المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني:التوكل على الله سبحانه وتعالى مع الأخذ بالأسباب - البركة في الرزق والأسباب الجالبة لها في ضوء الكتاب والسنة

[عبد الله السوالمة]

الفصل: ‌المطلب الثاني:التوكل على الله سبحانه وتعالى مع الأخذ بالأسباب

‌المطلب الثّاني:

التّوكُّل على الله سبحانه وتعالى مع الأخذ بالأسباب

حقيقة التوكّل هو اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابد - مع هذا الاعتماد واليقين - من مباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وتعطيل هذه الأسباب يعد قادحًا في نفس التوكل معطلاً للحكمة والشرع1.

ويأتي التوكل بعد حصول التقوى كأثر من آثارها ولازم من لوازمها، ولذا قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3.

فهكذا جعل الله تعالى - في هاتين الآيتين - التوكل بعد التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكل على الله فهو حسبه وكافيه.

قال القرطبي: "التوكل هو: الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو وإعداد

"4 أ?. وقال الإمام القشيري: "اعلم أن التوكل محله القلب، وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب، بعدما يحقق العبد أن الرزق من قبل الله تعالى، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسًّر شيء فبتيسيره"5.

وقد ذكر الله تعالى موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما خوفهم بعض الناس -

1 زاد المعاد (4/15) بتصرف.

2 سورة المائدة: الآية رقم (11) .

3 سورة الطلاق: الآيتان رقم (2-3) .

4 الجامع لأحكام القرآن (4/200) .

5 الجامع لأحكام القرآن (7/9) .

ص: 280

كيدًا بهم - عدوَّهم قريشًا ومن معهم بأنهم قد جمعوا لهم إذ قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 1. فهكذا خوفهم بعض الناس من عدوهم مشركي مكة ومن معهم فما كان من المؤمنين إلا أن قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، توكلوا على الله بعد الأخذ بالأسباب فكفاهم الله ما أهمهم ورد عنهم بأس من أراد كيدهم من المشركين عقب أحُد فانقلبوا بنعمة السلامة، وزيادة من فضل الله مما شروا وتجروا من السوق فربحوا2.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين على ربه، يأمر بالتوكل على الله والانقطاع إليه بعد الأخذ بالأسباب في كل الأحوال، وتصديق ذلك من سنته صلى الله عليه وسلم ما جاء في حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها". أخرجه الطبراني في الأوسط3 والصغير4 ومن طريقه أبو بكر الخطيب5، وأخرجه أيضًا البيهقي6، وابن أبي حاتم7، بهذا اللفظ وقال الطبراني عقبه في الصغير: لم يروه عن هشام بن حسان إلا الفضيل بن عياض، تفرد به إبراهيم بن الأشعث الخراساني. وقال الهيثمي8

1 سورة آل عمران: الآيتان رقم (173-174) .

2 انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/572) باختصار شديد.

3 المعجم الأوسط (4/215-216) .

4 المعجم الصغير (1/116) .

5 تاريخ بغداد (7/196) .

6 شعب الإيمان (2/28، 120) .

7 تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (10/3660) .

8 مجمع الزوائد (10/303-304) .

ص: 281

بعد أن عزاه للطبراني في الأوسط: فيه إبراهيم بن الأشعث صاحب الفضيل، وهو ضعيف، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يُغرب ويخطئ ويخالف، وبقية رجاله ثقات.

قلت: ويشهد لهذا الحديث ما ذكر بعده من أحاديث كما يشهد له ظاهر القرآن، والله أعلم.

وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا عند كل من: أبي داود1، والترمذي2، وأحمد3، والطبراني4، والحاكم5 بلفظ:"من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل"، وفي لفظ آخر:"من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنًا من أن لا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله آتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل". اللفظ الأول للترمذي، واللفظ الآخر لأحمد، والباقون بنحوه عندهما. وقال الترمذي بعده:"حديث حسن صحيح غريب". وقال الحاكم عقبه: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.

فبين في هذا الحديث أن من حصل له حاجة شديدة من فقر أو ضيق معيشة فعرضها على الناس وأظهرها بطريق الشكاية لهم، وطلب إزالة فاقته منهم لم تسدَّ فاقته ولم تقض حاجته، وهكذا كلما سد حاجة أصابته أخرى أشد منها. لكن إذا أنزلها بالله واعتمد على مولاه فإن الله يعجل له ويسرع برزق عاجل أي يسار وغنى، أو بموت قريب له غني فيرثه6.

1 السنن، كتاب الزكاة، باب في الاستعفاف (2/122) .

2 الجامع. كتاب الفتن،، باب ما جاء في هم الدنيا (6/617-618) .

3 المسند (1/389، 442) .

4 المعجم الكبير (10/15) .

5 المستدرك (1/408) .

6 انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (6/618-619) بتصرف.

ص: 282

وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: "يا غلام إني أعلِّمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفَّت الصحف" أخرجه الترمذي1 وأحمد2 وهذا اللفظ للترمذي، ولفظ أحمد قريب منه، وقال الترمذي بعده: حديث حسن صحيح.

كما ذكر الترمذي بعده بنفس الباب حديث أنس رضي الله عنه: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: "اعقلها وتوكل" يريد ناقته. وقال الترمذي عقبه: "حديث غريب من حديث، أنس لا نعرفه إلا من هذا الوجه".

وعن حبة وسواء ابني خالد رضي الله عنهما قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا، فأعناه عليه، فقال:"لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما، فإن الإنسان تلده أمه أحمر، ليس عليه قشر، ثم يرزقه الله عز وجل" عند كل من: إبن ماجه3، وابن حبان4، وأحمد5، والطبراني6، واللفظ عندهم

1 الجامع، كتاب القيامة، باب منه (7/219-220) .

2 المسند (1/293، 307) .

3 السنن، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (2/1394) .

4 الصحيح (الإحسان)(8/34) رقم (3242) ولفظ ابن حبان: (لا تنافسا في الرزق ما هزت رؤوسكما

) .

5 المسند (3/469) .

6 المعجم الكبير (4/7-8) .

ص: 283

إلا ابن حبان فهو عنده بنحوه. وقال البوصيري1: "إسناد حديثهما صحيح رجاله ثقات"، لكن قال ابن حجر2:"روى الحديث ابن ماجه بإسناد حسن".

قلت: والقلب إلى تحسينه أميل، وذلك لأن سلَاّم3 بن شرحبيل أحد رواته مقبول عند الحافظ ابن حجر، ولم يوثقه سوى ابن حبان، لكنه من التابعين الذين لم يعرفوا بكبير رواية ولم يشتهروا فتقادم العهد بهم، وصعب الاطلاع على حالهم فأجاز العلماء روايتهم واحتملوها.

وروى الترمذي4، وابن ماجه5، وأحمد6، والحاكم7 حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو8 خماصا9، وتروح10 بطانا11". هذا لفظ ابن ماجه وأحمد في الموضع الثاني، وكذا الحاكم، وعند الترمذي وأحمد في الموضع الأول "لو أنكم كنتم توكلون"

1 مصباح الزجاجة (3/284) .

2 الإصابة (1/304) ترجمة حبة بن خالد.

3 انظر ترجمة سلام هذا في التهذيب (4/285) ، تقريب التهذيب (ص 261) .

4 الجامع، كتاب الزهد، باب ما جاء في الزهادة في الدنيا (7/8) .

5 السنن، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (2/1394) .

6 المسند (1/30، 52) .

7 المستدرك (4/318) .

8 الغدو: هو: السير أول النهار نقيض الرواح. النهاية في غريب الحديث (3/346) .

9 خماصًا: أي ضامرة البطون جياعًا. النهاية في غريب الحديث (2/80) .

10 تروح: من الرواح آخر النهار. النهاية في غريب الحديث (2/272) بتصرف.

11 بطانًا: أي ممتلئة البطون. النهاية في غريب الحديث (1/136) .

ص: 284