الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب فضل السماحة في البيع والشراء والأخذ والعطاء وحسن القضاء والتقاضي
وإرجاح المكيال والميزان والنهي عن التطفيف
قال الله تعالى: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} وقال تعالى: {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم} وقال تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس & يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل السماحة في البيع والشراء.
البيع والشراء أمران ضروريان لا تقوم حياة بني آدم إلا بهما غالبا وذلك لأن الإنسان قد يحتاج إلى شيء عند غيره فكيف يواصل إليه إن استجداه وقال: هبه لي أذل نفسه وإن استعاره بقي في قلق وإن أخذه غصبا ظلمه فكان من حكمة الله عز وجل أن شرع البيع والشراء لأني أنا ممكن أحتاج دراهم فأبيع ما عندي وأنت محتاج هذا الشيء المعين عندي فتشتريه بالدراهم فكان البيع أمرا ضروريا لحاجة بني آدم.
ولكن من الناس من يبيع بالعدل ومن الناس من يبيع بالظلم ومن الناس من يبيع بالإحسان فالناس ثلاثة أقسام: 1 - قسم يبيع بالعدل لا يظلم ولا يظلم كما قال تعالى في الذين يتعاملون بالربا وأن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
2 -
وقسم يبيع بالجور والظلم كالغشاش والكذاب وما أشبه ذلك.
3 -
وقسم يبيع بالفضل والإحسان فيكون سمحا في البيع وفي الشراء إن باع لم يطلب حقه وافيا بل ينزل من الثمن ويمهل في القضاء وإن اشترى لا يهمه أن يزيد عليه الثمن ويبادر بالوفاء فيكون محسنا.
وقد استدل المؤلف رحمه الله على فضل السماحة في البيع والشراء بآيات منها قوله تعالى: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} كلمة من خير نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الخيرات من أي جهة وهي مؤكد عمومها بـ (من){من خير} يعني أي خير تفعلونه فإن الله به عليم يعني لا يخفى عليه ولا يفوته عز وجل وسيجازيكم على هذا أفضل مما عملتم لأن الله يجازي بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
والمراد بالآية الكريمة المراد بذلك الحث على فعل الخير وأن يعلم الفاعل أنه لن يضيع عليه شيء من فعله فإن الله به عليم وسيجازيه عليه عز وجل أفضل الجزاء ومن الخير السماحة في البيع والشراء وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمتسامحين في البيع والشراء فقال: رحم الله امرءا سمحا إذا باع
سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى فالإنسان كلما كان أسمح في بيعه وشرائه وتأجيره واستئجاره ورهنه وارتهانه وغير ذلك فإنه أفضل وقال الله تعالى عن شعيب أنه قال لقومه: {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أوفوا المكيال: أي ما تبيعونه كيلا والميزان ما تبيعونه وزنا أوفوه ولا تنقصوا منه شيئا.
وهذا دليل على أن الوفاء في العقود مما جاء في الشرائع السماوية السابقة واللاحقة وقال تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون} .
ويل: كلمة وعيد يتوعد الله عز وجل المطففين الذين هذه صفاتهم إذا اكتالوا على الناس يستوفون يعني إذا كان الحق لهم واكتالوا فإنهم يستوفون حقهم كاملا وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون يعني إذا كان الحق عليهم وكالوا لهم أو وزنوا لهم يخسرون أي يبخسون الكيل والميزان فيظلمون من الوجهين أو يطلبون العدل فيما يتعاملون به ويبخسون فيما يعاملون الناس به وهذا هو المطفف وهذه الآية وإن
كانت قد وردت في المكيال والميزان إلا أن العامل حتى الموظف إذا كان يريد أن يعطي راتبه كاملا لكنه يتأخر في الحضور أو يتقدم في الخروج فإنه من المطففين الذي توعدهم الله بالويل لأنه لا فرق بين إنسان يكيل أو يزن للناس وبين إنسان موظف عليه أن يحضر في الساعة الفلانية ولا يخرج إلا في الساعة الفلانية ثم يتأخر في الحضور ويتقدم في الخروج هذا مطفف وهذا المطفف في الوظيفة لو نقص من راتبه ريال واحد من عشرة آلاف لقال لماذا تنقص هذا مطفف يدخل في هذا الوعيد {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} ثم قال تعالى منكرا عليهم {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} يعني هل هؤلاء نسوا يوم الحساب نسوا يوم القيامة الذي ما أقرب منه.
فالإنسان في هذه الدنيا ليس معه ضمان أن يعيش ولا لحظة واحدة يموت الإنسان وهو يتغذى أو يتعشى يموت وهو نائم يموت وهو على مكتبه يموت وهو ذاهب لحاجته أو راجع منها ثم يأتي اليوم العظيم {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} استعظمه الله عز وجل بين أنه عظيم فيدل على عظمه وقد وصف الله هذا اليوم في آيات كثيرة كلها تزعج وتروع وتخوف هؤلاء سوف يتعرضون لعقوبة الله في ذلك اليوم هؤلاء المطففون سيتعرضون لعقوبة الله في ذلك اليوم {يوم يقوم الناس لرب العالمين} يقوم الناس كلهم لرب العالمين من في مشارق الأرض ومغاربها يبعثون على صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر الداعي يسمعهم كلهم لأن الأرض مبسوطة غير كروية يغيب بعض الناس فيها عن بعض بل هي
سطح واحد إذا تكلم أحد في أولهم سمعه آخرهم وينفذهم البصر يراهم الرائي بخلاف الدنيا الأرض منعطفة كروية لكن في الآخرة الأرض سطح واحد كما قال تبارك وتعالى: {وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت} تمد كما يمد الجلد هذا اليوم العظيم يقوم الناس فيه لله عز وجل للحساب والمعاقبة ومقدار هذا اليوم خمسون ألف سنة والشمس من فوقهم بقدر ميل ولا شجرة يستظلون به ولا بناء ولا شيء إلا من يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم فهذا اليوم العظيم سيجد هؤلاء المطففون عقوبتهم في ذلك اليوم لا فيه ولد ينفع ولا أب ولا أم ولا زوجة ولا أحد لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه فليحذر هؤلاء المطففون وليتقوا الله عز وجل ويؤدوا الحق كاملا وإن زادوا فضلة فهو أفضل ولهم أن يأخذوا حقهم كاملا وإن تسامحوا فهو أفضل والله الموفق.
1367 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ له فهم به أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ثم قال: أعطوه سنا مثل سنه قالوا: يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سنه قال: أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء متفق عليه.
1368 -
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى رواه البخاري.
1369 -
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ذكرها المؤلف النووي رحمه في باب فضل السماحة في البيع والشراء وسبق الكلام على الآيات التي في صدر بها المؤلف & هذا الباب.
أما الأحاديث فمنها حديث أبي هريرة أن أعرابيا جاء يتقاضى الرسول صلى الله عليه وسلم حقه يتقاضاه يعني يطلب أن يقضيه النبي صلى الله عليه وسلم حقه وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم استقرض بكرا يعني ناقة صغيرة فجاء صاحبها يطلبها يقول: أعطني بكري والأعراب كما نعلم عندهم جفاء فأغلظ للرسول صلى الله عليه وسلم القول فهم به الصحابة يعني هموا به أن يضربوه أو يسكتوه أو ما أشبه ذلك فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا صلوات الله وسلامه عليه ما ظنكم لو تكلم مثل هذا الأعرابي على جندي من الجنود ماذا يفعل به يبطش به أو على أمير من الأمراء أو على قاض من
القضاة أو على وزير من الوزراء لو جاء يطلب حقه ولو بسهولة ربما يفتك به إلا من شاء الله هذا يغلظ القول لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان عليه حق لشخص وكان الشخص جاء يطلبه فلصاحب الحق أن يغلظ له القول لأنه صاحب حق والرسول صلى الله عليه وسلم سيوفيه لا شك لكن قد لا يكون عنده تلك الساعة شيء ولذلك أمرهم بقضاء بكره فقالوا: إنا لا نجد إلا سنا خيرا من سنة وفي رواية قالوا: لا نجد إلا رباعيا خيارا والرباعي أحسن بكثير من البكر البكر صغير والرباعية كبيرة تتحمل الحمل والأثقال وغير ذلك فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطوه إياها وقال: إن خيركم أحسنكم قضاء في صفة القضاء وفي معاملة المستقضي الذي يطلب حقه فينبغي للإنسان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في حسن القضاء لكن معاملة المستقضي الذي يطلب حقه أي لا يعامله بالجفاء والسب والشتم بل باللين لأن له حقا ومقالة ولا في المقضي يعني يقضي أحسن مما عليه سواء كان أحسن مما عليه كيفية أو أكثر مما يطلب فمثلا إذا استقرضت من شخص مائة ريال وعند الوفاء أعطيته مائة وعشرة بدون شرط فإن هذا لا بأس به وهو من خير القضاء وكذلك لو استقرضت منه صاعا من الطعام وسطا ليس بالطيب ولا بالرديء فأعطيته صاعا طيبا فهذا أيضا من حسن القضاء وخير الناس أحسنهم قضاء
وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع قال: رحم الله امرءا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا اقتضى وكذلك سمحا إذا قضى فقوله عليه الصلاة والسلام رحم الله امرءا أو قال رجلا هذا خبر بمعنى الدعاء يعني يدعو له بالرحمة إذا كان سمحا في هذه المواضع الأربعة سمحا إذا باع لا يشتد على المشتري ويكون سهلا يواضعه ويضع عنه سمحا إذا قضى إذا قضى غيره كان سمحا يعطيه في وقته ولا يماطل كذلك سمحا إذا اشترى وكذلك سمحا إذا اقتضى إذا أخذ حقه فهذه الأحوال الأربعة ينبغي للإنسان أن يكون سمحا فيها حتى ينال دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتي الكلام إن شاء الله على بقية الأحاديث.
1370 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رجل يداين الناس وكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه متفق عليه.
1371 -
وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه رواه مسلم.
1372 -
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أتى الله تعالى بعبد من عباده آتاه الله مالا: فقال له: ماذا عملت في الدنيا قال: ولا يكتمون الله حديثا قال يا رب آتيتني مالك فكنت أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أتيسر على الموسر وأنظر المعسر فقال الله تعالى: أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي فقال عقبة بن عامر وأبو مسعود الأنصاري رضي الله عنهما هكذا سمعناه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الثلاثة في باب فضل السماحة في البيع والشراء وفيها فضل العفو عن الناس والتجاوز عنهم ففي الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان رجل يداين الناس يعني يتعامل معهم بالدين والدين ليس هو المعروف عندنا يعني أن تشتري سلعة لتبيعها وتنتفع بثمنها الدين كل ما ثبت في الذمة فهو دين حتى لو بعت إلى شخص سيارة بثمن غير مؤجل ولم يسلمك الثمن فالثمن في ذمته دين وإن استأجرت بيتا وتمت المدة ولم تسلمه الأجرة فالأجرة في ذمتك دين المهم أن المداينة أن يعامل الناس ليس نقدا يعني يدا بيد بل يبيع إليهم ويشتري منهم ويعفو عن المعسر فكان يقول لغلامه: إذا رأيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله يتجاوز عنا فكان الغلام يفعل هذا فلقي الله
عز وجل فجازاه الله عز وجل بمثل ما يجازي به الناس يعني بمثل ما يفعل هذا الرجل في الناس عامله الله عز وجل فتجاوز عنه وذلك لأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ولأن الجزاء من حسن العمل ففي هذا الحديث حديث أبي هريرة والحديثين بعده دليل على فضيلة إنظار المعسر والتجاوز عنه وإبرائه.
واعلم أن هذا لا ينقصك شيئا من المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال بل هذا يجعل في مالك البركة والخير والزيادة والنماء.
وأما إنظار المعسر فإنه واجب يجب على الإنسان إذا كان صاحبه معسرا لا يستطيع الوفاء يجب عليه أن ينظره ولا يحل له أن يكربه أو يطالبه لقول الله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة فهناك فرق بين الإبراء وهو إسقاط الدين عن المعسر وبين الإنظار الإنظار واجب والإبراء سنة ولا شك أن الإبراء أفضل لأن الإبراء تبرأ به الذمة نهائيا والإنظار تبقي الذمة مشغولة لكن صاحب الحق لا يطالب به حتى يستطيع المطلوب أن يوفي وبعض الناس نسأل الله العافية تحل لهم الديون على أناس فقراء فيؤذونهم ويضربونهم ويطالبونهم ويدفعون بهم إلى ولاة الأمور ويحسبونهم عن
أهليهم وأولادهم وأموالهم وهذا لا شك أنه منكر والواجب على القضاة إذا علموا أن هذا معسر لا يستطيع الوفاء الواجب عليهم أن يقولوا للدائن ليس لك حق في مطالبته لأن الله تعالى هو الحكم هو الحاكم بين العباد وقد قال الله تعالى: {إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} لكن & يتعلل بعض القضاة في هذه المسألة يقولون: إن بعض المدينين يتلاعبون بالناس فيأخذون الأموال ويجحدون الإيثار فيعاملونهم بهذا تنكيلا بهم وهذا نعم إذا ثبت أن هذا المدين يدعي الإعسار وليس بمعسر فإنه لا بأس أن يجبر ويحبس ويضرب حتى يوفي فإن لم يفعل فإن الحاكم يتولى بيع ما شاء من ماله ويوفي دينه أما الذي نعلم أنه معسر حقيقة فإنه لا يجوز لطالبه أن يطالبه ولا أن يقول: أعطني يجب أن يعرض عنه بالكلية {فنظرة إلى ميسرة} والله الموفق.
1373 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
1374 -
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه بعيرا فوزن له فأرجح
متفق عليه.
1375 -
وعن أبي صفوان سويد بن قيس رضي الله عنه قال: جلبت أنا ومحرمة العبدي بزا من هجر فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فساومنا بسراويل وعندي وزان يزن بالأجر فقال النبي صلى الله عليه وسلم للوزان: زن وأرجح رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
[الشَّرْحُ]
هذه بقية الأحاديث الواردة في فضل السماحة في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء وقد سبق أحاديث كثيرة حول هذا الموضع والأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله وردت فيمن أنظر معسرا أو وضع عنه فإن الله تعالى يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله أنظره يعني أمهله حتى يوسع الله عليه وهذا أمر واجب كما سبقت الإشارة إليه فإن وضع عنه فهو أفضل وأكمل لأنه إذا وضع عنه أبرأ ذمته وأما إذا أنظره فإنما أمهله وبقيت ذمته أي ذمة المطلوب مشغولة لم تنفك.
ثم ذكر حديثين أيضا فيهما ذكر الوزن والإرجاح حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه فوزن وأرجح يعني أرجح الوزن لأنهم كانوا فيما سبق يتعاملون بالنقود وزنا لا عددا وإن كانوا يتعاملون أيضا بها عددا لكن الكثير وزنا كما جاء في الحديث ليس فيما دون خمس أواق
صدقة فوزن له النبي صلى الله عليه وسلم وأرجح يعني زاده أكثر مما يستحق وهكذا ينبغي للإنسان عند الوفاء أن يوفي كاملا بدون نقص وإذا زاد فهو أفضل والله الموفق.
كتاب العلم باب فضل العلم علما وتعليما لله قال الله تعالى {وقل رب زدني علما} وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي في كتابه رياض الصالحين باب فضل العلم تعلما وتعليما لله عز وجل والمراد بالعلم الذي وردت به النصوص في فضله والثواب عليه ورفعه أهله وكونهم ورثة الأنبياء إنما هو علم الشريعة عقيدة وعملا وليس علم ما يتعلق بالدنيا كالحساب والهندسة وما أشبه ذلك المراد بالعلم العلم الشرعي الذي جاءت به الشرائع هذا هو العلم الذي يثني على من أدركه وعلى من علمه وتعلمه.
والعلم جهاد جهاد في سبيل الله وعليه يبنى الجهاد وسائر الإسلام لأن من لا يعلم لا يمكن أن يعمل على الوجه المطلوب ولهذا قال الله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون يعني لولا نفر بالجهاد من المؤمنين من كل فرقة منهم طائفة وقعدت طائفة أخرى ليتفقهوا أي الطائفة القاعدون في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم أي رجعوا من الغزو لعلهم يحذرون
فجعل الله تعالى الفقه في دين الله معادلا للجهاد في سبيل الله بل أولى منه لأنه لا يمكن أن يجاهد المجاهد ولا أن يصلي المصلي ولا أن يزكي المزكي ولا أن يصوم الصائم ولا أن يحج الحاج ولا أن يعتمر المعتمر ولا أن يأكل الآكل ولا أن يشرب الشارب ولا أن ينام النائم ولا أن يستيقظ المستيقظ إلا بالعلم فالعلم هو أصل كل شيء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
ولا فرق بين المجاهد الذي يسوي قلل قوسه وبين طالب العلم الذي يستخرج المسائل العلمية من بطون الكتب كل منهم يعمل للجهاد في سبيل الله وبيان شريعة الله لعباد الله ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله باب الجهاد بباب العلم ليبين أنه مثله بل إن بعض العلماء فضله على الجهاد في سبيل الله والصحيح أن في ذلك تفصيلا فمن الناس من يكون الجهاد في حقه أفضل ومن الناس من يكون طلب العلم في حقه أفضل فإذا كان الرجل قويا شجاعا مقداما لكنه في العلم بضاعته مزجاة قليل الحظ قليل الفهم يصعب عليه تلقي العلم فهنا نقول: الجهاد في حقه أفضل وإذا كان بالعكس رجل ليس عنده تلك القوة البدنية أو الشجاعة القلبية لكن عنده حفظا وفهما واجتهادا فهذا طلب العلم في حقه أفضل فإن تساوى الأمران فإن من أهل العلم من رجح طلب العلم لأنه أصل ولأنه ينتفع به الناس كلهم القاصي والداني وينتفع به من كان حيا
ومن يولد بعد وينتفع به صاحبه في حياته وبعد مماته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له وجميع الناس محتاجون للعلم الأنبياء وغير الأنبياء كلهم محتاجون للعلم ولهذا أمر الله نبيه أن يقول: {وقل رب زدني علما} {ولا تعجل بالقرآن من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما} فالرسل محتاجون إلى العلم والزيادة فيه وإلى سؤال الله عز وجل أن يزيدهم منه فمن دون الأنبياء من باب أولى فجدير بالعبد أن يسأل الله دائما أن يزيده من العلم ولكن إذا سأل الله أن يزيده من العلم فلابد أن يسعى في الأسباب التي يحصل بها العلم أما أن يطلبه ويقول: رب زدني علما وهو لم يفعل الأسباب فهذا ليس من الحكمة ولا من الصواب هذا كمن قال الله ارزقني ولدا ولا يتزوج من أين يأتي هذا الولد فلابد إذا سألت الله شيئا أن تسعى للأسباب التي يحصل بها لأن الله حكيم قرن المسببات بأسبابها وفي هذه الآية {وقل رب زدني علما} دليل على فضل العلم لم يقل لنبيه وقل رب زدني مالا بل قال له: وقل رب زدني علما وقال له في الدنيا: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لتفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} أسأل الله تعالى أن يمن علينا وعليكم بالعلم النافع والعمل الصالح والدعوة إلى الله
على بصيرة.
وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل العلم تعلما وتعليما لله وقد سبق لنا شيء من الكلام على العلم وبيان أن العلم الممدوح الذي فيه الثواب هو العلم في شريعة الله عز وجل: وما كان وسيلة لذلك كعلم النحو والصرف وما إليهما فإنه وسيلة وقد قال العلماء: إن للوسائل أحكام المقاصد.
والعلم الشرعي ينقسم إلى قسمين: قسم فرض عين يجب على كل إنسان أن يتعلمه وقسم آخر فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن بقية الناس وقسم ثالث يتفرع عن الثاني سنة وهو إذا ما قام بالعلم من يكفي فيكون للباقين سنة.
أم العلم الفرض العين الذي يجب على كل إنسان فهو أن يتعلم الإنسان ما يحتاج إليه في أمور دينه الواجبة كأن يتعلم ما يتعلق بتوحيد الله وبيان ما ينافيه ويناقضه من الشرك كله جليه وخفيه صغيره وكبيره لأن هذا مفروض على كل أحد كل إنسان يجب عليه أن يعرف توحيد الله ويوحد الله تعالى بما يختص به جل وعلا كذلك أيضا الصلاة الصلاة مفروضة على كل أحد لا تسقط عن المسلم أبدا ما دام عقله ثابتا فلابد أن يتعلمها ويتعلم ما يلزم لها من طهارة
وغيرها حتى يعبد الله على بصيرة الزكاة لا يجب تعلمها على كل أحد من عنده مال وجب عليه أن يتعلم ما هو المال الزكوي وما مقدار النصاب وما مقدار الواجب ومن الذي تؤتى إليه الزكاة وما أشبه ذلك لكن لا يجب على كل واحد أن يتعلم الزكاة فإذا كان فقيرا فلماذا نوجب عليه أن يتعلم أحكام الزكاة وهو ليس عنده مال الصوم يجب تعلمه على كل أحد يجب أن يتعلم الإنسان ماذا يصوم عنه وما هي المفطرات وما هي نواقض الصوم وما هي منقصاته وما أشبه ذلك كل إنسان يصوم يجب عليه أن يتعلم ذلك الحج لا يجب على كل أحد أن يتعلمه وإنما يجب أن يتعلمه من استطاع إليه سبيلا حتى يحج على بصيرة.
ومع الأسف أن كثيرا من الناس لا يتعلمون ما يجب عليهم من أحكام دينهم فيقعون في المتاعب ولاسيما في الحج وما أكثر الذين يسألون عن الحج وتجدهم قد وقعوا في خلل كبير لأنهم لم يتعلموا قبل أن يعملوا البيع مثلا أحكام البيع لا يجب على كل إنسان أن يتعلم أحكام البيع لكن من أراد أن يتجر ويبيع ويشتري لابد أن يتعلم ما هو البيع الممنوع وما هو البيع المشروع حتى يكون على بصيرة من أمره وهلم جرا.
فتبين الآن أن العلم الشرعي ينقسم إلى قسمين الأول فرض عين والثاني فرض كفاية وفرض الكفاية يستحب لمن زاد على من تقوم به الكفاية أن يتعلم ليحفظ شريعة الله ويهدي الله به عباده وينتفع الناس به.
ولا شيء أشرف من العلم ويدل لهذا قول الله تبارك وتعالى لنبيه
صلى الله عليه وسلم: ولا تعجل بالقرآن من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ربنا عز وجل يقول للرسول صلى الله عليه وسلم {وقل رب زدني علما} الرسول عليه الصلاة والسلام محتاج إلى زيادة العلم فدل ذلك على فضيلة العلم لأنه لم يقل له وقل رب زدني مالا زدني زوجات زدني أولادا بل قال له: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} ومما يدل على فضل العلم قول الله تبارك وتعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} بين كل الناس قول عام {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} والجواب مفهوم أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وهذا أمر منتف بمقتضى طبيعة الإنسان وفطرته أنه لا يستوي الإنسان الذي يعلم والذي لا يعلم لكن الله سبحانه وتعالى ذكره على صيغة الاستفهام ليكون متضمنا للتحدي ليكون هذا النفي متضمنا للتحدي يعني ما في أحد يقول إنه يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون لا أحد يقول بذلك ولا يمكن أن يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون أبدا حتى في أمور الدنيا لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
وقال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} هذا أيضا يدل على فضيلة العلم {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا} يعني قوموا
وارتفعوا {فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} فإذا دخل إنسان والمجلس ملئ بالجالسين وقال تفسحوا فليفسحوا له يفسح الله لكم يعني يوسع لكم الأمور لأنكم وسعتم على هذا الداخل فيوسع الله عليكم لأن الجزاء من جنس العمل فمن عامل أخاه بشيء عامله الله تعالى بمثله إن أيسرت على معسر يسر الله عليك إن فرجت عن مؤمن كربة فرج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة إن أعنت أحدا كان الله في عونك والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ولهذا قال: {فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا} يعني قوموا فقوموا وفي هذا دليل على أنه لا حرج على الإنسان أن يقول للجماعة الذين عنده انشزوا اخرجوا بارك الله فيكم انتهى شغلكم ولا حياء في ذلك لا حياء في ذلك ولا غضاضة على الإنسان حتى الجلوس لا ينبغي لهم أن يكونوا ثقلاء لا يقومون إلا إذا قيل قوموا ينبغي للإنسان أن يخفف الجلوس عند الناس ما استطاع إلا إذا علم من صاحبه أنه يحب أن تبقى عنده فلا بأس وإلا فالأصل ألا تطيل الجلوس عند الناس لأن الناس قد يكون لهم شغل ويستحيون أن يقولوا قم لكن من قال قم فلا حرج عليهم حتى إن الله عز وجل قال لجلساء نبيه الذين يجلسون عنده بعد أن ينتهوا من الطعام قال لهم سبحانه وتعالى: {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحي من الحق} يعني معناه إذا انتهيتم من الطعام فاخرجوا لا تجلسوا فإن ذلك يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق فإذا قيل: {انشزوا فانشزوا}
ومثل ذلك أيضا إذا استأذن عليك أحد في البيت ففتحت له وقلت ارجع ما في جلوس الآن فلا حرج عليك كما قال تعالى: {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم} بعض الناس إذا أرجعته من عند الباب يغضب والله يقول: {هو أزكى لكم} أحسن إن ترجعوا يعطيكم الله زكاءا يزكيكم عز وجل قال: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ولم يعين عز وجل الدرجات لأن هذه الدرجات بحسب ما مع الإنسان من الإيمان والعلم كلما قوي الإيمان وكلما كثر العلم وانتفع الإنسان به ونفع غيره كان أكثر درجات فهلم فأكثر قوي إيمانك أكثر من طلب العلم أكثر من بث العلم ما استطعت فإن الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} رفعني الله وإياكم بذكره وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}
1376 -
وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
ساق الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين ما يتعلق أو بعض ما يتعلق من كتاب الله عز وجل في فضل العلم وسبق الكلام على آيات ثلاث مما ذكره في باب
فضل العلم تعلما وتعليما لله.
أما الآية الرابعة فيه قوله تعالى: إنما يخشى الله من عبادة العلماء والخشية هي الخوف المقرون بالتعظيم فهي أخص من الخوف فكل خشية خوف وليس كل خوف خشية ولهذا يخاف الإنسان من الأسد ولكنه لا يخشاه أما الله عز وجل فإن الإنسان يخاف منه ويخشاه قال الله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} ولكن من هم أهل الخشية حقا أهل الخشية حقا هم العلماء العلماء بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه الذين يعرفون ما لله عز وجل من الحكم والأسرار في مقدوراته ومشروعاته جل وعلا وأنه سبحانه وتعالى كامل من كل الوجوه ليس في أفعاله نقص ولا في أحكامه نقص فلهذا يخشون الله عز وجل وفي هذا دليل على فضيلة العلم وأنه من أسباب خشية الله والإنسان إذا وفق للخشية عصم من الذنوب وإن أذنب استغفر وتاب إلى الله عز وجل لأنه يخشى الله يخافه يعظمه ثم ذكر الأحاديث وصدرها بحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين والله جل وعلا يريد في خلقه ما يشاء من خير وشر لكن إرادته خير وأما مراداته ففيها الخير والشر كل قضائه خير وأما مقتضياته ففيها الخير والشر والناس أوعية منهم من يعلم الله تعالى في قلبه خيرا فيوفقه ومنهم من يعلم الله في قلبه شرا فيخذله والعياذ بالله قال الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} لم يزغ قلوبهم إلا حين زاغوا هم أولا وأرادوا الشر لم يوفقوا لخير
أما من علم الله في قلبه خيرا فإن الله يوفقه فإذا علم الله في قلب الإنسان خيرا أراد به الخير وإذا أراد به الخير فقهه في دينه وأعطاه من العلم بشريعته ما لم يعط أحدا من الناس وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي له أن يحرص غاية الحرص على الفقه في الدين لأن الله تعالى إذا أراد شيئا هيئ أسبابه ومن أسباب الفقه أن تتعلم وأن تحرص لتنال هذه المرتبة العظيمة أن الله يريد بك الخير فاحرص على الفقه في دين الله والفقه في الدين ليس هو العلم فقط بل العلم والعمل ولهذا حذر السلف من كثرة القراء وقلة الفقهاء فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كيف بكم إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم) فإذا علم الإنسان الشيء من شريعته الله ولكن لم يعمل به فليس بفقيه حتى لو كان يحفظ أكبر كتاب في الفقه عن ظهر قلب ويفهمه لكن لم يعمل به فإن هذا لا يسمى فقيها يسمى قارئا لكن ليس بفقيه الفقيه هو الذي يعمل بما علم فيعلم أولا ثم يعمل ثانيا هذا هو الذي فقه في الدين وأما من علم ولم يعمل فليس بفقيه بل يسمى قارئا ولا يسمى فقيها ولهذا قال قوم شعيب لشعيب: {ما نفقهه كثيرا مما نقول} لأنهم حرموا الخير لعلم الله ما في قلوبهم من الشر فاحرص على العلم واحرص على العمل به لتكون ممن أراد الله به خيرا أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من هؤلاء الذين فقهوا في دين الله وعملوا وعلموا ونفعوا وانتفعوا به.
1377 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فيسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها متفق عليه.
والمراد بالحسد الغبطة وهو أن يتمنى مثله.
[الشَّرْحُ]
قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب فضل العلم تعلما وتعليما لله في الأحاديث الواردة في فضل العلم سبق حديث معاوية رضي الله عنه من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
ثم ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا حسد إلا في اثنتين الحسد يطلق ويراد به الحسد المحرم الذي هو من كبائر الذنوب وهو أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره هذا الحسد أن تكره ما أنعم الله به على غيرك تجد إنسانا عنده مال فتكره تقول: ليت الله ما رزقه عنده علم تكره ذلك وتتمنى أن الله لم يرزقه العلم عنده أولاد صالحون تكره ذلك وتتمنى أن الله لم يرزقه وهلم جرا هذا الحسد هذا النوع هذا من كبائر الذنوب.
وهو من خصال اليهود كما قال الله تعالى عنهم: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وقال عنهم: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد
إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} .
أما النوع الثاني من الحسد فهو حسد الغبطة يعني الذي تغبط به غيرك أن أنعم الله عليه بمال أو علم أو ولد أو جاه أو غير ذلك الناس يغبط بعضهم بعضا على ما آتاهم الله من النعم يقول: ما شاء الله فلان أعطاه الله كذا فلان أعطاه الله كذا لكن لا غبطة إلا في شيئين الغبطة الحقيقية التي يغبط عليها الإنسان شيئان الأول: العلم العلم النافع وهو المراد بقوله: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقض بها ويعلمها هذا العلم إذا من الله على إنسان بعلم فصار يقضي به بين الناس سواء كان قاضيا أو غير قاضي وكذلك يقضي به في نفسه وعلى نفسه ويعلم الناس فهذا هو الغبطة لأن العلم هو أنفع شيء أنفع من المال أنفع للإنسان من الأعمال الصالحة العلم لأنه إذا مات وانتفع الناس بعلمه جرى ذلك عليه إلى يوم القيامة كل ما انتفع به أي إنسان من الناس فله أجر العلم كل ما أنفقت منه وعلمته ازداد ولهذا من أقوى ما يثبت العلم ويبقي حفظه أن يعلمه الإنسان غيره لأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه فإذا علمت غيرك علمك الله وإذا علمت غيرك ثبت العلم في نفسك لكن لا تتقدم للتعليم إلا وأنت أهل له حتى ينفع الله بك وحتى لا تفشل أمام الناس لأن الذي يتقدم للتعليم وليس أهلا له بين أمرين: إما أن يقول بالباطل وهو لا يشعر وإما أن يفشل وإذا سئل عجز عن الإجابة مثلا فهذا العلم كل ما أنفقت منه ازداد أيضا العلم لا يحتاج إلى
تعب إلا في تعلمه & لا يحتاج مثلا إلى خزائن كالمال المال يحتاج إلى خزائن وإلى محاسبين وإلى حسابات وإلى تعب لكن العلم لا يحتاج إلى هذا خزينته قلبك هذا الخزينة وهي معك أينما كنت فلا تخشى عليه لا تخشى أن يسرق ولا أن يحرق لأنه في قلبك فالمهم أن العلم هو أفضل نعمة أنعم الله بها على الإنسان بعد الإسلام والإيمان ولهذا قال: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها.
أما الثاني: فهو رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق يعني صار يبذل ماله فيما يرضي الله عز وجل لا يبذله في حرام ولا يبذله في لغو وإنما يبذله فيما يرضي الله سلطه الله على هلكته يعني على إنفاقه في الحق هذا أيضا ممن يغبط نحن لا نغبط من عنده مال عظيم لكنه بخيل لا ينفع المال لا نغبطه بعد بل هذا نتأوى له ونقول هذا المسكين كيف يستطيع الجواب على حساب يوم القيامة على هذا المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه وكيف تصرف فيه لكن إذا رأينا رجلا آتاه الله مالا وصار ينفقه فيما يرضي الله نقول ما شاء الله هذا يغبط لا نغبط إنسانا آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في القصور والديكورات والسيارات الفخمة نحن لا نغبطه على هذا بل نقول هذا مسرف إذا كان تجاوز الحد فيما ينفق نقول هذا مسرف والله لا يحب المسرفين.
كذلك لا نغبط شخصا عنده مال فصار ينفق منه جوائز في أشياء لا ينتفع الناس بها لا في دينهم ولا في دنياهم فإن بعض الناس يعطي جوائز على ألعاب وأشياء من الأمور التي ليس بها خير لا في الدنيا ولا في
الآخرة هذا لا نغبطه لأنه لم يسلط على هلكة ماله في الحق إنما الذي يغبط من سلطه الله هلكة ماله في الحق أيضا لا نحسد إنسانا آتاه الله مالا فصار كل ما عن له أن يتزوج تزوج وجمع عنده من النساء الحسان ما لا يجمعه غيره هذا لا نغبطه أيضا إلا إذا كان سلطه الله على هلكته في الحق وأراد بذلك تحصين فرجه وتحصيل السنة وكثرة النسل هذا مقصود شرعي يغبط عليه الإنسان.
الشاهد في هذا الحديث في باب فضل العلم هو الجزء الأول منه: من آتاه الله الحكمة يعني العلم فقضى بها وعلمها وهذا خير الرجلين يعني خير من صاحب المال الذي سلط على هلكته في الحق نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
1378 -
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء وتنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
في هذا الحديث الذي ساقه & النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في باب فضل العلم تعلما وتعليما لله الذي رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا مثل بديع عجيب فقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم ما بعثه الله به من العلم والهدى بغيث يعني بمطر ووجه الشبه أن بالغيث تحيي الأرض وبالوحي تحيى القلوب ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى ما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم سماه روحا فقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور.
فالوحي غيث لكنه كما مثل الرسول صلى الله عليه وسلم نزل على الأرض فصارت الأرض ثلاثة أقسام قسم قبل المطر وشرب وأنبت العشب الكثير والكلأ فانتفع الناس بذلك لأن الأرض أنبتت والقسم الثاني: قيعان لا تنبت لكن أمسكت الماء لم تشربه فسقى الناس منه وارتووا وزرعوا القسم الثالث أرض قيعان بلعت الماء ولم تنبت سباخ سبخة تبلع الماء ولكنها لا تنبت فهذا مثل من فقه في دين الله فعلم وعلم ومثل من لم يرفع به رأسه الصورة الأولى والثانية للمثل فيمن قبل الحق فعلم وتعلم
ونفع وانتفع لكن الذين قبلوا الحق صاروا قسمين قسم آتاه الله تعالى فقها فصار يأخذ الفقه والأحكام الشرعية من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلم والثاني: رواية ولكنه ليس عنده ذلك الفقه يعني يحكي الحديث يرويه يحفظه ولكنه ليس عنده فقه وهذا كثير أيضا ما أكثر رجال الحديث الذين رووا الحديث لكنهم ليس عندهم فقه ما هم إلا أوعية يأخذ الناس منهم ولكن الذي يوزع من هذا الماء وينفع الناس به هم الفقهاء هذان قسمان: قسم حفظ الشريعة ووعاها وفهمها وعلمها واستنبط منها الأحكام الكثيرة هؤلاء مثل الأرض التي قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير قسم آخر نقلة فقط ينقلون ينقلون الأحاديث لكنهم لا يحفظونها كثيرا هؤلاء كالأرض التي أمسكت الماء فانتفع الناس به وارتووا منه لأن الناس يأخذون من هؤلاء الرواة للحديث ثم يستنبطون منه الأحكام وينفعون الناس بها القسم الثالث: أرض لم تنتفع بالغيث قيعان لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ هؤلاء ما فيهم خير لم ينتفعوا بوحي الله ولم يرفعوا به رأسا والعياذ بالله يكذبون بالخبر ويستكبرون عن الأمر فهؤلاء هم شر الأقسام نسأل الله العافية فأنت انظر في نفسك من أي الأرضيين الثلاث أنت هل أنت من الأرض التي قبلت الماء وأنبتت العشب والكلأ أو من الأرض الثانية أو من الأرض الثالثة والعياذ بالله.
وفي الحديث حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يضرب الأمثال بالمعاني المعقولة بأشياء محسوسة لأن إدراك المحسوس أقرب من إدراك المعقول وما أكثر الأمثال في القرآن {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة} هذا مثل لو جاء الكلام هكذا: من أنفق في سبيل الله حبة فله سبعمائة حبة لم يرسخ في الذهن كرسوخ المثل فالمثل الذي يستحضره الإنسان يرسخ قال الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} فضرب الأمثال تقريب للعلم وترسيخ له وإعانة على الفهم لهذا ينبغي لك إذا حدثت عاميا ولم يفهم أن تضرب له مثلا اضرب له المثل بشيء يعقله ويعرفه حتى يعرف المعاني المعقولة بواسطة الأشياء المحسوسة والله الموفق.
1379 -
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم متفق عليه.
1380 -
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن & بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا
فليتبوأ مقعده من النار رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
ساق الإمام النووي في كتابه رياض الصالحين أحاديث في بيان فضل العلم ومنها حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب حين أعطاه الراية يوم خيبر قال: امض على رسلك ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لئن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم أقسم صلى الله عليه وسلم أن الله لو هدي به رجلا واحدا لكان خيرا له & من حمر النعم والحمر بسكون الميم جمع حمراء وأما الحمر بضم الميم فهي جمع حمار ولهذا يخطئ بعض الطلبة فيقول: خير لك من حمر هذا غلط لأن الحمر جمع حمار كما قال الله تعالى: كأنهم حمر مستنفرة أما حمر بسكون الميم فهي جمع حمراء وكذلك جمع أحمر لكن هنا جمع حمراء وهي الناقة الحمراء وكانت أعجب المال إلى العرب في ذلك الزمان وأحب المال إلى العرب في ذلك الزمن فإذا هدى الله بك رجلا واحدا كان ذلك خير لك من حمر النعم ففي هذا حث على العلم وعلى التعليم وعلى الدعوة إلى الله عز وجل لأنه لا يمكن أن يدعو الإنسان إلى الله إلا وهو يعلم فإذا كان يعلم ما يعلم من شريعة الله ودعا إلى ذلك كان هذا دليلا على فضل العلم.
ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلغوا عني ولو آية بلغوا عني يعني بلغوا الناس بما أقول وبما أفعل وبجميع سنته عليه الصلاة والسلام بلغوا عني ولو آية من كتاب الله ولو هنا للتقليل يعني لا يقول الإنسان أنا لا أبلغ إلا إذا كنت عالما كبيرا لا إنما يبلغ الإنسان ولو آية بشرط أن يكون قد علمها وأنها من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال في آخر الحديث: ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار من كذب على الرسول متعمدا يعلم أنه كاذب فليتبوأ مقعده من النار هنا اللام للأمر لكن المراد بالأمر هنا الخبر يعني فقد تبوأ مقعده من النار والعياذ بالله أي فقد استحق أن يكون من ساكني النار لأن الكذب على الرسول ليس كالكذب على واحد من الناس الكذب على الرسول كذب على الله عز وجل ثم هو كذب على الشريعة لأن ما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي هو من شريعة الله وكذلك يقال: الكذب على العالم ليس كالكذب على عامة الناس يعني مثلا تقول فلان كذا وكذا قال: هذا حرام هذا حلال هذا واجب هذا سنة وأنت تكذب هذا أيضا أشد من الكذب على عامة الناس لأن العلماء ورثة الأنبياء يبلغون شريعة الله إرثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كذبت عليهم إذ قال العالم فلان كذا وكذا وأنت تكذب فهذا إثمه عظيم نسأل الله العافية بعض الناس والعياذ بالله إذا اشتهى شيئا يكف الناس عنه قال: قال العالم فلان هذا حرام هو يكذب لكن يعرف أن الناس إذا نسب العلم إلى فلان قبلوه فيكذب وهذا أشد من الكذب على عامة الناس.
فالحاصل أن من كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن نقل عمدا حديثا كذبا يعلم أنه كذب فهو أحد الكذابين يعني فليتبوأ مقعده من النار.
وما أكثر من ينشر من النشرات التي بها الترغيب أو الترهيب وهي مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم لكن بعض المجتهدين الجهال ينشرون هذه النشرات ويوزعونها بكمية كبيرة يقولون: نعظ الناس بهذا كيف تعظونهم بشيء كذب ولهذا يجب الحذر من هذه المنشورات التي تنشر في المساجد أو تعلق على الأبواب أبواب المساجد أو غير ذلك يجب الحذر منها وربما يكون فيها أشياء مكذوبة فيكون الذي ينشرها قد تبوأ مقعده من النار إذا علم أنها كذب.
وقال في حديث عبد الله بن عمرو: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج بنو إسرائيل اليهود والنصارى إذا قالوا قولا فحدث عنهم ولا حرج عليك بشرط أن لا تعلم أنه مخالف للشريعة لأن بني إسرائيل عندهم كذب يحرفون الكلم عن مواضعه ويكذبون فإذا أخبروك بخير فلا بأس أن تحدث به بشرط أن لا يكون مخالفا لما جاء في شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن كان مخالفا له فإنه لا يجوز أن يحدث إلا إذا حدث به ليبين أنه باطل فلا حرج والله أعلم.
1381 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة رواه مسلم.
1382 -
وعنه أيضا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا رواه مسلم.
1383 -
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الثلاثة في بيان فضل العلم وآثاره الحميدة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة سلوك الطريق يشمل الطريق الحسي الذي تقرعه الأقدام مثل أن يأتي الإنسان من بيته إلى مكان العلم سواء كان مكان العلم مسجدا أو مدرسة أو كلية أو غير ذلك ومن ذلك أيضا الرحلة في طلب العلم أن يرتحل الإنسان من بلده إلى بلد آخر يلتمس العلم فهذا سلك طريقا يلتمس فيه علما وقد رحل جابر بن عبد الله الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد مسيرة شهر كامل على الرواحل على الإبل سار من بلده إلى بلد مسيرة شهر & من أجل حديث واحد رواه عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الثاني: فهو الطريق المعنوي وهو أن يلتمس العلم من أفواه
العلماء ومن بطون الكتب فالذي يراجع الكتب للعثور على حكم مسألة شرعية وإن كان جالسا على كرسيه فإنه قد سلك طريقا يلتمس فيه علما ومن جلس إلى شيخ يتعلم منه فإنه قد سلك طريقا يلتمس فيه علما ولو كان جالسا فسلوك الطريق ينقسم & كما سمعتم إلى قسمين: قسم يراد به الطريق الذي تقرعه الأقدام والثاني يراد به الطريق الذي يتوصل به إلى العلم وإن كان جالسا.
من سلك هذا الطريق سهل الله له به طريقا إلى الجنة لأن العلم الشرعي تعرف به حكم ما أنزل الله تعرف به شريعة الله تعرف به أوامر الله تعرف به نواهي الله فتستدل به على الطريق الذي يرضى الله عز وجل ويوصلك إلى الجنة وكلما ازددت حرصا في سلوك الطرق الموصلة إلى العلم ازددت طرقا توصلك إلى الجنة.
وفي هذا الحديث من الترغيب في طلب العلم ما لا يخفى على أحد فينبغي للإنسان أن ينتهز الفرصة ولا سيما الشاب الذي يحفظ سريعا ويمكث في ذهنه ما حفظه ينبغي له أن يبادر الوقت يبادر العمر قبل أن يأتيه ما يشغله عن ذلك.
أما الحديث الثاني فهو أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دعا إلى هدى فله أجر من اتبعه يعني إلى يوم القيامة من دعا إلى هدى يعني علم الناس فإن الداعي إلى الهدى هو الذي يعلم الناس ويبين لهم الحق ويرشدهم إليه فهذا له مثل أجر من فعله مثلا دللت إنسانا على أنه ينبغي له أن يوتر يجعل آخر صلاته في الليل وترا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال:
اجعلوا آخر صلاتكم في الليل وترا وحثثت على الوتر ورغبت فيه فأوتر أحد من الناس بناء على كلامك وعلى توجيهك فلك مثل أجره لك علم بذلك آخر منك أو من الذي علمته أنت فلك مثل أجره وإن تسلسلوا إلى يوم القيامة.
وفي هذا دليل على كثرة أجور النبي صلى الله عليه وسلم لأنه دل الأمة على الهدى فكل من عمل من هذه الأمة بهدي فللنبي صلى الله عليه وسلم أجره من غير أن ينقص من أجورهم شيء الأجر تام للفاعل والداعي وإذا تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم له أجر ما عملته أمته تبين بذلك خطأ من يهدي ثواب العبادة للرسول صلى الله عليه وسلم يعني مثلا بعض الناس اجتهد وصار يصلي ركعتين ويقول اللهم اجعل ثوابها للرسول يقرأ قرآنا ويقول: اللهم اجعل ثوابه للرسول هذا غلط وأول ما حدث هذا في القرن الرابع الهجري يعني بعد ثلاثمائة سنة من موت الرسول يستحسن بعض العلماء أنه يفعل هذا قال كما أهدي لأبي وأمي صدقة أو صلاة أو ذكر أهديه للرسول صلى الله عليه وسلم نقول: هذا خطأ غلط سفه في التصور وضلال في الدين كيف نسأله ونقول هل أنت أعظم حبا للرسول من أبي بكر فيقول لا أعظم من عمر لا أعظم من عثمان لا أعظم من علي لا أعظم من ابن عباس ابن مسعود الصحابة
لا هل أحد منهم أهدى للرسول عملا صالحا أبدا وكذلك التابعون والأئمة الإمام أحمد بن حنبل الشافعي مالك أبو حنيفة ما فعلوا هذا ما الذي أطلعك على شيء لم يعملوا به أو لم يعملوا به من أنت فهو خطأ في التصور وضلال في الدين لأن أي عمل تعمله ولو كان ثوابه لك فللرسول صلى الله عليه وسلم مثله وإن لم تقل شيئا أي عمل لو تصلي ركعتين أجرهما لك وللرسول مثله من غير أن ينقص من أجرك شيئا إذا ما الفائدة لا يعني إرجاعك القرب للرسول إلا أنك حرمت نفسك من الأجر فقط وللرسول صلى الله عليه وسلم مثل أجرك & سواء أهديت له أو لم تهد لأنه يقول صلى الله عليه وسلم من دعا إلى هدى فله أجر من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيء فلا حاجة.
إذا نأخذ من هذا الحديث فضيلة العلم لأن العلم به الدلالة على الهدى والحث على التقوى فالعلم أفضل بكثير من المال حتى لو تصدق بأموال عظيمة طائلة فالعلم ونشر العلم أفضل واضرب لكم مثلا الآن في عهد أبي هريرة خلفاء ملوك ملكوا الدنيا وفي عهد الإمام أحمد أغنياء ملكوا أموالا عظيمة وتصدقوا وأوقفوا في عهد من بعدهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أناس أغنياء تصدقوا وأنفقوا وأوقفوا أين ذهب المال أين ذهب ما أنفقوه أين ذهب ما وقفوه راح لا يوجد له أثر الآن لكن أحاديث أبي هريرة تتلى في كل وقت ليلا ونهارا ويأتيه أجرها الأئمة أيضا علمهم وفقهم منشور بين الأمة يأتيهم الأجر وهكذا شيخ الإسلام
ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من العلماء ماتوا لكن ذكرهم حي باق يعلمون الناس وهم في قبورهم ينالهم الأجر وهم في قبورهم وهذا يدل على أن العلم أفضل بكثير من المال وأنفع للإنسان وسيأتي إن شاء الله في حديث أبي هريرة الذي ذكره المؤلف إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له والله الموفق.
1383 -
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب فضل العلم تعلما وتعليما لله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له وهذا الحديث فيه الحث أعني حث الإنسان على المبادرة بالأعمال الصالحة لأنه لا يدري متى يفاجئه الموت فليبادر قبل أن ينقطع العمل بالعمل الصالح الذي يزداد به رفعة عند الله سبحانه وتعالى وثوابا ومن المعلوم أن كل واحد منا لا يعلم متى يموت ولا يعلم أين يموت كما قال الله تعالى: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض
تموت فإذا كان الأمر كذلك فإن العاقل ينتهز الفرص فرص العمر في طاعة الله عز وجل قبل أن يأتيه الموت ولم يستعتب ولم يتب وقولنا انقطع عمله يشمل كل عمل لا يكتب له ولا عليه إذا مات لأنه انتقل إلى دار الجزاء دار العمل هي دار الدنيا أما بعد ذلك فالدور كلها دور جزاء إلا من ثلاث: صدقة جارية يعني أن يتصدق الإنسان بشيء ويستمر هذا الشيء وأحسن ما يكون المساجد بناء المساجد صدقة جارية لأن أجر الباني مستمر مادام هذا المسجد قائما ليلا ونهارا والمسلمون يمكثون في المساجد في صلاتهم وقراءتهم وتعلمهم العلم وتعليمهم العلم وغير ذلك ومن الصدقات الجارية أن يوقف الإنسان وقفا من عقار أو بستان أو نحوه على الفقراء والمساكين أو على & طلبة العلم أو على المجاهدين في سبيل الله أو ما أشبه ذلك ومن الصدقات الجارية أن يطبع الإنسان كتبا نافعة للمسلمين يقرءون فيها وينتفعون بها سواء كانت من مؤلفين في عصره أو من مؤلفين سابقين المهم أن تكون كتبا نافعة بنتفع بها المسلمون من بعده ومن الصدقات الجارية إصلاح الطرق فإن الإنسان إذا أصلح الطرق وأزال عنها الأذى واستمر الناس ينتفعون بهذا فإن ذلك من الصدقات الجارية والقاعدة في الصدقة الجارية كل عمل صالح يستمر للإنسان بعد موته.
أما الثاني فعلم ينتفع به وهذا أعمها وأشملها وأنفعها أن يترك الإنسان وراءه علما ينتفع المسلمون به سواء ورث من بعده بالتعليم الشفوي أو بالكتابة فتأليف الكتب وتعليم الناس وتداول الناس لهذه المعلومات مادام مستمرا فأجر المعلم جاز مستمر لأن الناس ينتفعون بهذا العلم الذي ورثه.
والثالث ولد صالح يدعو له ولد يشمل ذكر وأنثى يعني ابن أو بنت يشمل ابنك لصلبك وابنتك لصلبك وأبناء أبنائك وأبناء بناتك وبنات أبنائك وبنات بناتك إلى آخره ولد صالح يدعو للإنسان بعد موته هذا أيضا يثاب عليه الإنسان وانظر كيف قال الرسول صلى الله عليه وسلم ولد صالح يدعو له ولم يقل: ولد صالح يصلي له أو يقرأ له القرآن أو يتصدق عنه أو يصم عنه لا ما قال هذا مع أن هذه كلها أعمال صالحة بل قال: ولد صالح يدعو له وفي هذا دليل على أن الدعاء لأبيه وأمه وجده وجدته أفضل من الصدقة عنهم وأفضل من الصلاة لهم وأفضل من الصيام لهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يدل أمته إلا على خير ما يعلمه لهم ما من نبي بعثه الله إلا & دل أمته على خير ما يعلمه لهم فلو علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن كونك تتصدق عن أبيك وأمك أفضل من الدعاء لقال في الصدقة ما قال الدعاء فلما عدل عن الصدقات والصيام والصلاة وقراءة القرآن والمقام مقام تحدث عن الأعمال لما عدل عن هذه الأعمال إلى الدعاء علمنا يقينا لا إشكال فيه أن الدعاء أفضل من ذلك فلو سألنا سائل: أيهما أفضل أتصدق لأبي أو ادعو له قلنا الدعاء أفضل لأن رسول الله
هكذا أرشدنا فقال: أو ولد صالح يدعو له والعجيب أن العوام وأشباه العوام يظنون أن الإنسان إذا تصدق عن أبيه أو صام يوما لأبيه أو قرأ حزبا من القرآن لأبيه أو ما أشبه ذلك يرون أنه أفضل من الدعاء ومصدر هذا هو الجهل وإلا فمن تدبر النصوص علم أن الدعاء أفضل ولهذا لم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم في أي حديث بحرف واحد إلى العمل الصالح يجعله الإنسان لوالده أبدا قال الإمام مالك أنه حصلت قضايا أعيان يسأله الصحابة هل يتصدقوا عن أبيه وهو ميت وعن أمه وهي ميتة فيقول: نعم لا بأس لكنه لم يحث الأمة على ذلك ولم يرشدهم إلى هذا لكن سئل في قضايا أعيان سعد بن عبادة رضي الله عنه سأله هل يتصدق بحائطه يعني ببستانه عن أمه بعد موتها قال الرسول: نعم وجاءه رجل قال: يا رسول الله إن أمي أفتلتت نفسها يعني ماتت بغتة أفأتصدق عنها قال: نعم لكن ما أراد أن يشرع تشريعا عاما للأمة قال: أو ولد صالح يدعو له نسأل الله أن يغفر لنا ولكم ولوالدينا وللمسلمين جميعا.
1388 -
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم
يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر رواه أبو داود والترمذي.
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف رحمه الله في باب فضل العلم تعلما وتعليما لله حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سلك طريقا يبتغي فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وقد سبق بيان معنى هذه الجملة وفيه أيضا من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في البحر وهذا يدل على فضل العلم وأن العلماء يستغفر لهم أهل السماء والأرض وحتى الحيتان في البحر وحتى الدواب في البر كل شيء يستغفر له & ولا تستغرب أن تكون هذه الحيوانات تستغفر الله عز وجل للعالم لأن الله سبحانه وتعالى قال في القرآن الكريم على لسان موسى عليه الصلاة والسلام ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فالبهائم والحشرات تعلم ربها عز وجل وتعرفه {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} كل شيء يسبح بحمد الله حتى إن الحصى سمع تسبيحه بين يدي النبي
وهو حصى لأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه حتى إن الله قال للسماوات والأرض {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} فخاطبهما {ائتيا طوعا أو كرها} يعني لما أمر كما به قالتا أتينا طائعين فكل شيء يمتثل أمر الله عز وجل إلا الكفرة من بني آدم والجن ولهذا قال الله عز وجل في كتابه العزيز بين أن كثيرا من الناس يسجد لله عز وجل وكثيرا حق عليه العذاب {ألم ترى أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} ما يسجد ولهذا الكافر لا يستجيب لله لا يسجد لله شرعا وتعبدا لكنه يسجد لله ذلا قدريا ما له مفر عما قضى الله كما قال الله تعالى {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها} والسجود هنا السجود القدري فكل أحد خاضع لقدر الله ما أحد يستطيع أن يغالب الله عز وجل أين المفر يقول الشاعر
أين المفر والإله الطالب
…
والأشرم المغلوب ليس الغالب
فالسجود الشرعي كثير من الناس حق عليهم العذاب فلم يسجدوا على أن الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب كلها يسجد لله عز وجل لكن الكفرة من بني آدم ومن الجن لا يسجدون لله تعالى إلا السجود
الكوني القدري {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها} المهم أن الله تعالى سخر هذه الكائنات تستغفر للعالم وأفضل من ذلك أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع.
الملائكة الكرام الذين كرمهم الله عز وجل تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع أترون فضلا أعظم من هذا أن الملائكة ملائكة الله عز وجل تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع هذا فضل عظيم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء أن العلماء ورثة الأنبياء لو سألت من الذي يرث الأنبياء العباد الذين يركعون ويسجدون ليلا ونهارا لا أقارب الأنبياء لا لا يرث الأنبياء إلا العلماء اللهم اجعلنا منهم العلماء هم ورثة الأنبياء ورثوا العلم من الأنبياء وورثوا العمل كما يعمل الأنبياء وورثوا الدعوة إلى الله عز وجل وورثوا هداية الخلق ودلالتهم على شريعة الله فالعلماء هم ورثة الأنبياء الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا توفي النبي صلى الله عليه وسلم عن ابنته فاطمة وعن عمه العباس وعن أبناء عمه وعن زوجاته ولم ترثه ابنته ولا زوجاته ولا عصبته لأن الأنبياء لا يورثون درهما ولا دينارا وهذا من حكمة الله عز وجل أنهم لا يورثون لئلا يقول قائل إن النبي إنما ادعى النبوة لأجل أن يملك فيورثوا فيرثه أقاربه من ذلك فقطع هذا وقيل النبي لا يرثه ابنه وأما قول زكريا {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب} فالمراد بذلك إرث العلم والنبوة وليس المال فالأنبياء لا يورثون
ما ورثوا درهما ولا دينارا إنما ورثوا هذا العلم صلوات الله عليه هذا أعظم ميراث فمن أخذه أخذ بحظ وافر أي بنصيب وافر كثير من أخذ بهذا الإرث واسأل الله أن يجعلني وإياكم من آخذيه هذا هو الإرث الحقيقي النافع العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم.
أليس الإنسان يسعى من شرق الأرض إلى مغربها من أجل أن يحصل على مال خلفه أبوه له وهو متاع دنيا فلماذا لا نسعى من مشارق الأرض ومغاربها إلى أخذ العلم الذي هو ميراث من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جدير بنا أن نسعى بكل ما نستطيع لأخذ العلم الموروث عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولو لم يكن من فضل العلم إلا أن العالم كلما عمل شيئا فهو يشعر مع إخلاصه لله عز وجل يشعر بأن إمامه محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يعبد الله على بصيرة عندما يتوضأ يشعر كأن الرسول أمامه يتوضأ الآن يتبعه تماما وكذلك في الصلاة وغيرها من العبادات لو لم يأتك من فضل العلم إلا هذا لكان كاف فكيف وهذا الفضل العظيم في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فالمهم أن الإنسان الذي يمن الله عليه بالعلم فقد من الله عليه بما هو أعظم من الأموال والبنين والزوجات والقصور والمراكب وكل شيء
اللهم ارزقنا علما نافعا & وعملا صالحا ورزقا طيبا واسعا تغننا به عن خلقك إنك على كل شيء قدير.
1389 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع رواه الترمذي.
وقال حديث حسن صحيح.
1390 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
[الشَّرْحُ]
ساق النووي رحمه الله في باب فضل العلم تعلما وتعليما لله أحاديث متعددة في هذا الباب سبق كثير منها ومنها حديث ابن مسعود رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نضر الله امرءا سمع منا يعني مقالا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع نضر الله يعني حسنه لأن نضر بالضاد من الحسن ومنه قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ناضرة يعني حسنة إلى ربها ناظرة يعني تنظر بالعين إلى الله عز وجل جعلنا الله وإياكم منهم وكذلك أيضا قال الله تبارك وتعالى {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا} أي حسنا وسرورا حسنا في الوجوه وسرورا في القلوب هنا يقول نضر الله امرءا سمع منا يعني مقالا فأداه كما سمعه والمراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للإنسان إذا سمع حديثا عن رسول الله فبلغه كما سمعه أن يحسن الله تعالى وجهه يوم القيامة.
فرب مبلغ أوعى من سامع لأنه ربما يكون الإنسان يسمع الحديث ويبلغه ويكون المبلغ أوعى من السامع يعني أفقه وأفهم وأشد عملا من الإنسان الذي سمعه وأداه وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم معلوم تجد مثلا من العلماء من هو راوية يروي الحديث يحفظه ويؤديه لكنه لا يعرف معناه فيبلغه إلى شخص آخر من العلماء يعرف المعنى ويفهمه ويستنتج من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أحكاما كثيرة فينفع الناس وقد سبق أن مثل الأول كمثل الأرض التي أمسكت الماء فروي الناس وارتووا لكنها لا تنبت وأما الأرض الرياض التي أنبتت هم الفقهاء الذين عرفوا الأحاديث وفقهوها واستنتجوا منها الأحكام الشرعية أما حديث أبي هريرة بعد هذا فقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم
فكتمه توعده بأن يلجم يوم القيامة بلجام من نار أي يوضع على فمه لجام من نار نسأل الله العافية لأنه كتم ما أنزل الله بعد أن سئل عنه وهذا إذا علمت أن السائل يسأل لاسترشاده فلا يجوز لك أن تمنعه أما إذا علمت أنه يسأل امتحانا وليس قصده أن يسترشد فيعلم ويعمل فأنت بالخيار إن شئت فعلمه وإن شئت فلا تعلمه لقول الله تعالى {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} لأن الله علم أن هؤلاء يأتون النبي صلى الله عليه وسلم يستحكمونه لا لأجل أن يعملوا بكلامه ولكن لينظروا ما عنده فإذا علمت أن هذا الرجل جاء يسألك عن علم امتحانا فقط لا طلبا للحق فأنت بالخيار إن شئت فافعل وأفته وعلمه وإن شئت فلا تفته ولا تعلمه كذلك إذا علمت أنه يحصل من الفتوى مفسدة كبيرة فلا بأس أن ترجئ الإفتاء لا تكتم لكن لا بأس أن ترجئ الإفتاء إلى وقت يكون فيه المصلحة لأنه أحيانا تكون الفتوى لو أفتيت بها سببا للشر والفساد فأنت إذا رأيت أنها سبب للشر والفساد وأجلت الإجابة فلا حرج عليك في ذلك والله الموفق.
1391 -
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها رواه أبو داود بإسناد صحيح.
[الشَّرْحُ]
من فضل العلم تعلما وتعليما لله ما ساقه المؤلف رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من طلب علما مما يبتغي به وجه الله لا يريد إلا أن ينال عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها.
العلوم تنقسم إلى قسمين قسم يراد به وجه الله وهو العلوم الشرعية وما يساندها من علوم عربية وقسم آخر علم الدنيا كعلم الهندسة والبناء والميكانيكا وما أشبه ذلك فأما الثاني علم الدنيا فلا & بأس أن يطلب الإنسان به عرض الدنيا يتعلم الهندسة ليكون مهندسا يأخذ راتبا وأجرة يتعلم الميكانيكا من أجل أن يكون ميكانيكيا يعمل ويكدح وينوي الدنيا هذا لا حرج عليه أن ينوي في تعلمه الدنيا لكن لو نوى نفع المسلمين بما تعلم لكان ذلك خيرا له وينال بذلك الدين والدنيا يعني لو قال أنا أريد تعلم الهندسة من أجل أن أكفي المسلمين أن يجلبوا مهندسين كفارا مثلا لكان هذا طيبا أو يتعلم الميكانيكا من أجل أن يسد حاجة المسلمين فيما إذا احتاجوا ميكانيكيين فهذا خير وله أجر على ذلك لكن لو لم يرد إلا الدنيا فله ذلك ولا إثم
عليه كالذي يبيع ويشتري من أجل زيادة المال أما القسم الأول الذي يتعلم شريعة الله عز وجل وما يساندها فهذا علم لا يبتغي به إلا وجه الله إذا أراد به الدنيا فإنه لا يجد ريح الجنة يوم القيامة وهذا وعيد شديد والعياذ بالله يدل على أن من قصد بتعلم الشرع شيئا من أمور الدنيا فإنه قد أتى كبيرة من كبائر الذنوب ولا يبارك له في علمه يعني مثلا قال أريد أن أتعلم من أجل أن أصرف وجوه الناس إلي حتى يحترموني ويعظموني أريد أن أتعلم حتى أكون مدرسا فآخذ راتبا وما أشبه ذلك هذا والعياذ بالله لا يجد ريح الجنة يوم القيامة وقد أشكل على هذا أو قد روع هذا بعض الذين يقرءون في المدارس النظامية كالمعاهد والكليات من أجل أن ينالوا الشهادة فيقال نيل الشهادة ليس للدنيا وحدها قد يكون للدنيا وحدها وقد يكون للآخرة فإذا قال الطالب أنا أطلب العلم لأنال الشهادة حتى أتمكن من وظائف التدريس وأنفع الناس بذلك أو حتى أكون مديرا في دائرة أوجه من فيها إلى الخير فهذا خير ونية طيبة ولا فيها إثم ولا حرج.
وذلك أنه مع الأسف في الوقت الحاضر صار المقياس في كفاءة الناس هذه الشهادات معك شهادة توظف وتولي قيادة على حسب هذه الشهادة ممكن يأتي إنسان يحمل شهادة دكتوراه فيولى التدريس في الكليات والجامعات وهو من أجهل الناس لو جاء طالب في الثانوية العامة لكان خيرا منه وهذا مشاهد يوجد الآن من يحمل شهادة دكتوراه لكنه لا يعرف من العلم شيئا أبدا إما أنه نجح بغش أو نجح نجاحا سطحيا لم يرسخ العلم في ذهنه لكن يوظف لأن معه شهادة دكتوراة يأتي إنسان طالب علم جيد هو خير للناس وخير لنفسه من هذا الدكتور ألف مرة لكن لا يوفق لا يدرس في الكليات لماذا لأنه لا يحمل شهادة دكتوراه فنظرا لأن الأحوال تغيرت وانقلبت إلى هذه المآل نقول إذا طلبت العلم من أجل أن تنال الشهادة التي تتمكن بها من تولى التدريس
لا لأجل الدنيا لكن لأجل نفع الخلق فإن هذا لا بأس به ولا تعد قاصدا بذلك الدنيا ولا ينالك هذا الوعيد فالحمد لله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى الحمد لله هذا ميزان انظر قلبك ماذا نوى فعلى هذا فالذي يطلب العلم في الجامعة من أجل أن ينال الشهادة نقول ما الذي تريده هل أنت تريد أن تنال الشهادة من أجل أن تكون المرتبة الفلانية وراتبك كذا وكذا إذا نعم أنا فقير أنا أريد هذا نقول خبت وخسرت ما دمت تريد الدنيا أما إذا قال لا أنا أريد أن أنفع الخلق لأن الأمور الآن لا يمكن الوصول إلى نفع الخلق بالتدريس إلا بالشهادات وأنا أريد أن أصل إلى هذا أو لا يوظف الإنسان وظيفة كبيرة يكون قائد فيها على جماعة من المسلمين إلا بالشهادة وأنا أريد هذا قلنا الحمد لله هذه نية طيبة وليس عليك شيء والأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى المهم احذر أخي طالب العلم احذر من النيات السيئة العلم الشرعي أعز وأرفع وأعلى من أن تريد به عرضا من الدنيا عرض الدنيا ما الذي تنتفع به آخر أمره أن يكون في محل القاذورات تأكل وتشرب ويذهب للمرحاض وألذ ما يتطلبه الإنسان هو الأكل والشرب في المنافع البدنية ومع ذلك نهايته المرحاض أيضا لو بقيت عندك الدنيا فلابد إما أن تفارقها أو تفارقك إما أن تفتقر وتعدم المال وإما أن تموت ويذهب المال لغيرك.
لكن أمور الآخرة تبقى فلماذا تجعل العلم الشرعي الذي هو من أجل العبادات وأفضل العبادات تجعله سلما لتنال به عرضا من الدنيا هذا سفه في العقل وضلال في الدين العلم الشرعي اجعله لله عز
وجل ولحماية شريعة الله ورفع الجهل عن نفسك وعن إخوانك المسلمين وللدلالة على الهدى ولتنال ميراث النبي صلى الله عليه وسلم لأن العلماء ورثة الأنبياء نسأل الله أن يخلص لنا ولكم النية ويصلح العمل إنه على كل شيء قدير.
1392 -
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا متفق عليه
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل العلم تعلما وتعليما لله حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور الرجال ففي هذا الحديث إشارة إلى أن العلم سيقبض ولا يبقى في الأرض عالم يرشد الناس إلى دين الله فتتدهور الأمة وتضل بعد ذلك ينزع منهم القرآن ينزع من الصدور ومن المصاحف كما قال أهل السنة إن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود قالوا معنى وإليه يعود أي يرجع إلى الله
عز وجل في آخر الزمان حين يهجره الناس هجرا تاما لا يقرؤونه ولا يعملون به ونظير ذلك الكعبة المشرفة حماها الله عز وجل لما أراد أبرهة أن يهدمها وقدم إليها بفيل عظيم وجنود كبيرة حماها الله عز وجل منه وأنزل الله في ذلك سورة كاملة ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول طيور أرسلها الله عز وجل أبابيل يعني جماعات متفرقة كل واحد في منقاره وبين رجليه حجارة من سجيل يعني من طين صلب فكانت هذه الطيور بأمر الله ترسل هذه الحجارة على هؤلاء الجنود حتى أنها تضرب الرجل من رأسه وتخرج من دبره نعوذ بالله حتى جعلهم كعصف مأكول يعني كعصف الزرع الذي أكلته البهائم واختلط بعضه ببعض لكن في آخر الزمان إذا انتهك الناس حرمة هذا البيت واكثروا فيه من المعاصي وغير ذلك مما يعد امتهانا لحرمته سلط الله عليهم رجلا من الحبشة أفحج الرجلين قصير فينقضها حجرا حجرا يأتي إليها بجنود فينقضها يهدمها حجرا حجرا إذا نزع الحجر أعطاه أحد الجنود ثم التالي الذي بجنبه من مكة إلى البحر يتمادون حجارتها حتى تهدم عن آخرها فانظر كان في الأول حماها الله عز وجل من أولئك الكفرة لأنه يعلم أنه سيبعث فيها رسولا ينقل الناس من الضلال والظلم والشرك إلى الهدى والعدل والتوحيد.
لكن في آخر الزمان عندما ينتهك الناس هذه الحرمة ترفع من مكانها يسلط الله عليها بحكمته من يهدمها
ولا أحد يقول شيء ولا أحد يعارض هذا الرجل والله عز وجل بحكمته يمكنه من ذلك كذلك القرآن الكريم ينتزع من الصدور ومن المصاحف ويرفع إلى الرب عز وجل لأنه كلامه منه بدأ وإليه يعود العلم أيضا لا ينتزع من صدور الرجال لكنه يقبض بموت العلماء يموت العلماء الذين هم علماء حقيقة ولا يبقى عالم فيتخذ الناس رؤساء يعني يتخذ الناس من يترأسهم ويستفتونه لكنهم جهال يفتون بغير علم فيضلون ويضلون والعياذ بالله وتبقى الشريعة بين هؤلاء الجهال يحكمون بها بين الناس وهم جهلة لا يعرفون فلا يبقى عالم وحينئذ لا يوجد الإسلام الحقيقي الذي يكون مبنيا على الكتاب والسنة لأن أهله قد قبضوا وفي هذا الحديث حث على طلب العلم لأن الرسول أخبرنا بهذا لأجل أن نتحاشى ونتدارك هذا الأمر ونطلب العلم وليس المعنى أنه أخبرنا لنستسلم فقط لا من أجل أن نحرص على طلب العلم حتى لا نصل إلى الحال التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم والإخبار بالواقع لا يعني إقراره يعني إذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء ليس معناه أنه يقره ويسمح فيه كما أخبر عليه الصلاة والسلام وأقسم قال لتركبن سنن من كان قبلكم يعني لتركبن طرق من كان قبلكم قالوا اليهود والنصارى قال نعم اليهود والنصارى فأخبر أن هذه الأمة سوف ترتكب ما كان عليه اليهود والنصارى إخبار تحذير لا إخبار تقرير وإباحة فيجب أن نعلم الفرق بين ما يخبر به الرسول مقررا له ومثبتا له
وما يخبر به محذرا عنه فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن العلماء سيموتون ويعني ذلك أن نحرص حتى ندرك هذا الوقت الذي يموت به العلماء ولا يبقى إلا هؤلاء الرؤساء الجهال الذين يفتون بغير علم فيضلون بأنفسهم ويضلون غيرهم اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا ورزقا طيبا واسعا.