الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ بِكَسْرِ الْيَاءِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً أَيْ مُبَيِّناتٍ غَيْرَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ، فَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَيْهَا مَجَازًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لَا تَتَعَدَّى أَيْ بَيِّنَاتٌ فِي نَفْسِهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى مُوَضِّحٍ بَلْ هِيَ وَاضِحَةٌ لِقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ. قَدْ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ.
أَيْ قَدْ ظَهَرَ وَوَضَحَ. وَقَوْلُهُ وَمَثَلًا مَعْطُوفٌ عَلَى آيَاتٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَثَلًا مِنْ أَمْثَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ قِصَّةً غَرِيبَةً مِنْ قِصَصِهِمْ كَقِصَّةِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ فِي بَرَاءَتِهِمَا لِبَرَاءَةِ مَنْ رُمِيَتْ بِحَدِيثِ الْإِفْكِ لِيَنْظُرُوا قُدْرَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَصُنْعِهِ فِيهِ فَيَعْتَبِرُوا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالْمُرَادُ بِالْمَثَلِ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، فَأَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ شَبَهًا مِنْ حَالِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ أَيْ بَيَّنَّا لَكُمْ مَا أَحْلَلْنَا بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ لِتَمَرُّدِهِمْ، فَجَعَلْنَا ذَلِكَ مَثَلًا لَكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِذَا شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ كُنْتُمْ مِثْلَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ. وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أَيْ مَا وَعَظَ فِي الْآيَاتِ وَالْمَثَلِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ «1» ولَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً «2» وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بالموعظة.
[سورة النور (24) : الآيات 35 الى 38]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
النُّورُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الضَّوْءُ الْمُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، فَإِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ كَمَا تَقُولُ:
زَيْدٌ كَرَمٌ وَجُودٌ وَإِسْنَادُهُ عَلَى اعْتِبَارَيْنِ، إِمَّا عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ منوّر السموات وَالْأَرْضِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ
قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعَبْدِ العزيز المكي
(1) سورة النور: 24/ 2.
(2)
سورة النور: 24/ 17.
وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَثَابِتِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ وَالْقَوْرَصِيِّ وَمَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ نُورُ فِعْلًا ماضيا والْأَرْضِ بِالنَّصْبِ.
وَإِمَّا عَلَى حَذْفٍ أَيْ ذُو نُورٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ مَثَلُ نُورِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ نُورًا عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ، كَمَا قَالُوا فُلَانٌ شَمْسُ الْبِلَادِ وَنُورُ الْقَبَائِلِ وَقَمَرُهَا، وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبٌ وَقَالَ:
قَمَرُ القبائل خالد بن زيد وَقَالَ:
إِذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَرْوَ لَيْلَةً
…
فَقَدْ سَارَ مِنْهَا بَدْرُهَا وَجَمَالُهَا
وَيُرْوَى نُورُهَا، وَأَضَافَ النُّورَ إِلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لدلالة عَلَى سِعَةِ إِشْرَاقِهِ وَفُشُوِّ إِضَاءَتِهِ حَتَّى يُضِيءَ لَهُ السموات وَالْأَرْضُ، أَوْ يُرَادُ أَهْلُ السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُمْ يَسْتَضِيئُونَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُورُ السَّماواتِ أَيْ هَادِي أَهْلِ السموات. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُدَبِّرُ أُمُورِ السموات. وقال الحسن: منور السموات. وَقَالَ أُبَيٌّ: اللَّهُ بِهِ نور السموات أو منه نور السموات أَيْ ضِيَاؤُهَا. وَقَالَ أَبُو العالية: مزين السموات بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَمُزَيِّنُ الْأَرْضِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: الْمُنَزِّهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ امْرَأَةً نَوَارِ بَرِيئَةً مِنَ الرِّيبَةِ وَالْفَحْشَاءِ.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هُوَ الَّذِي يَرَى وَيُرَى بِهِ مَجَازٌ وُصِفَ اللَّهُ بِهِ لِأَنَّهُ يُرَى وَيَرَى بِسَبَبِهِ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّهُ خَلَقَهَا وَأَوْجَدَهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مَثَلُ نُورِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْقَوْلِ مَا الْمُرَادُ بِالنُّورِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ تَعَالَى. فَقِيلَ: الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ فِي قَوْلِهِ وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ «1» وَقِيلَ: الْإِيمَانُ الْمَقْذُوفُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقِيلَ: النُّورُ هُنَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقِيلَ: النُّورُ هُنَا الْمُؤْمِنُ. وَقَالَ كَعْبٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الضَّمِيرُ في لِنُورِهِ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أي مَثَلُ نُورِ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أُبَيٌّ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَفِي قِرَاءَتِهِ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا فِيهَا مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ عَادَ فِيهَا الضَّمِيرِ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَنَقَلْتُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ
(1) سورة النور: 24/ 34.
بِالْآيَةِ بِخِلَافِ عَوْدِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ مَكِّيٌّ يُوقَفُ عَلَى وَالْأَرْضِ فِي تِلْكَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّشْبِيهِ أَهْوَ تَشْبِيهُ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةٍ لَا يُقْصَدُ فِيهَا إِلَى تَشْبِيهِ جُزْءٍ بِجُزْءٍ وَمُقَابَلَةِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أَوْ مِمَّا قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ أَيْ مَثَلُ نُورِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ هُدَاهُ وَإِتْقَانُهُ صَنْعَةَ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَبَرَاهِينُهُ السَّاطِعَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ كَهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ النُّورِ الَّذِي تَتَّخِذُونَهُ أَنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ صِفَاتِ النُّورِ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِي النَّاسِ، أَيْ مَثَلُ نُورِ اللَّهِ فِي الْوُضُوحِ كَهَذَا الَّذِي هُوَ مُنْتَهَاكُمْ أَيُّهَا الْبَشَرُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُفَصَّلِ الْمُقَابَلِ جُزْءًا بِجُزْءٍ، وَقَرَّرُوهُ عَلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَيْ مَثَلُ نُورِهِ فِي مُحَمَّدٍ أَوْ فِي الْمُؤْمِنِ أَوْ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ كَمِشْكاةٍ فَالْمِشْكَاةُ هُوَ الرَّسُولُ أَوْ صَدْرُهُ والْمِصْباحُ هُوَ النُّبُوَّةُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ عِلْمِهِ وَهُدَاهُ والزُّجاجَةُ قَلْبُهُ. وَالشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ الْوَحْيُ وَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَشَبَّهَ الْفَصْلَ بِهِ بِالزَّيْتِ وَهُوَ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ وَالْآيَاتُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْوَحْيُ وَعَلَى قَوْلِ الْمُؤْمِنِ فَالْمِشْكَاةُ صَدْرُهُ والْمِصْباحُ الأيمان والعلم. والزُّجاجَةُ قَلْبُهُ وَالشَّجَرَةُ الْقُرْآنُ وَزَيْتُهَا هُوَ الْحُجَجُ وَالْحِكْمَةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا. قَالَ أُبَيٌّ: فَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ الْحَالِ يَمْشِي فِي النَّاسِ كَالرَّجُلِ الْحَيِّ يَمْشِي فِي قُبُورِ الْأَمْوَاتِ، وَعَلَى قَوْلِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ أَيْ مَثَلُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ فِي صَدْرِ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ كَمِشْكاةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ التَّشْبِيهِ كَالْأَوَّلَيْنِ، لِأَنَّ الْمِشْكَاةَ لَيْسَتْ تُقَابِلُ الْإِيمَانَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أي صفة لِنُورِهِ لَعَجِيبَةُ الشَّأْنِ فِي الْإِضَاءَةِ كَمِشْكاةٍ أَيْ كَصِفَةِ مِشْكَاةٍ انْتَهَى. وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَهُ كَمِشْكاةٍ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مَثَلُ نُورِهِ مَثَلُ نُورِ مِشْكَاةٍ وَتَقَدَّمَ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَنَّ الْمِشْكَاةَ هِيَ الْكُوَّةُ غَيْرُ النَّافِذَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ عِيَاضٍ وَالْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: الْمِشْكَاةُ الْحَدِيدَةُ وَالرَّصَاصَةُ الَّتِي تَكَوَّنَ فِيهَا الْفَتِيلُ فِي جَوْفِ الزُّجَاجَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمِشْكَاةُ الْعَمُودُ الَّذِي يَكُونُ الْمِصْبَاحُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ أَيْضًا الْحَدَائِدُ الَّتِي تُعَلَّقُ فِيهَا الْقَنَادِيلُ.
فِيها مِصْباحٌ أَيْ سِرَاجٌ ضَخْمٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزُّجاجَةُ ظَرْفٌ لِلْمِصْبَاحِ لِقَوْلِهِ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي زُجَاجٍ شَامِيٍّ، وَكَانَ عِنْدَهُ أَصْفَى الزُّجَاجِ هُوَ الشَّامِيُّ وَلَمْ يُقَيَّدْ فِي الْآيَةِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ بِكَسْرِ الزَّايِ فِيهِمَا، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُجَاهِدٍ بِفَتْحِهَا. كَأَنَّها أَيْ كَأَنَّ الزُّجَاجَةَ لِصَفَاءِ جَوْهَرِهَا وَذَاتِهَا وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْإِنَارَةِ، وَلِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ نُورِ الْمِصْبَاحِ.
كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الزُّهَرَةُ شَبَّهَ الزُّجَاجَةَ فِي زُهْرَتِهَا بِأَحَدِ الدَّرَارِيِّ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْمَشَاهِيرِ، وَهِيَ الْمُشْتَرِي، وَالزُّهَرَةُ، وَالْمِرِّيخُ، وَسُهَيْلٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَابْنُ كَثِيرٍ دُرِّيٌّ بِضَمِّ الدَّالِّ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالْيَاءِ، وَالظَّاهِرُ نِسْبَةُ الْكَوْكَبِ إِلَى الدُّرِّ لِبَيَاضِهِ وَصَفَائِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْهَمْزَ فَأُبْدِلَ وَأُدْغِمَ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالضَّحَّاكُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا فَتَحَا الدَّالَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ وَأَبِي رَجَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الدَّالَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ هَمَزَ مِنَ الدَّرْءِ بِمَعْنَى الدَّفْعِ، أَيْ يَدْفَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، أَوْ يَدْفَعُ ضوؤها خَفَاءَهَا وَوَزْنُهَا فُعِّيلٌ. قِيلَ: وَلَا يُوجَدُ فُعِّيلٌ إِلَّا قَوْلُهُمْ مُرِّيقٌ لِلْعُصْفُرِ وَدُرِّيءٌ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. قِيلَ: وَسُرِّيَّةٌ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّرُورِ، وَأُبْدِلَ مِنْ أَحَدِ الْمُضَعَّفَاتِ الْيَاءُ فَأُدْغِمَتْ فِيهَا يَاءُ فُعِّيلٍ، وَسُمِعَ أَيْضًا مُرِّيخٌ لِلَّذِي فِي دَاخِلِ الْقَرْنِ الْيَابِسِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا. وَقِيلَ: مِنْهُ عُلِّيَّةٌ. وَقِيلَ: دُرِّيٌّ وَوَزْنُهُ فِي الْأَصْلِ فُعُّولٌ كَسُبُّوحٍ فَاسْتُثْقِلَ الضَّمُّ فَرُدَّ إِلَى الْكَسْرِ، وَكَذَا قِيلَ فِي سُرَّتِهِ وَدُرَّتِهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الدَّالَ وَهُوَ بِنَاءٌ كَثِيرٌ فِي الْأَسْمَاءِ نَحْوُ سِكِّينٍ وَفِي الْأَوْصَافِ سِكِّيرٌ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ أَيْضًا وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ وَالْأَعْمَشُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِفَتْحِ الدَّالِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَهَذَا عَزِيزٌ لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ إِلَّا السَّكِّينَةُ بِفَتْحِ السِّينِ وَشَدِّ الْكَافِ انْتَهَى.
وَفِي الْأَبْنِيَةِ حَكَى الْأَخْفَشُ كَوْكَبٌ دَرِّيءٌ مِنْ دَرَأْتُهُ وَدَرِّيَّةٌ وَعَلَيْكَ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ بِكَسْرِ السِّينِ.
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى وَالْأَعْمَشُ تُوقَدُ بِضَمِّ التَّاءِ أَيِ الزُّجاجَةُ مُضَارِعُ أُوقِدَتْ مبينا لِلْمَفْعُولِ، وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ أَيِ الْمِصْباحُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو تَوَقَّدَ بِفَتْحِ الْأَرْبَعَةِ فِعْلًا مَاضِيًا أَيِ الْمِصْباحُ. وَالْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وقتادة وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَسَلَامٌ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِضَمِّ الدَّالِ مُضَارِعُ تَوَقَّدُ وَأَصْلُهُ تَتَوَقَّدُ أَيِ الزُّجاجَةُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وُقِّدَ بِغَيْرِ تَاءٍ وَشَدَّدَ الْقَافَ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا أَيْ وُقِّدَ الْمِصْبَاحُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَقَتَادَةُ وَسَلَامٌ أَيْضًا كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَأَصْلُهُ يَتَوَقَّدُ أَيِ الْمِصْباحُ إِلَّا أَنَّ حَذْفَ الْيَاءِ فِي يَتَوَقَّدُ مَقِيسٌ لِدَلَالَةِ مَا أُبْقِيَ عَلَى مَا حُذِفَ. وَفِي يُوقَدُ شَاذٌّ جِدًّا لِأَنَّ الْيَاءَ الْبَاقِيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّاءِ الْمَحْذُوفَةِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ الْقِيَاسِ وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى يَعِدُ إِذْ حُمِلَ يَعِدُ وَتَعِدُ وَأَعِدُ فِي حَذْفِ
الواو كذلك هذ لَمَّا حَذَفُوا مِنْ تَتَوَقَّدُ بِالتَّاءَيْنِ حَذَفُوا التَّاءَ مَعَ الْيَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اجْتِمَاعُ التَّاءِ وَالْيَاءِ مُسْتَثْقَلًا.
مِنْ شَجَرَةٍ أَيْ مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ، وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ. مُبارَكَةٍ كَثِيرَةِ الْمَنَافِعِ أَوْ لِأَنَّهَا تَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وَقِيلَ: بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ.
وَقِيلَ: بَارَكَ فِيهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام
، وَالزَّيْتُونُ مِنْ أَعْظَمِ الشَّجَرِ ثَمَرًا وَنَمَاءً وَاطِّرَادَ أَفْنَانٍ وَنَضَارَةَ أَفْنَانٍ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ:
بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا
…
بُورِكَ نَضْرُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ
لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مِنْ شَجَرِ الشَّامِ فَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ وَلَا مِنْ غَرْبِهَا، لِأَنَّ شَجَرَ الشَّامِ أَفْضَلُ الشَّجَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ فِي مُنْكَشَفٍ مِنَ الْأَرْضِ تُصِيبُهَا الشَّمْسُ طُولَ النَّهَارِ تَسْتَدِيرُ عَلَيْهَا، فَلَيْسَتْ خَالِصَةً لِلشَّرْقِ فَتُسَمَّى شَرْقِيَّةٍ، وَلَا لِلْغَرْبِ فَتُسَمَّى غَرْبِيَّةٍ وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ وَلَيْسَتْ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا إِذْ لَوْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا لَكَانَتْ شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا فِي دَرَجَةٍ أَحَاطَتْ بِهَا فَلَيْسَتْ مُنْكَشِفَةً لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَسَدَ جَنَاهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّهَا فِي وَسَطِ الشَّجَرِ لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ طَالِعَةً وَلَا غَارِبَةً، بَلْ تُصِيبُهَا بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الشَّجَرَةُ مَثَلٌ أَيْ إِنَّهَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ لَيْسَتْ بِيَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ. وَقِيلَ: مِلَّةُ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ بِشَدِيدَةٍ وَلَا لَيِّنَةٍ. وَقِيلَ: لَا مَضْحًى وَلَا مَفْيَأَةً، وَلَكِنَّ الشَّمْسَ وَالظِّلَّ يَتَعَاقَبَانِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَجْوَدُ لحملها وأصفى لدهنها.
وزَيْتُونَةٍ بَدَلٌ مِنْ شَجَرَةٍ وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَعَارِفِ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ وَتَبِعَهُمُ الْفَارِسِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ فِي النَّكِرَاتِ. ولا شَرْقِيَّةٍ وَلا عَلَى غَرْبِيَّةٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْخَفْضِ صِفَةً لِزَيْتُونَةٍ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ بِالرَّفْعِ أَيْ لَا هِيَ شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ مُبَالَغَةٌ فِي صَفَاءِ الزَّيْتِ وَأَنَّهُ لِإِشْرَاقِهِ وَجَوْدَتِهِ يَكَادُ يُضِيءُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ حَالِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى حَالٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَوْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُضِيءُ
لِانْتِفَاءِ مَسِّ النَّارِ لَهُ، وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ هَذَا الْعَطْفَ إِنَّمَا يَأْتِي مُرَتَّبًا لِمَا كَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ لِامْتِنَاعِ التَّرْتِيبِ فِي الْعَادَةِ وَلِلِاسْتِقْصَاءِ حَتَّى يَدْخُلَ مَا لَا يُقَدَّرُ دُخُولُهُ فِيمَا قَبْلَهُ نَحْوُ:
«اعْطُوَا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ، رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ» .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَمْسَسْهُ بِالتَّاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَحَسَّنَهُ الْفَصْلُ وَأَنَّ تَأْنِيثَ النَّارِ مَجَازِيٌّ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ بِغَيْرِ عَلَامَةٍ.
نُورٌ عَلى نُورٍ أَيْ مُتَضَاعِفٌ تَعَاوَنَ عَلَيْهِ الْمِشْكَاةُ وَالزُّجَاجَةُ وَالْمِصْبَاحُ وَالزَّيْتُ، فَلَمْ يَبْقَ مِمَّا يُقَوِّي النُّورَ وَيَزِيدُهُ إِشْرَاقًا شَيْءٌ لِأَنَّ الْمِصْبَاحَ إِذَا كَانَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ كَانَ أَجْمَعَ لِنُورِهِ بِخِلَافِ الْمَكَانِ الْمُتَّسِعِ، فَإِنَّهُ يَنْشُرُ النُّورَ، وَالْقِنْدِيلُ أَعْوَنُ شَيْءٍ عَلَى زِيَادَةِ النُّورِ وَكَذَلِكَ الزَّيْتُ وَصَفَاؤُهُ، وَهُنَا تَمَّ الْمِثَالُ.
ثُمَّ قَالَ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ لِهُدَاهُ وَالْإِيمَانِ مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ وَيَصْطَفِيهِ لَهَا. وَمَنْ فَسَّرَ النُّورَ فِي مَثَلُ نُورِهِ بِالنُّبُوَّةِ قَدَّرَ يَهْدِي اللَّهُ إِلَى نُبُوَّتِهِ. وَقِيلَ: إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَضْرِبُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لِيَقَعَ لَهُمُ الْعِبْرَةُ وَالنَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ فَهُوَ يَضَعُ هُدَاهُ عِنْدَ مَنْ يَشَاءُ. فِي بُيُوتٍ مُتَعَلِّقٌ بَيُوقَدُ قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ كَمِشْكاةٍ أَيْ كَمِشْكَاةٍ فِي بُيُوتٍ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ كَمِشْكاةٍ فِي بَعْضِ بُيُوتِ اللَّهِ وهي المساجد. قال مَثَلُ نُورِهِ كَمَا تَرَى فِي الْمَسْجِدِ نُورَ الْمِشْكَاةِ الَّتِي مِنْ صِفَتِهَا كَيْتَ وَكَيْتَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ كَأَنَّهُ إِلَى آخِرِهِ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمِصْبَاحٍ أَيْ مِصْبَاحٌ فِي بُيُوتٍ قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِزُجَاجَةٍ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ لَا يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ عَلِيمٌ. وَقِيلَ: فِي بُيُوتٍ مُسْتَأْنَفٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ يُسَبِّحُ حَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَقَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ تعلقه بكمشكاة قَالَ: أَوْ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ يُسَبِّحُ أَيْ يُسَبِّحُ لَهُ رِجَالٌ فِي بُيُوتٍ وَفِيهَا تَكْرِيرٌ كَقَوْلِكَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ جَالِسٌ فِيهَا أَوْ بِمَحْذُوفٍ كَقَوْلِهِ فِي تِسْعِ آياتٍ «1» أَيْ سَبَّحُوا فِي بُيُوتٍ انْتَهَى. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ عَلِيمٌ وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي بُيُوتٍ بِقَوْلِهِ يُسَبِّحُ وَإِنَّ ارْتِبَاطَ هَذِهِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَهْدِي لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ذَكَرَ حَالَ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْهِدَايَةُ لِذَلِكَ النُّورِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَشْرَفَ عِبَادَتِهِمُ الْقَلْبِيَّةِ وَهُوَ تَنْزِيهُهُمُ اللَّهَ عَنِ النَّقَائِصِ وَإِظْهَارُ ذَلِكَ بِالتَّلَفُّظِ بِهِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ أَوْصَافِهِمْ مِنِ الْتِزَامِ ذِكْرِ الله
(1) سورة النمل: 27/ 12.
وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَخَوْفِهِمْ مَا يَكُونُ فِي الْبَعْثِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ مُقَابِلُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الْكُفَّارُ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا «1» وَكَأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَتِ الْهِدَايَةُ لِلنُّورِ جَاءَ فِي التَّقْسِيمِ لِقَابِلِ الْهِدَايَةِ وَعَدَمِ قَابِلِهَا، فَبُدِئَ بِالْمُؤْمِنِ وَمَا تَأَثَّرَ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْهُدَى ثُمَّ ذَكَرَ الْكَافِرَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي بُيُوتٍ أُرِيدَ بِهِ مَدْلُولُهُ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: أُرِيدَ بِهِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَسُمِّيَ بُيُوتًا مِنْ حَيْثُ فِيهِ مَوَاضِعُ يَتَحَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَيُؤْثَرُ أَنَّ عَادَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي وَقِيدِهِ فِي غَايَةِ التَّهَمُّمِ وَالزَّيْتُ مَخْتُومٌ عَلَى ظُرُوفِهِ وَقَدْ صُنِعَ صَنْعَةً وَقُدِّسَ حَتَّى لَا يَجْرِيَ الْوَقِيدُ بِغَيْرِهِ، فَكَانَ أَضْوَأَ بُيُوتِ الْأَرْضِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي بُيُوتٍ مُطْلَقٌ فَيَصْدُقُ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَالْعِلْمُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بُيُوتُ الرسول صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي مِنْ عَادَتِهَا أَنْ تُنَوَّرَ بِذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْمَصَابِيحِ. وَقِيلَ: الْكَعْبَةُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدُ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام وَمَسْجِدُ قُبَاءٍ. وَقِيلَ: بُيُوتُ الْأَنْبِيَاءِ. وَيُقَوِّي أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ قَوْلُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَإِذْنُهُ تَعَالَى وَأَمْرُهُ بِأَنْ تُرْفَعَ أَيْ يَعْظُمَ قَدْرُهَا قَالَهُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: تُبْنَى وَتُعَلَّى مِنْ قَوْلِهِ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ «2» . وَقِيلَ: تُرْفَعَ تَطْهُرَ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْمَعَاصِي. وَقِيلَ:
تُرْفَعَ أَيْ تُرْفَعَ فِيهَا الْحَوَائِجُ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: تُرْفَعَ الْأَصْوَاتُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ.
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ظَاهِرُهُ مُطْلَقُ الذِّكْرِ فَيَعُمُّ كُلَّ ذِكْرٍ عُمُومَ الْبَدَلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَوْحِيدُهُ وَهُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَعَنْهُ: يُتْلَى فِيهَا كِتَابُهُ. وَقِيلَ: أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى. وَقِيلَ:
يُصَلَّى فِيهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُسَبِّحُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَبِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَابْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو حَيْوَةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْبُحْتُرِيُّ عَنْ حَفْصٍ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو والمهال عَنْ يَعْقُوبَ وَالْمُفَضَّلِ وَأَبَانَ بِفَتْحِهَا وَبِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ وَأَحَدُ الْمَجْرُورَاتِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لم يسم فَاعِلُهُ، وَالْأَوْلَى الَّذِي يَلِي الْفِعْلَ لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ لِلْمَرْفُوعِ أَقْوَى مِنْ طَلَبِهِ لِلْمَنْصُوبِ الْفَضْلَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: تُسَبِّحُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ وَفَتْحِ الْبَاءِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهَا أَنْ تُسْنَدَ إِلَى أَوْقَاتِ الْغُدُوِّ وَالْآصَالِ عَلَى زِيَادَةِ الْبَاءِ، وَتُجْعَلَ الأوقات مسبحة. والمراد بها كَصِيدَ عَلَيْهِ يَوْمَانِ وَالْمُرَادُ وَحْشُهُمَا انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ
(1) سورة النور: 24/ 39. [.....]
(2)
سورة البقرة: 2/ 127.
يَكُونَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ضَمِيرَ التَّسْبِيحَةِ الدَّالَّ عَلَيْهِ تُسَبِّحُ أَيْ تُسَبَّحُ لَهُ هِيَ أَيِ التَّسْبِيحَةُ كَمَا قَالُوا لِيَجْزِيَ قَوْماً «1» فِي قِرَاءَةِ مَنْ بَنَاهُ لِلْمَفْعُولِ أَيْ لِيُجْزَى هُوَ أَيِ الْجَزَاءُ.
وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ: وَالْإِيصَالُ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ وَارْتَفَعَ رِجالٌ عَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ يُسَبِّحُ أَوْ يُسَبِّحُ لَهُ رِجَالٌ. وَاخْتُلِفَ فِي اقْتِيَاسِ هَذَا، فَعَلَى اقْتِيَاسِهِ نَحْوُ ضَرَبَتْ هِنْدَ زَيْدٌ أَيْ ضَرَبَهَا زَيْدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ محذوف أي الْمُسَبِّحُ رِجَالٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَالْمُرَادِ بِهِمَا.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى وَصْفَ الْمُسَبِّحِينَ بِأَنَّهُمْ لِمُرَاقَبَتِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ وَطَلَبِهِمْ رِضَاهُ لَا يَشْتَغِلُونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَا تِجَارَةَ لَهُمْ وَلَا بَيْعَ فَيُلْهِيَهُمْ عَنْ ذِكْرِ الله كقوله:
على لا حب لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ ذَوُو تِجَارَةٍ وَبَيْعٍ وَلَكِنْ لَا يَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ مُغَايَرَةُ التِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً مِنْ إِطْلَاقِ الْعَامُّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، فَأَرَادَ بِالتِّجَارَةِ الشِّرَاءَ وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِالْبَيْعِ، أَوْ يُرَادُ تِجَارَةُ الْجَلَبِ وَيُقَالُ: تَجَرَ فُلَانٌ فِي كَذَا إِذَا جَلَبَهُ وَبِالْبَيْعِ الْبَيْعَ بِالْأَسْوَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَلا بَيْعٌ مِنْ ذِكْرِ خَاصٍّ بَعْدَ عَامٍّ، لِأَنَّ التِّجَارَةُ هِيَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ طَلَبًا لِلرِّبْحِ. وَنَبَّهَ عَلَى هَذَا الْخَاصِّ لِأَنَّهُ فِي الْإِلْهَاءِ أَدْخَلُ مِنْ قِبَلِ أَنِ التَّاجِرَ إِذَا اتَّجَهَتْ لَهُ بَيْعَةٌ رَابِحَةٌ وَهِيَ طِلْبَتُهُ الْكُلِّيَّةُ مِنْ صِنَاعَتِهِ أَلْهَتْهُ مَا لَا يُلْهِيهِ شَيْءٌ يُتَوَقَّعُ فِيهِ الرِّبْحُ لِأَنَّ هذا يقين وذاك مطنون.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّاءُ فِي إِقَامَةٍ عِوَضٌ مِنَ الْعَيْنِ السَّاقِطَةِ لِلْإِعْلَالِ وَالْأَصْلُ إِقْوَامٌ، فَلَمَّا أُضِيفَتْ أُقِيمَتِ الْإِضَافَةُ مُقَامَ حَرْفِ التَّعْوِيضِ فَأُسْقِطَتْ ونحوه:
وَأَخْلَفُوكَ عِدَّ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا.
انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ من أَنَّ التَّاءَ سَقَطَتْ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ هُوَ مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّ التَّاءَ مِنْ نَحْوِ هَذَا لَا تَسْقُطُ لِلْإِضَافَةِ وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى وَإِقامِ الصَّلاةِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَصَدْرُ الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَ عَجُزَهُ قَوْلُهُ:
(1) سورة الجاثية: 45/ 14.