الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما أحسن قول الإمام أحمد: «ضعيفُ الحديث خيرٌ من رأي فلان»
(1)
.
ثم لأهل الحديث من المزيَّة أن ما يقولونه من الكلام الذي لا يفهمُه بعضهم هو كلامٌ في نفسه حقٌّ، وقد آمنوا بذلك، وأما المتكلِّمةُ فيتكلَّفون من القول ما لا يفهمونه ولا يعلمون أنه حقٌّ. وأهلُ الحديث لا يستدلُّون بحديثٍ ضعيفٍ في نقض أصل عظيمٍ من أصول الشريعة، بل إما في تأييده وإما في فرعٍ من الفروع، وأولئك يحتجُّون بالحُدود والمقاييس الفاسدة في نقض الأصول الحقَّة
(2)
الثابتة.
إذا عُرِف هذا فقد قال الله تعالى عن
أتباع الأئمَّة من أهل المُلك والعلم
(3)
المخالفين للرُّسل:
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83]، وقال تعالى:{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66] ، ومثلُ هذا في القرآن كثير.
وإذا كانت سعادةُ الدنيا والآخرة هي باتباع المرسلين، فمن المعلوم أن أحقَّ الناس بذلك أعلمُهم بآثار المرسَلين وأتبعُهم لذلك، فالعالِمُون
(1)
انظر: «السنة» لعبد الله بن أحمد (1/ 180) ، ومسائل عبد الله (1313) ، ومن طريقه الخطيب في «تاريخ بغداد» (15/ 375). وفلان هو أبو حنيفة، كما ورد مصرحًا به في المصادر، وأبهمه المصنف رعايةً لقلوب أتباعه.
(2)
الأصل: «بعض الأصول الحق» . وأصلحت في (ط).
(3)
الأصل: «أهل الملل» . وهو تحريف، ووجه الكلام ما أثبت. وانظر ما سيأتي (ص 300، 303).
بأقوالهم وأفعالهم المتَّبعون لها هم أهلُ السَّعادة في كلِّ زمانٍ ومكان، وهم الطائفةُ الناجيةُ من أهل كلِّ ملَّة، وهم أهلُ السُّنة والحديث من هذه الأمة؛ فإنهم يشاركون سائرَ الأمة فيما عندهم من أمور الرسالة، ويَمْتَازُون عنهم بما اختصُّوا به من العلم الموروث عن الرسول فيما
(1)
يجهلُه غيرُهم أو يكذِّبُ به.
والرسلُ صلواتُ الله عليهم وسلامُه عليهم البلاغُ المبين، وقد بلَّغوا البلاغَ المبين، وخاتمُ الرسل محمدٌ صلى الله عليه وسلم أنزل الله كتابَه مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، فهو الأمينُ على جميع الكتب، وقد بلَّغ أبينَ البلاغ وأتمَّه وأكملَه، وكان أنصحَ الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين، فأسعدُ الخلق وأعظمُهم نعيمًا وأعلاهم درجةً أعظمُهم اتباعًا له وموافقةً علمًا وعملًا.
وأما غيرُ أتباعه من أهل الكلام، فالكلامُ في أقيستهم التي هي حججُهم وبراهينهم على معارفهم وعلومهم، وهذا يدخلُ فيه كلُّ من خالف شيئًا من السُّنة والحديث من المتكلِّمين والفلاسفة، فالكلامُ في هذا المقام واسعٌ لا ينضبطُ هنا، لكن المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلِّمين من أعظم بني آدم حَشْوًا وقولًا للباطل وتكذيبًا للحقِّ في مسائلهم ودلائلهم، لا يكادُ ــ والله أعلم ــ تخلو لهم مسألةٌ واحدة عن ذلك.
وأذكر أني قلتُ مرَّةً لبعض من كان ينتصرُ لهم من المشغوفين بهم وأنا
(1)
(ط): «مما» .
إذ ذاك صغيرٌ قريبُ العهد من الاحتلام
(1)
: كلُّ ما يقولُه هؤلاء ففيه باطلٌ إما في الدلائل وإما في المسائل، إما أن يقولوا مسألةً تكون حقًّا لكن يُقِيمُون عليها أدلةً ضعيفة، وإما أن تكون المسألةُ باطلًا. فأخذ يعظِّمُ هذا، وذكر مسألةَ التوحيد، فقلت: التوحيدُ حقٌّ، لكن اذكُرْ ما شئتَ من أدلَّتهم التي تعرفُها حتى أذكُرَ لك ما فيه. فذَكَر بعضها بحروفه، [فذكرتُ له ما فيه]
(2)
حتى فَهِم الغلط، وذهب إلى ابنه ــ وكان أيضًا من المتعصِّبين لهم ــ فذكر ذلك له، قال: فأخذ يعظِّمُ ذلك عليَّ، قال: فقلت: أنا لا أشكُّ في التوحيد، ولكن أشكُّ في هذا الدليل المعيَّن.
ويدلُّك على ذلك أمور:
أحدها: أنك تجدُهم أعظمَ الناس شكًّا واضطرابًا، وأضعفَ الناس علمًا ويقينًا، وهذا أمرٌ يجدونه في أنفسهم ويَشْهَدُه الناسُ منهم، وشواهدُ ذلك أعظمُ من أن تُذْكَر هنا، وإنما فضيلةُ أحدهم باقتداره على الاعتراض والجدل الباطل
(3)
، ومن المعلوم أن الاعتراض والقدحَ ليس بعلمٍ ولا فيه
(1)
انظر مناظرة أخرى للمصنف وهو إذ ذاك «صغيرٌ جدًّا» مع أحد المتعصبة لابن عربي في «مجموع الفتاوى» (10/ 560). قال الذهبي في «الدرة اليتيمية» : «كان يحضر المدارس والمحافل في صغره ويناظِر ويفحِم الكبار ويأتي بما يتحيَّر منه أعيانُ البلد في العلم» . «تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (37) ، و «العقود الدرية» (9).
(2)
زيادة تقديرية يقتضيها الكلام.
(3)
الأصل: «الاعتراض والحد والدليل» ، ويحتمل أن يكون أراد بذلك موضوعات علم المنطق (الحدود والأقيسة والجدل) إلا أن السياق لا يؤيده، وأُصْلِحَت في (ط) إلى «الاعتراض والقدح والجدل» . والمثبت أشبه بالصواب وأدنى إلى رسم الأصل.
منفعة، وأحسنُ أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامِّيِّ، وإنما العلمُ في جواب السؤال
(1)
.
ولهذا تجدُ غالبَ حججهم تتكافأ؛ إذ كلٌّ منهم يقدحُ في أدلة الآخر.
وقد قيل: إن الأشعريَّ ــ مع أنه مِن أقربهم إلى السُّنة والحديث وأعلمهم بذلك ــ صنَّف في آخر عمره كتابًا في تكافؤ الأدلة
(2)
، يعني أدلَّة الكلام، فإن ذلك هو صناعته التي يحسِنُ الكلامَ فيها.
وما زال أئمَّتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم، كما ذكرناه عن أبي حامدٍ وغيره، حتى قال أبو حامد الغزالي:«أكثرُ الناس شكًّا عند الموت أهلُ الكلام»
(3)
.
(1)
انظر: «تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل» (5، 6).
(2)
لم أر من نسب للأشعري هذا الكتاب، ويظهر من عبارة المصنف أنه لم يقف عليه، والذي ذكره في «التسعينية» (773، 996) أن أبا الحسن أقر في آخر عمره بتكافؤ الأدلة، اعتمادًا على ما رواه أبو إسماعيل الأنصاري في «ذم الكلام» (1456) عن زاهر بن أحمد السرخسي. وانظر:«بيان تلبيس الجهمية» (4/ 416). والمشهور أن حيرة أبي الحسن وتكافؤ الأدلة عنده كانت سبب رجوعه عن الاعتزال وتأليفه الكتب، وإن كان أئمة الأشاعرة المتأخرين (كالرازي وغيره) يصيرون إلى القول بتكافؤ الأدلة في المسائل الكبار، كدليل حدوث الأجسام وغيره. انظر:«التسعينية» (772، 773) ، و «درء التعارض» (1/ 164) ، و «الصفدية» (1/ 99، 294) ، و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 291) ، و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (1/ 375، 381).
(3)
لم أقف عليه، وذكر في «المنقذ من الضلال» (125) أن علم الكلام ليس كفيلًا بتبديد ظلمات الحيرة في اختلاف الخلق.
وهذا أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب، باب الحَيْرة والشكِّ والاضطراب، لكن هو مسرفٌ في هذا الباب بحيث له نَهْمةٌ
(1)
في التشكيك دون التحقيق
(2)
، بخلاف غيره فإنه يحقِّقُ شيئًا ويَثْبُتُ على نوعٍ من الحق، لكنَّ بعض الناس قد يَثْبُتُ على باطل، والشكُّ في الباطل خيرٌ من الثبات على اعتقاده، لكن قلَّ أن يَثْبُتَ أحدٌ على باطلٍ محضٍ بل لا بدَّ فيه من نوعٍ من الحق.
وكان من فضلاء المتأخرين وأبرعِهم في الفلسفة والكلام ابنُ واصل الحَمَوي
(3)
(4)
.
ولهذا أنشد الخطَّابي
(5)
:
(1)
تحرفت في (ط) إلى: «إنه يتهم» . وعلى الصواب في (ف).
(2)
انظر لطريقة الرازي في التشكيك وإيراد الشُّبه: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 11) ، و «الصواعق المرسلة» (1079) ، و «ذيل الروضتين» (105) ، و «الوافي» (4/ 251) ، و «العواصم والقواصم» (7/ 51، 54) ، و «لسان الميزان» (6/ 319).
(3)
جمال الدين، قاضي حماة (ت: 697). قال الذهبي: «كان من أذكياء العالم» . «تاريخ الإسلام» (15/ 864).
(4)
انظر: «درء التعارض» (1/ 165، 3/ 263) ، و «الصواعق المرسلة» (842).
(5)
في «الغنية عن الكلام وأهله» . انظر: «فتح الباري» لابن رجب (7/ 238) ، و «صون المنطق والكلام» (146).
وأصله لابن الرومي، في ديوانه (1139) و «زهر الآداب» (922):
لذوي الجدال إذا غَدَوا لجدالهم
…
حججٌ تضلُّ عن الهدى وتجورُ
وُهُنٌ كآنية الزُّجاج تصادمت
…
فهَوَتْ، وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ
حُجَجٌ تَهَافَتُ كالزُّجَاج تَخالُها
…
حقًّا، وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ
فإذا كانت هذه حالَ حُجَجِهم فأيُّ لغوٍ باطلٍ وحشوٍ يكونُ أعظم من هذا؟! وكيف يليقُ بمثل هؤلاء أن يَعِيبوا
(1)
أهلَ الحديث والسُّنة الذين هم أعظمُ الناس علمًا ويقينًا وطمأنينةً وسكينة، يَعْلَمُون ويَعْلَمُون أنهم يَعْلَمُون، وهم بالحق يوقنون، لا يشكُّون ولا يَمْتَرون؟!
فأما ما أوتيه علماءُ أهل الحديث وخواصُّهم من اليقين والمعرفة والهدى فأمرٌ يجلُّ عن الوصف، ولكن عند عوامِّهم من اليقين والمعرفة
(2)
والعلم النافع ما لم يحصُل منه شيءٌ لأئمَّة المتفلسفة المتكلمين، وهذا ظاهرٌ مشهودٌ لكلِّ أحد.
غايةُ ما يقول أحدُهم: إنهم جَزَموا بغير دليل
(3)
، وصمَّموا بغير حُجَّة، وإنما معهم التقليد.
وهذا القدرُ قد يكون في كثيرٍ من العامَّة، لكنَّ جزمَ العلمِ غيرُ جزم
(1)
الأصل: «ينسبوا» . ويحتمل أن تقرأ: «يسبُّوا» . والمثبت أشبه. انظر: (ص: 37).
(2)
كذا في الأصل، وزيادة المعرفة هنا غير ظاهر، ووضع الناسخ فوقها حـ ممدودة كأنه يستشكلها، وانظر ما مضى (ص: 36).
(3)
الأصل: «بغير علم دليل» . وهو غلط، إلا أن تكون:«بغير علم ودليل» ، والمثبت أنسب للازدواج. ووضع الناسخ كذلك حـ فوق كلمة «علم» .
الهوى، فالجازمُ بغير علمٍ يجدُ من نفسه أنه غيرُ عالمٍ بما جَزَم به، والجازمُ بعلمٍ يجدُ من نفسه أنه عالم؛ إذ كونُ الإنسان عالمًا وغيرَ عالمٍ مثلُ كونه سامعًا ومبصرًا وغير سامعٍ ومبصر، فهو يعلمُ من نفسه ذلك مثلَ ما يعلمُ من نفسه كونَه محبًّا ومبغضًا ومريدًا وكارهًا ومسرورًا ومحزونًا ومنعَّمًا ومعذَّبًا وغير ذلك.
ومن شكَّ في كونه يَعْلَمُ مع كونه يَعْلَمُ فهو بمنزلة من جزَم بأنه عَلِمَ وهو لا يَعْلَم، وذلك نظيرُ من شكَّ في كونه سَمِع ورأى أو جزَم بأنه سَمِع ورأى ما لم يَسْمَعْه ويَرَه.
والغلطُ أو الكذبُ يَعْرِض للإنسان في كلِّ واحدٍ من طرفي النفي والإثبات، لكن هذا الغلطَ أو الكذبَ العارض لا يمنعُ أن يكون الإنسانُ جازمًا بما لا يشكُّ فيه من ذلك، كما يجزمُ بما يجدُه من الطُّعوم والأراييح
(1)
وإن كان قد يَعْرِض له من الانحراف ما يجدُ به الحُلْوَ مرًّا. فالأسبابُ العارضةُ لغلط الحسِّ الباطن أو الظاهر والعقل بمنزلة المرض العارض لحركة البدن والنفس، والأصلُ هو الصحَّة في الإدراك وفي الحركة، فإن الله خلق عبادَه على الفطرة، وهذه الأمور يُعْلَمُ الغلطُ فيها بأسبابها الخاصَّة، كالمِرَّة الصَّفراء العارضة للطَّعم، وكالحَوَل في العين، ونحو ذلك.
وإلا فمن حاسبَ نفسَه على ما يَجْزِمُ به وجد أكثرَ الناس الذين يجزمون بما لا يُجْزَمُ به إنما هو لنوعٍ من الهوى، كما قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا
(1)
جمع الريح: أرواح، وجمع الجمع: أراويح، وأراييح شاذة. «اللسان» (روح). وتقع في كلام الجاحظ وغيره من البلغاء.
لَيَضِلُّونَ
(1)
بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]، وقال:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
ولهذا تجدُ اليهودَ يُصَمِّمُون بباطلهم
(2)
لما في نفوسهم من الكِبْر والحسد والقسوة وغير ذلك من الأهواء، وأما النصارى فأعظمُ ضلالًا منهم وإن كانوا في العبادة
(3)
والأخلاق أقلَّ منهم شرًّا فليسوا جازمين بغالب ضلالهم، بل عند الاعتبار تجدُ من ترك الهوى من الطائفتين ونظر نوعَ نظرٍ تبيَّن له أن الإسلام حقٌّ.
والمقصودُ هنا أن معرفةَ الإنسان بكونه يَعْلَمُ أو لا يَعْلَمُ مرجعُه إلى وجود نفسِه عالمةً. ولهذا لا نحتجُّ على مُنكِر العلم إلا بوجودنا
(4)
نفوسَنا عالمةً، كما احتجُّوا على منكري الأخبار المتواترة بأنا نجدُ نفوسَنا عالمةً بذلك وجازمةً به كعلمِنا وجزمِنا بما أحسَسْناه، وجعَل المحقِّقون وجودَ العلم بمُخْبَر الإخبار هو الضابط في حصول التواتر، إذ لم يحدُّوه بعددٍ ولا صفةٍ بل متى حصل العلمُ كان هو المعتبر
(5)
.
(1)
على قراءة أبي عمرو، كما سيأتي (ص: 263).
(2)
أي يجزمون به. وفي (ط): «يصممون ويصرون على باطلهم» .
(3)
الأصل: «العادة» . تحريف. وانظر: «الجواب الصحيح» (3/ 102، 109، 220، 4/ 385) ، و «منهاج السنة» (2/ 12) ، و «الرد على الشاذلي» (179) ، و «مجموع الفتاوى» (13/ 100، 15/ 434، 19/ 277).
(4)
سيأتي نظير هذا الاستعمال (ص: 64).
(5)
انظر: «النبوات» (1039) ، و «درء التعارض» (8/ 43) ، و «الاستقامة» (1/ 29) ، و «مجموع الفتاوى» (6/ 591، 18/ 40، 48، 50، 51، 18/ 70).
والإنسانُ يجدُ نفسَه عالمةً، وهذا حقٌّ، فإنه لا يجوزُ أن يستدلَّ الإنسانُ على كونه عالمًا بدليل؛ فإن علمَه بمقدمات ذلك الدليل يحتاجُ إلى أن يجد نفسَه عالمةً بها، فلو احتاج علمُه بكونه عالمًا إلى دليلٍ أفضى إلى الدَّور أو التسلسل، ولهذا يحسُّ
(1)
الإنسانُ بوجود العلم عند وجود سببه إن كان بديهيًّا أو إن كان نظريًّا إذا عَلِمَ المقدمتين.
وبهذا استُدِلَّ على منكري إفادة النظرِ العلمَ، وإن كان في هذه المسألة تفصيلٌ ليس هذا موضعه
(2)
.
فالغرض أن من نظر في دليلٍ يفيدُ العلمَ وجد نفسَه عالمةً عند علمه بذلك الدليل، كما يجدُ نفسَه سامعةً رائيةً عند الاستماع للصَّوت والترائي للشمس أو الهلال أو غير ذلك.
والعلمُ يحصُل في النفس كما تحصُل سائر الإدراكات والحركات بما يجعله الله من الأسباب، وعامَّةُ ذلك بملائكة الله تعالى؛ فإن الله سبحانه يُنْزِلُ بها على قلوب عباده من العلم والقوَّة وغير ذلك ما يشاء، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لحسَّان:«اللهم أيِّده بروح القُدس»
(3)
.
وقال تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].
وقال صلى الله عليه وسلم: «من طَلَبَ القضاءَ واستعان عليه وُكِلَ إليه، ومن لم يَطْلُب
(1)
الأصل: «ولهذا لا يحس» . والمثبت أقوم بالمراد.
(2)
انظر: «درء التعارض» (3/ 303، 5/ 270).
(3)
أخرجه البخاري (453) ومسلم (2485).
القضاءَ ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدِّدُه»
(1)
.
وقال عبد الله بن مسعود: «كنَّا نتحدَّثُ أن السَّكينة تَنطِقُ على لسان عُمَر»
(2)
.
وقال ابن مسعود: «إن للمَلَكِ لَمَّة
(3)
، وللشيطان لَمَّة، فلَمَّةُ المَلَك إيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، ولَمَّةُ الشيطان إيعادٌ بالشرِّ وتكذيبٌ بالحق»
(4)
، وهذا الكلام الذي قاله ابنُ مسعود هو محفوظٌ عنه، وربما رفعه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كلامٌ جامعٌ لأصول ما يكونُ من العبد من علمٍ
(1)
أخرجه أبو داود (3578) والترمذي (1323) وابن ماجه (2309) من حديث أنس بإسنادٍ ضعيف، وقال الترمذي:«حسن غريب» ، وصححه الحاكم (4/ 92) ، وخرجه الضياء في «المختارة» (1580). وروي من طريق أصح عند الترمذي (1324)، وانظر:«علل الدارقطني» (12/ 80) ، ولم يفطن لوجه ذلك ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 547) والألباني في «السلسلة الضعيفة» (1154).
(2)
أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (9/ 167) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (44/ 111) بإسنادٍ فيه ضعف، وحسنه الهيثمي في «المجمع» (9/ 67).
والمشهور روايته من قول علي رضي الله عنه. أخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته على «فضائل الصحابة» (50، 310، 470) وغيره من طرق كثيرة.
(3)
اللَّمَّة: الهَمَّة والخَطْرة تقع في القلب. «النهاية» (لمم).
(4)
أخرجه ابن المبارك (1435) وأحمد (859) كلاهما في الزهد بإسنادٍ حسن. وروي من وجه آخر فيه انقطاع عند أبي داود في الزهد (164).
ورواه الترمذي (2988) والبزار (2027) وأبو يعلى (4999) وابن حبان (997) وغيرهم مرفوعًا، والموقوف أصح. انظر:«العلل» لابن أبي حاتم (2224) ، و «العلل الكبير» للترمذي (654).
وعمل، من شُعورٍ وإرادة.
وذلك أن العبد له قوةُ الشعور والإحساس والإدراك، وقوةُ الإرادة والحركة، وإحداهما أصلُ الثانية مستلزمةٌ لها، والثانية مستلزمةٌ للأولى ومكمِّلةٌ لها. فهو بالأولى يصدِّقُ بالحقِّ ويكذِّبُ بالباطل، وبالثانية يحبُّ النافعَ الملائمَ له ويبغض الضارَّ المنافي له.
والله سبحانه خلق عبادَه على الفطرة التي فيها معرفةُ الحقِّ والتصديقُ به، ومعرفةُ الباطل والتكذيبُ به، ومعرفةُ النافع الملائم والمحبةُ له، ومعرفةُ الضارِّ المنافي والبُغض له. فما كان حقًّا
(1)
موجودًا صدَّقَت به الفطرة، وما كان حقًّا نافعًا عَرَفَته
(2)
الفطرةُ فأحبَّته واطمأنت إليه وذلك هو «المعروف» ، وما كان باطلاً معدومًا كذَّبت به الفطرةُ فأبغضته وأنكرته
(3)
، قال تعالى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157].
والإنسانُ كما سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «أصدقُ الأسماء الحارثُ وهمَّام»
(4)
، فهو دائمًا يَهُمُّ ويعمل، لكنه لا يعمل إلا لما يرجو منفعتَه أو دفعَ
(1)
الأصل: «والفطرة فما كان حقا» . وفي (ط): «بالفطرة
…
».
(2)
الأصل: «فاحبته» . والمثبت من (ط) ظاهر الصواب.
(3)
الأصل: «فأبغضته الفطرة فأنكرته» . ولعله من انتقال نظر الناسخ.
(4)
روي من مرسل أبي وهب الكلاعي والزهري ومكحول وعبد الوهاب بن بخت وعبد الله بن عامر اليحصبي، ومخارجُ هذه المراسيل جميعًا من الشام فلا تعتضدُ ببعضها، فربما آلت إلى مصدرٍ واحد، وهو الأشبه، ورفعه بعضهم ولا يصح. انظر:«المراسيل» لابن أبي حاتم (117) ، و «العلل» له (2451) ، و «الإصابة» (7/ 461) ، و «مفتاح دار السعادة» (1524).
مضرَّته، لكن قد يكونُ ذلك الرجاء مبنيًّا على اعتقادٍ باطل، إما في نفس المقصود فلا يكونُ نافعًا ولا ضارًّا، وإما في الوسيلة فلا تكونُ طريقًا إليه، وهذا جهل.
وقد يعلمُ أن هذا الشيء يضرُّه ويفعلُه، ويعلمُ أنه ينفعُه ويتركُه؛ لأن ذلك العلمَ عارَض ما في نفسه من طلب لذةٍ أخرى أو دفع ألمٍ آخر، فيكونُ جاهلًا ظالمًا حيث قدَّم هذا على ذاك.
(1)
.
وإذا كان الإنسانُ لا يتحرَّك إلا لرجاءٍ
(2)
، وإن كان راهبًا خائفًا لم يسعَ في النجاة ولم يهرب من الخوف
(3)
، فالرجاءُ لا يكونُ إلا بما يُلْقَى في نفسه من الإيعاد بالخير الذي هو طلبُ المحبوب وفواتُ المكروه.
فكلُّ بني آدم له اعتقادٌ فيه تصديقٌ بشيءٍ وتكذيبٌ بشيء، وله قصدٌ وإرادةٌ لما يرجوه مما هو عنده محبوبٌ ممكنُ الوصول إليه، أو وجود
(1)
أخرج شطره الأول ابن جرير (6/ 507) وابن المنذر (1480).
(2)
(ف): «إلا راجيا» .
(3)
(ط، ف): «لم يسع [إلا] في النجاة ولم يهرب [إلا] من الخوف» . ولعل المصنف يريد الخوف المجرَّد من الرجاء في النجاة.
المحبوب عنده أو دفع المكروه عنه، والله خلق العبد [ليصدِّق بالحقِّ]
(1)
ويَقْصِدَ الخيرَ فيرجوه بعمله، فإذا كذَّب بالحقِّ فلم يصدِّق به ولم يَرْجُ الخيرَ فيقصِدُه ويعملُ له كان خاسرًا بترك تصديق الحقِّ وطلب الخير، فكيف إذا كذَّب بالحقِّ وكره إرادةَ الخير؟ فكيف إذا صدَّق بالباطل وأراد الشرَّ؟ !
فذكر عبد الله بن مسعودٍ أن لقلب ابن آدم لَمَّةً من المَلَك ولَمَّةً من الشيطان، فلَمَّةُ المَلَك تصديقٌ بالحق، [ولَمَّةُ الشيطان تكذيبٌ بالحقِّ]
(2)
وهو ما كان من جنس الاعتقاد الفاسد، وهو التكذيبُ بالحق، وإيعادٌ بالشرِّ وهو ما كان من جنس إرادة الشرِّ وطلب
(3)
وجوده، إما مع رجائه إن كان مع هوى النفس، وإما مع خوفه إن كان غير محبوبٍ لها، وكلٌّ من الرجاء والخوف مستلزمٌ للآخر.
فمبدأ العلم الحقِّ والإرادةِ الصالحة مِن لَمَّة المَلَك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة مِن لَمَّة الشيطان.
قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]، وقال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي: يخوِّفُكم أولياءه، وقال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي
(1)
ليست في الأصل، والسياق يقتضيها.
(2)
أظنه سقط على الناسخ لانتقال نظره.
(3)
الأصل: «وظن» . تحريف.
جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48].
والشيطانُ وسواسٌ خناسٌ إذا ذكر العبدُ ربَّه خَنَسَ، فإذا غَفَل عن ذكره وَسْوَس، فلهذا كان [تركُ]
(1)
ذكر الله سببًا ومبدأً لنزول الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة في القلب.
ومِن ذكر الله تعالى تلاوةُ كتابه وفهمُه ومذاكرةُ العلم، كما قال معاذ بن جبل:«ومذاكرته تسبيح»
(2)
.
وقد تنازع أهلُ الكلام في حصول العلم في القلب عقبَ النظر في الدليل
(3)
، فقال بعضهم: ذلك على سبيل التولُّد، وقال المنكرون للتولُّد: بل ذلك بفعل الله تعالى، والنظرُ إما متضمِّنٌ للعلم وإما موجبٌ له، وهذا ينصره المنتسبون للسنة من المتكلمين ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعيِّ وأحمد وغيرهم، وقالت المتفلسفة: بل ذلك يحصُل بطريق
(1)
كتب الناسخ في الطرة: «لعله سقط: ترك» . فعلق أحدهم على كلامه: «الظاهر عدم السقط، والكلام فيما يظهر لي مستقيم بدون لفظة ترك، والمراد أن ذكر الله سبب لخنوس الخناس» . والأليق بسياق الكلام إثبات لفظ الترك.
(2)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 238)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 240) بإسنادٍ شديد الضعف. وقال المصنف فيما يأتي (ص: 160): «هو محفوظٌ عن معاذ» . ويروى مرفوعًا، ولا يصح، وحسبه أن يثبت إلى معاذ. انظر:«مفتاح دار السعادة» (1/ 337) وتعليقي عليه.
(3)
انظر: «المغني» لعبد الجبار (8/ 77) ، و «التلخيص في أصول الفقه» للجويني (1/ 125) ، و «المستصفى» (1/ 168) ، و «البحر المحيط» (1/ 67) ، و «الرد على المنطقيين» (342، 507) ، و «مجموع الفتاوى» (17/ 530).
الفَيض من العقل الفعَّال عند استعداد النفس لقبول الفَيض، وقد يزعمون أن العقل الفعَّال هو جبريل.
فأما قول القائلين: «إن ذلك بفعل الله» فهو صحيحٌ بناءً على أن الله هو مُعَلِّمُ كلِّ علمٍ وخالقُ كلِّ شيء، لكن هذا كلامٌ مجملٌ ليس فيه بيانٌ لنفس السبب الخاص.
وأما قول القائلين بالتولُّد فبعضه حقٌّ وبعضه باطل، فإن
(1)
دعواهم أن الفعل
(2)
المتولِّد هو حاصلٌ بمجرَّد قدرة العبد باطلٌ قطعًا، ولكن هو حاصلٌ بأمرين: قدرة العبد والسبب الآخر، كالقوَّة التي في السَّهم والقبول الذي في المحلِّ، ولا ريب أن النظر هو سببٌ ولكن الشأن فيما به يتمُّ حصول العلم.
وأما زعمُ أولئك أنه بالعقل الفعَّال فمن الخرافات التي لا دليل عليها. وأبطلُ من ذلك زعمُهم أن ذلك هو جبريل، وزعمُهم أن كلَّ ما يحصُل في عالم العناصر من الصُّور الجِسمانية وكمالاتها فهو من فَيْضِه وسببه مِن أبطل الباطل، ولكن إضافتهم ذلك إلى أمورٍ رُوحانيَّةٍ صحيحٌ في الجملة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يدبِّر أمرَ السموات والأرض بملائكته التي هي السُّفراء في أمره، ولفظ «المَلَك» يدلُّ على ذلك، وبذلك أخبرت الأنبياء، وقد شهد الكتابُ والسُّنة من ذلك بما لا يتسعُ هذا الموضعُ لذكره، كما ذكره
(1)
الأصل: «كان» . تحريف.
(2)
(ط): «العلم» . والمثبت من الأصل وهو الصواب. انظر: «مقالات الإسلاميين» (1/ 415).
النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ملائكة الخَلْق
(1)
وغيره، فأما تخصيصُ روحٍ واحدٍ متصلٍ بفَلَك القمر يكونُ هو ربَّ هذا العالم فهذا باطل، وليس هذا موضعَ استقصاء ذلك
(2)
.
ولكن يُعْلَمُ أن المبدأ في شعور النفس وحركاتها هم الملائكةُ والشياطين، فالمَلَكُ يُلْقِي التصديقَ بالحقِّ والأمرَ بالخير، والشيطانُ يُلْقِي التكذيبَ بالحقِّ والأمرَ بالشر، والتصديقُ والتكذيبُ مقرون
(3)
بنظر الإنسان، كما أن الأمرَ والنهيَ مقرون بإرادته.
فإذا كان النظرُ في دليلٍ هادٍ ــ كالقرآن ــ وسَلِمَ من معارضات الشيطان تضمَّن ذلك النظرُ العلمَ والهدى، ولهذا أُمِرَ العبد بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند القراءة.
(1)
خلق الإنسان في بطن أمه حين يُرْسَلُ إليه المَلَكُ فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد. أخرجه البخاري (3208) ومسلم (2643). وانظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 148). ويحتمل أن يكون المراد الملائكة الذين يحفظون الخلق، انظر:«الإبانة» لابن بطه (3/ 339)، و «الدر المنثور» (7/ 429). وتصرَّف ناشر (ط) فجعل العبارة:«ملائكة تخليق الجنين» .
(2)
انظر: «الرد على المنطقيين» (102، 278، 476 - 520) ، و «بغية المرتاد» (187، 241) ، و «الصفدية» (1/ 156، 201) ، و «درء التعارض» (5/ 384، 10/ 219) ، و «الرد على الشاذلي» (43، 59، 132) ، و «مجموع الفتاوى» (11/ 230). وانظر لنظرية العقل الفعال هذه عند الفلاسفة ومصدرها وآثارها ومظانها التعليق على «غاية المرام» للآمدي (288).
(3)
كذا في الأصل في الموضعين، والجادة: مقرونان. وانظر ما سيأتي (ص: 197).
وإذا كان النظرُ في دليلٍ مُضِلٍّ والناظرُ يعتقدُ صحَّتَه، بأن تكون مقدِّمتاه أو إحداهما متضمنةً للباطل، أو تكون المقدِّمتان صحيحة
(1)
لكن التأليفَ ليس بمستقيم= فإنه يصيرُ في القلب بذلك اعتقادٌ فاسد، وهو غالبُ شبهات أهل الباطل المخالفين للكتاب والسُّنة من المتفلسفة والمتكلمين ونحوهم.
وإذا كان الناظرُ لا بدَّ له من منظورٍ فيه، فالنظرُ
(2)
في نفس المتصور المطلوب حكمه لا يفيدُ علمًا، بل ربما خَطَر له بسبب ذلك النظر أنواعٌ من الشبهات يحسبُها أدلةً، لفرطِ تعطُّش القلب إلى معرفة حكم تلك المسألة وتصديق ذلك التصوُّر.
وأما النظرُ المفيدُ للعلم فهو ما كان في دليل هادٍ، والدليلُ الهادي على العموم والإطلاق هو كتابُ الله وسنةُ نبيه، فإن الذي جاءت به الشريعةُ من نوعَي النظر هو ما يُفِيدُ وينفعُ ويُحَصِّلُ الهدى، وهو بذكر الله وما نَزَل من الحقِّ.
فإذا أراد النظرَ والاعتبارَ في الأدلة المطلقة من غير تعيين مطلوبٍ فذلك النظرُ في كتاب الله وتدبُّره، كما قال:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} الآية [المائدة: 16]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} إلى آخر السورة [الشورى: 52، 53].
(1)
كذا في الأصل. والجادة: صحيحتين.
(2)
الأصل: «والنظر» . وبالمثبت يستقيم السياق.
وأما النظرُ في مسألةٍ معيَّنةٍ وقضيَّةٍ معيَّنةٍ لطلب حُكْمِها والتصديق بالحقِّ فيها، والعبد لا يعرفُ ما يدلُّه على هذا أو هذا= فمجرَّدُ هذا النظر لا يفيد، بل قد يقعُ له تصديقاتٌ يَحْسِبُها حقًّا وهي باطلٌ وذلك من إلقاء الشيطان، وقد يقعُ له تصديقاتٌ تكون حقًّا وذلك من إلقاء المَلَك.
وكذلك إذا كان النظرُ في الدليل الهادي ــ وهو القرآن ــ فقد يضعُ الكَلِمَ مواضعَه ويفهمُ مقصودَ الدليل فيهتدي بالقرآن، وقد لا يفهمُه أو يحرِّفُ الكَلِمَ عن مواضعه فيَضِلُّ به، ويكونُ ذلك من الشيطان، كما قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]، وقال:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125]، وقال:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]، وقال:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 183].
فالناظرُ في الدليل بمنزلة المُتَرائي للهلال قد يراه وقد لا يراه لِعَشًى في بصره، وكذلك أعمى القلب.
وأما الناظرُ في المسألة، فهذا يحتاجُ إلى شيئين:
* إلى أن يظفرَ بالدليل الهادي.
* وإلى أن يهتديَ به وينتفع.
فأمَره الشرعُ بما يوجبُ أن يُنْزِل على قلبه الأسبابَ الهادية ويصرفَ عنه الأسبابَ المُعَوِّقة، وهو ذِكرُ الله تعالى، فإن الشيطان وسواسٌ خنَّاس، فإذا ذكر العبد ربَّه خَنَس، وإذا غفل عن ذكر الله وَسْوَس.
وذِكرُ الله يُعْطِي الإيمانَ، وهو أصلُ العلم
(1)
، والله سبحانه ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، وهو معلِّمُ كلِّ علمٍ وواهبُه، فكما أن نفسَه أصلٌ لكلِّ شيءٍ موجودٍ فذكرُه والعلمُ به أصلٌ لكلِّ علمٍ وذكرٍ في القلب.
والقرآنُ يُعْطِي العلمَ المفصَّلَ، فيزيدُ الإيمان، كما قال جُنْدُبُ بن عبد الله البَجَليُّ وغيرُه من الصحابة:«تعلَّمنا الإيمانَ، ثم تعلَّمنا القرآنَ، فازددنا إيمانًا»
(2)
.
ولهذا كان أولُ ما أنزلَ الله على نبيِّه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ، فأمرَه أن
(1)
الأصل: «أصل الإيمان» . والمثبت هو الصواب ويدل عليه السياق. وانظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 1، 4، 10/ 360). وفي (ط) تعليقًا: لعل الأولى «وهو أصل الهدى» ، [والمراد بنفسه] أي ذات الله تعالى المقدسة بأسمائه وصفاته وهو الذي خلق الأشياء وأعطاها كل ما يناسب خلقها.
(2)
أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 221) ، وابن ماجه (61) ، وعبد الله بن أحمد في «السنة» (799، 825) ، وابن عدي في «الكامل» (3/ 30) ، وغيرهم عن جندب رضي الله عنه ، وفي إسناده تفردٌ يغتفرُ مثله، وصححه البوصيري في «مصباح الزجاجة» (1/ 12).
وروي هذا المعنى عن ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه ابن منده في «الإيمان» (207) ، والحاكم (1/ 35) ، والبيهقي (3/ 120) وغيرهم بإسنادٍ حسن، وصححه ابن منده على رسم مسلم، والحاكم على شرط الشيخين.
يقرأ باسم الله، فتضمَّن هذا الأمرَ بذكر الله وما نَزَلَ من الحق، وقال:{بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 ــ 5] ، فذكَر سبحانه أنه خلقَ الأعيانَ الموجودة عمومًا وخصوصًا وهو الإنسان، وأنه المعلِّمُ للعلم عمومًا وخصوصًا للإنسان، وذكَر التعليمَ بالقلم الذي هو آخرُ المراتب ليستَلزِمَ تعليمَ القول وتعليمَ العلم الذي في القلب.
وحقيقةُ الأمر أن العبد مفتقرٌ إلى ما يسأله من العلم والهدى طالبٌ سائل، فبذكرِ الله والافتقار إليه يهديه الله ويدلُّه، كما قال:«يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستَهْدُوني أَهْدِكم»
(1)
، وكما كان صلى الله عليه وسلم يقول:«اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم»
(2)
.
ومما يوضح ذلك أن الطالبَ للعلم بالنظر والاستدلال والتفكُّر والتدبُّر لا يحصُل له ذلك إن لم ينظر في دليلٍ يفيدُه العلمَ بالمدلول عليه، ومتى كان العلمُ مستفادًا بالنظر فلا بدَّ أن يكون عند الناظر من العلم المذكور الثابت في قلبه ما لا يحتاجُ حصولُه إلى نظر، فيكونُ ذلك المعلومُ أصلًا وسببًا للتفكُّر الذي يطلبُ به معلومًا آخر.
(1)
أخرجه مسلم (2577).
(2)
أخرجه مسلم (770).
ولهذا كان الذكرُ متعلقًا بالله؛ لأنه سبحانه الحقُّ المعلوم، وكان التفكُّر في مخلوقاته، كما قال تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191]، وقد جاء الأثر:«تفكَّروا في المخلوق ولا تفكَّروا في الخالق»
(1)
؛ لأن التفكيرَ والتقديرَ يكونُ في الأمثال المضروبة والمقاييس، وذلك يكونُ في الأمور المتشابهة وهي المخلوقات، وأما الخالق ــ جل جلاله سبحانه وتعالى ــ فليس له شبيهٌ ولا نظير، فالتفكُّر الذي مبناه على القياس ممتنعٌ في حقِّه، وإنما هو معلومٌ بالفطرة، فيَذْكُره العبد.
وبالذكر وبما أخبر به عن نفسه يَحْصُل للعبد من العلم به أمورٌ عظيمة لا تُنال بمجرَّد التفكير والتقدير، أعني من العلم به نفسِه، فإنه الذي لا تفكير فيه، فأما العلمُ بمعاني ما أخبَر به ونحو ذلك فيدخلُ فيها التفكير والتقدير، كما جاء به الكتاب والسُّنة.
(1)
أخرجه بهذا اللفظ أبو الشيخ في «العظمة» (982) من حديث ابن عباس مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف. وروي بمعناه من وجوهٍ أخرى منكرةٍ لا يصحُّ منها شيء من حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما، وحسَّن الحديث بمجموعها الألباني في «الصحيحة» (1787)، وقال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (342):«أسانيدها كلها ضعيفة لكن اجتماعها يكتسبُ قوة» .
وأمثل ما في الباب ما أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 46) موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما بإسنادٍ ليِّن، وجوَّده ابن حجر في «الفتح» (13/ 383) ، ويشبه أن يكون هو أصل تلك الأخبار فرفعه الضعفاء وركَّبوا له الأسانيد.
ولهذا كان كثيرٌ من أرباب العبادة والتصوُّف يأمرون بملازمة الذكر، ويجعلون ذلك هو بابَ الوصول إلى الحق. وهذا حسنٌ إذا ضمُّوا إليه تدبُّر القرآن والسُّنة واتِّباع ذلك.
وكثيرٌ من أرباب النظر والكلام يأمرون بالتفكُّر والنظر، ويجعلون ذلك هو الطريقَ إلى معرفة الحق. والنظرُ صحيحٌ إذا كان في حقٍّ ودليلٍ، كما تقدَّم.
فكلٌّ من الطريقين فيها حقٌّ، لكن تحتاجُ إلى الحقِّ الذي في الأخرى، ويجبُ تنزيهُ كلٍّ منهما عمَّا دخل فيهما من الباطل، وذلك كلُّه باتباع ما جاءت به المرسلون، وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع، وبيَّنا طريقَ أهل العبادة والرياضة والذِّكر وطريقَ أهل الكلام والنظر والاستدلال، وما في كلٍّ منهما من مقبولٍ ومردود، وبيَّنا ما جاءت به الرسالةُ من الطريق الكاملة الجامعة لكلِّ حقٍّ، وليس هذا موضعُ بسط ذلك
(1)
.
وإنما المقصودُ هنا أن الإنسان يُحِسُّ
(2)
بأنه عالِمٌ ويجدُ ذلك ويعرفُه بغير واسطةِ أحدٍ كما يُحِسُّ بغير ذلك، وحصولُ العلم في القلب كحصول الطعام في الجسم، فالجسم يحسُّ بالطعام والشراب وكذلك القلوب تُحِسُّ بما ينزلُ إليها من العلوم التي هي طعامُها وشرابها، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إن
(1)
انظر: «الرد على الشاذلي» (28 - 35) ، و «منهاج السنة» (5/ 428، 429) ، و «درء التعارض» (5/ 350) ، و «مجموع الفتاوى» (2/ 54 - 93، 11/ 27، 13/ 101، 22/ 306) ، و «النبوات» (247، 336) ، و «الاستقامة» (1/ 220).
(2)
الأصل: «محس» . والوجه ما أثبت.
كلَّ آدِبٍ يحبُّ أن تؤتى مأدبتُه، وإن مأدُبةَ الله هي القرآن»
(1)
،
وكما قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد: 17].
وفي «الصحيحين»
(2)
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمَثَل غيثٍ أصابَ أرضًا، وكانت منها طائفةٌ قَبِلَت الماءَ فأنبتَت الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها طائفةٌ أمسَكَت الماءَ فسقى الناسُ وزَرَعُوا، وكانت منها طائفةٌ إنما هي قِيعَانٌ لا تُمْسِك ماءً ولا تُنْبِت كَلَأً، فذلك مَثَلُ مَن فَقُهَ في دين الله ونفَعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومَثَلُ من لم يَرْفَع بذلك رأسًا ولم يَقْبَل هدى الله الذي أُرْسِلْتُ به» .
فضَرَبَ مَثَلَ الهدى والعلم الذي ينزلُ على القلوب بالماء الذي ينزلُ على الأرض، وكما أن لله ملائكةً موكَّلةً بالسَّحاب والمطر فله ملائكةٌ موكَّلةٌ بالهدى والعلم، هذا رزقُ القلوب وقُوتُها، وهذا رزقُ الأجساد وقُوتُها.
(1)
أخرجه أحمد في «الزهد» (902) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا بإسناد فيه إرسال. ورواه ابن أبي شيبة (30630) والحاكم (1/ 555) وغيرهما من حديث ابن مسعود مرفوعًا في سياقٍ طويل بإسنادٍ ضعيف، وروي موقوفًا عند عبد الرزاق (6017) والدارمي (3358) وهو أشبه، وأشار إليه البيهقي في «الشعب» (1786) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 102).
وأخرجه البيهقي في «الشعب» (1857) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه بإسنادٍ شديد الضعف. انظر: «السلسلة الضعيفة» (2058).
(2)
صحيح البخاري (79) ومسلم (2282).
قال الحسن البصري في قوله [تعالى]: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] قال: «إن مِن أعظم النفقةِ نفقةَ العلم»
(1)
أو نحو هذا الكلام.
وفي أثرٍ آخر: «نِعمَت العطيةُ ونِعمَت الهديةُ الكلمةُ من الخير يَسْمَعُها الرجلُ فيُهدِيها إلى أخٍ له مسلم»
(2)
.
وفي أثرٍ آخر عن أبي الدرداء: «ما تصدَّق عبد بصدقةٍ أفضلَ من موعظةٍ يَعِظُ بها إخوانًا له مؤمنين، فيتفرَّقون وقد نفعهم الله بها»
(3)
أو ما يشبه هذا الكلام.
وعن كعب بن عُجْرة قال: «ألا أُهْدِي لك هديَّة؟» فذَكَر الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
لم أجده. وانظر: «مجموع الفتاوى» (29/ 186).
(2)
. أخرجه الطبراني في «الكبير» (12/ 43) عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف. وانظر: «مجمع الزوائد» (1/ 166) ، و «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 18)، و «السلسلة الضعيفة» (2038). وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 68):«يشبه أن يكون موقوفًا» .
وروي بإسنادٍ واهٍ من حديث زيد بن أسلم مرسلًا، أخرجه ابن المبارك (1386) وهناد (529) كلاهما في الزهد، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1311).
ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف جدًّا، أخرجه تمام في «الفوائد» (105 - الروض البسام).
(3)
. أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (47/ 169) ، وابن الجوزي في «القصَّاص والمذكرين» (171). ويُذْكَر من كلام عيسى بن مريم عليه السلام، أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 46) عن فرقد السبخي به.
(4)
. أخرجه البخاري (3370) ومسلم (406).
وروى ابنُ ماجه في سننه
(1)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضلُ الصَّدقة أن يتعلَّم الرجلُ علمًا ثم يعلِّمَه أخاه المسلم» .
وقال معاذ بن جبل: «عليكم بالعلم، فإن طلبَه عبادة، وتعلُّمَه لله خشية
(2)
، وبَذْلَه لأهله قُربة، وتعليمَه لمن لا يَعْلَمُه صدقة، والبحثَ عنه جهاد، ومُذاكرتَه تسبيح».
ولهذا كان معلِّمُ الخير يستغفرُ له كلُّ شيءٍ حتى الحِيتانُ في البحر، والله وملائكتُه يصلُّون على معلِّم الناس الخيرَ؛ لما في ذلك من عموم النفع لكلِّ شيء.
وعكسُه كاتمو العلم، فإنهم يلعنُهم الله ويلعنُهم اللاعنون، قال طائفةٌ من السَّلف:«إذا كَتَم الناسُ العلمَ، فعُمِلَ بالمعاصي، احتَبَس القَطْرُ، فتقولُ البهائم: اللهمَّ [العَن] عصاةَ بني آدم، فإنَّا مُنِعْنا القَطْرَ بسبب ذنوبهم»
(3)
.
(1)
. (243) من حديث الحسن عن أبي هريرة، والأشبه عدم سماعه منه، ثم إن الإسناد إليه ضعيف. وضعَّفه البوصيري في «مصباح الزجاجة» (1/ 35) ، وحسَّنه المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 54) فلم يصب. وروي بمعناه من حديث الحسن عن سمرة بإسنادٍ واهٍ عند الطبراني في «الكبير» (7/ 231).
ويروى عن الحسن مرسلًا، وهو أشبه، أخرجه أبو خيثمة في «العلم» (138) ، وابن المبارك في «الزهد» (1385) وفي مطبوعته تحريفٌ يصوَّب من «أخلاق العلماء» للآجري (45) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (782).
(2)
. الأصل: «حسنة» ، والمثبت أصحُّ وعليه أكثر المصادر، ويرد بالوجه الآخر في بعضها، وانظر:«إتحاف السادة المتقين» (1/ 121). والأثر تقدم تخريجه (ص: 52).
(3)
. روي لعنُ البهائم عصاةَ بني آدم لاحتباس القطر بسبب معاصيهم عن مجاهد وغيره في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . انظر: تفسير القرآن من «الجامع» لابن وهب (24) ، والتفسير من «سنن سعيد بن منصور» (236، 238) ، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 269) ، وتفسير ابن جرير (2/ 733).
وإذا كان علمُ الإنسان بكونه عالمًا مرجعُه إلى وجوده ذلك وإحساسه في نفسه بذلك، وهذا أمرٌ موجودٌ بالضرورة= لم يكن لهم
(1)
أن يخبروا عما في نفوس الناس بأنه ليس بعلمٍ بغير حجَّة، فإن عدمَ وجودهم مِن نفوسهم ذلك لا يقتضي أن الناسَ لم يجدوا ذلك، لا سيَّما إذا كان المُخْبِرون عن اليقين الذي في أنفسهم ممَّن لا يشكُّون في علمه وصدقه ومعرفته بما يقول.
وهذا حالُ أئمة المسلمين وسلف الأمة وحملة الحجَّة، فإنهم يخبرون بما عندهم من اليقين والطُّمأنينة والعلم الضروريِّ، كما في الحكاية المحفوظة عن نجم الدين الكُبْرى
(2)
لما دخل عليه متكلِّمان، أحدهما أبو عبد الله الرازي
(3)
، والآخر من متكلِّمي المعتزلة، وقالا: يا شيخ، بَلَغَنا أنك تَعْلَمُ علمَ اليقين، فقال: نعم أنا أعلمُ علمَ اليقين، فقالا: كيف يُمْكِنُ ذلك
(1)
. أي المتكلمين في قولهم المتقدم عن عوامِّ أهل السنة: إنهم جَزَموا بغير دليل وصمَّموا بغير حجَّة وإنما معهم التقليد.
(2)
. أبو الجنَّاب الصُّوفي. قال المصنف: هو من أجلِّ شيوخ خوارزم وأصحِّهم إسلامًا وأبعدهم عما يخالف الكتاب والسنة. استشهد على أيدي التتار سنة 618. انظر: «جامع المسائل» (4/ 393) ، و «تاريخ الإسلام» (13/ 537). له مصنفاتٌ كثيرة في التفسير والتصوف، طُبِع بعضها، وتنسبه الشيعةُ إليهم وهو منهم براء، ولم يحظ بدراسةٍ تليق به سوى ما كتبه يوسف زيدان في مقدمة تحقيقه لكتابه «فوائح الجمال وفواتح الجلال» ، ويستحقُّ أن يدرس منهجه وأثره في رسالة علمية.
(3)
. فخر الدين الرازي.
ونحن من أول النهار إلى الساعة نتناظرُ فلم يَقْدِرْ أحدُنا أن يقيم على الآخر دليلًا؟ ــ وأظنُّ الحكاية في تثبيت الإسلام
(1)
ــ ، فقال: ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلمُ علمَ اليقين، فقالا: صِفْ لنا علمَ اليقين، فقال: علمُ اليقين عندنا وارداتٌ تَرِدُ على النفوس تعجزُ النفوسُ عن ردِّها، فجَعَلا يقولان: وارداتٌ تَرِدُ على النفوس تعجزُ النفوسُ عن ردِّها! ويستحسنان هذا الجواب
(2)
.
وذلك لأن طريقَ أهل الكلام تقسيمُ العلوم إلى ضروريٍّ وكَسْبِيٍّ، أو بديهيٍّ ونظريٍّ.
فالنظريُّ الكسبيُّ لا بدَّ أن يُرَدَّ إلى مقدماتٍ ضروريةٍ أو بديهية، فتلك لا تحتاجُ إلى دليل، وإلا لزم الدَّورُ أو التسلسل. والعلمُ الضروريُّ هو الذي يَلْزَمُ نفسَ المخلوق لزومًا لا يمكنُه الانفكاكُ عنه، فالمرجعُ في كونه ضروريًّا إلى أنه يَعْجَزُ عن دفعه عن نفسه.
فأخبر الشيخُ أن علومَهم ضرورية، وأنها تَرِدُ على النفوس على وجهٍ تَعْجَزُ عن دفعه، فقالا له: ما الطريقُ إلى ذلك؟ فقال: تتركان ما أنتما فيه، وتَسْلُكان ما آمركما به من الذكر والعبادة، فقال الرازي: أنا مشغولٌ عن هذا،
(1)
. ذكر الذهبيُّ أنها في معرفة الله وتوحيده. «السير» (22/ 112).
(2)
. انظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 76، 13/ 69) ، و «العواصم والقواصم» لابن الوزير (3/ 425). وذكر المصنف في «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 183) و «درء التعارض» (7/ 430) أنه رأى الحكاية بخط القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي، وقال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (13/ 538):«هذه حكايةٌ حكاها لنا الشيخ أبو الحسين اليونيني» .
وقال المعتزلي: أنا قد احتَرق قلبي بالشُّبهات وأُحِبُّ هذه الواردات، فلزم الشيخَ مدةً ثم خرج من محلِّ عبادته وهو يقول: والله يا سيدي ما الحقُّ إلا فيما تقوله هؤلاء المشبِّهة! يعني المثبتين للصفات؛ فإن المعتزلة يسمُّون الصِّفاتية مشبِّهةً. وذلك أنه عَلِمَ علمًا ضروريًّا لا يمكنه دفعُه عن قلبه أنَّ صانعَ العالَم لا بدَّ أن يتميَّز عن العالَم ويكون بائنًا منه له صفاتٌ تختصُّ به، وأن هذا الربَّ الذي تصفُه الجهميةُ إنما هو عدمٌ محض.
وهذا موضعُ الحكاية المشهورة
(1)
عن الشَّيخ العارف أبي جعفر الهمَذاني
(2)
لأبي المعالي الجويني لما أخذ يقولُ على المنبر: كان الله ولا عرش، فقال: يا أستاذ، دَعْنا مِن ذكر العرش ــ يعني: لأن ذلك إنما جاء في السَّمع ــ، أخبِرنا عن هذه الضرورة التي نجدُها في قلوبنا، فإنه ما قال عارفٌ قطُّ:«يا الله» إلا وجدَ من قلبه ضرورةً تطلبُ العلوَّ لا تلتفتُ يمنةً ولا يَسْرة، فكيف ندفعُ هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطَمَ أبو المعالي على رأسه، وقال: حيَّرني الهمذاني! حيَّرني الهمذاني! ونَزَل.
(1)
. رواها الحافظان محمد بن طاهر المقدسي وأبو العلاء العطار عن أبي جعفر، وهوَّل التاج السبكي في إنكارها ولم يأت ببرهان. انظر:«منهاج السنة» (2/ 642) ، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 50، 54، 4/ 518) ، و «الاستقامة» (1/ 167) ، و «مجموع الفتاوى» (3/ 220) ، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» (275) ، و «العلو» (582) ، و «تاريخ الإسلام» (10/ 427) ، و «السير» (18/ 474، 20/ 102) ، و «مختصر العلو» للألباني (277) ، و «طبقات الشافعية» (5/ 190).
(2)
. محمد بن الحسن، المحدث الحافظ، من أئمة السنة ومشايخ الصوفية (ت: 531). «تاريخ الإسلام» (11/ 554) ، و «السير» (20/ 101).
وذلك لأن نفسَ استوائه على العرش بعد أن خلقَ السموات والأرض في ستة أيامٍ عُلِمَ بالسَّمع الذي جاءت به الرسلُ كما أخبَر به في القرآن والتوراة، وأما كونه عاليًا على مخلوقاته بائنًا منهم فهذا أمرٌ معلومٌ بالفطرة الضرورية التي يشتركُ فيها بنو آدم، وكلُّ من كان بالله أعرف، وله أعبَد، ودعاؤه له أكثر، وقلبُه له أذكَر
(1)
= كان علمُه الضروريُّ بذلك أقوى وأكمل، فالفطرةُ مكمَّلةٌ بالشِّرْعَة
(2)
المنزَّلة؛ إذ الفطرة تَعْلَمُ الأمرَ مجملًا والشِّرعة تفصِّلُه وتبيِّنه وتتمِّمه بما لا تستقلُّ الفطرةُ به، فهذا هذا. والله أعلم.
والحاصلُ أن كلَّ من استحكَم في بدعته يرى أن يطرُد قياسَه؛ لما فيه من التسوية بين المتماثلَيْن عنده، وإن استلزَم ذلك كثرةَ مخالفة النصوص. وهذا موجودٌ في المسائل العلمية الخَبرية والمسائل العملية الإرادية، تجدُ المتكلمَ قد يَطْرُدُ قياسَه طردًا مستمرًّا، فيكونُ ظاهرَ الأمر أجودَ ممَّن نقَضَه، وتجدُ المُسْتَنَّ الذي شَرِكَه في ذلك القياس قد يقولُ ما يناقِضُ ذلك القياس في مواضع، مع استشعار التناقض تارةً، وبدون استشعاره وهو الأغلب، وربما يَخِيلُ بفروقٍ ضعيفة، فهو في نقض علَّته والتفريق بين المتماثلَيْن فيما يظهر أنه دون الأول في العلم والخبرة وطَرْدِ القول، وليس كذلك، بل هو خيرٌ من الأول؛ فإن ذلك القياس الذي اشتركا فيه كان فاسدًا في أصله لمخالفة النصِّ والقياس الصحيح، فالذي طَرَده أكثرُ فسادًا وتناقضًا من هذا
(1)
. الأصل: «وله أعبد ودعاءه له وقلبه له اكثر واكثر» . والمثبت من (ط) حسن.
(2)
. الأصل: «بالفطرة» . وهو من سهو الناسخ. وانظر: «الصفدية» (2/ 157) ، و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 471) ، و «درء التعارض» (8/ 238، 10/ 277) ، و «مجموع الفتاوى» (10/ 146، 13/ 167، 16/ 348).
الذي نقَضَه.
وهذا شأنُ كلِّ من وافق غيرَه على قياسٍ ليس هو في نفس الأمر بحقٍّ، وكان لأحدهما
(1)
من النصوص في مواضع ما يخالفُ ذلك القياس، وهذا يسمِّيه الفقهاءُ في مواضعَ كثيرة: الاستحسان
(2)
، فتجدُ القائلين بالاستحسان الذي تركوا فيه القياسَ لنصٍّ خيرًا من الذين طَرَدُوا القياسَ وتركوا النصَّ.
ولهذا يروى عن أبي حنيفة أنه قال: «لا تأخذوا بمقاييس زُفَر، فإنكم إن أخذتم بمقاييسه حرَّمتم الحلالَ وحلَّلتم الحرام»
(3)
، فإن زُفَر كان كثيرَ الطَّرد لما يظنُّه من القياس مع قلَّة علمه بالنصوص
(4)
.
(1)
. الأصل: «أحدهما» . والمثبت أقوم بالصواب.
(2)
. انظر: «جامع المسائل» (2/ 143، 163 - قاعدة في الاستحسان).
(3)
. لم أقف عليه، ولم يذكره الكوثري في «لمحات النظر في سيرة الإمام زفر» على شدة تقصيه وسعة اطلاعه، ولا إخاله يصح، وثناء أبي حنيفة على زفر مستفيض، وكان يقول:«هو أقيسُ أصحابي» .
وأخرج ابن قتيبة في «مختلف الحديث» (110) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1697) عن الشعبي قال: «إياكم والقياس، فإنكم إن أخذتم به حرمتم الحلال وأحللتم الحرام» فهل سبق ذهنُ المصنف إلى هذا؟ ونقل ابن تيمية كذلك (في المصادر التالية) عن أبي حنيفة قوله: «قياس زفر أقبح من البول في المسجد» ، والمرويُّ في «المعرفة والتاريخ» ليعقوب بن سفيان (1/ 673) ومن طريقه البيهقي في «المدخل إلى السنن» (243): «من القياس قياسٌ أقبح
…
» دون ذكر زفر.
(4)
. انظر: «جامع المسائل» (3/ 413) ، و «مجموع الفتاوى» (34/ 124) ، و «مختصر الفتاوى المصرية» (624) ، و «زاد المعاد» (5/ 399).
وفيما ذُكِر من قلة علم زفر بالنصوص نظر، فقد سمع الحديث من طائفة، وإنما لم تتسع الرواية عنه لأنه مات في الكهولة قبل أوان الرواية كما يقول الذهبي في «السير» (8/ 39)، وقال:«كان يدري الحديثَ ويتقنُه» ، ونقل عن أبي نعيم الفضل بن دكين: كنت أمرُّ على زفر فيقول: تعال حتى أغربل لك ما سمعتَ. وذكره شيخ الصنعة يحيى بن معين فقال: «ثقة مأمون» . وقال ابن حبان في «الثقات» (6/ 339): «كان متقنًا حافظًا قليل الخطأ، لم يسلك مسلك صاحبه في قلة التيقُّظ في الروايات» . وناضل دونه ابن قطلوبغا في «الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة» (4/ 313).
وكان أبو يوسف نظرُه
(1)
بالعكس، كان أعلمَ بالحديث منه.
ولهذا توجدُ المسائلُ التي خالفَ فيها زُفَرُ أصحابَه عامَّتُها قياسيَّة
(2)
، ولا يكونُ إلا قياسًا ضعيفًا عند التأمُّل، وتوجدُ المسائلُ التي يخالفُ فيها أبو يوسف أبا حنيفة واتَّبعه محمدٌ
(3)
عليها عامَّتُها اتبع فيها النصوصَ والأقيسةَ الصحيحة؛ لأن أبا يوسف رَحَل بعد موت أبي حنيفة إلى الحجاز، واستفاد من عِلْم السُّنن التي كانت عندهم ما لم تكن مشهورةً بالكوفة، وكان يقول:«لو رأى صاحبي ما رأيتُ لرجعَ كما رجعتُ»
(4)
؛ لعلمه بأن صاحبَه ما كان يقصدُ إلا اتباعَ الشريعة، لكن قد يكونُ عند غيره من عِلْم السُّنن ما لم يَبْلُغْه.
وهذا أيضًا حالُ كثيرٍ من الفقهاء بعضهم مع بعضٍ فيما وافقوه عليه من قياسٍ لم تثبت صحتُه بالأدلة المعتمدة، فإن الموافقة فيه تُوجِبُ طردَه، ثم
(1)
. كذا بالأصل، وهو مستقيم، ويجوز أن تكون: نظيره.
(2)
. انظر بعض الأصول التي خالف فيها زفرُ أصحابَه في «تأسيس النظر» (38 - 47).
(3)
. محمد بن الحسن الشيباني.
(4)
. انظر: «السنن الكبرى» للبيهقي (4/ 171) ، ومختصر «اختلاف العلماء للطحاوي» للجصاص (4/ 158).
أهل النصوص قد ينقضونه، والذين لا يعلمون النصوصَ يَطْرُدونه.
وكذلك هذه حالُ أكثر متكلِّمة أهل الإثبات مع متكلِّمة النفاة في مسائل الصِّفات والقَدَر وغير ذلك، قد يوافقونهم على قياسٍ فيه نفيٌ، ثم يَطْرُده أولئك فينفُون به ما أثبتته النصوص، والمُثْبِتةُ لا تفعل ذلك، بل لا بدَّ من القول بموجَب النصوص، فربما قالوا ببعض معناها وربما فرَّقوا بفرقٍ ضعيف، وأصلُ ذلك موافقةُ أولئك على القياس الضعيف، وذلك في مثل مسائل الجسم والجوهر وغير ذلك
(1)
.
وهكذا تجدُ هذا حالَ من أعان ظالمًا في الأفعال، فإن الأفعالَ لا تقعُ إلا عن إرادة، فالظالم يَطْرُد إرادتَه فيصيبُ من أعانه، أو يصيبُ ظلمًا لا يختارُه هذا، فيريدُ المُعِينُ أن ينقُض الطَّردَ ويخُصَّ علَّته، ولهذا يقال: من أعان ظالمًا بُلِيَ به
(2)
.
وهذا عامٌّ في جميع الظَّلمة من أهل الأقوال والأعمال وأهل البدع
(1)
. انظر: «درء التعارض» (2/ 201) ، و «منهاج السنة» (2/ 331) ، و «مجموع الفتاوى» (13/ 304).
(2)
. الأصل في هذا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وقوله:{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} . انظر: تفسير القرطبي (7/ 85) ، و «الأمثال الكامنة في القرآن» للحسين بن الفضل (33) ، و «بدائع السلك» لابن الأزرق (2/ 97) ، و «مجموع الفتاوى» (28/ 465) ، و «البداية والنهاية» (17/ 458). ويروى في ذلك حديثٌ مرفوعٌ لا يصح، أخرجه ابن عساكر (34/ 4)، وانظر:«المقاصد الحسنة» (1063) ، و «السلسلة الضعيفة» (1937).
والفُجور. وكلُّ من خالف الكتاب والسُّنن من خبرٍ أو أمرٍ أو عملٍ فهو ظالم، فإن الله أرسل رسلَه ليقوم الناسُ بالقِسْط، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم أفضلهم، وقد بيَّن الله له من القِسْط ما لم يبيِّنه لغيره، وأقدَره منه على ما لم يُقْدِرْ عليه غيرَه، فصار يفعلُ ويأمرُ بما لا يأمرُ به غيرُه ويفعلُه.
وذلك أن بني آدم في كثيرٍ من المواضع قد لا يعلمون حقيقةَ القِسْط ولا يَقْدِرُون على فعله، بل ما كان إليه أقربَ وبه أشبهَ كان أمثَل، وهي الطريقةُ المثلى، وقد بسطنا هذا في مواضع
(1)
.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتكم بأمرٍ فائتوا منه ما استطعتم»
(2)
.
والمقصود أن ما عند عوامِّ المؤمنين وعلمائهم أهل السُّنة والجماعة من المعرفة، واليقين، والطمأنينة، والجَزْم الحقِّ، والقول الثابت، والقطع بما هم عليه= أمرٌ لا ينازِعُ فيه إلا من سلبه الله العقلَ والدين.
وهَبْ أن المخالفَ لا يُسَلِّمُ ذلك، فلا ريبَ أنهم يُخْبِرُون عن أنفسهم بذلك، ويقولون: إنهم يَجِدُون ذلك، وهو وطائفتُه يُخْبِرُون بضدِّ ذلك ولا يَجِدُون عندهم إلا الرَّيب.
(1)
. انظر: «الاستقامة» (1/ 435) ، و «جامع المسائل» (2/ 259) ، و «مجموع الفتاوى» (10/ 99، 18/ 167، 22/ 132).
(2)
. أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337).
فأيُّ الطائفتين أحقُّ بأن يكون كلامها [موصوفًا]
(1)
بالحشو، أو يكونون أولى بالجهل والضلال والإفك والمُحال؟!
وكلام المشايخ والأئمة من أهل السُّنة والفقه والمعرفة في هذا الباب أعظمُ من أن نطيل به الخطاب.
الوجه الثاني
(2)
: أنك تجدُ أهلَ الكلام أكثرَ الناس انتقالًا من قولٍ إلى قول، وجزمًا بالقول في موضعٍ وجزمًا بنقيضه وتكفير قائله في موضعٍ آخر، وهذا دليلُ عدم اليقين؛ فإن الإيمانَ كما قال فيه قيصرُ لما سأل أبا سفيان عمَّن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم:«هل يرجعُ أحدٌ منهم عن دينه سَخْطةً له بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا. قال: وكذلك الإيمانُ إذا خالط بشاشتُه القلوبَ لا يَسْخَطُه أحد»
(3)
.
ولهذا قال بعض السَّلف ــ عمرُ بن عبد العزيز أو غيرُه ــ: «من جعَل دينَه غَرَضًا للخصومات أكثَر التنقُّل»
(4)
.
وأما أهل السُّنة والحديث فما يُعْلَمُ أحدٌ من علمائهم ولا صالح عامَّتهم
(1)
. زيادة تقديرية من (ط، ف) لالتئام السياق.
(2)
. من وجوه إثبات أن المتكلمين والفلاسفة من أعظم بني آدم حَشْوًا وقولًا للباطل وتكذيبًا للحقِّ في مسائلهم ودلائلهم. وسبق الوجه الأول (ص: 41).
(3)
. أخرجه البخاري (7) ومسلم (1773).
(4)
. أخرجه مالك في «الموطأ» (918 - رواية محمد بن الحسن) ، والدارمي (312) ، وابن أبي الدنيا في «الصمت» (161) ، والفريابي في «القدر» (384) ، وغيرهم عن عمر بن عبد العزيز من وجوه صحاح.
رجعَ قطُّ عن قوله واعتقاده، بل هم أعظمُ الناس صبرًا على ذلك، وإن امتُحِنوا بأنواع المِحَن وفُتِنوا بأنواع الفتن.
وهذه حالُ الأنبياء وأتباعِهم من المتقدِّمين
(1)
كأهل الأخدود ونحوهم، وكسَلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة.
حتى كان مالك رحمه الله يقول: «لا تَغْبِطُوا أحدًا لم يُصِبْه في هذا الأمر بلاء»
(2)
، يقول: إن الله لا بدَّ أن يبتلي المؤمن، فإن صبَر رفع درجتَه
(3)
، كما قال تعالى:{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ــ 3]، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وقال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].
ومَن صبَر من أهل الأهواء على قوله فذاك لما فيه من الحقِّ؛ إذ لا بدَّ في
(1)
. الأصل: «من الأنبياء المتقدمين» .
(2)
. أخرجه يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1/ 474، 660) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (38/ 343)، وأبو العرب التميمي في «المحن» (297) عن مالك عن عمر بن عبد العزيز قال: «ما أغبط أحدًا
…
». وانظر: «ترتيب المدارك» (2/ 134).
(3)
. انظر: «البيان والتحصيل» (18/ 368).
كلِّ بدعةٍ عليها طائفةٌ كبيرةٌ من الناس أن يكون فيها من الحقِّ الذي جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ويوافقُ عليه أهلُ السُّنة والحديث ما يوجبُ قبولها؛ إذ الباطلُ المحضُ لا يُقْبَل بحال.
وبالجملة، فالثباتُ والاستقرارُ في أهل الحديث والسُّنة أضعافُ أضعافِ أضعافِ ما هو عند أهل الكلام والفلسفة، بل المتفلسِفُ أعظمُ اضطرابًا وحيرةً في أمره من المتكلِّم؛ لأن عند المتكلِّم من الحقِّ الذي تلقَّاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسِف، ولهذا تجدُ مثل أبي الحسين البصري
(1)
وأمثاله أثبتَ من مثل ابن سينا وأمثاله.
وأيضًا تجدُ أهلَ الفلسفة والكلام أعظمَ الناس افتراقًا واختلافًا، مع دعوى كلٍّ منهم أن الذي يقوله حقٌّ مقطوعٌ به قام عليه البرهان.
وأهل السُّنة والحديث أعظم الناس اتفاقًا وائتلافًا، وكلُّ من كان من الطوائف إليهم أقربَ كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب.
فالمعتزلة أكثرُ اتفاقًا وائتلافًا من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوَّات ــ بل وفي الطبيعيات والرياضيات وصفات الأفلاك ــ من الأقوال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، وقد ذَكَر من جَمَع مقالاتِ الأوائل مثل أبي الحسن الأشعري في كتاب «المقالات»
(2)
ومثل القاضي أبي بكر في
(1)
. محمد بن علي بن الطيب، شيخ المعتزلة (ت: 436). «السير» (17/ 587).
(2)
. مقالات غير الإسلاميين وهو كتابه الكبير في المقالات. انظر: «الرد على المنطقيين» (334) ، و «درء التعارض» (1/ 158) ، و «الصفدية» (2/ 294) ، و «منهاج السنة» (5/ 283). ولم يعثر عليه بعد.
كتاب «الدقائق»
(1)
من مقالاتهم بقدر ما يذكرُه الفارابيُّ وابنُ سينا وأمثالهما أضعافًا مضاعفة.
وأهل الإثبات من المتكلِّمين ــ مثل الكُلَّابية والكَرَّامية والأشعرية ــ أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المعتزلة، فإن في المعتزلة من الاختلاف وتكفير بعضهم بعضًا ــ حتى يكفِّر التلميذُ أستاذَه ــ من جنس ما بين الخوارج، وقد ذكر من صنَّف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطولُ وصفُه
(2)
.
ولستَ تجدُ اتفاقًا وائتلافًا إلا بسبب أثارَة
(3)
الأنبياء من القرآن
(1)
. ردَّ فيه على الفلاسفة كثيرًا من مذاهبهم الفاسدة في الأفلاك والنجوم وغيرها، ورجَّح منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان. انظر: المصادر السابقة، وما سيأتي (ص: 323). ولم يعثر عليه كذلك.
(2)
. انظر: «الفَرْق بين الفِرَق» لأبي منصور البغدادي (24، 114، 122، 182، 186، 187، 197) ، ومن مصادره فيه وفي كتابه الآخر «فضائح المعتزلة» كتابُ «فضيحة المعتزلة» لابن الراوندي الذي نقض فيه كتاب الجاحظ «فضيلة المعتزلة» وردَّ عليه أبو الحسين الخياط في «الانتصار» وغيره.
وممن له مقامٌ معلوم في هذا الباب أبو الحسن الأشعري، قال ابن تيمية: «فإنه بيَّن من فضائح المعتزلة وتناقض أقوالهم وفسادهم ما لم يبيِّنه غيره
…
». انظر: «منهاج السنة» (5/ 276) ، و «التسعينية» (960) ، و «شرح حديث النزول» (434).
(3)
. كذا بالأصل، وغُيِّرت في (ط) إلى «اتباع آثار» . واستعمال الأثارة بمعنى المأثور والآثار في هذا السياق كثيرٌ في كتب المصنف، كما قال تعالى:{ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . انظر: «الواسطية» (102) ، و «جامع المسائل» (5/ 60، 61) ، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 523، 2/ 458) ، و «مجموع الفتاوى» (12/ 33، 20/ 426)، وما سيأتي (ص: 196).
والحديث وما يتبعُ ذلك، ولا تجد افتراقًا واختلافًا إلا عند من ترك ذلك وقدَّم غيرَه عليه.
وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] ، فأخبَر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهلُ الرحمة هم أتباعُ الأنبياء قولًا وفعلًا، وهم أهلُ القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيءٍ فاته من الرحمة بقَدْر ذلك.
ولهذا لما كانت الفلاسفةُ أبعدَ عن اتِّباع الأنبياء كانوا أعظمَ اختلافًا، والخوارجُ والمعتزلةُ والروافضُ لما كانوا أيضًا أبعدَ عن السُّنة والحديث كانوا أعظم افتراقًا في هذه، لاسيَّما الرافضة، فإنه يقال: إنهم أعظمُ الطوائف اختلافًا
(1)
، وذلك لأنهم أبعدُ الطوائف عن السُّنة والجماعة، بخلاف المعتزلة فإنهم أقربُ إلى ذلك منهم، وكذلك الخوارجُ أقرب إلى ذلك منهم.
وأبو محمد بن قتيبة في أول كتاب «مختلف الحديث»
(2)
لمَّا ذَكَر أهلَ الحديث وأئمَّتهم وأهلَ الكلام وأئمَّتهم قفَّى بذِكْر أئمَّة هؤلاء ووَصَفَ أقوالهم وأعمالهم ووَصَفَ أئمَّة هؤلاء وأقوالهم وأفعالهم، بما يبيِّن لكلِّ أحدٍ أن أهلَ الحديث هم أهلُ الحقِّ والهدى، وأن غيرهم أولى بالضلال والجهل والحَشْو والباطل.
(1)
. انظر: «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (124) ، و «درء التعارض» (1/ 157) ، و «منهاج السنة» (3/ 468، 469، 484، 6/ 311، 390) ، و «الرد على المنطقيين» (334).
(2)
. (65 - 142).
وأيضًا، فالمخالفون لأهل الحديث هم مَظِنَّةُ فسادِ الأعمال، إما عن سوء عقيدةٍ ونفاق، وإما عن مرضٍ في القلب وضعفِ إيمان، ففيهم مِن تَرْكِ الواجبات واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب ما هو ظاهرٌ لكلِّ أحد، وعامةُ شيوخهم يُرْمَون بالعظائم
(1)
، وإن كان فيهم من هو معروفٌ بزهدٍ وعبادةٍ ففي زهدِ بعض العامة من أهل السُّنة وعبادته ما هو أرجحُ مما هو فيه.
ومن المعلوم أن العلمَ أصلُ العمل، وصحةُ الأصول تُوجِبُ صحةَ الفروع، والرجلُ لا يَصْدُر عنه فسادُ العمل إلا لشيئين: إما لحاجةٍ وإما لجهل، فأما العالِمُ بقُبح الشيء الغنيُّ عنه فلا يفعلُه، اللهم إلا من غَلَبَ عقلَه هواه واستولت عليه المعاصي، فذاك لونٌ آخرُ وضربٌ ثانٍ.
وأيضًا، فإنه لا يُعْرَفُ من أهل الكلام أحدٌ إلا وله في الإسلام مقالةٌ يكفِّرُ قائلَها عمومُ المسلمين حتى أصحابُه، وفي التعميم ما يُغْنِي عن التعيين، فأيُّ فريقٍ أحقُّ بالحَشْو والضلال من هؤلاء؟!
وذلك يقتضي وجودَ الرِّدَّة فيهم، كما يوجدُ النفاقُ فيهم كثيرًا.
وهذا إذا كان في المقالات الخفيَّة فقد يقال: إنه فيها مخطئٌ ضالٌّ لم تَقُم عليه الحجةُ التي يَكْفُر صاحبُها
(2)
، لكنَّ ذلك يقعُ في طوائفَ منهم في
(1)
. ذكر ابن قتيبة في كتابه (66، 94، 99، 112) نُبذًا من ذلك.
(2)
. هذا الموضع كثير الدوران في كتب أئمة الدعوة النجدية رحمهم الله، وهو من أهمِّ ما يُسْتَدلُّ به على نسبة القول بالتفريق بين المسائل الخفية والظاهرة في باب الإعذار بالجهل إلى ابن تيمية. والظاهر لمن تأمل قواعد أبي العباس وأصوله وجمع متفرق كلامه أن المعتبر عنده في العذر تحقُّقُ وصف الجهل في المعيَّن وعدم قيام الحجة الرسالية عليه، دون تفريق بين المسائل العلمية والعملية في أصول الدين وفروعه، وأن الظهور والخفاء عنده من الأمور النسبية التي تختلفُ باختلاف مدارك الناس وأزمانهم وبلدانهم، فلا يصحُّ تعليق العذر بها. وانظر لتوجيه هذا النص وتحرير مذهب شيخ الإسلام كتاب «إشكالية الإعذار بالجهل في البحث العقدي» لسلطان العميري (40 - 53، 319 - 341).
الأمور الظاهرة التي يعلمُ العامَّة والخاصَّة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهودُ والنصارى يعلمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعِثَ بها وكفَّر مخالفَها، مثلُ أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحدٍ سوى الله من الملائكة والنبيِّين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهرُ شعائر الإسلام، ومثلُ أمره بالصلوات الخمس وإيجابه لها وتعظيم شأنها، ومثلُ معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثلُ تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك.
ثم تجدُ كثيرًا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور
(1)
، فكانوا مرتدِّين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى الإسلام، كرؤوس العشائر مثل الأقرع بن حابِس وعُيينة بن حِصْن ونحوهم ممن ارتدَّ عن الإسلام ثم دخَل فيه، ففيهم من كان يتَّهمُ بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك.
أو يقال: هُم لما فيهم من العلم يُشَبَّهون بعبد الله بن أبي سَرْحٍ الذي كان كاتبَ الوحي، فارتدَّ ولحق بالمشركين، فأهدرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم دمَه عام الفتح، ثم أتى به عثمانُ إليه فبايعَه على الإسلام
(2)
.
(1)
. الأصل: «وقعوا في عظائم حرفوا بها الشريعة» . ووضع الناسخ فوقها حـ ممدودة، وكتب فوقها العبارة التي أثبتُّ في المتن، وانظر ما مضى (ص: 36).
(2)
. أخرجه أبو داود (2683) والنسائي (4067) وغيرهما، وصححه الحاكم (3/ 45) على شرط مسلم ولم يتعقبه الذهبي، وخرَّجه الضياء في المختارة (1054، 1055) ، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» (7/ 449).
فمن صنَّف في مذهب المشركين ونحوهم أحسنُ أحواله أن يكون أسْلَم
(1)
.
فكثيرٌ من رؤوس هؤلاء هكذا تجدُه تارةً يرتدُّ عن الإسلام ردَّةً صريحة، وتارةً يعودُ إليه مع مرضٍ في قلبه ونفاق، وقد يكونُ له حالٌ ثالثةٌ يَغْلِبُ الإيمانُ فيها النفاقَ، لكن قلَّ أن يَسْلَمُوا مِن نوع نفاق، والحكاياتُ عنهم بذلك مشهورة، وقد ذكر ابنُ قتيبة من ذلك طرفًا في أول «مختلف الحديث»
(2)
، فقد حُكِيَ عن الجهم بن صفوان أنه ترك الصلاة أربعين يومًا لا يرى وجوبها
(3)
، وحكى أهلُ المقالات بعضُهم عن بعضٍ من ذلك طرفًا، كما يذكرُه أبو عيسى الورَّاق
(4)
، والنَّوْبَخْتي
(5)
، وأبو الحسن الأشعري،
(1)
. أي عاد إلى الإسلام. وفي (ط): «أن يكون مسلما» ، وهو مفسد للمعنى. والمقصود بهذا الرازي كما سيأتي.
(2)
. (66، 94، 99، 112).
(3)
. أخرج الحكاية عبد الله بن أحمد في «السنة» (189) ، والخلال في «السنة» (1679، 1688) ، واللالكائي (630) ، وابن بطه في «الإبانة» (6/ 89، 94) ، وغيرهم.
(4)
. محمد بن هارون (ت: 247) ، كان من أئمة الاعتزال ثم مال إلى الرفض، واتُّهِم بالزندقة، له كتاب مشهور في المقالات، قال ابن تيمية:«هو من المصنفين للرافضة المتهمين في كثير مما ينقلونه» . انظر: «الفهرست» (2/ 600) ، و «مروج الذهب» (4/ 105) ، و «منهاج السنة» (6/ 301) ، و «تاريخ الإسلام» (5/ 1249) ، و «طريق الهجرتين» (333) ، و «لسان الميزان» (7/ 559) ، و «أعيان الشيعة» (47/ 105).
(5)
. الحسن بن موسى (ت: 300) ، متكلمٌ فيلسوفٌ تدعيه الشيعة والمعتزلة، له كتاب «الآراء والديانات» ، ونُشِر له كتاب «فرق الشيعة». انظر:«الفهرست» (2/ 636) ، و «منهاج السنة» (1/ 72) ، و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 559) ، و «تاريخ الإسلام» (7/ 179) ، و «الوافي» (12/ 280) ، و «لسان الميزان» (3/ 126) ، و «أعيان الشيعة» (23/ 333).
والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، وأبو عبد الله الشَّهْرَستاني، وغيرُهم ممَّن يذكُر مقالاتِ أهل الكلام.
وأبلغُ من ذلك أن منهم من يصنِّفُ في دين المشركين والردَّة عن الإسلام، كما صنَّف الرازيُّ كتابه في عبادة الكواكب والأصنام
(1)
، وأقام الأدلة على حُسْن ذلك ومنفعته، ورغَّب فيه، وهذه ردَّةٌ عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكونُ عاد إلى الإسلام.
ومن العجب أن أهلَ الكلام يزعمون أن أهلَ الحديث والسُّنة أهلُ
(1)
. المسمى بـ «السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم» ، وأنكر السبكيُّ نسبته إليه دون بينة، وهو بأسلوبه أشبه، وقد أحال عليه في كتبه، وقيل: إنه صنفه على وجه إظهار الفضيلة لا على سبيل الاعتقاد، ولزين الدين الملطي (ت: 788) في الرد عليه: «انقضاض البازي في انفضاض الرازي» . نسخه الخطية كثيرة وطبع في الهند طبعة حجرية. انظر: «درء التعارض» (1/ 111، 311، 2/ 113) ، و «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 53) ، و «الرد على المنطقيين» (286، 544) ، و «مجموع الفتاوى» (5/ 548، 13/ 180، 16/ 213) ، و «ميزان الاعتدال» (3/ 340) ، و «طبقات الشافعية» لابن السبكي (8/ 87) ، ولابن قاضي شهبة (2/ 67) ، و «تفسير ابن كثير» (1/ 541) ، و «طبقات الشافعية» له (779) ، و «كشف الظنون» (989) ، و «الفوائد البهية» للكنوي (192) ، و «فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية» للزركان (52، 109 - 111) ، و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (2/ 666).
تقليدٍ ليسوا أهلَ نظرٍ واستدلال، وأنهم ينكرون حجَّة العقل، وربما حَكَوا إنكار النظر
(1)
عن بعض أئمة السُّنة، وهذا مما ينكرونه عليهم.
فيقال لهم: ليس هذا بحقٍّ، فإن أهل السُّنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصلٌ متفقٌ عليه بينهم، والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكُّر والتدبُّر في غير آية، ولا يُعْرَفُ عن أحدٍ من سلف الأمة ولا أئمة السُّنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلُّهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعةُ من النظر والتفكُّر والاعتبار والتدبُّر وغير ذلك، ولكن وقعَ اشتراكٌ في لفظ «النظر والاستدلال» ولفظ «الكلام»
(2)
، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطلِ نظرِهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزِمٌ لإنكار جنس النظر والاستدلال!
وهذا كما أن كلَّ طائفةٍ من أهل الكلام يسمِّي ما وضعَه «أصول الدين» ، وهذا اسمٌ عظيم، والمسمَّى فيه من فساد الدين ما الله به عليم
(3)
، فإذا أنكر أهلُ الحقِّ والسُّنة ذلك قال المُبْطِل: قد أنكروا أصولَ الدين! وهم لم يُنكِروا ما يستحقُّ أن يسمَّى «أصول الدين» ، وإنما أنكروا ما سمَّاه هذا «أصول الدين» ، وهي أسماءٌ سمَّوْها هم وآباؤهم
(4)
ما أنزل الله بها من
(1)
. الأصل: «الضرر» . تحريف ظاهر، نبه عليه في حاشية (ط) وأصلح في (ف).
(2)
. انظر: «درء التعارض» (7/ 184، 420) ، و «النبوات» (290، 619) ، و «مجموع الفتاوى» (13/ 147).
(3)
. انظر: «النبوات» (330، 613) ، و «درء التعارض» (1/ 38، 41) ، و «الفتاوى» (3/ 303، 305).
(4)
. الأصل: «وآباؤهم بأسماء» . من سهو الناسخ.
سلطان.
فالدينُ ما شرَعه الله ورسوله، وقد بيَّن أصولَه وفروعَه، ومن المحال أن يكون الرسولُ قد بيَّن فروعَ الدين دون أصوله، كما قد بينَّا هذا في غير هذا الموضع
(1)
.
فهكذا لفظ «النظر، والاعتبار، والاستدلال» .
وعامَّةُ هذه الضلالات إنما تَطْرُقُ من لم يعتصم بالكتاب والسُّنة، كما كان الزُّهريُّ يقول:«كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسُّنة هو النجاة»
(2)
، وقال مالك:«السُّنة سفينةُ نوح، من رَكِبَها نجا، ومن تخلَّف عنها غَرِق»
(3)
.
وذلك أن السُّنة والشريعة والمنهاج هو الصراطُ المستقيمُ الذي يُوصِلُ العبادَ إلى الله، والرسول هو الدليلُ الهادي الخِرِّيتُ
(4)
في هذا الصراط، كما قال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
(1)
. انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 155 - 202) ، ونُشِر هذا الفصل مفردًا وضمن عدة مجموعات بعنوان «معارج الوصول إلى أن معرفة أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول» .
(2)
. أخرجه الدارمي (97)، واللالكائي (15، 136)، وأبو نعيم (3/ 369) ، وغيرهم من وجوهٍ أحسنَ سياقها أبو إسماعيل الأنصاري في «ذم الكلام» (495).
(3)
. أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 309) ، وأبو إسماعيل الأنصاري الهروي في «ذم الكلام» (885).
(4)
. الماهر. وفي الأصل: «الهادي الخريت الدليل» ، والمثبت من (ط) أصح.
مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52، 53]، وقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
وقال عبد الله بن مسعود: «خَطَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خطًّا، وخَطَّ خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذا سبيلُ الله، وهذه سُبُلٌ على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه» ، ثم قرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
(1)
.
وإذا تأمَّل العاقلُ الذي يرجو لقاء الله هذا المثال، وتأمَّل سائرَ الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية والرافضة، ومَن أقربُ منهم إلى السُّنة من أهل الكلام، مثل الكرَّامية والكُلَّابية والأشعريَّة وغيرهم، وأن كلًّا منهم له سبيلٌ يَخْرُجُ عمَّا عليه الصحابةُ وأهلُ الحديث، ويدَّعي أن سبيله هو الصوابُ= وجدتَ أنهم المرادُ بهذا المثال الذي ضربه المعصومُ الذي لا يتكلَّم عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى
(2)
.
والعجبُ أن مِن هؤلاء من يصرِّحُ بأن عقلَه إذا عارضه الحديثُ ــ لا سيَّما في أخبار الصفات ــ حَمَل الحديثَ على عقله، وصرَّح بتقديمه على الحديث، وجعله ميزانًا للحديث!
(1)
. أخرجه سعيد بن منصور في التفسير من «السنن» (935) ، وأحمد (4142) ، والبزار (1718) وغيرهم بإسنادٍ حسن، وصححه ابن حبان (6) ، والحاكم (2/ 318).
(2)
. لم أر تفسير الحديث بهذه الطوائف في غير هذا الموضع من كتب المصنف.
فليت شعري هل عقلُه هذا كان مصرَّحا بتقديمه في الشريعة المحمَّدية، فيكون من السبيل المأمور باتباعه، أم هو عقلُ مبتدعٍ جاهلٍ ضالٍّ حائرٍ
(1)
خارجٍ عن السبيل؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وهؤلاء الاتحاديةُ وأمثالهم إنما أُتوا من قلَّة العلم والإيمان بصفات الله التي يتميَّز بها عن المخلوقات، وقلة اتباع السُّنة وطريقة السَّلف في ذلك، بل قد يعتقدون من التجهُّم ما ينافي السُّنة، تلقِّيًا لذلك عن متفلسفٍ أو متكلِّم، فيكونُ ذلك الاعتقادُ صادًّا لهم عن سبيل الله، كلما أرادت قلوبُهم أن تتقرَّب إلى ربها وتسلكَ الصراط المستقيم إليه وتعبدَه كما فُطِروا عليه وكما بلَّغَتْهم الرسلُ من علوِّه وعظمته= صَرَفَتْهم تلك العوائقُ المُضِلَّةُ عن ذلك.
حتى تجد خلقًا من مقلِّدة الجهمية يوافقُهم بلسانه، وأما قلبُه فعلى الفطرة والسُّنة، وأكثرُهم لا يفهمون النفيَ الذي يقولونه بألسنتهم، بل يجعلونه تنزيهًا مطلقًا مجملًا.
ومنهم من لا يفهمُ قول الجهمية، بل يفهمُ من النفي معنًى صحيحًا، ويعتقدُ أن المُثْبِتَ يثبتُ نقيض ذلك، ويسمعُ من بعض الناس ذِكْرَ ذلك.
مثل أن يفهمَ من قولهم: ليس بجهة، ولا له مكان، ولا هو في السماء، أنه ليس في جوف السموات. وهذا معنًى صحيح، وإيمانُه بذلك حقٌّ، ولكنْ يظنُّ أن الذين قالوا هذا النفيَ اقتصروا على ذلك، وليس كذلك، بل مرادُهم أنه ما فوق العرش شيءٌ أصلًا، ولا فوق السموات إلا عدمٌ محض، ليس
(1)
. الأصل: «جائر» ، وهو محتمل، والمثبت من (ط) أشبه.
هناك إلهٌ يُعْبَد، ولا ربٌّ يُدْعى ويُسْأل، ولا خالقٌ خلقَ الخلائق، ولا عُرِجَ بالنبيِّ إلى ربِّه أصلًا. هذا مقصودهم
(1)
.
وهذا هو الذي أوقع الاتحادية في قولهم: هو نفس الموجودات
(2)
، إذ لم تجد قلوبهم موجودًا إلا هذه الموجودات إذا لم يكن فوقها شيءٌ آخر، وهذا من المعارف الفطرية الشُّهودية الوجودية أنه ليس إلا هذا الوجودُ المخلوقُ أو وجودٌ آخر مباينٌ له متميِّزٌ عنه، لا سيَّما إذا علموا أن الأفلاك مستديرةٌ وأن الأعلى هو المحيط، فإنهم يعلمون أنه ليس إلا هذا الوجودُ المخلوق أو موجودٌ فوقه، فإذا اعتقدوا مع ذلك أنه ليس هناك وجودٌ آخر ولا فوق العالم شيءٌ، لزم أن يقولوا: هو هذا الوجودُ المخلوق، كما قال الاتحادية.
وهذه بعينها حجةُ الاتحادية.
وهذا بعينه مَشْرَبُ قُدَماء الجهمية وحُدَثائهم
(3)
، كما يقولون: هو في كلِّ مكان، وليس هو في مكان، ولا يختصُّ بشيء. يجمعون دائمًا بين القولين المتناقضين؛ لأنهم يريدون إثبات موجودٍ، وليس عندهم شيءٌ فوق العالم، فتعيَّن أن يكون هو العالمَ أو يكون فيه، ثم يريدون إثباتَ شيءٍ غير
(1)
. انظر: «التسعينية» (192، 194).
(2)
. انظر: «جامع المسائل» (4/ 417) ، و «المستدرك على الفتاوى» (1/ 37).
(3)
. انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 151، 4/ 558، 5/ 35) ، و «الرد على الشاذلي» (169، 174) ، و «بغية المرتاد» (350، 411) ، و «مجموع الفتاوى» (2/ 466، 5/ 272، 13/ 150).
المخلوق فيقولون: ليس في العالم كما ليس خارجًا عنه، أو يقولون: هو وجودُ المخلوقات دونَ أعيانها، أو يقولون: هو الوجود المطلق، فيتشابهون فيما ينفونه
(1)
، إذ كانت قلوبهم متشابهةً في النفي والتعطيل، وهو إنكارُ موجودٍ حقيقيٍّ مباينٍ للمخلوقات عالٍ عليها، وإنما يفترقون فيما يثبتونه.
ويُكْرِهُون فِطَرهم وعقولهم على قبول المحال المتناقض:
* فيقولون: هو في العالم وليس هو فيه، أو هو العالم وليس إيَّاه.
* أو يغلِّبون الإثبات، فيقولون: بل هو نفس الوجود.
* أو النفي، فيقولون: ليس في العالم ولا خارجًا عنه.
* أو يَدِينُون بالإثبات في حالٍ وبالنفي في حال، إذا غلبَ على أحدهم عقلُه غلَّب النفيَ وهو أنه ليس في العالم، وإذا غلبَ عليه الوَجْدُ والعبادةُ رجَّح الإثباتَ وهو أنه في هذا الوجود أو هو هو.
لا تجدُ جهميًّا إلا على أحد هذه الوجوه الأربعة، وإن تنوَّعوا فيما يثبتونه ــ كما ذكرته لك ــ فهم مشتركون في التعطيل
(2)
.
وقد رأيتُ منهم ومِن كتبهم وسمعتُ منهم وممَّن يخبرُ عنهم من ذلك ما شاء الله، وكلُّهم على هذه الأحوال ضالُّون عن معبودهم وإلههم وخالقهم، ثم رأيتُ كلام السَّلف والأئمة كلهم يصفونهم بمثل ذلك، فمنَّ الله علينا باتباع سبيل المؤمنين وآمنَّا بالله وبرسوله.
(1)
. الأصل: «فيثبتون ما يثبتونه» . وهو تحريف.
(2)
. انظر: «الصفدية» (1/ 263) ، و «مجموع الفتاوى» (2/ 298).
وكلُّ هؤلاء تجدُ نفسَه مضطربةً في هذا الاعتقاد؛ لتناقضه في نفسه، وإنما يُسَكِّنُ بعضَ اضطرابه نوعُ تقليدٍ لمعظَّم عنده، أو خوفُه من مخالفة أصحابه، أو زعمُه أن هذا مِن حُكم الوهم والخيال دون العقل.
وهذا التناقض في إثبات هذا الموجودِ الذي ليس بخارجٍ عن العالم ولا هو العالم، الذي تردُّه فِطَرهم وشُهودهم وعقولهم، غيرُ ما في الفطرة من الإقرار بصانعٍ فوق العالم، فإن هذا إقرارُ الفطرة بالحقِّ المعروف، وذاك إنكارُ الفطرة للباطل
(1)
المنكر.
ومن هذا الباب ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي في حكايته المعروفة أن الشيخ أبا جعفر الهمَذاني حضر مرَّةً والأستاذ أبو المعالي يذكُر على المنبر: «كان اللهُ ولا عَرْش» ، ونفى الاستواء، على ما عُرِفَ من قوله، وإن كان في آخر عمره رجَعَ عن هذه العقيدة ومات على دين أمِّه وعجائز نيسابور.
قال: فقال الشيخ أبو جعفر: يا أستاذ، دعنا مِن ذِكْر العرش ــ يعني لأن ذلك إنما جاء في السَّمع ــ، أخبِرْنا عن هذه الضرورة التي نجدُها في قلوبنا، ما قال عارفٌ قطُّ:«يا الله» إلا وجدَ من قلبه معنًى يطلبُ العلوَّ لا يلتفتُ يمنةً ولا يَسْرَة، فكيف ندفعُ هذه الضرورة عن قلوبنا؟ ! فصَرخَ أبو المعالي، ووضع يده على رأسه، وقال: حيَّرني الهمذاني ــ أو كما قال ــ ، ونَزَل
(2)
.
فهذا الشيخُ تكلَّم بلسان جميع بني آدم، فأخبرَ أن العرشَ والعلمَ
(1)
. الأصل: «بالباطل» . من سهو الناسخ.
(2)
. تقدم الكلام على الحكاية (ص: 66).
باستواء الله عليه إنما أُخِذَ من جهة الشرع وخبَرِ الكتاب والسُّنة، بخلاف الإقرار بعلوِّ الله على الخلق من غير تعيين عرشٍ ولا استواء، فإن هذا أمرٌ فطريٌّ ضروريٌّ نجدُه في قلوبنا نحن وجميعُ من يدعو الله تعالى، فكيف ندفعُ هذه الضرورة عن قلوبنا؟!
والجارية التي قال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟» قالت: في السماء، قال:«أعتِقْها فإنها مؤمنة»
(1)
جاريةٌ أعجمية، أرأيتَ مَنْ فقَّهَها وأخبَرها بما ذكرته؟! وإنما أخبَرت عن الفطرة التي فطرها الله تعالى [عليها]، وأقرَّها صلى الله عليه وسلم على ذلك وشَهِدَ لها بالإيمان.
فليتأمَّل العاقلُ ذلك يَجِدْه هاديًا له على معرفة ربه
(2)
والإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمِّقون والمتشدِّقون ممَّن سوَّل لهم الشيطانُ وأملى لهم.
ومن أمثلة ذلك: أن الذين لبَسوا الكلامَ بالفلسفة
(3)
من أكابر المتكلمين تجدُهم يعدُّون من الأسرار المَصُونة والعلوم المخزونة ما إذا تدبَّره من له أدنى عقلٍ ودينٍ وجدَ فيه من الجهل والضلال ما لم يكن يظنُّ أنه يقعُ فيه هؤلاء، حتى قد يكذِّبُ بصدور ذلك عنهم.
(1)
. أخرجه مسلم (537).
(2)
. كذا في الأصل، على تضمين «هاديًا» معنى «دليلًا» .
(3)
. أي خلطوه بها، كالرازي والآمدي والشهرستاني. انظر:«منهاج السنة» (3/ 293، 303) ، و «الرد على الشاذلي» (140) ، و «الصفدية» (2/ 113) ، و «مجموع الفتاوى» (17/ 327).
مثل تفسير حديث المعراج الذي لأبي عبد الله الرازي
(1)
الذي احتذى فيه حذو ابن سينا وعَيْن القضاة الهمَذاني
(2)
، فإنه روى حديثَ المعراج بسياقٍ طويلٍ وأسماءٍ عجيبةٍ وترتيبٍ لا يوجدُ في شيءٍ من كتب المسلمين، لا في الأحاديث الصحيحة ولا الحسنة ولا الضعيفة المروية عند أهل العلم، وإنما وضعه بعض السُّؤَّال والطُّرُقيَّة أو بعض شياطين الوعَّاظ أو بعض الزنادقة.
ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج الموجود في كتب الحديث والتفسير والسيرة
(3)
، وعُدوله عمَّا يوجدُ في هذه الكتب إلى ما لم يُسْمَعْ من عالِمٍ ولا يوجدُ في أثارةٍ من علمٍ= فسَّره بتفسير الصَّابئة الضالَّة المنجِّمين، وجعَل مضمون معراج الرسول ترقِّيه بفِكْره إلى الأفلاك، وأن الأنبياء الذين رآهم هم الكواكب، فآدم هو القمر، وإدريس هو الشمس، والأنهار الأربعة هي العناصر الأربعة، وأنه عرف الوجود الواجب المطلق
(4)
.
ثم إنه يعظِّمُ ذلك ويجعلُه من الأسرار والمعارف التي يجبُ صونُها
(1)
. فخر الدين الرازي.
(2)
. عبد الله بن محمد بن علي الميانجي، فقيه متكلِّم، أفتى جماعة من العلماء بإباحة دمه فقُتِل وصُلِب سنة 525. قال الذهبي: رأيت شيئا من كلامه فإذا هو كلامٌ خبيثٌ على طريق الفلاسفة والباطنية. انظر: «تاريخ الإسلام» (11/ 433) ، و «لسان الميزان» (6/ 291) ، و «إرشاد الأريب» (1550).
(3)
. جمع ابن كثير رواياته في تفسيره (8/ 374 - 430).
(4)
. انظر: «الرد على المنطقيين» (545) ، و «الصفدية» (1/ 266).
وسترُها عن أفهام المؤمنين وعلمائهم
(1)
، حتى إن طائفةً ممن كانوا يعظِّمونه لمَّا رأوا ذلك تعجَّبوا منه غاية التعجُّب، وجعل بعض المتعصِّبين له يدفعُ ذلك حتى أرَوْه النسخة بخطِّ بعض المشايخ المعروفين الخبيرين بحاله، وقد كتبها في ضمن كتابه الذي سمَّاه «المطالب العالية»
(2)
وجمع فيه عامَّة آراء الفلاسفة والمتكلمين.
وتجدُ أبا حامدٍ الغزالي ــ مع أن له من العلم بالفقه والتصوُّف والكلام والأصول وغير ذلك، مع الزُّهد والعبادة وحُسْن القصد، وتبحُّره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك ــ يذكرُ في كتاب «الأربعين»
(3)
ونحوِه كتابَه «المضنونُ به على غير أهله» ، فإذا طلبتَ ذلك الكتاب واعتبرتَ
(4)
فيه أسرارَ الحقائق وغايةَ المطالب وجدتَه قولَ الصَّابئة المتفلسفة بعينِه قد غُيِّرَت عباراتُه وترتيبُه
(5)
، ومن لم يَعْلَمْ حقائقَ مقالات العباد ومقالات أهل المِلَل يعتقدُ أن ذاك هو السِّرُّ الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
(6)
، وأنه هو الذي
(1)
. انظر: «درء التعارض» (8/ 245).
(2)
. لم أجده في المطبوع منه، ولعله في بعض نسخه، وعزاه إليه كذلك في موضع آخر «مجموع الفتاوى» (6/ 6) ، وفي «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 337) ما يفيد أنه مؤلَّفٌ مستقل، ولم يذكره الزركان في كتابه.
(3)
. (ص: 39) قال: «وإن أردت صريح المعرفة بحقائق هذه العقيدة من غير مجمجة ولا مراقبة فلا تصادفه إلا في بعض كتبنا المضنون بها على غير أهلها» .
(4)
. الأصل: «واعتقدت» . والمثبت أشبه بالصواب.
(5)
. انظر: «الصفدية» (1/ 230، 265) ، و «شرح الأصبهانية» (579، 625، 652) ، و «الرد على المنطقيين» (195، 282) ، و «الرد على الشاذلي» (41، 59، 60، 108، 134) ، و «مجموع الفتاوى» (17/ 333).
(6)
. في الخبر المكذوب الذي سيأتي (ص: 111).
يطَّلعُ عليه المكاشَفون الذين أدركوا الحقائق بنورٍ إلهيٍّ!
فإن أبا حامدٍ كثيرًا ما يحيلُ في كتبه على ذلك النور الإلهيِّ
(1)
، وعلى ما يعتقدُ أنه يوجَدُ للصوفية والعُبَّاد برياضتهم وديانتهم من إدراك الحقائق وكَشْفِها لهم حتى يَزِنُوا بذلك ما ورد به الشرع.
وسببُ ذلك أنه كان قد عَلِمَ بذكائه وصِدْق طلبه ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة من الاضطراب، وآتاه الله إيمانًا مجملًا كما أخبر به عن نفسه، وصار يتشوَّفُ إلى تفصيل الجملة، فيجدُ في كلام المشايخ والصُّوفية ما هو أقربُ إلى الحقِّ وأولى بالتحقيق من كلام الفلاسفة والمتكلمين، والأمرُ كما وَجَدَه، لكن لم يَبْلُغْه من الميراث
(2)
الذي عند خاصَّة الأمة من العلوم والأحوال ما وصل إليه السابقون الأولون من العلم والعبادة حتى نالوا من المكاشَفات العِلمية والمعاملات العِبَادية ما لم ينله أولئك، فصار يعتقدُ أن تفصيلَ تلك الجملة يحصُل بمجرَّد تلك الطريق، حيث لم يكن عنده طريقٌ غيرها؛ لانسداد الطريقة الخاصَّة السُّنية النبوية بما كان عنده من قلَّة العلم بها ومن الشبهات التي تَقَلَّدها عن المتفلسفة والمتكلمين حتى حالوا بها بينه وبين تلك الطريقة.
ولهذا كان كثيرَ الذمِّ لهذه الحوائل ولطريقة العلم، وإنما ذاك لعِلْمه الذي سَلَكه والذي حُجِبَ به عن حقيقة المتابعة للرسالة، وليس هو بعلمٍ،
(1)
. انظر: «الإحياء» (1/ 94، 104، 4/ 307، 426) ، و «المنقذ من الضلال» (115) ، و «مشكاة الأنوار» (39، 63، 93) ، و «ميزان العمل» (244).
(2)
. (ط): «الميراث النبوي» .
وإنما هو عقائدُ فلسفيةٌ وكلاميَّة، كما قال السَّلف:«العلمُ بالكلام هو الجهل»
(1)
، وكما قال أبو يوسف:«من طلب العلمَ بالكلام تزندق»
(2)
.
ولهذا صار طائفةٌ ممن يرى فضيلته وديانته يَدْفَعُون وجودَ هذه الكتب عنه، حتى كان الفقيه أبو محمد بن عبد السلام
(3)
فيما عُلِّق عنه
(4)
يُنْكِرُ أن يكون «بداية الهداية» من تصنيفه، ويقول: إنما هو تقوُّلٌ عليه، مع أن هذه الكتب مقبولها أضعافُ مردودها، والمردودُ منها أمورٌ مجملة، وليس فيها عقائدُ ولا أصول الدين
(5)
.
(1)
. أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 538، 16/ 372) ، وابن بطه في «الإبانة» (2/ 536) وغيرهما عن أبي يوسف. ويروى عن الشافعي، أخرجه أبو القاسم التيمي في «الحجة» (1/ 224).
(2)
. أخرجه وكيع في «أخبار القضاة» (3/ 258) ، وابن بطه في «الإبانة» (2/ 537) ، واللالكائي في «السنة» (305) وغيرهم بإسنادٍ صحيح. ورواه ابن نقطة في «التقييد» (1/ 461) عن أبي يوسف عن مجالد عن الشعبي، وهو منكر، ولم يكن الكلام قد عُرِفَ لذلك العهد، ولعله دخل في النسخة حديثٌ في حديث. وأخرج أبو إسماعيل الأنصاري في «ذم الكلام» (873) عن مالك:«من طلب الدين بالكلام تزندق» .
(3)
العز بن عبد السلام (ت: 660). وانظر ما تقدم (ص: 25).
(4)
الأصل: «علقه عنه» . ولا وجه له.
(5)
كتاب «بداية الهداية» جعله الغزالي ثلاثة أقسام: ذكر الطاعات وآدابها، واجتناب المعاصي، وآداب الصحبة والمعاشرة. نسخه الخطية كثيرة جدًّا، وبعضها في زمن مؤلفه، ولم أقف على من شكَّك في ثبوته، وهو مشهورٌ عند الشافعية، وشرحه واختصره منهم غير واحد، ونسبه إليه ابن الصلاح في «طبقات الشافعية» (1/ 249) وغيره. وذكر السِّلَفي في «معجم السفر» (450) عن أبي الحسن علي بن سند بن عياش الغساني أنه لقي الغزالي بالحجاز وقرأ عليه من أول «بداية الهداية» وأجازه بباقيه. وسمعه من الغزالي كذلك موسى بن هارون التجيبي كما في «تكملة الصلة» (2/ 174). وانظر:«مشيخة القزويني» (524) ، و «تجريد أسانيد الكتب المشهورة» لابن حجر (402) ، و «صلة الخلف» (141) ، و «مؤلفات الغزالي» لعبد الرحمن بدوي (138) ، و «جامع الشروح والحواشي» (1/ 508).
وأما «المضنونُ به على غير أهله» فقد كان طائفةٌ أخرى من العلماء يكذِّبون به عنه
(1)
، وأما أهلُ الخبرة به وبحاله فيعلمون أن هذا كلَّه كلامُه؛ لعلمهم بموادِّ كلامه ومشابهة بعضه بعضًا
(2)
.
(1)
كابن الصلاح في «طبقات الشافعية» (1/ 263) ، والإسنوي (2/ 112) ، وتاج الدين السبكي (6/ 257) ، والمعلمي في تعليقه على «الإخنائية» (39).
(2)
ومن أولئك د. سليمان دنيا في كتابه «الحقيقة في نظر الغزالي» (89 - 105)، وقال:«الذي يقرأ هذا الكتاب بعد أن يكون قد أكثر من القراءة في كتب الغزالي، حتى عرف روح المؤلف وأسلوبه، والأمثلة والشواهد التي يكثر دورانها على لسانه، يخالطه شعورٌ قويٌّ بأن الكتاب للغزالي» . وانظر: «الأخلاق عند الغزالي» لزكي مبارك (120) ، و «دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي» لحسام الدين الآلوسي (241) ، و «مؤلفات الغزالي» لعبد الرحمن بدوي (154) ، و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» للمحمود (2/ 625) ، و «موقف ابن تيمية من قضية التأويل» للجليند (197).
ويظهر من كلام المصنف هنا ومواضع أخرى ميله لتصحيح نسبة الكتاب لأبي حامد وأن الأشبه رجوعه عنه كما تدل عليه كتبه التي فيها ذمُّ الفلاسفة وتكفيرهم، وكما سيأتي (ص: 105) من رجوعه إلى طريقة أهل الحديث آخر عمره. انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (8/ 329) ، و «الصفدية» (1/ 212) ، و «منهاج السنة» (2/ 359، 8/ 21) ، و «الرد على الشاذلي» (41) ، و «مجموع الفتاوى» (13/ 238) ، و «جامع الرسائل» (1/ 169).
ولكن كان هو وأمثاله ــ كما قدمتُ ــ مضطربين لا يَثْبُتون على قولٍ ثابت؛ لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوَّفون به إلى طريقةِ خاصَّةِ الخلق، ولم يقدَّر لهم سلوكُ طريقِ خاصَّةِ هذه الأمة الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم العلمَ والإيمان، وهم أهلُ حقائق الإيمان والقرآن ــ كما قدَّمناه ــ وأهلُ الفهم لكتاب الله والعلم والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإتْباع هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة.
ولهذا كان الشيخُ أبو عمرو بن الصلاح يقول ــ فيما رأيتُه بخطِّه ــ: «أبو حامدٍ كَثُر القولُ فيه ومنه، فأما هذه الكتب ــ يعني المخالِفةَ للحقِّ ــ فلا يُلْتَفَتُ إليها، وأما الرجلُ فيُسْكَتُ عنه ويُفَوَّض أمرُه إلى الله» .
ومقصودُه أنه لا يُذْكَر بسوء؛ لأن عفوَ الله عن الناسي والمخطئ وتوبةَ المذنب تأتي على كلِّ ذنب، وذلك مِن أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره
(1)
وتكفيرَه الذنوب بالمصائب تأتي على مُحَقَّق الذنوب
(2)
، فلا يُقْدِمُ الإنسانُ على انتفاء ذلك في حقِّ معيَّنٍ إلا ببصيرة، لا سيَّما مع كثرة الإحسان والعلم الصَّحيح والعمل الصَّالح والقصد الحسن.
وهو يميلُ إلى الفلسفة، لكنه أظهرَها في قالب التصوُّف والعبارات
(1)
أي مِن عمله أو مما يهدى إليه من غيره من ثواب أعمالهم الصالحة. أما ما فعله غيره من الخير بإرشاده ودلالته فكان له مثل أجره فذاك من جملة عمله.
(2)
انظر: «منهاج السنة» (5/ 83، 6/ 238) ، و «مجموع الفتاوى» (3/ 155، 35/ 67) ، و «جامع المسائل» (3/ 79).
الإسلامية
(1)
، ولهذا فقد ردَّ عليه علماء المسلمين، حتى أخصُّ أصحابه أبو بكر بن العربي، فإنه قال:«شيخنا أبو حامدٍ دَخَل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرجَ منهم فما قَدَر»
(2)
.
وقد حكى
(3)
عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجدُ تصديقُ ذلك في كتبه.
وردَّ عليه أبو عبد الله المازَرِيُّ في كتابٍ أفرَده
(4)
.
وردَّ عليه أبو بكر الطُّرطُوشي
(5)
.
وردَّ عليه أبو الحسن المرغيناني رفيقُه
(6)
، ردَّ عليه كلامَه في «مشكاة
(1)
كما سبق في الكلام على صنيعه في كتاب «المضنون به على غير أهله» . وانظر: «بغية المرتاد» (448) ، و «منهاج السنة» (3/ 304) ، و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 268) ، و «الصفدية» (2/ 264) ، و «جامع الرسائل» (1/ 163).
(2)
ذكره المصنف كذلك في «الصفدية» (1/ 211، 250) ، و «درء التعارض» (1/ 5) ، و «الرد على المنطقيين» (483) ، و «الرد على الشاذلي» (41) ، والذهبي في «السير» (19/ 327) و «تاريخ الإسلام» (11/ 66). وانظر كلام ابن العربي عن الغزالي في «العواصم من القواصم» (57، 78 - 79).
(3)
أي ابن العربي، ويحتمل أن تكون بالبناء للمجهول، والأول أشبه بالسياق.
(4)
اسمه «الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء» . انظر مقتطفات منه في «طبقات الشافعية» لابن الصلاح (1/ 255 - 259) ، و «السير» (19/ 330 - 332، 340) ، و «تاريخ الإسلام» (11/ 66 - 67) ، و «شرح الأصبهانية» (645 - 650).
(5)
في رسالة له إلى ابن مظفر، ساقها الونشريسي في «المعيار المعرب» (12/ 186 - 187). وانظر:«السير» (19/ 339، 494) و «تاريخ الإسلام» (11/ 68).
(6)
من أصحاب أبي المعالي الجويني، كما في «الصفدية» (1/ 210، 250). ووقعت كنيته في «النبوات» (394): «أبو نصر» ، وفي أصل «الرد على الشاذلي» (41):«أبو حامد» ، وفي «شرح الأصبهانية» (640):«أبو إسحاق» ، وكما هنا في «بغية المرتاد» (281) ، و «الصفدية» (الموضعين السابقين)، و «درء التعارض» (6/ 239). وليس هو علي بن أبي بكر المرغيناني فقيه الحنفية (ت: 593) ، فإنه لم يدرك الجويني وولد بعد وفاة الغزالي بخمس وعشرين سنة. ومن أصحاب أبي المعالي وطبقة الغزالي: الإمامان الفقيهان أبو نصر الأرغياني (ت: 528) وأبو الفتح الأرغياني (ت: 499) ، فلعله أحدهما، واضطراب المصنف في كنيته يومئ إلى عدم ضبطه لنسبته الغريبة مع طول العهد والكتابة من الحفظ، ومثل هذا لا يكون من أغلاط النساخ.
الأنوار» ونحوه.
وردَّ عليه الشيخُ أبو البيان
(1)
، والشيخُ أبو عمرو بن الصَّلاح
(2)
وحذَّر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النواويُّ
(3)
وغيرهما.
وردَّ عليه ابنُ عقيل
(4)
، وابنُ الجوزي
(5)
، وأبو محمدٍ المقدسي
(6)
،
(1)
نبا بن محمد بن محفوظ القرشي الدمشقي الصوفي شيخ الطائفة البيانية (ت: 551). انظر: «إرشاد الأريب» (2742) ، و «السير» (20/ 326).
(2)
عقد في ترجمة الغزالي من «طبقات الشافعية» (1/ 252) فصلًا لبيان ما أنكِر عليه في مصنفاته ولم يرتضها أهل مذهبه وغيرهم.
(3)
حين أقرَّ ابنَ الصلاح على ما ذكره في «طبقات الشافعية» ، والنسخة التي وصلتنا من الطبقات هي مما انتخبه النووي. انظر:«شرح الأصبهانية» (640).
(4)
انظر: «صيد الخاطر» (483) ، و «الآداب الشرعية» لابن مفلح (1/ 239).
(5)
في كتابه «إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء» . انظر: «المنتظم» (17/ 125) ، و «تلبيس إبليس» (149، 256، 300، 312).
(6)
الموفق ابن قدامة.
وغيرهم
(1)
.
وهذا بابٌ واسع، فإن الخارجين عن طريقة السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ لهم في كلام الرسول ثلاثُ طرق: طريقة التخييل، والتأويل، والتجهيل
(2)
.
* فأهل التخييل هم الفلاسفةُ والباطنيةُ الذين يقولون: إنه خيَّل أشياء لا حقيقة لها في الباطن، وخاصِّيةُ النبوَّة عندهم التخييل
(3)
.
* والتأويل طريقةُ المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، يقولون:
(1)
كالقاضي عياض في «معجم شيوخ أبي علي الصدفي» (لم يصلنا، وانظر: «الغنية» 194، و «فهرس الفهارس» 2/ 618) ، نقل عنه الذهبي في «السير» (19/ 327).
وكأبي نصر القشيري وأتباع والده أبي القاسم وأهل بيته، وأبي الحسن بن شكر، وابن حمدين القرطبي، والكردري الحنفي، ومحمود الخوارزمي، ويوسف الدمشقي. انظر:«النبوات» (392) ، و «الصفدية» (1/ 210 - 212، 250) ، و «درء التعارض» (6/ 240) ، و «بغية المرتاد» (281) ، و «شرح الأصبهانية» (640، 643) ، و «الرد على الشاذلي» (41) ، و «مجموع الفتاوى» (9/ 253).
كما يذمه المتفلسفة لما اعتصم به من دين الإسلام ولم يوافقهم فيه، كابن رشد في «تهافت التهافت» (416) و «فصل المقال» (50، 52) ، وابن طفيل في «حي بن يقظان» (79) ، وابن سبعين في «بُدّ العارف» (144 - 145) ، وابن هود كما في «درء التعارض» (6/ 241).
(2)
انظر: «الحموية» (277) ، و «درء التعارض» (1/ 8 - 19) ، و «الجواب الصحيح» (6/ 519) ، و «مجموع الفتاوى» (16/ 440).
(3)
سيأتي الكلام عنهم (ص: 144 - 147، 225، 228).
إن ما قاله
(1)
له تأويلاتٌ تخالفُ ما دلَّ عليه وما يُفْهَمُ منه، وهو وإن كان لم يبيِّن مرادَه ولا بيَّن الحقَّ الذي يجبُ اعتقادُه= فكان مقصودُه أن هذا يكونُ سببًا للبحث بالعقل، حتى يَعْلَم الناسُ الحقَّ بعقولهم ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يوافقُ قولهم ليُثَابوا على ذلك، فلم يكن قصدُه لهم البيانَ والهداية والإرشاد والتعليم، بل قَصَد التَّعْمِيَة والتلبيس، ولم يُعَرِّفْهم الحقَّ حتى ينالوا الحقَّ بعقولهم
(2)
ويعرفوا حينئذٍ أن كلامَه لم يُقْصَد به البيان.
فيجعلونَ حالهم في العلم مع عدمه خيرًا من حالهم مع وجوده!
وأولئك المتقدِّمون ــ كابن سينا وأمثاله ــ ينكرون على هؤلاء ويقولون: ألفاظُه كثيرةٌ صريحةٌ لا تقبلُ التأويل، لكن كان قصدُه التخييل وأن يعتقد الناسُ الأمرَ على خلاف ما هو عليه.
* وأما الصنف الثالث
(3)
الذين يقولون: إنهم أتباع السَّلف فيقولون: إنه
(4)
لم يكن يعرفُ معنى ما أُنزِل عليه من هذه الآيات، ولا أصحابُه يعلمون معنى ذلك، بل لازمُ قولهم أنه هو نفسُه لم يكن يعرفُ معنى ما تكلَّم به من أحاديث الصفات، بل يتكلَّمُ بكلامٍ لا يَعْرِفُ معناه. والذين ينتحلون مذهبَ السَّلف ويقولون
(5)
(1)
أي الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2)
الأصل: «بعقلهم» ، وهي سائغة، وسبقت قبل قليل على الجادة.
(3)
وهم أهل التجهيل والتفويض من المتكلمين الأشاعرة والماتريدية ومن تأثر بهم من المنتسبين للسنة.
(4)
أي الرسول صلى الله عليه وسلم.
(5)
الأصل: «يقولون» . والمثبت أقوم.
يقولون ذلك في الرسول.
وهذا القولُ من أبطل الأقوال.
وممَّا يعتمدون عليه من ذلك: ما فهموه من قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ، ويظنُّون أن «التأويل» هو المعنى الذي يسمُّونه هم تأويلًا، وهو مخالفٌ للظاهر
(1)
.
ثم هؤلاء قد يقولون: تُجْرَى النصوصُ على ظاهرها، وتأويلُها لا يعلمه إلا الله، ويريدون بالتأويل: ما يخالف الظاهر. وهذا تناقضٌ منهم.
وطائفةٌ يريدون بالظاهر ألفاظَ النصوص فقط.
والطائفتان غالطتان في فهم الآية.
وذلك أن لفظ «التأويل» قد صار بسبب تعدُّد الاصطلاحات له ثلاث
(2)
معانٍ
(3)
:
* أحدها: أن يراد بالتأويل حقيقةُ ما يؤول إليه الكلام، وإن وافق ظاهرَه. وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ «التأويل» في الكتاب والسُّنة، كقوله تعالى:
(1)
انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 132).
(2)
كذا بالأصل، وله وجهٌ من العربية ونظائر في كتب المصنف، والجادة: ثلاثة.
(3)
انظر: «التدمرية» (91) ، و «الحموية» (287) ، و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 452، 8/ 262) ، و «درء التعارض» (1/ 14، 206، 9/ 24) ، و «الصفدية» (1/ 288) ، و «جامع المسائل» (3/ 171، 5/ 291) ، و «مجموع الفتاوى» (3/ 195، 5/ 35، 349، 7/ 37، 13/ 284، 16/ 408، 17/ 359، 368).
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]، ومنه قول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهمَّ ربنا ولك الحمد
(1)
، اللهم اغفر لي» يتأوَّلُ القرآن
(2)
.
* ويراد بلفظ «التأويل» التفسير، وهو اصطلاحُ كثيرٍ من المفسرين، ولهذا قال مجاهدٌ إمامُ أهل التفسير: إن الراسخين في العلم يَعْلَمُون تأويلَ المتشابه
(3)
، فإنه أراد بذلك تفسيرَه وبيان معانيه، وهذا مما يعلمُه الراسخون.
* والثالث: أن يراد بلفظ «التأويل» صرفُ اللفظ عن ظاهره الذي يدلُّ عليه
(4)
إلى ما يخالفُ ذلك لدليلٍ منفصلٍ يوجبُ ذلك، وهذا التأويلُ لا يكونُ إلا مخالفًا لما يدلُّ عليه اللفظُ ويبيِّنه.
(1)
كذا في الأصل، ولعلها في بعض روايات البخاري، فقد أورد الحديث بها ابن بطال في «شرح البخاري» (2/ 412) ، ولم أرها عند غيره، ولا ذكرها من صنف في «الجمع بين الصحيحين» كالحميدي (4/ 167) وعبد الحق (1/ 329) والموصلي (1/ 294). ورواها الواحدي بإسناده في «الوسيط» (4/ 567). والرواية المشهورة:«سبحانك اللهم ربنا وبحمدك» ، وكذلك تقع في كتب المصنف المطبوعة.
(2)
أخرجه البخاري (817، 4968) ومسلم (484).
(3)
أخرجه آدم بن أبي إياس في التفسير المنسوب إلى مجاهد (249) ، وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (100) ، وابن جرير (5/ 230).
(4)
الأصل: «يدل عليه ظاهره» . كأنه من سهو الناسخ.
وتسميةُ هذا تأويلًا لم يكن في عُرْف السَّلف، وإنما سمَّى هذا وحده تأويلًا طائفةٌ من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام، وظنَّ هؤلاء أن قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} يرادُ به هذا المعنى.
ثم صاروا في هذا التأويل على طريقين:
* قوم يقولون: إنه لا يعلمه إلا الله.
* وطائفة يقولون: إن الراسخين في العلم يعلمونه.
وكلا الطائفتين مخطئة؛ فإن هذا التأويل في كثيرٍ من المواضع ــ أو أكثرها وعامَّتها ــ من باب تحريف الكَلِم عن مواضعه، من جنس تأويلات القرامطة والباطنية، وهذا هو التأويلُ الذي اتفق سلفُ الأمة وأئمَّتها على ذمِّه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ورَمَوا في آثارهم بالشُّهْبان
(1)
.
وقد صنَّف الإمام أحمد كتابًا في الردِّ على هؤلاء، وسمَّاه «الردّ على الزنادقة والجهمية فيما شكَّت فيه من متشابه القرآن وتأوَّلتْه على غير تأويله»
(2)
، فعاب أحمدُ عليها أنها تفسِّرُ القرآنَ بغير ما هو معناه.
ولم يقل أحمدُ ولا أحدٌ من الأئمَّة: إن الرسول لم يكن يعرفُ معاني
(1)
جمع شهاب. وضمَّن ابن القيم هذا التعبير في «الكافية الشافية» (1/ 288).
(2)
مال الذهبيُّ في «السير» (11/ 286) إلى أنه موضوعٌ على الإمام أحمد، ولم يجزم. والأشبه ثبوته عنه، وعليه أئمة الحنابلة الكبار: الخلال والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وابن تيمية وغيرهم. وانظر احتجاج ابن القيم على صحة نسبته وردَّه على من طعن فيه في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (305، 306، 318 - 320).
آياتِ الصفات وأحاديثها، ولا قالوا: إن الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ لم يعرفوا تفسيرَ القرآن ومعانِيَه.
كيف وقد أمر الله بتدبُّر كتابه، فقال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، ولم يقل: بعض آياته، وقال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، وقال:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، وأمثال ذلك من النصوص التي تبيِّن أن الله يحبُّ أن يُتَدبَّر القرآنُ كلُّه، وأنه جعله نورًا وهدًى لعباده، ومحالٌ أن يكون ذلك ممَّا لا يُفْهَمُ معناه.
وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلمي: حدَّثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن
ــ عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود ــ أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آياتٍ «لم نجاوِزْها
(1)
حتى نتعلَّم ما فيها من العلم والعمل» ، قالوا:«فتعلَّمنا القرآنَ والعلمَ والعملَ جميعًا»
(2)
.
وهذه الأمور مبسوطةٌ في غير هذا الموضع
(3)
.
(1)
كذا في الأصل، انتقل إلى نص قولهم.
(2)
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (6/ 172) ، ومحمد بن وضاح في «البدع» (276) ، والفريابي في «فضائل القرآن» (169) وغيرهم بإسنادٍ صحيح من طريق حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي، وحماد سمع من عطاء قبل الاختلاط. وأخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (4/ 83، 84) من طريق سفيان وهمام بن يحيى عن عطاء، وكلاهما سمع منه قبل اختلاطه كذلك. وروي من طرقٍ أخرى عن عطاء.
(3)
انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (8/ 215 - 261) ، و «مجموع الفتاوى» (17/ 356 - 433) ، والمصادر المتقدمة لمعاني لفظ «التأويل» .
والمقصودُ هنا أن من يقولُ في الرسول وبيانه للناس مما هو من قول الملاحدة، فكيف يكونُ قوله في السَّلف حتى يدَّعيَ اتباعَه؟ ! وهو مخالفٌ للرسول والسَّلف عند نفسه وعند طائفته، فإنه قد أظهر من قول النفاة ما كان الرسولُ لا يرى إظهاره لما فيه من فساد الناس، وأما عند أهل العلم والإيمان فلا!
وقولُ النفاة باطلٌ باطنًا وظاهرًا، والرسول صلى الله عليه وسلم ومتَّبِعُوه منزَّهون عنه، بل مات صلى الله عليه وسلم وتركنا على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالك، وأخبرنا أن كلَّ ما حدث بعده من محدثات الأمور فهو بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار
(1)
.
وربما أنشد بعضُ أهل الكلام
(2)
بيتَ مجنون بني عامر
(3)
:
(1)
أخرجه النسائي (1578) ، وصححه المصنف في «إبطال التحليل» (119)، وانظر:«اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 88). وأصل الحديث في «صحيح مسلم» (867) دون قوله: «وكل ضلالة في النار» ، وحكم بشذوذها بعض حذاق أهل الحديث المعاصرين، وردَّها المصنف من جهة معناها في موضع آخر، فقال: «ولم يقل: وكل ضلالة في النار، بل يضلُّ عن الحق من قصد الحقَّ وقد اجتهد في طلبه، فعجز عنه، فلا يعاقَب، وقد يفعل بعض ما أُمِر به فيكون له أجرٌ على اجتهاده، وخطؤه الذي ضلَّ فيه عن حقيقة الأمر مغفورٌ له، وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفةٍ ظنوها صحيحة
…
». «مجموع الفتاوى» (19/ 191).
(2)
هو العز بن عبد السلام كما سيأتي (ص: 206).
(3)
لم أجد البيت منسوبًا في مصدرٍ متقدم.
وكلٌّ يدَّعي وصلًا بليلى
…
وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاكا
فمن قال من الشعر ما هو حكمةٌ أو تمثَّل ببيتٍ من الشعر فيما تبيَّن أنه حقٌّ لكان قريبًا، أما إثباتُ الدعوى بمجرَّد كلامٍ منظومٍ من شعرٍ أو غيره فيقال لصاحبه: ينبغي أن تبيِّن أن السَّلف لا يقرُّون بمن انتحَلهم.
وهذا ظاهرٌ فيما ذكره
(1)
هو وغيرُه ممن يقولون عن السَّلف ما لم يقولوه ولم ينقله عنهم أحدٌ له معرفةٌ بحالهم وعَدَل فيما نقَل، فإن الناقل لا بدَّ أن يكون عالمًا عدلًا.
فإن فُرِض أن أحدًا نقَل مذهبَ السَّلف كما يذكُره، فإما أن يكون قليلَ المعرفة بآثار السَّلف، كأبي المعالي، وأبي حامد الغزالي، وابن الخطيب
(2)
وأمثالهم ممن لم يكن له من المعرفة بالحديث ما يعدُّ به من عوامِّ أهل الصناعة فضلًا عن خواصِّها، ولم يكن الواحدُ من هؤلاء يَعْرِفُ البخاريَّ ومسلمًا وأحاديثهما إلا بالسَّماع، كما يذكرُ ذلك العامَّة، ولا يميِّزون بين الحديث الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث والحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدقُ شاهدٍ بذلك، ففيها عجائب
(3)
.
(1)
أي العز.
(2)
فخر الدين الرازي.
(3)
قال المصنف في «التسعينية» (923): «
…
واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي الذي هو نخبة عمره نهاية المطلب في دراية المذهب ليس فيه حديثٌ واحدٌ معزوٌّ إلى صحيح البخاري إلا حديثٌ واحدٌ في البسملة [«نهاية المطلب» (2/ 137)]، وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره»!! وانظر لمبلغ علمه بالحديث: منتخب «المنثور من الحكايات والسؤالات» لابن طاهر (406) ، و «الأنساب» للسمعاني (3/ 386) ، و «طبقات الشافعية» لابن الصلاح (1/ 230) ، و «شرح مشكل الوسيط» له (6/ 529) ، و «السير» (18/ 471) ، و «طبقات الشافعية» للسبكي (6/ 151) ، ، و «التلخيص الحبير» (1/ 65، 161، 256، 275، 2/ 19، 50، 61، 3/ 92، 201، 4/ 26، 57، 84، 183).
أما الغزالي فأمره أظهر وإنكار العلماء عليه في هذا أشهر، وقد اعترف في «قانون التأويل» (16) بأن بضاعته في علم الحديث مزجاة. وكتبه مشحونةٌ بالموضوعات والواهيات وما لا أصل له، وللسبكي في «الطبقات» (6/ 287 - 389) فصلٌ طويلٌ في ما لم يوجد له إسنادٌ من أحاديث الإحياء. وهو يتبع شيخه أبا المعالي الجويني في أحاديث الأحكام ويقلده في أوهامه. انظر:«التلخيص الحبير» (1/ 197، 222، 283، 348، 422، 496، 2/ 123، 3/ 74، 79، 88، 93، 177، 4/ 288)، وقال ابن حجر في (2/ 40) بعد أن ذكر له وهمًا تابع شيخه فيه:«وهذا دليلٌ على عدم اعتنائهما معًا بالحديث» .
وكذلك كان الفخر الرازي أجنبيًّا عن علم الحديث، وليس له به عنايةٌ ولا تصنيفٌ في روايته أو فقهه. انظر:«بيان تلبيس الجهمية» (6/ 98، 338، 8/ 169).
وتجدُ عامَّة هؤلاء الخارجين عن مناهج السَّلف من المتكلِّمة والمتصوِّفة يعترفُ بذلك إما عند الموت وإما قبل الموت، والحكاياتُ في هذا كثيرةٌ معروفة.
* هذا أبو الحسن الأشعريُّ نشأ في الاعتزال أربعين عامًا يناظرُ عليه، ثم رجع عن ذلك وصرَّح بتضليل المعتزلة وبالغ في الردِّ عليهم.
* وهذا أبو حامدٍ الغزالي [مع فَرْطِ ذكائه وتألهه، ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريقَ الزهد والرياضة والتصوُّف، رجع إلى طريقة أهل
الحديث]
(1)
، وصنَّف «إلجام العوام عن علم الكلام»
(2)
.
* [وهذا الرازي في كتابه الذي صنَّفه في أقسام اللذَّات] قال: «لقد تأملتُ الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ورأيتُ أقربَ الطرق طريقةَ القرآن، [أقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وأقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلَا
(1)
انظر: «درء التعارض» (1/ 162). وما بين المعكوفات هنا وفي المواضع التالية زياداتٌ تقديرية ليست في الأصل، ففي هذا الموضع منه سقطٌ واضطراب، وأثبتها من (ط) بتصرف واختصار ليستقيم السياق وحذفت ما لم أجده من كلام المصنف في كتبه الأخرى. قال الشيخ سليمان الصنيع:«إني لما رأيت هذه الصفحة فيها من السقط والتحريف ونسبة أقوالٍ إلى غير قائليها عرفتُ أن ذلك بلا شكٍّ ولا ريب من عمل النسَّاخ، ولما كانت تلك الأقوال وقائلوها معروفة مظانها في كتب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله ، كمنهاج السنة النبوية، وبيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، وكتاب النبوات، والفتوى الحموية، وغير ذلك، ومثل كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، واجتماع الجيوش الإسلامية لغزو المعطلة والجهمية، كلاهما لشمس الدين ابن قيم الجوزية، لما كان كذلك نقلتُ منها على الصواب، وجعلتُ ما زدته مما سقط من الناسخ في هذه الرسالة بين قوسين واقفين هكذا []» .
(2)
وردت العبارة في الأصل عقب أبيات الرازي، وهو من تخليط الناسخ.
ووقع في خاتمة نسخة مكتبة شهيد علي (1712) من كتاب «إلجام العوام» أن الغزالي فرغ من تأليفه أوائل جمادى الآخرة سنة 505، أي قبل وفاته بقليل. انظر:«مؤلفات الغزالي» لعبد الرحمن بدوي (231).
يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]. ثم قال: ومن جرَّب مثل تجربتي عرفَ مثل معرفتي]
(1)
، وكان يتمثَّل كثيرًا
(2)
:
نهايةُ إقدام العقول عِقَالُ
…
وأكثرُ سَعْي العالَمِين ضلالُ
وأرواحُنا في وحشةٍ من جُسومنا
…
وحاصلُ دنيانا أذًى ووبالُ
ولم نَسْتَفِدْ من بحثنا طولَ عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قِيلَ وقالوا
* وهذا إمامُ الحرمين تركَ ما كان ينتحِلُه ويقرِّره واختار مذهبَ السلف، [وكان يقول:«يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفتُ أن الكلام يبلغُ بي إلى ما بلغ ما اشتغلتُ به»
(3)
.
* وكذلك الشَّهرستاني] ، وكان يُنْشِد
(4)
:
لعمري لقد طفتُ المعاهدَ كلَّها
…
وسيَّرتُ طرفي بين تلك المعالمِ
(1)
«أقسام اللذات» (263 - نشرة ليدن) بمعناه واختلاف في بعض ألفاظه. وانظر: «تاريخ الإسلام» (13/ 142، 144) ، و «السير» (21/ 501) ، و «طبقات الشافعية» للسبكي (8/ 91) ، ولابن كثير (2/ 718).
(2)
الأبيات من مشهور شعره، نسبها لنفسه في «أقسام اللذات» (262). وانظر:«إرشاد الأريب» (2590) ، و «عيون الأنباء» (1/ 468) ، و «وفيات الأعيان» (4/ 250) ، و «البدر السافر» للأدفوي (2/ق 140) ، وغيرها.
(3)
انظر: منتخب «المنثور من الحكايات والسؤالات» لمحمد بن طاهر (416 - 417) بتحقيقي، ورددت هناك على السبكي دعواه كذب هذه الرواية وزعمه جهالة راويها.
(4)
أوردهما في «نهاية الإقدام» (3)، و «الملل والنحل» (1/ 173) دون نسبة. وينسبان إليه وإلى ابن سينا وابن باجه. انظر:«وفيات الأعيان» (2/ 161، 4/ 274) ، و «آثار البلاد» للقزويني (398) ، و «الوافي بالوفيات» (12/ 408).
فلم أرَ إلا واضعًا كفَّ حائرٍ
…
على ذَقَنٍ أو قارِعًا سِنَّ نادم
* وابنُ الفارض ــ من متأخري الاتحادية، صاحب القصيدة التائيَّة المعروفة بـ «نظم السُّلوك»
(1)
، وقد نَظَم فيها الاتحادَ نظمًا رائق اللفظ
(2)
، فهو أخبثُ من لحم خنزيرٍ في صينيَّةٍ من ذهب، وما أحسنَ تسميتَها بـ «نظم الشُّكوك» ، الله أعلمُ بها وبما اشتملت عليه، ونَفَقَت كثيرًا، وبالغ أهلُ العصر في تحسينها والاعتذار عما
(3)
فيها من الاتحاد ــ لمَّا حضرته الوفاة أنشد
(4)
:
إن كان منزلتي في الحبِّ عندكمُ
…
ما قد لَقِيتُ لقد ضيَّعتُ أيامي
أمنيَّةٌ ظَفِرتْ نفسي بها زمنًا
…
واليوم أحسَبها أضغاثَ أحلام
ولهذا كان من أصول الإيمان أن يُثبِّتَ الله العبد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ
(1)
ديوانه (31 - 82)، ولها شروح كثيرة. انظر:«كشف الظنون» (1/ 266).
(2)
غير محررة في الأصل، وتشبه أن تكون:«وافق اللغة» ، والمثبت أقوم بالمراد. وقال في موضع آخر:«وشعره في صناعة الشعر جيد، ولكنه كما قيل: لحم خنزير في طبق صيني» . «مجموع الفتاوى» (2/ 472). وهؤلاء الاتحادية «يسقون الناسَ شرابَ الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه» . «مجموع الفتاوى» (2/ 360).
وانظر: «الكواكب الدرية في تراجم الصوفية» للمناوي (2/ 421).
(3)
الأصل: «بما» . (ط): «والاعتداد بما» . وكلاهما تحريف. وانظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 297، 367، 379) ، و «المستدرك على الفتاوى» (1/ 39) ، و «نزهة الأنام» لابن دقمقاق (71).
(4)
البيتان في ديوانه (138) ، والحكاية في «نزهة الأنام» لابن دقماق (72).
بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 24 ــ 27].
والكلمة أصلُ العقيدة، فإن الاعتقادَ هو الكلمةُ التي يعتقدُها المرء، وأطيبُ الكلام والعقائد كلمةُ التوحيد واعتقادُ أن لا إله إلا الله، وأخبثُ الكَلِم
(1)
والعقائد كلمةُ الشرك، وهو اتخاذُ إلهٍ مع الله، فإن ذلك باطلٌ لا حقيقة له، ولهذا قال سبحانه:{مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} .
ولهذا كلما بحَثَ الباحثُ وعَمِل العاملُ على هذه الكلمات والعقائد الخبيثة لا يزدادُ إلا ضلالًا وبعدًا عن الحق وعلمًا ببطلانها
(2)
فذكر سبحانه مَثَلين
(3)
:
(1)
كذا في الأصل، غاير بين الموضعين، ولعله من تصرف الناسخ.
(2)
يزداد الباحث علمًا ببطلانها، ويزداد العامل ضلالًا وبعدًا عن الحق.
(3)
انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 267) ، و «درء التعارض» (1/ 169، 7/ 285) ، و «الرد على المنطقيين» (435) ، و «الجواب الصحيح» (2/ 219) ، و «مجموع الفتاوى» (7/ 277، 10/ 101) ، و «جامع المسائل» (1/ 134).
* أحدهما: مَثَل الكفر والجهل المركَّب الذي يحسَبه صاحبُه موجودًا، ويكون خيالًا معدومًا كالسَّراب، والقلبُ
(1)
عطشانٌ إلى الحقِّ كعَطَشِ الجسد إلى الماء، فإذا طلبَ ما ظنَّه ماءً وجدَه سرابًا، ووجدَ الله عنده فوفَّاه حسابه، والله سريعُ الحساب. وهكذا
(2)
تجدُ عامَّة هؤلاء الخارجين عن السُّنة والجماعة.
* والمَثَل الثاني: مَثَل الكفر والجهل البسيط الذي لا يتبيَّن فيه حقٌّ ولا يُرى فيه هدًى.
والكفرُ المركَّبُ مستلزمٌ للبسيط، وكلُّ كفرٍ فلا بدَّ فيه من جهلٍ مركَّب.
فضربَ سبحانه المَثَلين بذلك ليبيِّن حالَ الاعتقاد الفاسد، ويبيِّن حالَ عدم معرفة الحق
(3)
، وهو يُشْبِهُ حالَ المغضوب عليهم والضالِّين، حالَ المصمِّم على الباطل حتى يحلَّ به العذابُ وحالَ الضالِّ الذي لا يرى طريق الهدى.
فنسأل الله العظيمَ أن يثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا الاعتصامَ بالكتاب والسُّنة.
ومن أمثلة [ذلك]
(4)
ما ينسبُه كثيرٌ من أتباع المشايخ والصوفية إلى
(1)
الأصل: «وان الحق» . والصواب المثبت.
(2)
الأصل: «ولهذا» . وهو خطأ، وأصلح في (ط).
(3)
الأصل: «حال عدم معرفة حال الحق» . من سهو الناسخ.
(4)
زيادة ضرورية لاستقامة السياق. وسيأتي نظيرها.
المشايخ الصَّادقين من الكذب والمُحال، أو يكونُ من كلامهم المتشابه الذي تأوَّلوه على غير تأويله، أو يكونُ من غَلَطات بعض الشُّيوخ وزلَّاتهم، أو من ذنوب بعضهم وخطئهم، مثل كثيرٍ من البدع والفجور الذي يفعلُه بعضهم بتأويلٍ سائغ أو بوجهٍ غير سائغ، فيعفى عنه، أو يتوب، أو يكون منه ومن غيره حسناتٌ يُغْفَر له بها، أو مصائبُ يكفَّر عنه بها، أو يكون من كلام المتشبِّهين بأولياء الله من ذوي الزَّهادات والعبادات والمقالات
(1)
، وليس هو من أولياء الله المتقين، بل من الجاهلين الظالمين المعتدين أو المنافقين أو الكافرين.
وهذا كثيرٌ مِلْءُ العالَم
(2)
، تجدُ كلَّ قومٍ يدَّعون من الاختصاص بالأسرار والحقائق ما لا يدَّعي المرسَلون، وأن ذلك عند خواصِّهم، وأن ذلك لا يقابلُ إلا بالتسليم، ويحتجُّون لذلك بأحاديثَ موضوعةٍ وتفسيراتٍ باطلة، مثل قولهم عن عمر:«إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدَّث هو وأبو بكر بحديثٍ وكنتُ كالزِّنجيِّ بينهما»
(3)
، فيجعلون عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم وصِدِّيقه كالزِّنجيِّ ، وهو حاضرٌ يسمعُ الكلام، ثم يدَّعي أحدُهم أنه عَلِمَ ذلك بما قُذِفَ في قلبه! ويدَّعي كلٌّ منهم أن ذلك هو ما يقولُه من الزُّور والباطل
(4)
.
(1)
غُيِّرت في (ط) إلى «المقامات» . وكلاهما يحتمله الصواب.
(2)
وقع هذا التعبير في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 419)، وما يأتي (ص: 338).
(3)
خبرٌ مكذوبٌ لا أصل له باتفاق أهل المعرفة. انظر: «بغية المرتاد» (322) ، و «منهاج السنة» (8/ 42) ، و «أحاديث القصَّاص» (61) ، و «مجموع الفتاوى» (2/ 216، 5/ 170، 6/ 579، 11/ 54، 13/ 253، 18/ 339، 377).
(4)
يشير بهذا إلى ما يحيل عليه الغزالي في كتبه من الكشف والنور الإلهي الذي يقذف في القلب، وسبقت الإشارة إليه (ص: 91).
ولو ذكرتُ ما في هذا الباب من الأصناف
(1)
لطال.
فمنهم من يجعلُ للشيخ قصائدَ يسمِّيها «جَنِيب القرآن»
(2)
، ويكونُ وَجْدُه بها وفرحُه بمضمونها أعظمَ من القرآن، ويكونُ فيها من الكذب والضلال أمور.
ومنهم من يجعلُ له قصائدَ في الاتحاد، وأنه هو خالقُ جميع الخلق، وأنه خَلَق السموات والأرض، وأنه يُسْجَد له ويُعْبَد
(3)
.
ومنهم من يصفُ الربَّ في قصائده بما نُقِل في الموضوعات من أصناف التمثيل والتكييف والتجسيم التي هي كذبٌ مفترًى وكفرٌ صريح، مثلُ مُواكَلته ومُشَاربته ومُمَاشاته ومُعَانقته ونزوله إلى الأرض وقُعوده في بعض رياض الأرض ونحو ذلك
(4)
.
(1)
أي أصناف المدَّعين للاختصاص بالأسرار والحقائق. وفي (ط): «أصناف الدعاوى الباطلة» . والمصنف يستعمل لفظ «الأصناف» دون إضافة أحيانًا في نحو هذا. انظر: «جامع الرسائل» (2/ 232)، وما تقدم (ص: 22)، وما سيأتي (ص: 322).
(2)
الجَنِيبة هي الدابة تُجْنَب فتُقاد ولا تُركَب وتسير إلى جنبك، حتى إذا تعبت الدابة المركوبة تحوَّل الراكبُ إليها. فذاك شأن تلك القصائد مع القرآن في زعمهم، تسيرُ معه، وربما انتقلوا إليها واستغنوا بها عنه.
ويطلقون «الجنيب» أيضًا على العبد ما دام سالكًا إلى الحق عز وجل حاملًا لزاده. انظر: «لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام» للقاشاني (1/ 326).
(3)
كابن الفارض في «نظم السلوك» . انظر: «الجواب الصحيح» (4/ 499) ، و «مجموع الفتاوى» (7/ 596، 11/ 248).
(4)
كالحلاج. انظر: ديوانه (130) ، و «مجموع الفتاوى» (2/ 288، 311).
ويجعلُ كلٌّ منهم ذلك من الأسرار المخزونة والعلوم المَصُونة التي تكونُ لخواصِّ أولياء الله المتقين.
ومن أمثلة ذلك: أنك تجد عند الرافضة والمتشيِّعة ومن أخَذ عنهم من دعوى علوم الأسرار والحقائق التي يدَّعون أخذَها عن أهل البيت ــ إما مِن العلوم الدينية وإما مِن علم الحوادث الكائنة ــ ما هو عندهم من أجلِّ الأمور التي يجبُ التواصي بكِتْمانها والإيمانُ بما لا يُعْلَمُ حقيقتُه من ذلك.
وجميعها كذبٌ مختَلقٌ وإفكٌ مفترى، فإن هذه الطائفة من أكثر الطوائف كذبًا
(1)
وادعاءً للعلم المكتوم
(2)
، ولهذا انتسبت إليهم الباطنيةُ والقرامطة.
وهؤلاء خرجَ أوَّلهم في زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصاروا يدَّعون أنه خُصَّ بأسرارٍ من العلوم والوصيَّة، حتى كان يسأله عن ذلك خواصُّ أصحابه فيخبرُهم بانتفاء ذلك، ولما بلغه أن ذلك قد قيل كان يخطُب الناسَ وينفي ذلك.
وقد خرَّج أصحابُ الصَّحيح كلامَ عليٍّ هذا من غير وجهٍ، مثل ما في «الصَّحيح»
(3)
عن أبي جحيفة قال: «سألتُ عليًّا: هل عندكم شيءٌ ليس في
(1)
انظر: «منهاج السنة» (1/ 57، 59، 66، 2/ 87، 301، 467، 3/ 373، 4/ 121، 5/ 160، 6/ 427، 7/ 193، 8/ 304) ، و «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 281) ، و «درء التعارض» (7/ 91) ، و «مجموع الفتاوى» (4/ 471، 517، 13/ 263، 27/ 175، 35/ 184).
(2)
انظر: «منهاج السنة» (4/ 126).
(3)
صحيح البخاري (111، 6903، 6915).
القرآن؟ فقال: لا، والذي فلقَ الحَبَّةَ وبَرأ النَّسَمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهمًا يعطيه اللهُ الرجلَ في كتابه وما في هذه الصَّحيفة. قلت: وما في الصَّحيفة؟ قال: العَقْل، وفَكاكُ الأسير
(1)
، وأن لا يُقْتَل مسلمٌ بكافر».
ولفظ البخاري
(2)
وفي «الصحيحين»
(3)
عن إبراهيم التَّيميِّ عن أبيه [عن عليٍّ]ــ وهذا من أصحِّ إسنادٍ على وجه الأرض
(4)
وفي روايةٍ لمسلم: «خَطَبنا عليُّ بن أبي طالبٍ فقال: من زعمَ أن عندنا كتابًا نقرؤه إلا كتابَ الله وما في هذه الصحيفة ــ قال: وصحيفتُه معلقةٌ في قِرَاب سَيفِه ــ فقد كَذَب، فيها أسنانُ الإبل وأشياءُ من الجِرَاحات
(5)
، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: المدينةُ حَرَمٌ
…
» الحديث.
وأما الكذبُ والأسرارُ التي يدَّعونها عن جعفر الصادق فمن أكثر
(6)
(1)
العقل: ما تتحمله العاقلة من دية القتيل خطأً. وفكاك الأسير: حكم تخليصه من يد العدو والترغيب في ذلك.
(2)
(3047).
(3)
صحيح البخاري (3172، 3179، 6755، 7300) ، ومسلم (1370).
(4)
لم أر من ذكره في أصح الأسانيد، وهو من موارد الاجتهاد.
(5)
أسنان الإبل: أي ما يؤخذ منها في الديات، والجراحات: أي ما يجب فيها.
(6)
الأصل: «أكبر» . والمثبت أليق بالسياق.
الأشياء، حتى يقال: ما كُذِبَ على أحدٍ ما كُذِبَ على جعفر رضي الله عنه
(1)
.
ومن هذه الأمور المضافة:
* كتاب «الجَفْر» الذي يدَّعون أنه كَتبَ فيه الحوادث، والجَفْر: ولد الماعز، يزعمون أنه كَتبَ ذلك في جِلْدِه
(2)
.
* وكذلك كتاب «البطاقة»
(3)
الذي يدَّعيه ابنُ أحلى
(4)
ونحوه من
(1)
انظر: «منهاج السنة» (2/ 464، 4/ 54، 7/ 534) ، و «مجموع الفتاوى» (2/ 217، 35/ 183) ، و «تاريخ الإسلام» (3/ 838).
وفي «رجال الكشي» (216)، و «بحار الأنوار» (2/ 246) قال جعفر رضي الله عنه:«إن الناس أولعوا بالكذب علينا» ! والآثار عنه في هذا المعنى كثيرة.
(2)
انظر: «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (123) ، و «مقدمة ابن خلدون» (5/ 50) ، و «بدائع السلك» لابن الأزرق (149) ، و «أبجد العلوم» (2/ 214) ، و «تاريخ آداب العرب» للرافعي (2/ 120) ، و «دائرة المعارف الإسلامية» (7/ 46).
(3)
وهو من كتب الإخبار بالمستقبلات، وينسبونه إلى جعفر الصادق، وبعضهم إلى علي رضي الله عنهما. انظر:«بغية المرتاد» (321، 328) ، و «درء التعارض» (5/ 26) ، و «منهاج السنة» (8/ 136، 2/ 464، 4/ 54، 7/ 534، 8/ 10، 28) ، و «مجموع الفتاوى» (11/ 55).
(4)
(ط): «الحلي» ، وفي «الصفدية» (1/ 238) و «الرد على الشاذلي» (184):«أجلى» . وكلاهما تحريف. وهو محمد بن علي بن أحلى الأنصاري أبو عبد الله، من أمراء الأندلس، فيلسوفٌ متصوف من أهل الاتحاد، أخذ عن ابن المرأة أبي إسحاق بن دهاق طريقة الشوذي وخبيث مذهبه، وكان داعية إليه، وصنف في الكلام والتفسير على طريقته، وله أتباعٌ وأصحابٌ ورياسة، توفي سنة 645. جوَّد ترجمته ابن الزبير الغرناطي في «صلة الصلة» (4/ 391 - 395) وهو خبيرٌ بأحواله ومعرفة أتباعه وله في الردِّ عليه كتابٌ ورجزٌ طويل، وحذَّر منه أبو حيان في «البحر المحيط» (4/ 210) وزرُّوق في كتابيه «قواعد التصوف» (273) و «عدة المريد الصادق» (246). وانظر: «المغرب في حلي المغرب» (2/ 276) ، و «الذيل والتكملة لكتاب الصلة» (السفر السادس/436 - 439) ، و «الحلة السيراء» (2/ 314) ، و «العقد الثمين» (5/ 330) ، و «الأعلام» (6/ 282) ، و «ابن سبعين وفلسفته الصوفية» لأبي الوفا التفتازاني (72 - 74، 455).
المغاربة.
* ومثل كتاب «الجَدْول» في الهلال
(1)
، و «الهَفْت»
(2)
عن جعفر، وكثير من تفسير القرآن
(3)
، وغيره.
(1)
جدول يعتمد على العدد دون الرؤية في الهلال، وإليه يذهب بعض الإسماعيلية والشيعة، يزعمون أن جعفر الصادق دفعه إليهم، قال المصنف:«ولم يأت به إلا عبد الله بن معاوية، ولا يختلف أهل المعرفة من الشيعة وغيرهم أن هذا كذبٌ مختلقٌ على جعفر» . «مجموع الفتاوى» (25/ 133، 179، 183). وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب جوادٌ شاعرٌ طالبٌ للخلافة، لكنه لم يكن بمحمود المذهب في دينه، قال ابن حزم: كان رديء الدين معطلًا يصحب الدهرية. انظر: «لسان الميزان» (5/ 18) ومصادر ترجمته. وممن ردَّه من الشيعة وطعن في عبد الله بن معاوية: ابن زهرة الحلبي (ت: 585) في «غنية النزوع» (132).
(2)
وهو من كتب الإسماعيلية، من رواية المفضل بن عمر الجعفي عن جعفر، والرافضة الاثنا عشرية تبرأ منه. نشره عارف تامر سنة 1960، ثم مصطفى غالب سنة 1964، وهما حاملا لواء نشر التراث الإسماعيلي.
(3)
ككثير من الأقوال والإشارات التي يذكرها عنه أبو عبد الرحمن السلمي في «حقائق التفسير» . انظر: «الاستقامة» (1/ 191) ، و «بغية المرتاد» (328) ، و «منهاج السنة» (4/ 54، 8/ 11، 43) ، و «مجموع الفتاوى» (2/ 217).
* ومثل كتاب «رسائل إخوان الصفا» الذي صنَّفه جماعةٌ في دولة بني بُوَيْه ببغداد وكانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنِّفة، جمعوا بزعمهم بين دين الصابئة المبدِّلين وبين الحَنِيفيَّة، وأتوا بكلام المتفلسفة وبأشياء من الشريعة، وفيه من الكفر والجهل شيءٌ كثير
(1)
، ومع هذا فطائفةٌ من الناس من بعض أكابر قضاة النواحي يزعمُ أنه من كلام جعفر الصادق! وهذا قولُ زنديقٍ وتشنيعُ جاهل
(2)
.
* ومثل ما يذكرُه بعض العامَّة من ملاحِم ابن عَقِب
(3)
، ويزعمون أنه
(1)
حرر المصنف القول في أصل هذه الرسائل ونهجها ومشرب أصحابها في مواضع كثيرة من كتبه. انظر: «الصفدية» (1/ 2، 237، 255) ، و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 474، 5/ 268، 280) ، و «النبوات» (1/ 403) ، و «منهاج السنة» (2/ 466، 4/ 55) ، و «بغية المرتاد» (180، 199) ، و «شرح الأصبهانية» (462، 647، 723) ، و «درء التعارض» (5/ 10، 6/ 242) ، و «الجواب الصحيح» (5/ 37) ، و «الرد على المنطقيين» (444، 487، 509) ، و «الرد على الشاذلي» (39، 145، 184) ، و «جامع الرسائل» (1/ 168) ، و «مجموع الفتاوى» (4/ 259، 314، 346، 6/ 181، 547، 9/ 36، 11/ 571، 12/ 23، 13/ 249، 17/ 333، 18/ 336، 27/ 175، 32/ 233، 35/ 134، 153).
والكلام فيها كثير، ومن أهم ذلك:«الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان (2/ 4) ، و «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للقفطي (108) ، و «دائرة المعارف الإسلامية» (1/ 527) ، و «إخوان الصفا» لعمر الدسوقي، ولجبور عبد النور.
(2)
فإنها وضعت بعد موته بأكثر من مئتي سنة. انظر: «منهاج السنة» (2/ 465، 4/ 54) ، و «مجموع الفتاوى» (11/ 581، 35/ 183) ، و «درء التعارض» (5/ 26) ، و «بغية المرتاد» (329).
(3)
تحرف في الأصل إلى: «غنضب» . وهو عبدالله بن يسار (كذا وقع اسم أبيه في «أنساب الأشراف» 11/ 105، وفي بعض المصادر: بشار، والأول أشبه بأسماء تلك الطبقة، فـ «بشار نادرٌ في التابعين، معدومٌ في الصحابة» كما يقول الذهبي في «المشتبه» 78) بن أبي عقب الليثي. واشتهر عند المتأخرين بيحيى بن عقب، كما وقع في «كشف الظنون» (2/ 1818) وبعض الأصول الخطية لملحمته، وجعلت له العامة بمصر ضريحًا باسمه هذا، كما في خطط المقريزي (3/ 86) وغيره. وسماه ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (1/ 245): يحيى بن عبد الله بن أبي العقب.
وذهب بعضهم إلى أنه شيءٌ لا وجود له وشبَّهه بمجنون ليلى، انظر:«الأغاني» (2/ 9) ، والأشبه أنه شاعرٌ متقدمٌ معروفٌ بأشعار الملاحم، لكن الناس لم يزالوا يزيدون فيها ويُنقِصون ويبدِّلون على مرِّ السنين حتى صارت ملحمةً كبيرةً على الصفة التي كانت في عهد المصنف. انظر:«البيان والتبين» (2/ 228) ، و «أسماء المغتالين» لابن حبيب (2/ 173، 269 - نوادر المخطوطات)، وغيرهما من المصادر المتقدمة التي ذكرت بعض أخباره. وللحسين بن محمد بن علي الأزدي (من القرن الرابع):«أخبار ابن أبي عقب وشعره» . انظر: «الرجال» لابن الغضائري (47) ، و «رجال النجاشي» (154) ، و «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» (1/ 326).
ولأخي البحاثة الأستاذ أبي الفضل القونوي: «ملاحم ابن أبي عقب من الكتب التي حذر منها شيخ الإسلام ابن تيمية» طبع دار أضواء السلف سنة 1426.
كان معلِّمًا للحسن والحسين. وهذا شيءٌ لم يكن في الوجود باتفاق أهل العلم، وملاحمُه إنما صنَّفها بعض الجهال في دولة نور الدين ونحوها
(1)
، وهو شعرٌ فاسدٌ نظَمَه جاهل
(2)
.
وكذلك عامةُ هذه الملاحم المرويَّة بالنَّظم ونحوه عامَّتُها من الأكاذيب، وقد أُحدِثَ في زماننا من القضاة والمشايخ غيرُ واحدةٍ منها، وقرَّرتُ بعض
(1)
انظر: «منهاج السنة» (7/ 182 - 183) ، و «مجموع الفتاوى» (11/ 55).
(2)
الأصل: «نظم جاهل» . وفي (ط): «يدل على أن نظمه جاهل» .