الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُقَالُ: هُمْ عَدُوٌّ، أَيْ أَعْدَاءٌ. وَالظَّاهِرُ أَنْ لَوْ هُنَا أُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّمَنِّي، وفنكون الْجَوَابُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا لَيْتَ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ. وَقِيلَ: هِيَ الْخَالِصَةُ لِلدَّلَالَةِ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَنَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كَرَّةً، أَيْ فكونا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَكَانَ لَنَا شُفَعَاءُ وَأَصْدِقَاءُ، أَوْ لَخَلَصْنَا مِنَ الْعَذَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ كُلَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ مِنْ أَحْوَالِ يوم القيامة، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ حَالِ قَوْمِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ هِيَ عِنْدِي مُنْقَطِعَةٌ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَهِيَ أَخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل، تَعَلَّقَ بِصِفَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي وَقَفَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام عِنْدَهُ فِي دُعَائِهِ أَنْ لَا يُخْزَى فِيهِ. انْتَهَى. وَكَأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ قَدْ أَعْرَبَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ بدلا من يَوْمَ يُبْعَثُونَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَأَتَّى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَفْكِيكِ الْكَلَامِ، وَجَعْلِ بَعْضِهِ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْبَدَلِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِعْلٌ آخَرُ مِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ، أَوِ الْأَوَّلُ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَمُحَاوَرَتِهِ لِقَوْمِهِ. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ:
أَيْ أَكْثَرُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ. بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَكْثَرَ قَوْمِهِ لَمْ يُؤْمِنُوا مَعَ ظُهُورِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، وَفِي ذَلِكَ مَسْلَاةٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ عليه السلام.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 227]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلَاّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَاّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَاّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209)
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
الْمَشْحُونُ: الْمَمْلُوءُ بِمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ قَدْرِ مَا يُحْمَلُ، يُقَالُ: شَحَنَهَا عَلَيْهِمْ خَيْلًا وَرِجَالًا، الرِّيعُ: بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا: جَمْعُ رِيعَةٍ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
طِرَاقُ الْخَوَافِي مشرق فوق ريعه
…
بذي لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرِّيعُ: الطَّرِيقُ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ بْنِ عِلْسٍ يَصِفُ ظُعُنًا:
فِي الْآلِ يَخْفِضُهَا وَيَرْفَعُهَا
…
رِيعٌ يَلُوحُ كَأَنَّهُ سَحْلُ
الطَّلْعُ: الْكُفُرَّى، وَهُوَ عُنْقُودُ التَّمْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْكِمِّ فِي أَوَّلِ نَبَاتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الطَّلْعَةُ: هِيَ الَّتِي تَطْلَعُ مِنَ النَّخْلَةِ، كَنَصْلِ السَّيْفِ فِي جَوْفِهِ. شَمَارِيخُ الْقِنْوِ، وَالْقِنْوُ: اسْمٌ لِلْخَارِجِ مِنَ الْجِذْعِ، كَمَا هُوَ بِعُرْجُونِهِ. الْفَرَاهَةُ: جَوْدَةُ مَنْظَرِ الشَّيْءِ وَقُوَّتُهُ وَكَمَالُهُ فِي نَوْعِهِ. وَقِيلَ: الْكَيْسُ وَالنَّشَاطُ. الْقَالِي: الْمُبْغِضُ، قَلَى يَقْلِي وَيَقْلَى، وَمَجِيئُهُ عَلَى يَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ شَاذٌّ. الْجِبِلَّةُ: الْخَلْقُ الْمُتَجَسِّدُ الْغَلِيظُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَبَلِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ
…
مِمَّا يَمُرُّ عَلَى الْجِبِلَّهِ
وَيُقَالُ: بِسُكُونِ الْبَاءِ مُثَلَّثُ الْجِيمِ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: الْجَبْلُ وَالْجِبْلُ وَالْجُبْلُ، لُغَاتٌ، وَهُوَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الْعَدَدِ مِنَ النَّاسِ. انْتَهَى. هَامَ: ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: حَادَ عَنِ الْقَصْدِ.
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ، وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ، قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
الْقَوْمُ: مُؤَنَّثٌ مَجَازِيُّ التَّأْنِيثِ، وَيُصَغَّرُ قُوَيْمَةٌ، فَلِذَلِكَ جَاءَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ.
وَلَمَّا كَانَ مَدْلُولُهُ أَفْرَادًا ذُكُورًا عُقَلَاءَ، عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَمَا يَعُودُ عَلَى جَمْعِ الْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ. وَقِيلَ: قَوْمٌ مُذَكَّرٌ، وَأُنِّثَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأُمَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى تَكْذِيبِ قَوْمِ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ وَاحِدًا فِي الْفُرْقَانِ فِي قَوْلِهِ: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ «1» ، وَإِخْوَةُ نُوحٍ قِيلَ: فِي النَّسَبِ. وَقِيلَ: فِي الْمُجَانَسَةِ، كَقَوْلِهِ:
يَا أَخَا تَمِيمٍ تُرِيدُ يَا وَاحِدَ أُمَّتِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ
…
فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
وَمُتَعَلِّقُ التَّقْوَى مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: أَلَا تَتَّقُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ عَلَى شِرْكِكُمْ؟ وَقِيلَ:
أَلَا تَتَّقُونَ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ فَتَتْرُكُوا عِبَادَتَكُمْ لِلْأَصْنَامِ وَأَمَانَتُهُ، كَوْنُهُ مَشْهُورًا فِي قَوْمِهِ بِذَلِكَ، أَوْ مُؤْتَمَنًا عَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ؟ وَلَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِمْ بِرِفْقٍ تَقْوَى اللَّهِ فَقَالَ: أَلا تَتَّقُونَ، انْتَقَلَ مِنَ الْعَرْضِ إِلَى الْأَمْرِ فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فِي نُصْحِي لَكُمْ، وَفِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بالعبادة. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى دُعَائِي إِلَى اللَّهِ وَالْأَمْرِ بِتَقْوَاهُ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ يَعُودُ عَلَى النُّصْحِ، أَوْ عَلَى التَّبْلِيغِ، وَالْمَعْنَى: لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِكُمْ. وَقَدَّمَ الْأَمْرَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَلَى الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ، لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ سَبَبٌ لِطَاعَةِ نُوحٍ عليه السلام. ثُمَّ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، لِيُؤَكِّدَ عَلَيْهِمْ وَيُقَرِّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ التَّعْلِيلُ، جُعِلَ الْأَوَّلُ مَعْلُولًا لِأَمَانَتِهِ، وَالثَّانِي لِانْتِفَاءِ أَخْذِ الْأَجْرِ. ثُمَّ لَمْ يَنْظُرُوا فِي أَمْرِ رِسَالَتِهِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ ونشؤوا مِنْ حُبِّ الرِّئَاسَةِ، وَهِيَ التي
(1) سورة الفرقان: 25/ 37.
تُطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. فَشَرَعَ أَشْرَافُهُمْ فِي تَنْقِيصِ مُتَّبِعِيهِ، وَأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ لَهُ، كَوْنُهُ اتَّبَعَهُ الْأَرْذَلُونَ.
وَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ كَيْفَ نُؤْمِنُ وَقَدِ اتَّبَعَكَ أَرَاذِلُنَا، فَنَتَسَاوَى مَعَهُمْ فِي اتِّبَاعِكَ؟ وَكَذَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِي شَأْنِ عَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ. وَالضُّعَفَاءُ أَكْثَرُ اسْتِجَابَةً مِنَ الرُّؤَسَاءِ، لِأَنَّ أَذْهَانَهُمْ لَيْسَتْ مَمْلُوءَةً بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا، فَهُمْ أَدْرَكُ لِلْحَقِّ وَأَقْبَلُ لَهُ مِنَ الرُّؤَسَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاتَّبَعَكَ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَيَعْقُوبُ:
وَاتْبَاعُكَ جَمْعُ تَابِعٍ، كَصَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ تَبِيعٍ، كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ. وَقِيلَ:
جَمْعُ تَبَعٍ، كَبَرَمٍ وَأَبْرَامٍ، وَالْوَاوُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِلْحَالِ. وَقِيلَ: لِلْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَنُؤْمِنُ لَكَ، وَحَسُنَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بلك، قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَعَنِ الْيَمَانِيِّ: وَاتْبَاعِكَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي لَكَ، وَهُوَ قَلِيلٌ، وَقَاسَهُ الْكُوفِيُّونَ. وَالْأَرْذَلُونَ: رُفِعَ بِإِضْمَارِهِمْ. قِيلَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ بنوه ونساؤه وكنانة وَبَنُو بَنِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الرَّذَالَةُ دَنَاءَةَ الْمَكَاسِبِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الرَّذَالَةِ فِي هُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا «1» ، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ تَنْقِيصَ نُوحٍ عليه السلام، إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ ضُعَفَاءَ النَّاسِ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ. وَهَذَا الَّذِي أَجَابُوا بِهِ فِي غَايَةِ السَّخَافَةِ، إِذْ هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، فَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَا شَرَفِ الْمَكَاسِبِ وَدَنَاءَتِهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ مُرَادَ قَوْمِ نُوحٍ نِسْبَةُ الرَّذِيلَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، بِتَهْجِينِ أَفْعَالِهِمْ لَا النَّظَرِ إِلَى صَنَائِعِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ نُوحٍ: وَما عِلْمِي الْآيَةَ، لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ لَيْسَ فِي نَظَرِي، وَعِلْمِي بِأَعْمَالِهِمْ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ فَائِدَةٌ، فَإِنَّمَا أَقْنَعُ بِظَاهِرِهِمْ وَأَجْتَزِئُ بِهِ، ثُمَّ حِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا نَحْوُ مَا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
، الْحَدِيثَ بِجُمْلَتِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَا أَطْلُبُ الْعِلْمَ بِمَا عَمِلُوهُ، إِنَّمَا عَلَيَّ أَنْ أَدْعُوَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا عِلْمِي، وَأَيُّ شَيْءٍ عِلْمِي، وَالْمُرَادُ انْتِفَاءُ عِلْمِهِ بِإِخْلَاصِ أَعْمَالِهِمْ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُمْ قَدْ طَعَنُوا فِي اسْتِرْذَالِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا عَنْ نَظَرٍ وَبَصِيرَةٍ، وَإِنَّمَا آمَنُوا هَوًى وَبَدِيهَةً، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادىء الرَّأْيِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَالَى لهم نوح
(1) سُورَةِ هُودٍ: 11/ 27.
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيُفَسَّرُ قَوْلُهُمْ: الْأَرْذَلُونَ، بِمَا هُوَ الرُّذَالَةُ عِنْدَهُ مِنْ سُوءِ الْأَعْمَالِ وَفَسَادِ الْعَقَائِدِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا هُوَ الرُّذَالَةُ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ بَنَى جَوَابَهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُ: مَا عَلَيَّ إِلَّا اعْتِبَارُ الظَّوَاهِرِ، دُونَ التَّفْتِيشِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَالشَّقِّ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ، فَاللَّهُ مُحَاسِبُهُمْ وَمُجَازِيهِمْ، وَمَا أَنَا إِلَّا مُنْذِرٌ لَا مُحَاسِبٌ، وَلَا مُجَازٍ، لَوْ تَشْعُرُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّكُمْ تَجْهَلُونَ، فَتَنْسَاقُونَ مَعَ الْجَهْلِ حَيْثُ سَيَّرَكُمُ. وَقُصِدَ بِذَلِكَ رَدُّ اعْتِقَادِكُمْ، وَإِنْكَارُ أَنْ يُسَمَّى الْمُؤْمِنُ رَذْلًا، وَإِنْ كَانَ أَفْقَرَ النَّاسِ وَأَوْضَعَهُمْ نَسَبًا. فَإِنَّ الْغِنَى غِنَى الدِّينِ، وَالنَّسَبَ نَسَبُ التَّقْوَى. انْتَهَى. وَهُوَ تَكْثِيرٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَمَا علمي، ما نافية، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِعِلْمِي. انْتَهَى.
وَهَذَا التَّخْرِيجُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضْمَارٍ خَبَرٍ حَتَّى تَصِيرَ جُمْلَةً وَلَمَّا كَانُوا لَا يُصَدِّقُونَ بِالْحِسَابِ وَلَا بِالْبَعْثِ، أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: لَوْ تَشْعُرُونَ، أَيْ بِأَنَّ الْمَعَادَ حَقٌّ، وَالْحِسَابَ حَقٌّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
تَشْعُرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الْهَمْدَانِيُّ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ.
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ: هَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ ذَلِكَ فَأَجَابَهُمْ بِذَلِكَ، كَمَا
طَلَبَ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرُدَ مَنْ آمَنُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، فَنَزَلَتْ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ «1»
الْآيَةَ، أَيْ لَا أَطْرُدُهُمْ عَنِّي لِاتِّبَاعِ شَهَوَاتِكُمْ وَالطَّمَعِ فِي إِيمَانِكُمْ.
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، مَا جِئْتَ بِهِ بِالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَلَمَّا اعْتَلُّوا فِي تَرْكِ إِيمَانِهِمْ بِإِيمَانِ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ تَثْلُجَ صُدُورُهُمْ لِلْإِيمَانِ، إِذِ اتِّبَاعُ الْحَقِّ لَا يَأْنَفُ مِنْهُ أَحَدٌ لِوُجُودِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، أَخَذُوا فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عَنْ تَقْبِيحِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَادِّعَائِكَ الرِّسَالَةَ مِنَ اللَّهِ، لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ، أَيْ بِالْحِجَارَةِ. وَقِيلَ: بِالشَّتْمِ. وَأَيِسَ إِذْ ذَاكَ مِنْ فَلَاحِهِمْ، فَنَادَى رَبَّهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ: إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَدُعَائِي لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ آذَوْنِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ دِينِكَ.
فَافْتَحْ، أَيْ فَاحْكُمْ. وَدَعَا لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ بِالنَّجَاةِ، وَفِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِحُلُولِ الْعَذَابِ بِقَوْمِهِ، أَيْ: وَنَجِّنِي مِمَّا يَحِلُّ بِهِمْ. وَقِيلَ: وَنَجِّنِي مِنْ عَمَلِهِمْ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْعُقُوبَةِ. وَالْفُلْكُ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ، وَغَالِبُ اسْتِعْمَالِهِ جَمْعًا لِقَوْلِهِ: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ «2» ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ «3» ، فَحَيْثُ أَتَى فِي غَيْرِ فَاصِلَةٍ، اسْتُعْمِلَ جَمْعًا، وَحَيْثُ كَانَ فَاصِلَةً، اسْتُعْمِلَ مُفْرَدًا لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ، كَهَذَا الْمَوْضِعِ. وَالَّذِي فِي سُورَةِ يس، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ إِذَا كَانَ مَدْلُولُهُ جَمْعًا، أَهْوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، أَمِ اسْمُ جَمْعٍ؟ وَالْمَشْحُونُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُوقَرُ، وَقَالَ عَطَاءٌ:
الْمُثْقَلُ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ: أَيْ بَعْدَ نَجَاةِ نُوحٍ وَالْمُؤْمِنِينَ.
(1) سورة الأنعام: 6/ 52.
(2)
سورة النحل: 16/ 14.
(3)
سورة البقرة: 2/ 164.
تفسير البحر المحيط ج 8 م 12
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ، إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
كَانَ أَخَاهُمْ مِنَ النَّسَبِ، وَكَانَ تَاجِرًا جَمِيلًا، أَشْبَهَ الْخَلْقِ بِآدَمَ عليه السلام، عَاشَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةً وَأَرْبَعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَمُودَ مِائَةُ سَنَةٍ. وَكَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ مَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ. أَمْرَعَ الْبِلَادِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ مَفَاوِزَ وَرِمَالًا. أَمَرَهُمْ أَوَّلًا أَمَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ، ثُمَّ نَعَى عَلَيْهِمْ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ فَقَالَ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ رَأْسُ الزُّقَاقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَجٌّ بَيْنَ جَبَلَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عُيُونٌ فِيهَا الْمَاءُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ:
جَبَلٌ. وَقِيلَ: الثَّنِيَّةُ الصَّغِيرَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِيعٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آيَةً: عَلَمًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَبْرَاجَ الْحَمَامِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ: الْقُصُورَ الطِّوَالَ. وَقِيلَ: بَيْتَ عِشَارٍ. وَقِيلَ: نَادِيًا لِلتَّصَلُّفِ. وَقِيلَ: أَعْلَامًا طِوَالًا لِيَهْتَدُوا بِهَا فِي أَسْفَارِهِمْ، عَبَثُوا بِهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ بِالنُّجُومِ. وَقِيلَ: عَلَامَةً يَجْتَمِعُ إِلَيْهَا مَنْ يَعْبَثُ بِالْمَارِّ فِي الطَّرِيقِ. وَفِي قَوْلِهِ إِنْكَارٌ لِلْبِنَاءِ عَلَى صُورَةِ الْعَبَثِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُتْرَفُونَ فِي الدُّنْيَا.
وَالْمَصَانِعُ: جَمْعُ مَصْنَعَةٍ. قِيلَ: وَهِيَ الْبِنَاءُ عَلَى الْمَاءِ. وَقِيلَ: الْقُصُورُ الْمَشِيدَةُ الْمُحْكَمَةُ.
وَقِيلَ: الْحُصُونُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِرَكُ الْمَاءِ. وَقِيلَ: بُرُوجُ الْحَمَامِ. وَقِيلَ: الْمَنَازِلُ. وَاتَّخَذَ هُنَا بِمَعْنَى عَمِلَ، أَيْ وَيَعْمَلُونَ مَصَانِعَ، أَيْ تَبْنُونَ. وَقَالَ لَبِيدٌ:
وَتَبْقَى جِبَالٌ بَعْدَنَا وَمَصَانِعُ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ: الظَّاهِرُ أَنَّ لَعَلَّ عَلَى بَابِهَا مِنَ الرَّجَاءِ، وَكَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْبِنَاءِ وَالِاتِّخَاذِ، أَيِ الْحَامِلُ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الرَّجَاءُ لِلْخُلُودِ وَلَا خُلُودَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: كَيْ تَخْلُدُونَ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى يُشْبِهُ حَالُكُمْ حَالَ مَنْ يَخْلُدُ، فَلِذَلِكَ بَنَيْتُمْ وَاتَّخَذْتُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَالْهَزْءِ بِهِمْ، أَيْ هَلْ أَنْتُمْ تَخْلُدُونَ: وَكَوْنُ لَعَلَّ لِلِاسْتِفْهَامِ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى كَأَنَّكُمْ خَالِدُونَ، وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ:
كأنكم تخلدون. وقرىء: كأنكم خالدون. وقرأ الجمهور: تخلدون، مبنيا للفاعل
وقتادة: مبنيا للمفعول. ويقال: خلد الشيء وأخلده: غيره. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَلْقَمَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَهَلْ يَنْعَمَنْ إِلَّا سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ
…
قَلِيلُ الْهُمُومِ مَا يَبِيتُ بِأَوْجَالِ
وَإِذا بَطَشْتُمْ: أَيْ أَرَدْتُمُ الْبَطْشَ، وَحُمِلَ عَلَى الْإِرَادَةِ لِئَلَّا يَتَّحِدَ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ، كَقَوْلِهِ:
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً أَيْ مَتَى أَرَدْتُمْ بَعْثَهَا. قَالَ الْحَسَنُ: بَادَرُوا تَعْذِيبَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا فِكْرٍ فِي الْعَوَاقِبِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُفَّارُ الْغَضَبِ، لَكُمُ السَّطَوَاتُ الْمُفْرِطَةُ وَالْبَوَادِرُ. فَبِنَاءُ الْأَبْنِيَةِ الْعَالِيَةِ تَدُلُّ عَلَى حُبِّ الْعُلُوِّ، وَاتِّخَاذُ الْمَصَانِعِ رَجَاءَ الْخُلُودِ يَدُلُّ عَلَى الْبَقَاءِ، وَالْجَبَّارِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى التَّفَرُّدِ بِالْعُلُوِّ، وَهَذِهِ صِفَاتُ الْإِلَهِيَّةِ، وَهِيَ مُمْتَنِعَةُ الْحُصُولِ لِلْعَبْدِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِيلَاءِ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ خَرَجُوا عَنْ حَدِّ الْعُبُودِيَّةِ،
وَحُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ.
وَلَمَّا نَبَّهَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَةِ نَبِيِّهِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَالِثًا بِالتَّقْوَى تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى إِحْسَانِهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَسُبُوغِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَأَبْرَزَ صِلَةَ الَّذِي مُتَعَلِّقَةً بِعِلْمِهِمْ، تَنْبِيهًا لَهُمْ وَتَحْرِيضًا عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى، إِذْ شُكْرُ الْمُحْسِنِ وَاجِبٌ، وَطَاعَتُهُ مُتَعَيِّنَةٌ، وَمُشِيرًا إِلَيْهِمْ بِأَنَّ مَنْ أَمَدَّ بِالْإِحْسَانِ هُوَ قَادِرٌ عَلَى سَلْبِهِ، وَعَلَى تَعْذِيبِ مَنْ لَمْ يَتَّقِهِ، إِذْ هَذَا الْإِمْدَادُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَفَضُّلِهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ بِحَيْثُ أَتْبَعَكُمْ إِحْسَانَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَلَمَّا أَتَى بِذِكْرِ مَا أَمَدَّهُمْ بِهِ مُجْمَلًا مُحَالًا عَلَى عِلْمِهِمْ، أَتَى بِهِ مُفَصَّلًا. فَبَدَأَ بِالْأَنْعَامِ، وَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الرِّئَاسَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالْقُوَّةُ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ، وَالْغِنَى هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِ الذُّرِّيَّةِ غَالِبًا لِوَجْدِهِ. وَبِحُصُولِ الْقُوَّةِ أَيْضًا بِالْبَنِينَ، فَلِذَلِكَ قَرَنَهُمْ بِالْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّهُمْ يَسْتَعِينُونَ بِهِمْ فِي حِفْظِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا. وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْبَسَاتِينِ وَالْمِيَاهِ الْمُطَّرِدَةِ، إِذِ الْإِمْدَادُ بِذَلِكَ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ.
وبِأَنْعامٍ: ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قوله: بِما تَعْلَمُونَ، وَأُعِيدَ الْعَامِلُ كَقَوْلِهِ: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ «1» . وَالْأَكْثَرُونَ لَا يَجْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا بَدَلًا وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ تَكْرَارِ الْجُمَلِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، وَيُسَمَّى التَّتْبِيعَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ عِنْدَهُمُ الْعَامِلُ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ بِأَخِيكَ،
(1) سورة يس: 36/ 20- 21. [.....]
ثُمَّ حَذَّرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْخَوْفِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، إِذْ كَانَ رَاجِيًا لِإِيمَانِهِمْ، فَكَانَ مِنْ جَوَابِهِمْ أَنْ قَالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا وَعْظُكَ وَعَدَمُهُ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ وَعْظًا، إِذْ لَمْ يَعْتَقِدُوا صحة ما جاء به، وَأَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا ادَّعَاهُ، وَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِمَا خَوَّفَهُمْ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَعَظْتَ، بِإِظْهَارِ الظَّاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيِّ، وَعَاصِمٍ: إِدْغَامُ الظَّاءِ فِي التَّاءِ. وَبِالْإِدْغَامِ، قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْأَعْمَشُ إِلَّا أَنَّ الْأَعْمَشَ زَادَ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ فَقَرَأَ: أَوَعَظْتَنَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِخْفَاءً، لِأَنَّ الظَّاءَ مَجْهُورَةٌ مُطْبِقَةٌ، وَالتَّاءُ مَهْمُوسَةٌ مُنْفَتِحَةٌ، فَالظَّاءُ أَقْوَى مِنَ التَّاءِ، وَالْإِدْغَامُ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمُتَمَاثِلَيْنِ، أَوْ فِي الْمُتَقَارِبَيْنِ، إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ أَنْقَصَ مِنَ الثَّانِي. وَأَمَّا إِدْغَامُ الْأَقْوَى فِي الْأَضْعَفِ، فَلَا يَحْسُنُ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِنَقْلِ الثِّقَاتِ، فَوَجَبَ قَبُولُهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا هُوَ أَفْصَحُ وَأَقْيَسُ.
وَعَادَلَ أَوَعَظْتَ بِقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَادِلُهُ: أَمْ لَمْ تَعِظْ. كَمَا قَالَ: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «1» لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ، كَمَا عَادَلَتْ فِي قَوْلِهِ:
سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «2» ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ أَمْ صَمَتُّمْ، وَكَثِيرًا مَا يَحْسُنُ مَعَ الْفَوَاصِلِ مَا لَا يَحْسُنُ دُونَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، يَعْنِي بَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ وَهِيَ: أَمْ لَمْ تَعِظْ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَفَعَلْتَ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الْوَعْظُ أَمْ لَمْ تَكُنْ أَصْلًا مِنْ أَهْلِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي قِلَّةِ اعْتِدَادِهِمْ بِوَعْظِهِ مِنْ قَوْلِكَ: أَمْ لَمْ تَعِظْ.
وَلَمَّا لَمْ يُبَالُوا بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَبِمَا ذَكَّرَهُمْ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَتَخْوِيفِهِ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ، أَجَابُوهُ بِأَنْ قَالُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ: خَلْقُ، بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ، فَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنْ هَذَا الَّذِي تَقُولُهُ وَتَدَّعِيهِ إِلَّا اخْتِلَاقُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْكَذَبَةِ قَبْلَكَ، فَأَنْتَ عَلَى مَنَاهِجِهِمْ. وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ الْأَوَّلِينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ما هي الْبِنْيَةُ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا إِلَّا الْبِنْيَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَوَّلُونَ، حَيَاةٌ وَمَوْتٌ وَلَا بَعْثَ وَلَا تَعْذِيبَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: خُلُقُ، بِضَمَّتَيْنِ وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ: بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ ذَيْنِكَ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي خُلُقُ.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ،
(1) سورة ابراهيم: 14/ 21.
(2)
سورة الأعراف: 7/ 193.
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
أَتُتْرَكُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارًا لِأَنْ يُتْرَكُوا مُخَلَّدِينَ فِي نَعِيمِهِمْ لَا يَزُولُونَ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ فِي تَخْلِيَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَمَا يَتَنَعَّمُونَ فِيهِ مِنَ الْجَنَّاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ الْأَمْنِ وَالدَّعَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: تَخْوِيفٌ لَهُمْ، بِمَعْنَى: أَتَطْمَعُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ فِي النِّعَمِ عَلَى مَعَاصِيكُمْ؟ وَقِيلَ: أَتُتْرَكُونَ؟ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى التَّوْبِيخِ، أي أيترككم ربكم؟ فِي ما هاهُنا: أَيْ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا آمِنِينَ: لَا تَخَافُونَ بَطْشَهُ. انْتَهَى.
وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَهَاهُنَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ، أَيْ فِي الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي مَكَانِكُمْ هَذَا مِنَ النَّعِيمِ. وفِي جَنَّاتٍ بَدَلٌ مِنْ مَا هَاهُنَا أَجْمَلَ، ثُمَّ فَصَّلَ، كَمَا أَجْمَلَ هُودٌ عليه السلام فِي قَوْلِهِ: أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، ثُمَّ فَصَّلَ فِي قَوْلِهِ: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَكَانَتْ أَرْضُ ثَمُودَ كَثِيرَةَ الْبَسَاتِينِ وَالْمَاءِ وَالنَّخْلِ. وَالْهَضِيمُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَيْنَعَ وَبَلَغَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الرَّخْصُ اللَّطِيفُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي رُطَبُهُ بِغَيْرِ نَوًى.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُنَضَّدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: الرُّطَبُ الْمُذَنَّبُ. وَقِيلَ: النَّضِيجُ مِنَ الرُّطَبِ. وَقِيلَ: الرُّطَبُ الْمُتَفَتِّتُ. وَقِيلَ: الْحُمَّاضُ الطَّلْعُ، وَيُقَارِبُ قِشْرَتَهُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَصْرٌ هَضِيمٌ. وَقِيلَ: الْعِذْقُ الْمُتَدَلِّي. وَقِيلَ: الْجُمَّارُ الرِّخْوُ. وَجَاءَ قَوْلُهُ:
وَنَخْلٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ، وَأَنْ كَانَتِ الْجَنَّةُ تَتَنَاوَلُ النَّخْلَ أَوَّلَ شَيْءٍ، وَيُطْلِقُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهَا إِلَّا النَّخْلَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ
…
مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا
أَرَادَ هُنَا النَّخْلَ. وَالسُّحُقُ جَمْعُ سَحُوقٍ، وَهِيَ الَّتِي ذَهَبَتْ بِجَرْدَتِهَا صَعَدًا فَطَالَتْ.
فَأَفْرَدَ وَنَخْلٍ بِالذِّكْرِ بَعْدَ انْدِرَاجِهِ فِي لَفْظِ جَنَّاتٍ، تَنْبِيهًا عَلَى انْفِرَادِهِ عَنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ بِفَضْلِهِ. أَوْ أَرَادَ بِجَنَّاتٍ غَيْرَ النَّخْلِ مِنَ الشَّجَرِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِهَذِهِ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ وَنَخْلٍ، ذكرهم تعالى نعمه فِي أَنْ وَهَبَ لَهُمْ أَجْوَدَ النَّخْلِ وَأَيْنَعَهُ، لِأَنَّ الْإِنَاثَ وَلَّادَةٌ التَّمْرَ، وَطَلْعُهَا فِيهِ لُطْفٌ، وَالْهَضِيمُ: اللَّطِيفُ الضَّامِرُ، وَالْبَرْنِيُّ أَلْطَفُ مِنْ طَلْعِ اللَّوْنِ. وَيَحْتَمِلُ
اللُّطْفَ فِي الطَّلْعِ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْحِمْلِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَثُرَ لَطُفَ فَكَانَ هَضِيمًا، وَإِذَا قَلَّ الْحِمْلُ جَاءَ التَّمْرُ فَاخِرًا. وَلَمَّا كَانَتْ مَنَابِتُ النَّخْلِ جَيِّدَةً، وَكَانَ السَّقْيُ لَهَا كَثِيرًا، وَسَلِمَتْ مِنَ الْعَاهَةِ، كَبِرُ الْحِمْلِ بِلُطْفِ الْحَبِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَنْحِتُونَ، بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَأَبُو حَيْوَةَ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنُ: بِفَتْحِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَعَنْهُ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْحَاءِ إِشْبَاعًا. وَعَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ، عَنْ أَبِيهِ: بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَكَسَرَ الْحَاءِ. وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ، وَالْحَسَنِ أَيْضًا: بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَفَتَحَ الْحَاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ: فَارِهِينَ بِأَلِفٍ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِغَيْرِ أَلِفٍ وَمُجَاهِدٌ:
مُتَفَرِّهِينَ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَفَرَّهَ، وَالْمَعْنَى: نَشِطِينَ مُهْتَمِّينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مجاهد:
شَرِهِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقْوِيَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: أَشِرِينَ بَطِرِينَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: بِمَعْنَى مُسْتَفْرِهِينَ، أَيْ مُبَالِغِينَ فِي اسْتِجَادَةِ الْمَغَارَاتِ لِيَحْفَظُوا أَمْوَالَهُمْ فِيهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: آمِنِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُتَجَبِّرِينَ. وَقَالَ خُصَيْفٌ:
مُعْجَبِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَاعِمِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَيِّسِينَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: حَاذِقِينَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: قَادِرِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَرِحِينَ.
وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى قَوْمِ هُودٍ: اللَّذَّاتُ الْخَيَالِيَّةُ مِنْ طَلَبِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالْبَقَاءِ وَالتَّفَرُّدِ وَالتَّجَبُّرِ، وَعَلَى قَوْمِ صَالِحٍ: اللَّذَّاتُ الْحِسِّيَّةُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبُ وَالْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ الْحَصِينَةِ. وَلا تُطِيعُوا: خِطَابُ الْجُمْهُورِ قَوْمِهِ. وَالْمُسْرِفُونَ: هُمْ كُبَرَاؤُهُمْ وَأَعْلَامُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْإِضْلَالِ، وَكَانُوا تِسْعَةَ رَهْطٍ. يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ: أَيْ أَرْضِ ثَمُودَ. وَقِيلَ: فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، لِأَنَّ بِمَعَاصِيهِمُ امْتِنَاعَ الْغَيْثِ. وَلَمَّا كَانُوا يُفْسِدُونَ دَلَالَتُهُ دَلَالَةُ الْمُطْلَقِ، أَتَى بِقَوْلِهِ: وَلا يُصْلِحُونَ، فَنَفَى عَنْهُمُ الصَّلَاحَ، وَهُوَ نَفْيٌ لِمُطْلَقِ الصَّلَاحِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الصَّلَاحِ كَائِنًا مَا كَانَ، فَلَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ صَلَاحٌ أَلْبَتَّةَ. وَالْمُسَحَّرُ:
الَّذِي سُحِرَ كَثِيرًا حَتَّى غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ. وَقِيلَ: مِنَ السَّحْرِ، وَهُوَ الرِّئَةُ، أَيْ أَنْتَ بَشَرٌ لَا تَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ. وَيُضْعِفُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُمْ بَعْدُ: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، إِذْ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَوْكِيدًا لِمَا قَبْلَهَا، وَالْأَصْلُ التَّأْسِيسُ. وَمَثَّلْنَا: أَيْ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، فَلَا اخْتِصَاصَ لَكَ بِالرِّسَالَةِ.
فَأْتِ بِآيَةٍ: أَيْ بِعَلَامَةٍ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاكَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: قَالَ آتِي بِهَا، قَالُوا: مَا هِيَ؟ قالَ هذِهِ ناقَةٌ.
رُوِيَ أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ نَاقَةً عُشَرَاءَ تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ تَلِدُ سَقْبًا. فَقَعَدَ صَالِحٌ يَتَفَكَّرُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَسَلْ
رَبَّكَ النَّاقَةَ، فَفَعَلَ فَخَرَجَتِ النَّاقَةُ وَبَرَكَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَنُتِجَتْ سَقْبًا مِثْلَهَا فِي الْعِظَمِ.
وَتَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ ثَمُودَ وَالنَّاقَةِ، وَالشِّرْبُ النَّصِيبُ الْمَشْرُوبُ مِنَ الْمَاءِ نَحْوُ السَّقْيِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: شُرْبٌ، بِضَمِّ الشِّينِ فِيهِمَا، وَظَاهِرُ هَذَا الْعَذَابِ أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَا وَقَعَ ووصف بِالْعِظَمِ لِحُلُولِ الْعَذَابِ فِيهِ، وَوَصْفُهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ وَصْفِ الْعَذَابِ بِهِ، لِأَنَّ الْوَقْتَ إِذَا عَظُمَ بِسَبَبِ الْعَذَابِ، كَانَ مَوْقِعُ الْعَذَابِ مِنَ الْعِظَمِ أَشَدَّ. وَنُسِبَ الْعَقْرُ إِلَى جَمِيعِهِمْ، لِكَوْنِهِمْ رَاضِينَ بِذَلِكَ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُمُ اسْتَرْضَوُا الْمَرْأَةَ فِي خِدْرِهَا وَالصِّبْيَانَ، فَرَضُوا جَمِيعًا.
فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ، لَا نَدَمَ تَوْبَةٍ، بَلْ نَدَمَ خَوْفٍ أَنْ يَحِلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا، وَذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ فِي غَيْرِ وَقْتِ التَّوْبَةِ. أَصْبَحُوا وَقَدْ تَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ حَسْبَمَا كَانَ أَخْبَرَهُمْ بِهِ صَالِحٌ عليه السلام، وَكَانَ الْعَذَابُ صَيْحَةً خَمَدَتْ لَهَا أَبْدَانُهُمْ، وَانْشَقَّتْ قُلُوبُهُمْ، وَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَصُبَّ عَلَيْهِمْ حِجَارَةٌ خِلَالَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: كَانَتْ نَدَامَتُهُمْ عَلَى تَرْكِ عَقْرِ الْوَلَدِ، وَهُوَ قول بعيد. وأل فِي: فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ لِلْعَهْدِ فِي الْعَذَابِ السَّابِقِ، عَذَابُ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ.
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ، قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ، قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ، رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
أَتَأْتُونَ: اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ والذُّكْرانَ: جَمْعُ ذَكَرٍ، مُقَابِلُ الْأُنْثَى.
وَالْإِتْيَانُ: كِنَايَةٌ عَنْ وَطْءِ الرِّجَالِ، وَقَدْ سَمَّاهُ تَعَالَى بِالْفَاحِشَةِ فَقَالَ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ «1» ، هُوَ مَخْصُوصٌ بِذُكْرَانِ بَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: مَخْصُوصٌ بِالْغُرَبَاءِ. وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ: ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَأْتُونَ النِّسَاءَ، إِمَّا الْبَتَّةَ، وَإِمَّا غَلَبَةً. مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ: يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِشَرْطِهَا. مِنْ أَزْواجِكُمْ: أَيْ مِنَ الإناث. ومن إما
(1) سورة الأعراف: 7/ 80.
لِلتَّبْيِينِ لِقَوْلِهِ: مَا خَلَقَ، وَإِمَّا لِلتَّبْعِيضِ: أَيِ الْعُضْوُ الْمَخْلُوقُ لِلْوَطْءِ، وَهُوَ الْفَرْجُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَتَذَرُونَ إِتْيَانَ. فَإِنْ كَانَ مَا خَلَقَ لَا يُرَادُ بِهِ الْعُضْوُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ آخَرَ، أَيْ وَتَذَرُونَ إِتْيَانَ فَرُوجِ مَا خَلَقَ. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ: أَيْ مُتَجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي الظُّلْمِ، وَهُوَ إِضْرَابٌ بِمَعْنَى الِانْتِقَالُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، لَا أَنَّهُ إِبْطَالٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَتَقْبِيحِ أَفْعَالِهِمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ إِمَّا فِي الْمَعَاصِي الَّتِي هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ جُمْلَتِهَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ ارْتِكَابُ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الشَّنِيعَةِ. وَجَاءَ تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ تَعْظِيمًا لِقُبْحِ فِعْلِهِمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ مُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ فَعَلْتَ كَذَا، أَيْ لَا غَيْرُكَ. وَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ تَوَعَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ، وَهُوَ النَّفْيُ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي نَشَأَ فِيهِ، أَيْ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنِ دَعْوَاكَ النُّبُوَّةَ، وَعَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا فِيمَا نَأْتِيهِ مِنَ الذُّكْرَانِ، لَنَنْفِيَنَّكَ كَمَا نَفَيْنَا مَنْ نَهَانَا قَبْلَكَ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: مِنَ الْمُخْرَجِينَ عَلَى أَنَّهُ سَبَقَ مَنْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَنَفَوْهُ بِسَبَبِ النَّهْيِ، أَوْ مِنَ الْمُخْرَجِينَ بِسَبَبٍ غَيْرِ هَذَا السَّبَبِ، كَأَنَّهُ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ نَفَوْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِلَافُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْخَاصِّ، أَمْ فِي غَيْرِهِ.
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ: أَيْ لِلْفَاحِشَةِ الَّتِي أَنْتُمْ تَعْمَلُونَهَا. ولعملكم يَتَعَلَّقُ إِمَّا بِالْقَالِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أل، لِأَنَّهُ يَسُوغُ فِي الْمَجْرُورَاتِ وَالظُّرُوفِ مَا لَا يَسُوغُ فِي غَيْرِهَا، لِاتِّسَاعِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيمِهَا، حَيْثُ لَا يَتَقَدَّمُ غَيْرُهَا وَإِمَّا بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْقَالِينَ تَقْدِيرُهُ: إِنِّي قَالٍ لِعَمَلِكُمْ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْيِينِ، أَيْ لِعَمَلِكُمْ، أَعْنِي مِنَ الْقَالِينَ. وَكَوْنُهُ بَعْضَ الْقَالِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُبْغِضُ هَذَا الْفِعْلَ نَاسٌ غَيْرُهُ هُوَ بَعْضُهُمْ، وَنَبَّهَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُوجِبٌ لِلْبُغْضِ حَتَّى يُبْغِضَهُ النَّاسُ. وَمِنَ الْقَالِينَ أَبْلَغُ مِنْ قَالٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّاسَ يُبْغِضُونَهُ، وَلِتَضَمُّنِهِ أَنَّهُ مَعْدُودٌ مِمَّنْ يُبْغِضُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَبْلَغُ مِنْ: زَيْدٌ عَالِمٌ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ شَهَادَةٌ بِأَنَّهُ مَعْدُودٌ فِي زُمْرَتِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْقَلْيُ: الْبُغْضُ الشَّدِيدُ، كَأَنَّهُ بَغَضَ فَقَلَى الْفُؤَادَ وَالْكَبِدَ. انْتَهَى. وَلَا يَكُونُ قَلَى بِمَعْنَى أَبْغَضَ. وَقَلَا مِنَ الطَّبْخِ والشيء مِنْ مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ لِاخْتِلَافِ التَّرْكِيبِ. فَمَادَّةُ قَلَا مِنَ الشّيء مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَتَقُولُ: قَلَوْتُ اللَّحْمَ فَهُوَ مَقْلُوٌّ. وَمَادَّةُ قَلَى مِنَ الْبُغْضِ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، قَلَيْتُ الرَّجُلَ، فَهُوَ مَقْلِيٌّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَسْتُ بِمُقْلِي الْخِلَالِ وَلَا قَالِ وَلَمَّا تَوَعَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ، أَخْبَرَهُمْ بِبُغْضِ عَمَلِهِمْ، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ: أَيْ مِنْ عُقُوبَةِ مَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْمَعَاصِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً لِأَهْلِهِ
بِالْعِصْمَةِ مِنْ أَنْ يَقَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ فِعْلِ قَوْمِهِ. وَدَلَّ دُعَاؤُهُ بِالتَّنْجِيَةِ لِأَهْلِهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَتْ زَوْجَتُهُ مُنْدَرِجَةً فِي الْأَهْلِ، وَكَانَ ظَاهِرُ دُعَائِهِ دُخُولَهَا فِي التَّنْجِيَةِ، وَكَانَتْ كَافِرَةً اسْتُثْنِيَتْ فِي قَوْلِهِ: فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: عَجُوزًا، عَلَى أَنَّهَا قَدْ عَسِيَتْ فِي الْكُفْرِ وَدَامَتْ فِيهِ إِلَى أَنْ صَارَتْ عَجُوزًا. وَمِنَ الْغَابِرِينَ صِفَةٌ، أَيْ مِنَ الْبَاقِينَ مِنْ لِدَاتِهَا وَأَهْلِ بَيْتِهَا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي غَبَرَ، وَأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَقِيَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَبِمَعْنَى مَضَى. وَنَجَاتُهُ عليه السلام أَنْ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالرِّحْلَةِ لَيْلًا، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ كَافِرَةً تُعِينُ عَلَيْهِ قَوْمَهُ، فَأَصَابَهَا حَجَرٌ، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَمْطَرَ اللَّهُ عَلَى شُذَّاذِ الْقَوْمِ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَتْبَعَ الِائْتِفَاكَ مَطَرًا مِنَ الْحِجَارَةِ. وَسَاءَ: بِمَعْنَى بِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَطَرُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَسَفَ اللَّهُ بِقَوْمِ لُوطٍ، وَأَرْسَلَ الْحِجَارَةَ إِلَى مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ القرية، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُؤْمِنٌ إِلَّا بَيْتُ لُوطٍ.
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ: لَيْكَةَ هُنَا، وَفِي ص بِغَيْرِ لَامٍ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ الْأَيْكَةِ، بِلَامِ التَّعْرِيفِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَتْحِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَجَدْنَا في بعض التفسيران: لَيْكَةَ: اسْمٌ لِلْقَرْيَةِ، وَالْأَيْكَةُ: الْبِلَادُ كُلُّهَا، كَمَكَّةَ وَبَكَّةَ، وَرَأَيْتُهَا فِي الْإِمَامِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ في الحجر وق: الأيكة، وفي الشعراء وص: لَيْكَةَ، وَاجْتَمَعَتْ مَصَاحِفُ الْأَمْصَارِ كُلِّهَا بَعْدُ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ تَخْتَلِفْ. انْتَهَى. وَقَدْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَالنَّحَّاسُ، وَتَبِعَهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَوَهَّمُوا الْقُرَّاءَ وَقَالُوا: حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُ الَّذِي كَتَبَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اللَّفْظِ فِي مِنْ نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى اللَّامِ وَأَسْقَطَ الْهَمْزَةَ، فَتَوَهَّمَ أَنَّ اللَّامَ مِنْ بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ فَفَتَحَ الْيَاءَ، وَكَانَ
الصَّوَابُ أَنْ يُجِيزَ، ثُمَّ مَادَّةُ ل ي ك لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا تَرْكِيبٌ، فَهِيَ مَادَّةٌ مُهْمَلَةٌ. كَمَا أَهْمَلُوا مَادَّةَ خ ذ ج مَنْقُوطًا، وَهَذِهِ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ بَعْضَ الْقِرَاءَةِ بِالرَّأْيِ لَا بِالرِّوَايَةِ، وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ لَا يُمْكِنُ الطَّعْنُ فِيهَا، وَيَقْرُبُ إِنْكَارُهَا مِنَ الرِّدَّةِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. أَمَّا نَافِعٌ، فَقَرَأَ عَلَى سَبْعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُمْ عَرَبٌ فُصَحَاءُ، ثُمَّ هي قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَاطِبَةً. وَأَمَّا ابْنُ كَثِيرٍ، فَقَرَأَ عَلَى سَادَةِ التَّابِعِينَ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ، كَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَيْهِ إِمَامُ الْبَصْرَةِ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَسَأَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَقَرَأْتَ عَلَى ابْنِ كَثِيرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، خَتَمْتُ عَلَى ابن كثير بعد ما خَتَمْتُ عَلَى مُجَاهِدٍ، وَكَانَ ابْنُ كَثِيرٍ أَعْلَمَ مِنْ مُجَاهِدٍ بِاللُّغَةِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَبِيرٌ يَعْنِي خِلَافًا. وَأَمَّا ابْنُ عَامِرٍ فَهُوَ إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ قُحٌّ، قَدْ سَبَقَ اللَّحْنَ، أَخَذَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَغَيْرِهِمَا. فَهَذِهِ أَمْصَارٌ ثَلَاثَةٌ اجْتَمَعَتْ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالشَّامُ، وَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَادَّةِ مَفْقُودَةً فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ كَانَتِ الْكَلِمَةُ عَجَمِيَّةً، وَمَوَادُّ كَلَامِ الْعَجَمِ مُخَالِفَةٌ فِي كَثِيرٍ مَوَادَّ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَى مَنْعِ صَرْفِهَا الْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ وَالتَّأْنِيثُ.
وَتَقَدَّمَ مَدْلُولُ الْأَيْكَةِ فِي الْحِجْرِ، وَكَانَ شُعَيْبٌ عليه السلام مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ، فَلِذَلِكَ جَاءَ: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً «1» . وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْأَيْكَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا: إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ. وَمِنْ غَرِيبِ النَّقْلِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هُمْ أَصْحَابُ مَدْيَنَ، وَعَنْ غَيْرِهِ، أَنَّ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هُمْ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَأَصْحَابَ مَدْيَنَ هُمُ الْحَاضِرَةُ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقِسْطَاسِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ، وَجُعِلَتِ الْعَيْنُ مُكَرَّرَةً، فَوَزْنُهُ فِعْلَاءُ، وَإِلَّا فَهُوَ رُبَاعِيٌّ. انْتَهَى. وَلَوْ تَكَرَّرَ مَا يُمَاثِلُ الْعَيْنَ فِي النُّطْقِ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا رُبَاعِيًّا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الْقِسْطِ.
انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَزِنُوا، هُوَ أَمْرٌ بِالْوَزْنِ، إِذْ عَادَلَ قَوْلَهُ: أَوْفُوا الْكَيْلَ، فَشَمِلَ مَا يُكَالُ وَمَا يُوزَنُ مِمَّا هُوَ مُعْتَادٌ فِيهِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ عَدِّلُوا أُمُورَكُمْ كُلَّهَا بِمِيزَانِ الْعَدْلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ: الْجُمْلَةُ وَالَّتِي تَلِيهَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عليهما. ولما تقدم
(1) سورة الأعراف: 7/ 85، وسورة هود: 11/ 84، وسورة العنكبوت: 29/ 36.
أَمْرُهُ عليه السلام إِيَّاهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِتَقْوَى مَنْ أَوَجَدَهُمْ وَأَوْجَدَ مَنْ قَبْلَهُمْ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْجَدَهُمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَيُهْلِكَهُمْ. وَعَطَفَ عَلَيْهِمْ وَالْجِبِلَّةَ إِيذَانًا بِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يُصَيِّرُكُمْ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ أَوَّلُوكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَصِيرُونَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْجِبِلَّةَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَشَدِّ اللَّامِ. وَقَرَأَ أَبُو حَصِينٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْحَسَنُ:
بِخِلَافٍ عَنْهُ، بِضَمِّهَا وَالشَّدِّ لِلَّامِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: وَالْجِبْلَةَ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهُ: فَتْحُ الْجِيمِ وَسُكُونُ الْبَاءِ، وَهِيَ مِنْ جُبِلُوا عَلَى كَذَا، أَيْ خُلِقُوا. قِيلَ: وَتَشْدِيدُ اللَّامِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ فِي بِنَاءَيْنِ لِلْمُبَالِغَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْجِبِلَّةُ: عَشَرَةُ آلَافٍ. وَما أَنْتَ: جَاءَ هُنَا بِالْوَاوِ، وَفِي قِصَّةِ هُودٍ: مَا أَنْتَ، بِغَيْرِ وَاوٍ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا دَخَلَتِ الْوَاوُ فَقَدْ قُصِدَ مَعْنَيَانِ، كِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِلرِّسَالَةِ عِنْدَهُمْ، التَّسْحِيرُ وَالْبَشَرِيَّةُ، وَأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسَحَّرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَشَرًا، وَإِذَا تُرِكَتِ الْوَاوُ فَلَمْ يُقْصَدْ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسَحَّرًا، ثُمَّ قَرَّرَ بِكَوْنِهِ بَشَرًا. انْتَهَى.
وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ: إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمِنَ هِيَ الْفَارِقَةُ، خِلَافًا للكوفيين، فَإِنْ عِنْدَهُمْ نَافِيَةً وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً «1» فِي الْبَقَرَةِ. ثُمَّ طَلَبُوا مِنْهُ إِسْقَاطَ كِسَفٍ، مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتَ صادقا، فادع الَّذِي أَرْسَلَكَ أَنْ يُسْقِطَ عَلَيْنَا كِسَفًا، أَيْ قِطْعَةً، أَوْ قِطَعًا عَلَى حَسَبِ التَّسْكِينِ وَالتَّحْرِيكِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكِلَاهُمَا جَمْعُ كِسْفَةٍ، نَحْوَ: قِطَعٍ وَشِذَرٍ. وَقِيلَ: الْكِسَفُ وَالْكِسْفَةُ، كَالرِّيعِ وَالرِّيعَةُ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ وَكِسْفَةٌ: قِطْعَةٌ، وَالسَّمَاءُ: السَّحَابُ أَوِ الْمِظَلَّةُ. وَدَلَّ طَلَبُهُمْ ذَلِكَ عَلَى التَّصْمِيمِ عَلَى الْجُحُودِ وَالتَّكْذِيبِ. وَلَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ مَا طَلَبُوا، أَحَالَ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَعْمَالِكُمْ، وَبِمَا تَسْتَوْجِبُونَ عَلَيْهَا مِنَ الْعِقَابِ، فَهُوَ يُعَاقِبُكُمْ بِمَا شَاءَ.
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَهُوَ نَحْوٌ مِمَّا اقْتَرَحُوا. وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ كَيْفِيَّةَ عَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، حَتَّى إن ابن عباس قال: مَنْ حَدَّثَكَ مَا عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ فَقَدْ كَذَبَ، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِهَا تَطْوِيلَاتٍ.
فَرَوَى أَنَّهُ حَبَسَ عَنْهُمُ الرِّيحَ سَبْعًا، فَابْتُلُوا بِحَرٍّ عَظِيمٍ يَأْخُذُ بِأَنْفَاسِهِمْ، لَا يَنْفَعْهُمْ ظِلٌّ وَلَا مَاءٌ، فَاضْطُرُّوا إِلَى أَنْ خَرَجُوا إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ وَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَنَسِيمًا، فَاجْتَمَعُوا تَحْتَهَا، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ.
وَكَرَّرَ مَا كَرَّرَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ الْقَصَصِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طَرِيقَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةً لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَهِيَ الدُّعَاءُ إلى
(1) سورة البقرة: 2/ 143.
تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَرَفْضِ مَا سِوَاهُ، وَأَنَّهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُشْتَرِكُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَهُ، وَتِلْكَ عَادَةُ الْأَنْبِيَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَتِ الْأَلْفَاظُ فِي دُعَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، إِذْ كَانَ الْإِيمَانُ الْمَدْعُوُّ إِلَيْهِ مَعْنًى وَاحِدًا بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ كَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ قِصَّةٍ وَآخِرِهَا مَا كَرَّرَ؟ قُلْتُ: كُلُّ قِصَّةٍ مِنْهَا كَتَنْزِيلٍ بِرَأْسِهِ، وَفِيهَا مِنَ الِاعْتِبَارِ مِثْلُ مَا فِي غَيْرِهَا. فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُدْلِي بِحَقٍّ، إِلَى أَنْ يفتتح بِمِثْلِ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ صَاحِبَتُهَا، وَأَنْ تُخْتَتَمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتُتِمَتْ بِهِ. وَلِأَنَّ التَّكْرِيرَ تَقْرِيرٌ لِلْمَعَانِي فِي النُّفُوسِ، وَتَثْبِيتٌ لَهَا فِي الصُّدُورِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَصَصَ طُرِقَتْ بِهَذَا آذَانٌ، وقرعن الْإِنْصَاتِ لِلْحَقِّ، وَقُلُوبٌ غُلْفٌ عَنْ تَدَبُّرِهِ، فَأُوثِرَتْ بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَرُوجِعَتْ بِالتَّرْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ.
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ، أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ، أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ، وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ، ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ.
الضَّمِيرُ فِي: وَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ إِنَّهُ لَيْسَ بِكَهَانَةٍ وَلَا سِحْرٍ، بَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ عَادَ أَيْضًا إِلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ السُّورَةَ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَمَّا يَأْتِيهِمْ مِنَ الذِّكْرِ، لِيَتَنَاسَبَ الْمُفْتَتَحُ وَالْمُخْتَتَمُ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وحفص: نَزَلَ مخففا، والرُّوحُ الْأَمِينُ: مَرْفُوعَانِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّشْدِيدِ وَنَصْبِهِمَا. وَالرُّوحُ هُنَا:
جِبْرِيلَ عليه السلام، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ لِمَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الرُّوحُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ «1» . انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ عَلى قَلْبِكَ ولِتَكُونَ بنزل، وَخَصَّ الْقَلْبَ وَالْمَعْنَى عَلَيْكَ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْوَعْيِ وَالتَّثْبِيتِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَى قَلْبِهِ عليه السلام مَحْفُوظٌ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّبْدِيلُ وَلَا التَّغْيِيرُ، وَلِيَكُونَ عِلَّةً فِي التَّنْزِيلِ أَوِ النُّزُولِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَزْجَرُ لِلسَّامِعِ، وَإِنْ كَانَ القرآن نزل
(1) سورة المائدة: 5/ 61.
لِلْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ بِلِسانٍ بنزل، فَكَانَ يَسْمَعُ مِنْ جِبْرِيلَ حُرُوفًا عَرَبِيَّةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ: وَتَكُونُ صَلْصَلَةُ الْجَرَسِ صِفَةً لِشِدَّةِ الصَّوْتِ وَتَدَاخُلِ حُرُوفِهِ وَعِجْلَةِ مَوْرِدِهِ وَإِغْلَاظِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لِتَكُونَ، وَتَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَسْمَعُ أَحْيَانًا مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، يَتَفَهَّمُ لَهُ مِنْهُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ.
انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِلِسانٍ، إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُنْذِرِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لِتَكُونَ مِنَ الَّذِينَ أَنْذَرُوا بِهَذَا اللِّسَانِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ: هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بنزل، فَيَكُونَ الْمَعْنَى: نَزَّلَهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ لِتُنْذِرَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ نَزَّلَهُ بِاللِّسَانِ الْأَعْجَمِيِّ، لَتَجَافَوْا عَنْهُ أَصْلًا وَقَالُوا: مَا نَصْنَعُ بِمَا لَا نَفْهَمُهُ؟ فَيَتَعَذَّرُ الْإِنْذَارُ بِهِ.
وَفِي هَذَا الْوَجْهِ، إِنَّ تَنْزِيلَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِسَانُكَ وَلِسَانُ قَوْمِكَ، تَنْزِيلٌ لَهُ عَلَى قَلْبِكَ، لِأَنَّكَ تَفْهَمُهُ وَيَفْهَمُهُ قَوْمُكَ. وَلَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا، لَكَانَ نَازلًا عَلَى سَمْعِكَ دُونَ قَلْبِكَ، لِأَنَّكَ تَسْمَعُ أَجْرَاسَ حُرُوفٍ لَا تَفْهَمُ مَعَانِيَهَا وَلَا تَعِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَارِفًا بِعِدَّةِ لُغَاتٍ، فَإِذَا كُلِّمَ بِلُغَتِهَا الَّتِي لُقِّنَهَا أَوَّلًا وَنَشَأَ عَلَيْهَا وَتَطَبَّعَ بِهَا، لَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ إِلَّا إِلَى مَعَانِي تِلْكَ الْكَلِمِ يَتَلَقَّاهَا بِقَلْبِهِ، وَلَا يَكَادُ يَفْطَنُ لِلْأَلْفَاظِ كَيْفَ جَرَتْ. وَإِنْ كُلِّمَ بِغَيْرِ تِلْكَ اللُّغَةِ، وَإِنْ كَانَ مَاهِرًا بِمَعْرِفَتِهَا، كَانَ نَظَرُهُ أَوَّلًا فِي أَلْفَاظِهَا، ثُمَّ فِي مَعَانِيهَا. فَهَذَا تَقْرِيرٌ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَى قَلْبِهِ لِنُزُولِهِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. انْتَهَى. وَفِيهِ تَطْوِيلٌ.
وَإِنَّهُ، أَيِ الْقُرْآنَ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ: أَيْ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْقَدِيمَةِ، مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ مُشَارٌ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعَانِيَهُ فِيهَا، وَبِهِ يُحْتَجُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ قُرْآنٌ إِذَا تُرْجِمَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، حَيْثُ قِيلَ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، لِكَوْنِ مَعَانِيهِ فِيهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيْ إِنَّ ذِكْرَهُ ورسالته في الكتاب الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَكُونُ الْتِفَاتًا، إِذْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ:
عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ إِلَى ضَمِيرِ الغيبة، وكذلك قبل فِي أَنْ يُعْلِمَهُ، أَيْ أَنْ يُعْلِمَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَتَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَوْضَحُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: لَفِي زُبْرِ، بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَالْأَصْلُ الضَّمُّ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَحِّحَ عِنْدَهُمْ أَمْرَهُ، كَوْنُ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْلَمُونَهُ، أَيْ أو لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَامَةٌ عَلَى صحة عِلْمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهِ؟ إِذْ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَرْجِعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْهَا وَيَقُولُونَ: هُمْ أَصْحَابُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقَدْ تَهَوَّدَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ وَتَنَصَّرَ كَثِيرٌ، لِاعْتِقَادِهِمْ فِي صِحَّةِ دِينِهِمْ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ بَعَثُوا إِلَى أَحْبَارِ يَثْرِبَ يَسْأَلُونَهُمْ عَنِ
النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: هَذَا زَمَانُهُ، وَوَصَفُوا نَعْتَهُ، وَخَلَطُوا فِي أمر محمد عليه السلام، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ
، وَيُؤَيِّدُ هَذَا كَوْنُ الْآيَةِ مَكِّيَّةً. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ مدنية.
وعُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَنَحْوُهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمْ أَسْلَمُوا وَنَصُّوا عَلَى مَوَاضِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذُكِرَ فِيهَا الرَّسُولُ عليه السلام، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ:
عُلَمَاؤُهُمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ. وَقِيلَ: أَنْبِيَاؤُهُمْ، حَيْثُ نَبَّهُوا عَلَيْهِ وَأَخْبَرُوا بِصِفَتِهِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوَلَمْ يَكُنْ، بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، آيَةً: بِالنَّصْبِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ وَاضِحَةُ الْإِعْرَابِ تَوَسَّطَ خَبَرُ يكن، وأَنْ يَعْلَمَهُ: هُوَ الِاسْمُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ: تَكُنْ بالتاء من فوق، آية: بِالرَّفْعِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَتْ آيَةٌ اسْمًا، وَأَنْ يَعْلَمَهُ خَبَرًا، وَلَيْسَتْ كَالْأُولَى لِوُقُوعِ النَّكِرَةِ اسْمًا وَالْمَعْرِفَةِ خَبَرًا، وَقَدْ خُرِّجَ لَهَا وَجْهٌ آخَرُ لِيُتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ: فِي تَكُنْ ضَمِيرُ القصة، وآية أَنْ يَعْلَمَهُ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ آية جملة الشأن، وأن يَعْلَمَهُ بَدَلًا مِنْ آيَةً. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكُنْ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، آيَةً بِالنَّصْبِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قرأ: لم ثم تَكُنْ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، فِتْنَتُهُمْ بِالنَّصْبِ، إِلَّا أَنْ قالُوا «2» ، وَكَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
فَمَضَى وَقَدَّمَهَا وَكَانَتْ عَادَةً
…
مِنْهُ إِذَا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدَامُهَا
وَدَلَّ ذَلِكَ إِمَّا عَلَى تَأْنِيثِ الِاسْمِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، وَإِمَّا لِتَأْوِيلِ أَنْ يَعْلَمَهُ بِالْمَعْرِفَةِ، وَتَأْوِيلِ إِلَّا أَنْ قالُوا بِالْمَقَالَةِ، وَتَأْوِيلِ الْإِقْدَامِ بِالْإِقْدَامَةِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: أَنْ تَعْلَمَهُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُوا بَنِي أَسَدٍ
…
يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضِرَارًا لِأَقْوَامِ
وكتب في المصحف: علموا بِوَاوٍ بَيْنَ الْمِيمِ وَالْأَلِفِ. قِيلَ: عَلَى لُغَةِ مَنْ يميل ألف علموا إِلَى الْوَاوِ، كَمَا كَتَبُوا الصلاة وَالزَّكَوةَ وَالرِّبَوا عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَعْجَمِي الَّذِي لَا يُفْصِحُ، وَفِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ وَاسْتِعْجَامٌ، وَالْأَعْجَمِيُّ مِثْلُهُ إِلَّا أَنَّ فِيهِ لِزِيَادَةِ يَاءِ النِّسْبَةِ زِيَادَةَ تَوْكِيدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَعْجَمُونَ جَمْعُ أَعْجَمَ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُفْصِحُ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيَّ النَّسَبِ يُقَالُ لَهُ أَعْجَمُ، وَذَلِكَ يُقَالُ لِلْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَمِنْهُ
قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» . وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ أَنَّهُ قَالَ، حِينَ قَرَأَ هَذِهِ الآية
(1) سورة القصص: 28/ 53.
(2)
سورة الأنعام: 6/ 23.
وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ: «جَمَلِي هَذَا أَعْجَمُ، فَلَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَا كَانُوا يُؤْمِنُونَ» .
وَالْعَجَمِيُّ هُوَ الَّذِي نِسْبَتُهُ فِي الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ أَفْصَحَ النَّاسِ. انْتَهَى. وَفِي التَّحْرِيرِ: الْأَعْجَمِينَ: جَمْعُ أَعْجَمَ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ جَمْعَ سَلَامَةٍ. قِيلَ: وَالْمَعْنَى وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ عَلَى رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ فَقَرَأَهُ عَلَى الْعَرَبِ، لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، حَيْثُ لَمْ يَفْهَمُوهُ، وَاسْتَنْكَفُوا مِنَ اتِّبَاعِهِ. وَقِيلَ: وَلَوْ نَزَّلْنَا الْقُرْآنَ عَلَى بَعْضِ الْعَجَمِ مِنَ الدَّوَابِّ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُؤْمِنُوا، لِعِنَادِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ «1» الْآيَةَ، وَجُمِعَ جَمْعَ السَّلَامَةِ، لِأَنَّهُ وُصِفَ بِالْإِنْزَالِ عَلَيْهِ وَالْقِرَاءَةِ، وَهُوَ فِعْلُ الْعُقَلَاءِ. وَقِيلَ: وَلَوْ نَزَلَ عَلَى بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، لَمْ تُؤْمِنِ الْبَهَائِمُ، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ: كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا «2» انْتَهَى.
وَلَمَّا بَيَّنَ بِمَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّ عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَكَانَ في ذلك دليلين عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَا تُجْدِي فِيهِمُ الدَّلَائِلُ. أَلَا تَرَى نُزُولَهُ عَلَى رَجُلٍ عَرَبِيٍّ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ، وَسَمِعُوهُ وَفَهِمُوهُ وَأَدْرَكُوا إِعْجَازَهُ وَتَصْدِيقَ كُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ جَحَدُوا وَسَمَّوْهُ تَارَةً شِعْرًا وَتَارَةً سِحْرًا؟ وَلَوْ نَزَلَ عَلَى بَعْضِ الْأَعَاجِمِ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، لَكَفَرُوا بِهِ وَتَمَحَّلُوا بِجُحُودِهِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَعْجَمِينَ جَمْعُ أَعْجَمَ أَوْ أَعْجَمِيٍّ، عَلَى حَذْفِ ياء النسب، كما قالوا:
الْأَشْعَرِينَ، وَوَاحِدُهُمْ أَشْعَرِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ الْجَهْمِ: قَالَ الْكُمَيْتُ:
وَلَوْ جَهَّزْتُ قَافِيَةً شَرُودًا
…
لَقَدْ دَخَلَتْ بُيُوتَ الْأَشْعَرَيْنَا
انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ مِقْسَمٍ: الْأَعْجَمِيِّينَ، بِيَاءِ النَّسَبِ: جَمْعُ أَعْجَمِيٍّ. وَالضَّمِيرُ فِي سَلَكْناهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ. قِيلَ: وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقَالَهُ الرُّمَّانِيُّ. وَالْمَعْنَى: مِثْلُ ذَلِكَ السَّلْكِ، وَهُوَ الْإِدْخَالُ وَالتَّمْكِينُ وَالتَّفْهِيمُ لِمَعَانِيهِ.
سَلَكْناهُ: أَدْخَلْنَاهُ وَمَكَّنَّاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. وَالْمَعْنَى: مَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ السَّلْكِ مِنْ كَوْنِهِمْ فَهِمُوهُ وَأَدْرَكُوهُ، وَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا عِنَادًا وَجُحُودًا وَكُفْرًا بِهِ، أَيْ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ وَالتَّكْذِيبِ لَهُ، كَمَا وَضَعْنَاهُ فِيهَا. فَكَيْفَ مَا يُرَامُ إِيمَانُهُمْ بِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ؟ وَأَعْمَاهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ «3» الْآيَةَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَدْخَلْنَاهُ فِيهَا، فَعَرَفُوا مَعَانِيَهُ، وَعَجْزَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ
(1) سورة الأنعام: 6/ 110.
(2)
سورة الفرقان: 25/ 44.
(3)
سورة الأنعام: 6/ 7.
بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: الضَّمِيرُ فِي سَلَكْنَاهُ يَعُودُ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَذَلِكَ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ. انْتَهَى. وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ: فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ. انْتَهَى.
وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَلَكْنَاهُ، أَيِ الْقَسْوَةَ، وَأَسْنَدَ السَّلْكَ تَعَالَى إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ هُوَ مُوجِدُ الْأَشْيَاءِ حَقِيقَةً، وَهُوَ الْهَادِي وَخَالِقُ الضَّلَالِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَسْنَدَ السَّلْكَ بِصِفَةِ التَّكْذِيبِ إِلَى ذَاتِهِ؟ قُلْتُ:
أَرَادَ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى تَمَكُّنِهِ مُكَذَّبًا فِي قُلُوبِهِمْ أَشَدَّ التَّمْكِينِ وَأَثْبَتَهُ، فَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ أَمْرٍ قَدْ جُبِلُوا عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: هُوَ مَجْبُولٌ عَلَى الشُّحِّ؟ يُرِيدُونَ تَمَكُّنَ الشُّحِّ فِيهِ، لِأَنَّ الْأُمُورَ الْخِلْقِيَّةَ أَثْبَتُ مِنَ الْعَارِضَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَسْنَدَ تَرْكَ الْإِيمَانِ بِهِ إِلَيْهِمْ عَلَى عَقِبِهِ، وَهُوَ قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ وَالتَّشْبِيهِ بَيْنَ السَّلْكَيْنِ، يَقْتَضِي تَغَايُرَ مَنْ حَلَّ بِهِ. وَالْمَعْنَى: مِثْلُ ذَلِكَ السَّلْكِ فِي قُلُوبِ قُرَيْشٍ، سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ مَنْ أَجْرَمَ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ السَّلْكِ وَهُوَ الْإِجْرَامُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَادَ بِهِمْ مُجْرِمِي كُلِّ أُمَّةٍ، أَيْ إِنَّ هَذِهِ عَادَةُ اللَّهِ فِيهِمْ، أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ، فَلَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بَعْدَ تَلَبُّسِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ لِقُرَيْشٍ، أَيْ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ، وَكَشْفُ الْغَيْبِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَوْقِعُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ؟ قُلْتُ: مَوْقِعُهُ مِنْهُ مَوْقِعُ الْمُوَضِّحِ وَالْمُلَخِّصِ، لِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِثَبَاتِهِ مُكَذَّبًا مَجْحُودًا فِي قُلُوبِهِمْ، فَأُتْبِعَ بِمَا يُقَرِّرُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ وَجُحُودِهِ حَتَّى يُعَايِنُوا الوعيد، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ سَلَكْنَاهُ فِيهَا غَيْرَ مُؤْمَنٍ بِهِ. انْتَهَى. وَرُؤْيَتُهُمُ الْعَذَابَ، قِيلَ: فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَأْتِيَهُمْ، بِيَاءٍ، أَيِ الْعَذَابُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعِيسَى: بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، أُنِّثَ عَلَى مَعْنَى الْعَذَابِ لِأَنَّهُ الْعُقُوبَةُ، أَيْ فَتَأْتِيَهُمُ الْعُقُوبَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: أَتَتْهُ كِتَابِي، فَلَمَّا سُئِلَ قَالَ: أَوْ لَيْسَ بِصَحِيفَةٍ؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَتَأْتِيَهُمْ بِالتَّاءِ، يَعْنِي السَّاعَةَ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: أَنَّثَ الْعَذَابَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى السَّاعَةِ، فَاكْتَسَى مِنْهَا التَّأْنِيثَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَذَابَ الْقِيَامَةِ تَكْذِيبًا بِهَا، فَلِذَلِكَ أُنِّثَ. وَلَا يَكْتَسِي الْمُذَكَّرُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ تَأْنِيثًا إِلَّا إِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ نَحْوَ: اجْتَمَعَتْ أَهْلُ الْيَمَامَةِ، وَقُطِعَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ، وَشَرَقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:
بَغَتَةً، بِفَتْحِ الْغَيْنِ، فَتَأْتِيَهِمْ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، يَعْنِي السَّاعَةَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى التَّعْقِيبِ فِي قوله: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً قُلْتُ: لَيْسَ الْمَعْنَى يُرَادُ بِرُؤْيَةِ الْعَذَابِ وَمُفَاجَأَتِهِ وَسُؤَالِ النَّظِرَةِ فِيهِ الْوُجُودُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى تَرَتُّبُهَا فِي الشِّدَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ حَتَّى تَكُونَ رُؤْيَتُهُمُ الْعَذَابَ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، وَهُوَ لُحُوقُهُ بِهِمْ مُفَاجَأَةً مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهُوَ سُؤَالُهُمُ النَّظِرَةَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَسَأْتَ مَقَتَكَ الصَّالِحُونَ، فَمَقَتَكَ اللَّهُ، فَإِنَّكَ لَا تَقْصِدُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ مَقْتَ اللَّهِ يُوجَدُ عَقِيبَ مَقْتِ الصَّالِحِينَ، وَإِنَّمَا قَصْدُكَ إِلَى تَرْتِيبِ شِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُسِيءِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ الْإِسَاءَةِ مَقْتُ الصَّالِحِينَ. فَمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ مَقْتِهِمْ؟ وَهُوَ مَقْتُ اللَّهِ. وَيُرَى، ثُمَّ يَقَعُ هَذَا فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ، فَيَحِلُّ مَوْقِعَهُ. انْتَهَى. فَيَقُولُوا، أَيْ كُلُّ أُمَّةٍ مُعَذَّبَةٍ: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ:
أَيْ مُؤَخَّرُونَ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ التَّمَنِّي مِنْهُمْ وَالرَّغْبَةِ حَيْثُ لَا تَنْفَعُ الرَّغْبَةُ. ثُمَّ رَجَعَ لَفْظُ الْآيَةِ إِلَى تَوْبِيخِ قُرَيْشٍ عَلَى اسْتِعْجَالِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ فِي طَلَبِهِمْ سُقُوطَ السَّمَاءِ كِسَفًا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ: أَيْنَ مَا تَعِدُنَا بِهِ؟
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ، تَبْكِيتٌ لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ وَتَهَكُّمٌ، وَمَعْنَاهُ:
كَيْفَ يَسْتَعْجِلُ الْعَذَابَ مَنْ هُوَ مُعَرَّضٌ لِعَذَابٍ يَسْأَلُ فِيهِ مِنْ جِنْسِ، مَا هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ مِنَ النَّظِرَةِ وَالْإِمْهَالِ؟ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَا يُجَابُ إِلَيْهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حِكَايَةَ تَوْبِيخٍ، يُوَبَّخُونَ بِهِ عِنْدَ اسْتِنْظَارِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَيَسْتَعْجِلُونَ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ، حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ وَوَجْهٌ آخَرُ مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْعَذَابِ إِمَّا كَانَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ كَائِنٍ وَلَا لَاحِقٍ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مُمَتَّعُونَ بِأَعْمَارٍ طَوَالٍ فِي سَلَامَةٍ وَأَمْنٍ. فَقَالَ عَزَّ وَعَلَا: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أَشَرًا وَبَطَرًا وَاسْتِهْزَاءً وَاتَّكَالًا عَلَىَ الْأَمَلِ الطَّوِيلِ؟ ثُمَّ قَالَ: وَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ تَمَتُّعِهِمْ وَتَعْمِيرِهِمْ، فَإِذَا لَحِقَهُمُ الْوَعِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ، مَا يَنْفَعُهُمْ حِينَئِذٍ مَا مَضَى مِنْ طُولِ أَعْمَارِهِمْ وَطِيبِ مَعَايِشِهِمْ؟ انْتَهَى. وَقِيلَ: أَتْبَعَ قَوْلَهُ: فَتَأْتِيَهِمْ بَغْتَةً بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَسْرَةِ. فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ، كَمَا يَسْتَغِيثُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْخَلَاصِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فِي الْآخِرَةِ أَنْ لَا مَلْجَأَ، لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ اسْتِرْوَاحًا. وَقِيلَ: يَطْلُبُونَ الرَّجْعَةَ حِين يَبْغَتُهُمْ عَذَابُ السَّاعَةِ، فَلَا يُجَابُونَ إِلَيْهَا.
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ: خِطَابٌ لِلرَّسُولِ عليه السلام بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فِي أَنَّ مُدَّةَ الْإِرْجَاءِ وَالْإِمْهَالِ وَالْإِمْلَاءِ لَا تُغْنِي إِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بَعْدَهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سِنِينَ، عُمَرُ الدُّنْيَا. انْتَهَى. وَتَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَنْصُوبٌ وَالْآخِرُ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ. فِي الْغَالِبِ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا
مَا صَنَعَ؟ وَمَا جَاءَ مِمَّا ظَاهِرُهُ خِلَافُ ذَلِكَ أُوِّلَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُشْبَعًا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَتَقُولُ هُنَا مَفْعُولُ أَرَأَيْتَ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ تَنَازَعَ عَلَى مَا يُوعِدُونَ أَرَأَيْتَ وَجَاءَهُمْ، فَأُعْمِلَ الثَّانِي فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِجَاءَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِأَرَأَيْتَ عَلَى إِعْمَالِ الْأَوَّلِ، وَأُضْمِرَ الْفَاعِلُ فِي جَاءَهُمْ. وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ قَوْلُهُ: مَا أَغْنى عَنْهُمْ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ تَمَتُّعُهُمْ فِي تِلْكَ السِّنِينَ الَّتِي مُتِّعُوهَا؟ وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ يَتَضَمَّنُ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ تَمَتُّعُهُمْ حِينَ حَلَّ، أَيِ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَهُوَ الْعَذَابُ؟ وَظَاهِرُ مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ مَا أَغْنَى: أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، وَالِاسْتِفْهَامُ قَدْ يَأْتِي مُضَمَّنًا مَعْنَى النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ «1» ؟
بَعْدَ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَكُمْ «2» فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، أَيْ مَا يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي مَا أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامًا ونافية. وقرىء: يُمَتَّعُونَ، بِإِسْكَانِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ التَّاءِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً مِنَ الْقُرَى إِلَّا وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهَا مَنْ يُنْذِرُهَا عَذَابَ اللَّهِ، إِنْ هِيَ عَصَتْ وَلَمْ تُؤْمِنْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «3» . وَجَمَعَ مُنْذِرُونَ، لِأَنَّ مِنْ قَرْيَةٍ عَامٌّ فِي الْقُرَى الظَّالِمَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَهْلَكْنَا الْقُرَى الظَّالِمَةَ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَها مُنْذِرُونَ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَرْيَةٍ، وَالْإِعْرَابُ أَنْ تَكُونَ لَهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَارْتَفَعَ مُنْذِرُونَ بِالْمَجْرُورِ إِلَّا كَائِنًا لَهَا مُنْذِرُونَ، فَيَكُونُ مِنْ مَجِيءِ الْحَالِ مُفْرَدًا لَا جُمْلَةً، وَمَجِيءُ الْحَالِ من المنفي كقول: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا قَائِمًا، فَصِيحٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ عُزِلَتِ الْوَاوُ عَنِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ إِلَّا، وَلَمْ تُعْزَلْ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ؟ «4» قُلْتُ: الْأَصْلُ عَزْلُ الْوَاوِ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ، وَإِذَا زِيدَتْ فَلِتَأْكِيدِ وَصْلِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «5» . انْتَهَى. وَلَوْ قَدَّرَنَا لَهَا مُنْذِرُونَ جُمْلَةً، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَجِيءَ صِفَةً بَعْدَ إِلَّا.
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، أَنَّهُ لَا تَجِيءُ الصِّفَةُ بَعْدَ إِلَّا مُعْتَمِدَةً عَلَى أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوَ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إِلَّا رَاكِبٌ. وَإِذَا سُمِعَ مِثْلُ هَذَا، خَرَّجُوهُ عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ: إِلَّا رَجُلٌ رَاكِبٌ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا قَائِمًا، وَلَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِهَا: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا قَائِمٌ. فَلَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلنَّكِرَةِ، لَوَرَدَ الْمُفْرَدُ بَعْدَ إلا صفة
(1) سورة الأنعام: 6/ 47.
(2)
سورة الأنعام: 6/ 47.
(3)
سورة الإسراء: 17/ 15. [.....]
(4)
سورة الحجر: 15/ 4.
(5)
سورة الأعراف: 7/ 22.
لَهَا. فَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ غَيْرَ مُعْتَمِدَةٍ عَلَى أَدَاةٍ، جَاءَتِ الصِّفَةُ بَعْدَ إِلَّا نَحْوَ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إلا زيد خير من عَمْرٍو، التَّقْدِيرُ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ خَيْرٌ مِنْ عَمْرٍو إِلَّا زَيْدٌ. وَأَمَّا كَوْنُ الْوَاوِ تُزَادُ لِتَأْكِيدِ وَصْلِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، فَغَيْرُ مَعْهُودٍ فِي كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ. لَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ وَعَاقِلٌ، عَلَى أَنْ يَكُونَ وَعَاقِلٌ صِفَةً لِرَجُلٍ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْوَاوُ فِي الصِّفَاتِ جَوَازًا إِذَا عَطْفُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَتَغَايَرَ مَدْلُولُهَا نَحْوَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الْكَرِيمِ وَالشُّجَاعِ وَالشَّاعِرِ. وَأَمَّا وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ.
ذِكْرى: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ، وَعَلَى الْمَصْدَرِ عِنْدَ الزَّجَّاجِ. فَعَلَى الْحَالِ، إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ذَوِي ذِكْرَى، أَوْ مُذَكِّرِينَ. وَعَلَى الْمَصْدَرِ، فَالْعَامِلُ مُنْذِرُونَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مُذَكِّرُونَ ذِكْرَى، أَيْ تَذْكِرَةً. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ذِكْرَى أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، قَالَ:
عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يُنْذَرُونَ لِأَجْلِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، وَأَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً صِفَةً بِمَعْنَى مُنْذِرُونَ ذَوُو ذِكْرَى، أَوْ جُعَلُوا ذِكْرَى لِإِمْعَانِهِمْ فِي التَّذْكِرَةِ وَإِطْنَابِهِمْ فِيهَا. وَأَجَازَ هُوَ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بِمَعْنَى هَذِهِ ذِكْرَى، وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَى مُتَعَلِّقَةً بِأَهْلَكْنَا مَفْعُولًا لَهُ، وَالْمَعْنَى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ظَالِمِينَ إِلَّا بعد ما أَلْزَمْنَاهُمُ الْحُجَّةَ بِإِرْسَالِ الْمُنْذِرِينَ إِلَيْهِمْ، لِتَكُونَ تَذْكِرَةً وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، فَلَا يَعْصُوا مِثْلَ عِصْيَانِهِمْ. وَما كُنَّا ظالِمِينَ، فَنُهْلِكُ قَوْمًا غَيْرَ ظَالِمِينَ، وَهَذَا الْوَجْهُ عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَا قَبْلَ إِلَّا لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى، أَوْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، أَوْ تَابِعًا لَهُ غَيْرَ مُعْتَمِدٍ عَلَى الْأَدَاةِ نَحْوِ: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زيد خَيْرٍ مِنْ عَمْرٍو. وَالْمَفْعُولُ لَهُ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَهْلَكْنَا. وَيَتَخَرَّجُ جَوَازُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ، وَإِنْ كَانَا لَمْ يَنُصَّا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ بِخُصُوصِيَّتِهِ.
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ، فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ، وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ، وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا
لَا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَقُولُونَ: إِنَّ لِمُحَمَّدٍ تَابِعًا مِنَ الْجِنِّ يُخْبِرُهُ كَمَا يُخْبَرُ الْكَهَنَةُ، فَنَزَلَتْ
، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، بَلْ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:
الشَّيَاطُونَ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الْبَقَرَةِ، وَقَدْ رَدَّهَا أَبُو حَاتِمٍ والقراءة قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ غَلَطٌ مِنْهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هُوَ غَلَطٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: غَلِطَ الشَّيْخُ، ظَنَّ أَنَّهَا النُّونُ الَّتِي عَلَى هَجَائِنَ. فَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: أَنَّ جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الْعَجَّاجِ وَرُؤْبَةَ، فَهَلَّا جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَصَاحِبِهِ، يُرِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ السَّمَيْفَعِ، مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْرَآ بِهَا إِلَّا وَقَدْ سَمِعَا فِيهِ؟ وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: دَخَلْتُ بَسَاتِينَ مِنْ وَرَائِهَا بَسَاتُونَ، فَقُلْتُ: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِقِرَاءَةِ الْحَسَنِ. انْتَهَى. وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ آخِرُهُ كَآخِرِ يَبْرِينَ وَفِلَسْطِينَ، فَكَمَا أُجْرِيَ إِعْرَابُ هَذَا عَلَى النُّونِ تَارَةً وَعَلَى مَا قَبْلَهُ تَارَةً فَقَالُوا: يَبْرِينَ وَيَبْرُونَ وَفِلَسْطِينَ وَفِلَسْطُونَ أُجْرِيَ ذَلِكَ فِي الشَّيَاطِينِ تَشْبِيهًا بِهِ فَقَالُوا: الشَّيَاطِينَ وَالشَّيَاطُونَ. وَقَالَ أَبُو فَيْدٍ مُؤَرِّجٌ السَّدُوسِيُّ: إِنْ كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ شَاطَ، أَيِ احْتَرَقَ، يَشِيطُ شَوْطَةً، كَانَ لِقِرَاءَتِهِمَا وَجْهٌ. قِيلَ: وَوَجْهُهَا أَنَّ بِنَاءَ الْمُبَالِغَةِ مِنْهُ شَيَّاطٌ، وَجَمْعُهُ الشَّيَّاطُونَ، فَخَفَّفَا الْيَاءَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا التَّشْدِيدُ، وَقَرَأَ بِهِ غَيْرُهُمَا. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الشَّيَاطُونَ، كَمَا قَرَأَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ السَّمَيْفَعِ. فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنْ نَقَلَةِ الْقُرْآنِ، قرأوا ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ غَلِطُوا، لِأَنَّهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَنَقْلِ الْقُرْآنِ بِمَكَانٍ. وَمَا أَحْسَنَ مَا تَرَتَّبَ نَفْيُ هَذِهِ الْجُمَلِ نَفَى أَوَّلًا تَنْزِيلَ الشَّيَاطِينِ بِهِ، وَالنَّفْيُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ فِي الْمُمْكِنِ، وَإِنْ كَانَ هُنَا لَا يُمْكِنُ مِنَ الشَّيَاطِينِ التَّنَزُّلُ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ نَفَى انْبِغَاءَ ذَلِكَ وَالصَّلَاحِيَةَ، أَيْ وَلَوْ فُرِضَ الْإِمْكَانُ لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لَهُ، ثُمَّ نَفَى قُدْرَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِمُ التَّنَزُّلُ بِهِ، فَارْتَقَى مِنْ نَفْيِ الْإِمْكَانِ إِلَى نَفْيِ الصَّلَاحِيَةِ إِلَى نَفْيِ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ فِي نَفْيِ تَنْزِيلِهِمْ بِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ انْتِفَاءَ ذَلِكَ عَنِ اسْتِمَاعِ كَلَامِ أَهْلِ السَّمَاءِ مَرْجُومُونَ بِالشُّهُبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ: وَالْخِطَابُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلسَّامِعِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنْ كَفَرَ: لَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ، وَالْعَشِيرَةُ تَحْتَ الْفَخِذِ وَفَوْقَ الْفَصِيلَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعَشِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِإِنْذَارِ النَّاسِ كَافَّةً. كَمَا
قَالَ: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ «1» ، لِأَنَّ فِي إِنْذَارِهِمْ، وَهُمْ عَشِيرَتُهُ، عَدَمُ مُحَابَاةٍ وَلُطْفٍ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ شَرْعٌ وَاحِدٌ فِي التَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ. فَإِذَا كَانَتِ الْقَرَابَةُ قَدْ خُوِّفُوا وَأُنْذِرُوا مَعَ مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ فِي حَقِّهِمْ مِنَ الرَّأْفَةِ، كَانَ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ أَوْكَدَ وَأَدْخَلَ، أَوْ لِأَنَّ الْبَدَاءَةَ تَكُونُ بِمَنْ يَلِيهِ ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ «2» .
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ: «كُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، فَأَوَّلُ مَا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ، إِذِ الْعَشِيرَةُ مَظِنَّةُ الطَّوَاعِيَةِ، وَيُمْكِنُهُ مِنَ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ مَا لَا يُمْكِنُهُ مَعَ غَيْرِهِمْ، وَهُمْ لَهُ أَشَدُّ احْتِمَالًا» . وَامْتَثَلَ صلى الله عليه وسلم مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنْ إِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ، فَنَادَى الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ فَخِذًا.
وَرُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمَلِ فِي آخِرِ الْحِجْرِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّوَاضُعِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ
…
فَلَا تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلَا
نَهَاهُ عَنِ التَّكَبُّرِ بَعْدَ التَّوَاضُعِ. وَالْأَجْدَلُ: الصقر، ومن الْمُؤْمِنِينَ عَامٌّ فِي عَشِيرَتِهِ وَغَيْرِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ الْإِنْذَارُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِمَّا الطَّاعَةُ وَإِمَّا الْعِصْيَانُ، جَاءَ التَّقْسِيمُ عَلَيْهِمَا، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى:
أَنَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مُؤْمِنًا، فَتَوَاضَعْ لَهُ فَلِذَلِكَ جَاءَ قَسِيمُهُ: فَإِنْ عَصَوْكَ فَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَفِي هَذَا موادعة نسختها آية السيف. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي عَصَوْكَ، عَلَى أَنَّ مَنْ أُمِرَ بِإِنْذَارِهِمْ، وَهُمُ العشيرة، والذي برىء مِنْهُ هُوَ عِبَادَتُهُمُ الْأَصْنَامَ وَاتِّخَاذُهُمْ إِلَهًا آخَرَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ فَإِنْ عَصَوْكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْأَحْكَامِ وَفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، بَعْدَ تَصْدِيقِكَ وَالْإِيمَانِ بِكَ، فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، لَا مِنْكُمْ، أَيْ أَظْهِرْ عَدَمَ رِضَاكَ بِعَمَلِهِمْ وَإِنْكَارَكَ عَلَيْهِمْ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، مَا بَقِيَ بَعْدَ هَذَا شَفِيعًا لِلْعُصَاةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّوَكُّلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ:
فَتَوَكَّلْ بِالْفَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْوَاوِ. وَنَاسَبَ الْوَصْفُ بِالْعَزِيزِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، وَبِالرَّحِيمِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُكَ. وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ هُمَا اللَّتَانِ جَاءَتَا فِي أَوَاخِرِ قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ. فَالتَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ هُوَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ كَافِيهِ شر من بعضه مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَهُوَ يَقْهَرُ أَعْدَاءَكَ بِعِزَّتِهِ، وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ. وَالتَّوَكُّلُ هُوَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ الْأَمْرَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ. ثُمَّ وُصِفَ بِأَنَّهُ الَّذِي أَنْتَ مِنْهُ بِمَرْأًى، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِكَ أَنْ أهلك لعبادته،
(1) سورة يونس: 10/ 2.
(2)
سورة التوبة: 9/ 123.
وَمَا تَفْعَلُهُ مِنْ تَهَجُّدِكَ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى حِينَ تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَقَلُّبَكَ مَصْدَرُ تَقَلَّبَ، وَعُطِفَ عَلَى الْكَافِ فِي يَراكَ
. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: وَتَقَلُّبَكَ مُضَارِعُ قَلَّبَ مُشَدَّدًا، عَطْفًا عَلَى يَراكَ
. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فِي السَّاجِدِينَ: فِي الْمُصَلِّينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي أَصْلَابِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ حَتَّى خَرَجْتَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَرَاكَ قَائِمًا وَسَاجِدًا. وَقِيلَ: مَعْنَى تَقُومُ
: تَخْلُو بِنَفْسِكَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْمُرَادُ تَقَلُّبُ بَصَرِهِ فِيمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ، كَمَا
قَالَ: «أَتِمُّوا الركوع والسجود فو الله إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِي» .
وَفِي الْوَجِيزِ لِابْنِ عَطِيَّةَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ يُرِيدُ قِيَامَ الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَفِي السَّاجِدِينَ:
أَيْ صَلَاتَكَ مَعَ الْمُصَلِّينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ: أَرَادَ وَتَقَلُّبَكَ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالسَّاجِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَرَادَ الْأَنْبِيَاءَ، أَيْ تَقَلُّبَكَ كَمَا تَقَلَّبَ غَيْرُكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ قِيَامِهِ لِلتَّهَجُّدِ، وَتَقَلُّبِهِ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِ الْمُتَهَجِّدِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، لِيَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَيَسْتَبْطِنَ سَرَائِرَهُمْ وَكَيْفَ يَعْمَلُونَ لِآخِرَتِهِمْ. كَمَا
يُحْكَى أَنَّهُ حِينَ نُسِخَ فَرْضُ قِيَامِ اللَّيْلِ، طَافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِبُيُوتِ أَصْحَابِهِ لِيَنْظُرَ مَا يَصْنَعُونَ، بِحِرْصِهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَا يُوجَدُ مِنْهُمْ مِنْ فَعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَكْثِيرِ الْحَسَنَاتِ، فَوَجَدَهَا كَبُيُوتِ الزَّنَابِيرِ، لِمَا سَمِعَ مِنْ دَنْدَنَتِهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالتِّلَاوَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّاجِدِينَ: الْمُصَلُّونَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ جَمَاعَةً، وَتَقَلُّبُهُ فِي السَّاجِدِينَ: تَصَرُّفُهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِقِيَامِهِ وَرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَقُعُودِهِ إِذَا أَمَّهُمْ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ رضي الله عنه: هَلْ تَجِدُ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ؟ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَخْفَى عَلَيَّ حَالُكَ كُلَّمَا قُمْتَ وَتَقَلَّبْتَ مَعَ السَّاجِدِينَ فِي كِفَايَةِ أُمُورِ الدِّينِ. انْتَهَى.
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُهُ، الْعَلِيمُ بما تنوبه وَتَعْمَلُهُ، وَذَهَبَتِ الرَّافِضَةُ إِلَى أَنَّ آبَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قَالُوا:
فَاحْتَمَلَ الْوُجُوهَ الَّتِي ذُكِرَتْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ رُوحَهُ مِنْ سَاجِدٍ إِلَى سَاجِدٍ، كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ. فَإِذَا احْتَمَلَ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكُلِّ ضَرُورَةً، لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ وَلَا رُجْحَانَ.
وَبِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَافِرًا فَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
» «1»
فَأَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ «2» ، فَلَفْظُ الْأَبِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمِّ، كَمَا قَالُوا أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ لَهُ: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «3» ،. سَمَّوْا إِسْمَاعِيلَ أَبًا مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَمًّا لَهُ.
قُلْ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ: أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْقِيفٍ وَتَقْرِيرٍ.
وَعَلَى مَنْ مُتَعَلِّقٌ بتنزل، وَالْجُمْلَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأُنَبِّئُكُمْ، لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أُعْلِمُكُمْ، فَإِنْ قَدَّرْتَهَا مُتَعَدِّيَةً لِاثْنَيْنِ، كَانَتْ سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَإِنْ قَدَّرْتَهَا مُتَعَدِّيَةً لِثَلَاثَةٍ، كَانَتْ سَادَّةً مَسَدَّ الِاثْنَيْنِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا عُلِّقَ عَنْهُ الْعَامِلُ، لَا يَبْقَى عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ وهو الاستعلام، بل يؤول مَعْنَاهُ إِلَى الْخَبَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: عَلِمْتُ أَزْيَدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو، كَانَ الْمَعْنَى: عَلِمْتَ أَحَدَهُمَا فِي الدَّارِ؟ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ عِلْمٌ، ثُمَّ اسْتَعْلَمَ الْمُخَاطَبَ عَنْ تَعْيِينِ مَنْ فِي الدَّارِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَالْمَعْنَى هُنَا: هَلْ أُعْلِمُكُمْ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ عَلَيْهِ؟ لَا أَنَّهُ اسْتَعْلَمَ الْمُخَاطَبِينَ عَنِ الشَّخْصِ الَّذِي تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هَذَا، جَاءَ الْإِخْبَارُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِكَذَا؟ قِيلَ لَهُ: أَخْبِرْ، فَقَالَ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْإِفْكِ، وَهُوَ الْكَذِبُ، أَثِيمٌ: كَثِيرُ الْإِثْمِ. فَأَفَّاكٌ أَثِيمٌ: صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ، وَالْمُرَادُ الْكَهَنَةُ.
وَالضَّمِيرُ فِي يُلْقُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الشَّيَاطِينِ، أَيْ يُنْصِتُونَ وَيُصْغُونَ بِأَسْمَاعِهِمْ، لِيَسْتَرِقُوا شَيْئًا مِمَّا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، حَتَّى يَنْزِلُوا بِهَا إِلَى الْكَهَنَةِ، أَوْ: يُلْقُونَ السَّمْعَ:
أَيِ الْمَسْمُوعَ إِلَى مَنْ يَتَنَزَّلُونَ عَلَيْهِ. وَأَكْثَرُهُمْ: أَيْ وَأَكْثَرُ الشَّيَاطِينِ الْمُلْقِينَ كاذِبُونَ. فَعَلَى مَعْنَى الْإِنْصَاتِ يَكُونُ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، وَعَلَى إِلْقَاءِ الْمَسْمُوعِ إِلَى الْكَهَنَةِ احْتَمَلَ الِاسْتِئْنَافَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَيْ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ مُلْقِينَ مَا سَمِعُوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي يُلْقُونَ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ، لِأَنَّ كُلَّ أَفَّاكٍ فِيهِ عُمُومٌ وَتَحْتَهُ أَفْرَادٌ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يُلْقُونَ سَمْعَهُمْ إِلَى الشَّيَاطِينِ، لِيَنْقُلُوا عَنْهُمْ مَا يُقَرِّرُونَهُ فِي أَسْمَاعِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ يُلْقُونَ السَّمْعَ، أَيِ الْمَسْمُوعَ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى النَّاسِ وَأَكْثَرُهُمْ، أَيْ أَكْثَرُ الْكَهَنَةِ كَاذِبُونَ. كَمَا
جَاءَ أَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كذبة.
فإذا صدقت
(1) سورة التوبة: 9/ 28.
(2)
سورة الأنعام: 6/ 74.
(3)
سورة البقرة: 2/ 133.
تِلْكَ الْكَلِمَةُ، - كَانَتْ سَبَبَ ضَلَالَةٍ لِمَنْ سَمِعَهَا. وَعَلَى كَوْنِ الضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ، احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ يُلْقُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ عَنِ الْأَفَّاكِينَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِكُلِّ أَفَّاكٍ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: كُلِّ أَفَّاكٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ، لِأَنَّ الْأَفَّاكَ هُوَ الَّذِي يُكْثِرُ الْكَذِبَ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ إِلَّا بِالْإِفْكِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَفَّاكِينَ مَنْ صَدَقَ مِنْهُمْ فِيمَا يَحْكِي عَنِ الْجِنِّيِّ، فَأَكْثَرُهُمْ مُغْتَرٌّ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، لِمَ فَرَّقَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَخْوَانِ؟ قُلْتُ: أُرِيدَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُنَّ بِآيَاتٍ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُنَّ، لِيُرْجَعَ إِلَى الْمَجِيءِ بِهِنَّ، وَيُطْرِيهِ ذِكْرُ مَا فِيهِنَّ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، فَيَدُلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي نُزِّلْنَ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي أَسْنَدَتْ كَرَاهَةَ الله لها، وَمِثَالُهُ: أَنْ يُحَدِّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ، وَفِي صَدْرِهِ اهْتِمَامٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَفَضْلُ عِنَايَةٍ، فَتَرَاهُ يُعِيدُ ذِكْرَهُ وَلَا يَنْفَكُّ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ. انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ الْكَهَنَةَ بِإِفْكِهِمُ الْكَثِيرِ وَحَالِهِمُ الْمُقْتَضِيَةِ، نَفْيَ كَلَامِ الْقُرْآنِ، إِذْ كَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ قَالَ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ شِعْرٌ، كَمَا قَالُوا فِي الرَّسُولِ: إِنَّهُ كَاهِنٌ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ هُوَ مِنْ بَابِ الْكَهَانَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ «1» ، وَقَالَ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ «2» .
فَقَالَ: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. قِيلَ: هِيَ فِي أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَبِي عَزَّةَ، وَمُسَافِعٍ الْجُمَحِيِّ، وَهُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَابْنِ الزِّبَعْرَى.
وَقَدْ أَسْلَمَ ابْنُ الزِّبَعْرَى وَأَبُو سُفْيَانَ. وَالشُّعَرَاءُ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَاعِرٍ، وَالْمَذْمُومُ مَنْ يَهْجُو وَيَمْدَحُ شَهْوَةً مُحَرَّمَةً، وَيَقْذِفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَيَقُولُ الزُّورَ وَمَا لَا يَسُوغُ شَرْعًا. وَقَرَأَ عِيسَى:
وَالشُّعَرَاءَ: نَصْبًا عَلَى الِاشْتِغَالِ وَالْجُمْهُورُ: رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَنَافِعٌ يَتْبَعُهُمْ مُخَفَّفًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ مُشَدَّدًا وَسَكَّنَ الْعَيْنَ:
الْحَسَنُ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَرَوَى هَارُونُ: نَصْبَهَا عَنْ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ مُشْكِلٌ.
وَالْغاوُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّوَاةُ، وَقَالَ أَيْضًا: الْمُسْتَحْسِنُونَ لِأَشْعَارِهِمْ، الْمُصَاحِبُونَ لَهُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الرَّعَاعُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّاعِرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: الشَّيَاطِينُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: السُّفَهَاءُ الْمُشْرِكُونَ يَتَّبِعُونَ شُعَرَاءَهُمْ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ: تَمْثِيلٌ لِذَهَابِهِمْ فِي كُلِّ شِعْبٍ من القول،
(1) سورة الحاقة: 69/ 69.
(2)
سورة الحاقة: 69/ 41.
وَاعْتِسَافِهِمْ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِمْ بِالْغُلُوِّ فِي الْمَنْطِقِ، وَمُجَاوَزَةِ حَدِّ الْقَصْدِ فِيهِ، حَتَّى يُفَضِّلُوا أَجْبَنَ النَّاسِ عَلَى عَنْتَرَةَ، وَأَشَحَّهُمْ عَلَى حَاتِمٍ، وَيُبْهِتُوا الْبَرِيءَ، وَيُفَسِّقُوا التَّقِيَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ تَقْبِيحُهُمِ الْحَسَنَ، وَتَحْسِينُهُمُ الْقَبِيحَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَذَلِكَ لِغُلُوِّهِمْ فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ، وَلَهْجِهِمْ بِالْفَصَاحَةِ وَالْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ، قَدْ يَنْسُبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ما لا يقع منهم. وَقَدْ دَرَأَ الْحَدَّ فِي الْخَمْرِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، عن النُّعْمَانِ بْنِ عَدِيٍّ، فِي شِعْرٍ قَالَهُ لِزَوْجَتِهِ حِينَ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ قَدِ وَلَّاهُ بِيسَانَ، فَعَزَلَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَحُدَّهُ والفرزدق، سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ:
فَبِتْنَ كَأَنَّهُنَّ مُصَرَّعَاتٍ
…
وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: لَقَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ، فَقَالَ: لَقَدْ دَرَأَ اللَّهُ عَنِّي الْحَدَّ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الشُّعَرَاءِ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي تُخَالِفُ حَالَ النُّبُوَّةِ، إِذْ أَمْرُهُمْ، كَمَا ذَكَرَ، مِنَ اتِّبَاعِ الْغُوَاةِ لَهُمْ، وَسُلُوكِهِمْ أَفَانِينَ الْكَلَامِ مِنْ مَدْحِ الشَّيْءِ وَذَمِّهِ، وَنِسْبَةِ مَا لَا يَقَعَ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ حَالِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهَا طَرِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا يتبعها إلا الراشدون. دعوة الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ وَالصِّدْقِ. هَذَا مَعَ أَنَّ مَا جَاءُوا بِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنْ ظُهُورِ الْمُعْجِزِ. وَلَمَّا كَانَ مَا سَبَقَ ذَمًّا لِلشُّعَرَاءِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَغْلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشِّعْرِ وَإِذَا نَظَمُوا شِعْرًا كَانَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى رسوله صلى الله عليه وسلم وَصَحْبِهِ، وَالْمَوْعِظَةِ وَالزُّهْدِ وَالْآدَابِ الْحَسَنَةِ وَتَسْهِيلِ عِلْمٍ، وَكُلِّ مَا يَسُوغُ الْقَوْلُ فِيهِ شَرْعًا فَلَا يَتَلَطَّخُونَ فِي قَوْلِهِ بِذَنْبٍ وَلَا مَنْقَصَةٍ. وَالشِّعْرُ بَابٌ مِنَ الْكَلَامِ، حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ.
وَقَالَ رَجُلٌ عَلَوِيٌّ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: إِنَّ صَدْرِيَ لِيَجِيشُ بِالشِّعْرِ، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ مِنْهُ فِيمَا لَا بَأْسَ بِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُسْتَثْنِينَ: حَسَّانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَكَعْبُ بْنُ زهير، ومن كان ينافخ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
وَقَالَ عليه السلام لِكَعْبِ بْنِ مالك: «اهجهم فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبْلِ» .
وَقَالَ لِحَسَّانَ: «قُلْ وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ»
، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَانْتَصَرُوا: أَيْ بِالْقَوْلِ فِيمَنْ ظَلَمَهُمْ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا ذَمَّ الشُّعَرَاءَ بِقَوْلِهِ: وَالشُّعَراءُ الْآيَةَ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَّانَ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام، فَنَزَلَتْ آيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَدِينَةِ، وَخَصَّ ابْنُ زَيْدٍ قَوْلَهُ: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً، فَقَالَ: أَيْ فِي شِعْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ
خُلُقًا لَهُمْ وَعَادَةٌ، كَمَا قَالَ لَبِيَدٌ، حِينَ طُلِبَ مِنْهُ شِعْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَنِي بِالشِّعْرِ الْقُرْآنَ خَيْرًا مِنْهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، تَوَعَّدَ الظَّالِمِينَ هَذَا التَّوَعُّدَ الْعَظِيمَ الْهَائِلَ الصَّادِعَ لِلْأَكْبَادِ وَأَبْهَمَ فِي قَوْلِهِ: أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
وَلَمَّا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رضي الله عنهما، تَلَا عَلَيْهِ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَتَوَاعَظُونَ بِهَا. وَالْمَفْهُومُ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا هُمْ الْكُفَّارُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَفْسِيرُ الظُّلْمِ بِالْكُفْرِ تَعْلِيلٌ، وَكَانَ ذَكَرَ قَبْلُ أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مُطْلَقٌ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ أَرْقَمَ، عَنِ الْحَسَنِ:
أَيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ، بِفَاءٍ وَتَاءَيْنِ، مَعْنَاهُ: إِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَنْفَلِتُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَسَيَعْلَمُونَ أَنْ لَيْسَ لَهُمْ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الِانْفِلَاتِ، وَهُوَ النَّجَاةُ. وَسَيَعْلَمُ هُنَا مُعَلَّقَةٌ، وَأَيَّ مُنْقَلَبٍ: اسْتِفْهَامٌ، وَالنَّاصِبُ لَهُ يَنْقَلِبُونَ، وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لسيعلم. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْ مُنْقَلَبٍ مَصْدَرٌ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالْعَامِلُ يَنْقَلِبُونَ انْقِلَابًا، أَيَّ مُنْقَلَبٍ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ يَعْلَمُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ.
انْتَهَى. وَهَذَا تَخْلِيطٌ، لأن أيا، إِذَا وُصِفَ بِهَا، لَمْ تَكُنِ اسْتِفْهَامًا، بَلْ أَيُّ الْمَوْصُوفِ بِهَا قَسَمٌ لِأَيِّ الْمُسْتَفْهَمِ بِهَا، لَا قَسَمٌ. فَأَيُّ تَكُونُ شَرْطِيَّةً وَاسْتِفْهَامِيَّةً وَمَوْصُولَةً، وَوَصْفًا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ مَوْصُوفَةً بِنَكِرَةٍ نَحْوَ: مَرَرْتُ بِأَيٍّ مُعَجِّبٍ لَكَ، وَتَكُونُ مُنَادَاةً وَصْلَةٌ لِنِدَاءِ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ نَحْوَ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ. وَالْأَخْفَشُ يَزْعُمُ أَنَّ الَّتِي فِي النِّدَاءِ مَوْصُولَةٌ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا قَسَمٌ بِرَأْسِهِ، وَالصِّفَةِ تَقَعُ حَالًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ، فَهَذِهِ أَقْسَامُ أَيٍّ فَإِذَا قُلْتَ: قَدْ عَلِمْتَ أَيَّ ضَرْبٍ تَضْرِبُ، فَهِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، لَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ محذوف.