المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تتمة في حكم السفر إلى بلاد الكفر والإقامة فيها - شرح ثلاثة الأصول للعثيمين

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌ترجمة مؤلف كتاب (ثلاثة الأصول)شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى

- ‌ترجمة الشارح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى

- ‌شرح البسملة

- ‌العلم ومراتب الإدراك

- ‌الفرق بين الرحمة والمغفرة

- ‌المسائل الأربع

- ‌المسألة الأولى: العلم وهو: معرفة العبد ربه ونبيه ودينه

- ‌المسألة الثانية العمل به

- ‌المسألة الثَّالِثَةُ: الدَّعْوَةُ إليه

- ‌المسألة الرابعة: الصبر على الأذى فيه

- ‌أقسام الصبر

- ‌تفسير سورة العصر

- ‌معنى قول الإمام الشافعي لو مأنزل الله

- ‌المسائل الثلاث التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمهن

- ‌المسألة الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا بل أرسل لنا رسولا

- ‌المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ معه أحد في عبادته

- ‌المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ ورسوله

- ‌معنى الحنيفية

- ‌أَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ

- ‌ أعظم ما نهى الله عنه الشرك

- ‌الأُصُولُ الثَّلاثَةُ التِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا

- ‌الأصل الأول: معرفة العبد ربه

- ‌الأصل الثاني: معرفة العبد دينه

- ‌تعريف الإسلام

- ‌مراتب الدين

- ‌معنى شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌معنى شهادة أن محمد رسول الله

- ‌معنى الرب والدليل على ذلك

- ‌آيات الله

- ‌الرب هو المعبود ودليل ذلك وتفسيره

- ‌أنواع العبادة على وجه الإجمال

- ‌مدخل

- ‌النوع الأول: الدعاء وأنواعه

- ‌النوع الثاني: الخوف وهو ثلاثة أنواع

- ‌النوع الثالث: الرجاء

- ‌النوع الرابع: التوكل وهو أربعة أنواع

- ‌النوع الخامس: الرغبة

- ‌النوع السادس: الرهبة

- ‌النوع السابع: الخشوع

- ‌النوع الثامن: الخشية وهي خمسة أنواع

- ‌النوع التاسع: الإنابة

- ‌النوع العاشر: الإستعانة

- ‌النوع الحادي عشر: الإستعاذة

- ‌النوع الثاني الثاني عشر: الإستغاثة وهي أربعة أنواع

- ‌النوع الثالث عشر: الذبح وهو ثلاثة أنواع

- ‌النوع الرابع عشر: النذر

- ‌دليل الصيام والحج

- ‌فائدة في الجمع بين كون الإيمان بضع وسبعون شعبة وأركانه ستة

- ‌الركن الأول: الإيمان بالله ويتضمن أربعة أمور:

- ‌الأول: الإيمان بوجود الله

- ‌الثاني: الإيمان بربوبيته:

- ‌الثالث: الإيمان بألوهيته:

- ‌الربع: الإيمان بأسمائه وصفاته

- ‌الركن الثاني: الإيمان بالملائكة ويتضمن أربعة أمور

- ‌الأول: الإيمان بوجودهم

- ‌الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم

- ‌الثالث: الإيمان بما علمنا من صفاتهم

- ‌الرابع: الإيمان بما علمنا من أعمالهم

- ‌ثمرات الإيمان بالملائكة

- ‌ثمرات الإيمان بالملائكة

- ‌الرد على من أنكر كون الملائكة أجساما

- ‌الركن الثالث: الإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور

- ‌الأول: الإيمان بأن نزولها من عند الله

- ‌الثاني: الإيمان بما علمنا اسمه منها

- ‌ثمرات الإيمان بالكتب

- ‌الإيمان بالكتب يثمر ثمرات جليلة منها:

- ‌الركن الرابع: الإيمان بالرسل ويتضمن أربعة أمور

- ‌المراد بالرسول

- ‌الأول: الإيمان بأن رسالتهم حق من عند الله

- ‌الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه

- ‌الرابع: العمل بشريعة من أرسل إلينا

- ‌ثمرات الإيما بالرسل

- ‌الركن الخامس: الإيمان باليوم الأخر ويتضمن ثلاثة أمور

- ‌الأول الإيمان بالبعث ودليل ذلك

- ‌الثاني: الإيمان بالحساب والجزاء ودليل ذلك

- ‌الثالث: الإيمان بالجنة والنار

- ‌ثمرات الإيمان باليوم الأخر

- ‌الرد على من أنكر البعث بالشرع والحس والعقل

- ‌الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره ويتضمن أربعة أمور

- ‌الأول: العلم

- ‌الثاني: الكتابة

- ‌الثالث: المشيئة

- ‌الرابع: الخلق

- ‌هل للعبد قدرة ومشيئة في أفعاله الإختيارية

- ‌الرد على من احتج بالقدر في ترك الواجب أو فعل المعصية من وجوه سبعة

- ‌ثمرات الإيمان بالقدر

- ‌ضل في القدر طائفتان والرد عليهما

- ‌المرتبة الثالثة: الإحسان وتعريفه

- ‌العبادة مبنية على غاية الحب وغاية الذل

- ‌فائدة نفسية متى يكون إظهار العبادة أفضل

- ‌الأصل الثالث: معرفة العبد نبيه

- ‌حياة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المعراج

- ‌هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تعريف الهجرة وحكمها والدليل

- ‌تتمة في حكم السفر إلى بلاد الكفر والإقامة فيها

- ‌وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الإيمان بالبعث ودليله

- ‌الإيمان بالحساب ودليله

- ‌حكم التكذيب بالبعث

- ‌الحكمة من إرسال الرسل

- ‌أول الرسل وأخرهم

- ‌دعوة جميع الرسل إلى عبادة الله والنهي عن الشرك

- ‌ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ

- ‌أحسن تعريف للطاغوت

- ‌أحوال الناس مع حكامهم

- ‌رؤوس الطواغيت

- ‌مدخل

- ‌الأول: إبليس

- ‌الثاني: من عبد وهو راض

- ‌الثالث: من دعا الناس إلى عبادة نفسه

- ‌الرابع: من ادعى شيئا من علم الغيب

- ‌الخامس: من حكم بغير ما أنزل الله

- ‌الخاتمة برد العلم إلى الله تعالى والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه

الفصل: ‌تتمة في حكم السفر إلى بلاد الكفر والإقامة فيها

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت، الآية:65] قال البغوي – رحمه الله تعالى -: سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يُهَاجِرُوا؛ نَادَاهُمُ اللهُ بِاسْمِ الإِيمَانِ (1) . وَالدَّلِيلُ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم*: "لا تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشمس من مغربها"(2) .

ــ

(1)

الظاهر أن الشيخ رحمه الله نقل هذا عن البغوي بمعناه، هذا إن كان نقله من التفسير إذ ليس المذكور في التفسير البغوي لهذه الآية بهذا اللفظ.

(2)

وذلك حين إنتهاء العمل الصالح المقبول لله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [سورة الأنعام، الآية: 158] والمراد ببعض الآيات هنا طلوع الشمس من مغربها.

* أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب: في الهجرة هل أنقطعت. وأحمد جـ1 ص 192. والدرامى، كتاب السير، باب: أن الهجرة لا تنقطع، والهيثمي في "مجمع الزوائد" جـ 5 ص 250، وقال: "روى أبو داود والنسائي بعض حديث معاوية – ورواء أحمد والطبراني في الأوسط والصغير من غير حديث ابن السعدي – ورجال أحمد ثقات –".

ص: 131

‌تتمة في حكم السفر إلى بلاد الكفر والإقامة فيها

"تتمة" نذكر هنا حكم السفر إلى بلاد الكفر.

فنقول: السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:

الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.

الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.

ص: 131

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك.

فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الفتنة أو خوف وفيه إضاعة المال لأن الإنسان ينفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار.

أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به.

وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام، وبلادنا الآن والحمد لله أصبحت بلاداً سياحية في بعض المناطق فبإمكانه أن يذهب إليها ويقضي زمن إجازته فيها.

وأما الإقامة في بلاد الكفار فإن خطرها عظيم على دين الإسلام، وأخلاقه، وسلوكه، وآدابه وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فساقاً، وبعضهم رجع مرتداً عن دينه وكافراً به وبسائر الأديان – والعياذ بالله – حتى صاروا إلى الجحود المطلق والإستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهوي في تلك المهالك.

فالإقامة في بلاد الكفر لا بد فيها من شرطين اساسين:

الشرط الأول: أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان،

ص: 132

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الإنحراف والزيغ، وأن يكون مضمراً لعداوة الكافرين وبغضهم مبتعداً عن موالاتهم، ومحبتهم، فإن موالاتهم ومحبتهم، مما ينافي الإيمان بالله قال تَعَالَى:{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة المجادلة، الآية: 22] الآية: وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [سورة المائدة، الآيتين: 51-52] وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن من أحب قوماً فهو منهم، وأن المرء مع من أحب"(1) ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطراً على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من أحب قوماً فهو منهم"(1) .

الشرط الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة

(1) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب: علامة حب الله عز وجل ومسلم، كتاب الصلة، باب: المرء مع من أحب.

ص: 133

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لوجوب الهجرة حينئذ، قال في المغني ص 457 جـ 8 في الكلام على أقسام الناس في الهجرة: أحدها من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه من إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء الآية: 97] وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. أهـ.

وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفار إلى أقسام:

القسم الأول: أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه فهذا نوع من الجهاد فهي فرض كفاية على من قدر عليها، بشرط أن تتحقق الدعوة وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الإستجابة غليها، لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين وهي طريقة المرسلين وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان فقال صلى الله عليه وسلم:"بلغوا عني ولو آية"(1) .

القسم الثاني: أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين والتعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة، وبطلان التعبد، وإنحلال الأخلاق، وفوضوية

(1) رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل.

ص: 134

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

السلوك؛ ليحذر الناس من الإغترار بهم، ويبين للمعجبين بهم حقيقة حالهم، وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضاً لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه، لأن فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. لكن لا بد من شرط أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه، فإن لم يتحقق مراده بأن منع من نشر ما هم عليه والتحذير منه فلا فائدة من إقامة، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسول الإسلام وائمة الإسلام وجب الكف لقوله تعالى:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 108] .

ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عيناً للمسلمين؛ ليعرف ما يدبروه للمسلمين من المكايد فيحذرهم المسلمون، كما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم. (1)

القسم الثالث: أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتها مع دول الكفر كموظفي السفارات فحكمها حكم ما أقام من أجله. فالملحق الثقافي مثلاً يقيم ليرعى شؤون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويندرئ بها شر كبير.

القسم الرابع: أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول

(1) صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب غزوة الأحزاب.

ص: 135

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بلاد الكفر للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.

القسم الخامس: أن يقيم للدراسة وهي من جنس ما قبلها إقامة لحاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكاً بدين المقيم وأخلاقه، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي ذلك إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال. والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروط:

الشرط الأول: أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد فأما بعث الأحداث "صغار السن" وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم، وخلقهم، وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإن كثيراً من أولئك المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في دياناتهم، وأخلاقه، وسلوكهم، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية.

ص: 136

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الشرط الثاني: أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل، ومقارعة الباطل بالحق لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقاً أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل.

وفي الدعاء المأثور "اللهم أرني الحق حقاً وأرزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي فأضل".

الشرط الثالث: أن يكون عند الطالب دين يحميه ويتحصن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم، فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوعة فإذا صادفت محلاً ضعيف المقاومة عملت عملها.

الشرط الرابع: أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من اجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من أجله لما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق، وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة.

القسم السادس: أن يقيم للسكن وهذا أخطر مما قبله وأعظم لما يترتب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودة، وموالاة، وتكثير لسواد الكفار، ويتربى أهله0

ص: 137

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم، وربما قلدوهم في العقيدة والعبد ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله"(1) . وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر فإن المساكنة تدعو إلى المشاكلة، وعن قيس بن حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله ولم؟ قال: لا تراءى نارهما"(2) . رواه أبو داود والترمذي وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي سمعت محمداً – يعني البخاري – يقول الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسل. أهـ. وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم.

هذا ما توصلنا إليه في حكم الإقامة في بلاد الكفر نسأل الله أن يكون موافقاً للحق والصواب.

(1) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب: الإقامة بأرض المشركين.

(2)

أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب: النهي عن قتل من أعتصم بالسجود. والترمذي كتاب السير، باب: ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين.

ص: 138

فلما آستقر بالمدينة أُمِرَ بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ مِثلِ: الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، والحج، والجهاد والآذان، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ من شرائع الإسلام (1)

ــ

(1)

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لما استقر – أي النبي صلى الله عليه وسلم – في المدينة النبوية أمر ببقية شرائع الإسلام وذلك أنه في مكة دعا إلى التوحيد نحو عشر سنين، ثم بعد ذلك فرضت عليه الصلوات الخمس في مكة، ثم هاجر إلى المدينة ولم تفرض عليه الزكاة ولا الصيام ولا الحج ولا غيرها من شعائر الإسلام وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن الزكاة فرضت أصلاً وتفصيلاً في المدينة، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الزكاة فرضت أولاً في مكة وفي المدينة قدرت الأنصباء وقدر الواجب وأستدل هؤلاء بأنه جاءت آيات توجب الزكاة في سورة مكية مثل قوله تعالى في سورة الأنعام:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [سورة الأنعام، الآية: 141] ومثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [سورة المعارج، الآيتين: 24-25] وعلى كل حال فاستقرار الزكاة وتقدير أنصابها وما يجب فيها وبيان مستحقيها كان في المدينة، وكذلك الأذان والجمعة، والظاهر أن الجماعة كذلك لم تفرض إلا في المدينة؛ لأن الأذان الذي فيه الدعوة للجماعة فرض في السنة الثانية، فأما الزكاة والصيام فقد فرضا في السنة الثانية من الهجرة، وأما الحج فلم يفرض إلا في السنة التاسعة على القول الراجح من أقوال أهل العلم وذلك حين كانت مكة بلد إسلام بعد فتحها في السنة الثامنة من الهجرة، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن

ص: 139