المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الخامس: شكر الله تعالى وحمده - البركة في الرزق والأسباب الجالبة لها في ضوء الكتاب والسنة

[عبد الله السوالمة]

الفصل: ‌المطلب الخامس: شكر الله تعالى وحمده

صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء". قال العراقي: إسناده صحيح1، وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات2.

وهكذا يظهر جليًا ما للذكر والدعاء من أهمية بالغة في استجلاب الخير والبركة وطرد للمكروه والعوز وإبعاد للشيطان وإرغام له ولجنده. ولهذا لزم الإنسان ملازمة الذكر والدعاء للفوز بالسعادة الأخروية والدنيوية على حد سواء، والله أعلم.

ص: 292

‌المطلب الخامس: شكر الله تعالى وحمده

الشكر: هو استعمال نعم الله تعالى في محابه، كما قال الغزالي3، وقال في موضع آخر:"وجود الزيادة في المال نعمة وشكرها أن تصرف إلى الخيرات أو أن لا تستعمل في المعصية"4. وقال ابن القيم: "الشكر، هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده، ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة"5. وقال القرطبي نحو هذا6.

وقد فرق بعض العلماء جزئيًا بين الحمد والشكر، فجعلوا بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه، لكن رجح أبو جعفر الطبري أن الحمد قد يُنطق به في موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضع الحمد، لأن ذلك لو لم يكن

1 المغني عن حمل الأسفار في الأسفار (1/64) حديث رقم 952.

2 مجمع الزوائد (4/220) .

3 إحياء علوم الدين (4/85) .

4 إحياء علوم الدين (4/131) .

5 مدارج السالكين (2/254) .

6 الجامع لأحكام القرآن (14/264) ، وانظر - أيضاً - فتح الباري (3/15) .

ص: 292

كذلك لما جاز أن يقال: "الحمد لله شكرًا"1.

ولذا فسَّر الطبري {الْحَمْدُ لِلَّه} في سورة الفاتحة بالشكر الخالص لله تعالى بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد2.

قلت: وهذه النعم الكثيرة التي لا تحصى ولا تستقصى ومن جملتها نعمة المال تستوجب الشكر من الخلق للخالق الرازق المتفضل، وهذا الشكر والحمد له سبحانه سبب من أسباب استجلاب الزيادة، وحصول البركة في المال، تفضلاً منه سبحانه وتعالى ونعمة.

قال ابن القيم: "جعل الله الشكر سببًا للمزيد من فضله وحارسًا وحافظًا لنعمته، وموصلاً الشاكر إلى مشكوره بل يعيد الشاكر مشكورًا"3.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أنه يضيق معنى الشكر عند بعض الخلق فيظن أن غايته أن يقول بلسانه الحمد لله، أو الشكر لله، ونحوهما، مع عدم استعانته بالنعمة على المعصية، وإن لم يصرف هذه النعمة إلى الطاعة، وهذا مما لا شك فيه قصور في الفهم، وعن اتباع السلف الصالح.

والشكر- في حقيقة الأمر دائرته - أوسع من ذلك، ومجاله أرحب فالصلاة مثلاً شكر، والصيام شكر، وكل خير يعمله الإنسان لله تعالى شكر، واستحياء العبد من تتابع النعم عليه شكر، واعترافه بالتقصير على شكر المنعم عليه، واعتذاره عن تقصيره أيضا شكر، وتحدثه بنعمة الله شكر، واعترافه بأن النعمة موهبة من الله تعالى مع أنه لا يستحقها شكر، وتواضعه للنعم والتذلل فيها

1 جامع البيان عن تأويل القرآن (1/138) .

2 جامع البيان عن تأويل القرآن (1/135) .

3 مدارج السالكين (2/252) بتصرف يسير.

ص: 293

للمنعم شكر، وقلة اعتراضه وحسن أدبه مع المنعم، وتلقي النعمة بحسن القبول، وإن كانت بسيطة أو قليلة، واستعظامها وعدم احتقارها أو استصغارها شكر، والتيقن بأن الشكر بحد ذاته هو نعمة من الله تعالى وتوفيقه شكر، وأفضل الشكر هو حمد الله تعالى1.

وقد أمر سبحانه وتعالى عباده بالشكر، بل إنه قرن سبحانه وتعالى الشكر بالذكر إذ قال:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} 2. كما وعد بالجزاء على الشكر، بل قطع سبحانه بالمزيد مع الشكر فقال: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} 3. وقال أيضًا: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} 4. وقال أيضًا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} 5. وقال أيضًا: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 6.

وأقوال العلماء المفسرين حول هذه الآيات تؤيد المعاني السابقة في شكر الله سبحانه وتعالى، وتؤكدها، فقد قال أبو جعفر الطبري عند قوله تعالى:{وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} أي لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم، ولكن اشكروا لي عليها، وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم، وأهديكم لما هديت له من رضيت عنه من عبادي، فإني وعدت خلقي أن من شكر لي زدته، ومن كفرني حرمته، وسلبته ما أعطيته7.

1 أشار إلى بعض هذه المعاني ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (3/698) .

2 سورة البقرة: الآية رقم (152) .

3 سورة آل عمران: الآية رقم (145) .

4 سورة إبراهيم: الآية رقم (7) .

5 سورة الضحى: من الآية رقم (11) .

6 سورة سبأ: من الآية رقم (13) .

7 جامع البيان عن تأويل آي القرآن (3/212) .

ص: 294

قلت: وقول أبي جعفر هنا "ومن كفرني" ليس بالضرورة أن يكون هو (الكافر) حقيقة وهو مقابل (المسلم) ، ولكن يريد ما هو أعم من هذا، فيدخل فيه من جحد النعمة فلم يظهرها ويؤدي حقها وشكرها على المعاني السابقة، والله أعلم.

وقال القرطبي معلقًا على الآية الأخرى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} أي لئن شكرتم إنعامي عليكم لأزيدنكم من فضلي، والآية نص في أن الشكر سبب المزيد1.

وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي أنشر ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء، والتحدث بنعم الله، والاعتراف بها شكر، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والحكم عام له ولغيره2. وأما قوله تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فقد قال القرطبي في معناها: "أي قليل من يفعل ذلك لأن الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية"3.

قلت: والظاهر - والله أعلم - أن نعم الله كثيرة لا حصر لها، وهي لا تزال متجددة متكاثرة على العباد بفضل الله عز وجل، والشكر بأنواعه وأشكاله يحتاج إلى عزيمة ويقين، فيضعف كثير من الناس، ويقصِّرون في شكر المنعم وحمده حق شكره وحمده، ولذلك كان الشاكرون قليلين، وهم الخاصة، وفي مقدمة هؤلاء الشاكرين إمامهم سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه أتقى الخلق، وأعرفهم بحق خالقه وأشكرهم له، يظهر ذلك جليًا من خلال النظر في حاله وسيرته مع أصحابه رضوان الله عليهم، ويبرز ذلك بأمور منها:

1 الجامع لأحكام القرآن (9/353) .

2 الجامع لأحكام القرآن (20/102-103) .

3 الجامع لأحكام القرآن (14/264-265) .

ص: 295

1-

كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العبادة بشتى أنواعها مع أنه مغفور له المتقدم والمتأخر من ذنبه، فلقد جاء عند البخاري1، ومسلم2 من حديث المغيرة بن شعبة وحديث عائشة رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا". هذا لفظ حديث عائشة عند البخاري، وعندهما نحو هذا اللفظ أيضًا.

2-

وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه سجود الشكر عند تجدد نعمة تسُرُّ، أو اندفاع نقمة، كما جاء عند كل من أبي داود3، والترمذي4، وابن ماجه5، وأحمد6، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسرُّه أو يُسَرُّ به خرَّ ساجدًا شكرًا لله تبارك وتعالى. واللفظ لابن ماجه، والباقون بنحوه، وعند أحمد فيه قصة، وقال الترمذي في آخره: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث بكار بن عبد العزيز، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، رأوا سجدة الشكر. وعن

1 الصحيح، كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل (3/14) وكتاب التفسير، باب ليغفر الله لك

(8/584) ، وكتاب الرقاق، باب الصبر على محارم الله (11/303) .

2 الصحيح، كتاب صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (4/2171-2172) .

3 السنن، كتاب الجهاد، باب سجود الشكر (3/89) .

4 الجامع، كتاب السير، باب ما جاء في سجدة الشكر (5/200) .

5 السنن، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة والسجود عند الشكر (1/446) .

6 المسند (5/45) .

ص: 296

عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لما تاب الله عليه خرَّ ساجدًا. عند ابن ماجه1، وقال البوصيري2: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وهو موقوف، قال ابن حزم: لا مغمز في خبر كعب ألبتة، ثم روي عن أبي بكر الصديق "في الأصل أبي الصديق" وعلي بن أبي طالب نحوه. أ. هـ.

3-

توجيهاته لأصحابه وأقواله في الشكر وبيان فضله. فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن رآه رثَّ الثياب: "ألك مال"؟، قال: نعم، قال:"من أي المال"؟، قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال:"فإذا أتاك الله مالاً فلير أثر نِعمة الله عليك وكرامته" رواه أبو داود3، والنسائي4، والحاكم5 هذا لفظ أبي داود والحاكم مثله إلا أنه عنده مطول، وعند النسائي بنحوه عند أبي داود، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وصححه- أيضًا- الألباني6.

وعند الترمذي7، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا:"إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وقال الترمذي: حديث حسن، ثم قال: وفي الباب عن أبي الأحوص عن أبيه وعمران بن حصين وابن مسعود،

1 السنن، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر (1/446) .

2 مصباح الزجاجة (1/449) .

3 السنن، كتاب اللباس، باب في غسل الثوب وفي الخلقان (4/51) .

4 السنن، كتاب الزينة، باب الجلاجل (8/181) .

5 المستدرك (4/181) .

6غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام (ص 63) ، وصحيح سنن أبي داود (2/767) .

7 الجامع، كتاب الأدب، باب ما جاء إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (8/106) .

ص: 297

وحسنه - أيضا - الألباني1.

وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك، لا شريك لك، فلك الحمد، ولك الشكر، فقد أدَّى شكر يومه، ومن قال: مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته".

رواه كل من أبي داود2، وابن حبان3، واللفظ لأبي داود، وهو عند ابن حبان بنحوه مع شيء من الاختصار، وقد حسَّنَه ابن القيم4، والنووي5، والحافظ ابن حجر6.

وفي حديث أنس رضي الله عنه عند ابن ماجه7 أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذه". يعني الذي أداه وفعله من الحمد، أفضل مما أخذ من النعمة، وحسنه البوصيري8، وقال النووي: إسناده جيد9. وفي الفتوحات الربانية على الأذكار النووية10: وفي الحرز، رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن غنام، وابن حبان والنسائي عن ابن عباس، وقال الحافظ بعد تخريجه: "

حديث حسن".

1 صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/146) رقم (1884) .

2 السنن، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح (4/318) .

3 الصحيح (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان)(3/142-143) رقم (861) .

4 زاد المعاد (2/373) .

5 الأذكار (ص 74) .

6 انظر: التعليق على صحيح ابن حبان (3/143) .

7 السنن، كتاب الأدب، باب فضل الحامدين (2/1250) .

8 مصباح الزجاجة (3/192) .

9 الأذكار (ص 74) .

10 الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (3/107) .

ص: 298