدون ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتهم بعد إيمَانكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون وَأما الَّذين ابْيَضَّتْ وُجُوههم فَفِي رَحْمَة الله

ص: 270

{هم فِيهَا خَالدُونَ} [سُورَة آل عمرَان 102 107]

وَأما كَون الشّعْر فِي نَفسه لَا يستمع إِلَيْهِ إِلَّا إِذا كَانَ من الْكَلَام الْمُبَاح أَو الْمُسْتَحبّ وَالشعر الْمَقُول فِي سَماع المكاء والتصدية كثير مِنْهُ أَو أَكْثَره لَيْسَ كَذَلِك فَهَذَا مقَام آخر نبينه إِن شَاءَ الله فَصَارَ احتجاجهم بِمَا سَمعه النَّبِي صلى الله عليه وسلم من الشّعْر على اسْتِمَاع الْغناء مردودا بِهَذِهِ الْوُجُوه الثَّلَاث

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقد سمع الأكابر الابيات بالألحان فَمن قَالَ بإباحته مَالك بن أنس وَأهل الْحجاز كلهم يبيحون الْغناء فَأَما الحداء فإجماع مِنْهُم على إِبَاحَته

قلت هَذَا النَّقْل يتَضَمَّن غَلطا بِإِثْبَات بَاطِل وَترك حق وَقد تبع فِيهِ أَبَا عبد الرَّحْمَن على مَا ذكره فِي مَسْأَلَة السماع وَذَلِكَ أَن الْمَعْرُوف

ص: 271

عِنْد أَئِمَّة السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مثل عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس وَجَابِر بن عبد الله وَغَيرهم وَعَن أَئِمَّة التَّابِعين ذمّ الْغناء وإنكاره

وَكَذَلِكَ من بعدهمْ من أَئِمَّة الْإِسْلَام فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة حَتَّى ذكر زَكَرِيَّا بن يحيى السَّاجِي فِي كِتَابه الَّذِي ذكر فِيهِ إِجْمَاع أهل الْعلم وَاخْتِلَافهمْ فَذكر أَنهم متفقون على كَرَاهَته إِلَّا رجلَانِ إِبْرَاهِيم بن سعد من أهل الْمَدِينَة وَعبيد بن الْحسن الْعَنْبَري من أهل الْبَصْرَة

وَأما نقلهم لإباحته عَن مَالك وَأهل الْحجاز كلهم فَهَذَا غلط من أَسْوَأ الْغَلَط فَإِن أهل الْحجاز على كَرَاهَته وذمه وَمَالك نَفسه لم

ص: 272

يخْتَلف قَوْله وَقَول أَصْحَابه فِي ذمه وكراهته بل هُوَ من المبالغين فِي ذَلِك حَتَّى صنف أَصْحَابه كتبا مُفْردَة فِي ذمّ الْغناء وَالسَّمَاع وَحَتَّى سَأَلَهُ إِسْحَاق بن عِيسَى الطباع عَمَّا يترخص فِيهِ أهل الْمَدِينَة من الْغناء فَقَالَ إِنَّمَا يَفْعَله عندنَا الْفُسَّاق

وَقد ذكر مُحَمَّد بن طَاهِر فِي مَسْأَلَة السماع حِكَايَة عَن مَالك أَنه ضرب بطبل وَأنْشد ابياتا وَهَذِه الْحِكَايَة مِمَّا لَا يتنازع أهل الْمعرفَة فِي أَنَّهَا كذب على مَالك

وَكَذَلِكَ الشَّافِعِي لم يخْتَلف قَوْله فِي كَرَاهَته وَقَالَ فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بأدب الْقُضَاة الْغناء لَهو مَكْرُوه يشبه الْبَاطِل وَمن استكثر مِنْهُ فَهُوَ سَفِيه ترد شَهَادَته وَقد قَالَ عَن السماع الديني الْمُحدث خلفت بِبَغْدَاد

ص: 273

شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التغبير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن

نعم كَانَ كثير من أهل الْمَدِينَة يسمع الْغناء وَقد دخل مَعَهم فِي ذَلِك بعض فقهائهم فَأَما أَن يكون هَذَا قَول اهل الْحجاز كلهم أَو قَول مَالك فَهَذَا غلط وَكَانَ النَّاس يعيبون من اسْتحلَّ ذَلِك من أهل الْمَدِينَة كَمَا عابوا على غَيرهم حَتَّى كَانَ الْأَوْزَاعِيّ يَقُول من أَخذ يَقُول أهل الْكُوفَة فِي النَّبِيذ وَبقول أهل مَكَّة فِي الْمُتْعَة وَالصرْف وَيَقُول أهل الْمَدِينَة فِي الْغناء أَو قَالَ الحشوش والغناء فقد جمع الشَّرّ كُله أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ

وَأما فُقَهَاء الْكُوفَة فَمن أَشد النَّاس تَحْرِيمًا للغناء وَلم يتنازعوا فِي ذَلِك وَلم يَكُونُوا يعتادونه كَمَا كَانَ يَفْعَله أهل الْمَدِينَة بل كَانُوا بالنبيذ الْمُتَنَازع فِيهِ

وَقد سُئِلَ ماللك عماا يترخص فِيهِ بعض ااهل الْمَدِينَة من الْغناء فَقَالَ لَا إِنَّمَا يَفْعَله عندنَا الْفُسَّاق

وَقد سُئِلَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن الْغناء فَقَالَ إِذا ميز الله الْحق من الْبَاطِل من أَي قسم يكون الْغناء

ص: 274

ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقد وَردت الْأَخْبَار واستفاضت الْآثَار فِي ذَلِك وروى عَن ابْن جريج أَنه كَانَ يرخص فِي السماع فَقيل لَهُ إِذا أَتَى بك يَوْم الْقِيَامَة وَيُؤْتى بحسناتك وسيئاتك فَفِي أَي الجنبين يكون سماعك فَقَالَ لَا فِي الْحَسَنَات وَلَا فِي السَّيِّئَات يَعْنِي أَنه من الْمُبَاحَات

قلت لَيْسَ ابْن جريج وَأهل مَكَّة مِمَّن يعرف عَنْهُم الْغناء بل الْمَشْهُور عَنْهُم أَنهم كَانُوا يعيرون من يفعل ذَلِك من أهل الْمَدِينَة وَإِنَّمَا الْمَعْرُوف عَنْهُم الْمُتْعَة وَالصرْف ثمَّ هَذَا الْأَثر وَأَمْثَاله حجَّة على من احْتج بِهِ فَإِنَّهُ لم يَجْعَل مِنْهُ شَيْئا من الْحَسَنَات وَلم ينْقل عَن السّلف أَنه عد شَيْئا من أَنْوَاعه حَسَنَة فَقَوله على ذَلِك لَا يُخَالف الْإِجْمَاع

وَمن فعل شَيْئا من ذَلِك على انه من اللَّذَّة الْبَاطِلَة الَّتِي لَا مضرَّة فِيهَا وَلَا مَنْفَعَة فَهَذَا كَمَا يرخص للنِّسَاء فِي الْغناء وَالضَّرْب بالدف فِي الأفراح مثل قدوم الْغَائِب وَأَيَّام الأعياد بل يؤمرون بذلك فِي العرسات كَمَا روى اعلنوا النِّكَاح واضربوا عَلَيْهِ بالدف وَهُوَ مَعَ

ص: 275

ذَلِك بَاطِل كَمَا فِي الحَدِيث الَّذِي فِي السّنَن أَن امْرَأَة نذرت أَن تضرب لقدوم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قدم عمر أمرهَا بِالسُّكُوتِ وَقَالَ إِن هَذَا رجل لَا يحب الْبَاطِل

ص: 276

وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ كل لَهو يلهو بِهِ الرجل فَهُوَ بَاطِل إِلَّا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبة امْرَأَته فَإِنَّهُنَّ من الْحق

وَالْبَاطِل من الْأَعْمَال هُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة فَهَذَا يرخص فِيهِ للنفوس الَّتِي لَا تصبر على مَا ينفع وَهَذَا الْحق فِي الْقدر الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْأَوْقَات الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِك الأعياد والأعراس وقدوم الْغَائِب وَنَحْو ذَلِك

وَهَذِه نفوس النِّسَاء وَالصبيان فهن اللواتي كن يغنين فِي ذَلِك على عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ويضربن بالدف وَأما الرِّجَال فَلم يكن ذَلِك فيهم بل كَانَ السّلف يسمون الرجل المغنى مخنثا لتشبهه بِالنسَاء وَلِهَذَا روى اقرأوا الْقُرْآن بِلُحُونِ الْعَرَب وَإِيَّاكُم وَلُحُون الْعَجم والمخانيث وَالنِّسَاء

ص: 277

ولهذ لما سُئِلَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن الْغناء فَقَالَ للسَّائِل با ابْن أخي ارأيت إِذا ميز الله يَوْم الْقِيَامَة بَين الْحق وَالْبَاطِل فَفِي أَيهمَا يَجْعَل الْغناء فَقَالَ فِي الْبَاطِل قَالَ فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال

فَكَانَ الْعلم بِأَنَّهُ من الْبَاطِل مُسْتَقرًّا فِي نُفُوسهم كلهم وَإِن فعله بَعضهم مَعَ ذَلِك إِذْ مُجَرّد كَون الْفِعْل بَاطِلا إِنَّمَا يَقْتَضِي عدم منفعَته لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمه إِلَّا أَن يتَضَمَّن مفْسدَة

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَأما الشَّافِعِي رحمه الله فَإِنَّهُ لَا يحرمه ويجعله فِي الْعَوام مَكْرُوها حَتَّى لَو احترف الْغناء اَوْ اتّصف على الدَّوَام بِسَمَاعِهِ على وَجه التلهي بِهِ ترد بِهِ الشَّهَادَة ويجعله مِمَّا يسْقط الْمُرُوءَة وَلَا يلْحقهُ بالمحرمات

قَالَ وَلَيْسَ كلامنا فِي هَذَا النَّوْع من السماع فَإِن هَذِه الطَّائِفَة جلت مرتبتهم عَن أَن يسمعوا بلهو أَو يقعدوا للسماع بسهو أَو يَكُونُوا بقلوبهم متفكرين فِي مَضْمُون لَغْو أَو يستمعوا على صفة غير كُفْء

ص: 278

قلت لم يخْتَلف قَول الشَّافِعِي فِي كَرَاهَته والنهى عَنهُ للعوام والخواص لَكِن هَل هِيَ كَرَاهَة تَحْرِيم أَو تَنْزِيه أَو تَفْضِيل بَين بعض وَبَعض هَذَا مِمَّا يتنازع فِيهِ أَصْحَابه وَهَذَا قَوْله فِي سَماع الْعَامَّة وَأما السماع الديني الَّذِي جعله أَبُو الْقَاسِم للخاصة فَهُوَ عِنْد الشَّافِعِي من فعل الزَّنَادِقَة كَمَا قَالَ خلفت بِبَغْدَاد شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التغبير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن

فَعنده أَن هَذَا السماع اعظم من ان يُقَال فِيهِ مَكْرُوه أَو حرَام بل هُوَ عِنْده مضاد للْإيمَان وَشرع دين لم يَأْذَن الله بِهِ وَلم ينزل بِهِ سُلْطَان

وَإِن كَانَ من الْمَشَايِخ الصَّالِحين من تَأَول فِي ذَلِك وبتأويله واجتهاده يغْفر الله لَهُ خطأه ويثيبه على مَا مَعَ التَّأْوِيل من عمل صَالح فَذَلِك لَا يمْنَع أَن يُقَال مَا فِي الْفِعْل من الْفساد إِذْ التَّأْوِيل من بَاب الْمعَارض فِي حق بعض النَّاس تدفع بِهِ عِنْد الْعقُوبَة كَمَا تدفع بِالتَّوْبَةِ والحسنات الماحية وَهَذَا لمن استفرغ وَسعه فِي طلب الْحق

فَقَوْل الشَّافِعِي رضي الله عنه فِي هَؤُلَاءِ كَقَوْلِه فِي اهل الْكَلَام

ص: 279

حكمى فِي أهل الْكَلَام أَن يضْربُوا بِالْجَرِيدِ وَالنعال وَيُطَاف بهم فِي العشائر والقبائل وَيُقَال هَذَا جَزَاء من ترك الْكتاب وَالسّنة وَأَقْبل على الْكَلَام وَقَوله لِأَن يبتلى العَبْد بِكُل ذَنْب مَا خلا الشّرك بِاللَّه خير لَهُ من أَن يبتلى بالْكلَام

وَمَعَ هَذَا فقد ابتلى بِبَعْض ذَلِك على وَجه التَّأْوِيل طوائف من أهل الْعلم وَالدّين والتصوف وَالْعِبَادَة

وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَام فِي السماع على وَجْهَيْن

احدهما سَماع اللّعب والطرب فَهَذَا يُقَال فِيهِ مَكْرُوه أم محرم أَو بَاطِل أَو مرخص فِي بعض أَنْوَاعه

الثَّانِي السماع الْمُحدث لأهل الدّين والقرب فَهَذَا يُقَال فِيهِ إِنَّه بِدعَة وضلالة وَإنَّهُ مُخَالف لكتاب الله وَسنة رَسُوله وَإِجْمَاع السالفين جَمِيعهم وَإِنَّمَا حدث فِي الْأمة لما أحدث فِي الْأمة لما أحدث الْكَلَام فَكثر هَذَا فِي الْعلمَاء وَهَذَا فِي الْعباد

لهَذَا كَانَ يزِيد بن هَارُون الوَاسِطِيّ وَهُوَ من أَتبَاع التَّابِعين وأواخر

ص: 280

الْقُرُون الثَّلَاثَة تجمتع فِي مَجْلِسه الْأُمَم الْعَظِيمَة وَكَانَ أجل مَشَايِخ الْإِسْلَام إِذْ ذَاك فَكَانَ ينْهَى عَن الجمهية وَعَن الْمُغيرَة هَؤُلَاءِ أهل الْكَلَام الْمُخَالف للْكتاب وَالسّنة وَهَؤُلَاء أهل السماع الْمُحدث الْمُخَالف للْكتاب وَالسّنة

وَلِهَذَا لم يسْتَطع أحد مِمَّن يسْتَحبّ السماع الْمُحدث ويستحسنه أَن يحْتَج لذَلِك بأثر عَمَّن مضى وَلَا بِأَصْل فِي الْكتاب وَالسّنة

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقد روى عَن ابْن عمر اثار فِي إباحتة للسماع وَكَذَلِكَ عبد الله بن جَعْفَر أبي طَالب

قَالَت أما النَّقْل عَن ابْن عمر فَبَاطِل بل الْمَحْفُوظ عَن أبن عمر ذمه للغناء وَنَهْيه عَنهُ وَكَذَلِكَ عَن سَائِر أَئِمَّة الصَّحَابَة كأبن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَغَيرهم مِمَّن ائتم بهم الْمُسلمُونَ فِي دينهم

وَأما مَا يذكر من فعل عبد الله بن جَعْفَر فِي أَنه كَانَ لَهُ جَارِيَة يسمع غناءها فِي بَيته فعبد الله بن جَعْفَر لَيْسَ مِمَّن يصلح أَن يُعَارض قَوْله فِي

ص: 281

الدّين فضلا عَن فعله لقَوْل ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وأمثالهم

وَمن احْتج بِفعل مثل عبد الله فِي الدّين فِي مثل هَذَا لزمَه أَن يحْتَج بِفعل مُعَاوِيَة فِي قِتَاله لعلى وبفعل ابْن الزبير فِي قِتَاله فِي الْفرْقَة وأمثال ذَلِك مِمَّا لايصلح لأهل الْعلم وَالدّين أَن يدخلوه فِي أَدِلَّة الدّين وَالشَّرْع لَا سِيمَا النساك والزهاد وَأهل الْحَقَائِق لَا يصلح لَهُم أَن يَتْرُكُوهُ سَبِيل الْمَشْهُورين بالنسك والزهد بَين الصَّحَابَة ويتبعوا سَبِيل غَيرهم

وَمَا أحسن مَا قَالَ حُذَيْفَة رضي الله عنه يَا معشر الْقُرَّاء اسْتَقِيمُوا وخذوا طَرِيق من كَانَ قبلكُمْ فوَاللَّه لَئِن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقا بَعيدا وَلَئِن أَخَذْتُم يَمِينا وَشمَالًا لقد ضللتم ضلالا بَعيدا

ثمَّ الَّذِي فعله عبد الله بن جَعْفَر كَانَ فِي دَاره لم يكن يجْتَمع عِنْده على ذَلِك وَلَا يسمعهُ إِلَّا مِمَّن ملوكته وَلَا يعده دينا وَطَاعَة بل هُوَ عِنْده من الْبَاطِل وَهَذَا مثل مَا يَفْعَله بعض أهل السعَة من اسْتِمَاع غناء جَارِيَته فِي بَيته وَنَحْو ذَلِك فَأَيْنَ هَذَا من هَذَا هَذَا لَو كَانَ مِمَّا يصلح أَن يحْتَج بِهِ فَكيف وَلَيْسَ بِحجَّة أصلا

قَالَ وَكَذَلِكَ عَن عمر وَغَيره فِي الحداء

قلت أما الحداء فقد ذكر الِاتِّفَاق على جَوَازه فَلَا يحْتَج بِهِ فِي

ص: 282

وَقد ثَبت أَن عَامر بن الْأَكْوَع كَانَ يَحْدُو الصَّحَابَة مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ من السَّائِق قَالُوا عَامر بن الاكوع فَقَالَ يرحمه الله فَقَالُوا يَا رَسُول الله لَوْلَا امتعتنا بِهِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع قَالَ خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فسرنا لَيْلًا فَقَالَ رجل من الْقَوْم لعامر بن الْأَكْوَع أَلا تسمعنا من هنياتك وَكَانَ عَامر رجلا شَاعِرًا فَنزل يَحْدُو بالقوم يَقُول

وَالله لَوْلَا أَنْت مَا اهتدينا وَلَا تصدقنا وَلَا صلينَا

فَاغْفِر فدَاء لَك مَا اقتفينا وَثَبت الْأَقْدَام إِن لاقينا

وألقين سكينَة علينا إِنَّا إِذا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا

وبالصياح عولوا علينا

فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من هَذَا السَّائِق قَالُوا عَامر ابْن الْأَكْوَع فَقَالَ يرحمه الله فَقَالَ رجل من الْقَوْم وَجَبت يَا نَبِي الله لَوْلَا أمتعنا بِهِ فَذكر الحَدِيث فِي استشهاده فِي تِلْكَ الْغَزْوَة غَزْوَة خَيْبَر

ص: 283

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سَلمَة بن الاكوع قَالَ لما كَانَ يَوْم خَيْبَر قَاتل أخي قتالا شَدِيدا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَارْتَد عَلَيْهِ سَيْفه فَقتله فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِك وَشَكوا فِيهِ رجل مَاتَ فِي سلاحه قَالَ سَلمَة فقفل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من خَبِير فَقلت يَا رَسُول الله أئذن لي أَن ارجز لَك فَأذن لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عمر أعلم مَا تَقول قَالَ فَقلت

لَوْلَا الله مَا اهتدينا وَلَا تصدقنا وَلَا صلينَا

فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صدقت

فأنزلن سكينَة علينا وَثَبت الْأَقْدَام إِن لَا قينا

وَالْمُشْرِكُونَ قد بغوا علينا

فَلَمَّا قضيت رجزي قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من قَالَ هَذَا قلت لَهُ أخي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يرحمه الله قَالَ فَقلت يَا رَسُول الله وَالله إِن نَاسا ليهابون الصَّلَاة عَلَيْهِ

ص: 284

يَقُولُونَ رجل مَاتَ بسلاحه فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كذبُوا مَاتَ جاهدا مُجَاهدًا فَلهُ أجره مرَّتَيْنِ

وَكَذَلِكَ قد ثَبت فِي الصَّحِيح حَدِيث أَنْجَشَة الحبشي الَّذِي كَانَ يَحْدُو حَتَّى قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم رويدك أَنْجَشَة سوقك بِالْقَوَارِيرِ يَعْنِي النِّسَاء أمره بالرفق بِهن لِئَلَّا تزعجهن الْإِبِل فِي السّير إِذا اشْتَدَّ سَيرهَا وينزعجن بِصَوْت الْحَادِي

فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي بعض أَسْفَاره وَغُلَام أسود يُقَال لَهُ أَنْجَشَة يحدوا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَيحك انجشه رويدك سوقك بِالْقَوَارِيرِ قَالَ أَبُو قلَابَة يَعْنِي النِّسَاء وَأَخْرَجَاهُ من حَدِيث ثَابت عَن أنس بِنَحْوِهِ

وَمن حَدِيث قَتَادَة عَن أنس قَالَ كَانَ للنَّبِي ص خَادِم يُقَال لَهُ أَنْجَشَة وَكَانَ حسن الصَّوْت فَقَالَ لَهُ النَّبِي رويدك يَا أَنْجَشَة لَا تكسر الْقَوَارِير قَالَ قَتَادَة يَعْنِي ضعفة النِّسَاء

ص: 285

وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن أبي قلَابَة قَالَ كَانَت أم سليم فِي الثّقل وأنجشة غُلَام النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَسُوق بِهن فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَسلم يَا أنجش رويدك سوقك بِالْقَوَارِيرِ

وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن ثَابت عَن أنس قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي سفر فحدا الْحَادِي فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أرْفق يَا أَنْجَشَة وَيحك بِالْقَوَارِيرِ

واحتجاجهم بإنشاد الشّعْر كَمَا قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَأنْشد بَين يَدي النَّبِي صلى الله عليه وسلم الاشعار فَلم ينْه عَنْهَا وروى أَنه ص استنشد الْأَشْعَار

وَهَذَا من الْقيَاس الْفَاسِد كَمَا تقدم

قَالَ وَمن الْمَشْهُور الظَّاهِر حَدِيث الجاريتين وَذكر حَدِيث الجاريتين

ص: 286

اللَّتَيْنِ كَانَتَا تُغنيَانِ فِي بَيت عَائِشَة بِمَا تقاولت بِهِ الْأَنْصَار يَوْم بُعَاث فَقَالَ أَبُو بكر مزمور الشَّيْطَان فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم دعهما يَا أَبَا بكر فَإِن لكل قوم عيدا وعيدنا هَذَا الْيَوْم

وَقد تقدم أَن الرُّخْصَة فِي الْغناء فِي أَوْقَات الأفراح للنِّسَاء وَالصبيان أَمر مَضَت بِهِ السّنة كَمَا يرخص لَهُم فِي غير ذَلِك من اللّعب وَلَكِن لَا يَجْعَل الْخَاص عَاما وَلِهَذَا لما قَالَ أَبُو بكر أمزمور الشَّيْطَان فِي بَيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يُنكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم هَذِه التَّسْمِيَة وَالصَّحَابَة لم يَكُونُوا يفضلون شَيْئا من ذَلِك وَلَكِن ذكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم أمرا خَاصّا بقوله إِن لكل قوم عيدا وَهَذَا عيدنا

وَمثل هَذَا قَوْله لعمر لَو رآك سالكا فجأ لسلك فجا غير فجك لما خَافَ مِنْهُ النِّسَاء فِيمَا كن يفعلنه بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَعلم أَن هَذَا وَإِن كَانَ من الشَّيْطَان لَكِن الرُّخْصَة فِيهِ لهَؤُلَاء لِئَلَّا يَدعُوهُم إِلَى

ص: 287

مَا يفْسد عَلَيْهِم دينهم إِذْ لَا يُمكن صرفهم عَن كل مَا تتقاضاه الطبائع من الْبَاطِل

والشريعة جَاءَت بتحصيل الْمصَالح وتكميلها وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها فَهِيَ تحصل أعظم المصلحتين بِفَوَات أدناهما وتدفع أعظم الفسادين بأحتمال أدناهما فَإِذا وصف الْمُحْتَمل بِمَا فِيهِ من الْفساد مثل كَونه من عمل الشَّيْطَان لم يمْنَع ذَلِك أَن يكون قد وَقع بِهِ مَا هُوَ أحب إِلَى الشَّيْطَان مِنْهُ وَيكون إقرارهم على ذَلِك من الْمَشْرُوع فَهَذَا أصل يَنْبَغِي التفظن لَهُ

والشيطان يوسوس لبني آدم فِي أُمُور كَثِيرَة من الْمُبَاحَات كالتخلي وَالنِّكَاح وَغير ذَلِك وَهُوَ يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم فَلَا يُمكن حفظ جيمع بني آدم من كل مَا للشَّيْطَان فِيهِ نصيب لَكِن الشَّارِع يَأْمر بالتمكن من ذَلِك كَمَا شرع التَّسْمِيَة والاستعاذة عِنْد التخلي وَالنِّكَاح وَغير ذَلِك وَلَو لم يفعل الرجل ذَلِك لم نقل إِنَّه يَأْثَم بالتخلي وَنِكَاح أمْرَأَته وَنَحْو ذَلِك

وَكَذَلِكَ ذكر الْعرس وَقَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن الْأَنْصَار فيهم غزل وَلَو أرسلتم من يَقُول

ص: 288

.. أَتَيْنَاكُم أَتَيْنَاكُم فحيانا وحياكم

وَقد تقدم ان الْخَاص لايجعل

ومدار الْحجَج فِي هَذَا الْبَاب وَنَحْوه إِمَّا على قِيَاس فَاسد وتشبيه الشئ بِمَا لَيْسَ مثله وَإِمَّا على جعل الْخَاص عَاما وَهُوَ أَيْضا من الْقيَاس الْفَاسِد وَإِمَّا احتجابهم بِمَا لَيْسَ بِحجَّة أصلا

ثمَّ احْتج أَبُو الْقَاسِم بِمَا هُوَ من جنس الْقيَاس الْفَاسِد فَذكر حَدِيث الْبَراء بن عَازِب قَالَ سَمِعت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول حسنوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ فَإِن الصَّوْت الْحسن يزِيد الْقُرْآن حسنا وحديثا عَن أنس مَرْفُوعا لكل شئ حلية وَحلية الْقُرْآن الصَّوْت

ص: 289

وَهَذَا ضَعِيف عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم من رِوَايَة عبد الله بن مُحرز وَهُوَ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ بِحَال

وَقَالَ دلّ هَذَا الْخَبَر على فَضِيلَة الصَّوْت

قلت هَذَا دلّ على فضل الصَّوْت الْحسن بِكِتَاب الله لم يدل على فضيلته بِالْغنَاءِ وَمن شبه هَذَا بِهَذَا فقد شبه الْبَاطِل بأعظم الْحق

وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين} [سُورَة يس 69] فَكيف نشبه مَا أَمر الله بِهِ من تِلَاوَة كِتَابه وتحسينه بالصوت بِمَا لم يَأْمر بتحسين الصَّوْت بِهِ

هَذَا مثل من قَالَ إِذا أَمر الله بِالْقِتَالِ فِي سَبيله بِالسَّيْفِ وَالرمْح وَالرَّمْي دلّ على فَضِيلَة الضَّرْب والطعن ثمَّ يحْتَج بذلك على الضَّرْب والطعن وَالرَّمْي فِي غير سَبِيل الله

وَمثل من قَالَ إِذا أَمر الله بإنفاق المَال فِي سَبيله دلّ على فَضِيلَة المَال ويحتج بذلك على إِنْفَاق المَال فِي غير سَبيله

أَو قَالَ إِذا أَمر الله بالاستعفاف بِالنِّكَاحِ دلّ على فَضِيلَة النِّسَاء ويحتج بذلك على فَضِيلَة النِّسَاء ويحتج بذلك على فَضِيلَة النِّكَاح ويحتج بذلك على فَضِيلَة مَا لم يَأْذَن الله بِهِ من النِّكَاح

ص: 290

وَكَذَلِكَ كل مَا يعين على طَاعَة الله من تفكر أَو صَوت أَو حَرَكَة أَو قُوَّة أَو مَال أَو أعوان أَو غير ذَلِك فَهُوَ مَحْمُود فِي حَال إعانته على طَاعَة الله ومحابه ومراضيه وَلَا يسْتَدلّ بذلك على أَنه فِي نَفسه مَحْمُود على الْإِطْلَاق ويحتج بذلك على أَنه مَحْمُود إِذا استعين بِهِ على مَا هُوَ من طَاعَة الله وَلَا يحْتَج بِهِ على مَا لَيْسَ هُوَ من طَاعَة الله بل هُوَ من الْبدع فِي الدّين أَو الْفُجُور فِي الدُّنْيَا

وَمثل هَذَا قَوْله ص لله أَشد أذنا إِلَى الرجل الْحسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ من صَاحب الْقَيْنَة إِلَى قَيْنَته وَقَالَ مَا أذن الله لشئ كأذنه لنَبِيّ حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يجْهر بِهِ بل قَوْله ص لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَن التَّغَنِّي الْمَشْرُوع هُوَ بِالْقُرْآنِ وَأَن من تغنى بِغَيْرِهِ فَهُوَ مَذْمُوم وَلَا يُقَال هَذَا يدل على اسْتِحْبَاب حسن التَّغَنِّي

وَقَوله لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ إِمَّا أَن يُرِيد بِهِ الحض على أصل الْفِعْل وَهُوَ نفس التغنى بِالْقُرْآنِ وَإِمَّا أَن يُرِيد بِهِ مُطلق التغنى

ص: 291

وَهُوَ على صفة الْفِعْل وَالْأول هُوَ أَن يكون تغنيه إِذا تغنى بِالْقُرْآنِ لَا بِغَيْرِهِ وَهَذَا كَمَا وَقع فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} [سُورَة الْمَائِدَة 49] هَل هُوَ أَمر بِأَصْل الحكم أَو بِصفتِهِ إِذا حكم

وَالْمعْنَى الثَّانِي ذمّ لمن تغنى بِغَيْرِهِ مُطلقًا دون من ترك التَّغَنِّي بِهِ وَبِغَيْرِهِ

والمنعى الأول ذمّ لمن ترك التغنى بِهِ دون من تغنى بِهِ وَمن تغنى بِغَيْرِهِ

ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم حَدِيث ابْن عَاصِم عَن شبيب بن بشر عَن أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صوتان ملعونان صَوت ويل عِنْد مُصِيبَة وَصَوت مزمار عِنْد نعْمَة مَفْهُوم الْخطاب يَقْتَضِي إِبَاحَة غير هَذَا فِي غير هَذِه الْأَحْوَال وَإِلَّا لبطل التَّخْصِيص

قلت هَذَا الحَدِيث من أَجود مَا يحْتَج بِهِ على تَحْرِيم الْغناء كَمَا فِي اللَّفْظ الْمَشْهُور عَن جَابر بن عبد الله رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِنَّمَا نهيت عَن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فاجرين صَوت

ص: 292

عِنْد نعْمَة لَهو وَلعب وَمَزَامِير الشَّيْطَان وَصَوت عِنْد مُصِيبَة لطم خدود وشق جُيُوب وَدَعوى بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة

فَنهى عَن الصَّوْت الَّذِي يفعل عِنْد النِّعْمَة كَمَا نهى عَن الصَّوْت الَّذِي يفعل عِنْد الْمُصِيبَة وَالصَّوْت الَّذِي عِنْد النِّعْمَة هُوَ صَوت الْغناء

وَأما قَوْله صَوت مزمار فَإِن نفس صَوت الْإِنْسَان يُسمى مِزْمَارًا كَمَا قيل لأبي مُوسَى لقد اوتي هَذَا مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد وكما قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه أبمزمور الشَّيْطَان فِي بَيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وَأما قَوْله مَفْهُوم الْخطاب يَقْتَضِي إِبَاحَة غير هَذَا جَوَابه من وَجْهَيْن

أَحدهمَا أَن مثل اللَّفْظ الَّذِي ذكره لَا مَفْهُوم لَهُ عِنْد أَكثر أهل الْعلم

ص: 293

والتخصيص فِي مثل هَذَا كَقَوْلِه ص ثَلَاث فِي امتي من أَمر الْجَاهِلِيَّة وَمن قَالَ إِنَّه يكون لَهُ مَفْهُوم فَذَلِك إِذا لم يكن للتخصيص سَبَب آخر وَهَذَا التَّخْصِيص لكَون هَذِه الْأَصْوَات هِيَ الَّتِي كَانَت مُعْتَادَة فِي زَمَنه كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خشيَة إملاق} [سُورَة الْإِسْرَاء 31]

وَالثَّانِي أَن اللَّفْظ الَّذِي ذكره الرَّسُول يدل على مورد النزاع فَإِنَّهُ صَوت النِّعْمَة وَلَو لم تكن نعْمَة لَكَانَ تَنْبِيها عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إِذا نهى عَن ذَلِك عِنْد النِّعْمَة وَالْإِنْسَان مَعْذُور فِي ذَلِك كَمَا رخص فِي غناء النِّسَاء فِي الأعراس والأعياد وَنَحْو ذَلِك فَلِأَن ينْهَى عَن ذَلِك بِدُونِ ذَلِك بِدُونِ أولى وَأَحْرَى

والألات الملهية قد صَحَّ فِيهَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه تَعْلِيقا مَجْزُومًا بِهِ دَاخِلا فِي شَرطه عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم الْأَشْعَرِيّ أَنه سمع النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول لَيَكُونن فِي أمتِي أَقوام يسْتَحلُّونَ الْحر وَالْحَرِير وَالْخمر وَالْمَعَازِف ولينزلن أَقوام إِلَى جنب علم يروح بسارحة

ص: 294

لَهُم يَأْتِيهم لحاجتهم فَيَقُولُونَ ارْجع إِلَيْنَا غَدا فيبيتهم الله وَيَضَع الْعلم ويمسخ آخَرين قردة وَخَنَازِير إِلَى يَوْم الْقِيَامَة

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقد روى أَن رجلا أنْشد بَين يَدي النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ

أَقبلت فلاح لَهَا عارضان كالسبج

ص: 295

.. أَدْبَرت فَقلت لَهَا والفؤاد فِي وهج

هَل على ويحكما ان عشقت من حرج

فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا حرج إِن شَاءَ الله

قلت هَذَا الحَدِيث مَوْضُوع بأتفاق أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ لَا أصل لَهُ وَلَيْسَ هُوَ فِي شئ من دواوين الْإِسْلَام وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَاد بل هُوَ من جنس الحَدِيث الآخر الَّذِي قيل فِيهِ إِن أَعْرَابِيًا أَتَى إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأنشده

قد لسعت حَيَّة الْهوى كبدى فَلَا طَبِيب لَهَا وَلَا راقى

إِلَّا الحبيب الَّذِي شغفت بِهِ فَعنده رقيتي وترياقي

ص: 296

وَهَذَا أَيْضا مَوْضُوع بأتفاق أهل الْعلم كذب مفترى

وَكَذَلِكَ مَا يرْوى من أَنهم تواجدوا وَأَنَّهُمْ مزقوا الْخِرْقَة وَنَحْو ذَلِك كل ذَلِك كذب لم يكن فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة لَا بالحجاز وَلَا بِالشَّام وَلَا بِالْيمن وَلَا بالعراق وَلَا خُرَاسَان من يجْتَمع على هَذَا السماع الْمُحدث فضلا عَن أَن يكون كَانَ نَظِيره على عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا كَانَ أحد يمزق ثِيَابه وَلَا يرقص فِي سَماع وَلَا شئ من ذَلِك أصلا بل لما حدث التغبير فِي أَوَاخِر الْمِائَة الثَّانِيَة وَكَانَ أَهله من خِيَار الصُّوفِيَّة وَحدث من جِهَة الْمشرق الَّتِي يطلع مِنْهَا قرن الشَّيْطَان وَمِنْهَا الْفِتَن

قَالَ الشَّافِعِي رضي الله عنه خلفت بِبَغْدَاد شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التغبير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن

وَالَّذين شهدُوا هَذَا اللَّغْو متأولين من أهل الصدْق وَالْإِخْلَاص وَالصَّلَاح غمرت حسناتهم مَا كَانَ لَهُم فِيهِ وَفِي غَيره من السَّيِّئَات أَو الْخَطَأ

ص: 297

فِي مواقع االأجتهاد وَهَذَا سَبِيل كل صالحي هَذِه الْأمة فِي خطئهم وزلاتهم

قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون لَهُم مَا يشاؤون عِنْد رَبهم ذَلِك جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا ويجزيهم أجرهم بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ} [سُورَة الزمر 33 35] وَذَلِكَ كالمتأولين فِي تنَاول الْمُسكر من صالحي أهل الْكُوفَة وَمن اتبعهم على ذَلِك وَإِن كَانَ المشروب خمرًا لَا يشك فِي ذَلِك من اطلع على اقوال النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصَّحَابَة وَكَذَلِكَ المتأولون للمتعة وَالصرْف من اهل مَكَّة متبعين لما كَانَ يَقُوله ابْن عَبَّاس وَإِن كَانَ قد رَجَعَ عَن ذَلِك أَو زادوا عَلَيْهِ إِذْ لَا يشك فِي ذَلِك وَأَنه من أَنْوَاع الرِّبَا الْمحرم وَالنِّكَاح الْمحرم من اطلع على نُصُوص النَّبِي صلى الله عليه وسلم

وَكَذَلِكَ المتأولون فِي بعض الْأَطْعِمَة والحشوش من أهل الْمَدِينَة وَإِن كَانَ لَا يشك فِي تَحْرِيم ذَلِك من اطلع على نُصُوص النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه وَكَذَلِكَ مَا دخل فِيهِ من دخل من السَّابِقين وَالتَّابِعِينَ من الْقِتَال فِي الْفِتْنَة وَالْبَغي بالتأويل مَعَ مَا علم فِي ذَلِك من نُصُوص الْكتاب وَالسّنة من ترك الْقِتَال وَالصُّلْح فَمَا تَأَول فِيهِ قوم من ذَوي الْعلم وَالدّين من مطعوم أَو مشروب اَوْ منكوح أَو مَمْلُوك أَو مِمَّا قد علم أَن الله قد حرمه وَرَسُوله لم يجز

ص: 298

اتباعهم فِي ذَلِك مغفورا لَهُم وَإِن كَانُوا خِيَار الْمُسلمين وَالله قد غفر لهَذِهِ الْأمة الْخَطَأ وَالنِّسْيَان كَمَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَهُوَ سُبْحَانَهُ يمحو السَّيِّئَات بِالْحَسَنَاتِ وَيقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات

وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَمَّا ذكره الشَّيْخ أَبُو طَالب الْمَكِّيّ فِي كِتَابه قوت الْقُلُوب حَيْثُ ذكر أَنه من أنكر السماع مُطلقًا غير مُقَيّد فقد أنكر على سبعين صديقا وَلَعَلَّ الْإِنْكَار الْيَوْم يَقع على خلق عَظِيم من الصديقين لَكِن يُقَال الَّذين أَنْكَرُوا ذَلِك أَكثر من سبعين صديقا وَسبعين صديقا وَسبعين صديقا وهم أعظم علما وإيمانا وَأَرْفَع دَرَجَة فَلَيْسَ الِانْتِصَار بطَائفَة من الصديقين على نظرائهم لَا سِيمَا من هُوَ أكبر وأكبر بأدل من الْعَكْس

فَإِن الْقَائِل إِذا قَالَ من شرع هَذَا السماع الْمُحدث وَجعله مِمَّا يتَقرَّب بِهِ فقد خَالف جَمَاهِير الصديقين من هَذِه الامة ورد عَلَيْهِم كَانَ قَوْله أصح وَأقوى فِي الْحجَّة دع مَا سوى ذَلِك

وَهنا أصل يجب اعْتِمَاده وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ عصم هَذِه الْأمة أَن تَجْتَمِع على ضَلَالَة وَلم يعْصم آحادها من الْخَطَأ لَا صديقا وَلَا غير صديق لَكِن إِذا وَقع بَعْضهَا فِي خطأ فَلَا بُد أَن يُقيم الله فِيهَا من يكون

ص: 299

على الصَّوَاب فِي ذَلِك الْخَطَأ لِأَن هَذِه الْأمة شُهَدَاء على النَّاس وهم شُهَدَاء الله فِي الارض وهم خير أمة أخرجت للنَّاس يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر فَلَا بُد أَن تَأمر بِكُل مَعْرُوف وتنهى عَن كل مُنكر فَإِذا كَانَ فِيهَا من يَأْمر بمنكر متأولا فَلَا بُد أَن يكون فِيهَا من يَأْمر بذلك الْمَعْرُوف

فَأَما الِاحْتِجَاج بِفعل طَائِفَة من الصديقين فِي مَسْأَلَة نازعهم فِيهَا أعدائهم فَبَاطِل بل لَو كَانَ المنازع لَهُم أقل مِنْهُم عددا وَأدنى منزلَة لم تكن الْحجَّة مَعَ أَحدهمَا إِلَّا بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله فَإِنَّهُ بذلك أمرت الامة

كَمَا قَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول فَإِن تنازعهم فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر [سُورَة النِّسَاء 59] فَإِذا تنازعت الْأمة وولاه الْأُمُور من الصديقين وَغَيرهم فَعَلَيْهِم جَمِيعهم أَن يردوا مَا تنازعوا فِيهِ إِلَى الله وَرَسُوله

وَمن الْمَعْلُوم أَن الصديقين الَّذين أباحوا بعض الْمُسكر كَانُوا أسبق من هَؤُلَاءِ وَأكْثر وأكبر وَكَذَلِكَ الَّذين استحلوا الْمُتْعَة وَالصرْف وَبَعض المطاعم الخبيثة والحشوش وَالَّذين استحلوا الْقِتَال فِي الْفِتْنَة متأولين معتقدين أَنهم على الْحق وَغير ذَلِك هم أسبق من هَؤُلَاءِ وَأكْثر وأكبر

فَإِذا نهى عَمَّا نهى الله عَنهُ وَرَسُوله لم يكن لأحد أَن يَقُول هَذَا إِنْكَار

ص: 300

على كَذَا وَكَذَا رجلا من السَّابِقين وَالتَّابِعِينَ فَإِن هَذَا الْإِنْكَار كَانَ من نظرائهم وَمن هُوَ فَوْقهم أَو قَرِيبا مِنْهُم وَعند التَّنَازُع فالمرد إِلَى الله وَرَسُوله

وَلَكِن من ذهب إِلَى القَوْل الْمَرْجُوح ينْتَفع بِهِ فِي عذر المتأولين فَإِن عَامَّة مَا حرمه الله مثل قتل النَّفس بِغَيْر حق وَمثل الزِّنَا وَالْخمر وَالْميسر وَالْأَمْوَال والاعراض قد اسْتحلَّ بعض أَنْوَاعه طوائف من الامة بالتأويل وَفِي المستحلين قوم من صالحي الْأمة وَأهل الْعلم وَالْإِيمَان مِنْهُم

لَكِن المستحل لذَلِك لَا يعْتَقد أَنه من الْمُحرمَات وَلَا أَنه دَاخل فِيمَا ذمه الله وَرَسُوله فالمقاتل فِي الْفِتْنَة متأولا لَا يعْتَقد أَنه قتل مُؤمنا بِغَيْر حق والمبيح للمتعة والحشوش وَنِكَاح الْمُحَلّل لَا يعْتَقد أَنه أَبَاحَ زنا وسفاحا والمبيح للنبيذ المتأول فِيهِ ولبعض أَنْوَاع الْمُعَامَلَات الربوية وعقود المخاطرات لَا يعْتَقد أَنه أَبَاحَ الْخمر وَالْميسر والربا

وَلَكِن وُقُوع مثل هَذَا التَّأْوِيل من الْأَئِمَّة المتبوعين أهل الْعلم وَالْإِيمَان صَار من أَسبَاب المحن والفتنة فَإِن الَّذين يعظمونهم قد يقتدون بهم فِي ذَلِك وَقد لَا يقفون عِنْد الْحَد الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ أُولَئِكَ بل يتعدون ذَلِك وَيزِيدُونَ زيادات لم تصدر من أُولَئِكَ الْأَئِمَّة السَّادة وَالَّذين يعلمُونَ تَحْرِيم جنس ذَلِك الْفِعْل قد يعتدون على المتأولين بِنَوْع

ص: 301

من الذَّم فِيمَا هُوَ مغْفُور لَهُم ويتبعهم آخَرُونَ فيزيدون فِي الذَّم مَا يسْتَحلُّونَ بِهِ من أَعْرَاض إخْوَانهمْ وَغير أعراضهم مَا حرمه الله وَرَسُوله فَهَذَا وَاقع كثير فِي موارد النزاع الَّذِي وَقع فِيهِ خطأ من بعض الْكِبَار

وَاعْتبر ذَلِك بِمَسْأَلَة السماع الَّتِي تكلمنا فِيهَا فَإِن الله سُبْحَانَهُ شرع للْأمة مَا أغناهم بِهِ عَمَّا لم يشرعه حَيْثُ أكمل الدّين وَأتم عَلَيْهِم النِّعْمَة ورضى لَهُم الْإِسْلَام دينا وَهُوَ سَماع الْقُرْآن الَّذِي شَرعه لَهُم فِي الصَّلَاة الَّتِي هِيَ عماد دينهم وَفِي غير الصَّلَاة مُجْتَمعين ومنفردين حَتَّى كَانَ أَصْحَاب مُحَمَّد إِذا اجْتَمعُوا أمروا وَاحِدًا مِنْهُم ان يقْرَأ وَالْبَاقُونَ يسمعُونَ وَكَانَ عمر بن الْخطاب يَقُول لأبي مُوسَى يَا أَبَا مُوسَى ذكرنَا رَبنَا فَيقْرَأ وهم يَسْتَمِعُون وَقد بسطنا القَوْل فِي ذَلِك فِي غير هَذَا الْموضع وَإِنَّمَا ذكرنَا هُنَا نكتا تتَعَلَّق بِالسَّمَاعِ

قَالَ تَعَالَى {الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابها مثاني تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله} [سُورَة الزمر 23]

وَذكر سَماع الْمُؤمنِينَ والعارفين وَالْعَالمِينَ والنبيين فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} [سُورَة الْأَنْفَال 2]

وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين أُوتُوا الْعلم من قبله إِذا يُتْلَى عَلَيْهِم يخرون للأذقان سجدا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبنَا إِن كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا ويخرون للأذقان يَبْكُونَ ويزيدهم خشوعا [سُورَة الْإِسْرَاء 108 109]

ص: 302

وَقَالَ أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين من ذُرِّيَّة آدم وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم وَإِسْرَائِيل وَمِمَّنْ هدينَا واجتبينا إِذا تتلى عَلَيْهِم آيَات الرَّحْمَن خروا سجدا وبكيا [سُورَة مَرْيَم 58]

وَقَالَ تَعَالَى الَّذين يستعون القَوْل فيتبعون أحْسنه [سُورَة الزمر 18]

وَقَالَ وَالَّذين إِذا ذكرُوا بآيَات رَبهم لم يخروا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا [سُورَة الْفرْقَان 73]

وَقَالَ تَعَالَى وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تغلبون [سُورَة فصلت 26]

وَقَالَ تَعَالَى وَقَالَ الرَّسُول يَا رب إِن قومِي اتَّخذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا [سُورَة الْفرْقَان 30]

وَقَالَ تَعَالَى إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون [سُورَة الانفال 23]

وَقَالَ فَمَا لَهُم عَن التَّذْكِرَة معرضين كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة فرت من قسورة [سُورَة المدثر 49 51]

وَقَالَ {وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جعلنَا بَيْنك وَبَين الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حِجَابا مَسْتُورا} الْآيَة [سُورَة الْإِسْرَاء 54]

ص: 303

وَقَالَ {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [سُورَة التَّوْبَة 6]

وَقَالَ تَعَالَى {اتل مَا أُوحِي إِلَيْك من الْكتاب} [سُورَة العنكبوت 45]

وَقَالَ فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ [سُورَة المزمل 20]

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَقَالَ من قَرَأَ الْقُرْآن فَلهُ بِكُل حرف عشر حَسَنَات أما إِنِّي لَا أَقُول ألم حرف وَلَكِن أَقُول ألف حرف وَلَام حرف وَمِيم حرف وَهَذَا بَاب وَاسع يضيق هَذَا الْموضع عَن ذكر جُزْء مِنْهُ

فَلَمَّا انقرضت الْقُرُون الفاضلة حصل فَتْرَة فِي هَذَا السماع الْمَشْرُوع الَّذِي بِهِ صَلَاح الْقُلُوب وَكَمَال الدّين وَصَارَ أهل التَّغْيِير فِيهِ أحد رجلَيْنِ رجل معرض عَن السماع الْمَشْرُوع وَغير الْمَشْرُوع وَرجل احْتَاجَ إِلَى سَماع القصائد والأبيات فأحدث سَماع القصائد والأبيات كالتغير وَكَانَ الأكابر الَّذين حَضَرُوهُ لَهُم من التَّأْوِيل مَا لَهُم فَأَقَامَ الله فِي الْأمة من أنكر ذَلِك كَمَا هُوَ سنة الله فِي هَذِه الْأمة الآمرة بِالْمَعْرُوفِ الناهية عَن الْمُنكر

ص: 304

وَهَؤُلَاء المنكرون فيهم المقتصد فِي إِنْكَاره وَمِنْهُم المتأول بِزِيَادَة فِي الْإِنْكَار غير مَشْرُوعَة

كَمَا أحدث أُولَئِكَ مَا لَيْسَ مَشْرُوعا وَصَارَ على تَمَادى الايام يزْدَاد الْمُحدث من السماع ويزداد التَّغْلِيظ فِي أهل الْإِنْكَار حَتَّى آل الْأَمر من أَنْوَاع الْبدع والضلالات والتفرق والاختلافات إِلَى مَا هُوَ من أعظم القبائح الْمُنْكَرَات الَّتِي لَا يشك فِي عظم إثمها وتحريمها من لَهُ أدنى علم وإيمان

وأصل هَذَا الْفساد من ذَلِك التَّأْوِيل فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد فَمن ثبته الله بالْقَوْل الثَّابِت أعْطى كل ذِي حق حَقه وَحفظ حُدُود الله فَلم يتعدها {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه} [سُورَة الطَّلَاق 1] فالشر فِي التَّفْرِيط بترك الْمَأْمُور أَو الْعدوان بتعدي الْحُدُود وحصلت الزِّيَادَات فِي جَمِيع الْأَنْوَاع المبتدعة

فَإِن أصل سَماع القصائد كَانَ تلحينا بإنشاد قصائد مرققة للقلوب تحرّك تَحْرِيك الْمحبَّة والشوق أَو الْخَوْف والخشية أَو الْحزن والأسف وَغير ذَلِك وَكَانُوا يشترطون لَهُ الْمَكَان والإمكان والخلان فيشترطون أَن يكون المجتمعون لسماعها من أهل الطَّرِيق المريدين لوجه الله وَالدَّار الْآخِرَة وَأَن يكون الشّعْر المنشد غير مُتَضَمّن لما يكره سَمَاعه فِي الشَّرِيعَة وَقد يشْتَرط بَعضهم أَن يكون القوال مِنْهُم وَرُبمَا اشْترط بَعضهم ذَلِك فِي

ص: 305

الشَّاعِر الَّذِي انشأ تِلْكَ القصائد وَرُبمَا ضمُّوا إِلَيْهِ آلَة تقوى الصَّوْت وَهُوَ الضَّرْب بالقضيب على جلد مخدة أَو غَيرهَا وَهُوَ التغبير

وَمن الْمَعْلُوم أَن اسْتِمَاع الْأَصْوَات يُوجب حَرَكَة النَّفس بِحَسب ذَلِك الصَّوْت الَّذِي يُوجب الْحَرَكَة وَهُوَ يُوجب الْحَرَكَة

وللأصوات طبائع متنوعة تتنوع آثارها فِي النَّفس وَكَذَلِكَ للْكَلَام المسموع نظمه ونثره فَيجْمَعُونَ بَين الصَّوْت الْمُنَاسب والحروف الْمُنَاسبَة لَهُم

وَهَذَا الْأَمر يَفْعَله بَنو آدم من أهل الديانَات البدعية كالنصارى والصابئة وَغير أهل الديانَات مِمَّن يُحَرك بذلك حبه وشوقه ووجده أَو حزنه وأسفه أَو حميته وغضبه أَو غير ذَلِك فخلف بعد أُولَئِكَ من صَار يجمع عَلَيْهِ أخلاطا من النَّاس ويرون اجْتِمَاعهم لذَلِك شبكة تصطاد النُّفُوس بزعمهم إِلَى التَّوْبَة والوصول فِي طَرِيق أهل الارادة

وأحدث بعد أُولَئِكَ أَيْضا الِاسْتِمَاع من المخانيث المعروفين بِالْغنَاءِ لأهل الفسوق وَالزِّنَا وَرُبمَا استمعوه من الصّبيان المردان أَو من النسوان الملاح كَمَا يفعل أهل الدساكر والمواخير

وَقد يجمعُونَ فِي السماع أَنْوَاع الْفُسَّاق والفجار وَرُبمَا قصدُوا التكاثر بهم والافتخار لَا سِيمَا إِن كَانُوا من أهل الرياسة واليسار وَكَثِيرًا

ص: 306

مَا يحضر فِيهِ أَنْوَاع المردان وَقد يكون ذَلِك من أكبر مَقَاصِد أهل السماع وَرُبمَا ألبسوهم الثِّيَاب المصبغة الْحَسَنَة وأرقصوهم فِي طابق الرقص والدوران وَجعلُوا مشاهدتهم بل معانقتهم مَطْلُوبا لمن يحضر من الْأَعْيَان وَإِذا غلبهم وجد الشَّيْطَان رفعوا الْأَصْوَات الَّتِي يبغضها الرَّحْمَن

وَكَذَلِكَ زادوا فِي الابتداع فِي إنشاد القصائد فكثيرا مَا ينشدون أشعار الْفُسَّاق والفجار وَفِيهِمْ كثير ينشدون أشعار الْكفَّار بل ينشدون مَا لَا يستجيزه أَكثر اهل التَّكْذِيب وَإِنَّمَا يَقُوله أعظم النَّاس كفرا بِرَبّ الْعَالمين وأشدهم بعدا عَن الله وَرَسُوله وَالْمُؤمنِينَ

وَزَادُوا أَيْضا فِي الْآلَات الَّتِي تستثار بهَا الْأَصْوَات مِمَّا يصنع بالأفواه وَالْأَيْدِي كأبواق الْيَهُود ونواقيس النَّصَارَى من يبلغ الْمُنْكَرَات كأنواع الشبابات والصفارات وأنواع الصلاصل والأوتار المصوتات مَا عظمت بِهِ الْفِتْنَة حَتَّى رَبًّا فِيهَا الصَّغِير وهرم فِيهَا الْكَبِير وَحَتَّى اتَّخذُوا ذَلِك دينا وديدنا وجعلوه من الْوَظَائِف الرَّاتِبَة بِالْغَدَاةِ والعشى كَصَلَاة الْفجْر وَالْعصر وَفِي الْأَوْقَات والاماكن الفاضلات واعتاضوا بِهِ عَن الْقُرْآن والصلوات

وَصدق فيهم قَوْله {فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة}

ص: 307

{وَاتبعُوا الشَّهَوَات} [سُورَة مَرْيَم 59] وَصَارَ لَهُم نصيب من قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} [سُورَة الْأَنْفَال 35] إِذْ المكاء هُوَ الصفير وَنَحْوه من الْغناء والتصدية هِيَ التصفيق بِالْأَيْدِي فَإِذا كَانَ هَذَا سَماع الْمُشْركين الَّذِي ذمه الله فِي كِتَابه فَكيف إِذا اقْترن بالمكاء الصفارات المواصيل وبالتصدية مصلصلات الغرابيل وَجعل ذَلِك طَرِيقا ودينا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الْمولى الْجَلِيل

وَظهر تَحْقِيق قَول عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب كَمَا ينْبت المَاء البقل

بل أفْضى الْأَمر إِلَى أَن يجْتَمع فِي هَذَا السماع على الْكفْر بالرحمن والاستهزاء بِالْقُرْآنِ والذم للمساجد والصلوات والطعن فِي أهل الْإِيمَان والقربات وَالِاسْتِخْفَاف بالأنبياء وَالْمُرْسلِينَ والتحضيض على جِهَاد الْمُؤمنِينَ ومعاونة الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ واتخاذ الْمَخْلُوق إِلَهًا من دون رب الْعَالمين وَشرب أَبْوَال المستمعين وَجعل ذَلِك من أفضل أَحْوَال العارفين وَرفع الْأَصْوَات الْمُنْكَرَات الَّتِي أَصْحَابهَا شَرّ من الْبَهَائِم السائمات الَّذين قَالَ الله فِي مثلهم {أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} [سُورَة الْفرْقَان 44]

وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ أُولَئِكَ هم الغافلون} [سُورَة الْأَعْرَاف 179] الَّذين

ص: 308

يَفْعَلُونَ فِي سماعاتهم مَا لَا يَفْعَله الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلِهَذَا يتولون من يتولاهم من الْيَهُود وَالنَّصَارَى والصابئة وَالْمُشْرِكين وَالْمَجُوس ويجعلونهم من إخْوَانهمْ وأصحابهم وَأهل خرقتهم مَعَ معاداتهم للأنبياء وَالْمُؤمنِينَ

فَصَارَ السماع الْمُحدث دائرا بَين الْكفْر والفسوق والعصيان وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وكفره من أغْلظ الْكفْر وأشده وفسوقه من اعظم الفسوق

وَذَلِكَ أَن تَأْثِير الْأَصْوَات فِي النُّفُوس من أعظم التَّأْثِير يغنيها ويغذيها حَتَّى قيل إِنَّه لذَلِك سمى غناء لِأَنَّهُ يُغني النَّفس

وَهُوَ يفعل فِي النُّفُوس أعظم من حميا الكؤوس حَتَّى يُوجب للنفوس أحوالا عَجِيبَة يظنّ أَصْحَابهَا أَن ذَلِك من جنس كرامات الْأَوْلِيَاء وَإِنَّمَا هُوَ من الْأُمُور الطبيعية الْبَاطِلَة المبعدة عَن الله إِذْ الشَّيَاطِين تمدهم فِي هَذَا السماع بأنواع الْإِمْدَاد

كَمَا قَالَ تَعَالَى {وإخوانهم يمدونهم فِي الغي ثمَّ لَا يقصرون} [سُورَة الْأَعْرَاف 202] وَقَالَ للشَّيْطَان واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك [سُورَة الْإِسْرَاء 64] فَرُبمَا يخف أحدهم حَتَّى يرقص فَوق رؤوسهم وَيكون شَيْطَانه هُوَ المغوى لنفوسهم

ص: 309

وَلِهَذَا كَانَ مرّة فِي سَماع يحضرهُ الشَّيْخ شبيب الشطي فَبَيْنَمَا هم فِي سَماع أحدهم وَإِذا بعفريت يرقص فِي الْهَوَاء على رؤوسهم فتعجبوا مِنْهُ وَطلب الشَّيْخ لمريده الشَّيْخ أَبَا بكر بن فينان وَكَانَ لَهُ حَال وَمَعْرِفَة فَلَمَّا رَآهُ صرخَ فِيهِ فَوَقع فَمَا فرغوا طلب مِنْهُ ان ينصفه وَقَالَ هَذَا سلبني حَالي فَقَالَ الشَّيْخ لم يكن لَهُ حَال وَلَكِن كَانَ بالرحبة فَحَمله شَيْطَانه إِلَى هُنَا وَجعل يرقص بِهِ فَلَمَّا رَأَيْت الشَّيْطَان صرخت فِيهِ فهرب فَوَقع هَذَا

والقصة مَعْرُوفَة يعرفهَا أَصْحَاب الشَّيْخ

وَصَارَ فِي أهل هَذَا السماع الْمُحدث الَّذين اتَّخذُوا دينهم لَغوا وَلَعِبًا ضد مَا أحبه الله وشرعه فِي دين الْحق الَّذِي بعث بِهِ رَسُوله من عَامَّة الْوُجُوه بل صَار مُشْتَمِلًا على جَمِيع مَا حرمه الله وَرُسُله

كَمَا قَالَ تَعَالَى {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [سُورَة الْأَعْرَاف 33] فَصَارَ فِيهِ من الْفَوَاحِش الظَّاهِرَة والباطنة وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق والإشراك بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَالْقَوْل على الله بِغَيْر علم مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله فَإِنَّهُ تنوع وتعدد وتفرق أَهله فِيهِ وصاروا شيعًا لكل قوم ذوق ومشروب وَطَرِيق

ص: 310

يفارقون بِهِ غَيرهم حَتَّى فِي الْحُرُوف المنشدة والأصوات الملحنة والأذواق الْمَوْجُودَة والحركات الثائرة وَالْقَوْم المجتمعين وَصَارَ من فِيهِ من الْعلم وَالْإِيمَان مَا ينهاه عَمَّا ظهر تَحْرِيمه من أَنْوَاع الْكفْر وَالظُّلم وَالْفَوَاحِش يُرِيد أَن يحد حدا للسماع الْمُحدث يفصل بِهِ بَين مَا يسوغ مِنْهُ وَمَا لَا يسوغ فَلَا يكَاد يَنْضَبِط حد لَا بالْقَوْل وَلَا بِالْعَمَلِ فَإِن قرب فِي الضَّبْط والتحديد بالْقَوْل لم يَنْضَبِط لَهُ بِالْعَمَلِ إِذْ ينْدر وجود تِلْكَ الشُّرُوط حَتَّى إِنَّه اجْتمع مرّة بِبَغْدَاد فِي حَال عمارتها وَوُجُود الْخلَافَة بهَا أَعْيَان الشُّيُوخ الَّذين يحْضرُون السماع الْمفْتُون فَلم يَجدوا من يصلح لَهُ فِي بَغْدَاد وسوادها إِلَّا نَفرا إِمَّا ثَلَاثَة وَإِمَّا أَرْبَعَة وَإِمَّا نَحْو ذَلِك

وَسبب هَذَا الإضراب أَنه لَيْسَ من عِنْد الله وَمَا كَانَ من عِنْد غير الله وجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ منيبين إِلَيْهِ واتقوه وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين من الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} [سُورَة الرّوم 30 32]

ثمَّ مَعَ اشتماله على الْمُحرمَات كلهَا أَو بَعْضهَا يرَوْنَ أَنه من أعظم القربات بل أعظمها وأجلها قدرا وَأَن أَهله هم الصفوة أَوْلِيَاء الله وَخيرته من خلقه وَلَا يرضون بمساواة السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين والانصار وَسلف الْأمة حَتَّى يتفضلوا عَلَيْهِم وَفِيهِمْ من يساوون أنفسهم

ص: 311

بالأنبياء وَالْمُرْسلِينَ وَفِيهِمْ من يتفضل أَيْضا على الانبياء وَالْمُرْسلِينَ على أَنْوَاع من الْكفْر الَّتِي لَيْسَ هَذَا موضعهَا

وجماع الْأَمر انه صَار فِيهِ وَفِيمَا يتبعهُ فِي وَسَائِل ذَلِك ومقاصده فِي موجوده ومقصوده فِي صفته ونتيجته ضد مَا فِي السماع والعبادات الشَّرْعِيَّة فِي وسائلها ومقاصدها موجودها ومقصودها صفتهَا ونتيجتها فَذَاك يُوجب الْعلم وَالْإِيمَان وَهَذَا يُوجب الْكفْر والنفاق وَلِهَذَا كَانَ أَعْرَاب النَّاس أهل الْبَوَادِي من الْعَرَب وَالتّرْك والكرد وَغَيرهم أَكثر اسْتِعْمَالا لَهُ من أهل الْقرى فَإِنَّهُم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا وأجدر أَلا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله} [سُورَة التَّوْبَة 97]

وَلِهَذَا كَانَ يحضرهُ الشَّيَاطِين كَمَا أَن سَماع أهل الْإِيمَان تحضره الْمَلَائِكَة وتنزل عَلَيْهِم فِيهِ الشَّيَاطِين وتوحى إِلَيْهِم كَمَا تنزل الْمَلَائِكَة على الْمُؤمنِينَ وتقذف فِي قُلُوبهم مَا امرهم الله فَإِن الْمَلَائِكَة تنزل عِنْد سَماع الْقُرْآن وَعند ذكر الله

كَمَا فِي الصَّحِيح مَا اجْتمع قوم فِي بَيت من بيُوت الله يَتلون كتاب الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينهم إِلَّا غشيتهم الرَّحْمَة وَنزلت عَلَيْهِم السكينَة وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَة وَذكرهمْ الله فِيمَن عِنْده

ص: 312

وَفِي الصَّحِيح أَن أسيد بن الْحضير كَانَ يقْرَأ سُورَة الْكَهْف فَرَأى مثل الظلة فِيهَا أَمْثَال المصابيح فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم تِلْكَ السكينَة تنزلت لسَمَاع الْقُرْآن

وَفِي الصَّحِيح إِن لله مَلَائِكَة فضلا عَن كتاب النَّاس فَإِذا رَأَوْا قوما يذكرُونَ الله تنادوا هلموا إِلَى حَاجَتكُمْ الحَدِيث بِطُولِهِ

وَهَذَا السماع الْمُحدث تحضره الشَّيَاطِين كَمَا رأى ذَلِك من كشف لَهُ وكما تُوجد آثَار الشَّيَاطِين فِي أَهله حَتَّى أَن كثيرا مِنْهُم يغلب عَلَيْهِ الوجد فيصعق كَمَا يصعق المصروع ويصيح كصياحه وَيجْرِي على لِسَانه من الْكَلَام مَا لَا يفهم مَعْنَاهُ وَلَا يكون بلغته كَمَا يجْرِي على لِسَان المصروع وَرُبمَا كَانَ ذَلِك من شياطين قوم من الْكفَّار الَّذِي يكون أهل ذَلِك السماع مشابهين لقُلُوبِهِمْ كَمَا يُوجد ذَلِك فِي أَقوام كثيرين كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي

ص: 313

وجدهم واختلاطهم بلغَة التّرْك التتر الْكفَّار فَينزل عَلَيْهِم شياطينهم ويغوونهم ويبقون منافقين موالين لَهُم وهم يظنون أَنهم من أَوْلِيَاء الله وَإِنَّمَا هم من أَوْلِيَاء الشَّيْطَان وَحزبه

وَلِهَذَا يُوجد فِيهِ مِمَّا يُوجد فِي الْخمر من الصد عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة وَمن إِيقَاع الْعَدَاوَة والبغضاء حَتَّى يقتل بَعضهم بَعْضًا فِيهِ وَلِهَذَا يَفْعَلُونَهُ على الْوَجْه الَّذِي يُحِبهُ الشَّيْطَان ويكرهه الرَّحْمَن

وَذَلِكَ من وُجُوه

أَحدهَا أَن الْعِبَادَات الشَّرْعِيَّة مثل الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْحج قد شرع فِيهَا من مجانبة جنس الْمُبَاشرَة الْمُبَاحَة فِي غَيرهَا مَا هُوَ من كمالها وتمامها فَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} [سُورَة الْبَقَرَة 187]

وَقَالَ {فَالْآن باشروهن وابتغوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر} [سُورَة الْبَقَرَة 187]

وَقَالَ {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} [سُورَة النِّسَاء 43]

وَأعظم ذَلِك الْحَج فَلَيْسَ للْمحرمِ أَن يُبَاشر فِيهِ النِّسَاء وَلَا ينظر إِلَيْهِم لشَهْوَة والمعتكف قريب مِنْهُ والصائم دونه والمصلى لَا يصاف النِّسَاء بل يؤخرن عَن صُفُوف الرِّجَال ويصلين خلف الرِّجَال كَمَا

ص: 314

قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خير صُفُوف الرِّجَال أَولهَا وشرها آخرهَا وَخير صُفُوف النِّسَاء آخرهَا وشرها أَولهَا

وَلَيْسَ للمصلى فِي حَال صلَاته أَن ينظر إِلَى مَا يلهيه عَن الصَّلَاة لَا نسَاء وَلَا غَيرهم بل قد ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه إِذا مر أَمَامه الْمَرْأَة وَالْحمار وَالْكَلب الْأسود وضع صلَاته وَإِن كَانَ قد ثَبت عَن النَّبِي ص

ص: 315

أَنه كَانَ يُصَلِّي وَعَائِشَة مُضْطَجِعَة فِي قبلته بِاللَّيْلِ فِي الظلمَة فَإِذا أَرَادَ أَن يسْجد غمزها فاللابث غير الْمَار وَلم يكن ذَلِك يلهيه لِأَنَّهُ كَانَ بِاللَّيْلِ فِي الظلمَة وَكَذَلِكَ مس النِّسَاء لشَهْوَة ينْقض الطَّهَارَة عِنْد اكثر الْعلمَاء

فَإِذا كَانَ هَذَا فِي النّظر والمباشرة الْمُبَاح فِي غير حَال الْعِبَادَة نهى الله عَنهُ حَال الْعِبَادَة لما فِي ذَلِك من المباينة لِلْعِبَادَةِ والمنافاة لَهَا فَكيف بِمَا هُوَ حرَام خَارج عَن الْعِبَادَة كالنظر إِلَى الْبَغي والمباشرة لَهَا فَكيف بِالنّظرِ إِلَى المردان الصَّباح المخانيث وَغير المخانيث والمباشرة لَهُنَّ ثمَّ هَذَا قد يفعل لمُجَرّد شَهْوَة النّظر فَيكون قبيحا مَكْرُوها خَارج الْعِبَادَة فَكيف فِي حَال الْعِبَادَة

وَهَؤُلَاء قد يجْعَلُونَ ذَلِك مِمَّا لَا يتم السماع إِلَّا بِهِ بل ويتخذونه فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا من الْعِبَادَات فيجعلون حضورهم فِي السماع

ص: 316

وَالسَّمَاع من النِّسَاء وَالصبيان من جملَة القربات والطاعات

وَهَذَا من أعظم تَبْدِيل الدّين فَإِن الرجل لَو جعل النّظر إِلَى امْرَأَته فِي الصَّلَاة أَو الصّيام أَو الِاعْتِكَاف من جملَة الْعِبَادَة كَانَ مبتدعا بل كَانَ هَذَا كفرا فَكيف إِذا جعل النّظر إِلَى الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة أَو الْأَمْرَد فِي الصَّلَاة من جملَة الْعِبَادَات كَمَا يَفْعَله بَعضهم وَقد أوقد شمعة على وَجه الْأَمْرَد فيستجليه فِي صلَاته ويعد ذَلِك من عباداته هَذَا من أعظم تَبْدِيل الدّين ومتابعة الشَّيَاطِين

وَهَذَا إِذا كَانَ الْعَمَل عبَادَة فِي نَفسه كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام فَكيف إِذا كَانَ الْعَمَل بِدعَة عَظِيمَة وَهُوَ سَماع المكاء والتصدية وَضم إِلَيْهِ مُشَاهدَة الصُّور الجميلة وَجعل سَماع هَذِه الْأَصْوَات ورؤية هَذِه الصُّور من الْعِبَادَات فَهَذَا من جنس دين الْمُشْركين

وَلَقَد حَدثنِي بعض الْمَشَايِخ أَن بعض مُلُوك فَارس قَالَ لشيخ رَآهُ قد جمع النَّاس على مثل هَذَا الِاجْتِمَاع يَا شيخ إِن كَانَ هَذَا هُوَ طَرِيق الْجنَّة فَأَيْنَ طَرِيق النَّار

الْوَجْه الثَّانِي أَن التطريب بالآلات الملهية محرم فِي السماع الَّذِي أحبه الله وشرعه وَهُوَ سَماع الْقُرْآن فَكيف يكون قربَة فِي السماع الَّذِي لم يشرعه الله وَهل ضم مَا يشرعه الله إِلَى مَا ذمه يصير الْمَجْمُوع الْمعِين بعضه

ص: 317

لبَعض مِمَّا أحبه الله ورضيه

الْوَجْه الثَّالِث كَثْرَة أيقاد النَّار بالشموع والقناديل وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يشرع فِي الصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن إِذْ فِيهِ من تَفْرِيق الْقُلُوب وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ خلاف الْمَقْصُود

الْوَجْه الرَّابِع التنوع فِي المطاعم والمشارب فِيهِ وَلَيْسَ شَأْن الْعِبَادَات وَإِنَّمَا شرع نوع ذَلِك عِنْد الْفَرَاغ من الْعِبَادَة وَأما أَن يكون هَذَا التنوع فِي المطاعم والمشارب فِي السماع من الْعِبَادَة الَّتِي يتَقرَّب بهَا الى الله فَلَا وَأما مُوجبه من الحركات الْمُخْتَلفَة والأصوات الْمُنكرَة والحركات الْعَظِيمَة فَهَذَا أجل من ان يُوصف وَلَا يُمكن رد مُوجبه بعد قيام الْمُقْتَضى التَّام كَمَا لَا يُمكن رد السكر عَن النَّفس بعد شرب مَا يسكر من الْخمر بل إسكاره للنفوس وصده عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة أعظم مِمَّا فِي الْخمر بِكَثِير

فَإِن الصَّلَاة كَمَا ذكر الله تَعَالَى {تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} [سُورَة العنكبوت 45] وَهَذَا أَمر مجرب محسوس يجد الْإِنْسَان من نَفسه أَن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر ويجد أهل السماع أَن نُفُوسهم

ص: 318

تميل إِلَى الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَلِهَذَا يتعاطى كل أحد من الْفَاحِشَة حَتَّى تعاطى كثير من المتصوفة صُحْبَة الْأَحْدَاث ومشاهدتهم

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ العينان يزينان وزناهما النّظر وغالب أَهله يخالطون الْأَحْدَاث والنسوان الْأَجَانِب وَمن امْتنع مِنْهُم عَن ذَلِك لورع أَو غَيره فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَهِي عَن ذَلِك بِغَيْر هَذَا السماع وَأما هَذَا السماع فال ينهاه عَن ذَلِك قطعا بل يَدعُوهُ إِلَيْهِ لَا سِيمَا النُّفُوس الَّتِي بهَا رقة ورياضة وزهد فَإِن سَماع الصَّوْت يُؤثر فِيهَا تَأْثِيرا عَظِيما وَكَذَلِكَ مُشَاهدَة الصُّور وَيكون ذَلِك قوتا لَهَا وَبِهَذَا اعتاض الشَّيْطَان فِيمَن يفعل ذَلِك من المتصوفة فَإِنَّهُ لم يبال بعد أَن أوقعهم فِيمَا يفْسد قُلُوبهم وسمعهم وأبصارهم أَلا يشْتَغل بِجمع الْأَمْوَال وَالسُّلْطَان اذا قد تكون فتْنَة أحدهم بذلك اعظم من الفتنه بالسلطان وَالْمَال فَإِن جنس ذَلِك مُبَاح وَقد يستعان بِهِ على طَاعَة الله وَأما مَا يشغل بِهِ هَؤُلَاءِ أنفسهم فَإِنَّهُ دين فَاسد منهى عَنهُ مضرته راجحة على منفعَته

الْوَجْه الْخَامِس تَشْبِيه الرِّجَال بِالنسَاء فَإِن المغاني كَانَ السّلف يسمونهم مخانيث لِأَن الْغناء من عمل النِّسَاء وَلم يكن على عهد النَّبِي

ص: 319

ص يُغني فِي الأعراس إِلَّا النِّسَاء كالإماء والجواري الحديثات السن فَإِذا تشبه بهم الرجل كَانَ مخنثا وَقد لعن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرِّجَال والمترجلات من النِّسَاء وَهَكَذَا فِيمَن يحْضرُون فِي السماع من المردان الَّذين يسمونهم الشُّهُود فيهم من التخنث بِقدر مَا تشبهوا بِالنسَاء وَعَلَيْهِم من اللَّعْنَة بِقدر ذَلِك

وَقد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه أَمر بِنَفْي المخنثين وَقَالَ أخرجوهم من بُيُوتكُمْ فَكيف نمر بقربهم ونعظمهم ونجعلهم طواغيت معظمون بِالْبَاطِلِ الَّذِي حرمه الله وَرَسُوله وَأمر بعقوبة أَهله وإذلالهم وَهَذَا مضاد فِي أمره فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ من حَالَتْ شَفَاعَته دون حد من حُدُود الله فقد ضاد الله فِي أمره رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الشَّفَاعَة بالْكلَام فَكيف بِالَّذِي يعظم

ص: 320

المتعدين لحدود الله ويعينهم على ذَلِك وَيجْعَل ذَلِك دينا لَا سِيمَا التَّعْظِيم لما هُوَ من جنس الْفَوَاحِش فَإِن هَذَا من شَأْنه إِذا كَانَ مُبَاحا ستره أَو إخفاؤه وَأَهله لَا يجوز أَن يجْعَلُوا من وُلَاة الْأُمُور وَلَا يكون لَهُم نصيب من السُّلْطَان بِمَا فيهم من نقص الْعقل وَالدّين فَكيف بِمن هُوَ من جنس هَؤُلَاءِ مِمَّن لَعنه الله وَرَسُوله فَإِن من يعظم الْقَيْنَات الْمُغَنِّيَات وَيجْعَل لَهُنَّ رياسة وَحكما لأجل مَا يستمع مِنْهُنَّ من الْغناء وَغَيره عَلَيْهِ من لعنة الله وغضبه أعظم مِمَّن يُؤمر الْمَرْأَة الْحرَّة ويملكها وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا أَفْلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة

فَالَّذِي يعظم المخنثين من الرِّجَال وَيجْعَل لَهُم من الرياسة وَالْأَمر على الْأَمر الْمحرم مَا يَجْعَل هُوَ احق بلعنة الله وغضبه من أُولَئِكَ فَإِن غناء الْإِمَاء والاستمتاع بِهن من جنس الْمُبَاح وَمَا زَالَ الْإِمَاء وغيرهن من

ص: 321

النِّسَاء يغنين على عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه فِي الأفراح كالعرس وقدوم الْغَائِب وَنَحْو ذَلِك بِخِلَاف من يَسْتَمِعُون الْغناء من المردان وَالنِّسَاء الأجنبيات ويجتمعون مَعَهم على الْفَوَاحِش فَإِنَّمَا يكون ذَلِك من أعظم الْمُحرمَات فَكيف إِذا جعل ذَلِك من الْعِبَادَات وَقد كتبنَا فِي غير هَذَا الْموضع مِمَّا يتَعَلَّق بذلك مَا لَا يحْتَملهُ هَذَا الْموضع

الْوَجْه السَّادِس أَن رفع الْأَصْوَات فِي الذّكر الْمَشْرُوع لَا يجوز إِلَّا حَيْثُ جَاءَت بِهِ السّنة كالأذان والتلبية وَنَحْو ذَلِك فَالسنة لِلذَّاكِرِينَ والداعين أَلا يرفعوا أَصْوَاتهم رفعا شَدِيدا كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أبي مُوسَى أَنه قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَكُنَّا إِذا علونا على شرف كبرنا فارتفعت أصواتنا فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس اربعوا على انفسكم فَإِنَّكُم لَا تدعون أَصمّ وَلَا غَائِبا إِنَّمَا تدعون سميعا قَرِيبا إِن الَّذِي تدعون أقرب إِلَى احدكم من عنق رَاحِلَته

وَقد قَالَ تَعَالَى {ادعوا ربكُم تضرعا وخفية إِنَّه لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} [سُورَة الْأَعْرَاف 55] وَقَالَ عَن زَكَرِيَّا {إِذْ نَادَى ربه نِدَاء خفِيا} [سُورَة مَرْيَم 3] وَقَالَ تَعَالَى وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا وخفية وَدون الْجَهْر من القَوْل بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال وَلَا تكن من الغافلين [سُورَة الْأَعْرَاف 205]

ص: 322

وَفِي هَذِه الْآثَار عَن سلف الْأمة وأئمتها مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه كَمَا قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رفع الصَّوْت بِالدُّعَاءِ بِدعَة وَكَذَلِكَ نَص عَلَيْهِ أَحْمد ابْن حَنْبَل وَغَيره وَقَالَ قيس بن عباد وَهُوَ من كبار التَّابِعين من أَصْحَاب على عليه السلام روى عَنهُ الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ كَانُوا يستحبون خفض الصَّوْت عِنْد الذّكر وَعند الْجَنَائِز وَعند الْقِتَال

وَهَذِه المواطن الثَّلَاثَة تطلب النُّفُوس فِيهَا الْحَرَكَة الشَّدِيدَة وَرفع الصَّوْت عِنْد الذّكر وَالدُّعَاء لما فِيهِ من الْحَلَاوَة ومحبة ذكر الله ودعائه وَعند الْجَنَائِز بالحزن والبكاء وَعند الْقِتَال بِالْغَضَبِ وَالْحمية ومضرته أكبر من منفعَته بل قد يكون ضَرَرا مَحْضا وَإِن كَانَت النَّفس تطلبه كَمَا فِي حَال المصائب

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَيْسَ منا من لطم الخدود وشق الْجُيُوب ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة وتبرأ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من الصالفة والحالقة والشاقة والصالفة الَّتِي ترفع صَوتهَا بالمصي

ص: 323

وَقَالَ إِن الله لَا يُؤَاخذ على دمع الْعين وَلَا على حزن الْقلب وَلَكِن يُؤَاخذ على هَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانه أَو يرحم وَقَالَ إِن النائحة إِذا لم تتب فَإِنَّهَا تلبس يَوْم الْقِيَامَة درعا من جرب وسربالا من قطران

وَهَذِه الْأَحَادِيث وَغَيرهَا فِي الصِّحَاح وَلِهَذَا عظم نهى الْعلمَاء عَمَّا ابتدع فِيهَا مثل الضَّرْب بِالدُّفُوفِ وَنَحْو ذَلِك وَرَأَوا تقطيع الدُّف فِي الْجِنَازَة كَمَا نَص عَلَيْهِ أَحْمد وَغَيره بِخِلَاف الدُّف فِي الْعرس فَإِن ذَلِك مَشْرُوع

وَأما الْقِتَال فَالسنة أَيْضا فِيهِ خفض الصَّوْت وَلِهَذَا قَالَ حماس بن قيس بن خَالِد لامْرَأَته يَوْم فتح مَكَّة

إِنَّك لَو شهِدت يَوْم الخندمة إِذْ فر صَفْوَان وفر عِكْرِمَة

وَأَبُو يزِيد قَائِم كالموتمه واستقبلهم بِالسُّيُوفِ الْمسلمَة

يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فَلَا يسمع إِلَّا غمغمه

لَهُم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي فِي اللوم أدنى كَلمه

ص: 324

وَهَذِه الدقادق والأبواق الَّتِي تشبه قرن الْيَهُود وناقوس النَّصَارَى لم تكن تعرف على عهد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَلَا من بعدهمْ من أُمَرَاء الْمُسلمين وَإِنَّمَا حدث فِي ظَنِّي بعض مُلُوك الْمشرق من أهل فَارس فَإِنَّهُم أَحْدَثُوا فِي أَحْوَال الْإِمَارَة والقتال أمورا كَثِيرَة وانبثت فِي الأَرْض لكَون ملكهم انْتَشَر حَتَّى رَبًّا فِي ذَلِك الصَّغِير وهرم فِيهَا الْكَبِير لَا يعْرفُونَ غير ذَلِك بل يُنكرُونَ أَن يتَكَلَّم أحد بِخِلَافِهِ حَتَّى ظن بعض النَّاس أَن ذَلِك من إِحْدَاث عُثْمَان بن عَفَّان وَلَيْسَ كَذَلِك بل وَلَا فعله عَامَّة الْخُلَفَاء والأمراء بعد عُثْمَان رضي الله عنه

وَلَكِن ظهر فِي الْأمة مَا أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ لتأخذن مَأْخَذ الْأُمَم قبلكُمْ شبْرًا شبْرًا وذراعا بِذِرَاع قَالُوا فَارس وَالروم قَالَ وَمن النَّاس إِلَّا هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ فِي الحَدِيث الآخر لتركبن سنَن من كَانَ قبلكُمْ حَذْو القذة بالقذة حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَب لدخلتموه قَالُوا يَا رَسُول الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى قَالَ فَمن

وكلا الْحَدِيثين فِي الصَّحِيح أخبر بِأَنَّهُ يكون فِي الْأمة من يتشبه باليهود وَالنَّصَارَى وَيكون فِيهَا من يتشبه بِفَارِس وَالروم

ص: 325

وَلِهَذَا ظهر فِي شَعَائِر الْجند المقاتلين شَعَائِر الْأَعَاجِم من الْفرس وَغَيرهم حَتَّى فِي اللبَاس وأعمال الْقِتَال والأسماء الَّتِي تكون لأسباب الإمرة مثل الْأَلْفَاظ المضافة إِلَى دَار كَقَوْلِهِم ركاب دَار وطشت دَار وخان دَار فَإِن ذَلِك فِي لُغَة الْفرس بِمَعْنى صَاحب وحافظ فَإِذا قَالُوا جَان دَار فالجان هِيَ الرّوح فِي لغتهم فالجان دَار بِمَعْنى حَافظ الرّوح وَصَاحب الرّوح وَكَذَلِكَ الركاب دَار أَي صَاحب الركاب وحافظ الركاب وَهُوَ الَّذِي يسرج الْفرس ويلجمه وَيكون فِي ركاب الرَّاكِب وَكَذَلِكَ صَاحب الطشت الَّذِي يغسل الثِّيَاب والأبدان

وَكَذَلِكَ برد دَار وَهُوَ صَاحب العتبة وَهُوَ الْمُوكل بدار الْأَمِير كالحداد والبواب الَّذِي يمْنَع من الدُّخُول وَالْخُرُوج وَيَأْذَن فِيهِ

وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ جمدار وَسلَاح دَار وجوكان دَار وبندق دَار ودوادار وخرندار واستادار لصَاحب الثِّيَاب الَّذِي يحفظ الثِّيَاب وَمَا يتَعَلَّق بذلك وَلِصَاحِب السِّلَاح والجوكان والبندق والدواه وخزانة المَال والاستدانة وَهِي التَّصَرُّف فِي إِخْرَاج المَال وَصَرفه فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الطَّعَام واللباس وَغير ذَلِك

وَيَتَعَدَّى ذَلِك إِلَى وُلَاة الطَّعَام وَالشرَاب فَيَقُولُونَ مرق دَار أَي صَاحب المرقة وَمَا يتَعَلَّق بهَا وشراب دَار لصَاحب الشَّرَاب وَيَقُولُونَ مهما ندار أَي صَاحب المهم كَمَا يَقُولُونَ مهمان خاناه أَي بَيت المهم والمهمة وَهُوَ فِي لغتهم الضَّيْف أَي بَيت الْإِضَافَة وَصَاحب الضِّيَافَة

ص: 326

مهمان دَار لمثل رَسُول يرد على الْأَمِير والعيون الَّذين هم الجواميس وَنَحْو ذَلِك مِمَّن يتَّخذ لَهُ ضِيَافَة وَيُوجد مِنْهُ أَخْبَار وَكتب وَيُعْطى ذَلِك وَنَحْو ذَلِك

فَإِن الأف وَالنُّون فِي لغتهم جمع كَمَا يَقُولُونَ مسلمان وفقيهان وعالمان أَي مُسلمُونَ وفقهاء وعلماء وَنَحْو ذَلِك قَوْلهم فرَاش خاناه أَي بَيت الْفرس والفراش يسمونه بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيّ وَيَقُولُونَ زرد خاناه أَي بَيت الزرد

وَهَذَا الْخَاص هُوَ عَام فِي الْعرف يُرَاد بِهِ بَيت السِّلَاح مُطلقًا وَإِن ذكر لفظ الزرد خَاصَّة كَمَا كَانَ الصَّحَابَة يعبرون عَن السِّلَاح بالحلقة وَالْحَلقَة هِيَ الدروع المسرودة من السرد الَّذِي يُقَال لَهُ الزرد فنقلت السِّين زايا وَرُبمَا قَالُوا الْحلقَة وَالسِّلَاح أَي الدروع وَالسِّلَاح

وَلِهَذَا لما صَالح النَّبِي صلى الله عليه وسلم من صَالحه من يهود صَالحهمْ على أَن لَهُ الْحلقَة وَفِي السِّيرَة كَانَ فِي بني فلَان وَفُلَان من الْأَنْصَار الْحلقَة والحصون أَي هم الَّذين لَهُم السِّلَاح الَّذين يُقَاتلُون بهَا والحصون الَّتِي يأوون إِلَيْهَا كَمَا يكون لأمراء النَّاس من أَصْنَاف الْمُلُوك المعاقل والحصون والقلاع وَلَهُم السِّلَاح فَإِن هَذِه الْأُمُور هِيَ جنن الْقِتَال وَبهَا يمْتَنع الْمقَاتل وَالْمَطْلُوب بِخِلَاف من لَا سلَاح لَهُ وَلَا حصن فَإِنَّهُ مُمكن

ص: 327

من نَفسه مَقْدُور عَلَيْهِ فِي مثل الْأَمْصَار وَإِن كَانَ الْقِتَال على الْخَيل بِالسِّلَاحِ هُوَ أَعلَى وَأفضل من الْقِتَال فِي الْحُصُون بِالسِّلَاحِ فالحصان خير من الْحُصُون وَمن لم يكن قِتَاله إِلَّا فِي الْحُصُون والجدر فَهُوَ مَذْمُوم

كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْيَهُود {لَا يقاتلونكم جَمِيعًا إِلَّا فِي قرى مُحصنَة أَو من وَرَاء جدر بأسهم بَينهم شَدِيد تحسبهم جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ} [سُورَة الْحَشْر 14]

والمحدثات فِي أَمر الْإِمَارَة وَالْملك والقتال كَثِيرَة جدا لَيْسَ هَذَا موضعهَا فَإِن الْأمة هِيَ فِي الأَصْل اربعة أَصْنَاف كَمَا ذكر ذَلِك فِي قَوْله فاقرأوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل الله وَآخَرُونَ يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله [سُورَة المزمل 20]

فالصنف الْوَاحِد الْقُرَّاء وهم جنس الْعلمَاء والعباد وَيدخل فيهم من تفرع من هَذِه الْأَصْنَاف من المتكلمة والمتصوفة وَغَيرهم

والصنف الآخر المكتسب بِالضَّرْبِ فِي الأَرْض وَأما المقيمون من أهل الصناعات والتجارات فَيمكن أَن يَكُونُوا من الْقُرَّاء المقيمين أَيْضا بِخِلَاف الْمُسَافِر فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذا مرض العَبْد أَو

ص: 328

سَافر كتبه لَهُ من الْعَمَل مثل مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ صَحِيح مُقيم أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابي مُوسَى

وَالله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ذكر هَذِه الْأَصْنَاف فِي الْآيَة ليبين من يسْقط عَنهُ قيام اللَّيْل من أهل الْأَعْذَار فَذكر الْمَرِيض وَالْمُسَافر اللَّذين ذكرا فِي الحَدِيث وَذكر الْمُسَافِرين فِي ضَرْبَيْنِ الضاربين فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل الله والمقاتلين فِي سَبِيل الله وهم التُّجَّار والأجناد

وَالْمَقْصُود هُنَا ان الْأَجْنَاس الْأَرْبَعَة من الْمُقَاتلَة والتجار وَمن يلْحق بهم من الصناع والقراء وَأهل الْأَعْذَار كالمرضى وَنَحْوهم كل هَؤُلَاءِ قد حصل فيهم من الْأَنْوَاع الْمُخْتَلفَة مَا يطول وَصفه

وأمورهم مَا بَين حسن مَأْمُور بِهِ وَبَين قَبِيح منهى عَنهُ ومباح واشتمال أَكثر أُمُورهم على هَذِه الثَّلَاثَة الْمَأْمُور بِهِ والمنهى عَنهُ والمباح وَالْوَاجِب الْأَمر بِمَا أَمر الله بِهِ وَالنَّهْي عَمَّا نهى عَنهُ وَالْإِذْن فِيمَا أَبَاحَهُ الله

ص: 329

لَكِن إِذا كَانَ الشَّخْص أَو الطَّائِفَة لَا تفعل مَأْمُورا إِلَّا بمحظور أعظم مِنْهُ أَو لَا تتْرك مَأْمُورا إِلَّا لمحظور أعظم مِنْهُ لم يَأْمر امرا يسْتَلْزم وُقُوع مَحْظُور رَاجِح وَلم ينْه نهيا يسْتَلْزم وُقُوع مَأْمُور رَاجِح فَإِن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر هُوَ الَّذِي بعثت بِهِ الرُّسُل وَالْمَقْصُود تَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها بِحَسب الْإِمْكَان

فَإِذا كَانَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مستلزما من الْفساد أَكثر مِمَّا فِيهِ من الصّلاح لم يكن مَشْرُوعا وَقد كره أَئِمَّة السّنة الْقِتَال فِي الْفِتْنَة الَّتِي يسميها كثير من اهل الْأَهْوَاء الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر فَإِن ذَلِك إِذا كَانَ يُوجب فتْنَة هِيَ اعظم فَسَادًا مِمَّا فِي ترك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لم يدْفع أدنى الفسادين باعلاهما بل يدْفع أعلاهما بِاحْتِمَال أدناهما كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَلا انبئكم بِأَفْضَل من دَرَجَة الصّيام وَالصَّلَاة وَالصَّدَََقَة والامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر قَالُوا بلَى يَا رَسُول الله قَالَ إصْلَاح ذَات الْبَين فَإِن فَسَاد ذَات الْبَين هِيَ الحالقة لَا أَقُول تحلق الشّعْر وَلَكِن تحلق الدّين

ص: 330

لَكِن الْمَقْصُود هُنَا ان هَذِه الْأَصْوَات المحدثة فِي امْر الْجِهَاد وَإِن ظن أَن فِيهَا مصلحَة راجحة فَإِن الْتِزَام الْمَعْرُوف هُوَ الَّذِي فِيهِ الْمصلحَة الراجحة كَمَا فِي اصوات الذّكر إِذْ السَّابِقُونَ الْأَولونَ والتابعون لَهُم بِإِحْسَان أفضل من الْمُتَأَخِّرين فِي كل شئ من الصَّلَاة وجنسها من الذّكر وَالدُّعَاء وَقِرَاءَة الْقُرْآن واستماعه وَغير ذَلِك وَمن الْجِهَاد والإمارة وَمَا يتَعَلَّق بذلك من أَصْنَاف السياسات والعقوبات والمعاملات فِي إصْلَاح الْأَمْوَال وصرفها فَإِن طَرِيق السّلف أكمل فِي كل شئ وَلَكِن يفعل الْمُسلم من ذَلِك مَا يقدر عَلَيْهِ

كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} [سُورَة التغابن 16] وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه

قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي وَإِن حسن الصَّوْت مِمَّا أنعم الله تَعَالَى بِهِ على صَاحبه من النَّاس قَالَ الله تَعَالَى {يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء} [سُورَة فاطر 1] قيل فِي التَّفْسِير من ذَلِك الصَّوْت الْحسن وذم

ص: 331

الله وسبحانه الصَّوْت الفظيع فَقَالَ تَعَالَى {إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير} [سُورَة لُقْمَان 19]

قلت كَون الشئ نعْمَة لَا يقتضى اسْتِبَاحَة اسْتِعْمَاله فِيمَا شَاءَ الْإِنْسَان من الْمعاصِي وَلَا يَقْتَضِي إِلَّا حسن اسْتِعْمَاله بل النعم المستعملة فِي طَاعَة الله يحمد صَاحبهَا عَلَيْهَا وَيكون ذَلِك شكرا لله يُوجب الْمَزِيد من فَضله فَهَذَا يَقْتَضِي حسن اسْتِعْمَال الصَّوْت الْحسن فِي قِرَاءَة الْقُرْآن كَمَا كَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يفعل وكما كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يستمع لقرَاءَته وَقَالَ مَرَرْت بك البارحة وَأَنت تقْرَأ فَجعلت اسْتمع لقراءتك فَقَالَ لَو علمت أَنَّك تستمع لحبرته لَك تحبيرا وَقَالَ لقد أُوتى هَذَا مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد

فَأَما اسْتِعْمَال النعم فِي الْمُبَاح الْمَحْض فَلَا يكون طَاعَة فَكيف فِي الْمَكْرُوه أَو الْمحرم وَلَو كَانَ ذَلِك جَائِزا لم يكن قربَة وَلَا طَاعَة إِلَّا بِإِذن الله وَمن

ص: 332

جعله طَاعَة لله بِدُونِ ذَلِك فقد شرع من الدّين مالم يَأْذَن بِهِ الله

وَمَعْلُوم أَن الْقُوَّة نعْمَة وَالْجمال نعْمَة وَغير ذَلِك من نعم الله الَّتِي لَا يحصيها إِلَّا هُوَ فَهَل يَجْعَل أحد مُجَرّد كَون الشئ نعْمَة دَلِيلا على اسْتِحْبَاب إعماله فِيمَا شَاءَ الْإِنْسَان أم يُؤمر الْمُنعم عَلَيْهِ بألا يستعملها فِي مَعْصِيّة وَينْدب إِلَى أَلا يستعملها إِلَّا فِي طَاعَة الله تَعَالَى

فآلاستدلال بِهَذَا منزلَة من اسْتدلَّ بإنعام الله بالسلطان وَالْمَال على مَا جرت عَادَة النُّفُوس بِاسْتِعْمَال ذَلِك فِيهِ من الظُّلم وَالْفَوَاحِش وَنَحْو ذَلِك فآستعمال الصَّوْت الْحسن فِي الأغاني وآلات الملاهي مثل اسْتِعْمَال الصُّور الْحَسَنَة فِي الْفَوَاحِش وَاسْتِعْمَال السُّلْطَان بالكبرياء وَالظُّلم والعدوان وَاسْتِعْمَال المَال فِي نَحْو ذَلِك

ثمَّ يُقَال لَهُ هَذِه النِّعْمَة يستعملها الْكفَّار والفساق فِي أَنْوَاع من الْكفْر والفسوق أَكثر مِمَّا يستعلها الْمُؤْمِنُونَ فِي الْإِيمَان فَإِن استمتاع الْكفَّار والفساق بالأصوات المطربة أَكثر من استمتاع الْمُسلمين فَأَي حمد لَهَا بذلك إِن لم تسْتَعْمل فِي طَاعَة الله وَرَسُوله

وَأما قَوْله إِن الله ذمّ الصَّوْت الفظيع فَهَذَا غلط مِنْهُ فَإِن الله لَا يذم مَا خلقه وَلم يكن فعلا للْعَبد إِنَّمَا يذم العَبْد بأفعاله الاختيارية

ص: 333

دون مَا لَا اخْتِيَار لَهُ فِيهِ وَإِن كَانَ صَوته قبيحا فَإِنَّهُ لَا يذم على ذَلِك وَإِنَّمَا يذم بأفعاله

وَقد قَالَ الله فِي الْمُنَافِقين {وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم وَإِن يَقُولُوا تسمع لقَولهم} [سُورَة المُنَافِقُونَ 4]

وَقَالَ {وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه وَهُوَ أَلد الْخِصَام} [سُورَة الْبَقَرَة 204]

وَإِنَّمَا ذمّ الله مَا يكون بآختيار العَبْد من رفع الصَّوْت الرّفْع الْمُنكر كَمَا يُوجد ذَلِك فِي أهل الغلظ والجفاء كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْجفَاء والغلط وقسوة الْقُلُوب فِي الْفَدادِين من أهل الْوَبر وهم الصياحون صياحا مُنْكرا

وَقد قَالَ الله تَعَالَى {واقصد فِي مشيك واغضض من صَوْتك}

ص: 334

{إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير} [سُورَة لُقْمَان 19] فَأمره أَن يغض من صَوته كَمَا أَمر الْمُؤمنِينَ أَن يغضوا من أَبْصَارهم وكما أمره أَن يقْصد فِي مَشْيه وَذَلِكَ كُله فِيمَا يكون بِاخْتِيَارِهِ لَا مدْخل لذه الصَّوْت وَعدم لذته فِي ذَلِك

وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين يُنَادُونَك من وَرَاء الحجرات أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} [سُورَة الحجرات 4] وَقَالَ لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ القَوْل سُورَة الحجرات 2 وَقَالَ إِن الَّذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتهم عِنْد رَسُول الله أُولَئِكَ الَّذين امتحن الله قُلُوبهم للتقوى سُورَة الحجرات 3

وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عبد الله بن عَمْرو فِي صفة النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاة قَالَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ ولاصخاب بالأسواق وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو وَيغْفر

ص: 335

وَفِي الصَّحِيح أَيْضا انه أَمر ان يبشر خَدِيجَة بِبَيْت فِي الْجنَّة من قصب لَا صخب فِيهِ وَلَا نصب

وَعنهُ ص قَالَ إِنَّمَا نهيت عَن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فاجرين صَوت عِنْد نعْمَة صَوت لَهو وَلعب وَمَزَامِير الشَّيْطَان وَصَوت عِنْد مُصِيبَة لطم خدود وشق جُيُوب وَدُعَاء بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة

ثمَّ قَالَ ابو الْقَاسِم واستلذاذ الْقُلُوب واشتياقها إِلَى الْأَصْوَات الطّيبَة واسترواحها إِلَيْهَا مِمَّا لَا يُمكن جحوده فَإِن الطِّفْل يسكن إِلَى الصَّوْت الطّيب والجمل يقاسى تَعب السّير ومشقة الحمولة فيهون عَلَيْهِ بالحداء قَالَ الله تَعَالَى أَفلا ينظرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت [سُورَة الغاشية 17]

ص: 336

وَحكى إِسْمَاعِيل بن علية قَالَ كنت أمشى مَعَ الشَّافِعِي رحمه الله وَقت الهاجرة فجزنا بِموضع يَقُول فِيهِ أحد شَيْئا فَقَالَ مل بِنَا إِلَيْهِ ثمَّ قَالَ أيطربك هَذَا فَقلت لَا فَقَالَ مَالك حسن

قلت قد كَانَ مستغنيا عَن أَن يستشهد على الامور الحسية بحكاية مكذوبة على الشَّافِعِي فَإِن إِسْمَاعِيل بن علية شيخ الشَّافِعِي لم يكن مِمَّن يمشي مَعَه وَلم يرو هَذَا عَن الشَّافِعِي بل الشَّافِعِي روى عَنهُ وَهُوَ من أجلاء شُيُوخ الشَّافِعِي وَابْنه ابراهيم بن إِسْمَاعِيل كَانَ متكلما تلميذا لعبد الرَّحْمَن بن كيسَان الْأَصَم أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة وَكَانَ قد ذهب إِلَى مصر وَكَانَ بَينه وَبَين الشَّافِعِي مناوأة حَتَّى كَانَ الشَّافِعِي يَقُول فِيهِ أَنا مُخَالف لِابْنِ علية فِي كل شئ حَتَّى فِي قَول لَا إِلَه إِلَّا الله لِأَنِّي أَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله الَّذِي كلم مُوسَى من وَرَاء الْحجاب وَهُوَ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله الَّذِي خلق فِي الْهَوَاء كلَاما يسمعهُ مُوسَى وَهَذَا يذكر لَهُ أول رِسَالَة فِي أصُول الْفِقْه ويظن بعض النَّاس أَن ابْنه يشْتَبه

ص: 337

بِأَبِيهِ فَإِنَّهُ شيخ الشَّافِعِي وَأحمد وطبقتهما

فَهَذِهِ الْحِكَايَة يعلم انها مفتراة من لَهُ أدنى معرفَة بِالنَّاسِ وَلَو صحت عَمَّن صحت عَنهُ لم يكن فِيهَا إِلَّا مَا هُوَ مدرك بالإحساس من ان الصَّوْت الطّيب لذيذ مطرب وَهَذَا يشْتَرك فِيهِ جَمِيع النَّاس لَيْسَ هَذَا من أُمُور الدّين حَتَّى يسْتَدلّ فِيهِ بالشافعي بل ذكر الشَّافِعِي فِي مثل هَذَا غض من منصبه مثل مَا ذكر ابْن طَاهِر عَن مَالك رحمه الله حِكَايَة مكذوبة وَأهل المواخر أعلم بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة من أَئِمَّة الدّين وَلَو حكى مثل هَذَا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم النديم وَأبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ صَاحب الأغاني لَكَانَ أنسب من ان يحكيها عَن الشَّافِعِي

ثمَّ يُقَال كَون الصَّوْت الْحسن فِيهِ لذه أَمر حسى لَكِن أَي شئ فِي هَذَا مِمَّا يدل على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من كَونه مُبَاحا اَوْ مَكْرُوها اَوْ محرما وَمن كَون الْغناء قربَة أَو طَاعَة

بل مثل هَذَا ان يَقُول الْقَائِل استلذاذا بِالْوَطْءِ مِمَّا لَا يُمكن جحوده واستلذاذ النُّفُوس بِالْوَطْءِ مِمَّا لَا يُمكن جحوده واستلذاذها بِالْمُبَاشرَةِ للجميل من النِّسَاء وَالصبيان مِمَّا لَا يُمكن جحوده واستلذاذها بِالنّظرِ إِلَى الصُّور الجميلة مِمَّا لَا يُمكن جحوده

ص: 338

واستلذاذها بأنواع المطاعم والمشارب مِمَّا لَا يُمكن جحوده فَأَي دَلِيل فِي هَذَا لمن هداه الله على مَا يُحِبهُ ويرضاه أَو يبيحه ويجيزه

وَمن الْمَعْلُوم أَن هَذِه الْأَجْنَاس فِيهَا الْحَلَال وَالْحرَام وَالْمَعْرُوف وَالْمُنكر بل كَانَ الْمُنَاسب لطريقة الزّهْد فِي الشَّهَوَات وَاللَّذَّات وَمُخَالفَة الْهوى ان يسْتَدلّ بِكَوْن الشئ لذيذا مشتهى على كَونه مباينا لطريق الزّهْد والتصوف كَمَا قد يفعل كثير من الْمَشَايِخ يزهدون بذلك فِي جنس الشَّهَوَات وَاللَّذَّات

وَهَذَا وَإِن لم يكن فِي نَفسه دَلِيلا صَحِيحا فَهُوَ اقْربْ إِلَى طَريقَة الزّهْد والتصوف من الِاسْتِدْلَال بِكَوْن الشئ لذيذا على كَونه طَرِيقا إِلَى الله

وكل من الاستدلالين بَاطِل فَلَا يسْتَدلّ على كَونه مَحْمُودًا أَو مذموما أَو حَلَالا اَوْ حَرَامًا إِلَّا بالأدلة الشَّرْعِيَّة لَا بِكَوْنِهِ لذيذا فِي الطَّبْع أَو غير لذيذ

وَلِهَذَا يُنكر على من يتَقرَّب إِلَى الله بترك جنس اللَّذَّات كَمَا قَالَ ص للَّذين قَالَ احدهم أما أَنا فأصوم لَا أفطر وَقَالَ الآخر أما أَنا فأقوم لَا أَنَام وَقَالَ الآخر أما أَنا فَلَا اتزوج النِّسَاء وَقَالَ الآخر أما أَنا فَلَا آكل اللَّحْم فَقَالَ النَّبِي ص

ص: 339

لكني أَصوم وَأفْطر وأقوم وأنام وأتزوج النِّسَاء وآكل اللَّحْم فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني

وَقد أنزل الله تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ [سُورَة الْمَائِدَة 87]

ثمَّ إِن أَبَا الْقَاسِم وَطَائِفَة مَعَه تَارَة يمدحون التَّقَرُّب إِلَى الله بترك جنس الشَّهَوَات وَتارَة يجْعَلُونَ ذَلِك دَلِيلا على حسنه وَكَونه من القربا ت وَهَذَا بِحَسب وجد أحدهم وهواه لَا بِحَسب مَا أنزل الله وأوحاه وَمَا هُوَ الْحق وَالْعدْل وَمَا هُوَ الصّلاح والنافع فِي نفس الْأَمر

وَالتَّحْقِيق أَن الْعَمَل لَا يمدح وَلَا يذم لمُجَرّد كَونه لَذَّة بل إِنَّمَا يمدح مَا كَانَ لله أطوع وَلِلْعَبْدِ أَنْفَع سَوَاء كَانَ فِيهِ لَذَّة أَو مشقة قرب لذيذ هُوَ طَاعَة وَمَنْفَعَة وَرب مشق هُوَ طَاعَة وَمَنْفَعَة وَرب لذيذ أَو مشق صَار مَنْهِيّا عَنهُ

ثمَّ لَو اسْتدلَّ بِهَذَا على تَحْسِين الْقُرْآن بِهِ لَكَانَ مناسبا فَإِن الِاسْتِعَانَة بِجِنْس اللَّذَّات على جنس الطَّاعَات مِمَّا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة كَمَا يستعان بِالْأَكْلِ وَالشرب على الْعِبَادَات

قَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم

ص: 340

واشكروا لله [سُورَة الْبَقَرَة 172] وَقَالَ كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 51]

وَفِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ قَوْله عليه السلام لسعد إِنَّك لن تنْفق نَفَقَة تبتغى بهَا وَجه الله إِلَّا ازددت بهَا دَرَجَة ورفعة حَتَّى اللُّقْمَة ترفعها إِلَى فِي امْرَأَتك

وَقَالَ فِي بضع أحدكُم أَهله صَدَقَة

وَكَذَلِكَ حَمده فِي النعم كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح إِن الله ليرضى عَن العَبْد أَن يَأْكُل الْأكلَة فيحمده عَلَيْهَا

فَلَو قَالَ إِن الله خلق فِينَا الشَّهَوَات وَاللَّذَّات لنستعين بهَا على كَمَال مصالحنا فخلق فِينَا شَهْوَة الْأكل واللذة بِهِ فَإِن ذَلِك فِي نَفسه نعْمَة وَبِه يحصل بَقَاء جسومنا فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ شَهْوَة النِّكَاح واللذة بِهِ هُوَ فِي نَفسه وربه يحصل بَقَاء النَّسْل فَإِذا استعين بِهَذِهِ القوى على

ص: 341

مَا أمرنَا كَانَ ذَلِك سَعَادَة لنا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكُنَّا من الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم نعْمَة مُطلقَة وَإِن استعملنا الشَّهَوَات فِيمَا حظره علينا بِأَكْل الْخَبَائِث فِي نَفسهَا أَو كسبها كالمظالم أَو بالإسراف فِيهَا أَو تعدينا أَزوَاجنَا أَو مَا ملكت أَيْمَاننَا كُنَّا ظالمين معتدين غير شاكرين لنعمته لَكَانَ هَذَا كلَاما حسنا

وَالله قد خلق الصَّوْت الْحسن وَجعل النُّفُوس تحبه وتلتذ بِهِ فَإِذا استعنا بذلك فِي اسْتِمَاع مَا امرنا باستماعه وَهُوَ كِتَابه وَفِي تَحْسِين الصَّوْت بِهِ كَمَا أمرنَا بذلك حَيْثُ قَالَ زَينُوا الْقُرْآن باصواتكم وكما كَانَ يفعل أَصْحَابه بِحَضْرَتِهِ مثل أبي مُوسَى وَغَيره كُنَّا قد استعملنا النِّعْمَة فِي الطَّاعَة وَكَانَ هَذَا حسنا مَأْمُورا بِهِ كَمَا كَانَ عمر بن الْخطاب يَقُول لأبي مُوسَى يَا أَبَا مُوسَى ذكرنَا رَبنَا فَيقْرَأ وهم يَسْتَمِعُون وَكَانَ أَصْحَاب مُحَمَّد ص إِذا اجْتَمعُوا أمروا وَاحِدًا مِنْهُم أَن يقْرَأ وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُون

فَهَذَا كَانَ استماعهم وَفِي مثل هَذَا السماع كَانُوا يستعملون الصَّوْت الْحسن ويجعلون التذاذهم بالصوت الْحسن عونا لَهُم على طَاعَة الله وعبادته باستماع كِتَابه فيثابون على هَذَا الالتذاذ إِذْ اللَّذَّة الْمَأْمُور بهَا الْمُسلم يُثَاب عَلَيْهَا كَمَا يُثَاب على أكله وشربه ونكاحه وكما يُثَاب على لذات

ص: 342

قلبه بِالْعلمِ وَالْإِيمَان فَإِنَّهَا أعظم اللَّذَّات وحلاوة ذَلِك أعظم الحلاوات

وَنَفس التذاذه وَإِن كَانَ متولدا عَن سعته وَهُوَ فِي نَفسه ثَوَاب فالمسلم يُثَاب على عمله وَعمل مَا يتلود عَن عمله ويثاب عَمَّا يلتذ بِهِ من ذَلِك مِمَّا هُوَ أعظم لَذَّة مِنْهُ فَيكون متقلبا فِي نعْمَة ربه وفضله

فَأَما أَن يسْتَدلّ بِمُجَرَّد استلذاذ الْإِنْسَان للصوت أَو ميل الطِّفْل إِلَيْهِ أَو استراحة الْبَهَائِم بِهِ على جَوَاز أَو اسْتِحْبَاب فِي الدّين فَهُوَ من أعظم الضلال وَهُوَ كثير فِيمَن يعبد الله بِغَيْر الْعلم الْمَشْرُوع

وَمن الْمَعْلُوم أَن الاطفال والبهائم تستروح بِالْأَكْلِ وَالشرب فَهَل يسْتَدلّ بذلك على ان كل أكل وَشرب فَهُوَ حسن مَأْمُور بِهِ

وأصل الْغَلَط فِي هَذِه الْحجَج الضعيفة أَنهم يجْعَلُونَ الْخَاص عَاما فِي الْأَدِلَّة المنصوصة وَفِي عُمُوم الْأَلْفَاظ المستنبطة فيجنحون إِلَى أَن الْأَلْفَاظ فِي الْكتاب وَالسّنة أَبَاحَتْ أَو حمدت نوعا من السماع يدرجون فِيهَا سَماع المكاء والتصدية أَو يجنحون إِلَى الْمعَانِي الَّتِي دلّت على الْإِبَاحَة أَو الِاسْتِحْبَاب فِي نوع من الْأَصْوَات وَالسَّمَاع يجْعَلُونَ ذَلِك متناولا لسَمَاع المكاء والتصدية

وَهَذَا جمع بَين مَا فرق الله بَينه بِمَنْزِلَة قِيَاس الَّذين قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل

ص: 343

الرِّبَا وأصل هَذَا الْقيَاس الْمُشْركين الَّذين عدلوا بِاللَّه وَجعلُوا لله أندادا سووهم بِرَبّ الْعَالمين فِي عبادتها أَو اتخاذها آلِهَة وَكَذَلِكَ من عدل رَسُوله متنبئا كذابا كمسيلمة الْكذَّاب أَو عدل بكتابه وتلاوته واستماعه كلَاما آخر أَو قِرَاءَته أَو سَمَاعه أَو عدل بِمَا شَرعه من الدّين دينا آخرا شَرعه لَهُ شركاؤه فَهَذَا كُله من فعل الْمُشْركين وَإِن دخل فِي بعضه من الْمُؤمنِينَ قوم متأولون فَالنَّاس كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون [سُورَة يُوسُف 106]

فالشرك فِي هَذِه الْأمة أخْفى من دَبِيب النَّمْل وَهَذَا مقَام يَنْبَغِي للْمُؤْمِنين التدبر فِيهِ فَإِنَّهُ مَا بدل دين الله فِي الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة وَفِي هَذِه الْأمة إِلَّا بِمثل هَذَا الْقيَاس وَلِهَذَا قيل مَا عبدت الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَّا بالمقاييس

وأصل الشّرك أَن تعدل بِاللَّه تَعَالَى مخلوقاته فِي بعض مَا يسْتَحقّهُ وَحده فَإِنَّهُ لم يعدل أحد بِاللَّه شَيْئا من الْمَخْلُوقَات فِي جَمِيع الْأُمُور فَمن عبد غَيره أَو توكل عَلَيْهِ فَهُوَ مُشْرك بِهِ كمن عمد إِلَى كَلَام الله الَّذِي أنزلهُ وَأمر باستماعه فَعدل بِهِ سَماع بعض الاشعار

وَقد روى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام كفضل الله على خلقه رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره

ص: 344

وروى أَيْضا عَنهُ مَا تقرب الْعباد إِلَى الله بشئ أحب إِلَيْهِ مِمَّا خرج مِنْهُ يَعْنِي الْقُرْآن وَهَذَا مَحْفُوظ عَن خباب بن الْأَرَت أحد الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين السَّابِقين قَالَ يَا هَناه تقرب إِلَى الله بِمَا اسْتَطَعْت فَلَنْ يتَقرَّب إِلَيْهِ بشئ احب اليه من كَلَامه فَإِذا عدل بذلك مَا نزه الله عَنهُ وَرَسُوله بقوله تَعَالَى وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي

ص: 345

لَهُ [سُورَة يس 69] وَجعله قُرْآنًا للشَّيْطَان كَمَا فِي الحَدِيث فَمَا قرآني قَالَ الشّعْر كَانَ هَذَا عدل كَلَام الرَّحْمَن بِكَلَام الشَّيْطَان وَهَذَا قد جعل الشَّيْطَان عدلا للرحمن فَهُوَ من جنس الَّذين قَالَ الله فيهم فكبكبوا فِيهَا هم والغاوون وجنود ابليس أَجْمَعُونَ قَالُوا وهم فِيهَا يختصون تالله إِن كُنَّا لفي ضلال مُبين إِذْ نسويكم بِرَبّ الْعَالمين [سُورَة الشُّعَرَاء 94 98]

وَالِاسْتِدْلَال بِكَوْن الصَّوْت الْحسن نعْمَة واستلذاذ النُّفُوس بِهِ على جَوَاز اسْتِعْمَاله فِي الْغناء أَو اسْتِحْبَاب ذَلِك فِي بعض الصُّور مثل الِاسْتِدْلَال بِكَوْن الْجمال نعْمَة ومحبة النُّفُوس الصُّور الجميلة على جَوَاز اسْتِعْمَال الْجمال الَّذِي للصبيان فِي إمتاع النَّاس بِهِ مُشَاهدَة ومباشرة وَغير ذَلِك اَوْ اسْتِحْبَاب ذَلِك فِي بعض الصُّور وَهَذَا أَيْضا قد وَقع فِيهِ طوائف من المتفلسفة والمتصوفة والعامة كَمَا وَقع فِي الصَّوْت أَكثر من هَؤُلَاءِ لَكِن الواقعون فِي الصُّور فيهم من لَهُ من الْعقل وَالدّين مَا لَيْسَ لهَؤُلَاء إِذْ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ رجل مَشْهُور بَين النَّاس شهرة عَامَّة بِخِلَاف أهل السماع وَلَكِن هم طرقوا لَهُم الطَّرِيق وذرعوا الذريعة حَتَّى آل الْأَمر بِكَثِير من النَّاس أَن قَالُوا وفعلوا فِي الصَّوْت نَظِير مَا قَالَه هَؤُلَاءِ وفعلوه فِي الصُّور يحتجون على جَوَاز النّظر إِلَيْهِ والمشاهدة بِمثل نَظِير

ص: 346

ص إِن الله جميل يحب الْجمال وينسون قَوْله إِن الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالكُم وَلَكِن ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ

ويحتجون بِمَا فِي ذَلِك من رَاحَة النُّفُوس ولذاتها كَمَا يحْتَج هَؤُلَاءِ ويكرمون ذَا الصُّورَة على مَا يبذله من صورته وإشهادهم إِيَّاهَا كَمَا يكرم هَؤُلَاءِ ذَا الصَّوْت على مَا يبذله من صَوته وإسماعهم إِيَّاه بل كثيرا مَا يجمع فِي الشَّخْص الْوَاحِد بَين الصُّورَة وَالصَّوْت كَمَا يفعل فِي الْمُغَنِّيَات من الْقَيْنَات

وَقد زين الشَّيْطَان لكثير من المتنسكة والعباد أَن محبَّة الصُّور الجميلة إِذا لم يكن بِفَاحِشَة فَإِنَّهَا محبَّة لله كَمَا زين لهَؤُلَاء أَن اسْتِمَاع هَذَا الْغناء لله ففيهم من يَقُول هَذَا اتِّفَاقًا وَفِيهِمْ من يظْهر أَنه يُحِبهُ لغير فَاحِشَة ويبطن محبَّة الْفَاحِشَة وَهُوَ الْغَالِب

لَكِن مَا أظهروه من الرَّأْي الْفَاسِد وَهُوَ أَن يحب لله مَا لم يَأْمر الله

ص: 347

بمحبته هُوَ الَّذِي سلط الْمُنَافِق مِنْهُم على أَن يَجْعَل ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى الْكَبَائِر وَلَعَلَّ هَذِه الْبِدْعَة مِنْهُم اعظم من الْكَبِيرَة مَعَ الْإِقْرَار بِأَن ذَلِك ذَنْب عَظِيم وَالْخَوْف من الله من الْعقُوبَة فَإِن هَذَا غَايَته أَنه مُؤمن فَاسق قد جمع سَيِّئَة وَحسنه وَأُولَئِكَ مبتدعة ضلال حِين جعلُوا مَا نهى الله عَنهُ مِمَّا أَمر الله بِهِ وزين لَهُم سوء أَعْمَالهم فرأوه حسنا وبمثلهم يضل أُولَئِكَ حَتَّى لَا ينكروا الْمُنكر إِذا اعتقدوا أَن هَذَا يكون عبَادَة الله

وَمن جعل مَا لم يَأْمر الله بمحبته محبوبا لله فقد شرع دينا لم يَأْذَن الله بِهِ وَهُوَ مبدأ الشّرك كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله [سُورَة الْبَقَرَة 165]

فَإِن محبَّة النُّفُوس الصُّورَة وَالصَّوْت قد تكون عَظِيمَة جدا فَإِذا جعل ذَلِك دينا وسمى لله صَار كالأنداد والطواغيت المحبوبة تدينا وَعبادَة

كَمَا قَالَ تَعَالَى وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم [سُورَة الْبَقَرَة 93]

وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم أَن امشوا واصبروا على آلِهَتكُم [سُورَة ص 6]

بِخِلَاف من أحب الْمُحرمَات مُؤمنا بِأَنَّهَا من الْمُحرمَات فَإِن من احب الْخمر والغناء وَالْبَغي والمخنث مُؤمنا بِأَن الله يكره ذَلِك ويبغضه فَإِنَّهُ لَا يُحِبهُ محبَّة مَحْضَة بل عقله وإيمانه يبغض هَذَا الْفِعْل ويكرهه وَلَكِن قد غَلبه هَوَاهُ فَهَذَا قد يرحمه الله إِمَّا بتوبة إِذا قوى مَا فِي إيمَانه من بغض ذَلِك وكراهته حَتَّى دفع الْهوى وَإِمَّا بحسنات ماحية وَإِمَّا بمصائب مكفرة وَإِمَّا بِغَيْر ذَلِك

ص: 348

أما إِذا اعْتقد أَن هَذِه الْمحبَّة لله فإيمانه بِاللَّه يُقَوي هَذِه الْمحبَّة ويؤيدها وَلَيْسَ عِنْده إِيمَان يزعه عَنْهَا بل يجْتَمع فِيهَا دَاعِي الشَّرْع والطبع الْإِيمَان وَالْهدى وَذَلِكَ أعظم من شرب النَّصْرَانِي للخمر فَهَذَا لَا يَتُوب من هَذَا الذَّنب وَلَا يتَخَلَّص من وباله إِلَّا أَن يهديه الله

فَتبين لَهُ أَن هَذِه الْمحبَّة لَيست محبَّة لله وَلَا أَمر الله بهَا بل كرهها وَنهى عَنْهَا وَإِلَّا فَلَو ترك أحدهم هَذِه الْمحبَّة لم يكن ذَلِك تَوْبَة فَإِنَّهُ يعْتَقد أَن جِنْسهَا دين بِحَيْثُ يرضى بذلك من غَيره ويأمره بِهِ ويقره عَلَيْهِ وَتَركه لَهَا كَتَرْكِ الْمُؤمن بعض التطوعات والعبادات

وَلَيْسَ فِي دين الله محبَّة أحد لحسنه قطّ فَإِن مُجَرّد الْحسن لَا يثيب الله عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقب وَلَو كَانَ كَذَلِك كَانَ يُوسُف عليه السلام لمُجَرّد حسنه أفضل من غَيره من الانبياء لحسنه وَإِذا اسْتَوَى شخصان فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة وَكَانَ أَحدهمَا أحسن صُورَة وَأحسن صَوتا كَانَا عِنْد الله سَوَاء فَإِن اكرم الْخلق عِنْد الله أَتْقَاهُم يعم صَاحب الصَّوْت الْحسن وَالصُّورَة الْحَسَنَة إِذا اسْتعْمل ذَلِك فِي طَاعَة الله دون مَعْصِيَته كَانَ أفضل من هَذَا الْوَجْه كصاحب المَال وَالسُّلْطَان إِذا اسْتعْمل ذَلِك فِي طَاعَة الله دون مَعْصِيَته فَإِنَّهُ بذلك الْوَجْه أفضل مِمَّن لم يشركهُ فِي تِلْكَ الطَّاعَة وَلم يمْتَحن بِمَا امتحن بِهِ حَتَّى خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى ثمَّ ذَلِك الْغَيْر إِن كَانَ لَهُ عمل صَالح آخر يُسَاوِيه بِهِ وَإِلَّا كَانَ الأول أفضل مُطلقًا

ص: 349

وَهَذَا عَام لجَمِيع الْأُمُور الَّتِي أنعم الله تَعَالَى بهَا على بني آدم وابتلاهم بهَا فَمن كَانَ فِيهَا شاكرا صَابِرًا كَانَ من أَوْلِيَاء الله الْمُتَّقِينَ وَكَانَ مِمَّن امتحن بمحبة حَتَّى صَبر وشكر وَإِن لم يكن الْمُبْتَلى صَابِرًا شكُورًا بل ترك مَا أَمر الله بِهِ وَفعل مَا نهى الله عَنهُ كَانَ عَاصِيا أَو فَاسِقًا أَو كَافِرًا وَكَانَ من سلم من هَذِه المحنة خيرا مِنْهُ إِلَّا أَن يكون لَهُ ذنُوب أُخْرَى يكافيه بهَا

وَإِن جمع بَين طَاعَة ومعصية فَإِن ترجحت طَاعَته كَانَ أرجح مِمَّن لم يكن لَهُ مثل ذَلِك وَإِن ترجحت مَعْصِيَته كَانَ السَّالِم من ذَلِك خيرا مِنْهُ فَإِن كَانَ لَهُ مَال يتَمَكَّن بِهِ فِي الْفَوَاحِش وَالظُّلم فَخَالف هَوَاهُ وأنفقه فِيمَا يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله أحب الله ذَلِك مِنْهُ وأكرمه وأثابه

وَمن كَانَ لَهُ صَوت حسن فَترك اسْتِعْمَاله فِي التخنيث والغناء واستعلمه فِي تَزْيِين كتاب الله والتغني بِهِ كَانَ بِهَذَا الْعَمَل الصَّالح وبترك الْعَمَل السئ أفضل مِمَّن لَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ يُثَاب على تِلَاوَة كتاب الله فَيكون فِي عمله معنى الصَّلَاة وَمعنى الزَّكَاة

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا أذن الله لشئ كأذنه لبني حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يجْهر بِهِ وَقَالَ لله أَشد أذنا للرجل الْحسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ من صَاحب الْقَيْنَة إِلَى قَيْنَته

ص: 350

وَمن كَانَ لَهُ صُورَة حَسَنَة فعف عَمَّا حرم الله تَعَالَى وَخَالف هَوَاهُ وجمل نَفسه بلباس التَّقْوَى الَّذِي قَالَ الله فِيهِ يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يوارى سوءاتكم وريشا ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير [سُورَة الْأَعْرَاف 26] كَانَ هَذَا الْجمال يُحِبهُ الله وَكَانَ من هَذَا الْوَجْه أفضل مِمَّن لم يُؤْت مثل هَذَا الْجمال مَا لَا يكساه وَجه العَاصِي فَإِن كَانَت خلقته حَسَنَة ازدادت حسنا وَإِلَّا كَانَ عَلَيْهَا من النُّور وَالْجمال بحسبها

وَأما أهل الْفُجُور فتعلو وُجُوههم ظلمَة الْمعْصِيَة حَتَّى يكسف الْجمال الْمَخْلُوق قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنه إِن للحسنة لنورا فِي الْقلب وضياء فِي الْوَجْه وَقُوَّة فِي الْبدن وَزِيَادَة فِي الرزق ومحبة فِي قُلُوب الْخلق وَإِن للسيئة لظلمة فِي الْقلب وغبرة فِي الْوَجْه وضعفا فِي الْبدن ونقصا فِي الرزق وبغضة فِي قُلُوب الْخلق

وَهَذَا يَوْم الْقِيَامَة يكمل حَتَّى يظْهر لكل اُحْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتم بعد إيمَانكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون وَأما الَّذين ابْيَضَّتْ وُجُوههم فَفِي رَحْمَة الله هم فِيهَا خَالدُونَ [سُورَة آل عمرَان 106 107]

وَقَالَ تَعَالَى وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على الله وُجُوههم مسودة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين [سُورَة الزمر 60]

ص: 351

وَقَالَ تَعَالَى وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة ووجوه يَوْمئِذٍ باسرة تظن أَن يفعل بهَا فاقرة [سُورَة الْقِيَامَة 22 25]

وَقَالَ تَعَالَى وُجُوه يَوْمئِذٍ ضاحكة مستبشرة ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة ترهقها قترة اولئك هم الْكَفَرَة الفجرة [سُورَة عبس 38 42]

وَقَالَ تَعَالَى وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نَارا حامية [سُورَة الغاشية 2 4] ووجوه يَوْمئِذٍ ناعمة لسعيها راضية [سُورَة الغاشية 89]

وَقَالَ تَعَالَى وَإِن يستغيثوا يغاثوا بِمَاء كَالْمهْلِ يشوى الْوُجُوه [سُورَة الْكَهْف 29]

وَقَالَ تَعَالَى إِن الْأَبْرَار لفي نعيم على الأرائك ينظرُونَ تعرف فِي وُجُوههم نَضرة النَّعيم [سُورَة المطففين 22 24]

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تزَال الْمَسْأَلَة بأحدهم حَتَّى يجِئ يَوْم الْقِيَامَة وَلَيْسَ فِي وَجهه مزعة لحم

ص: 352

وَقَالَ من سَأَلَ النَّاس وَله مَا يَكْفِيهِ جَاءَت مَسْأَلته خدوشا أَو كدوحا فِي وَجهه يَوْم الْقِيَامَة

وَقَالَ عليه السلام أول زمرة تلج الْجنَّة على صُورَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر وَالَّذين يَلُونَهُمْ كأشد كَوْكَب فِي السَّمَاء إضاءة وَقَالَ يَوْم حنين شَاهَت الْوُجُوه لوجوه الْمُشْركين

وأمثال هَذَا كثير مِمَّا فِيهِ وصف أهل السَّعَادَة بنهاية الْحسن وَالْجمال والبهاء وَأهل الشَّقَاء بنهاية السوء والقبح وَالْعَيْب

وَقد قَالَ تَعَالَى فِي وصفههم فِي الدُّنْيَا مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بنيهم إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود [سُورَة الْفَتْح 29] فَهَذِهِ السيما فِي وُجُوه الْمُؤمنِينَ والسيما الْعَلامَة وَأَصلهَا من الوسم وَكَثِيرًا مَا يسْتَعْمل فِي الْحسن كَمَا

ص: 353

جَاءَ فِي صفة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وسيم قسيم

وَقَالَ الشَّاعِر

غُلَام رَمَاه الله بالْحسنِ يافعا لَهُ سيماء لَا تشق على الْبَصَر

وَقَالَ الله تَعَالَى فِي صفة الْمُنَافِقين وَلَو نشَاء لأرينا كهم فَلَعَرَفْتهمْ بِسِيمَاهُمْ [سُورَة مُحَمَّد 30] فَجعل لِلْمُنَافِقين سِيمَا أَيْضا

وَقَالَ وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات تعرف فِي وُجُوه الَّذين كفرُوا الْمُنكر [سُورَة الْحَج 72] فَهَذِهِ السيما وَهَذَا الْمُنكر قد يُوجد فِي وَجه من صورته المخلوقة وضيئة كَمَا يُوجد مثل ذَلِك فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان لَكِن بالنفاق قبح وَجهه فَلم يكن فِيهِ الْجمال الَّذِي يُحِبهُ الله وأساس ذَلِك النِّفَاق وَالْكذب

وَلِهَذَا يُوصف الْكذَّاب بسواد الْوَجْه كَمَا يُوصف الصَّادِق ببياض

ص: 354

الْوَجْه كَمَا أخبر الله بذلك وَلِهَذَا روى عَن عمر بن الْخطاب أَنه أَمر بتعزيز شَاهد الزُّور بِأَن يسود وَجهه ويركب مقلوبا على الدَّابَّة فَإِن الْعقُوبَة من جنس الذَّنب فَلَمَّا اسود وَجهه بِالْكَذِبِ وقلب الحَدِيث سود وَجهه وقلب فِي ركُوبه وَهَذَا أَمر محسوس لمن لَهُ قلب فَإِن مَا فِي الْقلب من النُّور والظلمة وَالْخَيْر وَالشَّر يسرى كثيرا إِلَى الْوَجْه وَالْعين وهما أعظم الْأَشْيَاء ارتباطا بِالْقَلْبِ

وَلِهَذَا يرْوى عَن عُثْمَان أَو غَيره أَنه قَالَ مَا أسر أحد بسريرة إِلَّا أبداها الله على صفحات وَجهه وفلتات لِسَانه وَالله قد أخبر فِي الْقُرْآن أَن ذَلِك قد يظْهر فِي الْوَجْه فَقَالَ وَلَو نشَاء لأريناكم فَلَعَرَفْتهمْ بِسِيمَاهُمْ [سُورَة مُحَمَّد 30] فَهَذَا تَحت الْمَشِيئَة ثمَّ قَالَ ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل [سُورَة مُحَمَّد 30] فَهَذَا مقسم عَلَيْهِ مُحَقّق لَا شَرط فِيهِ وَذَلِكَ أَن ظُهُور مَا فِي قلب الْإِنْسَان على لِسَانه أعظم من ظُهُوره فِي وَجهه لكنه يَبْدُو فِي الْوَجْه بدوا خفِيا يُعلمهُ الله فَإِذا صَار خلقا ظهر لكثير من النَّاس وَقد يقوى السوَاد وَالْقِسْمَة حَتَّى يظْهر لجمهور النَّاس وَرُبمَا مسخ قردا أَو خنزيرا كَمَا فِي الْأُمَم قبلنَا وكما فِي هَذِه الْأمة أَيْضا وَهَذَا كالصوت المطرب إِذا كَانَ مُشْتَمِلًا على كذب وفجور فَإِنَّهُ مَوْصُوف بالقبح وَالسوء الْغَالِب على مَا فِيهِ من حلاوة الصَّوْت

ص: 355

فذو الصُّورَة الْحَسَنَة إِمَّا أَن يتَرَجَّح عِنْده الْعِفَّة والخلق الْحسن وَإِمَّا أَن يتَرَجَّح فِيهِ ضد ذَلِك وَإِمَّا أَن يتكافآ

فَإِن ترجح فِيهِ الصّلاح كَانَ جماله بِحَسب ذَلِك وَكَانَ أجمل مِمَّن لم يمْتَحن تِلْكَ المحنة

وَإِن ترجح فِيهِ الْفساد لم يكن جميلا بل قبيحا مذموما فَلَا يدْخل فِي قَوْله إِن الله جميل يحب الْجمال

وَإِن تكافأ فِيهِ الْأَمْرَانِ كَانَ فِيهِ من الْجمال والقبح بِحَسب ذَلِك فَلَا يكون محبوبا وَلَا مبغضا

والنبيصلى االله عَلَيْهِ وَسلم ص ذكر هَذِه الْكَلِمَة للْفرق بَين الْكبر الَّذِي يبغضه الله وَالْجمال الَّذِي يُحِبهُ الله فَقَالَ لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله الرجل يحب أَن يكون ثَوْبه حسنا وَنَعله حسنا أَفَمَن الْكبر ذَلِك فَقَالَ لَا إِن الله جميل يحب الْجمال الْكبر بطر الْحق وغمط النَّاس فَأخْبر أَن تَحْسِين الثَّوْب قد يكون من الْجمال الَّذِي يُحِبهُ الله كَمَا قَالَ تَعَالَى خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد [سُورَة الْأَعْرَاف 31]

فَلَا يكون حِينَئِذٍ من الْكبر

ص: 356

وَقد يرد أَنه لَيْسَ كل ثوب جميل وكل نعل جميل فَإِن الله يُحِبهُ فَإِن الله يبغض لِبَاس الْحَرِير وَيبغض الْإِسْرَاف وَالْخُيَلَاء فِي اللبَاس وَإِن كَانَ فِيهِ جمال فَإِذا كَانَ هَذَا فِي لبس الثِّيَاب الَّذِي هُوَ سَبَب هَذَا القَوْل فَكيف فِي غَيره

وَتَفْسِير هَذَا قَوْله ص إِن الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالكُم وَلَكِن ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ

فَعلم أَن مُجَرّد الْجمال الظَّاهِر فِي الصُّور وَالثيَاب لَا ينظر الله إِلَيْهِ وَإِنَّمَا ينظر إِلَى الْقُلُوب والأعمال فَإِن كَانَ الظَّاهِر مزينا مُجملا بِحَال الْبَاطِن أحبه الله وَإِن كَانَ مقبحا مدنسا بقبح الْبَاطِن أبغضه الله فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يحب الْحسن الْجَمِيل وَيبغض السَّيئ الْفَاحِش

وَأهل جمال الصُّورَة يبتلون بالفاحشة كثيرا وَاسْمهَا ضد الْجمال فَإِن الله سَمَّاهُ فَاحِشَة وسوءا وَفَسَادًا وخبيثا فَقَالَ تَعَالَى وَلَا تقربُوا الزِّنَا إِنَّه كَانَ فَاحِشَة وساء سَبِيلا [سُورَة الْإِسْرَاء 32]

وَقَالَ وَلَا تقربُوا الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن [سُورَة الْأَنْعَام 151]

وَقَالَ أتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين [سُورَة الْأَعْرَاف 80]

ص: 357

وَقَالَ وجاءه قومه يهرعون إِلَيْهِ وَمن قبل كَانُوا يعلمُونَ السَّيِّئَات [سُورَة هود 78]

وَقَالَ ونجيناه من الْقرْيَة الَّتِي كَانَت تعْمل الْخَبَائِث [سُورَة الْأَنْبِيَاء 74]

وَقَالَ رب انصرني على الْقَوْم المفسدين [سُورَة العنكبوت 30]

وَقَالَ وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين [سُورَة الْأَعْرَاف 84]

والفاحش والخبيث ضد الطّيب والجميل فَإِذا كَانَ كَذَلِك أبغضه الله وَلم يُحِبهُ وَلم يكن مندرجا فِي الْجَمِيل

وَنَظِير ذَلِك قَوْله ص إِن الله لَا يحب الْفُحْش وَلَا التَّفَحُّش وَقَوله إِن الله يبغض الْفَاحِش البذئ فَلَو أفحش

ص: 358

الرجل وبذأ بِصَوْتِهِ الْحسن كَانَ الله يبغض ذَلِك

وَنفي المخنثين سنة من سنَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم الثابته عَنهُ فِي موضِعين فِي حق الزَّانِي والزانية اللَّذين لم يحصنا كَمَا قَالَ جلد مائَة وتغريب عَام وَفِي حق المخنث وَهُوَ إِخْرَاجه من بَين النَّاس وَذَلِكَ أَن الْفَاحِشَة لَا تقع إِلَّا مَعَ قدرَة ومكنة الْإِنْسَان لَا يطْلب ذَلِك إِلَّا إِذا طمع فِيهِ بِمَا يرَاهُ من أَسبَاب المكنة فَمن الْعقُوبَة على ذَلِك قطع أَسبَاب المكنة فَإِذا تغرب الرجل عَن أَهله وأعوانه وأنصاره الَّذِي يعاونون وينصرونه ذلت نَفسه وانقهرت فَكَانَ ذَلِك جَزَاء نكالا من الله من الْجلد وَلِأَنَّهُ مُفسد لأحوال من يساكنه فيبعد عَنْهُم وَكَذَلِكَ المخنث يفْسد أَحْوَال الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا فَلَا يسكن مَعَ وَاحِد من الصِّنْفَيْنِ

وَقد كَانَ من سنة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَسنة خلفائه التَّمْيِيز بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء والمتأهلين والعزاب فَكَانَ الْمَنْدُوب فِي الصَّلَاة أَن يكون الرِّجَال فِي مقدم الْمَسْجِد وَالنِّسَاء فِي مؤخره

ص: 359

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خير صُفُوف الرِّجَال أَولهَا وشرها آخرهَا وَخير صُفُوف النِّسَاء آخرهَا وشرها أَولهَا وَقَالَ يَا معشر النِّسَاء لَا ترفعن رؤوسكن حَتَّى يرفع الرِّجَال رؤوسهم من ضيق الأزر وَكَانَ إِذا سلم لبث هنيهة هُوَ وَالرِّجَال لينصرف النِّسَاء أَولا لِئَلَّا يخْتَلط الرِّجَال وَالنِّسَاء وَكَذَلِكَ يَوْم الْعِيد كَانَ النِّسَاء يصلين فِي نَاحيَة فَكَانَ إِذا قضى الصَّلَاة خطب الرِّجَال ثمَّ ذهب فَخَطب النِّسَاء فوعظهن وحثهن على الصَّدَقَة كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيح وَقد كَانَ عمر بن الْخطاب وَبَعْضهمْ يرفعهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد قَالَ عَن أحد ابواب الْمَسْجِد أَظُنهُ الْبَاب الشَّرْقِي لَو تركنَا هَذَا الْبَاب للنِّسَاء فَمَا دخله عبد الله بن عمر حَتَّى مَاتَ

وَفِي السّنَن عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ للنِّسَاء لَا تحققن

ص: 360

الطَّرِيق وامشين فِي حافته أَي لَا تمشين فِي حق الطَّرِيق وَهُوَ وَسطه وَقَالَ على عليه السلام مَا يغار أحدكُم أَن يزاحم امْرَأَته العلوج بمنكبها يَعْنِي فِي السُّوق

وَكَذَلِكَ لما قدم الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَة كَانَ العزاب ينزلون دَارا مَعْرُوفَة لَهُم متميزة عَن دور المتأهلين فَلَا ينزل العزب بَين المتأهلين وَهَذَا كُله لِأَن اخْتِلَاط أحد المصنفين بِالْآخرِ سَبَب الْفِتْنَة فالرجال إِذا اختلطوا بِالنسَاء كَانَ بِمَنْزِلَة اخْتِلَاط النَّار والحطب وَكَذَلِكَ العزب بَين الآهلين فِيهِ فتْنَة لعدم مَا يمنعهُ فَإِن الْفِتْنَة تكون لوُجُود الْمُقْتَضى وَعدم الْمَانِع فالمخنث الَّذِي لَيْسَ رجلا مَحْضا وَلَا هُوَ امْرَأَة مُحصنَة لَا يُمكن خلطه بِوَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ فَأمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِ من بَين النَّاس

وعَلى هَذَا المخنث من الصّبيان وَغَيرهم لَا يُمكن من معاشرة الرِّجَال وَلَا يَنْبَغِي أَن تعاشر الْمَرْأَة المتشبهة بِالرِّجَالِ النِّسَاء بل يفرق بَين بعض الذكران وَبَين بعض النِّسَاء إِذا خيفت الْفِتْنَة كَمَا قَالَ ص مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لسبع وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لعشر وَفرقُوا بَينهم فِي

ص: 361

الْمضَاجِع

وَقد نهى عَن مُبَاشرَة الرجل فِي ثوب وَاحِد وَعَن مُبَاشرَة الْمَرْأَة الْمَرْأَة فِي ثوب وَاحِد مَعَ ان الْقَوْم لم يَكُونُوا يعْرفُونَ التلوط وَلَا السحاق وَإِنَّمَا هُوَ من تَمام حفظ حُدُود الله كَمَا أَمر الله بذلك فِي كِتَابه وَقد روى أَن عمر بلغه أَن رجلا يجْتَمع إِلَيْهِ نفر من الصّبيان فَنهى عَن ذَلِك

وأبلغ من ذَلِك أَنه نفى من شَبَّبَ بِهِ النِّسَاء وَهُوَ نصر بن حجاج لما سمع امْرَأَة شببت بِهِ وتشتهيه وَرَأى هَذَا سَبَب الْفِتْنَة فجز شعره لَعَلَّ سَبَب الْفِتْنَة يَزُول بذلك فَرَآهُ أحسن النَّاس وجنتين فَأرْسل بِهِ إِلَى الْبَصْرَة ثمَّ إِنَّه بعث يطْلب الْقدوم إِلَى وَطنه وَيذكر الا ذَنْب لَهُ فَأبى عَلَيْهِ وَقَالَ أما وَأَنا حَيّ فَلَا

وَذَلِكَ أَن الْمَرْأَة إِذا أمرت بالاحتجاب وَترك التبرج وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ من أَسبَاب الْفِتْنَة بهَا وَلها فَإِذا كَانَ فِي الرِّجَال من قد صَار فتْنَة للنِّسَاء أَمر أَيْضا بمباعدة سَبَب الْفِتْنَة إِمَّا بتغيير هَيئته وَإِمَّا بالانتقال عَن الْمَكَان الَّذِي تحصل بِهِ الْفِتْنَة فِيهِ لِأَنَّهُ بِهَذَا يحصن دينه ويحصن النِّسَاء دينهن

ص: 362

وَبِدُون ذَلِك مَعَ وجود الْمُقْتَضى مِنْهُ ومنهن لَا يُؤمن ذَلِك وَهَكَذَا يُؤمر من يفتن النِّسَاء من الصّبيان أَيْضا

وَذَلِكَ أَنه إِذا احْتج إِلَى المباعدة الَّتِي تزيل الْفِتْنَة كَانَ تبعيد الْوَاحِد أيسر من تبعيد الْجَمَاعَة الرِّجَال أَو النِّسَاء إِذْ ذَاك غير مُمكن فتحفظ حُدُود الله ويجانب مَا يُوجب تعدِي الْحُدُود بِحَسب الْإِمْكَان وَإِذا كَانَ هَذَا فِيمَن لَا رِيبَة فِيهِ وَلَا ذَنْب فَكيف بِمن يعرف بالريبة والذنب

وَهَكَذَا الْمَرْأَة الَّتِي تعرف بريبة تفتن بهَا الرِّجَال تبعد عَن مَوَاضِع الريب بِحَسب الْإِمْكَان فَإِن دفع الضَّرَر عَن الدّين بِحَسب الْإِمْكَان وَاجِب فَإِذا كَانَ هَذَا هُوَ السّنة فَكيف بِمن يكون فِي جمعه من أَسبَاب الْفِتْنَة مَا الله بِهِ عليم وَالرجل الَّذِي يتشبه بِالنسَاء فِي زيهن

وَاسْتِعْمَال أَسمَاء الْجمال وَالْحسن والزينة وَنَحْو ذَلِك فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة والقبح والشين والدنس فِي الْأَعْمَال الْفَاسِدَة أَمر ظَاهر فِي الْكتاب وَالسّنة وَكَلَام الْعلمَاء مثل اسْم الطّيب وَالطَّهَارَة والخبث والنجاسة وَمن ذَلِك مَا فِي حَدِيث أبي ذَر الْمَشْهُور وَقد رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من حِكْمَة آل دَاوُد حق على الْعَاقِل أَن يكون لَهُ سَاعَة يُنَاجِي فِيهَا ربه وَسَاعَة يُحَاسب فِيهَا نَفسه وَسَاعَة يكون فِيهَا مَعَ أَصْحَابه الَّذين يخبرونه عَن ذَات نَفسه

ص: 363

وَسَاعَة يَخْلُو فِيهَا بلذاته فِيمَا يحل ويجمل فَذكر الْحل وَالْجمال

وَهَذَا يشْهد لقَوْل الْفُقَهَاء فِي الْعَدَالَة إِنَّهَا صَلَاح الدّين والمروءة قَالُوا والمروءة اسْتِعْمَال مَا يجمله ويزينه وتجنب مَا يدنسه ويشينه وَهَذَا يرجع إِلَى الْحسن والقبح فِي الْأَعْمَال وَأَن الْأَعْمَال وَأَن الْأَعْمَال تكون حَسَنَة وَتَكون قبيحة وَإِن كَانَ الْحسن هُوَ الملائم النافع والقبيح هُوَ الْمنَافِي فالشئ يكمل ويجمل وَيحسن بِمَا يُنَاسِبه ويلائمه وينفعه ويلتذ بِهِ كَمَا يفْسد ويقبح بِمَا يُنَافِيهِ ويضره ويتألم بِهِ والأعمال الصَّالِحَة هِيَ الَّتِي تناسب الْإِنْسَان والأعمال الْفَاسِدَة هِيَ الَّتِي تنافيه

وَلِهَذَا لما قَالَ بعض الْأَعْرَاب إِن مدحي زين وذمي شين قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذَاك الله فمدحه يزين عِنْده لِأَنَّهُ مدحه بِحَق وَدَمه يشينه لِأَنَّهُ حق

وَهَذَا الْحسن وَالْجمال الَّذِي يكون عَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة فِي الْقلب يسري إِلَى الْوَجْه والقبح والشين الَّذِي يكون عَن الْأَعْمَال الْفَاسِدَة فِي الْقلب

ص: 364

يسري إِلَى الْوَجْه كَمَا تقدم ثمَّ إِن ذَلِك يقوى بِقُوَّة الْأَعْمَال الصَّالِحَة والأعمال الْفَاسِدَة فَكلما كثر الْبر وَالتَّقوى قوى الْحسن وَالْجمال وَكلما قوى الْإِثْم والعدوان قوى الْقبْح والشين حَتَّى ينْسَخ ذَلِك مَا كَانَ للصورة من حسن وقبح فكم مِمَّن لم تكن صورته حَسَنَة وَلَكِن من الْأَعْمَال الصَّالِحَة مَا عظم بِهِ جماله وبهاؤه حَتَّى ظهر ذَلِك على صورته

وَلِهَذَا ظهر ذَلِك ظهورا بَينا عِنْد الْإِصْرَار على القبائح فِي آخر الْعُمر عِنْد قرب الْمَوْت فنرى وُجُوه أهل السّنة وَالطَّاعَة كلما كبروا ازْدَادَ حسنها وبهاؤها حَتَّى يكون أحدهم فِي كبره أحسن واجمل مِنْهُ فِي صغره ونجد وُجُوه أهل الْبِدْعَة وَالْمَعْصِيَة كلما كبروا عظم قبحها وشينها حَتَّى لَا يَسْتَطِيع النّظر إِلَيْهَا من كَانَ منبهرا بهَا فِي حَال الصغر لجمال صورتهَا

وَهَذَا ظَاهر لكل اُحْدُ فِيمَن يعظم بدعته وفجوره مثل الرافضة وَأهل الْمَظَالِم وَالْفَوَاحِش من التّرْك وَنَحْوهم فَإِن الرافضي كلما كبر قبح وَجهه وَعظم شينه حَتَّى يقوى شبهه بالخنزير وَرُبمَا مسخ خنزيرا وقردا كَمَا قد تَوَاتر ذَلِك عَنْهُم ونجد المردان من التّرْك وَنَحْوهم قد يكون أحدهم فِي صغره من أحسن النَّاس صُورَة ثمَّ إِن الَّذين يكثرون الْفَاحِشَة تجدهم فِي

ص: 365

الكبرأقبح النَّاس وُجُوهًا حَتَّى إِن الصِّنْف الَّذِي يكثر ذَلِك فيهم من التّرْك وَنَحْوهم يكون أحدهم أحسن النَّاس صُورَة فِي صغره وأقبح النَّاس صُورَة فِي كبره وَلَيْسَ سَبَب ذَلِك أمرا يعود إِلَى طبيعة الْجِسْم بل الْعَادة المستقيمة تناسب الْأَمر فِي ذَلِك بل سَببه مَا يغلب على احدهم من الْفَاحِشَة وَالظُّلم فَيكون مخنثا ولوطيا وظالما وعونا للظلمة فيكسوه ذَلِك قبح الْوَجْه وشينه

وَمن هَذَا أَن الَّذين قوي فيهم الْعدوان مسخهم الله قردة وَخَنَازِير من الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه سَيكون فِي هَذِه الْأمة أَيْضا من يمسخ قردة وَخَنَازِير فَإِن الْعُقُوبَات والمثوبات من جنس السَّيِّئَات والحسنات كَمَا قد بَين ذَلِك فِي غير مَوضِع

وَلَا ريب أَن مَا لَيْسَ محبوبا لله من مسخوطاته وَغَيرهَا تزين فِي نفوس كثير من النَّاس حَتَّى يروها جميلَة وحسنة يَجدونَ فِيهَا من اللَّذَّات مَا يُؤَيّد ذَلِك وَإِن كَانَت اللَّذَّات متضمنة لآلام أعظم مِنْهَا

كَمَا قَالَ تَعَالَى {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين والقناطير المقنطرة من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْخَيْل المسومة والأنعام والحرث ذَلِك مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالله عِنْده حسن المآب} [سُورَة آل عمرَان 14]

وَقَالَ {أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا فَإِن الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} [سُورَة فاطر 8]

ص: 366

وَقَالَ

تَعَالَى وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله وَصد عَن السَّبِيل وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تبات [سُورَة غَافِر 37]

وَقَالَ وَكَذَلِكَ زينا لكل أمة عَمَلهم ثمَّ إِلَى رَبهم مرجعهم فينبئهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ [سُورَة الْأَنْعَام 108]

وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس وَإِنِّي جَار لكم} [سُورَة الْأَنْفَال 48]

وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ عَن الْمُؤمنِينَ {وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون} [سُورَة الحجرات 7]

فَهُوَ سُبْحَانَهُ يزين لكل عَامل عمله فيراه حسنا وَإِن كَانَ ذَلِك الْعَمَل سَيِّئًا فَإِنَّهُ لَوْلَا حسنا لم يَفْعَله إِذْ لَو رَآهُ سَيِّئًا لم يردهُ وَلم يختره إِذْ الْإِنْسَان مجبول على محبَّة الْحسن وبغض السئ فالحسن الْجَمِيل مَحْبُوب مُرَاد والسئ الْقَبِيح مَكْرُوه مبغض والأعيان وَالْأَفْعَال المبغضة من كل وَجه لَا تقصد بِحَال كَمَا ان المحبوبة من كل وَجه لَا تتْرك بِحَال وَلَكِن قد يكون الشئ محبوبا من وَجه مَكْرُوها من وَجه ويقبح من وَجه وَيحسن من وَجه وَلِهَذَا كَانَ الزَّانِي لَا يَزْنِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَالسَّارِق لَا يسرق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن كَامِل الْإِيمَان فَإِنَّهُ لَو كَانَ اعْتِقَاده بقبح ذَلِك الْفِعْل اعتقادا تَاما

ص: 367

لم يَفْعَله بِحَال وَلِهَذَا كَانَ كل عَاص لله تَعَالَى جَاهِلا كَمَا قَالَ ذَلِك أَصْحَاب مُحَمَّد ص فَإِنَّهُ لَو كَانَ عَالما حق الْعلم بِمَا فعله لم يفعل الْقَبِيح وَلم يتْرك الْوَاجِب بل قد زين لكل أمة عَمَلهم

لَكِن العَاصِي إِذا كَانَ مَعَه أصل الْإِيمَان فَإِنَّهُ لَا يزين لَهُ عمله من كل وَجه بل يستحسنه من وَجه ويغضه من وَجه وَلَكِن حِين فعله يغلب تَزْيِين الْفِعْل وَلذَلِك قَالَ {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات} [سُورَة آل عمرَان 14] الْآيَة فَإِن هُنَا شَيْئَيْنِ حب الشَّهَوَات وَأَنه زين ذَلِك الْفُحْش وَحسن فَرَأَوْا تِلْكَ الْمحبَّة حَسَنَة فَلذَلِك اسْتَقَرَّتْ هَذِه الْمحبَّة عِنْدهم وتمتعوا بِهَذِهِ المحبات فَإِذا رَأَوْا ذَلِك الْحبّ قبيحا لما يتبعهُ من الضَّرَر لم يسْتَقرّ ذَلِك فِي قُلُوبهم فَإِن رُؤْيَة ذَلِك الْحبّ حسنا يَدْعُو إِلَيْهِ قبيحا ينفر عَنهُ

وَكَذَلِكَ ذكر فِي الْإِيمَان أَنه حببه إِلَى الْمُؤمنِينَ وزينه فِي قُلُوبهم حَتَّى رَأَوْهُ حسنا فَإِن الشئ إِذا حبب وزين لم يتْرك بِحَال

ص: 368

وَهنا أخبر سُبْحَانَهُ انه هُوَ الَّذِي حبب إِلَيْهِم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبهم وَفِي الشَّهَوَات قَالَ {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات} [سُورَة آل عمرَان 14] وَلم يقل المزين بل ذكر الْعُمُوم

وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِك زينا لكل أمة عَمَلهم} [سُورَة الْأَنْعَام 108] وكما حذف المزين هُنَاكَ قَالَ {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات} [سُورَة آل عمرَان 14] فَجعل المزين نفس الْحبّ لَهَا لم يَجْعَل المزين هُوَ المحبوب كَمَا أخبر أَنه زين لكل أمة عَملهَا فَإِن المزين نفس الْحبّ لَهَا لم يَجْعَل المزين هُوَ المحبوب بل هُوَ حب الشَّهَوَات فَإِن المزين إِذا كَانَ نفس الْحبّ وَالْعَمَل لم ينْصَرف الْقلب عَن ذَلِك بِخِلَاف مَا لَو كَانَ المزين هُوَ المحبوب فقد زين الشئ المحبوب وَلَكِن الْإِنْسَان لَا يُحِبهُ لما يقوم بِقَلْبِه من الْعلم بِحَالهِ والبغض

فَفرق بَين التزيين الْمُتَّصِل بِالْقَلْبِ وتزيين الشئ الْمُنْفَصِل عَنهُ فِيهِ رد على الْقَدَرِيَّة الَّذين يجْعَلُونَ التزيين الْمُنْفَصِل وَكَذَلِكَ قَوْله {زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا} [سُورَة فاطر 8] وَهُوَ سُبْحَانَهُ امتن فِي الْإِيمَان بشيئين بِأَنَّهُ حببه إِلَيْنَا وزينه فِي قُلُوبنَا فالنعم تتمّ بهما بِالْعلمِ والمحبة

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح من غير وَجه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم انه

ص: 369

لعن المخنثين من الرِّجَال والمترجلات من النِّسَاء وَفِي الصَّحِيح أَيْضا أَنه لعن المتشبهين من الرِّجَال بِالنسَاء والمتسشبهات من النِّسَاء بِالرِّجَالِ وَفِي الصَّحِيح أَنه أَمر بِنَفْي المخنثين وإخراجهم من الْبيُوت

كَمَا روى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لعن النَّبِي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرِّجَال بِالنسَاء والمتشبهات من النِّسَاء بِالرِّجَالِ

وَفِي رِوَايَة لعن النَّبِي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرِّجَال والمسترجلات من النِّسَاء وَقَالَ أخرجوهم من بُيُوتكُمْ فَاخْرُج النَّبِي صلى الله عليه وسلم فُلَانَة وَأخرج عمر فلَانا

فَإِذا كَانَ الرجل الَّذِي يتشبه بِالنسَاء فِي لباسهن وزيهن وزينتهن ملعونا قد لَعنه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَكيف بِمن يتشبه بِهن فِي مُبَاشرَة الرِّجَال لَهُ فِيمَا يتمع الرِّجَال بِهِ بتمكينه من ذَلِك لغَرَض يَأْخُذهُ أَو لمحبته لذَلِك فَكلما كثرت مشابهته لَهُنَّ كَانَ أعظم للعنه وَكَانَ معلونا من وَجْهَيْن من جِهَة الْفَاحِشَة الْمُحرمَة فَإِنَّهُ يلعن على ذَلِك وَلَو كَانَ هُوَ الْفَاعِل وَمن جِهَة تخنثه لكَونه من جنس الْمَفْعُول بِهن

ص: 370

فَمن جعل شَيْئا من التخنث دينا أَو طلب ذَلِك من الصّبيان مثل تَحْسِين الصَّبِي صورته أَو لِبَاسه لأجل نظر الرِّجَال واستمتاعهم بذلك فِي سَماع وَغير سَماع أَلَيْسَ يكون مبدلا لدين الله من جنس الَّذِي إِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ وَإِذا كَانَت الْفَاحِشَة الْعَرَب الْمُشْركين كشف عوارتهم عِنْد الطّواف لِئَلَّا يطوفون فِي ثِيَاب عصوا الله فِيهَا فَكيف بِمَا هُوَ أعظم من ذَلِك

والمخنث قد يكون مَقْصُوده معاشرة النِّسَاء ومباشرتهن وَقد يكون تخنثه بِمُبَاشَرَة الرِّجَال ونظرهم ومحبتهم وَقد يجمع الْأَمريْنِ وَفِي المتنسكين من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة خلق كثير

وَهَؤُلَاء شَرّ مِمَّن يفعل هَذِه الْأُمُور على غير وَجه التدين فَإِن يُوجد فِي الْأُمَم الْجَاهِلِيَّة من التّرْك وَنَحْوهم من يتشبه فيهم من النِّسَاء بِالرِّجَالِ وَمن يتشبه من الرِّجَال بِالنسَاء خلق عَظِيم حَتَّى يكون لنسائهم من الإمرة وَالْملك وَالطَّاعَة والبروز للنَّاس وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ من خَصَائِص الرِّجَال مَا لَيْسَ لِنسَاء غَيرهم وَحَتَّى ان الْمَرْأَة تخْتَار لنَفسهَا من شَاءَت من ممالكيها وَغَيرهم لقهرها للزَّوْج وَحكمهَا وَيكون فِي كثير من صبيانهم من التخنث وتقريب الرِّجَال لَهُ وإكرامه لذَلِك أَمر عَظِيم حَتَّى قد يغار بعض صبيانهم من النِّسَاء وَحَتَّى يتخذهم الرِّجَال كالسراري لَكِن هم لَا يَفْعَلُونَ ذَلِك تدينا فَالَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِك تدينا شَرّ مِنْهُم فَإِنَّهُم جعلُوا دينا والفاحشة حَسَنَة لَا لما فِي ذَلِك من ميل الطباع فَهَكَذَا من جعل

ص: 371

مُجَرّد الصَّوْت الَّذِي تحبه الطباع حسنا فِي الدّين فِيهِ شبه من هَؤُلَاءِ لَكِن فِي الْمُشْركين من هَذِه الْأمة من يتدين بذلك لأجل الشَّيَاطِين كَمَا يُوجد فِي الْمُشْركين من التّرْك التتار وساحرهم الطاغوت صَاحب الجبت الَّذِي تسميه التّرْك البوق وَهُوَ الَّذِي تستخفه الشَّيَاطِين وتخاطبه ويسألها عَمَّا يُرِيد وَيقرب لَهَا القرابين من الْغنم المنخنقة وَغير ذَلِك وَيضْرب لَهَا بِأَصْوَات الطبول وَنَحْو ذَلِك وَمن شَرطه أَن يكون مخنثا يُؤْتى كَمَا تُؤْتى الْمَرْأَة فَكلما كَانَت الْأَفْعَال أولى بِالتَّحْرِيمِ كَانَت أقرب إِلَى الشَّيَاطِين

وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من أَن الْحسن الصُّورَة وَالصَّوْت وَسَائِر من أنعم الله عَلَيْهِ بِقُوَّة أَو بِجَمَال أَو نَحْو ذَلِك إِذا اتَّقى الله فِيهِ كَانَ أفضل مِمَّن لم يُؤْت مَا لم يمْتَحن فِيهِ فَإِن النعم محن فَإِن أهل الشَّهَوَات من النِّسَاء وَالرِّجَال يميلون إِلَى ذِي الصُّورَة الْحَسَنَة وَيُحِبُّونَهُ ويعشقونه ويرغبونه بأنواع الكرامات ويرهبونه عِنْد الِامْتِنَاع بأنواع المخوفات كَمَا جرى ليوسف عليه السلام وَغَيره وَكَذَلِكَ جماله يَدعُوهُ إِلَى أَن يطْلب مَا يهواه لِأَن جماله قد يكون أعظم من المَال المبذول فِي ذَلِك

وَكَذَلِكَ حسن الصَّوْت قد يدعى إِلَى أَعمال فِي المكروهات كَمَا أَن

ص: 372

المَال وَالسُّلْطَان يحصل بهما من المكنة مَا يدعى مَعَ ذَلِك إِلَى أَنْوَاع الْفَوَاحِش والمظال فَإِن الْإِنْسَان لَا تَأمره نَفسه بِالْفِعْلِ إِلَّا مَعَ نوع من الْقُدْرَة وَلَا يفعل بقدرته إِلَّا مَا يُريدهُ وشهوات الغي مستكنة فِي النُّفُوس فَإِذا حصلت الْقُدْرَة قَامَت المحنة فإمَّا شقى وَإِمَّا سعيد وَيَتُوب الله على من تَابَ فَأهل الامتحان إِمَّا أَن يرتفعوا وَإِمَّا أَن ينخفضوا وَأما تحرّك النُّفُوس عَن مُجَرّد الصَّوْت فَهَذَا أَيْضا محسوس فَإِنَّهُ يحركها تحريكا عَظِيما جدا بالتفريح والتحزين والإغضاب والتخويف وَنَحْو ذَلِك من الحركات النفسانية كَمَا أَن النُّفُوس تتحرك أَيْضا عَن الصُّور بالمحبة تَارَة وبالبغض أُخْرَى وتتحرك عَن الْأَطْعِمَة بالبغض تَارَة والنفرة أُخْرَى فَتحَرك الصّبيان والبهائم عَن الصَّوْت هُوَ من ذَلِك لَكِن كل مَا كَانَ أَضْعَف كَانَت الْحَرَكَة بِهِ أَشد فحركة النِّسَاء بِهِ أَشد من حَرَكَة الرِّجَال وحركة الصّبيان أَشد من حَرَكَة الْبَالِغين وحركة الْبَهَائِم أَشد من حَرَكَة الْآدَمِيّين فَهَذَا يدل على أَن قُوَّة التحرك عَن مُجَرّد الصَّوْت لقُوَّة ضعف الْعقل فَلَا يكون فِي ذَلِك حمد إِلَّا وَفِيه من الذَّم أَكثر من ذَلِك وَإِنَّمَا حَرَكَة الْعُقَلَاء عَن الصَّوْت الْمُشْتَمل على الْحُرُوف الْمُؤَلّفَة المتضمنة للمعاني المحبوبة وَهَذَا أكمل مَا يكون فِي اسْتِمَاع الْقُرْآن

وَأما التحرك بِمُجَرَّد الصَّوْت فَهَذَا أَمر لم يَأْتِ الشَّرْع بالندب إِلَيْهِ وَلَا عقلاء النَّاس يأمرون بذلك بل يعدون ذَلِك من قلَّة الْعقل وَضعف

ص: 373

الرَّأْي كَالَّذي يفزع عَن مُجَرّد الْأَصْوَات المفزعة المرعبة وَعَن مُجَرّد الْأَصْوَات المغضبة

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا أذن الله لشئ كأذنه لنَبِيّ يتغني بِالْقُرْآنِ وروى حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا أذن الله لشئ مَا أذن الله لنَبِيّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ

قَالَ وَقيل إِن دَاوُد عليه السلام كَانَ يستمع لقرَاءَته الْجِنّ وَالْإِنْس والوحش وَالطير إِذْ قَرَأَ الزبُور وَكَانَ يحمل من مَجْلِسه أَرْبَعمِائَة جَنَازَة مِمَّن قد مَاتَ مِمَّن سمعُوا قِرَاءَته وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ لقد أعْطى مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد وَقَالَ

ص: 374

معَاذ لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَو علمت أَنَّك تسمع لحبرته لَك تحبيرا

قلت هَذَا القَوْل لابي مُوسَى كَانَ لم يكن لِمعَاذ ومضمون هَذِه الْآثَار اسْتِحْبَاب تَحْسِين الصَّوْت بِالْقُرْآنِ وَهَذَا مِمَّا لَا نزاع فِيهِ فالاستدلال بذلك على تَحْسِين بِالْغنَاءِ أفسد من قِيَاس الرِّبَا على البيع إِذْ هُوَ من بَاب تنظير الشّعْر بِالْقُرْآنِ

وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين} [سُورَة يس 69]

وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا تنزلت بِهِ الشَّيَاطِين وَمَا يَنْبَغِي لَهُم وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُم عَن السّمع لمعزولون} [سُورَة الشُّعَرَاء 210 212]{ألم تَرَ أَنهم فِي كل وَاد يهيمون وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [سُورَة الشُّعَرَاء 225226]

وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا هُوَ بقول شَاعِر قَلِيلا مَا تؤمنون وَلَا بقول كَاهِن قَلِيلا مَا تذكرُونَ} [سُورَة الحافة 4142]

وَهَذَا الْقيَاس مثل قِيَاس سَماع المكاء والتصدية الَّذِي ذمه الله فِي كِتَابه وَأخْبر أَنه صَلَاة الْمُشْركين على سَماع الْقُرْآن الَّذِي أَمر الله بِهِ فِي كِتَابه وَأخْبر أَنه سَماع النَّبِيين وَالْمُؤمنِينَ وَقِيَاس لأئمة الصَّلَاة كالخلفاء الرَّاشِدين وَسَائِر أَئِمَّة الْمُؤمنِينَ بالمخنثين المغاني الَّذين قد يسمون الْجد أَو القوالين

ص: 375

وَقِيَاس للمؤذن الدَّاعِي إِلَى الصَّلَاة وَسَمَاع الْقُرْآن بالمزمار الداعى إِلَى حَرَكَة المستمعين للمكاء والتصدية

وَقد روى الطَّبَرَانِيّ فِي معجمهه عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن الشَّيْطَان قَالَ يارب اجْعَل لى قُرْآنًا قَالَ قرآنك الشّعْر قَالَ اجْعَل لى مُؤذنًا قَالَ مؤذنك المزمار قَالَ اجْعَل لى كِتَابه قَالَ كتابتك الوشم قَالَ اجْعَل لى بَيْتا قَالَ بَيْتك الْحمام قَالَ اجْعَل لى طَعَاما قَالَ طَعَامك مالم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ فَمن قَاس قُرْآن الله فَالله يجازيه بِمَا يسْتَحقّهُ

وَقد قَالَ الله تَعَالَى {فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَسَوف يلقون غيا} سُورَة مَرْيَم 59 فَهَؤُلَاءِ يشتغلون بالشهوات عَن الصَّلَاة

وَلِهَذَا فَإِن من هَؤُلَاءِ الشُّيُوخ من يقْصد الاجتماعات فِي الْحمام وَيكون لَهُ فبها حَال وَظُهُور لكَونه مادته من الشَّيَاطِين فَإِن الشَّيْطَان يظْهر أَثَره فِي بَيته وَعِنْده أوليائه وتأذين مؤذنه وتلاوة قرآنه كَمَا يظْهر ذَلِك على أهل المكاء والتصدية

ص: 376

وَإِذا كَانَ السماع نَوْعَيْنِ سَماع الرَّحْمَن وَسَمَاع الشَّيْطَان كَانَ مَا بَينهمَا من أعظم الْفرْقَان لَكِن الْأَقْسَام هُنَا أَرْبَعَة إِمَّا أَن يشْتَغل العَبْد بِسَمَاع الرَّحْمَن دون سَماع الشَّيْطَان أَو بِسَمَاع الشَّيْطَان دون سَماع الرَّحْمَن أَو يشْتَغل بالسماعين أَو لَا يشْتَغل بِوَاحِد مِنْهُمَا

فَالْأول حَال السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان

وَأما الثَّانِي فحال الْمُشْركين الَّذين قَالَ الله فيهم {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} [سُورَة الْأَنْفَال 35] وَهُوَ حَال من يتَّخذ ذَلِك دينا وَلَا يستمع الْقُرْآن فَإِن كَانَ يشْتَغل بِهَذَا السماع شَهْوَة لَا دينا ويعرض عَن الْقُرْآن فهم الْفجار والمنافقون إِذا أبطنوا حَال الْمُشْركين

وَأما الَّذين يشتغلون بالسماعين فكثير من المتصوفة

وَالَّذين يعرضون عَنْهُمَا على مَا يَنْبَغِي كثير من المتعربة

فَهَذِهِ النُّصُوص المأثورة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم الَّتِي فِيهَا مدح الصَّوْت الْحسن بِالْقُرْآنِ وَالتَّرْغِيب فِي هَذَا السماع فيحتج بهَا على المعرض عَن هَذَا السماع الشَّرْعِيّ الإيماني لَا يحْتَج بهَا على حسن السماع البدعي الشركي

بل الراغبون فِي السماعين جَمِيعًا والزاهدون فِي السماعين جَمِيعًا خارجون عَن مَحْض الاسْتقَامَة والشريعة القرآنية الْكَامِلَة هَؤُلَاءِ

ص: 377

معتدون وَهَؤُلَاء مفرطون وَإِنَّمَا الْحق الرَّغْبَة فِي السماع الإيماني الشَّرْعِيّ والزهد فِي السماعي الشركي البدعي

ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم حِكَايَة أبي بكر الرقي فِي الْغُلَام الَّذِي حدا بالجمال حَتَّى قطعت مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فِي يَوْم فَلَمَّا حط عَنْهَا مَاتَت وحدا بجمل فهام على وَجهه وَقطع حباله قَالَ الرقي وَلم أَظن أَنِّي سَمِعت صَوتا أطيب مِنْهُ وَوَقعت لوجهي حَتَّى أَشَارَ عَلَيْهِ بِالسُّكُوتِ فَسكت فَقَالَ حَدثنَا أَبُو حَاتِم السجسْتانِي حَدثنَا أَبُو نصر السراج قَالَ حكى الرقي

قلت مَضْمُون هَذِه الْحِكَايَة أَن الصَّوْت البليغ فِي الْحسن قد يُحَرك النُّفُوس تحريكا عَظِيما خَارِجا عَن الْعَادة وَهَذَا مِمَّا لَا ريب فِيهِ فَإِن الْأَصْوَات توجب الحركات الإرادية بحسنها وَهِي فِي الأَصْل ناشئة عَن حركات إرادية وَيخْتَلف تأثيرها باخْتلَاف نوع الصَّوْت وَقدره بل هِيَ من أعظم المحركات أَو أعظمها وَإِذا اتّفق قُوَّة الْمُؤثر واستعداد الْمحل قوى التَّأْثِير فالنفوس المستعدة لصِغَر أَو انوثة أَو جزع وَنَحْوه أَو لفراغ وَعدم شغل أَو ضعف عقل إِذا اتَّصل بهَا صَوت عَظِيم حسن قوى أزعجها غَايَة الإزعاج لَكِن هَذَا لَا يدل على جَوَاز ذَلِك وَلَا فِيهِ مَا يُوجب مدحه وَحسنه بل مثل هَذَا أدل على الذَّم والنهى مِنْهُ على الْحَمد والمدح فَإِن هَذَا يفْسد النُّفُوس أَكثر مِمَّا يصلحها ويضرها أَكثر مِمَّا ينفعها وَإِن كَانَ فِيهِ نفع فأثمة أَكثر من نَفعه

ص: 378

وَقد قَالَ الله للشَّيْطَان واستفرز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك [سُورَة الْإِسْرَاء 64] فالصوت الشيطاني يستفز بني آدم وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا نهيت عَن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فاجرين وَذكر صَوت النِّعْمَة وَصَوت الْمعْصِيَة ووصفهما بالحمق والفجور وَهُوَ الظُّلم وَالْجهل

وَقَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ اقصد فِي مشيك واغضض من صَوْتك [سُورَة لُقْمَان 19] والمغنى بِهَذِهِ الْأَصْوَات لم يغض من صَوته والمتحركون بهَا الراقصون لم يقصدوا فِي مشيهم بل المصوتون أَتَوا بالأحمق الْجَاهِل الظَّالِم الْفجْر من الْأَصْوَات والمتحركين أَتَوا بالأحمق الْجَاهِل الْفَاحِش من الحركات وَرُبمَا جمع الْوَاحِد بَين هذَيْن النَّوْعَيْنِ وَجعل ذَلِك من أعظم الْعِبَادَات

ثمَّ قَالَ ابو الْقَاسِم سَمِعت الشَّيْخ ابا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْعَزِيز سَمِعت أَبَا عَمْرو الْأنمَاطِي سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول وَسُئِلَ مَا بَال الْإِنْسَان يكون هادئا فَإِذا سمع السماع اضْطربَ فَقَالَ إِن الله لما خَاطب الذَّر فِي الْمِيثَاق الأول بقوله أَلَسْت بربكم [سُورَة الْأَعْرَاف 172] استفرغت عذوبة سَماع الْكَلَام الْأَرْوَاح فَإِذا سمعُوا السماع حركهم ذكر ذَلِك

ص: 379

قلت هَذَا الْكَلَام لَا يعلم صِحَّته عَن الْجُنَيْد والجنيد أجل من أَن يَقُول مثل هَذَا فَإِن هَذَا الِاضْطِرَاب يكون لجَمِيع الْحَيَوَان ناطقه وأعجمه حَتَّى يكون فِي الْبَهَائِم أَيْضا وَيكون للْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ ثمَّ الِاضْطِرَاب قد يكون لحلاوة الصَّوْت ومحبته وَقد يكون للخوف مِنْهُ وهيبته وَقد يكون للحزن والجزع وَقد يكون للغضب

ثمَّ من الْمَعْلُوم أَن الصَّوْت المسموع لَيْسَ هُوَ ذَاك أصلا وَلَو سمع العَبْد كَلَام الله كَمَا سَمعه مُوسَى بن عمرَان لم يكن سَمَاعه لاصوات الْعباد محركا لذكر ذَلِك بل الْمَأْثُور ان مُوسَى مقت الْآدَمِيّين لما وقر فِي مسامعه من كَلَام الله ثمَّ التَّلَذُّذ بالصوت أَمر طبعي لَا تعلق لَهُ بكونهم سمعُوا صَوت الرب أصلا ثمَّ إِن أحدا لَا يذكر ذَلِك السماع أصلا إِلَّا بِالْإِيمَان وَالنَّاس متنازعون فِي أَخذ الْمِيثَاق وَفِي ذَلِك السماع بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه

ثمَّ إِن مَذْهَب الْجُنَيْد فِي السماع كَرَاهَة التَّكَلُّف لحضوره والاجتماع عَلَيْهِ وَعِنْده أَن من تكلّف السماع فتن بِهِ فَكيف يعلله بِهَذَا

وَقد ذكر أَبُو الْقَاسِم ذَلِك فَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول سَمِعت الْحُسَيْن بن أَحْمد بن جَعْفَر سَمِعت أَبَا بكر بن ممشاد سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول السماع فتْنَة لمن طلبه ترويح لمن صادفه

ص: 380

فَأخْبر انه فتْنَة لمن قَصده وَلم يَجعله لمن صادفه مُسْتَحبا وَلَا طَاعَة بل جعله رَاحَة فَكيف يَقُول إِنَّه أظهر خطاب الْحق الْمُتَقَدّم

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا على الدقاق يَقُول السماع حرَام على الْعَوام لبَقَاء نُفُوسهم مُبَاح للزهاد لحُصُول مجاهدتهم مُسْتَحبّ لاصحابنا لحياة قُلُوبهم

قلت قد قدم ابو الْقَاسِم فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي على الرُّوذَبَارِي وَهُوَ قديم توفّي بعد الْعشْرين وثلاثمائة صحب الْجُنَيْد والطبقة الثَّانِيَة وَكَانَ يَقُول أستاذي فِي التصوف الْجُنَيْد وَفِي الْفِقْه أَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج وَفِي الْأَدَب ثَعْلَب وَفِي الحَدِيث إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَقَالَ فِيهِ ابو الْقَاسِم هُوَ اظرف الْمَشَايِخ واعلمهم بالطريقة

قَالَ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ رحمه الله يَقُول سَمِعت أَبَا الْقَاسِم الدِّمَشْقِي يَقُول سُئِلَ ابو عَليّ الرُّوذَبَارِي عَمَّن يسمع الملاهي وَيَقُول هِيَ لي حَلَال لِأَنِّي وصلت إِلَى دَرَجَة لَا يُؤثر

ص: 381

فِي اخْتِلَاف الْأَحْوَال فَقَالَ نعم قد وصل لعمري وَلَكِن إِلَى سقر

فَقَوْل الدقاق هُوَ مُبَاح للزهاد لحُصُول مجاهدتهم هُوَ الَّذِي انكره أَبُو عَليّ الرُّوذَبَارِي فَكيف بقوله مُسْتَحبّ وسنتكلم إِن شَاءَ الله على هَذَا

ثمَّ إِنَّه ذكر بعد هَذَا أَنه سمع الْأُسْتَاذ أَبَا عَليّ الدقاق رحمه الله يَقُول السماع طبع إِلَّا عَن شرع وخرق إِلَّا عَن حق وفتنة إِلَّا عَن عِبْرَة وَهَذَا الْكَلَام يُوَافق قَول الرُّوذَبَارِي وَيُخَالف قَوْله إِنَّه مُبَاح للزهاد لحُصُول مجاهدتهم مُسْتَحبّ لِأَصْحَابِنَا لحياة قُلُوبهم فَإِنَّهُ جعل كل سَماع لَيْسَ بمشروع فَهُوَ عَن الطَّبْع وَمَعْلُوم أَن سَماع المكاء والتصدية لَيْسَ مَشْرُوعا فَيكون مسموعا بالطبع مُطلقًا

وَقَالَ سَمِعت أَبَا حَاتِم السجسْتانِي يَقُول سَمِعت أَبَا نصر الصُّوفِي يَقُول سَمِعت الوجيهي يَقُول سَمِعت ابا عَليّ الرُّوذَبَارِي يَقُول كَانَ الْحَارِث بن اسد المحاسبي يَقُول ثَلَاث إِذا وجدن نمتنع بِهن وَقد فقدناهن حسن الْوَجْه مَعَ الصيانة وَحسن الصَّوْت مَعَ الدّيانَة وَحسن الإخاء مَعَ الْوَفَاء

ص: 382

قلت قد قررت قبل هَذَا الْمَعْنى بِأَن الْحسن فِي الصُّورَة وَالصَّوْت إِن لم يكن مَعَ تقوى الله وَإِلَّا لم يكن إِلَّا مذموما وَمن الدّيانَة أَن يكون حسن الصَّوْت مُسْتَعْملا فِيمَا أَمر الله بِهِ

قَالَ ابو الْقَاسِم وَسُئِلَ ذُو النُّون الْمصْرِيّ عَن الصَّوْت الْحسن فَقَالَ مخاطبات وإشارات أودعها الله كل طيب وطيبة وَسُئِلَ مرّة أُخْرَى عَن السماع فَقَالَ وَارِد حق يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق فَمن أصغى إِلَيْهِ بِحَق تحقق وَمن أصغى إِلَيْهِ بِنَفس تزندق

قلت هَذَا الْكَلَام لم يسْندهُ عَن ذِي النُّون وَإِنَّمَا أرْسلهُ إرْسَالًا وَمَا يُرْسِلهُ فِي هَذِه الرسَالَة قد وجد كثير مِنْهُ مَكْذُوب على اصحابه إِمَّا أَن يكون أَبُو الْقَاسِم سَمعه من بعض النَّاس فَاعْتقد صدقه أَو يكون من فَوْقه كَذَلِك أَو وجده مَكْتُوبًا فِي بعض الْكتب فأعتقد صِحَّته وَمن كَانَ من الْمُرْسلين لما يذكرُونَهُ من الْأَوَّلين والآخرين يعْتَمد فِي إرْسَاله لصحيح النَّقْل وَالرِّوَايَة عَن الثِّقَات فَهَذَا يعْتَمد إرْسَاله لصحيح النَّقْل وَالرِّوَايَة عَن الثِّقَات فَهَذَا يعْتَمد إرْسَاله وَأما من عرف فِيمَا يُرْسِلهُ كثير من الْكَذِب لم يوثق بِمَا يُرْسِلهُ

فَهَذَا التَّفْصِيل مَوْجُود فِيمَن يُرْسل النقول عَن النَّاس من أهل المصنفات وَمن أَكثر الْكَذِب الْكَذِب على الْمَشَايِخ الْمَشْهُورين فقد رَأينَا من ذَلِك وَسَمعنَا مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله وَهَذَا أَبُو الْقَاسِم مَعَ علمه وَرِوَايَته

ص: 383

بِالْإِسْنَادِ وَمَعَ هَذَا فَفِي هَذِه الرسَالَة قِطْعَة كَبِيرَة من المكذوبات الَّتِي لَا يُنَازع فِيهَا من لَهُ أدنى معرفَة بِحَقِيقَة حَال الْمَنْقُول عَنْهُم

وَأما الَّذِي يسْندهُ من الحكايات فِي بَاب السماع فعامته من كتابين كتاب اللمع لأبي نصر السراج فَإِنَّهُ يرْوى عَن أبي حَاتِم السجسْتانِي عَن أبي نصر عَن عبد الله بن عَليّ الطوسي ويروى عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد التَّمِيمِي عَنهُ وَمن كتاب السماع لأبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ قد سَمعه مِنْهُ

فَإِن كَانَ هَذَا الْكَلَام ثاببتا عَن ذِي النُّون رحمه الله عَلَيْهِ فَالْكَلَام عَلَيْهِ من وَجْهَيْن من جِهَة الِاحْتِجَاج بالقائل وَمن جِهَة تَفْسِير الْمَنْقُول

أما الأول فقد نقلوا أَن ذَا النُّون حضر هَذَا السماع بالعراق

وَقد ذكر أَبُو الْقَاسِم حِكَايَة بعد ذَلِك مُرْسلَة فَقَالَ وَحكى أَحْمد ابْن مقَاتل العكي قَالَ لما دخل ذُو النُّون الْمصْرِيّ بَغْدَاد اجْتمع إِلَيْهِ الصُّوفِيَّة وَمَعَهُ قَوَّال يَقُول شَيْئا فاستأذنوه بِأَن يَقُول بَين يَدَيْهِ فَأذن لَهُ فابتدأ يَقُول

صَغِير هَوَاك عذبني فَكيف بِهِ إِذا احتكا

ص: 384

.. وَأَنت جمعت من قلبِي هوى قد كَانَ مُشْتَركا

أما ترثى لمكتئب إِذا ضحك الخلي بَكَى

قَالَ فَقَامَ ذُو النُّون وَسقط على وَجهه وَالدَّم يقطر من جَبينه وَلَا يسْقط على الأَرْض ثمَّ قَامَ رجل من الْقَوْم يتواجد فَقَالَ لَهُ ذُو النُّون {الَّذِي يراك حِين تقوم} [سُورَة الشُّعَرَاء 218] فَجَلَسَ الرجل

قَالَ وَسمعت أَبَا عَليّ الدقاق يَقُول كَانَ ذُو النُّون صَاحب إِسْرَاف على ذَلِك الرجل حَيْثُ نبهه أَن ذَلِك لَيْسَ مقَامه وَكَانَ ذَلِك الرجل صَاحب إنصاف حَيْثُ قبل ذَلِك مِنْهُ فَرجع وَقعد

فَهَذَا وَنَحْوه هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّة كالشافعي فِي قَوْله خلفت بِبَغْدَاد شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التغبير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن فَيكون ذُو النُّون هُوَ أحد الَّذين حَضَرُوا التغبير الَّذِي أنكرهُ الْأَئِمَّة وشيوخ السّلف وَيكون هُوَ أحد المتأولين فِي ذَلِك وَقَوله فِيهِ كَقَوْل شُيُوخ الْكُوفَة وعلمائها فِي النَّبِيذ الَّذين اسْتَحَلُّوهُ مثل سُفْيَان الثَّوْريّ وَشريك ابْن عبد الله وَأبي حنيفَة ومسعر بن كدام وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَغَيرهم من أهل الْعلم وَكَقَوْلِه عُلَمَاء مَكَّة وشيوخها فِيمَا اسْتَحَلُّوهُ من الْمُتْعَة وَالصرْف كَقَوْل عَطاء بن ابي رَبَاح وَابْن جريج وَغَيرهمَا وكقول طَائِفَة من شُيُوخ الْمَدِينَة وعلمائها فِيمَا اسْتَحَلُّوهُ من الحشوش وكقول طَائِفَة من

ص: 385

شُيُوخ الشاميين وعلمائها فِيمَا كَانُوا اسْتَحَلُّوهُ من الْقِتَال فِي الْفِتْنَة لعَلي بن أبي طَالب وَأَصْحَابه وكقول طوائف من أَتبَاع الَّذين قَاتلُوا مَعَ عَليّ من اهل الْحجاز وَالْعراق وَغَيرهم فِي الْفِتْنَة إِلَى أَمْثَال ذَلِك مِمَّا تنازعت فِيهِ الْأمة وَكَانَ فِي كل شقّ طَائِفَة من اهل الْعلم وَالدّين

فَلَيْسَ لأحد أَن يحْتَج لأحد الطَّرِيقَيْنِ بِمُجَرَّد قَول أَصْحَابه وَإِن كَانُوا من أعظم النَّاس علما ودينا لَان المنازعين لَهُم هم أهل الْعلم وَالدّين

وَقد قَالَ الله تَعَالَى فَإِن تنازعتم فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر [سُورَة النِّسَاء 59] فالرد عِنْد التَّنَازُع إِنَّمَا يكون إِلَى كتاب الله وَسنة رَسُوله

نعم إِذا ثَبت عَن بعض المقبولين عِنْد الْأمة كَلَام فِي مثل موارد النزاع كَانَ فِي ذَلِك حجَّة على تقدم التَّنَازُع فِي ذَلِك وعَلى دُخُول قوم من اهل الزّهْد وَالْعِبَادَة والسلوك فِي مثل هَذَا وَلَا ريب فِي هَذَا

لَكِن مُجَرّد هَذَا لَا يتيح للمريد الَّذِي يُرِيد الله وَيُرِيد سلوك طَرِيقه أَن يَقْتَدِي فِي ذَلِك بهم مَعَ ظُهُور النزاع بَينهم وَبَين غَيرهم وإنكار غَيرهم عَلَيْهِم بل على المريد أَن يسْلك الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين انعمت عَلَيْهِم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَيتبع مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فَإِن ذَلِك هُوَ صِرَاط الله الَّذِي ذكره ورضى بِهِ فِي قَوْله وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تَتبعُوهُ السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله [سُورَة الْأَنْعَام 153] وَهَذَا أصل فِي أَنه لَا يحْتَج فِي مَوَاضِع النزاع والاشتباه بِمُجَرَّد قَول اُحْدُ مِمَّن نوزع فِي ذَلِك

ص: 386

وَأما الْوَجْه الثَّانِي فَقَوْل الْقَائِل عَن الصَّوْت الْحسن مخاطبات وإشارات أودعها الله كل طيب وطيبة لَا يجوز أَن يُرَاد بِهِ ان كل صَوت طيب كَائِنا مَا كَانَ بِأَن الله أودعها مخاطبات يُخَاطب بهَا عباده فَإِن هَذَا القَوْل كفر صَرِيح إِذْ ذَلِك يسْتَلْزم أَن تكون الْأَصْوَات الطّيبَة الَّتِي يستعملها الْمُشْركُونَ وَأهل الْكتاب فِي الِاسْتِعَانَة بهَا على كفرهم قد خَاطب بهَا الله عباده وَأَن تكون الْأَصْوَات الطّيبَة الَّتِي يستفز بهَا الشَّيْطَان لبني آدم كَمَا قَالَ تَعَالَى {واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك} [سُورَة الْإِسْرَاء 64] أَن تكون هَذِه الْأَصْوَات الشيطانية إِذا كَانَت طيبَة قد أودعها مخاطبات يُخَاطب بهَا عباده وَأَن تكون اصوات الملاهي قد أودعها الله مخاطبات يُخَاطب بهَا عباده

وَمن الْمَعْلُوم أَن هَذَا لَا يَقُوله عَاقل فضلا عَن أَن يَقُوله مُسلم ثمَّ لَو كَانَ الامر كَذَلِك فَلم لم يستمع الْأَنْبِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ من الْأَوَّلين والآخرين إِلَى كل صَوت صَوت ويأمروا أتباعهم بذلك لما فِي ذَلِك من اسْتِمَاع مخاطبات الْحق إِذْ قد علم أَن اسْتِمَاع مخاطبات الْحق من أفضل القربات

فقد ظهر أَن هَذَا الْكَلَام لَا يجوز أَن يكون عُمُومه وإطلاقه حَقًا

يبْقى ان يُقَال هَذَا خَاص ومقيد فِي الصَّوْت الْحسن إِذا اسْتعْمل على الْوَجْه الْحسن فَهَذَا حق مثل ان يزين بِهِ كَلَام الله كَمَا كَانَ أَبُو مُوسَى الاشعري يفعل وَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَرَرْت بك البارحة

ص: 387

وَأَنت تقْرَأ فَجعلت أستمع لقراءتك فَقَالَ لَو علمت أَنَّك تستمع لحبرته لَك تحبيرا وَكَانَ عمر يَقُول لَهُ ذكرنَا رَبنَا فَيقْرَأ وهم يستعمون

فَلَا ريب أَن ذَا الصَّوْت الْحسن إِذا تَلا بِهِ كتاب الله فَإِنَّهُ يكون حِينَئِذٍ قد أودع الله ذَلِك مخاطبات وإشارات وَهُوَ مَا فِي كِتَابه من المخاطبات والإشارات فقد ظهر أَن هَذَا الْكَلَام إِذا حمل على السماع الْمَشْرُوع الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله كَانَ محملًا حسنا وَإِن حمل على عُمُومه وإطلاقه كَانَ كفرا وضلالا

يبْقى بَين ذَلِك الْعُمُوم وَهَذَا الْخُصُوص مَرَاتِب مِنْهَا ان يحمل ذَلِك على مَا يجده المستمع فِي قلبه من المخاطبات والإشارات من الصَّوْت وَإِن لم يَقْصِدهُ المصوت الْمُتَكَلّم فَهَذَا كثير مَا يَقع لَهُم وَأكْثر الصَّادِقين الَّذين حَضَرُوا هَذَا السماع يشيرون إِلَى هَذَا الْمَقْصد وَصَاحب هَذِه الْحَال يكون مَا يسمعهُ مذكرا لَهُ مَا كَانَ فِي قلبه من الْحق

وَهَذَا يكون على وَجْهَيْن

أَحدهمَا من الصَّوْت الْمُجَرّد الَّذِي لَا حرف مَعَه كأصوات الطُّيُور والرياح والآلات وَغير ذَلِك فَهَذَا كثير مَا ينزله النَّاس على حُرُوف بِوَزْن ذَلِك الصَّوْت وَكَثِيرًا مَا يُحَرك مِنْهُم مَا يُنَاسِبهَا من فَرح أَو

ص: 388

حزن أَو غضب أَو شوق أَو نَحْو ذَلِك كَقَوْل بَعضهم

رب وَرْقَاء هتوف فِي الضُّحَى صدحت فِي فنن عَن فنن

رُبمَا أبكى فَلَا أفهمها وَهِي قد تبْكي فَلَا تفهمني

غير أَتَى بالجوى اعرفها وَهِي أَيْضا بالجوى تعرفنِي

وَالثَّانِي يكون من صَوت بحروف منظومة إِمَّا شعر وَإِمَّا غَيره وَيكون المستمع ينزل تِلْكَ الْمعَانِي على حَاله سَوَاء قصد ذَلِك النَّاظِم والمنشد أَو لم يقْصد ذَلِك مثل أَن يكون فِي الشّعْر عتاب وتوبيخ أَو أَمر بِالصبرِ على الملام فِي الْحبّ أَو ذمّ على التَّقْصِير فِي الْقيام بِحُقُوق الْمحبَّة اَوْ تحريض على مَا فرض للْإنْسَان من الْحُقُوق أَو إغضاب وحمية على جِهَاد الْعَدو ومقاتله أَو امْر ببذل النَّفس وَالْمَال فِي نيل الْمَطْلُوب ورضا المحبوب أَو غير ذَلِك من الْمعَانِي المجلمة الَّتِي يشْتَرك فِيهَا محب الرَّحْمَن ومحب الْأَوْثَان ومحب الأوطان ومحب النسوان ومحب المردان ومحب الإخوان ومحب الخلان

وَرُبمَا قرع السّمع حُرُوف أُخْرَى لم ينْطق بهَا الْمُتَكَلّم على وزن حُرُوفه كَمَا يذكر عَن بَعضهم أَنه سمع قَائِلا يَقُول ستر بري فَوَقع فِي سَمعه اسع تَرَ بَرى

وَقد ذكر ذَلِك فِيمَا بعد ابو الْقَاسِم فَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد بن

ص: 389

مُحَمَّد الصُّوفِي يَقُول سَمِعت عبد الله بن عَليّ الطوسي يَقُول سَمِعت يحيى بن على الرِّضَا الْعلوِي قَالَ سمع ابْن حلوان الدِّمَشْقِي طَوافا يُنَادى ياه سعتر بري فَسقط مغشيا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاق سُئِلَ فَقَالَ حسبته يَقُول اسع تَرَ بري

وَسمع عتبَة الْغُلَام رجلا يَقُول

سُبْحَانَ رب السَّمَاء إِن الْمُحب لفى عناء

فَقَالَ عتبَة صدقت وَسمع رجل آخر ذَلِك القَوْل فَقَالَ كذبت فَكل وَاحِد يسمع من حَيْثُ هُوَ

لَا سِيمَا وأكثرها إِنَّمَا وضعت لمحبة لَا يُحِبهَا الله وَرَسُوله مثل بعض هَذِه الْأَجْنَاس وَإِنَّمَا الْمُدَّعِي لمحبة الله وَرَسُوله يَأْخُذ مَقْصُوده مِنْهَا بطرِيق الِاعْتِبَار وَالْقِيَاس وَهُوَ الْإِشَارَة الَّتِي يذكرونها وَلِهَذَا قَالَ مخاطبات وإشارات فالمخاطبات كدلالة النُّصُوص والإشارات كدلالة الْقيَاس وَلَا بُد أَن يكون قد علم أَن تِلْكَ المخاطبات والإشارات إِنَّمَا يفهم مِنْهَا المستمع ويتحرك فِيهَا حَرَكَة يُحِبهَا الله وَرَسُوله فَيكون قد علم من غَيرهَا ان مَا يَقْتَضِيهِ من الشُّعُور وَالْحَال مرضى عِنْد ذِي الْجلَال بِدلَالَة الْكتاب

ص: 390

وَالسّنة وَإِلَّا فَإِن مُجَرّد الِاسْتِحْسَان بالذوق والوجدان إِن لم يشْهد لَهُ الْكتاب وَالسّنة وَإِلَّا كَانَ ضلالا

وَمن هَذَا الْبَاب ضل طوائف من الضَّالّين وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن الْمَعْلُوم أَن مثل هَذَا جَمِيعه لَا يجوز أَن يَجْعَل طَرِيقا إِلَى الله وَيجمع عَلَيْهِ عباد الله وَيسْتَحب للمريدين وَجه الله لَان مَا فِيهِ من الضَّرَر هُوَ اضعاف مَا فِيهِ من الْمَنْفَعَة لَهُم وَلَكِن قد صَادف السِّرّ الَّذِي يكون فِي قلبه حق بعض هَذِه المسموعات فَيكون مذكرا لَهُ ومنبها

وَهَذَا معنى قَول الْجُنَيْد السماع فتْنَة لمن طلبه ترويح لمن صادفه

وَأما قَول الْقَائِل السماع وَارِد حق يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق فَمن أصغى إِلَيْهِ بِحَق تحقق وَمن أصغى إِلَيْهِ بِنَفس تزندق فالسماع الْمَوْصُوف أَنه وَارِد حق الَّذِي يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق هُوَ أخص من السماع الَّذِي قد يُوجب التزندق فَالْكَلَام فِي ظَاهره متناقض لِأَن قَائِله أطلق القَوْل بِأَنَّهُ وَارِد حق يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق ثمَّ جعل من أصغى إِلَيْهِ بِنَفس تزندق

ووارد الْحق الَّذِي يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق لَا يكون مُوجبا للتزندق لَكِن قَائِله قصد أَولا السماع الَّذِي يَقْصِدهُ أهل الارادة لوجه الله فلفظه وَإِن كَانَ فِيهِ عُمُوم فَاللَّام لتعريف الْمَعْهُود أَي يزعج قُلُوب أهل هَذِه الْإِرَادَة إِلَى الْحق لكَونه يُحَرك تباكيهم ويهيج باطنهم فتتحرك قُلُوبهم إِلَى الله الَّذِي يُرِيدُونَ وَجهه وَهُوَ إلههم ومعبودهم ومنتهى محبوبهم وَنِهَايَة مطلوبهم

ص: 391

ثمَّ ذكر أَنه من أصغى إِلَى هَذَا السماع تزندق وَهُوَ من أصغى إِلَيْهِ بِإِرَادَة الْعُلُوّ فِي الأَرْض وَالْفساد وَجعل محبَّة الْخَالِق من جنس محبَّة الْمَخْلُوق وَجعل مَا يطْلب من الِاتِّصَال بِذِي الْجلَال من جنس مَا يطْلب من الِاتِّصَال بالخلق فَإِن هَذَا يُوجب التزندق فِي الاعتقادات والإرادات فَيصير صَاحبه منافقا زنديقا وَقد قَالَ عبد الله بن مَسْعُود الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب كَمَا ينْبت المَاء البقل وَلِهَذَا تزندق بِالسَّمَاعِ طوائف كَثِيرَة كَمَا نبهنا عَلَيْهِ قبل هَذَا

وَيُقَال هُنَا من الْمَعْلُوم أَن النَّفس سَوَاء أُرِيد بهَا ذَات الْإِنْسَان أَو ذَات روحه الْمُدبرَة لجسده أَو عني بهَا صِفَات ذَلِك من الشَّهْوَة والنفرة وَالْغَضَب والهوى وَغير ذَلِك فَإِن الْبشر لَا يَخْلُو من ذَلِك قطّ وَلَو فرض أَن قلبه يَخْلُو عَن حَرَكَة هَذِه القوى والإرادات فعدمها شئ وسكونها شئ آخر والعدم مُمْتَنع عَلَيْهَا وَلَكِن قد تسكن وَلَكِن إِذا كَانَت سَاكِنة وَمن شَأْن السماع أَن يحركها فَكيف يُمكن الْإِنْسَان أَن يسكن الشئ مَعَ ملابسته لما يُوجب حركته

فَهَذَا أَمر بِالتَّفْرِيقِ بَين المتلازمين وَالْجمع بَين المتناقضين وَهُوَ يشبه أَن يُقَال لَهُ أَدَم مُشَاهدَة الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ والأمرد أَو مُبَاشَرَته بالقبلة واللمس وَغير ذَلِك من غير أَن تتحرك نَفسك أَو فرجك إِلَى الِاسْتِمْتَاع بِهِ وَنَحْو ذَلِك فَهَل الْأَمر بِهَذَا إِلَّا من احمق النَّاس

ص: 392

وَلِهَذَا قَالَ من قَالَ من الْعلمَاء العارفين إِن أَحْوَال السماع بعد مُبَاشَرَته تبقى غير مقدورة للْإنْسَان بل تبقى حَرَكَة نَفسه وَأَحْوَالهَا أعظم من احوال الْإِنْسَان بعد مُبَاشرَة شرب الْخمر فَإِن فعل هَذَا السماع فِي النُّفُوس أعظم من فعل حميا الكؤوس

وَقَوله من أصغى إِلَيْهِ بِحَق تحقق فَيُقَال عَلَيْهِ وَجْهَان

أَحدهمَا أَن يُقَال إِن الإصغاء إِلَيْهِ بِحَق مَأْمُون الغائلة أَن يخالطه بَاطِل أَمر غير مَقْدُور عَلَيْهِ للبشر أَكثر مِمَّا فِي قُوَّة صَاحب الرياضة والصفاء التَّام أَن يكون حِين الإصغاء لَا يجد فِي نَفسه إِلَّا طلب الْحق وإرادته لكنه لَا يَثِق بِبَقَائِهِ على ذَلِك بل إِذا سمع خالط الإصغاء بِالْحَقِّ الإصغاء بِالنَّفسِ إِذْ تجرد الْإِنْسَان عَن صِفَاته اللَّازِمَة لذاته محَال مُمْتَنع

الثَّانِي أَن يُقَال وَمن أَيْن يعلم أَن كل من أصغى إِلَيْهِ بِحَق تحقق بل المصغى إِلَيْهِ بِحَق يحصل لَهُ من الزندقة والنفاق علما وَحَالا مَا قد لَا يشْعر بِهِ كَمَا قَالَ عبد الله بن مَسْعُود الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب كَمَا ينْبت المَاء البقل والنفاق هُوَ الزندقة وَمن الْمَعْلُوم أَن البقل ينْبت فِي الأَرْض شَيْئا فَشَيْئًا لَا يحس النَّاس بنباته فَكَذَلِك مَا يَبْدُو فِي الْقُلُوب من الزندقة والنفاق قد لَا يشْعر بِهِ أَصْحَاب الْقُلُوب بل يظنون أَنهم مِمَّن تحقق وَيكون فيهم شبه كثير مِمَّن تزندق

يُوضح هَذَا ان دَعْوَى التحقق وَالتَّحْقِيق والحقائق قد كثرت على أَلْسِنَة

ص: 393

أَقوام هم من أعظم النَّاس زندقة ونفاقا قَدِيما وحديثا من الباطنية القرامطة والمتفلسفة الاتحادية وَغير هَؤُلَاءِ

وَكَذَلِكَ قَوْله هُوَ وَارِد حق يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق

يُقَال لَهُ إِن كَانَ قد تنزعج بِهِ بعض الْقُلُوب أَحْيَانًا إِلَى الْحق فالأغلب عَلَيْهِ أَنه يزعجها إِلَى الْبَاطِل وقلما يزعجها إِلَى الْحق مَحْضا

بل قد يُقَال إِنَّه لَا يفعل ذَلِك بِحَال بل لابد أَن يضم إِلَى ذَلِك شئ من الْبَاطِل فَيكون مزعجا لَهَا إِلَى الشّرك الْجَلِيّ أَو الْخَفي فَإِن مَا يزعج إِلَيْهِ هَذَا السماع مُشْتَرك بَين الله وَبَين خلقه فَإِنَّمَا يزعج إِلَى الْقدر الْمُشْتَرك وَذَلِكَ هُوَ الْإِشْرَاك بِاللَّه

وَلِهَذَا لم يذكر الله هَذَا السماع فِي الْقُرْآن إِلَّا عَن الْمُشْركين الَّذين قَالَ فيهم {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} [سُورَة الْأَنْفَال 35] فَلَا يكون مزعجا للقلوب إِلَى إِرَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ بل يزعجها إِلَى الْبَاطِل تَارَة وَإِلَى الْحق وَالْبَاطِل تَارَة

وَلَو كَانَ يزعج إِلَى الْحق الَّذِي يُحِبهُ الله خَالِصا أَو راجحا لَكَانَ من الْحسن الْمَأْمُور بِهِ الْمَشْرُوع ولكان شَرعه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بقوله أَو فعله ولكان من سنة خلفائه الرَّاشِدين ولكان الْمُؤْمِنُونَ فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة يَفْعَلُونَهُ لَا يتركون مَا أحبه الله وَرَسُوله وَمَا يُحَرك الْقُلُوب إِلَى الله تحريكا يُحِبهُ الله وَرَسُوله

ص: 394

وَأَيْضًا فَهَذَا الإزعاج إِلَى الْحق قد يُقَال إِنَّه إِنَّمَا قد يحصل لمن لم يقْصد الِاسْتِمَاع بل صادفه مصادفة سَماع شئ يُنَاسب حَاله بِمَنْزِلَة الفأل لمن خرج فِي حَاجَة فَأَما من قصد الِاسْتِمَاع إِلَيْهِ والتغني بِهِ فقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَحكى جَعْفَر بن نصير عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ تنزل الرَّحْمَة على الْفُقَرَاء فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن عِنْد السماع فَإِنَّهُم لَا يسمعُونَ إِلَّا عَن حق وَلَا يقومُونَ إِلَّا عَن وجد وَعند أكل الطَّعَام فَإِنَّهُم لَا يَأْكُلُون إِلَّا عَن فاقة وَعند مجاراة الْعلم فَإِنَّهُم لَا يذكرُونَ إِلَّا صفة الْأَوْلِيَاء

وَذكر عقيب هَذَا فَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول سَمِعت الْحُسَيْن بن أَحْمد بن جَعْفَر يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول السماع فتْنَة لمن طلبه ترويح لمن صادفه وَذكر بعد هَذَا سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول سَمِعت عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الرَّازِيّ يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول إِذا رَأَيْت المريد يحب السماع فَأعْلم أَن فِيهِ بَقِيَّة من البطالة

ص: 395

قلت فهاتان المقالتان أسندهما عَن جُنَيْد وَأما القَوْل الأول فَلم يسْندهُ بل أرْسلهُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مفسران وَالْقَوْل الأول مُجمل فَإِن كَانَ الأول مَحْفُوظًا عَن الْجُنَيْد فَهُوَ يحْتَمل السماع الْمَشْرُوع فَإِن الرَّحْمَة تنزل على أَهله كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فأستمعوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون [سُورَة الْأَعْرَاف 204] فَذكر أَن اسْتِمَاع الْقُرْآن سَبَب الرَّحْمَة

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح مَا اجْتمع قوم فِي بَيت من بيُوت الله يَتلون كتاب الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينهم إِلَّا غشيتهم الرَّحْمَة وتنزلت عَلَيْهِم السكينَة وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَة وَذكرهمْ الله فِيمَن عِنْده

وَقد ذكر الله فِي غير مَوضِع من كِتَابه أَن الرَّحْمَة تحصل بِالْقُرْآنِ كَقَوْلِه تَعَالَى وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين [سُورَة الْإِسْرَاء]

وَقَالَ هَذَا بصائر من ربكُم وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف 203]

وَقَالَ ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شئ وَهدى وَرَحْمَة [سُورَة النَّحْل 89]

يبين ذَلِك أَن لفظ السماع يدْخل فِيهِ عِنْدهم السماع الشَّرْعِيّ كسماع الْقُرْآن والخطب الشَّرْعِيَّة والوعظ الشَّرْعِيّ وَقد أَدخل أَبُو الْقَاسِم

ص: 396

هَذَا النَّوْع فِي بَاب السماع وَذكر أَبُو الْقَاسِم هَذَا النَّوْع فِي بَاب السماع وَذكر فِي ذَلِك آثارا فَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد التَّمِيمِي يَقُول سَمِعت عبد الله بن الصُّوفِي يَقُول سَمِعت الرقي يَقُول سَمِعت بن الْجلاء يَقُول كَانَ بالمغرب شَيْخَانِ لَهما أَصْحَاب وتلامذة يُقَال لأَحَدهمَا جبلة وَللثَّانِي رُزَيْق فزار رُزَيْق يَوْمًا جبلة فَقَرَأَ رجل من أَصْحَاب رُزَيْق شَيْئا فصاح رجل من أَصْحَاب جبلة صَيْحَة وَمَات فَلَمَّا أَصْبحُوا قَالَ جبلة لرزيق أَيْن الَّذِي قَرَأَ بالْأَمْس فليقرأ آيَة فَقَرَأَ فصاح جبلة صَيْحَة فَمَاتَ الْقَارئ فَقَالَ جبلة وَاحِد بِوَاحِد والبادي أظلم

فَهَذَا من سَماع الْقُرْآن وَأما الْمَوْت بِالسَّمَاعِ فمسألة أُخْرَى نتكلم عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله فِي موضعهَا

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَسُئِلَ إِبْرَاهِيم المارستاني عَن الْحَرَكَة عِنْد السماع فَقَالَ بَلغنِي أَن مُوسَى عليه السلام قصّ فِي بني إِسْرَائِيل فمزق وَاحِد

ص: 397

مِنْهُم قَمِيصه فَأوحى الله إِلَيْهِ قل لَهُ مزق لي قَلْبك وَلَا تمزق لي ثِيَابك

فَهَذَا سَماع لقصص الْأَنْبِيَاء

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَسَأَلَ أَبُو عَليّ المغازلي الشبلي فَقَالَ رُبمَا يطْرق سَمْعِي آيَة من كتاب الله عز وجل فتحدوني عَليّ ترك الْأَشْيَاء والإعراض عَن الدُّنْيَا ثمَّ أرجع إِلَى احوالي وَإِلَى النَّاس فَقَالَ الشبلي مَا اجتذبك إِلَيْهِ فَهُوَ عطف مِنْهُ عَلَيْك ولطف وَمَا ردك إِلَى نَفسك فَهُوَ شَفَقَة مِنْهُ عَلَيْك لِأَنَّهُ لَا يَصح لَك التبري من الْحول وَالْقُوَّة فِي التَّوَجُّه إِلَيْهِ

فَهَذَا سَماع فِي الْقُرْآن

وَقَالَ سَمِعت أَبَا حَاتِم السجسْتانِي يَقُول سَمِعت أَبَا نصر السراج يَقُول سَمِعت أَحْمد بن مقَاتل العكي يَقُول كنت مَعَ الشبلي فِي مَسْجِد لَيْلَة فِي شهر رَمَضَان وَهُوَ يُصَلِّي خلف إِمَام لَهُ وَأَنا بجنبه فَقَرَأَ

ص: 398

الإِمَام {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} [سُورَة الْإِسْرَاء 86] فزعق زعقة قلت طارت روحه وَهُوَ يرتعد وَيَقُول بِمثل هَذَا يُخَاطب الأحباء يردد ذَلِك كثيرا فَهَذَا سَماع الْقُرْآن

قَالَ وَحكى عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ دخلت على السّري يَوْمًا فَرَأَيْت عِنْده رجلا مغشيا عَلَيْهِ فَقلت مَا لَهُ فَقَالَ سمع آيَة من كتاب الله تَعَالَى فَقلت تقْرَأ عَلَيْهِ ثَانِيًا فقرئ فأفاق فَقَالَ لي من ايْنَ علمت هَذَا فَقلت إِن قَمِيص يُوسُف ذهبت بِسَبَبِهِ عين يَعْقُوب عليه السلام ثمَّ بِهِ عَاد بَصَره فآستحسن مني ذَلِك

قَالَ وَسمعت ابا حَاتِم السجسْتانِي يَقُول سَمِعت أَبَا نصر السراج يَقُول سَمِعت عبد الْوَاحِد بن علوان يَقُول كَانَ شَاب يصحب الْجُنَيْد فَكَانَ إِذا سمع شَيْئا من الذّكر يزعق فَقَالَ لَهُ الْجُنَيْد يَوْمًا إِن فعلت ذَلِك مرّة أُخْرَى لم تصحبني فَكَانَ إِذا سمع شَيْئا يتَغَيَّر ويضبط نَفسه حَتَّى كَانَ يقطر من كل شَعْرَة من بدنه فيوما من

ص: 399

الْأَيَّام صَاح صَيْحَة تلفت بهَا نَفسه

فَهَذَا سَماع الذّكر لَا يخْتَص بِسَمَاع الشّعْر الملحن

فَقَوْل الْقَائِل تنزل الرَّحْمَة عَلَيْهِم عِنْد السماع يَصح ان يُرَاد بِهِ هَذَا السماع الْمَشْرُوع

وَقَوله لَا يقومُونَ إِلَّا عَن وجد يَعْنِي أَنهم صَادِقُونَ لَيْسُوا متصنعين بِمَنْزِلَة الْمظهر للوجد من غير حَقِيقَة لَكِن قد يُقَال قَوْله لَا يَسْتَمِعُون إِلَّا عَن حق هَذَا التَّقْيِيد لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي السماع الشَّرْعِيّ فَإِنَّهُ حق بِخِلَاف السماع الْمُحدث فَإِنَّهُ يسمع بِحَق وباطل

فَيُقَال وَكَذَلِكَ سَماع الْقُرْآن وَغَيره قد يكون رِيَاء وَسُمْعَة وَقد يكون بِلَا قلب وَلَا حُضُور وَلَا تدبر وَلَا فهم وَلَا ذوق

وَقد أخبر الله عَن الْمُنَافِقين أَنهم إِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى وَالصَّلَاة مُشْتَمِلَة على السماع الشَّرْعِيّ

وَقد أخبر الله عَن كَرَاهَة الْمُنَافِقين للسماع الشَّرْعِيّ فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه {وَإِذا مَا أنزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم وماتوا وهم كافرون} إِلَى قَوْله {وَإِذا مَا أنزلت سُورَة نظر بَعضهم إِلَى بعض هَل يراكم من أحد ثمَّ انصرفوا صرف الله قُلُوبهم بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ} [سُورَة التَّوْبَة 124 127] فَهَؤُلَاءِ المُنَافِقُونَ يَنْصَرِفُونَ عَن السماع الشَّرْعِيّ

ص: 400

وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذا كَانَ الْمسند الْمَحْفُوظ الْمَعْرُوف من قَول الْجُنَيْد أَنه رحمه الله لَا يحمد هَذَا السماع المبتدع وَلَا يَأْمر بِهِ وَلَا يثني عَلَيْهِ بل الْمَحْفُوظ من أَقْوَاله يُنَافِي ذَلِك لم يجز أَن يعمد إِلَى قَول مُجمل روى عَنهُ بِغَيْر إِسْنَاد فَيحمل على أَنه مدح هَذَا السماع الْمُحدث

وَقد روى بعض النَّاس أَن الْجُنَيْد كَانَ يحضر هَذَا السماع فِي أول عمره ثمَّ تَركه وحضوره لَهُ فعل وَالْفِعْل قد يسْتَدلّ بِهِ على مَذْهَب الرجل وَقد لَا يسْتَدلّ وَلِهَذَا يُنَازع النَّاس فِي مَذْهَب الْإِنْسَان هَل يُوجد من فعله

وَقَالَ بعض السّلف أَضْعَف الْعلم الرُّؤْيَة وَهُوَ قَوْله رَأَيْت فلَانا يفعل وَقد يفعل الشئ بِمُوجب الْعَادة والموافقة من بعد اعْتِقَاد لَهُ فِيهِ وَقد يفعل نِسْيَانا لَا لاعْتِقَاده فِيهِ أَو حضا وَقد يَفْعَله وَلَا يعلم أَنه ذَنْب ثمَّ يعلم بعد ذَلِك أَنه ذَنْب ثمَّ يَفْعَله وَهُوَ ذَنْب وَلَيْسَ أحد مَعْصُوما عَن أَن يفعل مَا هُوَ ذَنْب لَكِن الْأَنْبِيَاء معصومون من الأقرار على الذُّنُوب فيتأسى بأفعالهم الَّتِي أقرُّوا عَلَيْهَا لِأَن الْإِقْرَار عَلَيْهَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَيست ذَنبا وَأما غير الْأَنْبِيَاء فَلَا فَكيف بِمن يكون فعل فعلا ثمَّ تَركه

وأقصى مَا يُقَال إِن الْجُنَيْد كَانَ يفعل أَولا هَذَا السماع على طَرِيق

ص: 401

الِاسْتِحْسَان لَهُ والاستحباب أَو يَقُول ذَلِك فَيكون هَذَا لَو صَحَّ مُعَارضا لأقواله المحفوظة عَنهُ فَيكون لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ

وَقد قَالَ ابو الْقَاسِم حكى عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ السماع يحْتَاج إِلَى ثَلَاثَة أَشْيَاء الزَّمَان وَالْمَكَان والإخوان

وَهَذِه حِكَايَة مُرْسلَة والمراسيل فِي هَذِه الرسَالَة لَا يعْتَمد عَلَيْهَا إِن لم تعرف صِحَّتهَا من وَجه آخر كَمَا تقدم وَلَو صَحَّ ذَلِك وَأَنه أَرَادَ سَماع القصائد لَكَانَ هَذَا أحد قوليه

وَذَلِكَ أَن قَوْله السماع فتْنَة لمن طلبه ترويح لمن صادفه صَرِيح بِأَنَّهُ مَكْرُوه مَذْمُوم منهى عَنهُ لمن قَصده وَهَذَا هُوَ الَّذِي نقرره فَقَوْل الْجُنَيْد رضي الله عنه من مَحْض الَّذِي قُلْنَاهُ

وَقَوله ترويح لمن صادفه لم يثبت مِنْهُ وَإِنَّمَا أثبتوا أَنه رَاحَة وَجعل ذَلِك مَعَ المصادفة لَا مَعَ الْقَصْد والتعمد

والمصادفة فِيهَا قسم لَا ريب فِيهِ وَهُوَ اسْتِمَاع دون اسْتِمَاع كالمرء يكون مارا فَيسمع قَائِلا يَقُول بِغَيْر قَصده واختياره أَو يكون جَالِسا فِي مَوضِع فيمر عَلَيْهِ من يَقُول أَو يسمع قَائِلا من مَوضِع آخر بِغَيْر قَصده

ص: 402

وَأما إِذا اجْتمع بِقوم لغير السماع إِمَّا حضر عِنْدهم أَو حَضَرُوا عِنْده وَقَالُوا شَيْئا فَهَذَا قد يُقَال إِنَّه صادفه السماع فَإِنَّهُ لم يمش إِلَيْهِ ويقصده وَقد يُقَال بل إصغاؤه إِلَيْهِ واستماعه الصَّوْت يَجعله مستمعا فَيَجْعَلهُ غير مصادف

وَقد قَالَ تَعَالَى وَقد نزل عَلَيْكُم فِي الْكتاب أَن إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلثم [سُورَة النِّسَاء 140] فَجعل الْقَاعِد المستمع بِمَنْزِلَة الْقَائِل

فَأكْثر مَا يُقَال إِن الْجُنَيْد اراد بالمصادفة هَذِه الصُّورَة وَهُوَ مَعَ جعله ترويحا لم يَجعله سَببا للرحمة وَهَذَا غَايَته أَن يكون مُبَاحا لَا يكون حسنا وَلَا رَحْمَة وَلَا مُسْتَحبا وَالْكَلَام فِي إِبَاحَته وتحريمه غير الْكَلَام فِي حسنه وصلاحه ومنفعته وَكَونه قربَة وَطَاعَة فالجنيد لم يقل شَيْئا من هَذَا

وَقَول الْقَائِل تنزل الرَّحْمَة على أهل السماع إِذا أَرَادَ بِهِ سَماع القصائد يَقْتَضِي أَنه حسن وَأَنه نَافِع فِي الدّين وَكَلَام الْجُنَيْد صَرِيح فِي خلاف ذَلِك

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَسُئِلَ الشبلي عَن السماع فَقَالَ ظَاهره فتْنَة وباطنه عِبْرَة فَمن عرف الْإِشَارَة حل لَهُ السماع بالعبرة وَإِلَّا فقد استدعى الْفِتْنَة وَتعرض للبلية

ص: 403

قلت هَذَا القَوْل مُرْسل لم يسْندهُ فَالله أعلم بِهِ فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا عَن الشبلي فقد نبهنا على ان الْأَئِمَّة فِي طَرِيق الْحق الَّذين يعْتد بأقوالهم كَمَا يعْتد بأقوال أَئِمَّة الْهدى هم مثل الْجُنَيْد وَسَهل وَنَحْوهمَا فَإِن اقوالهم صادرة عَن أصل وهم مستهدون فِيهَا

وَأما الشبلي وَنَحْوه فَلَا بُد من عرض أَقْوَاله وأحواله على الْحجَّة فَيقبل مِنْهَا مَا وَافق الْحق دون مَا لم يكن كَذَلِك لِأَنَّهُ قد كَانَ يعرض لَهُ زَوَال الْعقل حَتَّى يذهب بِهِ إِلَى المارستان غير مرّة وَقد يخْتَلط اختلاطا دون ذَلِك

وَمن كَانَ بِهَذِهِ الْحَال فَلَا تكون أَقْوَاله وأفعاله فِي مثل هَذِه الْأَحْوَال مِمَّا يعْتَمد عَلَيْهَا فِي طَرِيق الْحق وَلَكِن لَهُ أَقْوَال وأفعال حَسَنَة قد علم حسنها بِالدَّلِيلِ فَتقبل لحسنها فِي نَفسهَا وَإِن كَانَ لَهُ حَال أُخْرَى بِغَيْر عقله أَو اخْتَلَط فِيهَا اَوْ وَقع مِنْهُ مَا لَا يصلح

وَمَعْلُوم أَن الْجُنَيْد شَيْخه هُوَ الإِمَام المتبع فِي الطَّرِيق وَقد أخبر أَن لسَمَاع فتْنَة لمن طلبه فتقليد الْجُنَيْد فِي ذَلِك أولى من تَقْلِيد الشبلي فِي قَوْله ظَاهره فتْنَة وباطنه عِبْرَة إِذْ الْجُنَيْد أَعلَى وَأفضل وَأجل بأتفاق الْمُسلمين وَقد أطلق القَوْل بِأَنَّهُ فتْنَة لطالبه وَهُوَ لَا يُرِيد أَنه فتْنَة فِي الظَّاهِر فَقَط إِذْ من شَأْن الْجُنَيْد أَن يتَكَلَّم على صَلَاح الْقُلُوب

ص: 404

وفسادها فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه يفتن الْقلب لمن طلبه وَهَذَا نهى مِنْهُ وذم لمن يَطْلُبهُ مُطلقًا ومخالفا لما أرسل عَن الشبلي أَنه قَالَ من عرف الْإِشَارَة حل لَهُ السماع بالعبرة

وَهَذَا التَّفْصِيل يضاهي قَول من يَقُول هُوَ مُبَاح أَو حسن للخاصة دون الْعَامَّة وَقد تقدم الْكَلَام على ذَلِك وَأَنه مَرْدُود لِأَن قَائِله اخْتلف قَوْله فِي ذَلِك وَمَا أعلم احدا من الْمَشَايِخ المقبولين يُؤثر عَنهُ فِي السماع نوع رخصَة وَحمد إِلَّا ويؤثر عَنهُ الذَّم وَالْمَنْع فهم فِيهِ كَمَا يذكر عَن كثير من الْعلمَاء أَنْوَاع من مسَائِل الْكَلَام

فَلَا يُوجد عَمَّن لَهُ فِي الْأمة حمد شئ من ذَلِك إِلَّا وَعنهُ مَا يُخَالف ذَلِك وَهَذَا من رَحْمَة الله بعباده الصَّالِحين حَيْثُ يردهم فِي آخر أَمرهم إِلَى الْحق الَّذِي بَعثه بِهِ رَسُوله وَلَا يجعلهم مصرين على مَا يُخَالف الدّين الْمَشْرُوع

كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صفة الْمُتَّقِينَ الَّذين أعد لَهُم الْجنَّة فَقَالَ وسارعوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض أعدت لِلْمُتقين الَّذين يُنْفقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء والكاظمين الغيظ وَالْعَافِينَ عَن النَّاس وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا انفسهم ذكرُوا الله فآستغفروا لذنوبهم وَمن يغْفر الذُّنُوب إِلَّا الله وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ أُولَئِكَ جزاؤهم مغْفرَة من رَبهم وجنات تجْرِي من تحتهَا

ص: 405

الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَنعم أجر الْعَالمين [سُورَة آل عمرَان 133 136]

وَقَول الْقَائِل من عرف الْإِشَارَة حل لَهُ السماع بالعبرة وَقد تقدم ان الْإِشَارَة هِيَ الِاعْتِبَار وَالْقِيَاس لِأَن يَجْعَل الْمَعْنى الَّذِي فِي القَوْل مثلا مَضْرُوبا لِمَعْنى حق يُنَاسب حَال المستمع وَلِهَذَا قَالَ بَاطِنه عِبْرَة

يُقَال لَهُ هَب أَنه يُمكن الِاعْتِبَار بِهِ لَكِن من أَيْن لَك ان كل مَا أمكن أَن يعْتَبر بِهِ الْإِنْسَان يكون حَلَالا لَهُ مَعَ أَن الِاعْتِبَار قد يكون بِمَا يسمع وَيرى من الْمُحرمَات فَهَل لَاحَدَّ أَن يعْتَبر بِقصد النّظر إِلَى الزِّينَة الْبَاطِنَة من الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة وَيعْتَبر بِقصد الِاسْتِمَاع إِلَى اقوال المستهترين بآيَات الله أَو غير ذَلِك مِمَّا لَا يجوز

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقيل لَا يَصح السماع إِلَّا لمن كَانَت لَهُ نفس ميتَة وقلب حَيّ فنفسه ذبحت بسيوف المجاهدة وَقَلبه حَيّ بِنور الْمُشَاهدَة وَهَذَا التففضيل من جنس مَا تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ

ص: 406

قَالَ وَسُئِلَ ابو يَعْقُوب النهرجوري عَن السماع فَقَالَ حَال يُبْدِي الرُّجُوع إِلَى الْأَسْرَار من حَيْثُ الإحراق

قلت وَهَذَا وصف لما يعقب السماع من الاحوال الْبَاطِنَة وَقُوَّة الْحَرَارَة والإحراق والوجودية وَهَذَا امْر يحسه الْمَرْء ويجده ويذوقه لَكِن لَيْسَ فِي ذَلِك مدح وَلَا ذمّ إِذْ مثل هَذَا يُوجد لعباد الْمَسِيح والصليب وَعباد الْعجل وَعباد الطواغيت وَيُوجد للعشاق وَغير ذَلِك فَإِن لم تكن هَذِه الْأَحْوَال مِمَّا يُحِبهَا الله وَرَسُوله لم تكن محمودة وَلَا ممدوحة

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقيل السماع لطف غذَاء الْأَرْوَاح لأهل الْمعرفَة وَهَذَا القَوْل لم يسم قَائِله وَلَا ريب ان السماع فِيهِ غذَاء وَقد قيل إِنَّمَا سمى الْغناء غناء لِأَنَّهُ يُغني النَّفس لَكِن الأغذية والمطاعم مِنْهَا طيب وَمِنْهَا خَبِيث وَلَيْسَ كل مَا استلذه الْإِنْسَان لحسنه يكون طيبا فَإِن أكل الْخِنْزِير يستلذه آكله وشارب الْخمر يستلذها شاربها

ص: 407

وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن سَماع الألحان يتغذى بِهِ أهل الْجَهْل أَكثر مِمَّا يتغذى بِهِ أهل الْمعرفَة كَمَا يتغذى بِهِ الْأَطْفَال والبهائم وَالنِّسَاء وكما يكثر فِي أهل الْبَوَادِي والأعراب وكل من ضعف عقله ومعرفته كَمَا هُوَ مشهود

فَأَما السماع الشَّرْعِيّ فَلَا إِنَّه غذَاء طيب لأهل الْمعرفَة كَمَا أخبر الله بذلك فِي قَوْله {وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق} [سُورَة الْمَائِدَة 83]

ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم قَول ابي على الدقاق السماع طبع إِلَّا عَن شرع وخرق إِلَّا عَن حق وفتنة إِلَّا عَن عِبْرَة وَهَذَا كَلَام حسن وَقد قدمنَا ذكره فَإِنَّهُ جعل مَا لَيْسَ بمشروع هُوَ عَن الطَّبْع فَلَا يكون مَحْمُودًا مستحسنا فِي الدّين وَطَرِيق الله

وَقَوله خرق إِلَّا عَن حق وفتنة الأ عَن عِبْرَة يَقْتَضِي أَنه إِذا لم يكن عَن حق فَهُوَ مَذْمُوم وَأَنه لم يكن عَن عِبْرَة فَهُوَ فتْنَة وَهَذَا كَلَام صَحِيح وَلَا يَقْتَضِي ذَلِك أَن يسْتَحبّ كل مَا يظنّ أَن فِيهِ عِبْرَة أَو أَنه عَن حق إِذا لم يكن مَشْرُوعا لِأَنَّهُ قد قَالَ إِنَّه طبع إِلَّا عَن شرع

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَيُقَال السماع على قسمَيْنِ سَماع بِشَرْط

ص: 408

الْعلم والصحو فَمن شَرط صَاحبه معرفَة الاسامي وَالصِّفَات وَإِلَّا وَقع فِي الْكفْر الْمَحْض وَسَمَاع بِشَرْط الْحَال فَمن شَرط صَاحبه الفناء عَن احوال البشرية والتنقي من آثَار الحظوظ بِظُهُور أَحْكَام الْحَقِيقَة

قلت قَوْله معرفَة الْأَسَامِي وَالصِّفَات يَعْنِي أَسمَاء الْحق وَصِفَاته وَذَلِكَ لِأَن المسموع هُوَ الْمَشْرُوع من الصِّفَات الَّتِي يُوصف بهَا المخلوقون وهم إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مقصودهم مِنْهَا بطريقة الْإِشَارَة وَالِاعْتِبَار كَمَا تقدم فَيحْتَاج ذَلِك إِلَى أَن نفرق بَين مَا يُوصف بِهِ الرب ويوصف بِهِ الْمَخْلُوق لِئَلَّا تجْعَل تِلْكَ الصِّفَات صِفَات لله فَيكون فتْنَة وَكفرا هَذَا إِذا كَانَ صَاحبه صَاحِيًا يعلم مَا يَقُول وَأما إِذا كَانَ فانيا عَن الشُّعُور بالكائنات لم يحمل القَوْل على ذَلِك لعدم شعوره بِهِ فَلَا بُد أَن يكون شَاعِرًا بالأحوال البشرية وَيكون متنقيا عَن الحظوظ البشرية الَّتِي تميل إِلَى الْمَخْلُوقَات وَذَلِكَ بِظُهُور سُلْطَان التَّوْحِيد على قلبه وَهُوَ قَوْله ظُهُور أَحْكَام الْحَقِيقَة وَهَذَا التَّفْصِيل يحْتَاج إِلَيْهِ من يستحسن بعض أَنْوَاع السماع الْمُحدث لأهل الطَّرِيق إِلَى الله

والفتنة تحصل بِالسَّمَاعِ من وَجْهَيْن من جِهَة الْبِدْعَة فِي الدّين وَمن جِهَة الْفُجُور فِي الدُّنْيَا

أما الأول فَلَمَّا قد يحصل بِهِ من الاعتقادات الْفَاسِدَة فِي حق الله اَوْ الإرادات والعبادات الْفَاسِدَة الَّتِي لَا تصلح لله مَعَ مَا يصد عَنهُ من

ص: 409

الاعتقادات الصَّالِحَة والعبادات الصَّالِحَة تَارَة بطرِيق المضادة وَتارَة بطرِيق الِاشْتِغَال فَإِن النَّفس تشتغل وتستغني بِهَذَا عَن هَذَا

وَأما الْفُجُور فِي الدُّنْيَا فَلَمَّا يحصل بِهِ من دواعي الزِّنَا وَالْفَوَاحِش وَالْإِثْم وَالْبَغي على النَّاس

فَفِي الْجُمْلَة جَمِيع الْمُحرمَات قد تحصل فِيهِ وَهُوَ مَا ذكرهَا الله فِي قَوْله {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [سُورَة الاعراف 33]

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَحكى عَن احْمَد بن ابي الْحوَاري أَنه قَالَ سَأَلت أَبَا سُلَيْمَان عَن السماع فَقَالَ من اثْنَيْنِ أحب إِلَى من الْوَاحِد

قلت هَذِه الْمقَالة ذكرهَا مُرْسلَة فَلَا يعْتَمد عَلَيْهَا وَإِن أُرِيد بهَا السماع الْمُحدث فَهِيَ بَاطِلَة عَن ابي سُلَيْمَان فَإِن أَبَا سُلَيْمَان رضي الله عنه لم يكن من رجال السماع وَلَا مَعْرُوفا بِحُضُورِهِ كَمَا أَن الفضيل بن عِيَاض ومعروفا الْكَرْخِي رحمهمَا الله وَنَحْوهمَا لم يَكُونَا مِمَّن يحضر هَذَا السماع

قَالَ أَبُو الْقَاسِم سُئِلَ أَبُو الْحُسَيْن النوري عَن الصُّوفِي فَقَالَ من سمع السماع وآثر الْأَسْبَاب

ص: 410

قلت هَذَا النَّقْل مُرْسل فَلَا يعْتَمد عَلَيْهِ وَلَعَلَّ الْمَقْصُود بِهَذَا هُوَ الصُّوفِي المذموم عِنْدهم التصوف فَإِنَّهُ جمع بَين إِيثَار السماع الَّذِي يدل على الْأَهْوَاء الْبَاطِلَة وَضعف الْإِرَادَة وَالْعِبَادَة وإيثار الْأَسْبَاب الَّتِي تنقصه عِنْدهم عَن التَّوَكُّل فضعف كَونه يعبد الله وَضعف كَونه يستعينه وَإِلَّا فالنوري لَا يَجْعَل هَذَا شرطا فِي الصُّوفِي الْمُحَقق

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَسُئِلَ أَبُو عَليّ الرُّوذَبَارِي عَن السماع يَوْمًا فَقَالَ ليتنا تخلصنا مِنْهُ راسا بِرَأْس

قلت هَذَا الْكَلَام من مثل هَذَا الشَّيْخ الَّذِي هُوَ أجل الْمَشَايِخ الَّذين صحبوا الْجُنَيْد وطبقته يُقرر مَا قدمْنَاهُ من أَن حُضُور الشَّيْخ السماع لَا يدل على مذْهبه واعتقاد حسنه فَإِنَّهُ يتَمَنَّى أَلا يكون عَلَيْهِ فِيهِ إِثْم بل يخلص مِنْهُ لَا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ وَلَو كَانَ من جنس المستحبات لم يقل ذَلِك فِيهِ إِلَّا لتقصير المستمع لَا لجنس الْفِعْل وَلَيْسَ لَهُ أَن يَقُول ذَلِك إِلَّا عَن نَفسه لَا يَجْعَل هَذَا حكما عَاما فِي أهل ذَلِك الْعَمَل

كَمَا يرْوى عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه أَنه كَانَ يَقُول وددت أَنِّي انفلت من هَذَا الامر رَأْسا بِرَأْس قَالَ هَذَا بعد توليه الْخلَافَة

ص: 411

لفرط خَشيته أَلا يكون قد قَامَ بِحُقُوق وَلم يقل هَذَا فِي أبي بكر رضي الله عنه بل مَا يزَال يشْهد لَهُ بِالْقيامِ فِي الْخلَافَة بِالْحَقِّ وَلذَلِك كَانَ عمر خَوفه يحملهُ على ذَلِك القَوْل

فَقَوْل أبي عَليّ لَيْسَ من هَذَا الْجِنْس بل وصف الطَّائِفَة كلهَا بذلك فَعلم أَنه لَا يعْتَقد فِيهِ انه حسن وَإِن كَانَ فَاعِلا لَهُ

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ يَقُول سَمِعت أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول من ادّعى السماع وَلم يسمع صَوت الطُّيُور وصرير الْبَاب وصفير الرِّيَاح فَهُوَ مفتر مُدع

قلت هَذَا الَّذِي قَالَه أَبُو عُثْمَان هُوَ مِمَّا يفصلون بِهِ بَين سَماع الْعبْرَة وَسَمَاع الْفِتْنَة فَإِن سَماع الْعبْرَة الَّذِي يُحَرك وجد السالكين بِالْحَقِّ يحصل بِسَمَاع هَذِه الْأَصْوَات لَا يقف على السماع الَّذِي يهواه أهل الْفِتَن

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت أَبَا حَاتِم السجسْتانِي يَقُول سَمِعت أَبَا نصر السراج الطوسي يَقُول سَمِعت أَبَا الطّيب أَحْمد بن مقَاتل العكي يَقُول قَالَ جَعْفَر كَانَ ابْن زيري من أَصْحَاب الْجُنَيْد شَيخا

ص: 412

فَاضلا فَرُبمَا كَانَ يحضر مَوضِع السماع فَإِن استطابة فرش إزَاره وَجلسَ وَقَالَ الصُّوفِي مَعَ قلبه وَإِن لم يستطبه قَالَ السماع لأرباب الْقُلُوب وَمر وَأخذ نَعْلَيْه

قلت سنتكلم إِن شَاءَ الله على مثل هَذِه الْحَال وَهُوَ الْمَشْي مَعَ طيب الْقلب وَمَا يَذُوق الْإِنْسَان ويجد فِيهِ صَلَاح الْقلب ونبين أَن السلوك الْمُسْتَقيم هَكَذَا من غير اعْتِبَار لطيب الْقلب وَمَا يجده ويذوقه من الْمَنْفَعَة واللذة وَالْجمع على الله وَنَحْو ذَلِك أما ذَلِك الْحَال فَهُوَ مَذْمُوم فِي الْكتاب وَالسّنة ضلال فِي الطَّرِيق وَهُوَ مبدأ ضلال من ضل من الْعباد والنساك والمتصوفة والفقراء وَنَحْوهم وَحَقِيقَته اتِّبَاع الْهوى بِغَيْر هدى من الله وَقد تقدم من كَلَام الْمَشَايِخ فِي ذمّ هَذَا مَا فِيهِ كِفَايَة

فَإِن مُجَرّد طيب الْقلب لَيْسَ دَلِيلا على أَنه إِنَّمَا طَابَ لما يُحِبهُ الله ويرضاه بل قد يطيب بِمَا لَا يُحِبهُ الله ويرضاه مِمَّا يكرههُ أَولا يكرههُ أَيْضا لَا سِيمَا الْقُلُوب الَّتِي أشربت حب الْأَصْوَات الملحنة فقد قَالَ عبد الله بن مَسْعُود الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقُلُوب كَمَا ينْبت المَاء البقل

ص: 413

وَإِطْلَاق القَوْل بِأَن الصُّوفِي مَعَ قلبه هُوَ من جنس مَا ذمّ بِهِ هَؤُلَاءِ المتصوفة حَتَّى جعلُوا من اهل الْبدع لأَنهم أَحْدَثُوا فِي طَرِيق الله أَشْيَاء لم يشرعها الله فَكَانَ لَهُم نصيب من قَوْله تَعَالَى أم لَهُم شُرَكَاء شرعوا لَهُم من الدّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله [سُورَة الشورى 21] مثل مَا ذكره الْخلال بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَذكر الصُّوفِيَّة فَقَالَ لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا أَصْحَاب الْكَلَام وَعَلَيْكُم بأصحاب القماطر فَإِنَّهُم بِمَنْزِلَة الْمَعَادِن والمفاصل هَذَا يخرج درة وَهَذَا يخرج قِطْعَة ذهب ويروى عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ لَو تصوف رجل أول النَّهَار لم يَأْتِ نصف النَّهَار إِلَّا وَهُوَ أَحمَق

قَالَ ابو الْقَاسِم سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول سَمِعت عبد الْوَاحِد بن بكر يَقُول سَمِعت عبد الله بن عبد الْمجِيد الصُّوفِي يَقُول سُئِلَ رُوَيْم عَن وجود الصُّوفِيَّة عِنْد السماع فَقَالَ يشْهدُونَ الْمعَانِي الَّتِي تعزب عَن غَيرهم فتشير إِلَيْهِم

ص: 414

إِلَيّ إِلَيّ فيتنعمون بذلك من الْفَرح ثمَّ يَقع الْحجاب فَيَعُود ذَلِك الْفَرح بكاء فَمنهمْ من يخرق ثِيَابه وَمِنْهُم من يَصِيح وَمِنْهُم من يبكي كل إِنْسَان على قدره

قلت هَذَا وصف لما يعتريهم من الْحَال لَيْسَ فِي ذَلِك مدح وَلَا ذمّ إِذْ مثل هَذِه الْحَال يكون للْمُشْرِكين وَأهل الْكتاب إِذْ قد يشْهدُونَ بقلوبهم مَعَ انهم يفرحون بهَا فتتبع ذَلِك الْمحبَّة فَإِن الْفَرح يتبع الْمحبَّة فَمن أحب شَيْئا فَرح بِوُجُودِهِ وتألم لفقده والمحبوب قد يكون حَقًا وَقد يكون بَاطِلا

قَالَ تَعَالَى {وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} [سُورَة الْبَقَرَة 165] وَقَالَ تَعَالَى {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم} [سُورَة الْبَقَرَة 93]

فقد يكون الْمَرْء محبا لله صَادِقا فِي ذَلِك لَكِن يكون مَا يشهده من الْمعَانِي السارة خيالات لَا حَقِيقَة لَهَا فيفرح بهَا وَيكون فرحه لغير الْحق وَذَلِكَ مَذْمُوم

قَالَ تَعَالَى {ثمَّ قيل لَهُم أَيْن مَا كُنْتُم تشركون من دون الله قَالُوا ضلوا عَنَّا بل لم نَكُنْ ندعوا من قبل شَيْئا كَذَلِك يضل الله الْكَافرين ذَلِكُم بِمَا كُنْتُم تفرحون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَبِمَا كُنْتُم تمرحون}

ص: 415

وَقد علم أَن سَماع المكاء والتصدية إِنَّمَا ذكره الله فِي القرأن عَن الْمُشْركين وَلَا يَخْلُو من نوع شرك جلي أَو خَفِي وَلِهَذَا يَحْكِي عَنْهُم تِلْكَ الْأُمُور الْبَاطِلَة الَّتِي بَدَت لَهُم أَولا كَمَا قَالَ تَعَالَى {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَوجد الله عِنْده} [سُورَة النُّور 39]

وَمَعَ هَذَا فقد يكون فِي تِلْكَ الْمعَانِي الَّتِي تشاهد وتحتجب من حقائق الْإِيمَان مَا يفرح بِهِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْضا وَلَوْلَا مَا فِيهِ من ذَلِك لما الْتبس على فريق من الْمُؤمنِينَ لَكِن قد لبس الْحق فِيهِ بِالْبَاطِلِ هَذَا الْأَمر مِنْهُ لَيْسَ بِحَق مَحْض أصلا وبالحق الَّذِي فِيهِ نفق على من نفق عَلَيْهِ من الْمُؤمنِينَ وزهادهم وصوفيتهم وفقرائهم وعبادهم وَلَكِن لضعف إِيمَانهم نفق عَلَيْهِم وَلَو تحققوا بِكَمَال الْإِيمَان لتبين لَهُم مَا فِيهِ من الشّرك وَلبس الْحق بِالْبَاطِلِ

وَلِهَذَا تبين ذَلِك لمن أَرَادَ الله أَن يكمل إيمَانه مِنْهُم فيتوبون مِنْهُ كَمَا هُوَ الْمَأْثُور عَن عَامَّة الْمَشَايِخ الْكِبَار الَّذين حَضَرُوهُ فَإِنَّهُم تَابُوا مِنْهُ كَمَا تَابَ كثير من كبار الْعلمَاء مِمَّا دخلُوا فِيهِ من الْبدع الكلامية

قَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد

ص: 416

التَّمِيمِي يَقُول سَمِعت عبد الله بن عَليّ يَقُول سَمِعت الحصري يَقُول فِي بعض كَلَامه إيش أعمل بِسَمَاع يَنْقَطِع إِذا انْقَطع من يستمع مِنْهُ يَنْبَغِي أَن يكون سماعك سَمَاعا مُتَّصِلا غير مُنْقَطع

وَقَالَ الحصري يَنْبَغِي أَن يكون ظمأ دَائِم وَشرب دَائِم فَكلما ازْدَادَ شربه ازْدَادَ ظمؤه

قلت هَذَا الْكَلَام فِيهِ عيب لأهل هَذَا السماع وَبَيَان أَن الْمُؤمن عمله دَائِم لَيْسَ بمنقطع كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أحب الْعَمَل إِلَى الله مَا داوم عَلَيْهِ صَاحبه فَيكون اجْتِمَاع قلبه لمعاني الْقُرْآن دَائِما غير مُنْقَطع لَا يزَال عطشانا طَالبا شاربا

ص: 417

كَمَا قَالَ تَعَالَى لنَبيه {واعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} [سُورَة الْحجر 99] وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ لم يَجْعَل الله لعَبْدِهِ الْمُؤمن أَََجَلًا دون الْمَوْت وَقد اعْتقد بعض الغالطين من هَؤُلَاءِ ان الْمَعْنى اعبد رَبك حَتَّى تحصل لَك الْمعرفَة ثمَّ اترك الْعِبَادَة وَهَذَا جهل وضلال بأجماع الْأمة بل الْيَقِين هُنَا كاليقين فِي قَوْله {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} [سُورَة المدثر 47]

فِي الصَّحِيح لما مَاتَ عُثْمَان بن مَظْعُون قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أما عُثْمَان فقد أَتَاهُ الْيَقِين من ربه وَالله مَا أَدْرِي وَأَنا رَسُول الله مَا يفعل بِي

فَأَما الْيَقِين الَّذِي هُوَ صفة العَبْد فَذَاك قد فعله من حِين عبد ربه وَلَا تصح الْعِبَادَة إِلَّا بِهِ وَإِن كَانَ لَهُ دَرَجَات مُتَفَاوِتَة

قَالَ تَعَالَى آلم ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ هدى لِلْمُتقين إِلَى قَوْله وبالآخرة هم يوقنون [سُورَة الْبَقَرَة 1 4]

ص: 418

وَقَالَ وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بأياتنا يوقنون [سُورَة السَّجْدَة 24]

وَقَالَ عَن الْكفَّار وَإِذا قيل إِن وعد الله حق والساعة لَا ريب فِيهَا قُلْتُمْ مَا ندرى مَا السَّاعَة إِن تظن إِلَّا ظنا وَمَا نَحن بمستيقنين [سُورَة الجاثية 32]

قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَجَاء عَن مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {فهم فِي رَوْضَة يحبرون} [سُورَة الرّوم 15] أَنه السماع من الْحور الْعين بِأَصْوَات شهية نَحن الخالدات فَلَا نموت أبدا وَنحن الناعمات فَلَا نبأس أبدا

وَهَذَا فِيهِ أَنهم ينعمون فِي الْآخِرَة بِالسَّمَاعِ وَقد تقدم الْكَلَام على هَذَا وَأَن التنعم بالشئ فِي الْآخِرَة لَا يَقْتَضِي أَن يكون عملا حسنا أَو مُبَاحا فِي الدُّنْيَا

وَقَالَ وَقيل السماع نِدَاء والوجد قصد

وَهَذَا كَلَام مُطلق فَإِن المستمع يُنَادِيه مَا يستمعه بِحَق تَارَة وبباطل أُخْرَى والواجد هُوَ قَاصد يُجيب الْمُنَادِي الَّذِي قد يَدْعُو إِلَى حق وَقد يَدْعُو إِلَى بَاطِل فَإِن الْوَاجِد تَجِد فِي نَفسه إِرَادَة وقصدا

ص: 419

قَالَ وَسمعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول سَمِعت أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول قُلُوب أهل الْحق قُلُوب حَاضِرَة وأسماعهم أسماع مَفْتُوحَة

وَهَذَا كَلَام حسن قَالَ تَعَالَى {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد} [سُورَة ق 37] قَالُوا وَهُوَ حَاضر الْقلب لَيْسَ بغائبه وَوصف الله الْكفَّار بِأَنَّهُم صم بكم عمي لَا يسمعُونَ وَلَا يعْقلُونَ وَأَن فِي آذانهم وقرا وَأَنه ختم على قُلُوبهم وعَلى سمعهم

قَالَ وسمعته يَعْنِي أَبَا عبد الرَّحْمَن يَقُول سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا سهل الصعلوكي يَقُول المستمع بَين استتار وتجل فالاستتار يُوجب التلهيب والتجلي يُورث الترويح والاستتار يتَوَلَّد مِنْهُ حركات المريدين وَهُوَ مَحل الضعْف وَالْعجز والتجلي يتَوَلَّد مِنْهُ سُكُون الواصلين وَهُوَ مَحل الاسْتقَامَة والتمكن وَذَلِكَ

ص: 420

صفة الحضرة لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الذبول تَحت موارد الهيبة قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصتُوا} [سُورَة الْأَحْقَاف 29]

قلت هَذَا كَلَام على أَحْوَال أهل السماع وَهُوَ مُطلق فِي السماع الشَّرْعِيّ والبدعي لكنه إِلَى وصف حَال الْمُحدث أقرب وَهُوَ وصف لبَعض أَحْوَالهم فَإِن أَحْوَالهم أَضْعَاف ذَلِك وَأما الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ فَفِيهِ كَلَام لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه

قَالَ وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الْحِيرِي السماع على ثَلَاثَة أوجه فَوجه مِنْهَا للمريدين والمبتدئين يستدعون بذلك الْأَحْوَال الشَّرِيفَة ويخشى عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْفِتْنَة والمراءاة

وَالثَّانِي للصادقين يطْلبُونَ الزِّيَادَة فِي أَحْوَالهم ويستمعون من ذَلِك مَا يُوَافق أوقاتهم

وَالثَّالِث لأهل الاسْتقَامَة من العارفين وَهَؤُلَاء لَا يختارون على الله فِيمَا يرد على قُلُوبهم من الْحَرَكَة والسكون

قلت هَذَا الْكَلَام مُطلق فِي السماع يتَنَاوَل الْقسمَيْنِ

ص: 421