الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّ الْخَلِيطُ أَجَدُّوا الْبَيْنَ فَانْجَرَدُوا وَقَدْ تَأَوَّلَ خَالِدُ بْنُ كُلْثُومٍ قَوْلَهُ عِدَا الْأَمْرِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ عُدْوَةٍ، وَالْعُدْوَةُ النَّاحِيَةُ كَأَنَّ الشَّاعِرَ أَرَادَ نَوَاحِيَ الْأَمْرِ وَجَوَانِبَهُ.
يَخافُونَ يَوْماً هُوَ يوم القيامة، والظاهر أن مَعْنَى تَتَقَلَّبُ تَضْطَرِبُ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «1» فَتَقَلُّبُهَا هُوَ قَلَقُهَا وَاضْطِرَابُهَا، فَتَتَقَلَّبُ مِنْ طَمَعٍ فِي النَّجَاةِ إِلَى طَمَعٍ وَمِنْ حَذَرِ هَلَاكٍ إِلَى هَلَاكٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي الْحُرُوبِ كَقَوْلِهِ:
بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ طَائِرِ وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ تَتَقَلَّبُ عَلَى جَمْرِ جَهَنَّمَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَلْ بَعْدَهُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ تَقَلُّبَهَا ظُهُورُ الْحَقِّ لَهَا أَيْ فَتَتَقَلَّبُ عَنْ مُعْتَقَدَاتِ الضَّلَالِ إِلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِهِ فَتَفْقَهُ الْقُلُوبُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَطْبُوعًا عَلَيْهَا، وَتُبْصِرُ الْأَبْصَارُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عُمْيًا وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي التَّهْوِيلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: تَقَلَّبُ بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي التَّاءِ.
وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَهُمُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيَجْزِيَهُمُ وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِيُسَبِّحُ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى يُسَبِّحُونَ وَيَخَافُونَ لِيَجْزِيَهُمُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ يَخافُونَ صِفَةٌ لِرِجَالٍ كَمَا أَنَّ لَا تُلْهِيهِمْ كَذَلِكَ. أَحْسَنَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ثَوَابَ أَحْسَنِ مَا عَمِلُوا، أَوْ أَحْسَنَ جَزَاءِ مَا عَمِلُوا.
وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ أَعْمَالُهُمْ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ أَبَدًا فِي مَزِيدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَجْزِيَهُمُ ثَوَابَهُمْ مُضَاعَفًا وَيَزِيدَهُمْ عَلَى الثَّوَابِ تَفْضِيلًا وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ الْحُسْنى «2» وَزِيَادَةٌ الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى، وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا مِنَ التَّفَضُّلِ وَعَطَاءِ اللَّهِ عز وجل إِمَّا تَفَضُّلٌ وَإِمَّا ثَوَابٌ وَإِمَّا عِوَضٌ.
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ بِغَيْرِ حِسابٍ فَأَمَّا الثَّوَابُ فَلَهُ حَسَنَاتٌ لِكَوْنِهِ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ.
[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
(1) سورة الأحزاب: 33/ 10.
(2)
سورة النساء: 4/ 95 وغيرها.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَةَ الْإِيمَانِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَنْوِيرَهُ قُلُوبَهُمْ وَوَصْفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ فِي الْآخِرَةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مُقَابِلِهِمُ الْكَفَرَةِ وَأَعْمَالِهِمْ، فَمَثَّلَ لَهُمْ وَلِأَعْمَالِهِمْ مَثَلَيْنِ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا. وَالثَّانِي يَقْتَضِي حَالَهَا فِي الدُّنْيَا مِنِ ارْتِبَاكِهَا فِي الضَّلَالِ وَالظُّلْمَةِ شَبَّهَ أَوَّلًا أَعْمَالَهُمْ فِي اضْمِحْلَالِهَا وَفُقْدَانِ ثَمَرَتِهَا بِسَرَابٍ فِي مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ ظَنَّهُ الْعَطْشَانُ مَاءً فَقَصَدَهُ وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ.
حَتَّى إِذا جاءَهُ أَيْ جَاءَ مَوْضِعَهُ الَّذِي تَخَيَّلَهُ. فِيهِ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أَيْ فَقَدَهُ لِأَنَّهُ مَعَ الدُّنُوِّ لَا يَرَى شَيْئًا. كَذَلِكَ الْكَافِرُ يَظُنُّ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا نَافِعُهُ حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ بَلْ صَارَ وَبَالًا عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ: بِقِيعَاتٍ بِتَاءٍ مَمْطُوطَةٍ جَمْعُ قِيعَةٍ كَدِيمَاتٍ وَقِيمَاتٍ فِي دِيمَةٍ وَقِيمَةٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا بِتَاءٍ شَكْلِ الْهَاءِ وَيَقِفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ قِيعَةٍ، وَوَقَفَ بِالْهَاءِ عَلَى لغة طيء كَمَا قَالُوا الْبَنَاهُ وَالْأَخَوَاهُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ قِيعَةً كَالْعَامَّةِ أَيْ كَالْقِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، لَكِنَّهُ أَشْبَعَ الْفَتْحَةَ فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا الألف مثل مخر نبق لِيَنْبَاعَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ بِقِيعَاتٍ بِتَاءٍ مَمْدُودَةٍ كَرَجُلٍ عِزْهَاةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنَّهُ جَعَلَهُ مِثْلَ سَعْلَةٍ وَسَعْلَاةٍ وَلَيْلَةٍ وَلَيْلَاةٍ، وَالْقِيعَةُ مُفْرَدٌ مُرَادِفٌ لِلْقَاعِ أَوْ جَمْعُ قَاعٍ كَنَارٍ وَنِيرَةٍ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ قِيعَاتٍ جَمْعَ صِحَّةٍ تَنَاوَلَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ مِثْلَ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ وَجِمَالَاتٍ صُفْرٍ.
وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا الظَّمَّانُ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الْمِيمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ هُوَ مِنْ صِفَاتِ السَّرَابِ وَلَا يَعْنِي إِلَّا مُطْلَقَ الظَّمْآنُ لَا الْكَافِرَ الظَّمْآنُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَ مَا يَعْمَلُهُ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ الْإِيمَانَ وَلَا يَتَّبِعُ الْحَقَّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَحْسَبُهَا أَنْ تَنْفَعَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَتُنْجِيَهُ مِنْ عَذَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَخِيبُ فِي الْعَاقِبَةِ أَمَلُهُ وَيَلْقَى خِلَافَ مَا قَدَّرَ بِسَرَابٍ يَرَاهُ الْكَافِرُ بِالسَّاهِرَةِ وَقَدْ غَلَبَهُ عَطَشُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَحْسَبُهُ مَاءً، فَيَأْتِيهِ فَلَا يَجِدُ مَا رَجَاهُ ويجد ربانية اللَّهِ عِنْدَهُ، يَأْخُذُونَهُ وَيَعْتِلُونَهُ وَيَسْقُونَهُ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ «1»
(1) سورة الغاشية: 88/ 3.
وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «1» وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «2» . وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ كَانَ قَدْ تَعَبَّدَ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَالْتَمَسَ الدِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ كَفَرَ فِي الْإِسْلَامِ انْتَهَى. فَجَعَلَ الظَّمْآنُ هُوَ الْكَافِرَ حَتَّى تَطَّرِدَ الضَّمَائِرُ فِي جاءَهُ ولَمْ يَجِدْهُ وَوَجَدَ وعِنْدَهُ وفَوَفَّاهُ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَغَيْرُهُ غَايَرَ بَيْنَ الضَّمَائِرِ فَالضَّمِيرُ فِي جاءَهُ ولَمْ يَجِدْهُ لِلظَّمْآنِ. وَفِي وَوَجَدَ لِلْكَافِرِ الَّذِي ضَرَبَ لَهُ مثلا بالظمئان، أَيْ وَوَجَدَ هَذَا الْكَافِرُ وَعْدَ اللَّهِ بِالْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِهِ بِالْمِرْصَادِ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ عَمَلَهُ الَّذِي جَازَاهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي وَوَجَدَ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْجَمْعِ حَمْلًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكُفَّارُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي جاءَهُ عَلَى السَّرَابِ. ثُمَّ فِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ كَثِيرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَظُنُّ عَمَلَهُ نَافِعًا حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَيَحْتَمِلُ الضَّمِيرِ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَعْمالُهُمْ وَيَكُونُ تَمَامُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ مَاءً وَيَسْتَغْنِي الْكَلَامُ عَنْ مَتْرُوكٍ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لَكِنْ يَكُونُ فِي الْمَثَلِ إِيجَازٌ وَاقْتِضَابٌ لِوُضُوحِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهِ.
وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أَيْ بِالْمُجَازَاةِ، وَالضَّمِيرُ فِي عِنْدَهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَمَلِ انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ أَعْمَالَهُمْ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا بِسَرَابٍ صِفَتُهُ كَذَا، وَأَنَّ الضَّمَائِرَ فِيمَا بَعْدَ الظَّمْآنُ لَهُ. وَالْمَعْنَى فِي وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أَيْ وَوَجَدَ مَقْدُورَ اللَّهَ عَلَيْهِ مِنْ هَلَاكٍ بِالظَّمَأِ عِنْدَهُ أَيْ عِنْدَ مَوْضِعِ السَّرَابِ فَوَفَّاهُ مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ الْمَحْسُوبُ لَهُ، وَاللَّهُ مُعَجِّلٌ حِسَابَهُ لَا يُؤَخِّرُهُ عَنْهُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُتَنَاسِقًا آخِذًا بَعْضُهُ بِعُنُقِ بَعْضٍ. وَذَلِكَ بِاتِّصَالِ الضَّمَائِرِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيَكُونُ هَذَا التَّشْبِيهُ مُطَابِقًا لِأَعْمَالِهِمْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوهَا نَافِعَةً فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ وَحَصَلَ لَهُمُ الْهَلَاكُ بِإِثْرِ مَا حُوسِبُوا.
وَأَمَّا فِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَإِنَّهُ وَإِنْ جَعَلَ الضَّمَائِرَ لِلظَّمْآنِ لَكِنَّهُ جَعَلَ الظَّمْآنُ هُوَ الْكَافِرَ وَهُوَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ. وَشَبَّهَ الْمَاءَ بَعْدَ الْجَهْدِ بِالْمَاءِ. وَأَمَّا فِي قَوْلِ غَيْرِهِ: فَفِيهِ تَفْكِيكُ الْكَلَامِ إِذْ غَايَرَ بَيْنَ الضَّمَائِرِ وَانْقَطَعَ تَرْصِيفُ الْكَلَامِ بِجَعْلِ بَعْضِهِ مُفْلِتًا مِنْ بَعْضٍ.
أَوْ كَظُلُماتٍ هَذَا التَّشْبِيهُ الثَّانِي لِأَعْمَالِهِمْ فَالْأَوَّلُ فِيمَا يؤول إِلَيْهِ أَعْمَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الثَّانِي فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ فِي حَالِ الدُّنْيَا. وَبَدَأَ بِالتَّشْبِيهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ آكد في الإخبار
(1) سورة الكهف: 18/ 104.
(2)
سورة الفرقان: 25/ 23.
لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ ما يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ الدَّائِمِ وَالْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ. ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِهَذَا التَّمْثِيلِ الَّذِي نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا هِيَ أَعْمَالُهُمْ عَلَيْهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ وَيُفَكِّرُونَ فِي نُورِ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَضَلَالِهِمْ بِالظُّلُمَاتِ الْمُتَكَاثِفَةِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: التَّقْدِيرُ أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، قَالَ: وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمُضَافِ قَوْلُهُ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ فَالْكِنَايَةُ تَعُودُ إِلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، فَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ لِلْكَافِرِ لَا لِلْأَعْمَالِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيُتَخَيَّلُ فِي تَقْرِيرِ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَوْ هُمْ كَذِي ظُلُمَاتٍ فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ الْأَوَّلُ لِأَعْمَالِهِمْ. وَالثَّانِي لَهُمْ فِي حَالِ ضَلَالِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
فِي التَّقْدِيرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَوْ كَأَعْمَالِ ذِي ظُلُمَاتٍ، فَيُقَدَّرُ ذِي ظُلُمَاتٍ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ إِلَيْهِ، وَيُقَدَّرُ أَعْمَالٌ لِيَصِحَّ تَشْبِيهُ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ بِأَعْمَالِ صَاحِبِ الظُّلْمَةِ إِذْ لَا مَعْنَى لِتَشْبِيهِ الْعَمَلِ بِصَاحِبِ الظُّلُمَاتِ. وَالثَّانِي: لَا حَذْفَ فِيهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ شَبَّهَ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ بِالظُّلْمَةِ فِي حَيْلُولَتِهَا بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ مَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ، فَأَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ فَيَعُودُ إِلَى مَذْكُورٍ حُذِفَ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ إِذَا أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا يَدَهُ.
وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْآيَةُ الْأُولَى فِي ذِكْرِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِيَةُ فِي ذِكْرِ كُفْرِهِمْ وَنَسَّقَ الْكُفْرَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَيْضًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ التَّمْثِيلُ قَدْ وَقَعَ لِأَعْمَالِهِمْ بكفر الكافر وأَعْمالُهُمْ مِنْهَا كُفْرُهُمْ، فَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ أَعْمالُهُمْ بِالظُّلُمَاتِ، وَالْعَطْفُ بِأَوْ هُنَا لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّنْوِيعَ وَالتَّفْصِيلَ لَا أَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَوْ لِلتَّخْيِيرِ عَلَى تَقْدِيرِ شَبِّهْ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ.
وَقَرَأَ سُفْيَانَ بْنُ حُسَيْنٍ أَوْ كَظُلُماتٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ جَعَلَهَا وَاوَ عَطْفٍ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا الْهَمْزَةُ الَّتِي لِتَقْرِيرِ التَّشْبِيهِ الْخَالِي عَنْ مَحْضِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَغْشاهُ عَائِدٌ عَلَى بَحْرٍ لُجِّيٍّ أَيْ يَغْشَى ذَلِكَ الْبَحْرَ أَيْ يُغَطِّي بَعْضُهُ بَعْضًا، بِمَعْنَى أَنْ تَجِيءَ مَوْجَةٌ تَتْبَعُهَا أُخْرَى فَهُوَ مُتَلَاطِمٌ لَا يَسْكُنُ، وَأَخْوَفُ مَا يَكُونُ إِذَا تَوَالَتْ أَمْوَاجُهُ، وَفَوْقَ هَذَا الْمَوْجِ سَحابٌ وَهُوَ أَعْظَمُ لِلْخَوْفِ لِإِخْفَائِهِ النُّجُومَ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا، وَلِلرِّيحِ وَالْمَطَرِ النَّاشِئَيْنِ مَعَ السَّحَابِ. وَمَنْ قَدَّرَ أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي يَغْشاهُ عَلَى ذِي الْمَحْذُوفِ، أَيْ يَغْشَى صَاحِبَ الظُّلُمَاتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَحابٌ بِالتَّنْوِينِ ظُلُماتٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَذِهِ أَوْ تِلْكَ ظُلُماتٌ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ تَكُونَ مبتدأ وبَعْضُها فَوْقَ
بَعْضٍ
مُبْتَدَأٌ وَخَبَرِهِ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ ظُلُماتٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمُسَوِّغِ فِيهِ لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ إِلَّا إِنْ قُدِّرَتْ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ ظُلُمَاتٌ كَثِيرَةٌ أَوْ عَظِيمَةٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ سَحابٌ ظُلُماتٌ بِالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ سَحابٌ بِالتَّنْوِينِ ظُلُماتٌ بِالْجَرِّ بدلا من ظُلُماتٌ وبَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِكَظُلُمَاتٍ.
قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ عَلَى رَفْعِ ظُلُماتٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُها بَدَلًا مِنْهَا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمُرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا ظُلُمَاتٌ، وَأَنَّ بَعْضَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ فَوْقَ بَعْضٍ أَيْ هِيَ ظُلُمَاتٌ مُتَرَاكِمَةٌ وَلَيْسَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ بَعْضَ ظُلُمَاتٍ فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ إِخْبَارٍ بِأَنَّ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ السَّابِقَةَ ظُلُمَاتٌ مُتَرَاكِمَةٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَادَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ نَفْيٍ مُشْبَعًا فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَالْمَعْنَى هُنَا انْتِفَاءُ مُقَارَبَةِ الرُّؤْيَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاءُ الرُّؤْيَةِ ضَرُورَةً وَقَوْلُ مَنِ اعْتَقَدَ زِيَادَةَ يَكَدْ أَوْ أَنَّهُ يَرَاهَا بَعْدَ عُسْرٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَالزِّيَادَةُ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا إِلَّا بَعْدَ الْجَهْدِ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَالْفَرَّاءِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مَعْنَاهُ: إِذَا كَانَ الْفِعْلُ بَعْدَ كَادَ مَنْفِيًّا دَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ نَحْوُ كَادَ زَيْدٌ لَا يَقُومُ، أَوْ مُثْبَتًا دَلَّ عَلَى نَفْيِهِ كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ، وَإِذَا تَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَى كَادَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا تَقُولُ: المفلوخ لَا يَكَادُ يَسْكُنُ فَهَذَا تَضَمَّنَ نَفْيَ السُّكُونِ. وَتَقُولُ: رَجُلٌ مُنْصَرِفٌ لَا يَكَادُ يَسْكُنُ فَهَذَا تَضَمَّنَ إِيجَابَ السُّكُونِ بَعْدَ جَهْدٍ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ الثَّانِيَ هُوَ تَشْبِيهُ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ بِهَذِهِ الظُّلُمَاتِ الْمُتَكَاثِفَةِ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ فِي المعنى بأجزائه لا جزاء الْمُشَبَّهِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَشَبَّهَهَا يَعْنِي أَعْمَالَهُ فِي ظُلْمَتِهَا وسوادها لكونا بَاطِلَةً، وَفِي خُلُوِّهَا عَنْ نُورِ الْحَقِّ بِظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ مِنْ لُجَجِ الْبَحْرِ وَالْأَمْوَاجِ وَالسَّحَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَاحَظَ التَّقَابُلَ فَقَالَ: الظُّلُمَاتُ الْأَعْمَالُ الْفَاسِدَةُ وَالْمُعْتَقَدَاتُ الْبَاطِلَةُ. وَالْبَحْرُ اللُّجِّيُّ صَدْرُ الْكَافِرِ وَقَلْبُهُ، وَالْمَوْجُ الضَّلَالُ وَالْجَهَالَةُ الَّتِي غَمَرَتْ قَلْبَهُ وَالْفِكَرُ الْمُعْوَجَّةُ وَالسَّحَابُ شَهْوَتُهُ فِي الْكُفْرِ وَإِعْرَاضُهُ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مَثَلٌ لِقَلْبِ الْكَافِرِ أَيْ أَنَّهُ يَعْقِلُ وَلَا يُبْصِرُ. وَقِيلَ الظُّلُمَاتُ أَعْمَالُهُ وَالْبَحْرُ هَوَاهُ. الْقِيعَانُ الْقَرِيبُ الْغَرَقِ فِيهِ الْكَثِيرُ الْخَطَرِ، وَالْمَوْجُ مَا يَغْشَى قلبه من
(1) سورة البقرة: 2/ 71.