المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 10] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٨

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة النّور

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 20]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 21 الى 26]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 31]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 35 الى 38]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 46]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 47 الى 57]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 61]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]

- ‌سورة الفرقان

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 16]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 24]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 34]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 60]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 77]

- ‌سورة الشعراء

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 104]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 227]

- ‌سورة النّمل

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 44]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 93]

- ‌سورة القصص

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 88]

- ‌سورة العنكبوت

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 69]

- ‌سورة الرّوم

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 60]

- ‌سورة لقمان

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 34]

- ‌سورة السّجدة

- ‌[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 30]

- ‌سورة الأحزاب

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 73]

- ‌سورة سبأ

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 54]

الفصل: ‌[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 10]

[الجزء الثامن]

‌سورة النّور

[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 10]

بسم الله الرحمن الرحيم

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4)

إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ أَيْ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، وَاسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالِهِمْ، وَاتِّخَاذِهِمُ الْوَلَدَ وَالشَّرِيكَ، وَإِلَى مَآلِهِمْ فِي النَّارِ كَانَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ جَوَارٍ بَغَايَا يَسْتَحْسِنُونَ عَلَيْهِنَّ وَيَأْكُلُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ مِنَ الزِّنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ تَغْلِيظًا فِي أَمْرِ الزِّنَا وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ وَكَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَمُّوا بِنِكَاحِهِنَّ.

ص: 5

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُورَةٌ بِالرَّفْعِ فَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذِهِ سُورَةٌ أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ فِيمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَوْ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً أو الخبر الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى السُّورَةُ الْمُنَزَّلَةُ وَالْمَفْرُوضَةُ كَذَا وَكَذَا إِذِ السُّورَةُ عِبَارَةٌ عَنْ آيَاتٍ مَسْرُودَةٍ لَهَا بَدْءٌ وَخَتْمٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ أَنَّهُ الْخَبَرُ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ الْخَبَرُ فِي السُّورَةِ كُلِّهَا وَهَذَا بعيد في القياس وأَنْزَلْناها فِي هَذِهِ الْأَعَارِيبِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ انْتَهَى.

وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز وَمُجَاهِدٌ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ الْبَصْرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَأُمِّ الدَّرْدَاءِ سُورَةٌ بِالنَّصْبِ فَخُرِّجَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ أتلو سورة وأَنْزَلْناها صِفَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى دُونَكَ سُورَةٌ فَنُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ أَدَاةِ الْإِغْرَاءِ وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ أَيْ أَنْزَلْنَا سُورَةٌ أَنْزَلْناها فَأَنْزَلْنَاهَا مُفَسِّرٌ لَأَنْزَلْنَا الْمُضْمَرَةِ فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ إِلَّا أَنَّهُ فِيهِ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ إِلَّا إِنِ اعْتُقِدَ حَذْفُ وَصْفٍ أَيْ سُورَةٌ مُعَظَّمَةٌ أَوْ مُوَضَّحَةٌ أَنْزَلْناها فَيَجُوزُ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سُورَةٌ حَالٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ وَالْحَالُ مِنَ الْمُكَنَّى يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ انْتَهَى. فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَنْزَلْناها لَيْسَ عَائِدًا عَلَى سُورَةٌ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنْزَلْنَا الْأَحْكَامَ وَفَرَضْناها سُورَةً أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهَا سُورَةً مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ ثَابِتَةً بِالسُّنَّةِ فَقَطْ بَلْ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَفَرَضْناها بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ فَرَضْنَا أَحْكَامَهَا وَجَعَلْنَاهَا وَاجِبَةً مُتَطَوَّعًا بِهَا. وَقِيلَ: وَفَرَضْنَا الْعَمَلَ بِمَا فِيهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيجَابِ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِيهَا فَرَائِضَ شَتَّى أَوْ لِكَثْرَةِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: وَكُلُّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ فَرْضٌ.

وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّنَاتٍ أَمْثَالًا وَمَوَاعِظَ وَأَحْكَامًا لَيْسَ فِيهَا مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي بِالرَّفْعِ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَالزَّانِ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَقَوْلُهُ فَاجْلِدُوا بَيَانٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ الْخَبَرَ فَاجْلِدُوا وَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هُوَ أَنَّهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ الدَّاخِلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ مَوْصُولًا بِمَا يَقْبَلُ أَدَاةَ الشَّرْطِ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَاسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ لَا يَجُوزُ أَنْ

ص: 6

يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَدَاةُ الشَّرْطِ وَغَيْرُ سِيبَوَيْهِ مِمَّنْ ذَكَرْنَا لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ، وَتَقْرِيرُ الْمَذْهَبَيْنِ وَالتَّرْجِيحُ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَأَبُو السَّمَّالِ وَرُوَيْسٌ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي بِنَصْبِهِمَا عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَيْ وَاجْلِدُوا الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي كَقَوْلِكَ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، وَلِدُخُولِ الْفَاءِ تَقْرِيرٌ ذُكِرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَالنَّصْبُ هُنَا أَحْسَنُ مِنْهُ فِي سُورَةٌ أَنْزَلْناها لِأَجْلِ الْأَمْرِ، وَتَضَمَّنَتِ السُّورَةُ أَحْكَامًا كَثِيرَةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزِّنَا وَنِكَاحِ الزَّوَانِي وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَالتَّلَاعُنِ والحجاب وغير ذلك. فبدىء بالزنا لِقُبْحِهِ وَمَا يَحْدُثُ عَنْهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْعَارِ. وَكَانَ قَدْ نَشَأَ فِي الْعَرَبِ وَصَارَ مِنْ إِمَائِهِمْ أَصْحَابُ رَايَاتٍ وَقُدِّمَتِ الزَّانِيَةُ عَلَى الزَّانِي لِأَنَّ دَاعِيَتَهَا أَقْوَى لِقُوَّةِ شَهْوَتِهَا وَنُقْصَانِ عَقْلِهَا، وَلِأَنَّ زِنَاهَا أَفْحَشُ وَأَكْثَرُ عَارًا وَلِلْعُلُوقِ بِوَلَدِ الزِّنَا وَحَالُ النِّسَاءِ الْحَجَبَةُ وَالصِّيَانَةُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قُدِّمَتِ الزَّانِيَةُ عَلَى الزَّانِي أَوَّلًا ثُمَّ قُدِّمَ عَلَيْهَا ثَانِيًا؟

قُلْتُ: سَبَقَتْ تِلْكَ الْآيَةُ لِعُقُوبَتِهِمَا عَلَى مَا جَنَيَا وَالْمَرْأَةُ عَلَى الْمَادَّةِ الَّتِي مِنْهَا نَشَأَتِ الْجِنَايَةُ، فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُطْمِعِ الرَّجُلَ وَلَمْ تَرْبِضْ لَهُ وَلَمْ تُمَكِّنْهُ لَمْ يَطْمَعْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ، فَلَمَّا كَانَتْ أَصْلًا وَأَوَّلًا فِي ذَلِكَ بدىء بِذِكْرِهَا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَسُوقَةٌ لِذِكْرِ النِّكَاحِ وَالرَّجُلُ أَصْلٌ فيه لأنه هو الراغب وَالْخَاطِبُ وَمِنْهُ يَبْدَأُ الطَّلَبُ انْتَهَى. وَلَا يَتِمُّ هَذَا الْجَوَابُ فِي الثَّانِيَةِ إِلَّا إِذَا حُمِلَ النِّكَاحُ عَلَى الْعَقْدِ لَا عَلَى الْوَطْءِ. وأل فِي الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي لِلْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الزُّنَاةِ.

وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْبِكْرَيْنِ وَالْجَلْدُ إِصَابَةُ الْجِلْدِ بِالضَّرْبِ كَمَا تَقُولُ: رَأَسَهُ وَبَطَنَهُ وَظَهَرَهُ أَيْ ضَرَبَ رَأْسَهُ وَبَطْنَهُ وَظَهْرَهُ وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْيَانِ الثُّلَاثِيَّةِ الْعُضْوِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ انْدِرَاجُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمُحْصَنِ فِي هَذَا الْعُمُومِ وَهُوَ لَا يَنْدَرِجُ فِي الْمَجْنُونِ وَلَا الصَّبِيِّ بِإِجْمَاعٍ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ وَغَيْرُهُ: وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَنَ يُرْجَمُ وَلَا يُجْلَدُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ: يُجْلَدُ ثُمَّ يُرْجَمُ.

وَجَلَدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ ثُمَّ رَجَمَهَا وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

، وَلَا حُجَّةَ فِي كَوْنِ مَرْجُومَةِ أُنَيْسٍ وَالْغَامِدَيَّةِ لَمْ يُنْقَلْ جَلْدُهُمَا لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَلَا يُنْقَلُ إِلَّا مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ وهو الرجم، فَلِذَلِكَ ذُكِرَ الرَّجْمُ وَلَمْ يُذْكَرِ الْجَلْدُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْإِحْصَانِ الْإِسْلَامَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ تُجْلَدُ خَمْسِينَ وَكَذَا الْعَبْدُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: يُجْلَدُ الْعَبْدُ مِائَةً وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تُجْلَدُ الْأَمَةُ مِائَةً إِلَّا إِذَا تَزَوَّجَتْ فَخَمْسِينَ، وَالظَّاهِرُ انْدِرَاجُ الذِّمِّيَّيْنِ فِي الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي فَيُجْلَدَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَإِذَا كَانَا مُحْصَنَيْنِ

ص: 7

يُرْجَمَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي حَدٌّ غَيْرُ الْجَلْدِ فَقَطْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ،

وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَعَمِلَ بِهِ بَعْدَ الرَّسُولِ خُلَفَاءُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ

، وَمِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَبُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّغْرِيبِ بِنَفْيِ الْبِكْرِ بَعْدَ الْجَلْدِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ والشافعي بنفي الزَّانِي. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ: يُنْفَى الرَّجُلُ وَلَا تُنْفَى الْمَرْأَةُ قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يُنْفَى الْعَبْدُ نِصْفَ سَنَةٍ، وَالظَّاهِرُ

أَنَّ هَذَا الْجَلْدَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَا فَلَوْ وُجِدَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ إِسْحَاقُ يُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ.

وَقَالَ عَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يُؤَدَّبَانِ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ فِي الْأَدَبِ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَالْمُكْرَهَةُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَفِي حَدِّ الرَّجُلِ الْمُكْرَهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ بَيْنَ أَنْ يُكْرِهَهُ سُلْطَانٌ فَلَا يُحَدُّ أَوْ غَيْرُهُ فَيُحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُحَدُّ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَقَوْلُ زُفَرَ يُحَدُّ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ فِي الزِّنَا مَنْ أَتَى امْرَأَةً مِنْ دُبُرِهَا وَلَا ذَكَرًا وَلَا بَهِيمَةً. وَقِيلَ: يَنْدَرِجُ وَالْمَأْمُورُ بِالْجَلْدِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَنُوَّابُهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي إقامة الخارجي المتعلب الْحُدُودَ. فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا وَفِي إِقَامَةِ السَّيِّدِ عَلَى رَقِيقِهِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَفَاطِمَةُ وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا، وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: لَهُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَإِنَّمَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ، وَالْجَلْدُ كَمَا قُلْنَا ضَرْبُ الْجِلْدِ وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِهَيْئَةِ الْجَالِدِ وَلَا هَيْئَةِ الْمَجْلُودِ وَلَا لِمَحَلِّ الْجَلْدِ وَلَا لِصِفَةِ الْآلَةِ الْمَجْلُودِ بِهَا وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا حُكْمُ جَمِيعِ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي أَمْ حُكْمُ بَعْضِهِمْ؟

قُلْتُ: بَلْ هُوَ حُكْمُ مَنْ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُحْصَنَ حُكْمُهُ الرَّجْمُ فَإِنْ قُلْتَ: اللَّفْظُ يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي لِأَنَّ قَوْلَهُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ يَتَنَاوَلُهُ الْمُحْصَنُ وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ قُلْتُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يَدُلَّانِ عَلَى الْجِنْسَيْنِ الْمُنَافِيَيْنِ لِجِنْسَيِ الْعَفِيفِ وَالْعَفِيفَةِ دَلَالَةً مُطْلَقَةً، وَالْجِنْسِيَّةُ قَائِمَةٌ فِي الْكُلِّ وَالْبَعْضِ جَمِيعًا فَأَيُّهُمَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ فَلَا عَلَيْهِ كَمَا يُفْعَلُ بِالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْجِنْسَيْنِ كَمَا ذَكَرَ دَلَالَةً مُطْلَقَةً لِأَنَّ دَلَالَةَ عُمُومِ الِاسْتِغْرَاقِ مُبَايِنَةٌ لدلالة عموم البدل وهو الإطلاق، وَلَيْسَتْ كَدَلَالَةِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ هِيَ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَدَلَالَةَ الْمُشْتَرَكِ تَدُلُّ عَلَى فَرْدٍ فَرْدٍ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَعْنِي فِي الِاسْتِعْمَالِ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، لكن ما ذكرته هُوَ الَّذِي يَصِحُّ فِي النَّظَرِ وَاسْتِعْمَالِ كَلَامِ الْعَرَبِ.

ص: 8

وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالسُّلَمِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَلَا يَأْخُذْكُمْ بِالْيَاءِ

لِأَنَّ تَأْنِيثَ الرَّأْفَةِ مَجَازٌ وَحَسَّنَ ذَلِكَ الْفَصْلُ. وقرأ الجمهور بالتاء الرَّأْفَةِ لَفْظًا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَأْفَةٌ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِهَا وَابْنُ جُرَيْجٍ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ.

وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَكُلُّهَا مَصَادِرُ أَشْهَرُهَا الْأَوَّلُ وَالرَّأْفَةُ الْمَنْهِيُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمُتَوَلِّينَ إِقَامَةَ الْحَدِّ. قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ: هِيَ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ، أَيْ أَقِيمُوهُ وَلَا يَدْرَأُ هَذَا تَأْوِيلَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَا وَالْفِرْيَةِ وَالْخَمْرِ عَلَى نَحْوٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُمَا: الرَّأْفَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا هِيَ فِي تَخْفِيفِ الضَّرْبِ عَلَى الزُّنَاةِ، وَمِنْ رَأْيِهِمْ أَنْ يُخَفَّفَ ضَرْبُ الْفِرْيَةِ وَالْخَمْرِ وَيُشَدَّدَ ضَرْبُ الزِّنَا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَصَلَّبُوا فِي دِينِ اللَّهِ وَيَسْتَعْمِلُوا الْجِدَّ وَالْمَتَانَةَ فِيهِ، وَلَا يَأْخُذَهُمُ اللِّينُ وَالْهَوَادَةُ في استيفاء حُدُودِهِ انْتَهَى. فَهَذَا تَحْسِينُ قَوْلِ أَبِي مِجْلَزٍ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُشَدَّدُ فِي الزِّنَا وَالْفِرْيَةِ وَيُخَفَّفُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فَتُعَطِّلُوا الْحُدُودَ وَلَا تُقِيمُوهَا. وَالنَّهْيُ فِي الظَّاهِرِ لِلرَّأْفَةِ وَالْمُرَادُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الرَّأْفَةُ وَهُوَ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ أَوْ نَقْصُهَا وَمَعْنَى فِي دِينِ اللَّهِ فِي الْإِخْلَالِ بِدِينِ اللَّهِ أَيْ بِشَرْعِهِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تَثْبِيتٌ وَحَضٌّ وَتَهْيِيجٌ لِلْغَضَبِ لِلَّهِ وَلِدِينِهِ، كَمَا تَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ، وَأَمَرَ تَعَالَى بِحُضُورِ جَلْدِهِمَا طَائِفَةً إِغْلَاظًا عَلَى الزُّنَاةِ وَتَوْبِيخًا لَهُمْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَسَمَّى الْجَلْدَ عَذَابًا إِذْ فِيهِ إِيلَامٌ وَافْتِضَاحٌ وَهُوَ عُقُوبَةٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالطَّائِفَةُ الْمَأْمُورُ بِشُهُودِهَا ذَلِكَ يَدُلُّ الِاشْتِقَاقُ عَلَى مَا يَكُونُ يَطُوفُ بِالشَّيْءِ وَأَقَلُّ مَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِيهِ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ صِفَةٌ غَالِبَةٌ لِأَنَّهَا الْجَمَاعَةُ الْحَافَّةُ بِالشَّيْءِ.

وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهَا أَرْبَعَةٌ إِلَى أَرْبَعِينَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: عَشَرَةٌ. وَعَنْ قَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ: ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ: رَجُلَانِ فَصَاعِدًا وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ مَالِكٍ.

وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ وَاسْتِعْمَالُ الضَّمِيرِ الَّذِي لِلْجَمْعِ عَائِدًا عَلَى الطَّائِفَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهَا الْجَمْعُ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.

الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ قُصِدَ بِهِ تَشْنِيعُ الزِّنَا وَأَمْرِهِ، وَمَعْنَى لَا يَنْكِحُ لَا يَطَأُ وَزَادَ الْمُشْرِكَةَ فِي التَّقْسِيمِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّانِيَ فِي وَقْتِ زِنَاهُ

ص: 9

لَا يُجَامِعُ إِلَّا زَانِيَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَخَسَّ مِنْهَا وَهِيَ الْمُشْرِكَةُ، وَالنِّكَاحُ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ وَلَيْسَ بِقَوْلٍ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَيْنَمَا وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يُرَدْ بِهَا إِلَّا مَعْنَى الْعَقْدِ.

وَالثَّانِي: فَسَادُ الْمَعْنَى وَأَدَاؤُهُ إِلَى قَوْلِكَ الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ، وَالزَّانِيَةُ لَا تَزْنِي إِلَّا بِزَانٍ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَخَذَهُ مِنَ الزَّجَّاجِ قَالَ: لَا يُعْرَفُ النِّكَاحُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا بِمَعْنَى التَّزْوِيجِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَفِي الْقُرْآنِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ،

وَبَيَّنَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي فَالْمَقْصُودُ بِهِ تَشْنِيعُ الزِّنَا وَتَشْنِيعُ أَمْرِهِ وَأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَخَذَهُ مِنَ الضَّحَّاكِ وَحَسَّنَهُ الْفَاسِقُ الْخَبِيثُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ الزِّنَا، وَالْخُبْثُ لَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِ الصَّوَالِحِ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِ، وَإِنَّمَا يَرْغَبُ فِي فَاسِقِةٍ خَبِيثَةٍ مِنْ شَكْلِهِ، أَوْ فِي مُشْرِكَةٍ. وَالْفَاسِقَةُ الْخَبِيثَةُ الْمُسَافِحَةُ كَذَلِكَ لَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا الصُّلَحَاءُ مِنَ الرِّجَالِ وَيَنْفِرُونَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا يَرْغَبُ فِيهَا مَنْ هُوَ مِنْ شَكْلِهَا مِنَ الْفَسَقَةِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَنِكَاحُ الْمُؤْمِنِ الْمَمْدُوحِ عِنْدَ اللَّهِ الزَّانِيَةَ وَرَغْبَتُهُ فِيهَا وَانْخِرَاطُهُ بِذَلِكَ فِي سِلْكِ الْفَسَقَةِ الْمُتَّسِمِينَ بِالزِّنَا مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْفُسَّاقِ، وَحُضُورِ مَوْقِعِ التُّهْمَةِ وَالتَّسَبُّبِ لِسُوءِ الْقَالَةِ فِيهِ وَالْغِيبَةِ وَأَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَمُجَالَسَةُ الْخَطَّائِينَ، كَمْ فِيهَا مِنَ التَّعَرُّضِ لِاقْتِرَافِ الْآثَامِ فَكَيْفَ بِمُزَاوَجَةِ الزَّوَانِي وَالْقِحَابِ وَإِقْدَامِهِ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ كَانُوا يَزْنُونَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ بِبَغَايَا مَشْهُورَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَسْلَمُوا لَمْ يُمْكِنْهُمُ الزِّنَا فَأَرَادُوا لِفَقْرِهِمْ زَوَاجَ أُولَئِكَ النِّسْوَةِ إِذْ كُنَّ مِنْ عَادَتِهِنَّ الْإِنْفَاقُ عَلَى مَنِ ارْتَسَمَ بِزَوَاجِهِنَّ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِنَّ وَالْإِشَارَةُ بِالزَّانِي إِلَى أَحَدِ أُولَئِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَوْلُهُ لَا يَنْكِحُ أَيْ لَا يَتَزَوَّجُ، وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ فِيهِ مَعْنَى التَّفَجُّعِ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ تَوْبِيخٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ: الزَّانِي لَا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلا زانية أو مشركة، أَيْ تَنْزِعُ نُفُوسُهُمْ إِلَى هَذِهِ الْخَسَائِسِ لِقِلَّةِ انْضِبَاطِهِمْ، وَيَرِدُ عَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مُشْرِكٌ فِي قَوْمِهِ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. أَيْ نِكَاحُ أُولَئِكَ الْبَغَايَا، فَيَزْعُمُ أَهْلُ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ أَنَّ نِكَاحَهُنَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ الزَّانِي الْمَحْدُودُ، وَالزَّانِيَةُ الْمَحْدُودَةُ قَالَ: وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ فَلَا يَجُوزُ لِزَانٍ مَحْدُودٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا زَانِيَةً.

وَقَدْ رُوِيَ أَنْ مَحْدُودًا تَزَوَّجَ غَيْرَ مَحْدُودَةٍ فَرَدَّ

ص: 10

علي بن أبي طالب نِكَاحَهَا.

وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ الزِّنَا.

وَرَوَى الزَّهْرَانِيُّ فِي هَذَا حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَحْدُودُ إِلَّا مِثْلَهُ» .

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، وَقَوْلٌ فِيهِ نَظَرٌ، وَإِدْخَالُ الْمُشْرِكِ فِي الْآيَةِ يَرُدُّهُ وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ تَأْبَاهُ وَإِنْ قُدِّرَتِ الْمُشْرِكَةُ بِمَعْنَى الْكِتَابِيَّةِ فَلَا حِيلَةَ فِي لَفْظِ الْمُشْرِكِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: هَذَا حُكْمٌ كَانَ فِي الزُّنَاةِ عَامٌّ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ زَانٍ إِلَّا زَانِيَةً، ثُمَّ جَاءَتِ الرُّخْصَةُ وَنُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «1» وَقَوْلِهِ فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «2» وَرُوِيَ تَرْتِيبُ هَذَا النَّسْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَرَّمَ نِكَاحَ أُولَئِكَ الْبَغَايَا عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذِكْرُ الْإِشْرَاكِ فِي الْآيَةِ يُضْعِفُ هَذِهِ الْمَنَاحِيَ انْتَهَى.

وَعَنِ الْجِبَائِيِّ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِنْ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ النِّكَاحَ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَطْءُ فَالْآيَةُ وَرَدَتْ مُبَالَغَةً فِي تَشْنِيعِ الزِّنَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّزْوِيجُ فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ عُمُومٌ فِي الزُّنَاةِ ثُمَّ نُسِخَ، أَوْ عُمُومٌ فِي الْفُسَّاقِ الْخَبِيثِينَ لَا يَرْغَبُونَ إِلَّا فِيمَنْ هُوَ شِكْلٌ لَهُمْ، وَالْفَوَاسِقِ الْخَبَائِثِ لَا يَرْغَبْنَ إِلَّا فِيمَنْ هُوَ شِكْلٌ لَهُنَّ، وَلَا يَجُوزُ التَّزْوِيجُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ يُرَادَ بِهِ خُصُوصٌ فِي قَوْمٍ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ زُنَاةً بِبَغَايَا فَأَرَادُوا تَزْوِيجَهُنَّ لِفَقْرِهِمْ وَإِيسَارِهِنَّ مَعَ بَقَائِهِنَّ عَلَى الْبِغَاءِ فَلَا يَتَزَوَّجُ عَفِيفَةً، وَلَوْ زَنَا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ أَرَادَ تَزْوِيجَهَا فَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَطَاوُسٌ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَمَنَعَهُ ابن مسعود والبراء ابن عَازِبٍ وَعَائِشَةُ وَقَالَا: لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ مَا اجْتَمَعَا، وَمِنْ غَرِيبِ النَّقْلِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ مَعْرُوفٌ بِالزِّنَا أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْفُسُوقِ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي الْبَقَاءِ مَعَهُ أَوْ فِرَاقِهِ وَهُوَ عَيْبٌ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ الْخِيَارُ عَلَيْهَا، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ زَنَى مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَسَدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ:

لَا يَنْفَسِخُ وَيُؤْمَرُ بِطَلَاقِهَا إِذَا زَنَتْ، فَإِنْ أَمْسَكَهَا أَثِمَ. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِالزَّانِيَةِ وَلَا مِنَ الزَّانِي فَإِنْ ظَهَرَتِ التَّوْبَةُ جَازَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ؟ قُلْتُ:

مَعْنَى الْأُولَى صِفَةُ الزَّانِي بِكَوْنِهِ غَيْرَ رَاغِبٍ فِي الْعَفَائِفِ وَلَكِنْ فِي الْفَوَاجِرِ، وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ صِفَتُهَا بِكَوْنِهَا غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهَا لِلْأَعِفَّاءِ وَلَكِنْ لِلزُّنَاةِ، وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ لَا يَنْكِحُ بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ وَالْمَرْفُوعُ فِيهِ مَعْنَى النهي ولكن

(1) سورة النور: 24/ 32.

(2)

سورة النساء: 4/ 3. [.....]

ص: 11

هُوَ أَبْلَغُ وَآكَدُ كَمَا أَنَّ رَحِمَكَ اللَّهُ وَيَرْحَمُكَ اللَّهُ أَبْلَغُ مِنْ لِيَرْحَمْكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَحْضًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ عَادَتَهُمْ جَارِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُدْخِلَ نَفْسَهُ تَحْتَ هَذِهِ الْعَادَةِ وَيَتَصَوَّنَ عَنْهَا انْتَهَى. وقرأ أبو البر هيثم وَحُرِّمَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيِ اللَّهِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَحُرِّمَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالْجُمْهُورُ وَحُرِّمَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.

وَالْقَذْفُ الرَّمْيُ بِالزِّنَا وَغَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الزِّنَا لِاعْتِقَابِهِ إِيَّاهُ وَلِاشْتِرَاطِ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَهُوَ مِمَّا يَخُصُّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا إِذْ فِي غَيْرِهِ يَكْفِي شَاهِدَانِ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَنَزَلَتْ بِسَبَبِ قِصَّةِ الْإِفْكِ. وَقِيلَ: بِسَبَبِ الْقَذَفَةِ عَامًّا، وَاسْتُعِيرَ الرَّمْيُ لِلشَّتْمِ لِأَنَّهُ إِذَايَةٌ بِالْقَوْلِ. كَمَا قَالَ:

وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ:

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي

بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطويّ رماني

والْمُحْصَناتِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ النِّسَاءُ الْعَفَائِفُ، وَخَصَّ النِّسَاءَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الرِّجَالُ يَشْرَكُونَهُنَّ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ الْقَذْفَ فِيهِنَّ أَشْنَعُ وَأَنْكَرُ لِلنُّفُوسِ، وَمِنْ حَيْثُ هُنَّ هَوَى الرِّجَالِ فَفِيهِ إِيذَاءٌ لَهُنَّ وَلِأَزْوَاجِهِنَّ وَقَرَابَاتِهِنَّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى الْفُرُوجُ الْمُحْصَنَاتُ كَمَا قَالَ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها «1» . وَقِيلَ: الْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ وَقَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ: وَحَكَاهُ الزَّهْرَاوِيُّ فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ اللَّفْظُ شَامِلًا لِلنِّسَاءِ وَلِلرِّجَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي قَوْلِهِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ «2» وَثَمَّ مَحْذُوفٌ أَيْ بِالزِّنَا، وَخَرَجَ بِالْمُحْصَنَاتِ مَنْ ثَبَتَ زِنَاهَا أَوْ زِنَاهُ، وَاسْتَلْزَمَ الْوَصْفُ بِالْإِحْصَانِ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ وَالْحُرِّيَّةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، والمراد بالمحصنات غير المتزوجات الرَّامِينَ أَوْ لِمَنْ زَوْجُهُ حُكْمٌ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَالرَّمْيُ بِالزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هو التصريح بِأَنْ يَقُولَ: يَا زَانِيَةُ، أَوْ يَا زَانِي، أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِي وَابْنَ الزَّانِيَةِ، يَا وَلَدَ الزِّنَا لَسْتَ لِأَبِيكَ لَسْتَ لِهَذِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الصَّرَائِحِ، فَلَوْ عَرَّضَ كَأَنْ يَقُولَ: مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ لَمْ يُحَدَّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ، وَيُحَدُّ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَثَبَتَ الْحَدُّ فِيهِ عَنْ عُمَرَ بَعْدَ مُشَاوَرَتِهِ النَّاسَ وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ هُوَ قَذْفٌ فِي حَالِ الْغَضَبِ دُونَ الرِّضَا، فَلَوْ قَذَفَ كِتَابِيًّا إِذَا كَانَ لِلْمَقْذُوفِ وَلَدٌ مُسْلِمٌ. وَقِيلَ: إِذَا قَذَفَ الْكِتَابِيَّةَ تَحْتَ الْمُسْلِمِ حُدَّ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَاذِفَ الصَّبِيِّ لَا يُحَدُّ وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يُجَامِعُ، واختلفوا في قاذف

(1) سورة الأنبياء: 21/ 91.

(2)

سورة النساء: 4/ 24.

ص: 12

الصَّبِيَّةِ. فَقَالَ مَالِكٌ: يُحَدُّ إِذَا كَانَ مِثْلُهَا يُجَامَعُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يَحُدُّ إِذَا كَانَ مِثْلُهَا يُجَامَعُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يَحُدُّ قَاذِفُ الْمَجْنُونِ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَا يُحَدُّ.

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ظَاهِرُهُ الذُّكُورُ وَحُكْمُ الرَّامِيَاتِ حُكْمُهُمْ، وَلَوْ قَذَفَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَجْنُونُ زَوْجَتَهُ أَوْ أَجْنَبِيَّةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَوْ أَخْرَسُ وَلَهُ كِنَايَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَوْ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ حُدَّ عِنْدِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ قَذْفُهُ وَلَا لِعَانُهُ وَلَمَّا كَانَتْ مَعْصِيَةُ الزِّنَا كَبِيرَةً مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ وَكَانَ متعاطيها كثيرا ما يتسير بِهَا فَقَلَّمَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ عَلَيْهَا، شَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقَاذِفِ حَيْثُ شَرَطَ فِيهَا أَرْبَعَةَ شُهَدَاءَ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ وَسَتْرًا لَهُمْ وَالْمَعْنَى ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا الْحُكَّامَ والجمهور على إضافة بِأَرْبَعَةِ إِلَى شُهَداءَ. وَقَرَأَ أَبُو زرعة وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بِأَرْبَعَةِ بِالتَّنْوِينِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ فَصِيحَةٌ، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ اسْمُ الْعَدَدِ وَالصِّفَةُ كَانَ الْإِتْبَاعُ أَجْوَدَ مِنَ الْإِضَافَةِ، وَلِذَلِكَ رَجَّحَ ابْنُ جِنِّي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنْ حَيْثُ أَخَذَ مُطْلَقَ الصِّفَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الصِّفَةَ إِذَا جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ وَبَاشَرَتْهَا الْعَوَامِلُ جَرَتْ فِي الْعَدَدِ وَفِي غَيْرِهِ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، وَمِنْ ذَلِكَ شَهِيدٍ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «1» وَقَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ «2» وَكَذَلِكَ عَبْدٌ فَثَلَاثَةُ شُهَدَاءَ بِالْإِضَافَةِ أَفْصَحُ مِنَ التَّنْوِينِ وَالْإِتْبَاعِ، وَكَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسِيبَوَيْهِ يَرَى أَنَّ تَنْوِينَ الْعَدَدِ وَتَرْكَ إِضَافَتِهِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ إِنَّمَا يَرَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ فِي الْعَدَدِ الَّذِي بَعْدَهُ اسْمٌ نَحْوُ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَأَمَّا فِي الصِّفَةِ فَلَا بَلِ الصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا نَوَّنْتَ أَرْبَعَةً فَشُهَدَاءُ بَدَلٌ إِذْ هُوَ وَصْفٌ جَرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ أَوْ صِفَةٌ لِأَنَّهُ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَيَضْعُفُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ حَالٌ أَوْ تَمْيِيزٌ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ تَكُونُ بِالْمُعَايَنَةِ الْبَلِيغَةِ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ شَهَادَتُهُمْ أَنْ تَكُونَ حَالَةَ اجْتِمَاعِهِمْ بَلْ لَوْ أُتِيَ بِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ صَحَّتْ شَهَادَتُهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: شَرْطُ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدُوا مُجْتَمِعِينَ، فَلَوْ جاؤوا مُتَفَرِّقِينَ كَانُوا قَذَفَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشُّهُودِ زَوْجَ الْمَقْذُوفَةِ لِانْدِرَاجِهِ فِي أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَلِقَوْلِهِ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ «3» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجِ فِيهِمْ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا أَجْنَبِيِّينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ الزَّوْجُ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

(1) سورة النساء: 4/ 41.

(2)

سورة البقرة: 2/ 282.

(3)

سورة النساء: 4/ 15.

ص: 13

فَاجْلِدُوهُمْ أَمْرٌ لِلْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ بِالْجَلْدِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْجَلْدِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبِ الْمَقْذُوفُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُحَدُّ إِلَّا بِمُطَالَبَتِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ سَمِعَهُ يَقْذِفُهُ فَيَحُدُّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ شُهُودٌ عُدُولٌ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبِ الْمَقْذُوفُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَبْدَ الْقَاذِفَ حُرًّا إِذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حُدَّ ثَمَانِينَ لِانْدِرَاجِهِ فِي عُمُومِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وعثمان الْبَتِّيُّ وَالشَّافِعِيُّ:

يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَفِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ

وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعَةَ، وَلَوْ قَذَفَ وَاحِدٌ جَمَاعَةً بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ أَفْرَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُدَّ حَدًّا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَالشَّافِعِيُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِنْ كَانَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ نَحْوِ يَا زناة فحدوا حد، أَوْ قَالَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ يَا زَانِي فَلِكُلِّ إِنْسَانٍ حَدٌّ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُجْلَدُ إِلَّا الْقَاذِفُ وَلَمْ يَأْتِ جَلْدُ الشَّاهِدِ إِذَا لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدُ الشُّهُودِ، وَلَيْسَ مَنْ جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِلْقَاذِفِ بِقَاذِفٍ وَقَدْ أَجْرَاهُ عُمَرُ مُجْرَى الْقَاذِفِ. وَجَلَدَ أَبَا بَكَرَةَ وَأَخَاهُ نَافِعًا وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيَّ لِتَوَقُّفِ الرَّابِعِ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الشَّهَادَةِ فَلَمْ يُؤَدِّهَا كَامِلَةً، وَلَوْ أُتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فُسَّاقٍ. فَقَالَ زُفَرُ: يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ وَالشُّهُودِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَيُدْرَأُ عَنِ الشُّهُودِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: يُحَدُّ الشُّهُودُ وَالْقَاذِفُ.

وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَتَابَ، وَهُوَ نَهْيٌ جَاءَ بَعْدَ أَمْرٍ، فَكَمَا أَنَّ حُكْمَهُ الْجَلْدُ كَذَلِكَ حُكْمُهُ رَدُّ شَهَادَتِهِ وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَالنَّخَعِيُّ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَإِنْ تَابَ، وَتُقْبَلُ شهادته في غير المقذوف إِذَا تَابَ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ فِي الْقَذْفِ بِالزِّنَا وَغَيْرِهِ إِذَا تَابَ وَبِهِ قال عطاء وطاوس ومجاهد وَالشَّعْبِيُّ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَقَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ يَعْنِي مُطْلَقًا، وَتَوْبَتُهُ بِمَاذَا تُقْبَلُ بِإِكْذَابِ نَفْسِهِ فِي الْقَذْف وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَكَذَا فَعَلَ عُمَرُ بِنَافِعٍ وَشِبْلٍ أَكْذَبَا أَنْفُسَهُمَا فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَصَرَّ أَبُو بَكْرَةَ فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ حَتَّى مَاتَ.

وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حَيِّزِ الَّذِينَ يَرْمُونَ،

ص: 14

كَأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِحَالِ الرَّامِينَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمَوْصُولِ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَمَا تَرَتَّبَ فِي خَبَرِهِ مِنَ الْجَلْدِ وَعَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَبَدًا.

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَعْقُبُ جُمَلًا ثَلَاثَةً، جُمْلَةَ الْأَمْرِ بِالْجَلْدِ وَهُوَ لَوْ تَابَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَجُمْلَةَ النَّهْيِ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ أَبَدًا وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إِذَا تَابُوا بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إِلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ، وَجُمْلَةَ الْحُكْمِ بِالْفِسْقِ أَوْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ الثَّالِثَةُ وَهِيَ الْحُكْمُ بِفِسْقِهِمْ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا تَعَقَّبَ جُمْلَةً يَصْلُحُ أَنْ يَتَخَصَّصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُجْعَلَ تَخْصِيصًا فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُكُلِّمَ عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا مِنَ النُّحَاةِ غَيْرَ الْمَهَابَاذِيِّ وَابْنِ مَالِكٍ فَاخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْجُمَلِ كُلِّهَا كَالشَّرْطِ، وَاخْتَارَ الْمَهَابَاذِيُّ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وهو الذي نَخْتَارُهُ، وَقَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّذْيِيلِ وَالتَّكْمِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَعَلَ يَعْنِي الشَّافِعِيَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَعَلِّقًا بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ وَحَقُّ الْمُسْتَثْنَى عنده أن يكون مجرور بَدَلًا مِنْ هُمْ فِي لَهُمْ وَحَقُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ النَّصْبُ لِأَنَّهُ عَنْ مُوجَبٍ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَنَظْمُهَا أَنْ تَكُونَ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ مَجْمُوعُهُنَّ جَزَاءُ الشَّرْطِ يَعْنِي الْمَوْصُولِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُ وَرُدُّوا شَهَادَتَهُ وَفَسِّقُوهُ أَيِ اجْمَعُوا لَهُ الْحَدَّ وَالرَّدَّ وَالْفِسْقَ.

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عَنِ الْقَذْفِ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَيَنْقَلِبُونَ غَيْرَ مَحْدُودِينَ وَلَا مَرْدُودِينَ وَلَا مُفَسَّقِينَ انْتَهَى. وَلَيْسَ يَقْتَضِي ظَاهِرُ الْآيَةِ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْجُمَلِ الثَّلَاثِ، بَلِ الظَّاهِرُ هُوَ مَا يعضده كلام العرب وهو الرجوع إِلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَعَ ظُهُورِ اتِّصَالِهِ ضَعِيفٌ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَزْوَاجَ وَغَيْرَهُنَّ وَلِذَلِكَ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَزَمَ عَلَى حَدِّ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ رَمَى زَوْجَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَنَزَلَتْ

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ غَيْرُ الزَّوْجَاتِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ نَازِلَةَ هِلَالٍ قَبْلَ نَازِلَةِ عُوَيْمِرٍ.

وَقِيلَ: نَازِلَةُ عُوَيْمِرٍ قَبْلُ، وَالْمَعْنَى بِالزِّنَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ وَلَمْ يُقَيَّدْ بِعَدَدٍ اكْتِفَاءً بِالتَّقْيِيدِ فِي قَذْفِ غَيْرِ الزَّوْجَاتِ، وَالْمَعْنَى شُهَداءُ عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِمْ. وَقُرِئَ وَلَمْ تَكُنْ بِالتَّاءِ.

ص: 15

وقرأ الجمهور بالياء وهو الفصيح لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَامِلُ مُفَرَّغًا لِمَا بَعْدَ إِلَّا وَهُوَ مُؤَنَّثٌ فَالْفَصِيحُ أَنْ يَقُولَ مَا قَامَ إِلَّا هِنْدٌ، وَأَمَّا مَا قَامَتْ إِلَّا هِنْدٌ فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يَخُصُّهُ بِالضَّرُورَةِ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يُجِيزُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قلة.

وأَزْواجَهُمْ يَعُمُّ سَائِرَ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْكَافِرَاتِ وَالْإِمَاءِ، فَكُلُّهُنَّ يُلَاعِنَّ الزَّوْجَ لِلِانْتِفَاءِ مِنَ الْعَمَلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَى قَاذِفِهَا الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، نَحْوَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً أَوْ ذِمِّيَّةً وَقَدْ وطئت وطأ حر إما فِي غَيْرِ مِلْكٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ أَعْمَى أَوْ فَاسِقًا فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ.

وَقَالَ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ: لَا لِعَانَ إِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَمْلُوكًا أَوْ كَافِرًا، وَيُلَاعِنُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا لِعَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا بَيْنَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَامْرَأَتِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُلَاعِنُ الْعَبْدُ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ. وَعَنْ مَالِكٍ:

الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ وَالْحُرَّةُ الْكِتَابِيَّةُ يُلَاعِنَّ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ وَالْعَبْدُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ الْكِتَابِيَّةَ، وَعَنْهُ:

لَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرَةِ لِعَانٌ إِلَّا لِمَنْ يَقُولُ رَأَيْتُهَا تَزْنِي فَيُلَاعِنُ ظَهَرَ الْحَمْلُ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ، وَلَا يُلَاعِنِ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَةَ وَلَا زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ إِلَّا فِي نَفْيِ الْحَمْلِ وَيَتَلَاعَنُ الْمَمْلُوكَانِ الْمُسْلِمَانِ لَا الْكَافِرَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كُلُّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ يُلَاعِنُ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي الرَّامِينَ وَزَوْجَاتِهِمُ الْمُرْمَيَاتِ بِالزِّنَا، وَالظَّاهِرُ إِطْلَاقُ الرَّمْيِ بِالزِّنَا سَوَاءٌ قَالَ:

عَايَنْتُهَا تَزْنِي أَمْ قَالَ زَنَيْتِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَ مَالِكٌ لَا يُلَاعِنُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُكِ تَزْنِينَ أَوْ يَنْفِي حَمْلًا بِهَا أَوْ وَلَدًا مِنْهَا وَالْأَعْمَى يُلَاعِنُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا يُلَاعِنُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ عَلَيْهَا رَجُلًا أَوْ يَكُونَ اسْتَبْرَأَهَا، فَيَقُولَ: لَيْسَ هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ فِي اللِّعَانِ إِلَّا لِكَيْفِيَّتِهِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ. وَقَدْ أَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا فِي ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ مِمَّا لَمْ تَتَعَرَّضُ لَهُ الْآيَةُ وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَارْتَفَعَ فَشَهادَةُ خَبَرًا عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ فَالْحُكْمُ أَوِ الْوَاجِبُ أَوْ مُبْتَدَأً عَلَى إِضْمَارِ الْخَبَرِ مُتَقَدَّمًا أَيْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ أَوْ مُؤَخَّرًا أَيْ كَافِيهِ أَوْ وَاجِبُهُ. وبِاللَّهِ مِنْ صِلَةِ شَهاداتٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِلَةِ فَشَهادَةُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَفَرَّغَ الْحَوْفِيُّ ذَلِكَ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَعَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ وَاخْتِيَارِهِمْ يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَاتٍ، وَعَلَى اخْتِيَارِ الْكُوفِيِّينَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَشَهادَةُ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ

ص: 16

وَحَفْصٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَأَبَانُ وَابْنُ سَعْدَانَ أَرْبَعُ بالرفع خبر للمبتدأ، وهو فَشَهادَةُ وبِاللَّهِ مِنْ صِلَةِ شَهاداتٍ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَلَا يَجُوزُ أن يتعلق بفشهادة لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِالْجَرِّ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْخامِسَةُ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَالسُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَخَالِدُ بْنُ إياس ويقال ابن إياس بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالزَّعْفَرَانِيُّ بِنَصْبِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، فَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهُ الْخَبَرُ، وَمَنْ نَصَبَ الْأُولَى فَعَطْفٌ عَلَى أَرْبَعُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ أَرْبَعُ، وَعَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ أَرْبَعُ أَيْ وَتَشْهَدُ الْخامِسَةُ وَمَنْ نَصَبَ الثَّانِيَةَ فَعَطَفَ عَلَى أَرْبَعُ وَعَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ فِي الْخامِسَةُ يَكُونُ أَنَّ بَعْدَهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أي بأن، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ أَنَّ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلًا مِنْ الْخامِسَةُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ أَنْ لعنت بتخفيف أن ورفع لعنت وأَنَّ غَضَبَ بتخفيف أَنَّ وغَضَبَ فِعْلٌ مَاضٍ وَالْجَلَالَةُ بَعْدُ مَرْفُوعَةٌ، وَهِيَ إِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ لَمَّا خُفِّفَتْ حُذِفَ اسْمُهَا وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وعيسى وسلام وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَالْأَعْرَجُ ويعقوب بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَالْحَسَنُ أَنْ لَعْنَةُ كقراءة نافع، وأَنَّ غَضَبَ بتخفيف أَنَّ وغَضَبَ مصدر مرفوع وخبر ما وبعده وَهِيَ إِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ وأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ بِتَشْدِيدِ أَنَّ وَنَصْبِ مَا بَعْدَهُمَا اسْمًا لها وخبر ما بعد. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأَنَّ الْخَفِيفَةُ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ فِي قَوْلِهِ أَنَّ غَضَبَ قَدْ وَلِيَهَا الْفِعْلُ.

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَ أَنْ يَلِيَهَا الْفِعْلُ إِلَّا أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بِشَيْءٍ نَحْوُ قَوْلِهِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ «1» وَقَوْلِهِ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ «2» وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى «3» فَذَلِكَ لِعِلَّةِ تَمَكُّنِ لَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ «4» فَبُورِكَ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ فَلَمْ يَجْرِ دُخُولُ الْفَوَاصِلِ لِئَلَّا يَفْسُدَ الْمَعْنَى انْتَهَى.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ وأَنْ بُورِكَ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ دُعَاءً، وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَا الْفَارِسِيُّ، وَيَكُونُ غَضِبَ دُعَاءً مَثَّلَ النُّحَاةُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ دُعَاءً لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ بِشَيْءٍ، وَأَوْرَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ غَضَبَ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ مَوْرِدَ الْمُسْتَغْرَبِ.

(1) سورة المزمل: 73/ 20.

(2)

سورة طه: 20/ 89.

(3)

سورة النجم: 53/ 39.

(4)

سورة النمل: 27/ 8.

ص: 17

وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَيْ يَدْفَعُ والْعَذابَ قَالَ الْجُمْهُورُ الْحَدُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا حَدَّ عَلَيْهَا إِنْ لَمْ يُلَاعِنْ وَلَا يُوجِبُهُ عَلَيْهَا قَوْلُ الزَّوْجِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ آخرين أن الْعَذابَ هو الحبس، وَالظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ فِي اللِّعَانِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَمَكَانُ ضَمِيرِ الْغَائِبِ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ فِي شَهَادَتِهِ مُطْلَقًا وَفِي شَهَادَتِهَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهَا تَقُولُ عَلَيَّ. فَقَالَ الثوري وأبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ: يَقُولُ بَعْدَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا وَكَذَا بَعْدَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَكَذَا هِيَ بعد من الكاذبين ومِنَ الصَّادِقِينَ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يَنْفِيهِ زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا فِي نَفْيِ الْوَلَدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقُولُ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي رَأَيْتُهَا تَزْنِي وَهِيَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا رَآنِي أَزْنِي، وَالْخَامِسَةُ تقول ذلك أربعا والْخامِسَةُ لَفْظَ الْآيَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقُولُ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ، ويشير إليها إن كان حَاضِرَةً أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقْعُدُ الْإِمَامُ وَيُذَكِّرُهُ اللَّهَ تَعَالَى فَإِنْ رَآهُ يُرِيدُ أَنْ يَمْضِيَ أَمَرَ مَنْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَيَقُولُ: إِنَّ قَوْلَكَ وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ فُلَانَةَ مِنَ الزِّنَا، فَإِنْ قَذَفَهَا بِأَحَدٍ يُسَمِّيهِ بعينه واحد أَوِ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ، وَإِنْ نَفَى وَلَدَهَا زَادَ وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَا هُوَ مِنِّي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا فَقَذَفَهَا وَوَلَدَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَنَفَى الْوَلَدَ أَنَّهُ يُحَدُّ وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا زَوْجَةٌ إِلَّا مَجَازًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ قَذَفَهَا حُدَّ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: يُلَاعِنُ. وَعَنِ اللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ: إِذَا أَنْكَرَ حَمْلَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَاعَنَ. وَعَنْ مَالِكٍ: إِنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ لَاعَنَهَا.

وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاقٍ أَوْ غيره فقال الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ وَهَذَا هو الظاهر لِأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ حَالَةَ الْقَذْفِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ فَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ وَكَذَلِكَ هِيَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: أَيُّهُمَا نَكَلَ حُدَّ هُوَ لِلْقَذْفِ وَهِيَ لِلزِّنَا. وَعَنِ الْحَسَنِ: إِذَا لَاعَنَ وَأَبَتْ حُبِسَتْ. وَعَنْ مَكْحُولٍ وَالضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ: تُرْجَمُ وَمَشْرُوعِيَّةُ اللِّعَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ لَيْسَا بِكُفْرٍ مِنْ فَاعِلِهِمَا خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ مِنَ الْكَاذِبِ مِنْهُمَا لِاسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ مِنَ اللَّهِ وَالْغَضَبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خُصَّتِ الْمُلَاعِنَةُ بِأَنْ تُخَمِّسَ بِغَضَبِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: تَغْلِيظًا عَلَيْهَا

ص: 18