الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاختة، سعيد بن جهمان، ضعيف، قال الحافط:((أطبقوا على تضعيفه)) (1) .
وقال ابن عدي: ((أثَرُ الضعف بَيِّنٌ على رواياته، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى غيره)) (2) .
وهذا لا يمنع من الاستشهاد بحديثه، كما هي طريقة العلماء فيما لا يخالف الثابت الصحيح، بل يوافقه.
وفي ((الدر المنثور)) : ((أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله - تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر إلى وجه ربها)) (3) .
وذكر أحاديث في ذلك وآثاراً كثيرة.
و
الأحاديث في رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة
كثيرة جداً، وقد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاها أتباعه بكل قبول وارتياح وانشراح لها، وكلهم يرجو ربه ويسأله أن يكون ممن يراه في جنات عدن، يوم يلقاه.
ولم يرد هذه الأحاديث إلا أهل البدع والضلال، الذي اعتاضوا بهداية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم آراء فاسدة، زعموا أنها معقولات، وهي ضلالات وجهالات وشبهات، كما سيأتي بيان ذلك، إن شاء الله تعالى.
وقد أفرد كثير من أهل السُّنَّة هذه المسألة بمؤلفات خاصة.
قال البيهقي: ((لا يخلو النظر أن يكون الله - تعالى - عنى به: نظر الاعتبار،
(1)((الفتح)) (13/424) .
(2)
انطر: ((الكامل)) (2/534) .
(3)
(8/350) .
كقوله – تعالى -: {َفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (1) .
أو عنى به: نظرَ التعطف والرحمة، كقوله – تعالى -:{وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} (2) .
أو عنى به: الانتظار، كقوله – تعالى -:{مَا يَنظُرُونَ إِلَاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} (3)
أو عنى به: الرؤية، كقوله – تعالى -:{يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (4) .
ولا يجوز أن يكون عنى بقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} نظر التفكر والاعتبار؛ لأن الآخرة ليست بدار استدلال واعتبار، وإنما هي دار اضطرار.
ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار؛ لأن ليس في شيء من أمر الجنة انتظار؛ لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير، والآية خرجت مخرج البشارة، وأهل الجنة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من العيش، فهم مُمَكَّنون مما أرادوا، وإذا خطر ببالهم شيء، أُتوا به مع خطوره، فلم يجز أن يكون الله أراد بقوله:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} نظر الانتظار.
ولأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه: نظر العينين اللتين في الوجه، كما قال – تعالى -:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} (5) ، أراد بذلك تقلب عينيه نحو السماء، ولأنه قال:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
(1) الآية 17 من سورة الغاشية.
(2)
الآية 77 من سورة آل عمران. وفي أن المقصود بالآية: العطف والرحمة، نظر.
(3)
الآية 17 من سورة يس.
(4)
الآية 20من سورة محمد.
(5)
الآية 144 من سورة البقرة.
ونظر الانتظار لا يكون مقروناً بإلى؛ لأنه لا يجوز عند العرب أن يقولوا في نظر الانتظار ((إلى)) إذا كان معناه الانتظار، قالت بلقيس فيما أخبر الله - تعالى - عنها:{فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (1) .
ولا يجوز أن الله - تعالى - أراد نظر التعطف والرحمة؛ لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم، فإذا فسدت هذه الأقسام الثلاثة، صح القسم الرابع من أقسام النظر، وهو معنى قوله - تعالى -:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، أنها رائية ترى الله عز وجل.
ولا يجوز أن يكون معناه: إلى ثواب ربها ناظرة؛ لأن ثواب الله غير الله، والله - تعالى - قال:{إِلَى رَبِّهَا} لم يقل: إلى غير ربها ناظرة.
والقرآن على ظاهره، وليس لنا أن نزيله عن ظاهره، إلا بحجة.
ألا ترى أنه لما قال: ((اعْبُدُونِي، وَاشْكُرُواْ لِي)) لم يجز أن يقال: أراد: ملائكتي أو رسلي.
ثم نقول: إنْ جاز لكم أن تدَّعوا هذا، في قوله:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} جاز لغيركم أن يدعيه في قوله - تعالى -: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (2) فيقول: أراد بها: لا تدرك غيره، ولم يرد أنها لا تدركه هو، وإذا لم يجز ذلك لم يجز هذا)) (3)
************
62 -
قالَ: ((حدثنا عمرُو بنُ عَوْن، حدثنا خالدٌ وهُشَيمٌ، عن إسماعيلَ، عن قيسٍ، عن جَرير، قالَ: كُنا جُلوساً عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا نظرَ إلى القمر ليلةَ البدر، قالَ: ((إنَّكم سترونَ رَبَّكُم،
(1) الآية 35 من سورة النمل.
(2)
الآية 103 من سورة الأنعام.
(3)
((الاعتقاد)) للبيهقي (ص74-75) .
كما ترونَ هذا القمرَ، لا تُضامُّونَ في رؤيتِهِ، فإنَ استطعتُمْ أنْ لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ، وصلاةٍ قبلَ غروبِ الشمسِ، فافعَلُوا)) .
63 – حدثنا يوسفُ بنُ موسى، حدثنا عاصمُ بنُ يوسفَ اليَرْبُوعِيُّ، حدثنا أبو شهابٍ، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن قيس بن أبي حازمٍ، عن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ، قالَ: قالَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترونَ رَبَّكُم عِيَاناً)) .
64 – حدثنا عَبْدَةُ بنُ عبدِ اللهِ، حدثنا حُسَينٌ الجُعْفِيُّ، عن زائدةَ، حدثنا بَيانُ بنُ بِشْرٍ، عن قيسِ بن أبي حازمٍ، حدثنا جريرٌ، قال: خرج علينا رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – ليلةِ البدرِ، فقالَ:((إنكم سَتَروْنَ رَبَّكُم يومَ القيامةِ، كما تَرَونَ هذا، لا تُضَامُون في رؤيتهِ)) .
هذا حديث واحد، ذكره هنا من ثلاثة طرق إلى قيس بن أبي حازم، اقتصر على المقصود في الطريقين الأخيرين، وقد رواه في الصلاة، وفي التفسير.
قوله: ((كنا جلوساً عند النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ نظر إلى القمر ليلة البدر)) هذا يدل على أنه – صلى الله عليه وسلم – بدأهم بذلك، وسيأتي في حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، أن الناس سألوه عن ذلك، فهي قضية أخرى.
فهو – صلى الله عليه وسلم – أخبرهم ابتداء بأنهم يرون ربهم يوم القيامة، ووقع من بعضهم السؤال، فأجابهم بأنهم يرونه.
وليلة البدر: هي ليلة أربع عشرة، سميت ليلة البدر؛ لأن القمر يكمل فيها ويبدر، وإبداره: كماله وتمامه.
قوله: ((إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر)) ، هذا بيان بليغ، وتأكيد عجيب، فأكده بأن، وبالفعل المضارع المسبوق بالسين، وبقوله:
((كما ترون هذا القمر)) مع إشارته إليه، فليس بعد هذا البيان بيان، ولا مزيد على هذه التأكيدات، فمن حاول تأويل رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة بعد ما سمع هذا البيان من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو يجادل بالباطل ليدحض به الحق، قد اختار الباطل على الحق، وسوف يولّه الله ما تولى.
وإذا دخلت السين على الفعل، صار وقوعه في المستقبل.
ورؤية العباد لربهم – تعالى – لا تقع إلا في الآخرة، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وفي ((صحيح مسلم)) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله: ((أما إنكم سَتُعرَضون على ربكم فَتَرَونه)) (1) . ففي كلا اللفظين تأكيد بليغ منه – صلى الله عليه وسلم – بأن المؤمنين يرون ربهم رؤية حقيقية بأبصارهم، مؤكدة كما سيأتي بيان ذلك، إن أراد الله تعالى.
قوله: ((لا تضامون في رؤيته)) يروى بضم التاء وتخفيف الميم، والمعنى: لا ينالكم في رؤية ربكم ضيم، أي ظلم وهضم.
ويروى بفتح التاء، وتشديد الميم، والمعنى: أنكم ترون ربكم رؤية واضحة، لا تحتاجون في رؤيته أن ينضم بعضكم إلى بعض لتتساعدوا على الرؤية، كما يقع عند رؤية الأمور الخفية.
ويروى أيضا: ((تضارون)) بفتح التاء، وضمها، والمعنى: لا يضر بعضهم بعضاً في رؤية الله – تعالى -، فيراه بعضهم، ويحجب عن رؤيته آخرون منهم، بل يراه المؤمنون رؤية واضحة، كوضوح الشمس والقمر.
قال الحافظ: ((تضارون بضم أوله، وبالضاد، وتشديد الراء، بصيغة
(1) انظر: مسلم بشرح النووي (5/134) .
المفاعلة من الضرر، وأصله: تضاررون، بكسر الراء وفتحها، أي لا تضرون أحداً، ولا يضركم، بمنازعة ولا مضايقة.
وجاء – أيضا – بتخفيف الراء، من الضير، وهي لغة في الضر، أي لا يخالف بعض بعضاً، فيكذبه وينازعه، فيضيره بذلك، يقال: ضاره، يضيره.
وقيل: المعنى: لا يحجب بعضكم بعضاً عن الرؤية، فيضر به)) (1) .
والمقصود من هذا كله أنهم يرون ربهم، رؤية واضحة، لا يلحقها نقص وليس فيها خفاء، ولا يحتاجون معاونة عليها.
قوله: ((فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها، فافعلوا)) تعقيب الخبر عن رؤيتهم لربهم بالفاء المقترنة بالحث على فعل الصلاة المذكورة، يدل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب حصول الرؤية.
وعلق ذلك بالاستطاعة؛ لأنها مناط التكليف، فالله – تعالى – لا يكلف إلا بالمستطاع، كما تدل لذلك النصوص من الكتاب والسُّنَّة.
ولهذا قال: ((فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا)) .
والمقصود بالصلاة قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، والصلاة قبل غروبها: صلاة العصر.
وقد جاءت أحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالحض على زيادة الاعتناء بهاتين الصلاتين.
(1)((الفتح)) (11/446)، وانظر:((النووي على مسلم)) (3/18) و (5/134) و ((الفتح)) (13/427) .
ففي ((الصحيحين)) عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:((من صلى البردين دخل الجنة)) .
وفي ((صحيح مسلم)) عن عمارة بن رؤيبة، عن أبيه، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((لا يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها – يعني صلاة الفجر والعصر -)) (1) .
وفي ذلك أحاديث كثيرة:
وقد قال الله – تعالى -: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (2) .
وقال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (3) .
وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (4) .
قوله: ((إنكم سترون ربكم عياناً)) هذا اللفظ من أبلغ النصوص في إثبات الرؤية، فقد أكد رؤية المؤمنين لربهم عدة تأكيدات، كما سبق في الطريق الأولى، غير أنه هنا قال:((عياناً)) وهو لا يحتمل أي تأويل.
ومعنى عياناً: معاينة مقابلين له – تعالى – ينظرون إليه بأعينهم، وفي هذا أبلغ الرد على منكري الرؤية الحقيقية، كما فيه الرد على المتطرفين من الصوفية الذين يزعمون بأنهم يرون الله في الدنيا؛ لأنه قال:((سترون ربكم)) وهذا
(1)((مسلم)) (1/440) رقم (634) .
(2)
الآية 39 من سورة ق.
(3)
الآية 238 من سورة البقرة.
(4)
الآية 78 من سورة الإسراء.
يكون في المستقبل وفي الرواية الأخرى قيد الرؤية بيوم القيامة، وفي ((صحيح مسلم)) :((وتعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)) (1)
والواقع أن هؤلاء الأدعياء يرون آلهتهم من الشياطين الذين أضلوهم.
قال الأزهري: ((رأيت فلاناً عياناً، أي: مواجهة)) (2) .
وهذا التفسير لقوله: ((سترون ربكم عياناً)) متفق عليه عند أهل الأثر، وأهل اللغة، وهو من الأمور الواضحة، ولكن لما جاء أهل البدع والتحريف احتيج في ذلك إلى ذكر أقوال العلماء، وسيأتي لذلك مزيد بيان، إن شاء الله تعالى.
قوله: ((إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته)) قيد الرؤية بيوم القيامة، لئلا يتوهم أحد أنه يرى ربه قبل يوم القيامة.
وقوله: ((كما ترون هذا)) الإشارة إلى القمر تلك الليلة التي هي ليلة البدر والقمر فيها أتم ما يكون، وأوضح ما يكون، فشبه الرسول – صلى الله عليه وسلم – رؤية المؤمنين لربهم – تعالى – برؤيتهم القمر تلك الليلة في تمامه واستوائه، ووضوحه، والمعنى: أنكم ترون ربكم يوم القيامة رؤية واضحة جلية، لا لبس فيها، ولا خفاء، كما ترون القمر وقت تمامه وكماله ليلة
أربع عشرة من الشهر، ليس بينكم وبينه حائل ولا قتر.
وهذا غاية البيان والإيضاح في أن المؤمنين يرون الله – تعالى – يوم القيامة، ومع هذا يأبى من غلبت شقوته وضلاله الإيمان بذلك، ويحاول تحريف النصوص الواضحة، لتتفق مع مذهبه الفاسد.
65 – قالَ: حدثنا عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ اللهِ، حدثنا إبراهيمُ بنُ
(1)((مسلم)) (4/2245) رقم (2931) .
(2)
((تهذيب اللغة)) (3/206) .
سعدِ، عن ابنِ شهابٍ، عن عطاءِ بنِ يزيدَ الليثيِّ، عن أبي هريرةَ، أنَّ الناسَ قالوا: يا رسولَ اللهِ، هل نَرى ربنا يومَ القيامةِ؟
فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((هل تضارونَ في القمرِ ليلةَ البدرِ؟)) .
قالوا: لا يا رسولَ اللهِ، قالَ:((فهل تضارونَ في الشمسِ ليسَ دونها سحابٌ؟)) .
قالوا: لا يا رسولَ اللهِ، قال: ((فإنَّكم ترونَهُ كذلكَ، يجْمَعُ اللهُ الناسَ يومَ القيامِة، فيقولُ: مَنْ كانَ يعبدُ شيئاً فليتَّبِعْهُ، فَيَتَّبِعُ مَنْ كانَ يَعْبُدُ الشمسَ الشمسَ، ويَتَّبِعُ مَنْ كانَ يعبدُ القمرَ القمرَ، ويتبعُ منْ كان يعبدُ الطواغيتَ الطواغيتَ، وتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ، فيها شافِعُوها – أو مُنَافِقُوها – شكَّ إبراهيمُ فيأتِيهُمُ اللهُ فيقولُ: أنا ربكم، فيقولونَ: هذا مكانُنا حتّى يأتِينَا ربُّنا، فإذا جاءَ ربُّنا عَرَفْناهُ، فيأتِيهُمُ اللهُ في صُورَتِهِ التي يعرفُونَ، فيقول: أنا ربكم، فيقولونَ: أنتَ رَبُّنا، فَيَتَّبعُونَهُ، ويُضْرَبُ الصراطُ بين ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فأكُونُ أنا وأُمَّتي أوَّل مَنْ يجيزُها.
ولا يتكلمُ يومئذٍ إلا الرسلُ، ودعوى الرسلِ يومئذٍ: اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ.
وفي جهنمَ كلاليبٌ مثلُ شَوْكِ السَّعْدانِ، هل رَأيْتُمُ السَّعدانَ؟)) قالوا: نَعَمْ يا رسولَ اللهِ، قال: ((فإنها مثلُ شوكِ السعدانِ، غيرَ أنّه لا يَعْلَمُ ما قَدْرُ عِظَمِها إلا اللهُ، تَخْطَفُ الناسَ بأعمالهم، فمنهم المُوبَقُ، بَقِيَ بعَمَلِهِِ، أو الموثَقُ بعَمَلِهِ، ومنهمُ المُخَرْدَلُ، أو المُجازَى – أو نحوه -.
ثم يتجلّى، حتى إذا فرغَ اللهُ مِنَ القضاءِ بينَ العِبادِ، وأرادَ أنْ يُخْرِجَ برحمتِهِ مَنْ أرادَ مَنْ أهل النارِ، أمرَ الملائكةَ أنْ يُخرجوا مِنَ النارِ مَنْ كان لا يُشركُ بالله شيئاً، ممن أرادَ اللهُ أنْ يرحمَهُ، ممن يشهدُ أنْ لا إلهَ إلَاّ اللهُ، فيعرفونهم في النارِ بأثرِ السجودِ، تأكلُ النارُ ابنَ آدمَ إلا أثَرَ السجودِ، حَرَّم اللهُ على النارِ أن تأكلَ أثرَ السجودِ، فيخرجونَ من النارِ قد امْتُحِشُوا، فَيُصَبُّ عليهم ماءُ الحياةِ، فينبتونَ تحتَهُ، كما تنبتُ الحبةُ في حميلِ السيلِ، ثم يَفْرُغُ اللهُ مِنَ القضاءِ بينَ العبادِ، ويبقى رَجُلٌ مقبلٌ بوجههِ على النارِ، هو آخرُ أهلِ النارِ دُخُولاً الجنةَ.
فيقولُ: أيُ ربِّ، اصْرِفْ وَجْهي عَنِ النارِ، قَدْ قَشَبَني ريحُها، وأحْرَقنيِ ذكاؤُها، فيدعو الله بما شاءَ أنْ يدعُوه، ثم يقول اللهُ: هل عَسَيْتَ إن أعْطَيْتُكَ ذلك أن تَسْألني غيرَه.
فيقولُ: لا وعِزَّتِكَ لا أسألكَ غيرَه، ويعطي رَبَّهُ منْ عهودِ ومواثيقَ ما شاءَ، فيصرف وجهَهُ عن النارِ، فإذا أقبلَ على الجنةِ ورآها سكتَ ما شاءَ اللهُ أنْ يسكتَ، ثم يقولُ: أيْ رَبِّ، قدِّمني إلى بابِ الجنةِ، فيقولُ اللهُ: ألستَ قد أعطيتَ عهودَك ومواثيقَكَ أنْ لا تسألَني غيرَ الذي أُعطِيتَ أبداً؟ ويلكَ يا ابن آدمَ، ما أغْدَرَكَ.
فيقول: أيْ رَبِّ، ويدعو الله، حتى يقولَ: هل عسيتَ إنْ أُعطيتَ ذلك أن تسألَ غيرَهُ؟
فيقول: لا وعزتكَ، لا أسألكُ غيرَهُ، ويُعطي ما شاءَ مِنْ عهودٍ ومواثيقَ، فيقدَّمه إلى بابِ الجنةِ.
فإذا قامَ إلى بابِ الجنةِ انْفَهَقَتْ له الجنةُ، فرأى ما فيها من الحَبْرَةِ،
والسرورِ، فيسكتُ ما شاءَ اللهُ أنْ يسكتَ.
ثم يقولُ: أيْ رَبِّ، أدْخِلْني الجنةَ، فيقولُ اللهُ: ألستَ قد أعطيتَ عهودَكَ ومواثيقَكَ أنْ لا تسألَ غيرَ ما أُعطيتَ؟
فيقول: ويلكَ يا ابنَ آدمَ، ما أغدركَ.
فيقول: أيْ رَبِّ، لا أكُونَنَّ أشْقَى خَلْقِكَ، فلا يزالُ يدعُو حتى يضحكَ اللهُ مِنْهُ، فإذا ضحكَ مِنْهُ، قالَ له: ادْخُلِ الجنةَ، فإذا دَخَلَها، قالَ اللهُ له: تَمَنَّهْ.
فسألَ رَبَّهُ وتمنّى، حتى إنَّ اللهَ لَيُذَكِّرُهُ، يقولُ: كَذا وكَذا، حتى إذا انقطعتْ بهِ الأمانيُّ، قالَ اللهُ: ذلكَ لَكَ، ومِثْلُهُ مَعَهُ)) .
قال عَطَاءُ بنُ يزيدَ: وأبو سعيدٍ لخُدْرِيُّ مع أبي هريرةَ، لا يَرُدُّ عليهِ مِنْ حديثِهِ شيئاً، حتى إذا حَدَّثَ أبو هريرةَ أنَّ اللهَ – تبارك وتعالى – قالَ: ذلك لكَ، ومِثلُهُ مَعَهُ، قال أبو سعيد الخدريُّ: وَعَشَرَةُ أمثَالِهِ مَعَهُ، يا أبا هريرةَ.
قال أبو هريرةَ: ما حفظتُ إلا قولَهُ: ذلك لك، ومثلُهُ معهُ.
قال أبو سعيد الخدريُّ: أشْهَدُ أني حفظتُ مِنْ رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَوْلَهُ: ذلكَ لكَ، وعشرةُ أمثالِهِ.
قال أبو هريرة: فذلكَ الرَّجُلُ آخِرُ أهلِ الجنةِ دُخُولاً الجنة)) .
قوله: إن الناس قالوا: هل نرى ربنا يوم القيامة؟)) ، هذا السؤال تكرر من الصحابة في مجالس متعددة، كما تدل على ذلك الأحاديث، وسبب ذلك الدافع الإيماني، والاشتياق من المؤمنين صادقي
الإيمان، إلى رؤية ربهم، تبارك وتعالى.
وقد أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جواباً شافياً، وواضحاً غاية الوضوح، حتى لو تكلف أحد أن يوضحه أكثر من إيضاح الرسول – صلى الله عليه وسلم – له ما استطاع.
فلذلك صار من لم يقبل ذلك تاركاً للحق عناداً وقصداً، والله يوليه ما تولى.
ولذلك قال: ((هل تضارون في القمر ليلة البدر)) أي: هل يضر بعضكم بعضاً في مشاهدة القمر، في أتم ما يكون، وأكمل ما يكون، وهذا أمر واضح جداً.
ولهذا قالوا: لا.
ثم قال صلى الله عليه وسلم ((فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟)) أي: لم يحل دونها حجاب، مع صحة أبصاركم، قالوا: لا يا رسول الله، قال:((فإنكم ترونه كذلك)) أي: أنكم ترون ربكم، رؤية واضحة، كرؤيتكم للقمر ليلة أربع عشرة، وكوضوح الشمس طالعة ليس دونها ما يحول بينكم وبينها.
فأي وضوح أوضح وأجلى من ذلك؟
قوله: ((يجمع الله الناس يوم القيامة)) أي أنه: - تعالى - يبعثهم من قبورهم أحياء، ثم يجمعهم جميعاً في مكان واحد، من أولهم – الذي هو أبوهم آدم عليه السلام – إلى آخر مولود منهم، ثم يقفون في ذلك المكان، وقوفاً طويلاً جداً، ينتظرون ربهم يأتيهم فيقضي بينهم، قال الله – تعالى -:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (1)، فيأتيهم – تعالى – ((فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه)) يعني من كان في الدنيا يعبد شيئاً غير الله فإنه يمثل له، أو يؤتى بذلك المعبود
(1) الآية 6 من سورة المطففين.
نفسه – إن لم يكن ممن يطيع الله – كهيئته في الدنيا، سواء كان ذلك المعبود رجلاً، أو صنماً، أو مالاً، أو شهوة، أو غير ذلك، ثم يؤمر بتلك المعبودات إلى النار ((فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت)) الطواغيت هي: كل معبود من دون الله، وتطلق على الأصنام، والأوثان، والقبور، التي يتجه إليها بالعبادة، قال الأزهري: ((قال أبو إسحاق: كل معبود من دون الله: جبت وطاغوت.
وقيل: الجبت والطاغوت: الكهنة والشياطين.
وفي بعض التفسير: الجبت والطاغوت: حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، اليهوديان، وهذا غير خارج مما قال أهل اللغة؛ لأنهم إذا اتبعوا أمرهما فقد أطاعوهما من دون الله)) (1) .
وقال ابن القيم: ((الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع، فطاغوت كل قوم: من يتحاكمون إليه غير الله – تعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم أو يعبدونه، من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها، وتأملت أحوال الناس، رأيت أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله، وإلى الرسول، إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته)) (2) .
قلت: أكثر الخلق اليوم واقعون فيما ذكره ابن القيم، فهم يعبدون
(1)((تهذيب اللغة)) (8/168) .
(2)
((إعلام الموقعين)) (1/50) .
الطواغيت من الأحياء والأموات ويتحاكمون إليها، ويدينون لها بالولاء والطاعة، ويجعلون السيادة للقانون الذي هو طاغوت يحكمونه من دون الله ويستخفون بشرع الله وحكمه، مع تيسر الوصول إليه، ولكنهم لا يريدون حكم الله، وإنما يريدون حكم الجاهلية، وقد قال الله – تعالى -:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (1) .
قوله: ((تبقى هذه الأمة فيها شافعوها – أو منافقوها – شك إبراهيم)) قال ابن أبي جمرة: ((يحتمل أن يكون المراد بالأمة: أمة محمد – صلى الله عليه وسلم، يحتمل أن يدخل فيه جميع أهل التوحيد، حتى من الجن، ويدل عليه ما في بقية الحديث: ((ممن كان يعبد الله من بر وفاجر)) (2) .
قال الحافظ: ((ويدل له أيضاً قوله: ((فأكون أول من يجيز)) فإن فيه إشارة إلى أن الأنبياء يجيزون أممهم بعده)) (3) .
وفي رواية أبي سعيد: ((حتى يبقى من يعبد الله من بر وفاجر)) كما سيأتي.
قوله: ((فيها شافعوها – أو منافقوها -)) هذه رواية إبراهيم بن سعد.
قال الحافظ: ((والمعتمد: رواية ((منافقوها)) كما هي رواية الأكثر)) (4) .
ويأتي في رواية أبي سعيد: ((حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر وفاجر، وغبرات من أهل الكتاب)) وفي رواية مسلم: ((وغبر)) وكلاهما: جمع غابر، والغبرات: جمع غبر، وغبر: جمع غابر، ويجمع أيضا على أغبار، والمراد البقية،
(1) الآية 65 من سورة النساء.
(2)
((بهجة النفوس)) (2/24) وما نقل هنا بالمعنى.
(3)
((الفتح)) (11/449) .
(4)
المرجع المذكور.
أي بقايا قليلة من اليهود والنصارى، الذين كانوا يعبدون الله – تعالى – وحده، أما معظمهم، فقد ذهب بهم إلى جهنم، عندما قال الله:((ليتبع كل عابد ما كان يعبده)) .
وفي قصة لوط – صلى الله عليه وسلم – قول الله – تعالى -: {إِلَاّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِين َ} (1) .
والمراد: أن كل من يعبد – غير الله تعالى – يحضر له معبوده الذي كان يعبده في الدنيا أو يمثل له، فيقال: اتبعه، ويذهب به إلى النار، ويبقى الذين لا يعبدون إلا الله من المؤمنين الصادقين، والمنافقين.
قوله: ((فيأتيهم الله)) هذا من أوصاف الله وأفعاله التي يفعلها إذا شاء، وهي مما يجب الإيمان به على ظاهر النص، كما هي طريقة سلف هذه الأمة الذين تلقوا ذلك عن الله ورسوله بالقبول، والتسليم، ومعلوم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أغير على الله، وأعظم تعظيماً له، وأعلم به وبما يجب له، وما يمتنع عليه، من أهل التأويل الذين يزعمون أنهم ينزهون الله عن أوصاف المحدثين، كما يقولون، ولهذا تجدهم يجهدون أنفسهم في تحريف كلام الله – تعالى – وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم – زاعمين أنه لو أُجري على ظاهره لأفاد التشبيه والتجسيم، فلذلك جعلوا تأويله واجباً.
والواقع أن ما يسمونه من ذلك تأويلاً هو تحريف وإلحاد، كما أشرنا إليه فيما سبق.
وفي هذه الجملة من الحديث، وهي قوله:((فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: ((هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه)) شاهد للباب، لأن ظاهره أنهم يرونه، غير أنهم في هذه المرة لم يعرفوه؛
(1) الآية 171 من سورة الشعراء.
لأنه تعالى لم يظهر لهم بأوصافه التي يعرفونه بها، وقد جاء في رواية أبي سعيد الآتية:((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) ولهذا قالوا: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه)) .
قوله: ((فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه)) وهذه الجملة أيضاً هي المرادة من سياق الحديث في الباب؛ لأن فيها دلالة واضحة على رؤية المؤمنين ربهم في ذلك الموقف، وسيأتي بحث ذلك والرد على شبه النفاة، إن شاء الله تعالى.
وفي هذه الجملة من الحديث، والتي قبلها، كثر اضطراب شراح الحديث، وتخبطوا كثيراً؛ لأنهم على عقيدة الأشاعرة، وسأذكر بعض أقوالهم في ذلك؛ للعبرة، ثم أذكر ما يبين بطلانها، مستعيناً بالله تعالى.
ثم إنه يجب على كل مسلم أن يعلم بأن الله تعالى – قد أكمل لهذه الأمة دينها، وبينه بياناً لا يحتاج معه إلى استدراك أحد من الناس، وسيأتي دليل ذلك، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد أقام الحجة وأوضح المحجة، فيجب على المسلم أن يؤمن بأنه أكمل الخلق هداية، وأنه بلغ عن الله ما أمره الله بتبليغه، وأنه أفصح الناس، وأقدرهم على بيان مراده، وأنه أنصح الخلق لأمته وأحرصهم على هدايتهم، وهو أعظم الناس خوفاً من الله، وتعظيماً له، وهو أعلم الناس بالله، وبما يجب له - تعالى - وما يمتنع عليه.
فلابد أن يبين لأمته ما يجب عليهم أن يعتقدوه في ربهم، بياناً لا لبس فيه، ولا غموض، فلا يحتاجون معه إلى بيان غيره، وإلا لا يكون بلغ البلاغ المبين، قال الله – تعالى -:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1)، وقد سأل الناس: هل بلغ رسالة
(1) الآية 67 من سورة المائدة.
ربه؟ فشهدوا له بأنه بلغ البلاغ المبين.
وأخبر – صلوات الله وسلامه عليه – أنه ترك أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك (1) .
ولا يعقل أنه يبين لأمته آداب الأكل والشرب والنوم، ودخول المنزل والخروج منه، وركوب الدابة، ولبس النعل والثوب، وقضاء الحاجة، وغير ذلك مما لو تركه المسلم لم يأثم على تركه، ثم يترك معرفة الله، وما يجب أن يعتقد ويثبت له - تعالى -، وما يجب أن ينفى عنه مجهولاً، أو ملتبساً حقه بباطله.
إن من يترك التعصب ويتخلص من التقليد الأعمى، وينظر بعقل وإنصاف، فلابد أن يقتنع بأن الذي قاله الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبلغه هو الحق.
ثم صحابة الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذين تلقوا العلم والإيمان منه لابد أن تكون هدايتهم أتم وأكمل ممن جاء بعدهم، لا يخالف في هذا إلا ضال أو مضلل تائه، لا يعرف الإسلام.
ولم يأت عنهم – رضوان الله عليهم – كما لم يأت عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما يشير، ولو إشارة، إلى أن ظاهر النصوص التي فيها أوصاف الله – تعالى – أنه لا يجوز اعتقاد ما دلت عليه ظاهراً، أو أنه ينبغي تأويلها.
قال الله -تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دينًا} (2) .
وقال – تعالى -: {ِ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
(1) انظر ((سنن ابن ماجه)) (1-4) .
(2)
الآية 3 من سورة المائدة.
يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقال – تعالى -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2)، وقال – تعالى -:{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) وقال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (4) .
ولا يشك مسلم بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد امتثل أمر ربه، فبلغ البلاغ المبين، حتى ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا لبس فيها، ولا غموض.
وأعظم ذلك باب معرفة الله - تعالى – بأسمائه وصفاته.
وبهذا يتبين أن قول أهل التأويل باطل قطعاً، وأن الحق فيما قاله الله – تعالى – عن نفسه، وما قاله رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأن ظاهر قول الله – تعالى – وقول رسوله – صلى الله عليه وسلم – حق وهدى.
ولكن يجب أن يفهم مراد الله – تعالى – في خطابه لعباده، ومراد رسوله – صلى الله عليه وسلم، من غير تقصير، ولا غلو.
وإن من الخذلان أن ينصرف العبد عما تعرف الله به إلى عباده، من أسمائه وأوصافه، ويعتقد أنها تدل على خلاف الحق، وأن الحق والهدى في كلام أهل الجدل والفلسفة، الذين يعتمدون على آرائهم، وعقولهم، فيما يجب لله، وما يمتنع عليه، مع أنهم لم يجنوا من ذلك إلا الحيرة والشك، فإذا حضرهم الموت، أقروا على أنفسهم بأنهم لم يعلموا شيئاً.
قال شيخ الإسلام: ((بلغني بإسناد متصل، عن بعض رؤوسهم، وهو الخونجي،
(1) الآية 44 من سورة النحل.
(2)
الآية 89 من سورة النحل.
(3)
الآية 64 من سورة النحل.
(4)
الآية 67 من سورة المائدة.
وهو عند كثير منهم، غاية في هذا الفن (1)، أنه قال عند الموت: ((أموت، وما علمت شيئاً، إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب، ثم قال: الافتقار: وصف عدمي، أموت وما علمت شيئاً.
قال: وذكر الثقة، عن الآمدي أنه قال:((أمعنت النظر في الكلام، وما استفدت منه شيئاً إلا ما عليه العوام)) .
وقال الأصبهاني للشيخ إبراهيم الجعبري: ((بت البارحة أفكر إلى الصباح، في دليل على التوحيد سالم عن المعارض، فما وجدته)) (2) .
وحدثني من قرأ على ابن واصل الحموي، أنه قال:((أبيت بالليل، وأستلقي على ظهري، وأضع الملحفة على وجهي، وأبيت أقابل أدلة هؤلاء، بأدلة هؤلاء، وبالعكس، وأصبح وما ترجح عندي شيء)) كأنه يعني أدلة المتكلمين والفلاسفة)) (3)
ولهذا وأمثاله قال الشافعي: ((لئن يبتلى العبد بكل ذنب نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام)) .
بعض أقوال شراح الحديث:
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله: ((نسبة الإتيان إلى الله، عبارة عن رؤيتهم إياه، وقيل: الإتيان: فعل من أفعال الله (4) يجب الإيمان به مع تنزيه الله عن سمات الحدوث.
(1) يعني: فن الكلام الذي يسمونه: التوحيد.
(2)
يعني: ما يسمونه بالأدلة العقلية، وهي جهالات توصل إلى ظلمات الشك.
(3)
((درء تعارض العقل والنقل)) (3/262-264) .
(4)
تقدم أن الفعل عند الأشاعرة المراد به: المفعول المخلوق المنفصل عن الله – تعالى -.
وقيل: فيه حذف، تقديره: يأتيهم بعض ملائكته، ورجحه عياض، ولعل هذا الملك جاءهم في صورة أنكروها؛ لما رأوا فيها من سمة الحدوث.
ويحتمل وجهاً رابعاً: وهو أن المعنى: يأتيهم الله بصورة – أي بصفة - تظهر لهم، من الصور المخلوقة، التي لا تشبه صفة الإله، ليختبرهم بذلك، فإذا قال لهم هذا الملك: أنا ربكم، رأوا عليه من علامة المخلوقين ما يعلمون به أنه ليس ربهم)) (1)
وقال الرازي: ((الكلام على هذا الحديث من وجوه:
الأول: أن تكون ((في)) بمعنى الباء، والتقدير: فيأتيهم الله بصورة، غير الصورة التي عرفوها في الدنيا، وذلك بأن يريهم ملكاً من الملائكة، ونظيره قول ابن عباس في قوله – تعالى -:{هَل يَنظُرُونَ إَّلا أَن يَأتِتَهُمُ اللهُ فيِ ظُلَلِ مّنَ الغَمَامِ} . أي: بظلل من الغمام.
ثم إن تلك الصورة تقول: أنا ربكم، وكأن ذلك آخر محنة تقع للمكلفين في دار الآخرة.
أما قولهم: ((إذا جاء ربنا عرفناه)) فيحمل على أن يكون المراد: فإذا جاء إحسان ربنا عرفناه.
وقوله: ((فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها)) فمعناه: فيأتيهم بالصورة التي يعرفون أنها من أمارات الإحسان.
الثاني: أن يكون المراد من الصورة: الصفة، والمعنى: أن يظهر لهم من بطش الله، وشدة بأسه، ما لم يألفوه، ولم يعتادوه من معاملة الله – تعالى – معهم، ثم يأتيهم بعد ذلك بأنواع الرحمة والكرامة، على الوجه الذي اعتادوه
(1)((الفتح)) (11/450) وانظر: كلام النووي في ((شرح مسلم)) (3/19) فإنه متفق مع ما هنا.
وألفوه)) (1) .
وقال الخطابي: ((الذي يجب على كل مسلم أن يعلم أن ربنا ليس بذي صورة، ولا هيئة، فإن الصورة تقتضي الكيفية، وهي عن الله وعن صفاته منفية، وقد يتأول معناها على وجهين:
أحدهما: أن تكون الصورة بمعنى الصفة، كقول القائل: صورة هذا الأمر كذا وكذا، يريد صفته، فوضع الصورة موضع الصفة.
والثاني: أن المذكور من المعبودات في أول الحديث إنما هو صور وأجسام، كالشمس والقمر، والطواغيت، ونحوها، ثم لما عطف عليها ذكر الله – سبحانه – خرج الكلام فيه على نوع من المطابقة، فقيل: يأتيهم الله في صورة كذا)) (2) .
وهذا كثير من كلام أهل التأويل ممن يتصدى لشرح الحديث، وغيرهم ممن يتكلم في العقائد، حتى لا تكاد تجد من تكلم على هذا الحديث بالصواب.
لهذا سأجعل الكلام على هذه الجملة من الحديث في أربعة فصول:
الأول: في ذكر ما تيسر من روايات الحديث.
الثاني: في معنى الصورة في اللغة.
الثالث: في تعيين المراد من الحديث.
الرابع: في رد التأويل الباطل الذي يُؤول به الحديث، كما ذكرت أمثلة منها.
(1) تأسيس التقديس)) (ص88-89) .
(2)
نقلا من: ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص296) .
الفصل الأول
في ذكر ما تيسر من روايات الحديث
فحديث أبي هريرة هذا رواه البخاري في الصلاة، في باب فضل السجود، ولفظه:((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) إلخ (1) .
ورواه في ((الرقاق)) ولفظه: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه)) ورواه في ((التوحيد)) : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب)) إلخ، وقد مضى ذكر لفظه.
وأخرجه مسلم، ولفظه:((وتبقى هذه الأمة، فيها منافقوها، فيأتيهم الله – تبارك وتعالى – في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله – تعالى – في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه)) إلخ (2) .
وذكر الدارقطني له عدة ألفاظ بطرق عدة، في إحداها: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء الرب – عز وجل – إلى المؤمنين، فوقف عليهم، والمؤمنون على كوم – قالوا لعقبة: وما الكوم؟ قال: المكان المرتفع – فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إن عرفنا نفسه عرفناه، فيقول لهم الثانية: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إن عرفنا نفسه عرفناه، قال: فيتجلى
(1)((البخاري)) (1/133) من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة.
(2)
((صحيح مسلم)) (1/113) .
لهم – عز وجل – فيضحك في وجوههم فيخرون له سجداً)) (1) .
وذكر روايات كثيرة كلها تتفق مع لفظ البخاري ومسلم، وفي بعض رواياته:((فيأتيهم الله – عز وجل – في غير صورته، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله – عز وجل – في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) إلخ (2) .
ورواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري، وسيأتي – إن شاء الله تعالى – ولفظ الشاهد منه:((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء)) .
ورواه في ((التفسير)) ولفظه: ((حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله، من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها، فيقول: ماذا تنتظرون)) ولم يذكر بقيته (3) .
ورواه في ((الرقاق)) وفي ((الإيمان)) مختصراً جداً.
ورواه مسلم مطولاً: ((حدثني سويد بن سعيد، قال: حدثني حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: أن ناساً في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((نعم – قال– هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((ما تضارون
(1) كتاب ((الرؤية)) (ص64) رسالة دكتوراه من الجامعة الاسلامية.
(2)
المرجع المذكور (ص99) .
(3)
((البخاري مع الفتح)) (8/249، 663) و (1/72) و (11/416، 446) .
في رؤية الله – تبارك وتعالى – يوم القيامة، إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة، أذن مؤذن: ليتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله – سبحانه – من الأصنام والأنصاب، إلا يتساقطون في النار.
حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله، من بر وفاجر، وغُبَّرُ أهل الكتاب، فيدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيزاً ابن الله، فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار، كأنها سراب، يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار.
ثم يدعى النصارى، فقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا، قال: فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم، كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار.
حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله، من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فماذا تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد.
قالوا: يا ربنا، فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم.
فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً - مرتين أو ثلاثاً - حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب.
فيقول: هل بينكم وبينه آية، فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء، إلا جعل الله ظهره طبقة
واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه.
ثم يرفعون رؤوسهم، وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) (1) وذكر بقية الحديث.
ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنَّة)) وفيه: ((فيبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر، ثم يتبدى الله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أول مرة، فيقول: أيها الناس، لحقت كل أمة ما كانت تعبد، وبقيتم، فلا يكلمه يومئذ إلا الأنبياء: فارقنا الناس ونحن إلى صحبتهم أحوج، لحقت كل أمة ما كانت تعبد، ننتظر ربنا الذي كنا نعبد.
فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، فيقول: هل بينكم وبين الله آية تعرفونها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فيخرون سجداً أجمعين، ولا يبقى أحد كان يسجد في الدنيا سمعة ولا رياء، ولا نفاقاً، إلا على ظهره (2) طبق، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه.
ثم يرفع برنا ومسيئنا، وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فنقول: نعم)) (3) .
وفيه مع رواية مسلم التصريح بأنهم قد سبق أن رأوه مرة قبل هذه.
وفي هذه المرة تنكر لهم في غير صورته التي تبدى لهم بها قبلها، وذلك للامتحان، ولهذا قالوا: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، الساق، فيكشف عن ساقه، عند ذلك يعرفونه، فيخرون
(1)((صحيح مسلم)) (1/167) .
(2)
هكذا في المطبوعة بتحقيق الألباني ويظهر أنها محرفة من ((إلا عاد ظهره طبقا) والمطبوعة كثيرة التحريف.
(3)
((السُّنّة)) لابن أبي عاصم (1/285) .
له سجداً، فإذا رفعوا رؤوسهم من السجود، إذا هو قد عاد في صورته التي رأوه فيها أول مرة.
وهذا الحديث كما يقول ابن فورك: ((يدخل في باب المستفيض الذي تلقاه أهل العلم بالقبول، ولم ينكره منهم منكر)) (1)
وقد جاء ذكر الصورة في أحاديث أخرى، ثابتة لا مطعن فيها، كما في ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم، قال:((خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله – فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)) (2) .
وفيهما أيضاً من حديث أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) (3)
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم:((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته)) (4) .
وقال أيضاً: ((حدثنا يحيى، عن ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، ولا تقل: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله – تعالى –
(1)((مشكل الحديث)) (ص4) .
(2)
((البخاري)) (8/43) و ((مسلم)) (4/2183) وأحمد في ((المسند)) (2/315) .
(3)
البخاري في كتاب ((العتق)) (3/131) وليس فيه ذكرُ الصورة، ولفظه لمسلم (4/2017) .
(4)
((المسند)) (2/244) وإسناده في أعلى درجات الصحة.
خلق آدم على صورته)) (1)، وفي رواية الدارقطني:((فإن الله خلقه على صورته)) .
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا المثنى بن سعيد، وبهز، قالا: حدثنا همام، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((إذا قاتل أحدكم، فليجتنب الوجه، قال ابن المهدي: فإن الله – تعالى – خلق آدم على صورته)) (2) .
قال: حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا المثنى، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن أبي هريرة، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله – عز وجل – خلق آدم على صورته)) (3) .
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، حدثنا سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، ولا يقول قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك)) (4) .
وقال أيضاً: كتب إلى قتيبة بن سعيد، يذكر أن الليث حدثهم، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) (5) 0) .
(1)((المسند)) (2/251، 434) وسنده حسن، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) (1/229) .
(2)
((المسند)) (2/463) .
(3)
((المسند)) (2/519) .
(4)
((السُّنّة)) لعبد الله ابن الإمام أحمد (ص161) .
(5)
((السُّنّة)) (ص169) .
وقال أيضاً: حدثني أبو معمر، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) (1)
وقال: حدثني أبو بكر الصاغاني، حدثنا أبو الأسود، وهو النضر بن عبد الجبار، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي يونس، عن أبي هريرة، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن صورة الإنسان على وجه الرحمن)) (2) .
وقال ابن أبي عاصم: ((حدثنا محمد بن ثعلبة بن سواء، حدثني عمي محمد بن سواء عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله – تعالى – خلق آدم على صورة وجهه)) (3) هذا إسناد صحيح، وهو ظاهر في إبطال قول من جعل الضمير في قوله ((على صورته)) عائداً إلى آدم.
وقال: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبحوا الوجوه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن)) (4) .
هذا حديث صحيح صححه الأئمة، الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وليس لمن ضعفه دليل إلا قول ابن خزيمة، وقد خالفه من هو أجل منه.
(1) كتاب ((السُّنّة)) (ص170) ورواه ابن خزيمة في ((التوحيد)) ، وقد اشترط أنه لا يدخل فيه إلا حديثاً صحيحاً، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) وسيأتي، والبيهقي في ((الصفات)) (ص291) .
(2)
المرجع السابق (ص215) .
(3)
((السُّنّة)) (1/227-228) وقول الألباني: لكني في شك من ثبوت قوله ((على صورة وجهه)) لا وجه له، وإن كان هو في شك من ذلك، فالحفاظ من أهل الحديث لم يشكوا فيه.
(4)
المرجع السابق (ص228-229) .
((قال شيخ الإسلام – رحمه الله: ((وأما تضعيف ابن خزيمة لحديث ابن عمر بأن الثوري أرسله، فخالف فيه الأعمش، وأن الأعمش وحبيباً مدلسان.
فيقال: قد صححه إسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وهما أجل من ابن خزيمة باتفاق الناس.
وأيضاً فمن المعلوم أن عطاء بن أبي رباح إذا أرسل هذا الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فلابد أن يكون قد سمعه من أحد (1) ، فإذا كان في إحدى الطريقين قد بين أنه أخذه عن ابن عمر، كان هذا بياناً وتفسيراً لما تركه وحذفه في الطريق الأخرى، ولم يكن هذا اختلافاً أصلاً)) (2) ويأتي بقيته – إن شاء الله تعالى -.
وقال ابن أبي عاصم أيضاً: ((حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي يونس – سليم بن جبير -، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((من قاتل فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن)) (3) ، وسنده أقل درجاته الحسن، فابن لهيعة رمي بسوء الحفظ، وهو في هذا لم يخالف غيره من الثقات، كما في الذي قبله.
وقال الخلال: أخبرنا علي بن حرب الطائي، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن ابن لهيعة، عن أبي يونس، والأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن عز وجل)(4) .
(1) لأنه قد علم أن القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب.
(2)
((نقض التأسيس)) (2/2636) والجزء مكتوب عليه أنه الثالث، وهو خطأ.
(3)
((السُّنّة)) لابن عاصم (1/230) .
(4)
((نقض التأسيس)) (2/223) ، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) (1/230) ، والدارقطني في ((الصفات)) (ص37) .
وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن خزيمة، من حديث معاذ بن جبل قال: احتبس عنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات غداة، عن صلاة الصبح، حتى كدنا نترائى قرن الشمس، فخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سريعاً، فثوب بالصلاة، فصلى، وتجوز فيها، فقال:((إنما حبسني أني رأيت ربي – عز وجل – في أحسن صورة)) (1) .
وأخرج الدرامي، عن عبد الرحمن بن عائش، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:((رأيت ربي عز وجل في أحسن صورة، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي رب، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماوات والأرض)) وذكر بقيته مطولاً)) (2) .
وأخرج الترمذي عن ابن عباس، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أتاني ربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب – أعادها ثلاثاً – فرأيته وضع كفه بين كتفي، حتى وجدت برد أنامله بين صدري، فتجلى لي كل شيء وعرفت،
(1)((المسند)) (5/243) ، والترمذي في تفسير سورة ص، (5/369) رقم (3288) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: هذا صحيح، وقال: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم. ورواه الدارقطني في كتاب: ((الرؤية)) وذكر له طرقاً عدة (ص385-394) رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية.
(2)
رواه الحاكم في ((المستدرك)) (1/520)، وابن جرير: في ((التفسير)) ، وابن منده في: الرد على الجهمية (ص90)، والآجري في: الشريعة (ص497)، والدارقطني في:((الرؤية)) (ص395/411) وذكر له طرقاً متعددة.
فقال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات)) (1) إلى آخره.
وروي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس، وأبي أمامة، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وثوبان مولى رسول الله – صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، ذكر أحاديثهم الدراقطني في ((الرؤية)) وغيره.
*******
(1) الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، (5/45) رقم (3287) ، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) (1/204)، والآجري في: الشريعة (ص496)، والدراقطني في:((الرؤية)) ، وذكر له عدة طرق رقم (244)(ص411) رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية.