المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قيام الرحم واستجارتها بالله من القطيعة ومعنى إضافة الحقو إلى الله تعالى - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري - الغنيمان - جـ ٢

[عبد الله بن محمد الغنيمان]

الفصل: ‌قيام الرحم واستجارتها بالله من القطيعة ومعنى إضافة الحقو إلى الله تعالى

‌قيام الرحم واستجارتها بالله من القطيعة ومعنى إضافة الحقو إلى الله تعالى

فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى يا رب قال: فذلك لك)) .

ثم قال أبو هريرة: {فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَلَّيتُم أَن تُفسِدُواْ فيِ الأرضِ وَتُقَطِعُواْ أَرحَامَكُم} .

((أل)) في الخلق تدل على الشمول، فهي عامة لجميع الخلق، ويدل عليه قوله:((فلما فرغ)) أي: انتهى من خلق المخلوقات، وهو يدل على أن ذلك وقع في وقت محدد، وإن كان الله - تعالى - لا حد لقدرته، ولا يشغله شأن عن شأن، ولكن اقتضت حكمته أن يجعل لفعله ذلك وقتاً معيناً، وهذا من الأدلة على أن أفعاله تتعلق بمشيئته، فمتى أراد أن يفعل شيئاً فعله.

وليس معنى قوله: ((لما فرغ)) أنه تعالى انتهى من خلق كل شيء، بل مخلوقاته - تعالى - لا تزال توجد شيئا بعد شيء، ولكن سبق علمه بها، وتقديره لها وكتابته إياها، ثم هي تقع بمشيئته، فلا يكون إلا ما سبق به علمه، وتقديره وكتابته، وشاءه فوجد.

قال ابن أبي جمرة: (( (ظاهر الحديث: الإخبار بعظم ما جعل الله - تعالى - للرحم من الحق، وأن وصلها من أكبر أفعال البر، وأن قطعها من أكبر المعاصي)) (1) .

قوله: ((قامت الرحم، فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة)) .

هذه الأفعال المسندة إلى الرحم، من القيام، والقول، ظاهر الحديث أنها على ظاهرها حقيقة، وإن كانت الرحم معنى يقوم بالناس، ولكن قدرة الله -

(1)((بهجة النفوس)) (4/146) .

ص: 381

تعالى - لا تقاس بما يعرفه عقل الإنسان، ولا داعي أن يقال: إن الله - تعالى - جعلها في جوهر، وجعل لها حياة، وأنطقها بعد ذلك، فقد جاء أن أعمال العبد تأتيه، وتخاطبه، وتجادل عنه، وهذا من جنسه، والله أعلم.

وقيام الرحم قيام مخصوص، غير القيام المتبادر من لفظه، وقد جاء إيضاحه في الرواية التي ذكرها في ((التفسير)) : وفيه: ((قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن)) (1) .

قال الحافظ: قال القابسي: ((أبى أبو زيد المروزي أن يقرأ لنا هذا الحرف؛ لإشكاله، ومشى بعض الشراح على الحذف، فقال: ((أخذت بقائمة من قوائم العرش)) .

وقال عياض: الحقو معقد الإزار، وهو الموضع الذي يستجار به، على عادة العرب؛ لأنه من أحق ما يحامى عنه ويدفع، كما قالوا: نمنعه مما نمنع منه أزرنا، فاستعير ذلك مجازاً للرحم في استعاذتها بالله من القطيعة. انتهى. وقد يطلق الحقو على الإزار نفسه، كما في حديث أم عطية:((فأعطاها حقوه، فقال: أشعرنها إياه)) يعني: إزاره، وهو المراد هنا، وهو الذي جرت العادة بالتمسك به عند الإلحاح في الاستجارة، والطلب، وهذا المعنى صحيح مع اعتقاد تنزيه الله عن الجارحة)) (2) .

قلت: هذا على مذهب أهل التأويل المذموم، والصواب عدم حمل كلام الله ورسوله على الاصطلاحات الحادثة بعد مضي عصر الصحابة وأتباعهم؛ لأن الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم خاطب الناس بلغة العرب، والمخاطبون فهموا مراده، وما كانوا يفرقون بين الحقيقة والمجاز، وتقدمت الإشارة إلى ذلك.

(1) البخاري مع ((الفتح)) (8/579) .

(2)

((الفتح)) (8/580) .

ص: 382

قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في رده على الرازي في زعمه أن هذا الحديث يجب تأويله.

قال: ((فيقال له: بل هذا من الأخبار التي يقرها من يقر نظيره، والنزاع فيه كالنزاع في نظيره.

فدعواك أنه لا بد فيه من التأويل بلا حجة تخصه، لا تصح)) (1) .

وقال: ((وهذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات، التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء، وردوا على من نفى موجبه، وما ذكره الخطابي وغيره أن هذا الحديث مما يتأول بالاتفاق، فهذا بحسب علمه، حيث لم يبلغه فيه عن أحد من العلماء أنه جعله من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت.

قال ابن حامد: ومما يجب التصديق به: أن لله حقواً.

قال المروزي: قرأت على أبي عبد الله كتاباً، فمر فيه ذكر حديث أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم:((إن الله خلق الرحم حتى إذا فرغ منها أخذت بحقو الرحمن)) فرفع المحدث رأسه، وقال: أخاف أن تكون كفرت. قال أبو عبد الله: هذا جهمي.

وقال أبو طالب: سمعت أبا عبد الله يسئل عن حديث هشام بن عمار، أنه قرئ عليه حديث الرحم، تجيء يوم القيامة فتعلق بالرحمن – تعالى – فقال: أخاف أن تكون قد كفرت؟ فقال: هذا شامي ما له ولهذا؟ قلت: فما تقول: قال: يمضي كل حديث على ما جاء)) (2) .

وقال القاضي أبو يعلى: ((اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره،

(1)((نقض التأسيس)) (3/127) .

(2)

المصدر المذكور (128/141) ملخصاً.

ص: 383

وأن ((الحقو)) و ((الحجزة)) صفة ذات، لا على وجه الجارحة، والبعض، وأن الرحم آخذة بها، لا على وجه الاتصال، والمماسة، بل نطلق ذلك تسمية كما أطلقها الشرع. وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله – رحمه الله – هذا الحديث في كتابه، وأخذ بظاهره، وهو ظاهر كلام أحمد)) (1) .

قلت: قوله: ((لا على وجه الجارحة، والبعض)) وقوله: ((لا على وجه الاتصال والمماسة)) قول غير سديد، وهو من أقوال أهل البدع، التي أفسدت عقول كثير من الناس.

فمثل هذا الكلام المجمل لا يجوز نفيه مطلقاً، ولا إثباته مطلقاً؛ لأنه يحتمل حقاً وباطلاً، فلا بد من التفصيل في ذلك، والإعراض عنه أولى؛ لأن كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم خال منه، وليس هو بحاجة إليه فهو واضح. وليس ظاهر هذا الحديث أن لله إزاراً ورداءً من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس، مما يصنع من الجلود والكتان والقطن وغيره، بل هذا الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد. فإنه لو قيل عن بعض العباد: أن العظمة إزاره، والكبرياء رداؤه؛ لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء، اللذين ليسا من جنس ما يلبس من الثياب.

فإذا كان هذا المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق؛ لأن تركيب اللفظ يمنع ذلك، وبين المعنى المراد، فكيف يدعى أن هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله – تعالى -؟ فإن كل من يفهم الخطاب، ويعرف اللغة، يعلم أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يخبر عن ربه بلبس الأكسية والثياب، ولا أحد ممن يفهم الخطاب يدعي في قوله – صلى الله عليه وسلم – في خالد بن الوليد ((إنه سيف الله)) أن خالداً حديد، ولا في قوله – صلى الله عليه وسلم – في الفرس:((إنا وجدناه بحراً)) أن ظاهره أن الفرس ماء

(1) إبطال التأويل (ص232) مخطوط.

ص: 384

كثير، ونحو ذلك)) (1) .

قوله: ((مه)) هي كلمة ردع وزجر، أو استفهام.

قوله: ((هذا مقام العائذ بك من القطيعة)) الإشارة إلى ما ذكر في الرواية التي أشرت إليها، وهي قوله:((قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن)) ، وهذا أعظم مقام، والعائذ به استعاذ بأعظم معاذ، وهو دليل على تعظيم صلة الرحم، وعظم قطيعتها.

والقطيعة: عدم الوصل، والوصل: هو الإحسان إلى ذوي الرحم، والتودد له والقرب منه، ومساعدته بإسعافه بما يرضيه، ودفع ما يؤذيه، والحرص على جلب ما ينفعه في الدنيا والآخرة.

قوله: ((ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك)) من وصله الله، وصل إلى كل خير وسعادة في الدنيا والآخرة، ولا بد أن تكون نهايته مجاورة ربه في الفردوس؛ لأن الوصل لا ينتهي إلا إلى هناك فينظر إلى وجه ربه الكريم. ومن قطعه الله فهو المبتوت المقطوع مع عدو الله الشيطان الطريد الرجيم، ولو أراد الخلق كلهم صلته ونفعه، لم يفده ذلك.

فأي تحذير وتهديد أعظم من هذا؟ وأي وعد وثواب أكبر من ثواب صلة الرحم؟ ولهذا قرأ أبو هريرة الآية مستشهداً بها، وفيها أن قطيعة الرحم مجلبة للعنة الله وغضبه وشديد عقابه.

والمقصود من الحديث: ما فيه من مخاطبة الله – تعالى – للرحم، بقوله:((مه)) وقوله: ((ألا ترضين)) إلى آخره، وهو خطاب كريم يجب أن يؤمن

(1)((نقض التأسيس)) (3/157) ببعض التصرف.

ص: 385

به على ظاهره، وما فيه من وعده، ووعيده، وحكمه وشرعه، وخطابات الله - تعالى - وكلامه غير محصور في كتبه المنزلة على رسله، وكلامه تعالى غير مخلوقاته، كما سبق التنبيه عليه مراراً، والله أعلم.

******

129-

قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن صالح، عن عبيد الله، عن زيد ابن خالد، قال: مطر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قال الله: أصبح من عبادي كافر بي، ومؤمن بي)) .

زيد بن خالد الجهني، صاحب لواء جهينة يوم فتح مكة، من أهل بيعة الرضوان، قال ابن عبد البر: اختلف في سنة وفاته، وفي وقتها ومكانها، اختلافاً كثيراً، فقيل: توفي في المدينة سنة ثمان وستين، وقيل: بمصر سنة خمسين، وقيل: بالكوفة في آخر خلافة معاوية، رضي الله عنه وعن سائر الصحابة أجمعين)) (1) .

قوله: ((مطر)) أي: نزل عليه المطر ليلاً، وذلك في الحديبية، كما جاء مبيناً في هذا الحديث، ولكن المؤلف رحمه الله اختصره هنا، واقتصر على محل الشاهد منه.

قوله: ((كافر بي، ومؤمن بي)) جاء بيان ذلك في نفس الحديث، حيث قال:(أما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب)) .

(1)((الاستيعاب)) (2/549) ، ((أسد الغابة)) (2/284) ، ((الإصابة)) (2/603) .

ص: 386

ومعنى الإيمان هنا: الاعتراف بفضل الله، ونسبة النعم وإنزال المطر والتصرف في الكون إلى الله – تعالى -؛ لأنه هو مالك كل شيء، وخالقه والمدبر شؤون خلقه.

ومعنى الكفر في هذا الحديث: نسبة النعم، وإنزال المطر، والتأثير في الكون، إلى غير الله – تعالى – كقولهم: مطرنا بالنوء الفلاني.

والنوء هو: النجم الذي ينزله القمر، وغيره.

قال ابن عبد البر: ((النوء في كلام العرب: واحد أنواء النجوم، يقال: ناء النجم ينوء: إذا نهض للطلوع، وقد يكون يميل للمغيب)) (1) .

فلا يجوز نسبة نزول المطر، وغيره إلى النجم، وإن لم يكن ذلك عن اعتقاده، فإن النجوم لا تفعل شيئاً، وليس لها تأثير، وتصريف لأحوال الجو وغيره.

أما من اعتقد أنها تفعل شيئاً من ذلك حقيقة، فهو مشرك الشرك الأكبر.

قال ابن عبد البر: ((معنى نسبة المطر إلى النوء هو عندي على وجهين:

أحدهما: اعتقاد أن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله – تعالى -، فذلك كافر كفراً صريحاً، يجب استتابته عليه وقتله؛ لنبذه الإسلام، ورده القرآن.

الثاني: أن يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء، على ما قدره الله، وسبق في علمه، فهذا وإن كان وجهاً مباحاً، فإن فيه أيضاً كفراً بنعمة الله – عز وجل، وجهلاً بلطيف حكمته؛ لأنه ينزل الماء متى شاء.

قال الشافعي: لا أحب لأحد أن يقول: مطرنا بنوء كذا، وإن كان النوء

(1)((التمهيد)) (16/287) .

ص: 387

عندنا: الوقت، والوقت مخلوق، لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر، ولا يحبس شيئاً من المطر، وإنما يقول: مطرنا وقت كذا، كما يقول: بشهر كذا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، فهو كافر حلال دمه إن لم يتب.

وسمع الحسن رجلاً يقول: طلع سهيل، وبرد الليل، فكره ذلك، وقال: إن سهيلاً لم يأت قط بحر ولا برد.

وكره مالك أن يقول الرجل للغيم، أو السحابة: ما أخلقها للمطر.

وهذا يدل على أنهم احتاطوا، فمنعوا الناس من الكلام بما فيه أدنى متعلق من أمر الجاهلية)) (1) .

والمقصود من الحديث هنا: إسناد القول إلى الله – تعالى -، وهو قول حقيقة يخاطب به رسله من الملائكة والبشر، ويبين فيه حكمه وشرعه، وما يثيب عليه وما يعاقب عليه، وأنه يقول، ويأمر، وينهى متى شاء – جل وعلا -، وأن قوله غير مخلوق، وغير محصور في القرآن ونحوه، وقوله غير مفعولاته.

*****

130-

قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((قال الله: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي، كرهت لقاءه)) .

((إذا)) هنا ظرف للزمن المستقبل، وفيها معنى الشرط.

وتقدم الكلام في صفة محبة الله – تعالى – وأنه تعالى يحب أهل طاعته من عباده، وأن ذلك ثابت بكتاب الله، وسنة رسوله، وأدلته لا تكاد تنحصر، ومنكره

(1)((التمهيد)) (16/285-287) ملخصاً.

ص: 388

ضال عن طريق المنعم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، سالك طريق أهل الضلال والتحريف والتبديل.

وتقدم كذلك الكلام على حب العباد لله – تعالى – وأن ذلك أصل الدين، ومعنى لا إله إلا الله، وأن من لم يحب الله – تعالى – حب ذل وخضوع وتعظيم أنه ليس بمسلم ولا يعرف الإسلام.

قال ابن عبد البر: ((هذا خبر عن حال الطائفتين عند لقاء ربهم، فمن أحب لقاء الله، فهو الذي يحب الله لقاءه، ومن كره لقاء ربه عند الموت، فذاك الذي يكره الله لقاءه)) (1) .

وفي هذا الحديث وصف الله – تعالى – بأنه يكره بعض عباده، وبعض الأعمال، كما قال تعالى:{وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ} (2)، وقال جل وعلا:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (3) .

وفي ((صحيح مسلم)) ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:((إن الله عز وجل حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) (4) .

وفيه عن أبي هريرة مرفوعاً: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً

)) الخ (5) .

(1) من ((الفتح)) (11/358) بالمعنى.

(2)

الآية 46 من سورة التوبة.

(3)

الآية 38 من سورة الإسراء.

(4)

((مسلم)) (3/1341) .

(5)

((صحيح مسلم)) (3/1340) .

ص: 389

وجاء في الرواية التي ذكرها في الرقاق بعد قوله: ((كره الله لقاءه)) قالت عائشة، أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت؟ ((قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه)) .

قال الزرقاني: ((عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله، وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا، هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة، وذلك حين لا تقبل التوبة، وليس المراد الموت؛ لأنه لا يخلو من كراهته أحد، ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا، وكراهة أن يصير إلى الله – تعالى –، قاله ابن عبد البر)) (1) .

والمقصود من الحديث الجملة المذكورة هنا، إذ فيها قول الله – تعالى – إنه يحب لقاء بعض عباده، ويكره لقاء بعضهم.

فالمتقي يحب لقاء ربه عند انقطاع عمله، وانقضاء أجله، فيحب ربه لقاءه ليكرمه، ويجزيه فوق ما يتصوره، فضلاً من ربه تعالى.

وأما الفاجر فإنه عند معاينة رسل الله إليه، وإخبارهم إياه بعذاب الله، يكره عند ذلك ملاقاة الله، فيكره الله لقاءه، فأخبر تعالى عباده بهذا قولاً منه على لسان رسوله، وقوله غير خلقه، وأقواله تعالى غير محصورة في كتبه.

وتقدم أن لقاء الله يتضمن معاينته ورؤيته، وكل أحد من عباد الله سوف يلاقي ربه، فيسأله عن عمله، كما في حديث عدي المتقدم، والله أعلم.

*****

(1)((شرح الموطأ للزرقاني)) (2/85) .

ص: 390

131-

قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله - تعالى -: أنا عند ظن عبدي بي)) .

هذا الحديث تقدم في باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِرُكُمُ اللهُ نَفسَهُ} .

والمقصود منه هنا واضح كما تقدم في الأحاديث قبله، وهو أن الله - تعالى - تكلم بهذا القول مخاطباً عباده بما يريد منهم أن يفعلوه فيثيبهم عليه، وبما يريد منهم أن يجتنبوه، حتى لا يعاقبهم، وتقدم أن الكلام صفة كمال، وأن الله - تعالى - متصف بها، وأن كلامه يتعلق بمشيئته، فمتى شاء أن يتكلم تكلم، وكما أنه تعالى في الأزل يتكلم بما يشاء، فكذلك في المستقبل، وفي كل وقت، إذا أراد أن يتكلم وكلام الله غير محصور ولا نفاد له، وهو غير خلقه.

******

132-

قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال رجل لم يعمل خيراً قط: إذا مات فحرقوه، واذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك، وأنت أعلم، فغفر له)) .

الظاهر أن هذا الرجل من بني إسرائيل، ولهذا أورده المصنف رحمه الله في أحاديث بني إسرائيل.

وقوله: ((لم يعمل خيراً قط)) الظاهر أن المقصود عمل الجوارح، وأن عنده أصل الإيمان في قلبه، فهو مؤمن بالله، وبالجزاء والحساب، وهذا واضح

ص: 391

من قوله: ((فعلت ذلك من خشيتك وأنت أعلم)) ، ومن قوله:((فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني))

الخ.

وفي الرواية التي في أحاديث الأنبياء: ((وكان رجل يسرف على نفسه)) (1) .

قوله: ((إذا مات فحرقوه)) عدل عن خطاب المتكلم إلى الغائب، كراهية إسناد هذه الأفعال المخبر عنها، وهذا أسلوب معروف في كلام العرب، إذا كرهوا العمل المخبر عنه، ذكروه بلفظ خطاب الغيبة كراهة إضافته إلى المتكلم لفظاً.

وقد جاء على الأصل في الرواية المذكورة في أحاديث بني إسرائيل، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وحذيفة، كلهم بلفظ المتكلم:((إذا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني)) .

قوله: ((واذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر)) أي: فرقوا أجزاءه المسحوقة في الريح، التي تبعثر ذراته بعد التحريق والطحن، إمعاناً في تفرقة أجزائه، حتى لا تجتمع، ظاناً أن الله لا يقدر على جمعه وبعثه، ولهذا قال:((فو الله لئن قدر الله عليه)) أي: قدر على جمعي، وبعثني حياً بعد الموت، وفي الرواية المشار إليها:((فو الله لئن قدر الله عليَّ)) .

وهذا هو ظاهر الروايات جميعها، بل هو صريحها، وما ذكر من التمحلات والتكلفات من كثير من الشراح، لا داعي لها، وهي خلاف صريح اللفظ كقولهم:((قدر)) من التقدير، وهو التضييق، أو قدر على العذاب، ونحو ذلك مما يجزم المتتبع لروايات الحديث والناظر في السياق أنه خطأ محض.

فهو شاك في قدرة الله على جمعه، وإحيائه بعد ذلك، ومع هذا عذره

(1) انظر ((الفتح)) (6/514) .

ص: 392

الله – تعالى – بجهله، وحسن قصده، وهذا يدل على أن الجاهل قد يغفر الله له وإن عمل ما يدل على كفره لو كان عالماً.

قال شيخ الإسلام: ((فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهو كفر باتفاق المسلمين)) (1) .

وقال: ((وهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل بقدرة الله – تعالى – على إعادة ابن آدم بعد ما أحرق وذري، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك)) (2) .

وقال أيضاً: ((فهذا شك في قدرة الله، وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وقد غفر الله له)) (3) .

وهذا هو المتبادر من الحديث، فلا يعدل عنه لا بدليل يوجب ذلك، وليس هناك ما يوجب صرفه عن ظاهره.

وقال أيضاً: ((فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شك أنه لا يبعثه، وكل من هذين الاعقادين كفر، يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله، وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته)) (4) .

قوله: ((فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه)) الروايات التي اطلعت عليها كلها بلفظ الماضي الذي وقع وانتهى.

(1)((مجموع الفتاوى)) (3/231) .

(2)

((مجموع الفتاوى)) (12/490-491) .

(3)

((مجموع الفتاوى)) (23/347) .

(4)

((الاستقامة)) (1/164) .

ص: 393

قال الحافظ: ((هذا جميعه كما قال ابن عقيل: إخبار عما سيقع له يوم القيامة، وليس كما قال بعضهم: إنه خاطب روحه، فإن ذلك لا يناسب قوله: ((فجمعه الله)) ؛ لأن التحريق والتفريق إنما وقع على الجسد، وهو الذي يجمع، ويعاد عند البعث)) (1) .

وأقول: ليس هناك ما يمنع أن يكون ذلك وقع، بل هذا هو الظاهر من الحديث برواياته المتعددة، وهو الظاهر من صنيع البخاري – رحمه الله، حيث أورده في أحاديث بني إسرائيل التي وقعت لهم، وأورده في هذا الباب مستشهداً به على أن الله – تعالى – خاطب هذا الرجل، كما في سائر أحاديث الباب، فيكون الله – تعالى – قد أحياه، وخاطبه، ثم مات أخرى، كما حصل لقتيل بني إسرائيل، الذي أمر الله – تعالى – أن يضرب بجزء من البقرة فحيى.

أو تكون حياته بعد جمعه حياة برزخية، يخاطب فيها ويجيب، ويدرك ويعرف، كما خاطب الله – تعالى – والد جابر بعد ما قتل، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لجابر: ((ألا أبشرك عما لقي أبوك؟ إن الله كلم أباك من غير حجاب، فقال له: عبدي، سلني

)) الحديث (2) ، وعلى كُلِّ فقدرة الله – تعالى – صالحة لما ذكر وغيره، والله أعلم.

قوله: ((فقال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك وأنت أعلم، فغفر له)) .

أي: لماذا أمرت أولادك بأن يحرقوك، ويذروك في يوم عاصف، نصفك في البر والنصف الآخر في البحر؟

وهذا يدل على أن من أمر بشيء، ففعل حسب أمره، أنه هو المسؤول

(1)((الفتح)) (6/523) .

(2)

رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص42) .

ص: 394

عن ذلك وعليه تبعته، ولا يرفع ذلك المسؤولية عن المباشر للفعل،، ولا سيما إذا كان فيه معصية لله – تعالى -، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق – تعالى -.

والله – تعالى – يسأله، وهو أعلم بقصده، وما أراده، وإنما ذلك لتقريره بذنبه، حتى يتم الجزاء، فلما كان الدافع له على ما أقدم عليه هو خوف الله بقصد حسن، غفر الله له، وإن كان فعله خطأ، وجهلاً بقدرة الله – تعالى – ومع ذلك عذره الله، وغفر له.

والشاهد منه قوله: ((ثم قال: لم فعلت؟)) ؛ لأنه خطاب من الله – تعالى – لهذا يسأله عن فعله، الذي خالف فيه مقتضى الإيمان بكمال قدرة الله – تعالى -، وقول الله – تعالى – وخطابه غير ما يخلقه، ويفعله مفعولاً له، وكلام الله – تعالى – داخل

في أفعاله الاختيارية، ولهذا أخبر تعالى أنه لا نفاد له، ولا يجوز قصر كلام الله على كتبه.

******

133-

قال: ((حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام حدثنا إسحاق بن عبد الله، سمعت عبد الرحمن بن أبي عمرة، قال: سمعت أبا هريرة، قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن عبداً أصاب ذنباً – وربما قال: أذنب ذنباً – فقال: رب أذنبت ذنبا – وربما قال: أصبت ذنبا – فاغفر لي: فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ به؟ غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبا – أو أذنب ذنبا – فقال: رب أذنبت – أو أصبت – آخر، فاغفره، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي.

ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا – وربما قال: أصاب ذنبا – فقال: رب أصبت – أو أذنبت – آخر فاغفر لي، فقال: أعلم

ص: 395

عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ به؟ غفرت لعبدي - ثلاثا - فليعمل ما شاء)) .

قوله: ((إن عبداً أصاب ذنباً)) هذا جنس يعم كل من كان بهذه الصفة، أي: من أذنب، ثم رجع إلى ربه هارباً من عذابه، طالباً المغفرة تائباً.

قوله: ((أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به)) أي: أنه حقق هذا العلم باعترافه بالذنب، وإنابته إلى ربه، راغباً في مغفرته، خائفاً من عقوبته، فلذلك غفر له، ثم قال في الثالثة:((فليعمل ما شاء)) يعني: ما دام يذنب ثم يستغفر ويتوب، فإن ربه - تعالى - يغفر ذنبه.

ولا يدل ذلك على أنه مصر على الذنب، فإن الإصرار على الذنب أعظم منه، ولكنه يتوب ويستغفر، ثم يغلبه الطبع، وهوى النفس، وتزيين الشياطين، فيواقع الذنب، ثم يفر بعد ذلك إلى ربه تائباً نادماً، راجياً خائفاً، فشروط التوبة متحققة فيه، وهي الإقلاع عن الذنب، والندم على الوقوع فيه، والعزم على أن لا يعاوده.

قال القرطبي في المفهم: ((يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار، وعلى عظيم فضل الله، وسعة رحمته، وحلمه، وكرمه.

لكن هذا الاستغفار، هو الذي ثبت معناه في القلب مقارناً للسان، لينحل به عقد الإصرار، ويحصل معه الندم، فهو ترجمة للتوبة، ويشهد له حديث:((خياركم كل مفتن تواب)) ، ومعناه: الذي يتكرر منه الذنب والتوبة، فكلما وقع في الذنب، عاد إلى التوبة.

لا من قال: أستغفر الله بلسانه، وقلبه مصر على تلك المعصية، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى استغفار.

ص: 396

قلت (1) : ويشهد له ما أخرجه ابن أبي الدنيا، من حديث ابن عباس، مرفوعاً:((التائب من الذنب، كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه)) . والراجح أن قوله: (والمستغفر)) إلى آخره، موقوف. وأوله عند ابن ماجه، والطبراني، من حديث ابن مسعود، وسنده حسن. وحديث:((خياركم كل مفتن تواب)) ذكره في مسند الفردوس، عن علي.

قال القرطبي: ((وفائدة هذا الحديث: أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم، والإلحاح في سؤاله، والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه)) (2) .

والمقصود من الحديث، وقوع كلام الله – تعالى – مخاطباً هذا العبد المذنب، وإن كان العبد لا يسمع ذلك الخطاب، ولم يعلم به، فهو مما أوحاه الله – تعالى – إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم، وهو واقع من الله - تعالى -، فهو دال على مراد الإمام البخاري رحمه الله، من أن الله يتكلم متى شاء، بما يشاء من أمره، وشرعه، وتدبيره لخلقه، وتصريفه ملكه – جل وعلا – وكلامه لا حصر له ولا نفاد، وهو غير مخلوق؛ لأن الكلام صفة المتكلم متعلق به وقائم به، وأما خلقه فهو مفعول له، ليس من صفاته، وإنما هو من مفعولاته. والله أعلم.

******

134-

قال: ((حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا معتمر، سمعت أبي، حدثنا قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي – صلى الله عليه وسلم: ((أنه ذكر رجلاً فيمن سلف – أو فيمن كان

(1) القائل هو الحافظ ابن حجر، رحمه الله.

(2)

((الفتح)) (13/471-472) .

ص: 397

قبلكم – قال كلمة يعني أعطاه الله مالاً وولداً – فلما حضر الوفاة، قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر – أو لم يبتئز – عند الله خيراً، وإن يقدر الله عليه يعذبه، فانظروا إذا مت، فأحرقوني، حتى إذا صرت فحما فاسحقوني – أو قال: فاسحكوني – فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها)) .

فقال نبي الله – صلى الله عليه وسلم: ((فأخذ مواثيقهم على ذلك – وربي – ففعلوا، ثم أذروه في يوم عاصف.

فقال الله – عز وجل: كن، فإذا هو رجل قائم، قال الله: أي عبدي، ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك – أو قال: فرق منك – قال: فما تلافاه أن رحمه عندها)) .

وقال مرة أخرى: ((فما تلافاه غيرها)) فحدثت به أبا عثمان، فقال: سمعت هذا من سلمان، غير أنه زاد فيه:((أذروني في البحر)) أو كما حدث)) .

((حدثنا موسى، حدثنا معتمر، وقال: لم يبتئر)) .

((وقال لي خليفة: حدثنا معتمر، وقال: لم يبتئز: فسره قتادة: لم يدخر)) .

هذا هو الحديث المتقدم قريباً، أعاده من طرق أخرى من حديث أبي سعيد الخدري.

وفيه من الزيادة قوله: ((فيمن سلف – أو فيمن كان قبلكم -)) وتقدم أن الإمام البخاري – رحمه الله – أورده في أحاديث بني إسرائيل من كتاب الأنبياء، مما يدل على أنه منهم، والله أعلم.

ص: 398

وفيه أن وصيته وأمره لأولاده كانت عند وفاته، بقوله:((أي أب كنت لكم؟)) ليكون ذلك أدعى إلى تنفيذ أمره، فكأنه يقول: ما دمتم تعرفون أني كنت لكم خير أب، فمن جزائي عليكم أن تفعلوا ما آمركم به.

وفيه أن سبب أمره لأبنائه بذلك أنه مسرف على نفسه، ولم يقدم خيراً، فقوله ((لم يبتئز خيراً عند الله)) معناه: لم يقدم عملا صالحاً، وفسره قتادة بأنه لم يدخر عند الله خيراً.

والمقصود أنه لم يعمل خيراً يرجو به النجاة.

وفيه قوله: ((حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني – أو قال: فاسحكوني – فإذا كان يوم عاصف فأذروني فيها)) وقد فهم هذا كله من الحديث السابق، والسحق، والسحك، كلاهما بمعنى واحد، وهو أن يطحن حتى يصير ذرات صغيرة جداً، ولهذا أمرهم أن يذروه في اليوم الذي تكون الريح فيه عاصفاً، أي: شديدة؛ إمعاناً في تفريق أجزائه، ظناً منه أن الله لا يقدر على إعادته بعد ذلك، وهذا هو مقصده.

وفيه قول النبي – صلى الله عليه وسلم: ((فأخذ مواثيقهم على ذلك – وربي)) ففيه مشروعية القسم على الأمر المؤكد تقوية وتأكيداً للسامع؛ حتى لا يرتاب في ذلك، والرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الصادق المصدوق فيجب تصديق خبره بدون أي تردد، أو شك، ولو لم يقسم، ولكنه يشرع لأمته صلوات الله وسلامه عليه.

والمواثيق جمع ميثاق وهي: العهود، والأيمان المؤكدة على أن يفعلوا ما أمرهم به.

وفيه أن الله – تعالى – قال له: ((كن، فإذا هو رجل قائم)) وهو ظاهر فيما قلنا إنه واقع في الدنيا، وسبق أن حديث جابر يدل على ذلك، ولفظه: ((قال جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما: قال النبي – صلى الله عليه وسلم: ((ألا أبشرك عما لقي أبوك؟ إن الله كلم أباك من غير حجاب، فقال له: عبدي، سلني،

ص: 399

فقال: يا رب، ردني إلى الدنيا حتى أقتل فيك، قال: فإني قد قضيت عليهم ألا يرجعوا، قال: يا رب فأبلغهم عنا، فأنزل عز وجل {وَلَا تَحَسَبَنَ الَّذِينَ قُتِلُوا فيِ سَبِيلِ اللهِ أموَاتاً بَل أَحيَاءُ عِندَ رَبّهِم يُرزَقُونَ} (1) .

وفيه: أن الله - تعالى - قال له: ((أي عبدي، ما حملك على أن فعلت ما فعلت)) وهو بمعنى ما تقدم.

وقوله: ((مخافتك - أو فرق منك)) الفرق: هو الخوف، وهو بمعنى ما تقدم من قولك:((خشيتك)) .

وفيه قوله: ((فما تلافاه أن رحمه عندها)) وقال مرة أخرى: ((فما تلافاه غيرها)) يعني: أنه تعالى عندما قال هذه الكلمة، رحمه دون إمهال، بل أسرع إليه برحمته، فغفر له، فما أعظم هذا الكرم، وأوسع هذا الحلم والرحمة، هذا مع شك هذا الرجل في قدرة الله، وعدم إيمانه بما يجب عليه بأنه تعالى على كل شيء قدير، ولكن رحمة الله تغلب غضبه.

وتقدم بيان الشاهد منه، وهو قول الله - تعالى- وخطابه لهذا الرجل، مما يدل على أنه تعالى يقول ويتكلم متى شاء، ويكلم من يشاء، وكلامه تعالى لا حصر له ولا نفاد، وهو غير خلقه؛ لأن الكفار والمنافقين يريدون أن يبدلوا كلام الله، وذلك قد يقع، وأما خلق الله - تعالى - فلا تبديل له.

كما في هذه النصوص إثبات الصفات الاختيارية لله - تعالى - وهي من تمام حمده، فمن لم يقر بها لم يمكنه الإقرار بأن الله محمود، ولا أنه رب العالمين.

(1) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص42)، ورواه الإمام أحمد ولفظه:((أعلمت أن الله أحيا أباك، فقال له: تمن، فقال له: أرد إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى، قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون)) انظر ((المسند)) (3/361) .

ص: 400

فإن الحمد ضد الذم، وهو: الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له، كما أن الذم هو: الإخبار بمساوئ المذموم مع بغضه، وجماع المساوئ فعل الشر، كما أن جماع المحاسن فعل الخير.

فمن كان يفعل الخير بمشيئته وقدرته استحق الحمد، ومن لم يكن له فعل اختياري يقوم به ويفعله بمشيئته وقدرته لا يكون خالقاً ولا رباً للعالمين.

وقد علم بالاضطرار أن الله – تعالى – هو الخالق وحده، وهو الرزاق وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهذا هو الفعل الاختياري، فوجب إثباته لله – تعالى -.

وكذلك اتصافه بالصفات مثل الرحمن الرحيم، فإن الرحمن الرحيم: الذي يرحم العباد بمشيئته وقدرته، وكذلك يعذب من عصاه بمشيئته وقدرته، فتصرفه في ملكه دلت عليه أسماؤه وصفاته تعالى، فمن أنكر صفاته لزمه تعطيله عن تصرفه في ملكه.

قال تعالى: - {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} (1) فعلق الرحمة والعذاب بمشيئته.

وهو – تعالى – لم يزل بصفاته يفعل ما يشاء، له الكمال المطلق في كل وقت في الأزل وفي الأبد، وهذا مما أراده البخاري- رحمه الله – بذكر هذه النصوص، خلافاً لما يقوله أهل البدع.

*****

(1) الآية 54 من سورة الإسراء.

ص: 401

قال: ((باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم)) .

هذا هو الباب الثامن مما يستدل به الإمام البخاري رحمه الله على إثبات الكلام لله - تعالى -.

فذكر أولاً قوله - تعالى -: {وَلَقَد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعبَادِنَا المُرسِلينَ} ثم بوب على قوله تعالى: - {إِنَّمَا قَولُنَا إِذَا لَشَيْءٌ أَرَدناهُ} ، ثم على قوله تعالى: - {قُل لَّو كَانَ البَحرُ مِدَادَاً لِكَلمَاتِ رَبّي} الآيات، ثم ذكر المشيئة والإرادة إشارة منه إلى أن كلامه - تعالى - بمشيئته وإرادته، وأنه إذا شاء أن يتكلم تكلم، ثم ذكر ما بيَّن الله من حال الملائكة عند سماعهم صوت الله - تعالى - بالكلام، وأنهم يصعقون، فإذا أفاقوا قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم، وفيه إثبات الصوت لله - تعالى-، وأن كلامه بصوت، وهذا من أبلغ الأدلة على إثبات الكلام لله حقيقة، ثم ذكر قول الله - تعالى -:{يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يريد بذلك إبطال قول من يزعم أن كلام الله مخلوق؛ لأن الخلق لا يبدل بخلاف الكلام، فإنه يمكن تبديله، أو يريد أن الأحاديث القدسية من كلام الله حقيقة، وأن كلامه تعالى لا ينحصر في كتبه المنزلة، ثم ذكر هذا الباب الذي نحن في صدد شرحه، وهو كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، يقصد بذلك أن كلامه تعالى لا انقطاع له ولا نهاية بل متعلق بمشيئته متى شاء تكلم، فكما أنه تعالى تكلم في الأزل، وبعده كلما أراد، فهو يتكلم في المستقبل وفي الحال حسب إرادته.

ثم ذكر قوله تعالى: - {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسىَ تَكليِماً} ليبين أن كلامه حقيقة، وأنه يكون خاصاً وعاماً، ولهذا أعقبه بقوله: باب كلام الرب مع أهل الجنة، ثم ذكر مسألة خلق أفعال العباد، والفرق بين فعل الله تعالى وفعل العبد، ووجوب عدم مشابهة الرب في ذلك وغيره، ولهذا أعقب ذلك بأن ترجم بقول الله - تعالى -: - {فَلَا تَجعَلُواْ للهِ أَندَاداً

ص: 402

وَأَنتُم تَعلَمُونَ} ثم بين الفرق بين فعل العبد وما هو صفة لله مثل القراءة والمقروء، وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله – تعالى -، وكل ما ذكره أدلة واضحة صريحة، ومخالفتها ضلال بيّن.

*****

135-

قال: ((حدثنا يوسف بن راشد، حدثنا أحمد بن عبد الله قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنا حميد قال: سمعت أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: إذا كان يوم القيامة شفعت، فقلت: يا رب أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنة من كان فيه قلبه أدنى شيء، فقال أنس: كأني أنظر إلى أصابع رسول الله – صلى الله عليه وسلم)) .

هذا مختصر من حديث الشفاعة، وتقدم شرحه.

قوله: (( (شفعت)) مبني للمجهول، ومعلوم أنه لا يشفع في ذلك الموقف إلا الله – جل وعلا -، ولا تقع الشفاعة إلا بكلام الله وأمره، وبهذا يرد قول ابن التين، الذي نقله الحافظ:((أنه قال: هذا فيه كلام الأنبياء مع الرب، ليس كلام الرب مع الأنبياء)) (1)، وكذلك قوله:((ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء)) يدل على أن الله يكلمه.

والمراد بالشيء: الإيمان، وتصدق على ما يسمى شيئاً، وهو أقل جزء من الإيمان، وهذا دليل واضح على تفاوت الإيمان بين الناس، كما دلت عليه النصوص الكثيرة.

قوله: ((كأني أنظر إلى أصابع رسول الله –صلى الله عليه وسلم)) ، يعني: أنه كان يشير بأصابعه يصف قلة ما عند هذا المخرج من النار من الإيمان.

*****

(1)((الفتح)) (13/475) .

ص: 403

136 – قال: ((حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا معبد بن هلال العنزي، قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة، فذهبنا إلى أنس، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه، يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره، فوافقناه يصلي الضحى، فاستأذنا، فأذن لنا، وهو قاعد على فراشه.

فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال: يا أبا حمزة، هؤلاء إخوانك من أهل البصرة، جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة.

فقال: حدثنا محمد – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله، فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد – صلى الله عليه وسلم، فيأتوني، فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر لهرساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان

ص: 404

في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، من النار، من النار، فأنطلق فأفعل)) .

فلما خرجنا من عند أنس، قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن، وهو متوار في منزل أبي خليفة، فحدثنا بما حدثنا أنس بن مالك، فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا، فقلنا له: يا أبا سعيد، جئناك من عند أخيك أنس بن مالك، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة.

فقال: هيه، فحدثنا بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هيه، فقلنا: لم يزد لنا عن هذا، فقال: لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة، فلا أدري أنسي، أم كره أن تتكلوا.

فقلنا: يا أبا سعيد، فحدثنا، فضحك، وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم.

حدثني كما حدثكم به، قال:((ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله)) .

تقدم شرحه، والمقصود منه هنا إثبات كلام الله – تعالى – لرسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم –

ص: 405

في الموقف، فإن فيه محاوره بين رب العالمين – جل وعلا -، وبين عبده ورسوله محمد – صلى الله عليه وسلم.

وهو واضح الدلالة على المراد، من أنه تعالى يتكلم ويخاطب من يشاء من عباده يوم القيامة، فإذا ثبت ذلك دل على أن كلامه بمشيئته، وأنه متى شاء تكلم، يوم القيامة، وقبلها.

وهذا أمر من ضروريات دين الإسلام، لا ينكره إلا من هو دخيل فيه، أو زنديق قد تلبس بثوب الإسلام لأجل النيل منه، والإجهاز عليه إذا واتته الفرصة، أو ضال لعبت به الأهواء، واجتالته شياطين الإنس والجن بعيداً عن الحق والهدى.

ولا يضر ما في هذه الخطابات الكريمة من الأفعال المبنية للمجهول كقوله: ((فأستأذن فيؤذن لي)) ، وقوله:((فأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك)) لأنه قد علم أنه لا يقول ذلك إلا رب العالمين، وليس لمخلوق في ذلك الموقف العظيم أن يأمر، وينهي، ويتصرف في الخلق، بإدخال بعض العباد النار، وإخراج البعض منها، وإنما الفاعل لذلك كله والآمر به هو رب العباد – عز وجل.

وهو الذي يقول لرسوله: ((يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع)) ، وهو – تعالى – القائل له:((انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان)) .

ودل صراحة على تفاوت هؤلاء المخرجين من النار في الإيمان، وقد تكاثرت النصوص على ذلك.

كما دل على أن من معه أصل الإيمان، ولم يخرج منه بمكفر، أنه لا يخلد في النار، وإن عظمت ذنوبه، وإن ضعف إيمانه.

قال القرطبي: ((المراد بالإيمان هنا: أعمال الإيمان التي هي أعمال الجوارح،

ص: 406

فيكون دليلاً على أن الأعمال الصالحة من الإيمان.

وقد قيل: إن المراد: أعمال القلوب، ويجوز أن يراد به: رحمة لمسلم، رقة على يتيم، خوفاً من الله، رجاء له، توكلاً عليه، ثقة به، مما هو أفعال القلوب دون الجوارح، وسماها إيماناً؛ لكونها في محل الإيمان)) (1) .

والظاهر أن المراد أصل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، إذ هو الباعث على عمل ما ذكر، ولكن قد يكون الإيمان ضعيفاً فلا يقوى على دفع صاحبه إلى العمل.

ودل على تكرار الشفاعة مرات متعددة، وذلك من رحمة الله بعباده، ولهذا يفتح الله – تعالى – على نبيه من المحامد والثناء ما يرضى به عنه، ويأذن له بالشفاعة، وما لم يكن – صلى الله عليه وسلم – يعرفه من قبل.

واستدل بهذا على أن أسماء الله – تعالى- لا حصر لها؛ لأن الثناء على الله – عز وجل – يكون بأسمائه الحسنى وصفاته.

وفي الحقيقة الشفاعة لله – تعالى – فهو الذي يأمر بها فيقول لنبيه ((اشفع)) ويشفعه، وتقدم أن حقيقة الشفاعة: رحمة الله – تعالى – للمشفوع فيه، وإظهار كرامة الشافع.

ودل الحديث على شفقة النبي – صلى الله عليه وسلم – على أمته.

وقد جاء أن الأنبياء والملائكة والمؤمنين يشفعون، وتقدم بيان ذلك في باب قول الله – تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .

ودل الحديث على عظم ذلك اليوم، إذ أن أفضل الرسل تحجم عن الشفاعة، ويعتذرون بأنهم قد أصابوا ذنوباً، تابوا منها وقبلت توبتهم،

(1)((التذكرة)) (2/418) .

ص: 407

ولكنهم يستحيون من الله.

وفيه دليل على جواز وقوع الذنوب في الجملة من الرسل، ولكنهم يوفقون إلى التوبة، والرجوع إلى الله – تعالى -، وسبقت الإشارة إلى ذلك.

قوله: ((من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان)) التكرار للتأكيد، أو التوزيع على الحبة والخردلة، أي: أقل حبة من أقل خردلة من الإيمان)) قاله الحافظ (1) .

وقوله: ((من النار، من النار، من النار)) هو للتأكيد والمبالغة.

وتقدم ما في الحديث من الإشكال؛ لأن أوله غير متصل بآخره، والجواب عنه.

ويستفاد منه أن الشفاعة لا تطلب إلا ممن يملكها.

كما يستفاد أنه لا يطلب من الشافع أن يشفع إلا إذا كان يقدر على الشفاعة بأن يكون حياً حاضراً، قادراً على ذلك، ففيه بيان ضلال الذين يتعلقون بالموتى، ويطلبون منهم التوسط لهم عند الله، وهذا عين شرك المشركين الذين أرسلت إليهم الرسل، ينهونهم عن ذلك، وينذرونهم عذاب الله إن لم يتوبوا منه.

ودل صراحة على أن الشفاعة لا تنال إلا من أمر الشافع أن يشفع فيه، ولهذا ذكر أنه في كل مرة يحد الله له حداً، فيقول له: اشفع فيهم، فهو – تعالى – يعين له نوعاً متميزاً فيأمره أن يشفع فيهم بحيث لا يمكن دخول من ليس منهم معهم، ولذلك قال في الأولى:((من في قلبه شعيرة من إيمان)) ، وفي الثانية:((من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل)) ، وفي الرابعة:

(1) انظر ((الفتح)) (13/475) .

ص: 408

((من قال: ((لا إله إلا الله)) ، وهذا يعطي بظاهره أنه ولو لم يكن في قلبه شيء من الإيمان، وقد تؤول بأن المقصود: الإيمان الزائد على أصل الإيمان الذي يحصل به الخروج من الكفر، وادعى بعض العلماء الإجماع على ذلك.

والذي يظهر من هذا الحديث، وغيره مما جاء في معناه: أنه لا يشترط ذلك، فالله أعلم.

*****

137-

قال: ((حدثنا محمد بن خالد، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا من النار، رجل يخرج حبواً، فيقول له ربه: ادخل الجنة، فيقول: رب، الجنة ملأى، فيقول له ذلك ثلاث مرات، فكل ذلك يعيد عليه، الجنة ملأى، فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرار)) .

قوله: ((إن آخر أهل الجنة دخولا)) هذا على إطلاقه، يعني: أنه لا يدخلها بعده أحد حيث لم يبق في النار من يخرج منها، وهذا أقل المؤمنين إيمانا وأكثرهم معاصي، ويجوز أن يكون واحداً بعينه، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون نوعاً، أو جنساً من هذا النوع، وقد تقدم في باب قوله - تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أنه بعد إخراج من يخرج من النار يبقى رجل مقبل بوجهه إلى النار، فيدعوا ربه: رب اصرف وجهي عن النار، ويقسم لله أنه لا يسأله غير ذلك، ثم إذا صرف وجهه عن النار يسأل ربه: يا رب، قربني إلى الجنة، ويقسم لربه ألا يسأله غير ذلك، فإذا رأى ما في الجنة سأل ربه أن يدخله الجنة، فإذا أدخله الجنة قال له: تمنّ، فإذا انقطعت أمنيته قال الله له: لك ذلك وعشرة أمثاله معه.

فقد يقال: إن ذاك هو المراد هنا، وقد يكونان اثنين أو نوعين، فالله أعلم.

ص: 409

قال عياض: ((جاء نحو هذا في آخر من يجوز على الصراط، فيحتمل أنهما اثنان، إما شخصان وإما جنسان، وعبر فيه بالواحد عن الجماعة؛ لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك، ويحتمل أن يكون الخروج هنا بمعنى الورود، وهو الجواز على الصراط، فيتحد المعنى، إما في شخص واحد أو أكثر.

قال الحافظ: ((قلت: وقع عند مسلم ما يقوي الاحتمال الثاني، وهو أن المراد بالخروج، معنى الورود، ولفظه: ((وآخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك)) (1) .

قلت: الظاهر أنه رجل واحد، لا جنس ولا نوع، فالأحاديث تدل على ذلك، مثل الخطاب الذي يجري بينه وبين رب العالمين، وكل سياق الحديث بألفاظه تدل على ذلك.

وقد ذكر القرطبي في ((التذكرة)) ما يؤيد هذا، حيث قال:((قال ابن عمر، عن النبي – صلى الله عليه وسلم: آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، يقال له: جهينة، تقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين)) ، ذكره الميانشي أبو حفص عمر بن عبد المجيد، في كتاب ((الاختيار في الملح من الأخبار والآثار)) .

ورواه الخطيب، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين، سلوه: هل بقي من الخلائق أحد)) ورواه الدارقطني. انتهى (2) .

وعند تأمل النصوص يتبين عدم الاتحاد، فيجوز أن يكون هذا المذكور في رواية مسلم آخر من يدخل الجنة ممن لا يلقى في النار، وإنما يبطئ به

(1)((الفتح)) (11/443) .

(2)

((التذكرة)) (2/515) .

ص: 410

عمله على الصراط فيحبو مرة، ويزحف أخرى، حتى يجاوز النار.

والمذكور في هذا الحديث المشروح هنا آخر من يدخل الجنة ممن يلقى في النار من أهل الإيمان، وبذلك تتفق النصوص، والله أعلم.

قوله: ((آخر أهل النار خروجاً من النار)) يعني: بأهل النار من الموحدين الذين يدخلون النار بذنوبهم، أما أهل النار الذين ماتوا على الكفر فهم لا يخرجون منها أبد الآباد، كما قال تعالى:: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (1)، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (2) } والآيات في ذلك كثيرة.

قوله: ((يخرج حبواً)) يعني: على ركبتيه ويديه، لا يستطيع الاعتماد على رجليه، والمشي عليهما يسمى حبواً، قال في ((اللسان)) :((حبا حُبُوّاً: مشى على يديه وبطنه، وحبا الصبي حَبْواً: مشى على استه، وأشرف بصدره)) (3) .

وقال النووي: ((قال أهل اللغة: الحبو: المشي على اليدين والرجلين، وربما قالوا: على اليدين والركبتين، وربما قالوا: على يديه ومقعدته.

وأما الزحف، فقال ابن دريد، وغيره: هو المشي على الاست مع إفراشه بصدره، فحصل من هذا: أن الحبو والزحف متماثلان، أو متقاربان، ولو ثبت اختلافهما حمل أنه في حال يزحف، وفي حال يحبو: والله أعلم)) (4) .

(1) الآية 107 من سورة هود.

(2)

الآية 6 من سورة البينة.

(3)

انظر ((اللسان)) (1/560) المرتب.

(4)

((شرح مسلم)) (3/39) .

ص: 411

قوله: ((فيقول له ربه: ادخل الجنة، فيقول: رب، الجنة ملأى، فيقول له ذلك ثلاث مرات، وفي كل ذلك يعيد عليه: الجنة ملأى، فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرار)) هذا هو محل الشاهد من الحديث؛ لما فيه من كلام الله – تعالى – ومخاطبته لهذا الرجل، الذي هو آخر من يدخل الجنة، وهو دليل أيضاً على جواز تكليم الله – تعالى – لمن هو أعلى منزلة منه، كما جاءت النصوص في ذلك، وتقدم بعضها.

وهذا الحديث اختصره هنا، ولفظه كما في كتاب الرقاق، قال:((قال النبي – صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها – أو إن ذلك مثل عشرة أمثال الدنيا – فيقول: تسخر مني – أو تضحك مني – وأنت الملك؟ فلقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضحك حتى بدت نواجذه، وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)) (1) .

وواضح من هذا أن الله يكلمه بدون واسطة، وأن ذلك يتكرر، ثم يقول له في النهاية: إن لك مثل الدنيا عشر مرات، ولهذا بهت الرجل من ذلك، ورأى أنه لا يستحق ولا قريباً من ذلك، فقال: أتسخر مني – أو قال: أتضحك مني – وأنت الملك؟

ففيه إثبات الضحك لله – تعالى -، وأنه يسخر من بعض خلقه، ومثل هذه الأفعال الصادرة من الله – تعالى يجب أن تثبت له – تعالى – على ما يليق بعظمته

(1) انظر البخاري (8/99) .

ص: 412

وفق ما جاء النص بها، فلا يجوز تأويلها بما يغير معناها، ولا تعطيلها، بل يؤمن بها على ما جاءت، وكما أخبر بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو أعلم بالله من غيره، وأحرص على هداية الأمة، وإبعادها عن الضلال، وهو أقدر الخلق على البيان، وإيضاح الحق.

138 – قال: ((حدثنا علي بن حجر، أخبرنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن خيثمة عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولا بشق تمرة)) .

قال الأعمش، وحدثني عمرو بن مرة عن خيثمة مثله، وزاد فيه:((ولو بكلمة طيبة)) .

تقدم هذا الحديث في باب قول الله – تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وفيه: ((ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حاجب يحجبه)) وهو واضح الدلالة على عموم كلام الله – تعالى – للمؤمنين؛ لأن قوله: ((ما منكم من أحد)) نكره سبقت بالنفي، فهي من صيغ العموم، غير أن قوله:((منكم)) يجوز أن يكون قيداً في المؤمنين، ويخرج من ذلك العموم الكفار؛ لأنهم ليسوا منا.

وقوله: ((سيكلمه ربه)) السين للاستقبال من الزمان؛ لأن هذا التكليم لا يكون إلا يوم القيامة، والترجمان: هو الواسطة التي تنقل الكلام من المتكلم إلى المكلم، سواء اختلفت اللغة، أو لم تختلف.

قال في ((اللسان)) : ((التُّرجُمان، والتَّرجُمان: المفسر للسان، وهو الذي يترجم الكلام، أي: ينقله من لغة إلى لغة)) (1) وليس هذا من تمام التعريف، بل

(1)((اللسان)) (1/316) .

ص: 413

لا يلزم أن يكون نقله من لغة إلى أخرى.

ومعنى ذلك أن العبد سيقف بين يدي الله – تعالى – يوم القيامة، فيحاسبه على ما كلفه به من دينه هل قام به، أو أهمله، ويحاسبه على أعماله، وكل تصرفاته، وذلك بدون واسطة من خلقه، بل هو جل جلاله يتولى ذلك بنفسه، فيكلم عبده ويسائله.

وقوله: ((فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم)) أي: أن أعماله تكون حاضرة عن يمينه، وعن شماله، فالحسنات عن يمينه، والسيئات على شماله، لا يغادره في ذلك الموقف شيء منها، ولهذا قال:((فلا يرى إلا ما قدم)) ، وقد يكون كما قال ابن هبيرة: إنه ينظر عن يمينه وعن شماله، كحالة الذي دهمه أمر عظيم، فهو يتلفت يطلب النجاة، أو الغوث.

قوله: ((وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه)) وذلك أن النار في ذلك الموقف حائلة بين الناس وبين الجنة، فلا بد من ورودها لكل أحد، ثم ينجي الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثياً.

ولهذا قال: ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) يعني: نصفها، والمقصود تقديم العمل الصالح الذي يكون واقياً لصاحبه من النار، وساتراً له منها، وهذا يدل على وجوب تقديم العمل الصالح، المنبعث عن تقوى الله – تعالى – والإيمان به، وبملاقاته ومحاسبته، ويدل على نفع العمل الصالح ولو قل.

قوله: ((قال الأعمش)) إلى آخره، يقصد بذلك بيان صحة السند؛ لأن الأعمش قد صرح بالتحديث فأمن التدليس بذلك.

****

139-

قال: ((حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله – رضي الله عنه – قال: جاء حبر من اليهود، فقال، إنه إذا كان يوم القيامة، جعل

ص: 414

الله السماوات على إصبع، والأرضين على أصبع، والماء والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك. فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك، حتى بدت نواجذه، تعجباً، وتصديقا لقوله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى قوله: {يُشرِكُونَ} .

تقدم هذا الحديث في باب قوله - تعالى -: {لِمَا خَلَقتُ بِيَدَىَّ} وتقدم الكلام عليه هناك.

والمقصود منه هنا قوله: ((ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك)) فإنه خطاب لخلقه، ولا سيما الذين كانوا ينازعونه في ملكه في الدنيا من الجبارين، والمتكبرين، ولهذا جاء فيه بعد قوله:((أنا الملك)) قوله: ((أين ملوك الدنيا؟)) كما تقدمت الإشارة إليه.

****

140-

قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، أن رجلا سأل ابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: ((يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) .

النجوى هي المحادثة بين اثنين أو أكثر سراً، بحيث لا يسمع حديثهم من قرب منهم، والمقصود هنا: كلام الرب - تعالى - مع عبده سراً.

قال في ((اللسان)) : ((نجاه نجواً: ونجوى: ساره، النجوى، والنَّجِيُّ: السر، النجوى: السر بين اثنين، يقال: نجوته نجواً، أي: ساررته، وكذلك

ص: 415

ناجيته، والاسم: النجوى)) (1) .

قال الحافظ: ((المراد من النجوى في الحديث: المناجاة التي تقع من الرب – سبحانه وتعالى – يوم القيامة مع المؤمنين)) (2) .

قوله: ((يدنو أحدكم من ربه)) في الرواية الأخرى. ((يدنو المؤمن من ربه)) .

والله - تعالى - وصف نفسه بأنه يدنو، ويقرب من بعض عباده، دون بعض، وقد تكاثرت النصوص في ذلك، حتى بلغت ما يقرب من خمسمائة آية في كتاب الله – تعالى -، كلها تدل على أنه – تعالى - يقرب من بعض خلقه، ويدنو إليهم، كقوله تعالى:{وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (3) .

وقوله – تعالى -: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ} (4) .

وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} (5)، وقوله – تعالى -:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (6)، وقوله:{وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ (7) } والآيات في هذا كثيرة جداً.

وكذلك ما تقدم من الأدلة على علو الله - تعالى - واستوائه على العرش، تدل على ذلك، فإنه إذا كان الله – تعالى – على العرش أمكن القرب منه

(1)((اللسان)) (3/592) المرتب.

(2)

((الفتح)) (10/488) .

(3)

الآية 281 من سورة البقرة.

(4)

الآية 223 من سورة البقرة.

(5)

الآية 7 من سورة الزمر.

(6)

الآية 156 من سورة البقرة.

(7)

الآية 39 من سورة النور.

ص: 416

بالصعود إليه والعروج، كما عرج النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه، وكذا الملائكة وبعض الأرواح وغير ذلك، وببعض هذه النصوص الكثيرة يحصل العلم الضروري، لمن آمن بها، وبما دلت عليه، من أن الله – تعالى – يقرب إلى عباده، ويقربون إليه، كما قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1)

ودلالة النصوص الشرعية على هذا من أعظم المتواترات، والعلم بها مستقر في فطر المسلمين، عامتهم، وخاصتهم، كما أنه مستقر في فطرهم أن الله فوقهم.

وليس من الخلق أحد إلا ويعلم أن عباد الله منهم المقرب إلى الله – تعالى -، ومنهم المبعد الملعون المطرود، وكلهم يسمون الطاعات: قربات، يتقرب بها العبد إلى الله – تعالى -، وكلهم يرفعون أيديهم إلى الله، وكونه تعالى فوقهم يستلزم أنه يقرب إليه بالعلو والصعود، كما رفع عيسى ابن مريم إليه، والملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم إذا صعدوا إليه سألهم: كيف تركتم عبادي؟

والأدلة على هذا الأصل العظيم لا حصر لها، واتفق السلف الصالح، ومن تبع كتاب الله، وسنة نبيه، وآمن بهما، على القول بذلك، والإيمان به.

((قال الخلال في ((السُّنَّة)) : أخبرنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا أحمد بن محمد المصرمي، حدثنا سليمان بن حرب، قال: سأل بشر بن السري حماد بن زيد، فقال: يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء:((ينزل الله إلى السماء الدنيا)) يتحول من مكان إلى مكان؟

فسكت حماد، ثم قال:((هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف شاء)) (2) .

(1) الآية 186 من سورة البقرة.

(2)

((بيان تلبيس الجهمية)) (3/184) المخطوط.

ص: 417

وقال شيخ الإسلام: ((أهل السُّنَّة يثبتون أن الله على عرشه، وأن حملة العرش أقرب إليه ممن دونهم، وأن ملائكة السماء العليا أقرب إلى الله من ملائكة السماء الثانية، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما عرج به إلى السماء صار يزداد قرباً إلى ربه بعروجه، وصعوده. وعروجه إلى الله – تعالى – لا إلى مجرد خلق من خلقه، وأن روح المصلي تقرب إلى الله في السجود، وإن كان بدنه متواضعاً، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسُّنَّة)) (1) .

فالله – تعالى – يقرب بنفسه إلى من يشاء من خلقه، وهو فوق عرشه، عال على خلقه، ولا يجوز تأويل النصوص في ذلك مثل قوله – صلى الله عليه وسلم:((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه)) .

ولا يلزم أن يكون كل نص في القرب يراد به قرب الله – تعالى – بنفسه، بل ينظر في النص الوارد في ذلك، فإن دل على قربه بنفسه حمل عليه كما في هذا الحديث، وإن دل على قرب ملائكته ورسله حمل عليه، كقوله – تعالى - {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد} ِ (2)، وقوله:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَاّ تُبْصِرُونَ} (3) .

وهذا الحديث ظاهر في أن العبد يدنو من ربه، بل هو نص صريح في ذلك، فصرفه عن ظاهره تحريف لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاعب به، يعد من عظائم الذنوب، يجب على المؤمن التحرز منه.

وما نقله الحافظ عن ابن التين أنه قال: ((يعني يقرب من رحمته، وهو

(1)((مجموع الفتاوى)) (6/7) .

(2)

الآية 16 من سورة ق.

(3)

الآية 85 من سورة الواقعة.

ص: 418

سائغ في اللغة، يقال: فلان قريب من فلان، ويراد الرتبة)) (1) . فهو تأويل الجهمية المعروف الذي ذكره السلف عنهم، وردوه، وبينوا أنه مخالف لقول الله – تعالى – ولقول رسوله –صلى الله عليه وسلم – ولعقيدة أهل العلم والإيمان، وهو سلوك غير سبيل المؤمنين.

قال شيخ الإسلام: ((وبيان بطلان هذا التأويل من وجوه:

أحدها: أن ما يدنو إليه العبد من الرحمة، والإيمان، وغير ذلك، إما أن تكون أعياناً قائمة بأنفسها، أو صفات قائمة بغيرها، فإن كانت صفات، فمعلوم أن القرب إلى الصفة لا يكون إلا بالقرب إلى الموصوف نفسه.

فأما قربه من صفته القائمة به دون قربه من نفسه، فظاهر البطلان والفساد، ولهذا لم يقله أحد من العباد، بل الذي يحيل القرب إلى نفسه هو للقرب إلى صفاته أشد إحالة، إن كان يثبت له صفة.

ومن المعلوم أن قوله: ((يدنو العبد من ربه، حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه – أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: أعرف رب)) وقوله: إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه)) وقوله: ((فيدنيه الله منه فيضع عليه كنفه)) ، [وقوله:((يدنو أحدكم من ربه فيضع عليه كنفه] (2) ، كل هذه الألفاظ صريحة واضحة، كل من سمعها علم بالاضطرار أن الذي يدني العبد، ويضع عليه كنفه، ويقرره بذنوبه، ويغفرها له، هو الله، لا أحد من خلقه، فكيف يجوز أن يقال: لا يدنو العبد من ربه، وإنما يدنو من بعض مخلوقاته؟ (3) . وهل ذلك إلا بمثابة من يقول: إن من يقرره بذنوبه هو بعض مخلوقاته؟ كما يقوله الجهمية، القائلون بأن الله – تعالى – لا يقوم به كلام،

(1)((الفتح)) (13/477) .

(2)

هذا لفظ الحديث المشروح هنا، ولم يذكره الشيخ.

(3)

لأن الرحمة التي فسروا بها دنو العبد هو الثواب واللطف والإحسان، فهي إذاً مخلوقة.

ص: 419

وإنما الكلام يقوم ببعض مخلوقاته، وهو أيضاً بمنزلة أن يقال: إن الله لا يغفر له، وإنما يغفر له بعض مخلوقاته.

وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه خلاف ما أخبرت به الرسل، وأنه شرك صريح في إلاهية الله وربوبيته، ولهذا قال بعض السلف: إن من زعم أن قوله لموسى: {إِنِيّ أَنَاْ رَبُّكَ} مخلوق، فهو كافر؛ لأنه جعل هذا الكلام قائماً بمخلوق يلزم أن يكون هو الرب، وسائر تأويلات الجهمية وأهل الباطل من هذا الجنس.

الثاني: أن هذا الدنو، ووضع الكنف، والمخاطبة، تكون وقت السؤال، والعبد خائف غير آمن، ولا يظهر له أنه يغفر له ويرحم، كما هو صريح الحديث الصحيح بقوله:((يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) .

فإذا كان العبد حين هذا الدنو من الله، والمخاطبة، والتقرير بذنوبه، يرى أنه قد هلك قبل أن يذكر له الرب – تعالى – أنه غفر له، امتنع أن يكون ما ذكره من دنوه من الله، هو دنوه من رحمته، وأمانه وتعطفه.

الثالث: أن الرحمة والعطف، والأمان، إن كانت صفات الله – تعالى -، كان القرب إليها قرباً إلى الموصوف، كما تقدم، وإن كانت أعياناً قائمة بنفسها مخلوقة لله – تعالى -، فمن المعلوم أن حين الحساب في عرصات القيامة لا يكون هناك أجسام مخلوقة من الرحمة التي أعدها الله – تعالى – لعباده، ولكن هو يحكم بالعفو والمغفرة، ثم ينقلون إلى دار الرحمة، فامتنع أن يكون أحد حال المحاسبة مقرباً إلى أجسام هي رحمة قبل أن يؤذن لهم في دخول الجنة.

الرابع: أن يقال: من المعلوم أن الله – تعالى – أخبر في كتابه بأصناف ما ينعم

ص: 420

به على عباده من المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمساكن، وقد أجمل ما لم يفصله في قوله تعالى:{فَلَا تَعلَمُ نَفسٌ مَّا أُخفِىَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعيُنٍ} .

وهذه الأمور يباشرها المؤمن مباشرة، لا يكون جزاؤه مجرد قربه منها دون مباشرتها، بل ذلك يكون حسرة وعذاباً، فدعوى الإكرام بمجرد التقريب من هذه الأمور دون مباشرتها، كلام باطل، لا حقيقة له.

الخامس: أن المؤمن لم يزل في رحمة الله في الدنيا والآخرة، فلا يجوز تخصيص حال السؤال بقربه من رحمته، دون ما قبل ذلك وما بعده، بل هو مازال مباشراً لما يرحمه الله به قبل وبعد، فأي فائدة في أن يوصف بالقرب من شيء ما زال مباشراً له، لا ينفصل عنه؟

السادس: أنه في العرض على الله يظهر له من الأهوال والشدة ما يكون أعظم عليه وأشد لرهبه وألمه من كل ما كان قبل ذلك وبعده، فكيف يجوز تخصيص أشد الأحوال عليه بأنه يقرب فيه مما يرحم به؟ مع أن ما قبلها وما بعدها كان ما يرحمه به إليه أقرب، وهو له أعظم مباشرة ونيلاً.

السابع: أن قولهم: ((يقرب من رحمة الله، وأمانه ولطفه، ونحو ذلك)) من تأويلهم، لا ريب أنه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.

ومن المعلوم في اللغة العربية أن هذا لا يجوز إلا إذا اقترن بالكلام ما يبين المحذوف، فلا يقال: جاء زيد، والمقصود غلامه، أو رسوله (1) .

والحديث نص في أن الله – تعالى – هو الذي يدني عبده من نفسه، ولهذا لا يسمع أحد هذا الكلام، فيفهم أن الله يدنيه من شيء آخر ولا يخطر هذا ببال المستمع، فكيف يجوز أن يكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – أراد الباطل الذي قالوه؟

(1) وهذا يرد ما نقله الحافظ عن ابن التين أن ذلك سائغ في اللغة، كما تقدم ذكره.

ص: 421

الثامن: أن قوله: ((فيدنيه منه، فيضع عليه كنفه، ثم يقرره بذنوبه)) الجمع بين الإدناء ووضع الكنف، وتقريره بذنوبه، قرينة تعين أن الله – تعالى – هو الذي يدني إليه عبده، ويضع عليه كنفه، فيستره من الناس، كما صرح به في الحديث.

التاسع: أن هذا الحديث دل على ما دل عليه القرآن من وقوف العباد على الله، وخطابه لهم، ومن المعلوم بالاضطرار من رسالات الرسل، ومن دين الإسلام، أن هذا إنما هو يوم القيامة، وأن أحوال العباد مع الله يوم القيامة غير أحوالهم في الدنيا، وعلى قول هؤلاء المؤولة لا فرق بين الدنيا والآخرة، فإن الله لا يقرب إليه شيء لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يقفون على ربهم، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ويصيرون إليه، وإنما ذلك كله إلى بعض مخلوقاته، ومقدوراته، كما أن خطابه لهم عند الجهمية وأتباعهم)) (1) ، ومعناه أنه يخلق كلاماً في بعض مخلوقاته يكلمهم منها، وعند الأشاعرة - الذين هم فرع عن الجهمية – يخلق إدراكاً في العباد يفهمون به المعنى الواحد القائم بذاته – تعالى – وهذا تكذيب لكتاب الله ولرسوله، ومناقضة لدين الإسلام الذي فطر على قبوله العباد.

قوله: ((حتى يضع كنفه عليه)) جاء الكنف مفسراً في الحديث بأنه ((الستر)) ، والمعنى: أنه – تعالى – يستر عبده عن رؤية الخلق له؛ لئلا يفتضح أمامهم، فيخزى، لأنه حين السؤال والتقرير بذنوبه تتغير حاله، ويظهر على وجهه الخوف الشديد، ويتبين فيه الكرب والشدة.

قال الأزهري: ((قال الليث: الكنفان: الجناحان، وأنشد:

سِقْطا من كنفي نعام جافل

(1) انتهى من ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/177) المخطوطة.

ص: 422

وكنفا الإنسان: جانباه، وناحيتا كل شيء: كنفاه.

وقولهم: في حفظ الله وكنفه، أي: في حرزه وظله، يكنفه بالكلاءة وحسن الولاية، وقال ابن المبارك:((يضع عليه كنفه)) يعني: ستره)) (1) .

((قال الخلال في كتاب السُّنَّة: باب يضع كنفه على عبده، تبارك وتعالى: أخبرني محمد بن أبي هارون، ومحمد بن جعفر،

أن أبا الحارث حدثهم قال: قلت لأبي عبد الله: ما معنى قوله: ((إن الله يدني العبد يوم القيامة، فيضع عليه كنفه؟)) قال: هكذا نقول: يدنيه ويضع كنفه عليه، كما قال، يقول له: أتعرف ذنب كذا؟

قال الخلال: أنبأنا إبراهيم الحربي قال: قوله: فيضع عليه كنفه، يقول: ناحيته.

قال إبراهيم: أخبرني أبو نصر، عن الأصمعي، يقال: نزل في كنف بني فلان، أي: في ناحيتهم)) (2) .

قوله: ((فيقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره)) هذا هو المقصود من إيراد الحديث هنا؛ لأن فيه مخاطبة الله لعبده وتقريره بذنوبه، ثم يقول له:((أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) وهو واضح جداً في أن الله يكلم عباده يوم القيامة، ويخاطبهم مخاطبة فيها محاسبتهم وتقريرهم بنعم الله عليهم، وبذنوبهم، ويخاطبهم في غير ذلك كما تقدم.

فمنكر هذا ضال وسالك غير سبيل المؤمنين، وحريٌّ أنْ يوليه الله – تعالى – ما تولى ويسلك به غير سبيل المؤمنين فى الآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

(1)((تهذيب اللغة)) (10/274) ، وقول ابن المبارك رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) .

(2)

((نقض التأسيس)) (2/185) .

ص: 423

قوله: ((ثم يقول: إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) هذا أيضاً صريح في أنه تعالى يكلم عباده بذلك ممتناً عليهم بأنه قد ستر عليهم في الدنيا حيث كانوا يبارزون الله بالذنوب، فيستر عليهم مع عصيانهم له، ثم غفرها لهم في الآخرة.

فهذا الكرم العظيم، والحلم الواسع، والفضل الجزيل.

والمغفرة: هي محو الذنب ووقاية تبعته.

وعلى كل فالدلالة من هذا الحديث ظاهرة جداً، وصريحة فيما ذكره من أجله، وهو كونه تعالى يتكلم إذا شاء بما شاء، ويكلم من يشاء من عباده، إما إكراماً له، أو امتناناً عليه، أو تهديداً له وتوبيخاً، أو غير ذلك.

فمن نفى ذلك عن الله – تعالى – فقد قال خلاف قول الله ورسله وأتباعهم ممن فهم مراد الله ورسوله، وسوف يجزيه الله – تعالى – بما يستحق.

وقد جاء ما يدل على أن الله – تعالى – يكلم بعض أهل النار، كما في ((الصحيحين)) ، عن أنس، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((يقول الله – تعالى – لأهون أهل النار عذاباً: لو كانت لك الدنيا، وما فيها، ومثلها معها، أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشرك)) (1) .

******

(1) البخاري، انظر ((الفتح)) (6/363) و (11/416) ، ومسلم (4/2160) .

ص: 424

قال: ((باب ما جاء في قوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسىَ تَكليِماً} .

((قال الأئمة هذه الآية أقوى ما ورد في الرد على المعتزلة.

قال النحاس: أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازاً، فإذا قال:((تكليما)) وجب أن يكون كلاماً على الحقيقة التي تعقل)) (1) .

((وقد استقر مذهب أهل السنة والجماعة، وأعلام الملة، وجماهير الأمة في شرق الأرض وغربها، على أن الله يتكلم حقيقة، متى شاء، وأن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله - تعالى -، وأن كلامه صفة له، لا يكون منفصلاً عنه، كما لا يكون كلام المتكلم منفصلاً عنه قائماً بغيره، ومعلوم بالحس أن الكلام لا يقوم بنفسه، ومن قال إن كلام الله منفصل عنه، أو أنه يقوم بغيره، فإنه بذلك ينكر كلامه الذي هو رسالته، ويدفع حقيقة ما أنبأت به الرسل، وأعلمته أممهم، ويلحد في أسماء الله وآياته، ويجعله مثلاً للميت، والمعدوم.

وهذا كله كفر وضلال، ومن أجل ذلك كفَّر أئمة الإسلام من يقول: إن كلام الله مخلوق.

والكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس بائناً منه، بل أسمعه لجبريل ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال- تعالى -:{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} (2) .

ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته، وانتقل إلى غيره، بل يقال

(1) الفتح (13/479) .

(2)

الآية 114 من سورة الأنعام.

ص: 425

كما قال السلف: إنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقولهم: منه بدأ، رد على من قال: إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق بدأ.

فبينوا أن الله هو المتكلم به، فمنه بدأ، لا من غيره، وإليه يعود، أي: لا يبقى في الصدور منه شيء، ولا في المصاحف حرف، في آخر الزمان، إذا ترك العمل به وعطل، رفع إلى قائله رب العالمين، أو أنه إليه يعود صفة له)) (1) .

قال: عبد الله ابن الإمام أحمد: ((سمعت أبي يقول: من قال: القرآن مخلوق، فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله – عز وجل.

قال الله – عز وجل: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} (2)، وقال تعالى:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (3)، وقال تعالى:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} (4)، وقال عز وجل:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (5) والخلق غير الأمر)) (6) .

((والوصف بالتكلم كمال، وضده نقص، قال الله – تعالى -: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ

(1)((مجموع الفتاوى)) (12/561) .

(2)

الآية 61 من سورة آل عمران.

(3)

الآية 120 من سورة البقرة.

(4)

الآية 145 من سورة البقرة.

(5)

جزء من الآية 54 من سورة الأعراف.

(6)

((كتاب السنة)) (1/103) .

ص: 426

وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} (1) فكان عبَّاد العجل _ مع كفرهم _ أعرف بالله من المعتزلة، فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم، وقال تعالى:{أَفَلا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (2) } . فعلم أن عدم رجوع القول، ونفي التكلم، نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.

وغاية شبهة النفاة أنهم يقولون: يلزم من إثبات الكلام، التشبيه والتجسيم؛ لأنهم توهموا أن كلام الله يلزم له من اللوازم ما لكلام المخلوق.

ونحن نقول: إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلالة، وبذلك تنتفي شبهتهم.

وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3) ، فهذا كما هو

ظاهر، كلام حقيقي، يسمع من هذه الأعضاء. فالمؤمنون يؤمنون بذلك مع عدم علمهم بكيفيته.

فإذا كان هذا في مخلوق، فكيف الخالق جل وعلا؟ ومثل ذلك تسبيح الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى، ومنه تسبيح الطعام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، وتسبيح الحصا، وسلام الحجر عليه، كل ذلك حق على ظاهره، وقد سمعه المؤمنون، وآمنوا بما لم يسمعوه، ولم يعلموا كيفيته، وهو كلام بصوت يسمع، وهذه ليس لها أفواه يخرج منها الكلام والصوت الصاعد المعتمد على مقاطع الحروف)) (4) .

وقد سمع موسى عليه السلام كلام الله منه – تعالى – بدون واسطة،

(1) الآية 148 من سورة الأعراف.

(2)

الآية 89 من سورة طه.

(3)

الآية 65 من سورة يس.

(4)

((شرح الطحاوية)) (ص194) .

ص: 427

وكذلك جبريل – عليه السلام – يسمع كلام الله بدون واسطة، فيبلغه الرسل بأمر الله له، هذا ما يعتقده المسلمون من دينهم، وهو أمر ظاهر.

((وحقيقة كلام الله – تعالى – الخارجية: هي ما يسمع منه، ومن المبلغ عنه.

فإذا سمعه السامع، علمه وحفظه، فكلام الله مسموع، معلوم، محفوظ.

فإذا قرأه السامع، فهو مقروء له، متلو، فإن كتبه، فهو مكتوب له مرسوم، وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها، لا يجوز نفيه، فلا يكون مجازاً فيها، إذ المجاز يجوز نفيه، وأن يقال: ليس في المصحف كلام الله، ولا قرأ القارئ كلام الله.

قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ (1) } ، وهو لا يسمع كلام الله من الله، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله – تعالى -، وهذه الآية تدل على بطلان قول من يقول: إن المسموع عبارة عن كلام الله.

[والحق] أن المسموع هو كلام، وليس عبارة عنه، كما تزعمه الأشعرية، ومن جعل ما في المصحف عبارة عن كلام الله، فقد خالف ما أنزل الله على رسوله، وسلك غير سبيل المؤمنين، وكفى بذلك ضلالاً)) (2) .

والكلام اسم للفظ والمعنى جميعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن)) (3) .

(1) الآية 6 من سورة التوبة.

(2)

((شرح الطحاوية)) (ص194) .

(3)

رواه النسائي (3/13) ، والإمام أحمد ((المسند)) (5/447) .

ص: 428

وقال: ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة)) (1) .

واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته، كما اتفقوا على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لها، وما أشبه ذلك لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها الكلام الملفوظ به، فعلم بذلك بطلان قول من يجعل كلام الله معنى قائماً بالنفس.

وفي الحديث المتفق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم، أو تعمل)) (2) ففرق بين حديث النفس، فجعله معفواً عنه، وبين الكلام، فدل على أن حديث النفس لا يسمى كلاماً حتى ينطق به ويتلفظ به، وهذا باتفاق من يعتد بقوله من العلماء.

وعلى كل فإنكار كلام الله ضلال وكفر، وإنكار للرسالة، والشرع؛ لأن الشرع أمر، ونهي، فإذا لم يكن الله يأمر وينهى، فليس له شرع ولا رسالات، وقد أوجد هذا القول لهدم الإسلام، والعلماء عرفوا ذلك، ولهذا يقول الإمام البخاري في مبدأ كتابه ((خلق أفعال العباد)) : باب: ما ذكر أهل العلم للمعطلة الذين يريدون أن يبدلوا كلام الله – عز وجل، ثم روى، عن عبد الله بن إدريس، أن رجلاً جاء إليه، فقال: يا أبا محمد، ما تقول في قوم يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: أمن اليهود؟ قال: لا، قال: فمن النصارى؟ قال: لا، قال: فمن المجوس؟ قال: لا، قال: ممن

؟ قال: من أهل التوحيد.

(1) رواه أبو داود (1/567) ، والنسائي (3/19) ، والإمام أحمد (1/409، 415، 435) .

(2)

انظر ((الفتح)) (5/160) ، ومواضع أخر، ولكن بلفظ:((ما وسوست به صدورها)) ، ومسلم (1/116) .

ص: 429

قال: ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء زنادقة، من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله مخلوق، يقول الله – تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم، فالله لا يكون مخلوقاً، والرحمن لا يكون مخلوقاً، والرحيم لا يكون مخلوقاً، وهذا أصل الزندقة، من قال هذا فعليه لعنة الله)) (1) .

قال شيخ الإسلام: ((القول بأن القرآن مخلوق معناه أن الله لم يصف نفسه بالكلام أصلاً، بل حقيقته أن الله لم يتكلم، كما أفصح به رأسهم الأول، الجعد بن درهم، حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، لأن الخلة إنما تكون من المحبة، وعنده أن الله لا يحب شيئاً في الحقيقة، ولا يحبه شيء في الحقيقة، فلا يتخذ شيئاً خليلاً.

وكذلك الكلام يمتنع عنده على الرب – تعالى – وكذلك نفت الجهمية والمعتزلة وغيرهم أن يكون لله كلام قائم به، أو إرادة قائمة به، وادعوا ما باهتوا به صريح العقل المعلوم بالضرورة، أن المتكلم يكون متكلماً بكلام يكون في غيره.

وقالوا أيضاً: يكون مريداً بإرادة ليست فيه، ولا في غيره، أو الإرادة وصف عدمي، أو ليست غير المرادات المخلوقة، وغير الأمر، وهو الصوت المخلوق في غيره.

فكان حقيقة قولهم التكذيب بحقيقة ما أخبرت به الرسل، من كلام الله ومحبته ومشيئته، وإن كانوا قد يقرون بإطلاق الألفاظ التي أطلقها الرسل [تستراً] وهذا حال الزنادقة، والمنافقين)) (2) .

والبخاري – رحمه الله – أراد بهذا الباب الرد على هؤلاء ونحوهم، الذين

(1)((خلق أفعال العباد)) (29-30) .

(2)

التسعينية (ص42) .

ص: 430

ينكرون كلام الله حقيقة، وإذا وصفوا الله بالكلام فمرادهم أن الله خلق كلاماً في غيره، إما في الهوى، أو بين ورق الشجرة التي كلم منها موسى، أو في غير ذلك.

ولا يشك من عرف ما جاءت به الرسل أن هذا تبديل للحق بالباطل، وللحقيقة التي فطر الله عليها عباده، واللغة التي اتفق عليها بنو آدم، إلا من اجتالته الشياطين فغَّيرت فطرته.

فالمتكلم هو الذي يقوم به الكلام، ويتصف به ويصدر منه، كما أن المحب من يقوم به الحب، والقادر من تقوم به القدرة، والعالم من يقوم به العلم.

وعلى قول أولئك الضلاّل الذين يرد عليهم الإمام البخاري في هذا الباب وغيره، أن الذي قال لموسى عليه السلام:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (1) أنه الشجرة، وهذا الكفر ما وراءه كفر.

ويلزم على قولهم إن كل كلام خلقه الله هو كلامه، والله خالق كل شيء، فيدخل في ذلك أفعال العباد، وحركاتهم، وكلامهم، فيلزم أن يكون كلامهم كلاماً له بما فيه من الكذب والكفر وقول الزور، وغير ذلك، حتى نباح الكلاب، فأي قول أفسد من قول هذا لازمه؟ وأي ضلال أبعد منه؟

وكلام أئمة الإسلام في بيان بطلان هذا القول كثير جداً.

قال الإمام ابن جرير رحمه الله: ((وأما قوله: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسىَ تَكليِماً} فإنه يعني بذلك - جل ثناؤه -: وخاطب الله بكلامه موسى خطاباً.

وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا نوح

(1) الآية 14 من سورة طه.

ص: 431

بن أبي مريم، وسئل: كيف كلم الله موسى تكليماً؟ فقال: مشافهة)) (1) .

وذكر البخاري عن ابن عباس قال: كلم الله موسى كان النداء في السماء، وكان الله في السماء)) (2) .

ولهذا الخصوصية التي خص الله موسى بها، صار له بذلك شرف وفضل على غيره من الأنبياء، ولهذا يذكر الناس له هذه الفضيلة في الموقف، إذ طلبوا منه الشفاعة.

******

141-

قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، حدثنا عقيل، عن ابن شهاب، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي أخرجت ذريتك من الجنة؟ قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق! فحج آدم موسى)) .

اختصر الإمام البخاري – رحمه الله – هذا الحديث، وفي بعض ألفاظه الثابتة في ((الصحيحين)) قوله: ((احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟

فقال له آدم: أنت موسى الذي كلمك الله تكليماً، وكتب لك التوراة، فكم تجد فيها مكتوباً:{وَعَصَىَ آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىَ} قبل أن أخلق؟

قال: بأربعين سنة، قال: فحج آدم موسى)) يعني: غلبه بالحجة.

(1)((تفسير الطبري)) (9/403) تحقيق محمود شاكر.

(2)

((خلق أفعال العباد)) (ص41) .

ص: 432

قال شيخ الإسلام: ((قد ظن كثير من الناس أن آدم احتج بالقدر على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاث أحزاب:

فريق كذبوا بهذا الحديث، كأبي علي الجبائي، وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل، ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم بل جميع الأنبياء، وأتباعهم، أن يجعلوا القدر حجة لمن عصى الله ورسوله.

وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد، كقول بعضهم: حجه؛ لأنه أبوه، والابن لا يلوم أباه.

وقول بعضهم: حجه؛ لأن الذنب كان في شريعة، والملام في أخرى.

وقول بعضهم: لأن الملام كان بعد التوبة، وقول بعضهم: لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة.

وفريق ثالث: جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله.

والصواب: أن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنب عاص، ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ ولم يقل: لماذا خالفت الأمر ولماذا عصيت؟

والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس، أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر، وشهود الربوبية، كما قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (1)، قال ابن مسعود: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم (2) .

(1) الآية 11 من سورة التغابن.

(2)

في ((الدر المنثور)) ، أخرجه سعيد بن منصور، انظر (8/184) .

ص: 433

وفي الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت، لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (1) فأمره بالحرص على ما ينفعه، وهو طاعة الله ورسوله، فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله، وأمره إذا أصابته مصيبة أن لا ينظر إلى تقدير ما لم يقع، وهو قوله: لو أني فعلت كذا وكذا، لكان كذا وكذا، فإن هذا ليس فيه إلا التحسر، والمضرة، ولكن لينظر إلى الواقع، ويوقن بأنه بقدر الله تعالى وقضائه، ولا بد من وقوعه، فلا مخلص منه، فيرضى به ويسلم لقدر الله – تعالى – وقضائه، كما قال بعضهم: الأمر أمران:

أمر فيه حيلة، فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه، فلا تجزع منه.

وما زال أئمة الهدى يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، وإن كانت المصيبة بفعل آدمي، فلو أن رجلاً أنفق ماله في المعاصي، ومات ولم يخلف لأولاده مالاً، أو ظلم الناس بظلم صاروا يبغضون أولاده من أجل ظلمه، فلا يعطونهم ما يعطون أمثالهم، فهذه مصيبة في حق الأولاد حصلت بسبب أبيهم.

فإذا قالوا لأبيهم: أنت فعلت بنا هذا، قيل لهم: هذا كان مقدراً عليكم، وأنتم مأمورون بالصبر على ما يصيبكم، والأب عاص لله فيما فعل من الظلم، أو الإنفاق في المعصية، ملوم على ذلك، لا يرتفع عنه الذم والعقاب بالقدر السابق.

فإن تاب توبة نصوحاً، وقبل الله توبته، وغفر له، لم يجز ذمه حينئذ ولومه بحال، لا من جهة حق الله، ولا من جهة المصيبة التي حصلت لغيره بفعله،

(1) رواه مسلم (4/2052) رقم (2664) .

ص: 434

إذ لم يكن هو ظالماً لأولئك، فإن تلك المصيبة مقدرة عليهم، وهذا مثل قصة آدم، فإنه لم يظلم أولاده، وإنما ولدوا بعد هبوطه من الجنة، وهبط هو وحواء، ولم يكن معهما أولاد، فلم يظلم أولاده ظلماً يستوجب ملامه منهم، وكونهم صاروا في الدنيا دون الجنة أمر مقدر عليهم.

وهو قد تاب من ذنبه، كما قال تعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى {121} ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (1) .

وموسى أعلم من أن يلومه على ذنب قد علم أنه تاب منه، وآدم أعلم من أن يحتج بالقدر على أن الذنب لا ملام عليه، وقد علم أن لعن إبليس بسبب ذنبه، وهو مقدر عليه.

ولو كان الاحتجاج بالقدر نافعاً من الذنب لفعله آدم، ولكنه تاب من الذنب واستغفر ربه)) (2) .

فتبين أن آدم حج موسى لما قصد موسى لوم آدم على ما كان سبباً في مصيبة أبنائه، وأن آدم احتج بأن هذه المصيبة سبق بها القدر، ولا بد من وقوعها، كما قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (3) . وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (4) .

وسواء في ذلك المصائب التي تحصل بأفعال العباد، أو غيرها، فإن على

(1) الآيتان 121، 122 من سورة طه.

(2)

((مجموع الفتاوى)) (8/303-322) ملخصاً.

(3)

الآية 11 من سورة التغابن.

(4)

الآية 22 من سورة الحديد.

ص: 435

العبد الصبر والتسليم، ولا يسقط بذلك لوم الجاني وعقابه.

قال الله - تعالى -: {وَاصبِر لِحُكمِ رَبِكَ} (1)، وحكم الله نوعان: خلق، وأمر، فالأول: ما يقدره من المصائب.

والثاني: ما يأمر به وينهى عنه، وهو شرعه ودينه.

والعبد مأمور بالصبر على النوعين، فعليه أن يصبر على فعل المأمور، وترك المحظور، وعلى ما قدره الله وقضاه)) (2) .

((فالمصائب الحاصلة بقدر الله التي لم يبق فيه حق يؤخذ، أو ذنب يعاقب عليه، ليس فيها إلا التسليم للقدر، وقصة آدم من هذا القبيل، فإن موسى لامه من أجل ما أصابه وذريته.

وآدم قد تاب من الذنب الذي هو سبب المصيبة، وغفر له، والمصيبة كانت مقدرة، فلا حيلة أمامها إلا التسليم والرضا.

ولهذا قال: ((أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق)) .

وقوله: ((احتج آدم وموسى)) أي: كل واحد منهما ذكر حجته أمام الآخر، وهذا يجوز أن يكون بعد وفاة موسى، أو أنه في الرؤيا، فإن رؤيا الأنبياء وحي.

((وقال ابن عبد البر: ((مثل هذا يجب فيه التسليم، ولا يوقف فيه على تحقيق؛ لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلاً)) (3) .

(1) الآية 48 من سورة الطور.

(2)

((الفتح)) (11/324-325) ملخصاً.

(3)

((الفتح)) (11/507) .

ص: 436

والمقصود هنا قوله: ((أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه)) والاصطفاء هو: الاختيار والتفضيل، وفرق بين الرسالة والتكليم، فهو قدر زائد على الرسالة؛ أنها تحصل بإرسال ملك إليه أو بالوحي.

وأما التكليم فهو بإسماعه كلامه، وهذا الذي اختص به موسى من بين الرسل، فدل هذا على أن الله – تعالى – كلمه بدون واسطة، بل أسمعه كلامه منه إليه، وهو أمر واضح.

وجاء في رواية ذكرها الحافظ: ((قال: أنت كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه)) (1) .

((قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل في إثبات القدر، وأن الله قضى أعمال العباد، فكل أحد يصبر لما قدر له بما سبق في علم الله – تعالى -، وليس فيه حجة للجبرية)) (2) .

وقال الخطابي – رحمه الله تعالى -: ((قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله والقضاء منه، معنى الإجبار، والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن فلج آدم في الحجة على موسى إنما كان من هذا الوجه، وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه.

وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله – سبحانه – بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم، وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها، خيرها وشرها، والقدر: اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر، كما أن الهدم، والقبض، والنشر، أسماء لما صدر عن فعل الهادم، والقابض، والناشر.

يقال: قدّرْت الشيء، وقدرته، خفيفة وثقيلة، بمعنى واحد.

(1)((الفتح)) (11/508) .

(2)

المرجع المذكور (ص509) .

ص: 437

والقضاء في هذا معناه الخلق، كقوله – تعالى -:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (1) أي: خلقهن.

وإذا كان الأمر كذلك: فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم، أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد، وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم عليها.

وجماع القول في هذا الباب: أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما رام هدم البناء ونقضه (2) .

وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى – صلوات الله وسلامه عليهما – أن الله – سبحانه – إذا كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه.

وبيان هذا في قوله – سبحانه -: {وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِني جَاعِلٌ فيِ الأَرضِ خَلِيفَةَ} فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خلقه للأرض، وأنه لا يتركه في الجنة، حتى ينقله عنها إلى الأرض، وإنما كان تناوله من الشجرة سبباً لوقوعه إلى الأرض التي خلق لها وليكون فيها خليفة، ووالياً على من فيها، وإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى، ودفع لائمة موسى عن نفسه على هذا الوجه، ولذلك قال:((أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن أخلق)) .

فإن قيل: على هذا يجب أن يسقط اللوم أصلاً.

(1) الآية 12 من سورة فصلت.

(2)

يعني: تقدير الله للأشياء، وسبق علمه بها، وأفعال العباد وأكسابهم وإرادتهم واختيارهم، فالقدر بمنزلة الأساس، وأفعال العباد مبنية عليه.

ص: 438

قيل: اللوم ساقط من قبل موسى، إذ ليس لأحد أن يعيِّر أحداً بذنب كان منه؛ لأن الخلق كلهم تحت العبودية أكفاء سواء.

وقد روي: ((لا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا إليها كأنكم عبيد)) .

ولكن اللوم لازم لآدم من قبل الله – سبحانه – إذ كان قد أمره ونهاه فخرج إلى معصيته، وباشر المنهي عنه، ولله الحجة البالغة – سبحانه – لا شريك له.

وقول موسى، وإن كان في النفوس منه شبهة، وفي ظاهره متعلق لاحتجاجه بالسبب الذي جعل أمارة لخروجه من الجنة، فقول آدم في تعلقه بالسبب – الذي هو بمنزلة الأصل – أرجح وأقوم، والفلج فيه قد يقع مع المعارضة بالترجيح، كما يقع بالبرهان الذي لا معارض له. والله أعلم)) (1) .

فحجة آدم عليه السلام ظهرت؛ لأن ما قدر عليه أمر لا يمكن تغييره ولا رده، بل هو قدر قدره العليم القدير، فلا يمكن دفعه، ولا رفعه بعد وقوعه، فليس أمامه إلا التسليم، ومع ذلك لا يكون القدر حجة فيما لم يقع؛ لأن الإنسان مأمور بفعل الطاعة، واجتناب المعصية، وهو لا يعلم ما هو المقدر عليه حتى يقع، فإذا وقع الأمر وتعذر دفعه هناك يسلم للقدر، ويقول: قدر الله وما شاء فعل، ويستغفر من ذنبه ويتوب إلى ربه.

****

142-

قال: ((حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((يجمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا

(1)((معالم السنن)) (7/69-72) .

ص: 439

من مكاننا هذا، فيأتون آدم، فيقولون له، أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك الملائكة، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا.

فيقول لهم: لست هناكم، فيذكر لهم خطيئته التي أصاب)) .

تقدم الكلام على هذا الحديث، والمراد منه هنا قوله فيه:((ولكن ائتوا موسى، عبداً آتاه الله التوراة، وكلمه وقربه نجياً)) ، فهذا واضح كل الوضوح في الدلالة على ما أراده من إثبات كلام الله حقاً، والرد على من ينكر ذلك، إما صراحة كفعل الجهمية والمعتزلة، أو مراوغة كالأشعرية أو بعضهم، وكلهم ضالون في هذا الباب.

*****

143-

قال: ((حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني سليمان، عن شريك بن عبد الله، أنه قال: سمعت ابن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة: إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال أحدهم، خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.

فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتي بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوا إيمانا وحكمه، فحشا به صدره ولغاديده - يعني: عروق حلقه - ثم أطبقه، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قال: وقد بعث؟ قال: نعم.

ص: 440

قالوا: فمرحبا به وأهلا، فيستبشر به أهل السماء، ولا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم.

فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك، فسلم عليه، فسلم عليه، ورد عليه آدم، وقال: مرحبا وأهلا بابني نعم الابن أنت.

فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟

قال: هذان النيل والفرات، عنصرهما.

ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك.

ثم عرج إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد – صلى الله عليه وسلم، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا به وأهلا.

ثم عرج به إلى السماء الثالثة، وقالوا له مثل ما قالت الأولى، والثانية.

ثم عرج به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا مثل ذلك، ثم عرج به إلى السادسة، فقالوا له مثل ذلك.

ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء

ص: 441

فيها أنبياء قد سماهم، فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلامه لله، فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع عليّ أحدا، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك، كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال: عهد إلى خمسين صلاة كل يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم.

فالتفت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جبريل صلى الله عليه وسلم كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم، إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات.

ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمد، والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا، وأبدانا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك.

كل ذلك يلتفت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة، فقال: يا رب إن أمتي ضعفاء، أجسادهم وقلوبهم، وأسماعهم وأبدانهم فخفف عنا.

ص: 442

فقال الجبار: يا محمد، قال: لبيك وسعديك، فقال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضت عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى، فقال: كيف فعلت؟

فقال: خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها.

قال موسى: قد – والله – راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارجع إلى ربك، فليخفف عنك أيضا.

قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: يا موسى، قد – والله – استحييت من ربي مما اختلفت إليه.

قال: فاهبط باسم الله.

قال: واستيقظ وهو في المسجد الحرام)) .

((الإسراء)) ، من سرى، وأسرى: إذا سار ليلاً.

والصواب أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وكذا المعراج، وهو في مكة قبل الهجرة، وأنه يقظة لا مناماً، وأنه بروحه وجسده.

قوله: ((ليلة أسري برسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه)) ، ذكر البيهقي بسنده من طريق موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال:((أسري برسول الله - إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة)) .

ثم قال: ((وكذلك ذكره ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، وروى السدي،، قال: ((فرض على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الخمس في بيت

ص: 443

المقدس ليلة أسري به، قبل مهاجره بستة عشرة شهراً)) (1) .

قوله: ((في بيت المقدس)) يعني: أن أول صلاة صلاها بعد فرض الصلوات في بيت المقدس، وهي صلاة الفجر، فعلى قول الزهري وعروة يكون الإسراء في ربيع الأول، وعلى قول السدي يكون في ذي القعدة، ومن زعم أنه في رجب فليس له مستند، قال ابن كثير: لا أصل لذلك)) (2) .

قوله: ((أنه جاءه ثلاثة نفر)) قال في ((اللسان)) : ((النفر بالتحريك: ما دون العشرة من الرجال، وقالوا: النفر، والقوم، والرهط: جموع لا واحد لها من لفظها)) (3) .

وجاء أن منهم جبريل، وهذا ظاهر من الحديث لا خفاء فيه، وميكائيل.

قوله: ((قبل أن يوحى إليه)) هذه الجملة مما أنكره العلماء على شريك، وخَطَّؤُوه فيها، منهم الخطابي، وابن حزم، والقاضي عياض، والنووي.

وخرجها ابن كثير على أن المجيء مرتين، الأولى: قبل أن يوحى إليه، فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شيء، والثانية وهي التي حصل فيها شق الصدر، ثم الإسراء، والعروج إلى السماء وعبارته:

((وفي سياق حديث شريك غرابة من وجوه، منها قوله: ((قبل أن يوحى إليه)) والجواب: أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه، فكانت تلك الليلة، ولم يكن فيها شيء، ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى، ولم يقل في ذلك ((قبل أن يوحى إليه)) ، بل جاءوا بعد ما أوحى إليه، فكان الإسراء قطعاً بعد الإيحاء، إما بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو عشر سنين، كما زعمه

(1)((دلائل النبوة)) (2/107) .

(2)

انظر السيرة له (2/94) .

(3)

((اللسان)) (3/687) المرتب.

ص: 444

آخرون، وهو الأظهر)) (1) .

قال الحافظ: ((وصرح الخطابي، وابن حزم والقاضي عياض، والنووي، بأن شريكاً انفرد بهذه اللفظة، وفي دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير بن خنيس، عن أنس، أخرجه سعيد بن يحيى الأموي، في كتاب المغازي من طريقه)) (2) .

ثم قال: ((قوله: ((فلم يرهم)) أي: بعد ذلك، ((حتى أتوه ليلة أخرى)) ، ولم يعين المدة التي بين المجيئين، فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد أن أوحي إليه، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج)) (3)، أي: بعد النبوة والوحي.

ويجوز أنه يقصد بقوله: ((قبل أن يوحى إليه)) أي: في شأن الإسراء والمعراج، أي: أنهم فاجَؤُوه بدون سابق إعلام له بذلك.

قوله: ((وهو نائم في المسجد)) وفي آخره: ((واستيقظ وهو في المسجد)) وبهذا ونحوه تعلق من يقول: إن الإسراء والمعراج وقعا مناماً.

والحق أنهما وقعا يقظة لا مناماً، وأن ذلك ببدنه وروحه،، وهو قول جمهور أهل السنة، والدليل قول سبحانه:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظيمة والآيات الباهرة، ولو كان مناماً لم يكن فيه كبير أمر؛ لأنه لا يستنكر.

ومما يدل على ذلك إنكار كفار قريش له، وتعظيمهم إياه، واستبعادهم وقوعه، حتى ارتد بسبب ذلك بعض من أسلم، ولو كان مناماً لم ينكره

(1)((السيرة)) لابن كثير (2/98) .

(2)

((الفتح)) (13/480) .

(3)

المرجع السابق.

ص: 445

أحد، وأيضاً فالعبد اسم لمجموع الروح والبدن.

ودلالة الأحاديث على ذلك ظاهرة، فعلى هذا يكون قوله:((وهو نائم في المسجد)) يعني ذلك المجيء الأول الذي لم يحصل فيه الإسراء، ثم المجيء الثاني كان يقظان.

ويحمل ما في آخر الحديث على الإفاقة مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الآيات العظيمة والملكوت، وقد ينشغل الإنسان بما يقع له من أمر مهم، فإذا انجلى عنه ذلك الأمر كأنه أفاق من نوم، كما جاء في قصة ذهابه إلى الطائف، وفيها:((فلم أفق إلا وأنا بقرن الثعالب)) .

ويجوز أنه نام بعد رجوعه، وكان إذا أوحي إليه يستغرق قلبه في الوحي، فإذا انقطع الوحي سري عنه، فيجوز أن يكون هذا مثله.

قوله: ((فقال أولهم: أيهم هو؟)) يدل على أنه كان نائماً مع جماعة.

قال الحافظ: ((قد جاء أنه كان معه عمه حمزة، وجعفر بن أبي طالب)) (1) .

((فقال أحدهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة)) كانت هنا تامة، والتقدير: وجدت تلك الليلة، ولم يحصل فيها شيء من الإسراء، وذهبوا ولم يرهم.

((حتى أتوه ليلة أخرى)) بعد زمن طويل، كما تقدم، وبهذا يرتفع الإشكال في قوله:((قبل أن يوحى إليه)) وقوله: ((وهو نائم)) .

قال الحافظ: ((وبه يسقط تشنيع الخطابي، وابن حزم، وغيرهما، بأن شريكاً خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة)) (2) .

(1)((الفتح)) (13/480) .

(2)

المصدر السابق.

ص: 446

ومما يدل على ذلك قوله لما استفتح جبريل باب السماء: ((أبعث إليه؟ قال: نعم)) يعني: أنه أرسل إلى الناس.

قوله: ((فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء)) .

هذا من الخصائص التي خص بها الأنبياء، ومعنى يقظة القلب: أنه يدرك الحسيات المتعلقة به: كالألم والحدث ونحو ذلك، لا ما يتعلق بالعين من رؤية الأشياء، قاله النووي (1) .

قوله: ((فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم)) هذا يختلف مع رواية الزهري، عن أنس، عن أبي ذر، أنه قال:((فرج سقف بيتي وأنا بمكة)) وفي رواية الواقدي بأسانيده، أنه أسري به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني:((أنه بات في بيتها، ففقدته من الليل، فقال: إن جبريل أتاني)) .

قال الحافظ: ((والجمع بين هذه الأقوال: أنه نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيتها، وأضافه إليه؛ لكونه يسكنه، فنزل منه الملك، فأخرجه إلى المسجد، فكان به مضطجعاً، وبه أثر النعاس، ثم أخرجه إلى باب المسجد، فأركبه البراق)) (2) .

قوله: ((فتولاه منهم جبريل، فشق ما بين نحره إلى لبّته)) يعني: أن جبريل شق صدره، وبطنه، فاستخرج قلبه وأحشاءه فغسلها بماء زمزم بيده حتى أنقاه من كل ما فيه من دخل، ثم أتي بطست من ذهب، وفيه تور من ذهب، وهو إناء صغير، قد يكون من صفر، أو من حجر، والطست مملوء إيماناً وحكمة، فحشا به صدره، ولغاديده – يعني: عروق حلقه، ثم أطبقه فخاطه،

(1) نقله الحافظ في ((الفتح)) (1/450) .

(2)

((الفتح)) (7/204) .

ص: 447

ولم يتألم من ذلك أو يتأثر، وقد جاء أن أثر الشق بقي فيه واضحاً.

و ((اللبة)) هي موضع القلائد في أعلى الصدر، وهي التي ينحر البعير منها.

وتكرر شق صدره صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ: ((ثبت ذلك في غير رواية شريك في ((الصحيحين)) ، من حديث أبي ذر، ووقع أيضاً له ذلك عند البعثة، كما أخرجه أبو داود الطاليسي في ((مسنده)) ، وأبو نعيم في ((الدلائل)) ، ووقع أيضا في حديث أبي هريرة، وهو ابن عشر سنين، كما في ((المسند)) من زيادات عبد الله)) (1) .

قوله: ((ثم عرج به إلى السماء الدنيا)) حذف قبل هذا جملة من الحديث مما هو ثابت في الروايات الأخرى؛ لأن القصة واحدة، وتقدير المحذوف: ثم أتي بالبراق، فركبه، فأسري به إلى المسجد الأقصى، فربط البراق وصلى ركعتين تحية المسجد، ثم عرج به.

والعروج هو الصعود، والارتقاء، وعروجه صلى الله عليه وسلم هذا آية باهرة من آيات الله العظيمة، التي لا يدرك حقيقتها العقل البشري؛ لأن ارتفاع السماء عن الأرض ارتفاع هائل، لا يعلم قدره إلا الله – تعالى -، وقد تبين للناس اليوم أن الإنسان إذا ارتفع عن الأرض إلى حد قريب ينعدم الأكسجين الذي به الحياة، فيختنق ويموت في لحظات، وما فوق السماء الدنيا إلى تليها مسافة بعيدة جداً، لو قدرت بسير الإنسان، وما يستخدمه من آلات حديثة، لكانت بمئات السنين، وربما بآلاف السنين، وهكذا كل ما بين سماء وأخرى، ومع هذا كله يذهب الرسول – صلى الله عليه وسلم – ببدنه وروحه ويجاوز السماوات السبع بارتفاع

(1)((الفتح)) (13/481) .

ص: 448

لا يعلم قدره إلا الله – تعالى – في ما يقرب من اثنتى عشرة ساعة، ثم يعود، ولهذا قال جل وعلا:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .

والتسبيح يكون عند الأمور العظيمة الدالة على قدرة الله، كما سبق.

فإن قيل: لماذا لم يذكر المعراج في القرآن مع أنه آية عظيمة دالة على عظيم قدرة الله – تعالى -؟

قيل: لأن الإسراء قد ذكر، وهو من جنسه، من حيث قطع المسافة الشاسعة في الوقت القصير، ولأنه يدل عليه.

ولأن إخبار الرسول – صلى الله عليه وسلم – به وبما وقع فيه كاف عن ذكره في القرآن.

قوله: ((فضرب باباً من أبوابها)) يدل على أن السماء مبنية بناء محكماً ولها سمك وكثافة، وأنها لا تدخل إلا من أبوابها.

قوله: ((فناداه أهل السماء من هذا؟)) يدل على سماكة السماء وكثافتها، وأن من فيها لا يرى من يأتي من أسفلها، فدل على بطلان قول أهل الهيئة قديماً بأن السماء شفافة، لا تستر من فوقها، ولا من تحتها، وهذا من خرصهم الذي لا يستند إلى برهان.

ودل أيضاً على بطلان قول ملاحدة هذا العصر، الذين ينكرون وجود السماء المبنية المحكمة، ويقولون: إنما هو فضاء تسبح فيه الكواكب، وهذا خلاف نصوص الشرع، وخلاف الواقع، وهم لا يؤمنون إلا بالمحسوس.

قوله: ((فقال: جبريل)) يدل على أن المسؤول عند الاستئذان يسمي نفسه العلم حتى يعرف، ولا يأتي بكلام مبهم مثل قوله:((أنا)) ونحوه مما لا يعين المستأذن.

((قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قال: وقد بعث إليه؟ مقتضى السياق أن تكون ((قال)) الأخيرة للجمع.

ص: 449

وهذا يدل على حراسة السماء، وأنه لا يدخلها أحد إلا من أمر الله بإدخاله.

وقولهم: ((وقد بعث إليه)) يعني: بعث نبياً، فهو يدل على أنهم لم يعلموا ذلك، والظاهر كما قال القسطلاني أن المعنى: أبعث إليه في المجيء إلى السماء؟ لأن البعثة لا تخفى عليهم. وعلى كل فهو يدل على أن معراجه – صلى الله عليه وسلم – بعد النبوة، وهو أمر ظاهر.

((فقالوا: فمرحباً، وأهلاً)) أي: أتيت مكاناً رحباً واسعاً، وفيه لك أهل يفرحون بقدومك، وهذا كلام مشهور، تقوله العرب لمن يستضيفها ولمن تكرمه، ومعناه: إنك حللت في مكان رحب، سهل واسع، لا ضيق عليك فيه، وأنت عند من هو مثل أهلك، يفرح بك ويكرمك.

قوله: ((فيستبشر به أهل السماء)) يدل على أن عندهم علماً بأنه سيبعث نبياً ويعرج به، ويدل على حبهم له وفرحهم برؤيته – صلى الله عليه وسلم.

((لا يعلم أهل السماء بما يريد به في الأرض حتى يعلمهم)) ؛ لأنهم لا يعلمون الغيب، وهو يرد قول بعضهم أنه مرسل حتى إلى الملائكة؛ لأنهم ليسوا بحاجة إلى رسالته، ولو أرسل إليهم رسولاً لكان من جنسهم، كما جرت سنة الله في خلقه، وكيف يرسل لمن في السماوات؟!.

((فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك، فسلم عليه)) وهكذا في كل سماء يجد فيها أنبياء، فيعلمه جبريل من هم، ويأمره بالسلام عليهم، وهم في السماوات حسب منازلهم عند الله، فمن هو أفضل فمنزلته أرفع، والرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يعرفهم حتى يعلمه جبريل بهم، مما يدل على أنه لم يرهم قبل هذا اللقاء.

((فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات، عنصرهما)) أي: أصلهما، أو ما يمدان منه،

ص: 450

وهذا يدل على أن ذينك النهرين ليسا النيل والفرات؛ لأن النيل والفرات في الأرض، وذانك النهران في السماء.

وفي حديث مالك بن صعصعة أنه رأي في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار، وذكر منها النيل والفرات، فيجوز أن يكون ذلك مثل، والله أعلم بذلك.

((ثم مضى به في السماء، فإذا بنهر عليه قصر من لؤلؤ، وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك)) وهذا مما استشكل في هذا الحديث، لأنه ثبت أن الكوثر في الجنة، والجنة في السماء السابعة، كما جاء في المسند من حديث أنس ((دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي في مجرى مائه فإذا مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله – تعالى -)) (1) .

قال الإمام أحمد: ((حدثنا محمد بن فضيل، عن المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك قال: ((أغفى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إغفاءة، فرفع رأسه مبتسماً، إما قال لهم، وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: إنه أنزلت عليَّ آنفاً سورة، فقرأ:{بِسمِ اللهِ الرَحَمَنِ الرّحَيمِ إِنَّا أَعطَيناكَ الكَوثَرَ} حتى ختمها، فقال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: هو نهر أعطانيه ربي – عز وجل – في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب: إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) (2) .

يجوز أن يكون رآه في السماء الدنيا وأصله في الجنة، أو أنه مثِّل له، والله على كل شيء قدير.

(1) انظر ((المسند)) (3/103، 115، 263) .

(2)

((المسند)) (3/102) .

ص: 451

وقال القرطبي: ((والصحيح أن للنبي – صلى الله عليه وسلم – حوضين: أحدهما في الموقف قبل الصراط، والثاني في الجنة، وكلاهما يسمى كوثراً، والكوثر في كلام العرب: الخير الكثير)) (1) .

قال الحافظ: ((فيه نظر؛ لأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثر؛ لكونه يمد منه)) (2) .

وظاهر الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا فرطكم على الحوض)) ، وقوله لأنس لما طلب منه أن يشفع له يوم القيامة وقال:((أنا فاعل)) ، قال: أين أجدك، قال:((اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض)) (3) وغير ذلك، ظاهرها أن الحوض في الموقف، وفي حديث لقيط ما يدل على أنه بعد الصراط فإن فيه:((فينصرف نبيكم وينصرف على أثره الصالحون، فيسلكون جسراً من النار، يطأ أحدكم الجمرة فيقول: حس، فيقول ربك: أو إنه؟ ألا فيطلعون على حوض الرسول على أظمأ – والله – ناهلة رأيتها أبداً)) (4) .

((قال القرطبي في المفهم، تبعاً للقاضي عياض: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله – سبحانه وتعالى – قد خص نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم – بالحوض المصرح باسمه وصفته، وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة، التي يحصل بمجموعها العلم القطعي)) (5) .

قوله: ((ثم عرج إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت في الأولى)) .

(1)((التذكرة)) (1/362) .

(2)

((الفتح)) (11/466) .

(3)

رواه أحمد والترمذي، انظر ((المسند)) (3/178) والترمذي في كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الصراط (2438) .

(4)

رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في ((زوائد المسند)) (4/13) ، وفي ((السنة)) (2/485) .

(5)

((الفتح)) (11/467) .

ص: 452

يعني: أن جبريل استفتح، فقالوا: من؟ فأخبرهم كما مضى.

قوله: ((كل سماء فيها أنبياء، قد سماهم فأوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة)) قال الحافظ: ((كذا في رواية شريك، وفي حديث الزهري عن أنس، عن أبي ذر، فذكر أنه وجد في السماوات آدم، وإدريس، وعيسى، وإبراهيم، ولم يثبت منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة، وهو موافق لرواية شريك، والأكثرون خالفوا ذلك، فذكروا أن موسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، كما في رواية قتادة، وسياق روايته يدل على رجحانها، فإنه ضبط اسم كل نبي، والسماء التي هو فيها)) (1) .

وقد حاول الحافظ أن يجمع بين الروايات بأن موسى كان وقت العروج في السادسة، وإبراهيم في السابعة، ثم انعكس الأمر عند هبوطه.

وهذا جائز، ولكن يحتاج إلى دليل، قال: ويحتمل أنه لقي موسى في السادسة، ثم صعد معه إلى السابعة؛ لأنه هو الذي صارت المحاورة بينه وبينه من أجل تخفيف الصلوات، فالله أعلم)) (2) .

والراجح ما صرح به في هذه الرواية، وقد نص على أن سبب رفعه إلى السابعة ما خصه الله به من التكريم بكلامه، كما قال:

((وموسى في السابعة بتفضيل كلامه لله)) وفي بعض النسخ: ((بتفضيل كلام الله)) وهي أظهر على المراد؛ لأن المقصود إثبات تكليم الله – تعالى – لموسى، وليس تكليم موسى لله – تعالى -.

(1)((الفتح)) (13/482) .

(2)

المرجع السابق.

ص: 453

وهذا هو محل الشاهد من الحديث، وإن كان بقية الحديث فيه دلالة واضحة على تكليم الله – تعالى – لمحمد – صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن البخاري أراد ذلك أيضاً، فكأنه يقول: كما أن الله – تعالى – قد كلم موسى تكليماً، وموسى في الأرض، فقد كلم عز وجل محمداً وهو فوق سبع سماوات.

قوله: ((فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع عليَّ أحداً)) ، وفي رواية:((أن يرفع)) بالياء، قال ابن بطال:((فهم موسى من اختصاصه بكلام الله – تعالى – في الدنيا دون غيره من البشر، كما قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (1) أن المراد بالناس: البشر كلهم، وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحداً، فلما رفع محمداً – صلى الله عليه وسلم – علم أنه فضل عليه، ومن ذلك قال هذا القول)) (2) .

قوله: ((ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى)) .

قال الحافظ: ((هذا مما خالف فيه شريك غيره، فإن الجمهور على أن سدرة المنتهى في السابعة، وعند بعضهم في السادسة، ولعل في السياق تقديماً وتأخيراً، وأن ذكر سدرة المنتهى قبل قوله: ((ثم علا به فوق ذلك)) ، وفي رواية أبي ذر:((ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام)) (3) أي: صوت كتابة الأقلام، التي تكتب ما أمر الله به من تقدير، وأمر ونهي.

ثم قال الحافظ: ((وفي رواية ميمون بن سياه عن أنس عند الطبري بعد ذكر إبراهيم في السابعة: فإذا هو بنهر)) فذكر أمر الكوثر.

(1) الآية 144 من سورة الأعراف.

(2)

((الفتح)) (13/483) بتصرف.

(3)

المصدر نفسه.

ص: 454

قال: ثم خرج إلى سدرة المنتهى، وهذا موافق للجمهور، ويحتمل أن يكون المراد بما تضمنته هذه الرواية من العلو البالغ لأعلى

سدرة المنتهى وما تقدم لأصلها)) (1) .

قوله: ((ودنا الجبار، رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)) .

وفي رواية ميمون بن سياه، عن أنس:(فدنا ربك – عز وجل – فكان قاب قوسين أو أدنى)) .

وفي رواية البيهقي من طريق ثابت البناتي، عن أنس قال:((فدنا فتدلى فأوحى إلى عبده ما أوحى)) (2) .

وفي رواية أبي سعيد التي رواها البيهقي وغيره: ((وكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى)) (3) .

وذكر السيوطي أن ابن مردويه أخرج حديث أنس من طريق كثير بن خنيس، وفيه:((فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى)) (4) .

قال الخطابي: ((ليس في هذا الكتاب – يعني: صحيح البخاري – حديث أشنع ظاهراً، ولا أشنع مذاقاً، من هذا الفصل، فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل.

(1) المصدر نفسه.

(2)

((دلائل النبوة)) (2/384) .

(3)

المصدر المذكور (2/395) .

(4)

((الدر المنثور)) (5/190) .

ص: 455

ثم اختار أن هذا الحديث رؤيا منام، أو أن أنساً حكاه من تلقاء نفسه لم يعزه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم)) (1) .

أقول: أما كون هذا الفصل شنيعاً ظاهراً ومذاقاً، فذلك في نظر الجهمية الذين يزنون كلام الله وكلام الرسول بما يظنونه براهين عندهم، وهي مجرد شبهات وأوهام، أو يزنون كلام الله ورسوله بأذواقهم.

وهذه الشناعة التي يظنها الخطابي – عفا الله عنا وعنه – قد ترد لو كان ما يختص الله به من الأفعال والصفات على وفق مذاق أهل التعطيل ومذهبهم، وقياساتهم الفاسدة.

أما إذا كان العبد منقاداً لما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم، وموقناً بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعلم بالله، وأخشى له من كل الناس قاطبة، وأنه أقدرهم على البيان والإفصاح عما يريد، وهو أيضاً أنصحهم للأمة، وأحرصهم على هدايتها، إذا كان العبد موقناً بذلك كله، فلن يكون هذا الفصل وأمثاله مما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – شنيعاً لا ظاهراً ولا مذاقاً كما زعم الخطابي.

وأما محاولته الطعن في راوي الحديث – أنس بن مالك – رضي الله عنه، وأنه إنما حكى هذا القول من عند نفسه، وقد سبق أن قال في عبد الله بن مسعود مثل هذا، وهذا زلة منه عظيمة، وخروج عن نهج أهل الحق، وهذا ما يتمناه كل زنديق، ورافضي خبيث، حتى يتسنى لهم إبطال الشرع كله؛ لأن كل أحد يمكنه أن يقول ما شاء إذا انفتح هذا الباب، وهو الطعن في الصحابة بأنهم لم يفهموا ما يقولون، وينقلون الباطل والضلال، كما هو مقتضى قول الخطابي.

مع أن قوله هذا خلاف ما اتفق عليه أئمة الإسلام من المحدثين والفقهاء،

(1)((الفتح)) (13/483) .

ص: 456

وأن مرسل الصحابي له حكم الاتصال؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون رواه عن صحابي، أو سمعه من الرسول – صلى الله عليه وسلم.

وكذلك طعنه في شريك بن عبد الله غير مقبول، بل هو خلاف الحق.

((قال أبو الفضل ابن طاهر: ((تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفات منه شيء لم يسبق إليه، فإن شريكاً قبله أئمة الجرح والتعديل ووثقوه، ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به، وروى عبد الله بن أحمد الدورقي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعباس الدوري، عن يحيى بن معين: لا بأس به)) (1) .

وقال ابن عدي: ((مشهور من أهل المدينة، حدث عن مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به، إلا أن يروي عنه ضعيف)) .

قال ابن طاهر: ((وحديثه هذا رواه عنه ثقة، وهو سليمان بن بلال)) (2) .

ثم إن شريكاً لم ينفرد بهذا اللفظ كما تقدم.

وأما قول الخطابي: ((إن ذلك يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما)) .

فجوابه أن كثيراً من النصوص في كتاب الله وسنة رسوله تقتضي ذلك، بل تدل عليه نصاً، وقد سبق في باب قوله تعالى:{وَكَانَ عَرشُهُ عَلَى المَاءِ} من ذكر بعض النصوص في ذلك، وبعض أقوال أئمة السلف ما فيه مقنع لمن يريد الحق.

وأما المكابر والضلال فلا حيلة فيه إلا طلب الهداية له من الله – تعالى -.

(1) إذا قال يحيى بن معين: لا بأس به، فمعناه عنده: ثقة.

(2)

((الفتح)) (13/485) .

ص: 457

ثم مفهوم هذا القول من الخطابي أنه لا تمييز بين مكان الخالق والمخلوق ولا مسافة، ولا تحديد، وهذا لا يعدو أمرين لا ثالث لهما:

إما: أن يكون الرب – تعالى – حالَاّ في الخلق، ومداخلاً لهم، فهو في كل مكان، لا يختص به مكان دون آخر، حتى أجواف الحيوانات والناس والأمكنة الخبيثة، وهذا مذهب الحلولية الذين هم من أضل خلق الله، وأبعدهم عن معرفة الله والتمييز بينه وبين خلقه، وهذا غاية الكفر ومنتهاه.

الثاني: أنه لا مكان لله أصلاً، ومن ليس له مكان – بمعنى أنه ليس في جهة – فهو عدم لا وجود له، والعدم هو إله المعطلة والملاحدة.

ومعلوم ثبوت وصف الله – تعالى – بالقرب، والدنو، من بعض خلقه، كما قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) .

وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي موسى لما رفعوا أصواتهم بالتكبير قال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم: ((اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع بصير قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) وقد تقدم، والنصوص في هذا كثيرة.

قال شيخ الإسلام: ((قرب الله – سبحانه – ودنوه من بعض مخلوقاته، لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف شاء، كما قال ذلك من قاله من السلف.

وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة، وقال تعالى:{وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (2) } .

(1) الآية 186 من سورة البقرة.

(2)

الآية 52 من سورة مريم.

ص: 458

والنداء هو: رفع الصوت، والنجي هو القريب لمن يكلمه ويناجيه، وأكد ذلك بقوله:{وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} ، والمنادي لموسى هو ربه – تعالى – وهو المناجي له أيضاً، ونداؤه ومناجاته قائمة به – تعالى – ليست مخلوقة منفصلة عنه، ووقعت مناداته ومناجاته لرسوله موسى في وقت واحد معين.

وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي موسى، أنهم كانوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال:((أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) .

وفيهما: ((يقول الله – تعالى -: من تقرب إلىَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)) (1) .

((والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته، وهو القول المعروف للسلف والأئمة، وهو قول الأشعري، وغيره من الكلابية، فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته، وكذلك يثبتون استواءه على العرش، فصار مستوياً عليه.

وأما دنوه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر.

وأول من أنكر هذا في الإسلام الجهمية، ومن وافقهم)) (2) .

وقد ثبت في ((الصحيحين)) من حديث ابن عمر قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم –

(1)((مجموع الفتاوى)) (5/463-464) ملخصاً.

(2)

المصدر (ص466) .

ص: 459

يقول: ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) .

وسبق الكلام عليه قريباً.

وفي لفظ: ((يؤتى المؤمن يوم القيامة فيدنيه الله منه، فيضع عليه كنفه)) .

قال أبو يعلى: ((غير ممتنع حمله على ظاهره، وأنه دنو من ذاته، وقد أخذ أحمد بظاهره، في رواية أبي الحارث، وقد سأله: ما معنى قول النبي – صلى الله عليه وسلم – إن الله يدني العبد يوم القيامة، فيضع عليه كنفه؟ قال: هو كما قال، ونقول به، فقد نص أحمد على الأخذ بظاهره)) (1) .

قوله: ((فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط بهم حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟

قال: ((عهد إليَّ خمسين صلاة كل يوم وليلة)) .

استدل بذلك على عظيم قدر الصلاة عند الله، والاهتمام بها، وأنها من أفضل ما تفضل الله به على هذه الأمة؛ لأنها صلة بين العبد وربه وقرب منه، فينبغي للمسلم أن يهتم بها ويجتهد في أدائها في خشوع وحضور قلب.

وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وقال الله – تعالى -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (2) .

وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (3) } .

(1)((إبطال التأويل)) (ص155) مخطوط.

(2)

الآية 153 من سورة البقرة.

(3)

الآية 45 من سورة البقرة.

ص: 460

ومما يزيد في أهميتها أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يذكر أنه فرض عليه في ذلك الموقف القريب إلى الله تعالى إلا الصلاة.

وقد علم موسى – صلى الله عليه وسلم – أن الله سوف يفرض عليه فروضاً، ولهذا استوقفه.

وفي ذلك بيان نصحه وشفقته على هذه الأمة، فصلاة الله وسلامه عليه وجزاه الله خير الجزاء، حيث جعله الله سبباً لتخفيف الواجب على هذه الأمة.

قوله: ((إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت)) وهذا كله بإرادة الله، فهو – جل وعلا – الذي ألهم موسى – صلى الله عليه وسلم – أن يسأل نبينا – صلى الله عليه وسلم – وأن يأمره بالرجوع إلى الله ليطلب التخفيف، فالحمد لله الذي أتم نعمته على عباده، وأظهر فضل أوليائه من رسله.

قوله: ((فعلا به إلى الجبار)) فيه دلالة صريحة واضحة على علو الله – تعالى – وأن الذي يصعد في العلو، يقرب من الله، وأن الذي في السماء أقرب إليه ممن في الأرض، وأن من في السماء السابعة أقرب إليه ممن هو تحتها، وهذا أمر فطر الله عليه عباده، لا ينكره إلا الجهمية والمعتزلة، ومن سلك نهجهم ممن اجتالتهم الشياطين فغيرت فطرهم، وزينت لهم تعطيل الله – تعالى – مما وصف به نفسه، وقد سبق الكلام في ذلك.

قوله: ((فقال وهو مكانه)) الضمير عائد إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – أي: وهو في مكانه الذي أوحى الله إليه فيه قبل نزوله إلى موسى.

((يا رب، خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا)) إلى آخره، استدل بهذا أهل الأصول على جواز النسخ قبل التمكن من العمل، وعلى كل ففي هذا عظيم فضل الله ومنته على عباده، حيث أمر وأوجب، ثم لطف فخفف ورحم.

قوله: ((ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمد، والله، لقد راودت

ص: 461

بني إسرائيل قومي)) إلى آخره، هذا يدل على كمال نصح نبي الله وكليمه موسى – صلى الله عليه وسلم – لهذه الأمة، ويدل على أن نبي إسرائيل قد فرض عليهم صلوات هي أقل مما فرض على هذه الأمة، كما يدل على أن الخلق يضعفون، كلما تأخروا في الزمن ضعفوا في جميع خلقهم وقواهم.

((فقال الجبار: يا محمد، قال: لبيك وسعديك، قال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضت عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشرة أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك)) هذا المقطع من الحديث صريح في أن الله – تعالى – كلم نبينا – صلى الله عليه وسلم – بلا واسطة، وأنه سمع كلامه، وخطابه بقوله:((يا محمد)) وأجابه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: لبيك وسعديك.

وهذا ما قصده البخاري – رحمه الله – إثباته وإيضاحه، ولا يخفى وضوحه.

وأم الكتاب هو: اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما هو كائن.

وجعل الله إعطاء هذه الأمة بالحسنة عشر حسنات تخفيفاً.

ثم أمسكه موسى وأمره بالرجوع، وطلب التخفيف شفقة منه على هذه الأمة أن تعجز عن أمر الله فتهلك، فجزاه الله أعظم ما يجزي به أولياءه، ما أعظم نصحه وشفقته – صلى الله عليه وسلم.

((قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: يا موسى، قد – والله – استحييت من ربي مما اختلفت إليه)) أي: من كثرة التردد إليه، وفيه دليل على أن هناك مكاناً معيناً كان يتردد إليه هو أقرب إلى الله – تعالى – من المكان الذي فيه موسى – صلى الله عليه وسلم.

لما قال لموسى ذلك قال له: فاهبط باسم الله متبركاً به ومستعيناً.

قوله: ((واستيقظ وهو في المسجد الحرام)) تقدم الكلام على هذه الفقرة.

((قال القرطبي: يحتمل أن يكون استيقاظاً من نومه نامها بعد الإسراء؛ لأن إسراءه لم يكن طول ليلته، وإنما كان في بعضها.

ص: 462

ويحتمل أن يكون المعنى: أفقت مما كنت فيه، مما خامره من مشاهدة الملأ الأعلى؛ لقوله تعالى:{لَقَد رَأىَ مِن أيَاتِ رَبّه الكُبرَىَ. (1) }

قال ابن كثير بعد ما ذكر روايات الإسراء والمعراج: ((إذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها، وحسنها، وضعيفها، يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه، أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام.

ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة، فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يتحصل على مطلب، وقد صرح بعض المتأخرين بأنه – صلى الله عليه وسلم – أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس، ومنه إلى السماء، وفرح بهذا المسلك، ورأى أنه ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات.

وهذا بعيد جداً، ولم ينقل عن أحد من السلف.

ولو حصل هذا التعدد لأخبر به الرسول –صلى الله عليه وسلم – أمته، ولنقله الناس.

والحق أنه أسري به مرة واحدة، يقظة لا مناماً، من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد، ربط الدابة عند الباب، ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين.

ثم أُتي بالمعراج، وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها، فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على

(1)((الفتح)) (13/487) .

ص: 463

الأنبياء الذين في السماوات بحسب مراتبهم، حتى مر بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما صلى الله وسلم عليهم أجمعين.

حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف أقلام القدر بما هو كائن، وغشي سدرة المنتهى من أمر الله فراش من ذهب، وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى جبريل على هيئته التي خلق عليها، له ستماِئَة جناح، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم مسنداً ظهره إليه، ورأى ما يدخله من الملائكة كل يوم سبعين ألف، لا يعودون إلى مثلها أبداً.

ورأى الجنة والنار، وفرضت عليه الصلوات، ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء، فصلى بهم فيه، يحتمل أنها صلاة الصبح.

ثم خرج راكباً البراق، وعاد إلى مكة بغلس)) . (1)

والمقصود أن الله موصوف بالتكلم في الماضي والحاضر والمستقبل، وأنه يكلم من يشاء من عباده بما يشاء، وأي وقت شاء، وقد كلم الله – تعالى – موسى كلاما حقيقياً سمعه موسى من الله، وموسى في الأرض، والله في السماء، وكذلك كلم محمداً وهو في السماء كما في هذه القصة، قال – تعالى- مخاطباً موسى عليه السلام:{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (2) ، وهذا بيان أوضح من النهار في أن الله – تعالى – خص موسى في الدنيا من بين الناس بكلامه، وفيه الدليل على أنه تعالى إذا شاء أن يكلم أحداً من خلقه لم يمنعه مانع، وأنه متصف بالكلام المتعلق بمشيئته دائماً.

*****

(1)((تفسير)) ابن كثير (3/22-23) .

(2)

الآية 144 من سورة الأعراف.

ص: 464

قال: ((باب كلام الرب مع أهل الجنة)) .

مراده بيان أن الله - تعالى - متصف بالكلام في كل وقت إذا شاء؛ لأن الكلام متعلق بمشيئته - تعالى - فأي وقت شاء أن يتكلم تكلم، وقد سبق أن الكلام صفة كمال، وفقده نقص يتقدس الله عنه، وسبق ذكر أنواع من كلام الله - تعالى-.

*****

144-

قال: ((حدثنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله - تعالى - يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا)) .

الظاهر أن هذا الخطاب الكريم من الله - تعالى - لعموم أهل الجنة، وأنه بعد استقرارهم فيها.

وأما قول الحافظ في استظهاره، أن هذا يقال للذين يخرجون من النار، بناء على أن هذا الحديث مختصر من الحديث الطويل السابق، الذي فيه المرور على الصراط، وفيه رؤية المؤمنين لربهم في الموقف، كما تقدم في باب قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، فليس فيه ما ذكر هنا، فيحتاج إلى دليل، وقد دل هذا الحديث بظاهره على أن هذا القول من الله - تعالى - لعموم أهل الجنة.

ص: 465

قال الحافظ: ((هذا الخطاب غير الخطاب الذي لأهل الجنة كلهم، وهو فيما أخرجه مسلم، وأحمد، من حديث صهيب، رفعه: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم موعداً عند الله، يريد أن ينجزكموه)) الحديث.

وفيه: ((فيكشف الحجاب، فينظرون إليه)) ، وفيه:((فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه)) (1) .

وسبق معنى: لبيك، وسعديك.

قوله: ((والخير في يديك)) أي: أن الخلق لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً حتى تمن به عليهم، فكل خير مصدره منك، وكل شر فهو من المخلوق.

قوله: ((فيقول: هل رضيتم؟)) هو جل وعلا يعلم أنهم قد رضوا، ولا يخفى عليه شيء في صدورهم، ولكن يريد تقريرهم بالمنة والفضل الذي يسديه إليهم، وكل فضل نالهم، فهو - تعالى - ابتدأهم به من غير استحقاق له، ولا حق لهم عليه بل بمحض فضله، ومنَّته، وأول ذلك أن جعلهم مسلمين، ثم يسر لهم العمل الصالح الذي كان سبباً لدخولهم الجنة، ثم ثبتهم على الهدى حتى وافوه مؤمنين، فما أعظم منَّته عليهم.

قوله: ((فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك)) .

ولا يحسن أن يقولون غير هذا، وقد أعطاهم فوق ما يتصورون، فلا بد من الرضا، ولهذا لما قال:((ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟)) يقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فهم يستبعدون أن يكون شيء أفضل مما هم فيه.

(1)((الفتح)) (11/422) .

ص: 466

قوله: ((فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) .

قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (1) } .

فرضوان الله - تعالى - عليهم أكبر من الجنة وما فيها، وبذلك تمت سعادتهم، وكملت حياتهم، وطابت لذاتهم، لما رضي سيدهم عنهم.

والحديث واضح الدلالة على مقصود الترجمة، ففيه التصريح بأن الله - تعالى - يقول لأهل الجنة، فيسمعون قوله، ويجيبونه، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد علم أن ذلك يتكرر، وسبق أن كلام الله - تعالى - بمشيئته، فكلما شاء أن يتكلم تكلم، ويكلم من يشاء من خلقه.

*****

145-

قال: ((حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوما يحدث، وعنده رجل من أهل البادية، أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال: أولست فيما شئت؟ قال: بلى ولكن أحب أن أزرع، فأسرع وبذر، فتبادر الطرف نباته، واستواؤه، واستحصاده، وتكويره، أمثال الجبال، فيقول الله - تعالى - ((دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي: يا رسول الله، لا تجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع.

فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .

(1) الآية 72 من سورة التوبة.

ص: 467

أهل البادية، خلاف الحاضرة؛ لعدم الساتر فيها من المباني ونحوها، وغالباً يكون عندهم جرأة في الكلام، وعدم مجاملة، ولذلك كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يحبون أن يكون معهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل العاقل من أهل البادية، حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستفيدوا من جوابه.

قوله: ((إن رجلاً من أهل الجنة)) الخ، قد فهم الأعرابي أن هذا الرجل كان في الدنيا زراعاً، ففيه دليل على إلف النفوس لما تزاوله من الأعمال، حتى تحبه، ويصير من مشتهياتها، ويكون لها فيه متعة وراحة، وهذا الرجل بقيت معه هذه المحبة إلى الجنة.

وفيه أن ما يشتهيه أهل الجنة من أمور الدنيا يمكن حصوله لهم، وأنهم يطلبون ما أرادوا من ربهم تعالى.

قوله: ((أولست فيما شئت؟)) يعني: لست بحاجة إلى الزرع، فكل ما تريده من مأكول، أو مشروب، أو غير ذلك بين يديك.

وقوله: ((بلى، ولكن أحب أن أزرع)) يعني: أن ذلك ليس عن حاجة، وإنما هو مجرد محبة للزرع الذي كان يزاوله في الدنيا.

قوله: ((فأسرع، وبذر، فتبادر الطرف نباته، واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال)) يعني: أن الله أذن له فبذر، وخرج الزرع فاستوى وانحصد، واجتمع حباً متراكماً أمثال الجبال في لحظة واحدة؛ لأن الجنة ليس فيها نصب وكد وتعب، وإنما فيها تنعم وراحة، وما يشتهون.

وهذا من عجائب قدرة الله القادر على كل شيء.

((فيقول: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء)) دونك منصوب على الإغراء، أي: خذ ثمار الزرع الذي طلبت.

ولا يفهم من قوله: ((فإنه لا يشبعك شيء)) أن الجنة يحصل فيها حاجة

ص: 468

وجوع، ولكن يدل على أن نفس الإنسان فيها من الشره فوق ما تحتاجه، وقول الأعرابي: لا نجد هذا، إلى آخره، من باب المزاح، والاعتزاز بأن هذا الرجل ليس من الأعراب، وإنما هو من أهل الزرع في الدنيا، وهم الحاضرة، وفيه تعريض بذلك الرجل، حيث طلب من الله ما لا يحسن طلبه؛ لأنه لا حاجة له فيه.

والشاهد من الحديث واضح جداً، فإن هذا الرجل خاطب ربه فكلمه، وتكرر كلامه معه، وهو من الأدلة الدالة على اتصاف الله - تعالى - بالكلام، وتعلقه بمشيئته، فمتى شاء الكلام تكلم.

قال: ((باب ذكر الله بالأمر، وذكر العباد بالدعاء والتضرع، والرسالة، والبلاغ؛ لقوله:{فَاذكُرُونِي أَذكُركُم} .

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ {71} فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} غمة: هم وضيق.

قال مجاهد: اقضوا إلى ما في أنفسكم، افرق: اقض.

وقال مجاهد: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} إنسان يأتيه، فيستمع ما يقول، وما أنزل عليه، فهو آمن حتى يأتيه فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه حيث جاءه.

والنبأ العظيم: القرآن، صواباً: حقا في الدنيا، وعمل به)) .

مقصوده بهذا: بيان الفرق بين فعل الله وما هو صفة له، وبين فعل العبد

ص: 469

وما هو صفة له، والرد على الذين لم يفرقوا بين ذلك، كما أوضح ذلك في كتابه ((خلق أفعال العباد)) ، قال رحمه الله بعد ما ذكر حديث أبي هريرة:((يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، فيقول الله: حمدني عبدي)) الحديث قال: ((فبين أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة)) (1) .

وقال: ((وأما قوله: فهل يرجع إلى الله إلا باللفظ الذي تلفظ به.

فإن كان الذي تلفظ به قرآناً فهو كلام (2) .

قيل له: ما قولك: تلفظ به؟ فإن اللفظ غير الذي تلفظ به؛ لأنك تلفظت بالله، وليس الله هو لفظك، وكذلك تلفظ بصفة الله بقول الله، وليس قولك: الله، هو الصفة، وإنما تصف الموصوف، فأنت الواصف، والله الموصوف بصفته، وكلامه، فهو الله)) (3) .

يعني: أن اللفظ غير المتلفظ به، فإذا قرأ القرآن، فاللفظ هو فعل العبد وصوته بحركة لسانه وما يلزم للتلفظ، وأما الملفوظ به فهو كلام الله - تعالى -، وكذلك إذا وصفت الله بقوله - تعالى - الذي وصف به نفسه، كقوله تعالى:{اللهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيوُّمُ} فلفظك بهذه الآية ليست هي الصفة، ولكن لفظك بها فعلك، تصف الله بما قاله - تعالى - واصفاً به نفسه، هذا معنى قوله:((وليس قولك: الله هو الصفة، إنما تصف الموصوف، فأنت الواصف، والله الموصوف بكلامه)) ثم قال:

(1)((خلق أفعال العباد)) (ص105) تحقيق عبد الرحمن عميرة.

(2)

هذا قول من يقول: اللفظ هو الملفوظ، وهو قول باطل، بيّن بطلانه البخاري بهذا الكلام.

(3)

((خلق أفعال العباد)) (ص108) .

ص: 470

((كالواصف الذي يصف الله بكلام غير الله)) يعني: أن العبد إذا وصف الله بكلام الله الذي وصف به نفسه، فالوصف فعل العبد، والكلام الذي وصف به الله هو كلامه - تعالى - وصفته، وهو - تعالى - الموصوف، وهذا معنى قوله:((وأما الموصوف بصفته وكلامه فهو الله)) . ثم قال:

((ففي قولك: تلفظ به، وتقرأ القرآن، دليل بيَّن أنه غير القراءة، كما تقول: قرأت بقراءة عاصم، وقراءتك على قراءة عاصم، لا أن لفظك وكلامك، كلام عاصم بعينه، ألا ترى أن عاصما لو حلف أن لا يقرأ اليوم ثم قرأت أنت على قراءته لم يحنث عاصم؟)) (1) .

يعني: أن قولك: تلفظت به، كقولك: قرأت القرآن، فالتلفظ مثل القراءة، وهما غير المتلفظ به، والمقروء، كما تقول: قرأت بقراءة عاصم، يعني: قرأت على قراءة عاصم، أما قراءة عاصم فهي فعله)) ثم قال:

((وقال أحمد رحمه الله: لا يعجبني قراءة حمزة، ولا يقال: لا يعجبني القرآن)) (2) ، وهذا واضح، فإن المراد فعل حمزة، وما فيه من المد الطويل، فأحمد كره فعل حمزة، لا ما يقرأ حمزة، ثم قال:

((واعتل بعضهم (3) فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} . قيل له: إنما يقال: حتى يسمع كلام الله، لا كلامك، ونغمتك ولحنك؛ لأن الله عز وجل فضل موسى بكلامه، ولو كنت تسمع الخلق كلام الله، كما أسمع الله موسى صلى الله عليه وسلم لم يكن لموسى عليك فضل، إذا سمعت كلام الله وسمع موسى كلام الله، قال الله عز وجل:{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (4) .

(1)((خلق أفعال العباد)) (ص172) تحقيق بدر.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

يعني: بعض الذين يرون أنه لا فرق بين اللفظ والملفوظ.

(4)

الآية 144 من سورة الأعراف.

ص: 471

حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا سليمان بن بلال،، عن شريك بن عبد الله، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به قال:((رأيت موسى في السماء السابعة بتفضيل كلام الله)) (1) .

يعني: أن استدلال من يزعم أن لا فرق بين اللفظ والملفوظ، بقوله تعالى:{اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} - استدلال باطل؛ لأن السامع لذلك يسمع كلام الله بصوت المبلغ ولفظه، لا بصوت الله - تعالى - ولفظه، ولو كان الأمر كما زعم هذا المستدل، لم يكن هناك فرق بين موسى حين كلمه الله، وبين من يسمع كلام الله ممن يتلوه، ويقرؤه، ثم استدل بالحديث حيث رأى موسى في السماء السابعة بتفضيله بكلام الله له، ولهذا قال:

((وإن ادعيت أنك تسمع الناس كلام الله، كما أسمع الله كلامه لموسى [لما] قال له: {إنيِ أنَا رَبُّكَ} فهذه دعوى الربوبية، إذ لم تميز بين قراءتك، وبين كلام الله، فإن الله تعالى قال: {فَاذكُرُونِي أَذكُركُم} ، {فَاذكُرُوا اللهَ كَذكُِركُم} [وهذا] يشرح أن ذكر العبد ربه غير ذكر الله عبده، لأن ذكر العبد: الدعاء والتضرع، وذكر الله: الإجابة، كما قال الله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أقول إلا ما في القرآن)) .

حدثنا ضرار، حدثنا صفوان بن أبي الصهباء، عن بكير بين عتيق، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يقول الله عز وجل: من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)) .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا في الجنة، سمعت صوت رجل بالقرآن)) . فبين أن الصوت غير القرآن.

حدثنا إسماعيل، حدثنا أخي، عن سليمان، عن موسى بن عقبة وابن

(1)((خلق أفعال العباد)) (ص108) .

ص: 472

أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا أمشي في الجنة، سمعت صوت رجل بالقرآن، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان، فذلكم البر، فذلكم البر)) ، وكان حارثة من أبر الناس.

ويقال له: أصفة الله - جل ذكره - وعلمه، وكلامه، وأسماؤه، وعزته، وقدرته، بائن من الله - تعالى - أم لا؟

أو قولك وكلامك بائن من الله أم لا؟)) (1) .

يعني: أن كلام الله مثل صفاته الأخرى، من العزة والقدرة، لا يكون شيء منها مفارقاً لله - تعالى - وبائناً منه، بخلاف كلام الخلق وأقوالهم فإنها بائنة من الله، وليست من صفاته، بل صفات لمن قالها، وتكلم بها. ثم قال:

((وقال الله - تعالى -: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى {39} وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (2) .

وقال عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} (3) ، فالإبلاغ، والإنذار من نوح، وهو نذير مبين، يأمرهم بطاعة الله، وأما الغفران، فإنه من الله؛ لقوله عز وجل:{يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} ، ثم قال:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا} .

فذكر الدعاء سراً وعلانية من نوح، وذكر فعل نوح بقومه. ثم قال:{مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا {12} وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} فذكر خلق القوم طوراً بعد طور.

وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا

(1) المصدر نفسه.

(2)

الآيتان 39، 40 من سورة النجم.

(3)

الآية 1 من سورة نوح.

ص: 473

لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (1) .

حدثنا موسى، حدثنا سليمان، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت، فجلس في بيته، وقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأجهر له بالقول، وقد حبط عملي، وأنا من أهل النار. ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فقال: إنه يقول: كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو من أهل الجنة. وكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة.

فلما كان يوم اليمامة كان من بعضنا بعض الانكشاف، فأقبل وقد تكفن وتحنط، وقال: بئس ما تعودون أقرانكم، فقاتل حتى قتل)) (2) .

وقد سمى ابن عمر الصوت بالقرآن: عبادة.

حدثني أبو يعلى محمد بن الصلت، حدثنا أبو صفوان، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن، أبيه قال:((أول ما ينقص من العبادة: التهجد بالليل، ورفع الصوت فيها بالقراءة)) .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة)) .

وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم كانوا يقرؤون القرآن فيجهرون به: ((خلطتم عليَّ)) ، يقول: علت أصواتكم فشغلتموني برفعها فوق صوتي، فخلطتم عليَّ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفع بعضهم على بعض صوته، ولا يخلطون على الناس في جهرهم، وأصواتهم، ولم ينه عن القرآن، ولا عن كلام الله الذي كلم به موسى قبل أن يخلق هذه الأمة.

(1) الآية 2 من سورة الحجرات.

(2)

رواه الطبراني في ((الكبير)) بأسانيد عدة، انظر (2/56-60) .

ص: 474

حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية، عن ربيعة بن زيد، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء، أنها قالت:{وَلِذِكرُ اللهِ أَكبَرُ} ، وإن صليت فهو من ذكر الله، وكل خير تعمله، فهو من ذكر الله، وكل شر تجنبه فهو من ذكر الله، وأفضل ذلك تسبيح الله)) .

وقال موسى: صلى الله عليه وسلم: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي {27} يَفْقَهُوا قَوْلِي} (1) .

وقال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (2) .

وقال بعضهم في قوله عز وجل: {يَزِيدُ فيِ الخَلقِ مَا يَشَاءُ} قال: الصوت الحسن.

وقال عز وجل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمرِ رَبِكَ} فبين أن التنزيل غير الأمر.

وقال بعضهم: إن أكثر مغاليط الناس من هذه الأوجه، الذين لم يعرفوا المجاز من التحقيق، ولا الفعل من المفعول، ولا الوصف من الصفة.

ولم يعرفوا الكذب لم صار كذباً؟ ولا الصدق لما صار صدقاً؟

فأما بيان المجاز من التحقيق، فمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم للفرس:((وجدته بحراً)) - وهو الذي يجوز بين الناس - وتحقيقه أن مشيه حسن.

ومثل قول القائل: علم الله معنا، وفينا، وأنا في علم الله، إنما المراد من ذلك أن الله يعلمنا، وهو التحقيق، وأشباهه في اللغات كثيرة.

وأما الفعل من المفعول: فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث؛ لقوله:{خَلَقَ السَمَاواتِ وَالأرضَ} (3) .

(1) الآيتان 27، 28 من سورة طه.

(2)

الآية 23 من سورة الذاريات.

(3)

الآية 32من سورة إبراهيم.

ص: 475

فالسماوات، والأرض مفعوله، وكل شيء سوى الله بقضائه فهو مفعول، فتخليق السماوات فعله؛ لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل، وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله.

ففعله من ربوبيته حيث يقول: {كُن فَيَكُونُ} و ((كن)) من صفته، وهو الموصوف به، كذلك قال رب السماوات، ورب الأشياء.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رب كل شيء ومليكه)) .

وكذلك مؤدى جميع لغات الخلق، من غير اختلاف بينهم، وإنما هو الفاعل والفعل والمفعول.

فالفعل صفة، والمفعول غيره، وبيان ذلك في قوله - تعالى - {مَا أَشهَدتُّهُم خَلق َ السَمَاواتِ وَالأرضَ وَلَا خَلقَ أَنفُسهِم} (1) .

ولم يرد بخلق السماوات نفسها، قد ميز فعل السماوات من السماوات وكذلك فعل جملة الخلق.

وقوله: {وَلَا خَلقَ أَنفُسهِم} فقد ميز الفعل والنفس، ولم يصر فعله خلقاً.

وأما الوصف من الصفة: فالوصف إنما هو قول القائل، حيث يقول: هذا رجل طويل، وثقيل، وجميل، وحديد، فالطول، والجمال، والحدة، والثقل إنما هو صفة الرجل، وقول القائل وصف.

كذلك إذا قال: الله رحيم، والله عليم، والله قدير، فقول القائل وصف، وهو عبادة، والرحمة، والعلم، والقدرة، والكبرياء، والقوة، كل هذا صفاته)) (2) .

(1)((خلق أفعال العباد)) (ص114) .

(2)

((خلق أفعال العباد)) (ص114) .

ص: 476

يعني: أن فعل الواصف الذي هو قوله يصف الموصوف إذا تكلم بذلك ونطق به، يسمى وصفاً، وهو عبادة إذا كان يصف الله - تعالى -؛ لأنه يثني عليه بذكر صفته.

وأما الصفة: فهي قائمة بالموصوف، لا تفارقه، مثل رحمة الله، وعلمه وقدرته، وقوته، وعزته، وكبريائه، وغير ذلك من أوصافه.

ثم قال: ((وأما الكذب من الصدق: فقول القائل: فلان ها هنا وهو غائب، فهو كذب.

فلو كان حاضراً لكان صدقاً، والكلمة واحدة، وإنما صار كذباً وصدقاً لحال المعنى.

وكذلك لو أن رجلاً قال: إن الله رحيم، ويرحم، والله عليم ويعلم، والله قدير ويقدر، والله سميع ويسمع، ولم يكن لقوله

معنى كما وصفنا في شأن الكذب والصدق، لكان قوله كذباً، وإنما صار هذا القول صدقاً وعبادة وطاعة لحال المعنى.

واختلف الناس في الفاعل والمفعول، فقالت القدرية: الأفاعيل كلها من البشر، ليست من الله.

وقالت الجبرية: الأفاعيل كلها من الله.

وقالت الجهمية: الفعل والمفعول واحد، لذلك قالوا:((كن)) مخلوق.

وقال أهل العلم: التخليق فعل الله، وأفاعيلنا مخلوقة؛ لقوله تعالى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (1) . يعني: السر والجهر من القول.

(1) الآية 13 من سورة الملك.

ص: 477

ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق.

ويقال لمن زعم أني لا أقول: القرآن مكتوب في المصحف، ولكن القرآن بعينه في المصحف، يلزمك أن تقول: إن ما ذكر الله في القرآن من الجن، والإنس، والملائكة، والمدائن، ومكة، والمدينة، وغيرهما، وإبليس، وفرعون، وهامان، وجنودهما، والجنة، والنار: عاينتهم بأعيانهم في المصحف؛ لأن فرعون مكتوب فيه، كما أن القرآن مكتوب فيه.

ويلزمك أكثر من هذا، حين تقول في المصحف:[الله، لأنه مكتوب فيه {اللهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيوُّمُ} . وهذا أمر بيِّن؛ لأنك تضع يدك على هذه الآية، وتراها بعينك](1) .

فلا يشك عاقل بأن الله هو المعبود، وقوله:{اللهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيوُّمُ} (2) هو قرآن.

وكذلك جميع القرآن هو قوله - تعالى - والقول صفة القائل، موصوف به.

فالقرآن قول الله عز وجل.

والقراءة، والكتابة، والحفظ للقرآن، هو فعل الخلق، وهو طاعة الله {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} (3) وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّه} (4)

(1) ما بين الحاصرتين تصرفت فيه بالتقديم والتأخير؛ لأن فيه ارتباكاً وتعقيداً، والمقصود منه واضح، وأظن أنه حصل فيه الاضطراب من النساخ.

(2)

الآية 255 من سورة البقرة و 2 من سورة آل عمران.

(3)

الآية 106 من سورة الإسراء.

(4)

الآية 29 من سورة فاطر.

ص: 478

وقال تعالى: {وَلَقَد يَسَّرنَا القُرآنَ لِلذِكرِ فَهَلَ مِن مُدَّكِرِ} (1) وقال عز وجل: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (2) فذلك كله مما أمر الله به.

ولذلك قال: {وَأَقِيمُواْ الصَلاةَ} فالصلاة بجملتها طاعة الله، وقراءة القرآن من جملة الصلاة.

فالصلاة طاعة لله، والأمر بالصلاة قرآن، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على الألسن.

والقراءة، والحفظ، والكتابة، مخلوق، وما قرئ، وحفظ، وكتب ليس بمخلوق.

ومن الدليل عليه: أن الناس يكتبون الله، ويحفظونه، ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه.

والخالق الله بصفته.

ويقال له: أترى القرآن في المصحف؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن من صفات الله ما يرى في الدنيا، وهذا رد لقول الله عز وجل:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (3) في الدنيا، وإن قال: يرى كتابة القرآن فقد رجع إلى الحق.

ويقال له: هل تدرك إلا اللون؟ فإن قال: لا، قيل له: وهل يكون اللون إلا في الجسم؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن القرآن جسم يرى)) (4) .

يعني: أن الذي في المصحف هو كتابة القرآن، والكتابة فعل العباد، أما القول فلا يرى، وإنما يسمع، وهو صفة القائل قائم به.

(1) الآية عدد من آيات سورة: اقتربت الساعة.

(2)

جزء من الآية 67من سورة المائدة.

(3)

جزء من الآية 103 من سورة الأنعام.

(4)

((خلق أفعال العباد)) (114-116) .

ص: 479

والمقصود: أن وجود القرآن في المصحف ليس كوجود الأعيان المشاهدة، وإن كان له وجود حقيقي، فقد اتفق المسلمون على أن القرآن في المصحف قال ابن القيم: ((من المعلوم بالفطرة المستقرة عند العقلاء قاطبة أن الكلام يكتب في المحالِّ من الرق والخشب وغيرهما، ويسمى محله كتاباً، ويسمى نفس المكتوب كتاباً.

فمن الأول: قوله تعالى: {إنَّهُ لَقُرآنٌ كَريمٌ {77} فيِ كِتَابِ مَكنُونِ} . ومن الثاني: قوله تعالى: {وَلَو نَزَّلنَا عَلَيكَ كِتاباً فيِ قرِطَاسٍ} . وقوله تعالى: {يَتلُواْ صُحُفَاً مُطَهَّرةً {2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِمَةٌ} .

والقول بأن الكلام في الصحيفة من العلم العام الذي لم ينازع فيه أحد من العقلاء إذا سلمت الفطرة من الانحراف، وقد قال الله تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (1) وفي حديث ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (2) ، ومعلوم بالضرورة أنه لا محذور في السفر إلى أرض العدو بالمداد والورق، وإنما المحذور أن يسافر بالكلام الذي تضمنه الورق)) (3) . وسيأتي مزيد لهذا في موضعه.

وقد أطلت النقل عن البخاري رحمه الله؛ لأن ذلك مراد فيما ترجم به، فهو كالشرح له، وبذلك وضح مقصده وضوحاً جلياً.

فقوله: ((ذكر الله بالأمر)) أي: أمره الذي يأمر به عباده، وهو صفته، فإذا أمرهم فقد ذكرهم، وكذلك إذا رحمهم وأنعم عليهم، فقد ذكرهم.

((وذكر العباد بالدعاء والتضرع، والرسالة والبلاغ)) أي: ذكرهم الله بأن

(1) الآيتان 21، 22 من سورة البروج.

(2)

رواه مسلم رقم (1869)(3/1490-1491) ، والإمام أحمد في ((المسند)) (2/7، 63، 128) وغيرهما، ورواه البخاري (4/45) باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو.

(3)

((مختصر الصواعق)) (443/444) ملخصاً.

ص: 480

يدعوه، ويتضرعوا إليه، ويفعلوا ما أمرهم به، ودعاؤهم بذكر أسمائه وصفاته، وثناؤهم عليه بها.

وكذلك القيام بإبلاغ رسالته، التي أرسل بها رسله.

قوله: ((لقوله تعالى: {فَاذكُرُونِي أَذكُركُم} قال الحسن: اذكروني فيما افترضت عليكم، أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي)) . وقال سعيد بن جبير: ((اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي)) وفي رواية ((برحمتي)) (1) .

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اذكر لقومك، وقص عليهم خبر نبي الله نوح صلى الله عليه وسلم، حين قال لقومه يبلغهم رسالة ربه إليهم، وذلك من ذكره لربه: إن كان عظم عليكم، وشق بكم قيامي فيكم أذكركم بنعم الله، وأخوفكم نقمه، وأدعوكم إلى طاعته وتوحيده بالعبادة والطاعة، إن كان ذلك عَظُمَ عليكم فتهيؤوا واستعدوا لما تريدون أن تصنعوه بي، فإني توكلت على الله لا على غيره، فسوف يكفيني ويحميني، أما أنتم فأجمعوا قوتكم، واستعينوا بمعبوداتكم من دون الله، واحذروا أن يكون أمركم عليكم وبالاً وعذاباً ونكالاً، وهمَّاً وضيقاً؛ لأنكم تحاربون الله ورسوله ومن كان حربا لله ورسوله، فهو مخذول، ومرذول ومقهور.

{ثُمَّ اقضُواْ إِلىَّ وَلَا تُنظِروُنِ} أي: عجلوا إليَّ بما تريدون أن تصنعونه بي، ولا تؤخروني ساعة، فهو صلى الله عليه وسلم يتحداهم بذلك؛ لأنه واثق بالله تمام الثقة، فلم يستطيعوا أن ينالوه، وهذا من علامات نبوته، كيف رجل واحد، لا جنود معه ولا سلطة، يقف أمام هذه الأمة العظيمة يتحداهم بأن ينزلوا به كل ما يستطيعون من عذاب، ويستحثهم على ذلك، فلا يستطيعون أن يصلوا إليه بأذى مع عداوتهم الشديدة له؟

(1)((تفسير ابن كثير)) (1/196) .

ص: 481

{فَإِن تَوَلَّيتُم فَمَا سَأَلتُكُم مِن أَجرٍ} أي: إن أعرضتم عما أدعوكم إليه، فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ولم أطلب منكم على ذلك شيئاً من أموالكم، ولكن أجري على ربي، فهو الذي سيجزيني على إبلاغ رسالته إليكم، وهذا كله من ذكر نوح عليه السلام لربه.

{وَأُمِرتُ أَن أَكُونَ مِنَ المُسلِمينَ} يعني: أمرني ربي أن أسلم له وأنقاد لأمره، مذعناً، خائفاً من عذابه، راجياً ثوابه، وهذا من ذكر الله - تعالى - لعبده ورسوله نوح عليه السلام.

((افرق)) اقض. كلمة افرق في آية أخرى، ولكن عادة البخاري رحمه الله أنه يذكر النظير مع نظيره، لاجتماعهما في المعنى، ولهذا ذكر قوله تعالى:{النَّبأِ العَظيمِ} ؛ لمناسبته مع قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} .

وما ذكره عن مجاهد في الآية واضح، ومراده أن المستجير يسمع كلام الله من المبلغ بصوت المبلغ، ونطقه، وصوته ونطقه من فعله، وهو مخلوق، أما المبلغ المنطوق به، فهو كلام الله - تعالى - وصفته، كما تقدم بيان ذلك من كلام البخاري، رحمه الله.

وقوله: ((صواباً: حقاً في الدنيا وعمل به)) . قال ابن بطال: ((يريد قوله تعالى: {أَذِنَ لَهُ الرَّحمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} أي: حقاً في الدنيا، وعمل به، فهو الذي يؤذن له في الكلام، بين يدي الله بالشفاعة لمن أذن له.

قلت (1) : وهذا وصله الفريابي، عن مجاهد، بالسند المذكور.

قال الكرماني: عادة البخاري أنه إذا ذكر آية لمناسبة الترجمة، يذكر معها ما يتعلق بتلك السورة، التي فيها تلك الآية مما ثبت عنده من تفسير ونحوه، على سبيل التبعية، وكأنه لم يظهر له وجه مناسبة هذه الآية الأخيرة بالترجمة.

(1) القائل هو الحافظ ابن حجر رحمه الله.

ص: 482

والذي يظهر في مناسبتها: أن تفسير قوله: {صَوَاباً} بقول الحق والعمل به في الدنيا يشمل ذكر الله باللسان، والقلب مجتمعين، ومنفردين، فناسب قوله:((ذكر العباد بالدعاء والتضرع)) انتهى (1) .

****

قال: باب قول الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله جل ذكره: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِين} ، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {65} بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِين} وقوله:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} .

قال في ((اللسان)) : ((الند بالكسر: المثل والنظير، وهو مثل الشيء الذي يضاده في أموره، ويناده، أي: يخالفه.

قال الأخفش: الند: الضد، والشبه، وقوله:((يجعلون لله أنداداً)) أي: أضداداً، واشباهاً، قال حسان:

أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداء

أي: لست له بمثل في شيء من معاينة)) (2) .

وقال ابن جرير في قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} الأنداد جمع ند، والند: العدل، والمثل، كما قال حسان، ثم ذكر البيت، ثم قال: يعني: بقوله: ((ولست له بند)) : لست له بمثل، ولا عدل. وكل شيء كان نظيراً لشيء وشبيهاً فهو له ند. ثم ذكر بسنده إلى قتادة، قال:{فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي: عدلاء، وعن مجاهد:{فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي: عدلاء.

(1)((الفتح)) (13/490) .

(2)

((اللسان)) (3/607) المرتب.

ص: 483

وعن ابن عباس وابن مسعود: {فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي: أكفاء من الرجال، تطيعونهم في معصية الله.

وعن ابن أبي زيد: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له، وعن ابن عباس: أشباهاً.

وعن عكرمة: {فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي تقولوا: لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار، ولولا كلبنا صاح في الدار، ونحو ذلك، فنهاهم الله - تعالى - أن يشركوا به شيئاً، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له نداً، وعدلاً، في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم، وملكي إياكم، ونعمتي التي أنعمتها عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكاً ونداً من خلقي، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم مني)) (1) .

وفي ((الدر المنثور)) : ((أخرج الطستي، عن ابن عباس، أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قول الله عز وجل {أَندَاداًً} ؟ قال: الأشباه والأمثال، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد:

أحمد الله فلا نِدَّ له بيديه الخير ماشا فعل

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في ((الأدب المفرد)) والنسائي وابن ماجه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ((ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده)) .

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة،

(1)((تفسير الطبري)) (1/368-369) تحقيق محمود شاكر.

ص: 484

والبيهقي عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقولوا: ما شاء الله وفلان، قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)) وذكر أحاديث في ذلك (1) .

وهذا يدل على أن جعل الند لله عام في الأفعال، والأقوال، والنيات، ويكون في الشرك الأكبر، والأصغر، كما في الرواية عن عكرمة: هو قول الرجل: لولا كلبنا لدخل علينا اللصوص.

وكذلك في كل ما هو لله فشرك المخلوق فيه، مثل أن يجعل كلامه تعالى ككلام عباده، أو صفة من صفاته كصفة عباده، فيكون بذلك جعل لله نداً، وهذا مراد البخاري رحمه الله من الاستدلال بهذه الآيات التي ذكرها هنا.

قال ابن كثير: ((وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن محمد، عن عكرمة، أو سعيد ابن جبير، عن ابن عباس:{فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأنتُم تَعلَمُونَ} أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه، وهكذا قال قتادة.

ثم ذكر عن ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس: {فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} .

قال: الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص.

وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: ((لولا الله

(1)((الدار المنثور)) (1/87-88) .

ص: 485

وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك)) (1)

وهذا تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعظم، وذلك أن الشرك أن يجعل المخلوق مشاركاً لله في شيء من خصائص الله مطلقاً، كما سبق قريباً، فالحلف بغير الله شرك، سواء كان المحلوف به معظماً كالنبي والكعبة، أو غير معظم، ويدخل في ذلك مراد البخاري كما أشرت إليه.

((قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب، إثبات نسبة الأفعال كلها لله - تعالى - سواء كانت من المخلوقين خيراً أو شراً، فهي لله - تعالى - خلق وللعباد كسب، ولا ينسب شيء من الخلق لغير الله - تعالى - فيكون شريكاً ونداً، ومساوياً له.

وقال الكرماني: الترجمة مشعرة بأن المقصود إثبات نفي الشريك عن الله سبحانه - تعالى -، فكان المناسب ذكره في أوائل كتاب التوحيد.

لكن ليس المقصود هنا ذلك، بل المراد بيان كون أفعال العباد بخلق الله - تعالى - إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أنداداً لله، وشركاء له في الخلق، ولهذا عطف ما ذكر.

وتضمن الرد على الجهمية في قولهم: لا قدرة للعبد أصلاً، وعلى المعتزلة، حيث قالوا: لا دخل لقدرة الله - تعالى- فيها.

والمذهب الحق: ((أن لا جبر ولا قدر، بل أمر بين أمرين)) (2) .

يعني: لا جبر، كما تقول الجهمية الذين جعلوا العبد كالآلة، لا قدرة له ولا اختيار.

(1)((تفسير ابن كثير)) (1/57-58) .

(2)

((الفتح)) (13/491) .

ص: 486

ولا ينفى تقدير الله – تعالى – لأفعال العباد في الأزل، وخلقها، كما تقوله المعتزلة، بل الحق إثبات قدرة العبد، وأنه يفعل باختياره، وإرادته، لا أحد يجبره على الفعل، والله – جل وعلا – خلقه وخلق أفعاله، وقدر عليه كل ما يجري عليه قبل إيجاده، وكتب ذلك، وعلمه تعالى محيط بكل شيء، ونفس فعل العبد، وإن كان الله خالقه، فالعبد هو الفاعل لفعله حقيقة، فهو المتحرك بالأفعال، باختياره، وبه قامت أفعاله، ومنه صدرت، والله خالقه، وخالق أفعاله.

قال الحافظ: ((غرضه هنا الرد على من لم يفرق بين التلاوة والمتلو، ولذلك أتبع هذا الباب بالتراجم المتعلقة بذلك، مثل باب:{لَا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ} ، وباب {وَأَسِرُّواْ قَولَكُم أَوِ اجهَرُواْ بَهِ} وغيرهما.

وهذه المسألة هي المشهورة بمسألة اللفظ، ويقال لأصحابها: اللفظية.

وقد ظن بعضهم أن البخاري خالف أحمد فيها، وليس كذلك، بل من تأمل كلامه لم يجد فيه خلافاً معنوياً.

لكن العالم من شأنه إذ ابتلي في رد بدعة يكون أكثر كلامه في ردها، دون ما يقابلها.

فلما ابتلي أحمد بمن يقول: القرآن مخلوق، كان أكثر كلامه في الرد عليهم حتى بالغ، فأنكر على من يقف، ولا يقول: مخلوق، ولا غير مخلوق، وعلى من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ لئلا يتذرع بذلك من يقول: القرآن بلفظي مخلوق، مع أن الفرق بينهما واضح لا يخفى عليه، لكنه قد يخفى على البعض (1) .

(1) قوله: ((حتى بالغ فأنكر على من يقف)) إلى آخر كلامه عن أحمد، كلام غير سديد، بل إنكار أحمد رحمه الله ذلك؛ لأن الواقف لم يفرق بين الحق والباطل، والواجب أن يعرف الحق ويقول به، ولا يقف متردداً، لأن وقوفه يوهم باطلاً. وكذلك قوله: لفظي بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق، يوهم باطلاً؛ لأنه قد يراد باللفظ: الملفوظ، وهو القرآن، وإذا قال غير مخلوق: يدخل فيه فعل القارئ، من حركات لسانه، وصوته، وفعل القارئ مخلوق، فهذا هو مراد أحمد رحمه الله، ولدقته قال البخاري رحمه الله: إنهم لم يفهموا كلام أحمد، ولذلك أنكره ابن قتيبة.

ص: 487

وأما البخاري، فابتلي بمن يقول: أصوات العباد غير مخلوقة، حتى بالغ بعضهم، فقال: والمداد، والورق بعد الكتابة.

فكان أكثر كلامه في الرد عليهم، وبالغ في الاستدلال بأن أفعال العباد مخلوقة بالآيات والأحاديث، وأطنب في ذلك حتى نسب أنه من اللفظية)) (1) .

وقال أبو بكر الضبعي: ((لم يزل الله متكلماً، ولا مثل لكلامه؛ لأنه نفى المثل عن صفاته، كما نفى المثل عن ذاته، ونفى

النفاد عن كلامه، كما نفى الهلاك عن نفسه، فقال:{لَنَفِذَ البَحَرُ قَبلَ أَن تَنفَذَ كَلِمَاتُ رَبيِ} وقال: {كُلُ شَيءٍ هَالِك إِلا وَجهَهُ} (2) .

فيجب التفرقة بين ما هو لله صفة وفعلاً، وبين ما هو للمخلوق صفة وفعلاً، وأن يوحد الله في خصائصه وحقوقه، وأن لا يجعل لأحد من الخلق شركة في صفات الله وأفعاله، ومن ذلك الفرق بين أفعال التالي لكتاب الله، وما هو صفة لله وهو كلامه المتلو.

ومذهب أهل السنة أن الله خالق كل شيء وهو ربه ومالكه، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنه خلق العبد هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً.

وإن العبد فاعل لأفعاله حقيقة، وله مشيئة وقدرة حقيقة، كما قال تعالى:

(1)((الفتح)) (13/492) .

(2)

((الفتح)) (13/492) .

ص: 488

{لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ {28} وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) .

وقال تعالى: {فَمَن شَاءَ اتَخَذَ إِلىَ رَبِهِ سَبِيلاً} (2) .

فبيَّن تعالى أن العباد لهم مشيئة يفعلون بها إذا شاؤوا، وأنها تابعة لمشيئة الله؛ لأنه المالك لكل شيء، المتصرف فيه.

وزعمت المعتزلة أن أفعال العباد القبيحة، من الكفر والمعاصي، غير داخلة في مشيئة الله وتقديره؛ لأن الله منزه عن فعل القبيح باتفاق المسلمين.

وقالت الجبرية: ليس للعبد فعل في الحقيقة، والأفعال كلها لله، والعبد كاسب لا فاعل، وقدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها، غير أن الله – تعالى – أجرى العادة بخلق مقدورها مقارناً لها، فيكون الفعل خلقاً من الله، وإبداعاً وإحداثاً منه تعالى، وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته، والعبد ليس محدثاً لأفعاله، ولا موجداً لها. وهذا قول الأشعرية، ومع ذلك ينكرون أن يكونوا جبرية؛ لأنهم يقولون: نحن نثبت للعبد قدرة حادثة، والجبرية لا تثبت ذلك.

وفرقوا بين الكسب الذي أثبتوه للعبد، وبين الخلق الثابت لله، بأن الكسب: عبارة عن اقتران قدرة العبد الحادثة بالمقدور، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة.

وبأن الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه.

وهذا فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة، أو خارجاً

(1) الآيتان 28، 29 من سورة التكوير.

(2)

الآيتان 29، 30 من سورة الإنسان.

ص: 489

عن محلها، لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه.

والصواب أنه لا فرق بين كون العبد فاعلاً الفعل، أو كاسباً له، فإن الكسب مرادف للفعل والعمل، فيقال: فعل وعمل، وكسب وأوجد، وأحدث وصنع، كلها بمعنى واحد.

وعمل العبد، وصنعه، وإحداثه، وكسبه، مقدور له بقدرته الحادثة، وهو قائم في محل القدرة.

والاقتران الذي ذكروه، لا يكون كسباً، ولا فعلاً، وإنما هو تخيل لا حقيقة له.

وأصل خطئهم من عدم التفريق بين الخلق والمخلوق، والفعل والمفعول، وزعمهم أن الله – تعالى – ليس له أفعال تقوم به، وأن فعله للشيء هو عين المفعول.

ومن المستقر في الفطر والعقول: أن فاعل الإيمان هو العبد المؤمن، وفاعل الكفر هو العبد الكافر، وفاعل الصدق هو الصادق، وفاعل الكذب هو الكاذب، وفاعل الظلم هو الظالم، كما أن فاعل الأكل هو الآكل، وفاعل الشرب هو الشارب.

وهكذا كل فعل لا بد أن يقوم بالفاعل، كما أن العالم: مَنْ قام به العلم، والحي: مَنْ قامت به الحياة، وكل صفة تقوم بالمتصف بها.

والقرآن مملوء بما يدل على هذا كقوله – تعالى -: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (2)، وقوله: {إِنَّ

(1) الآية 17 من سورة السجدة.

(2)

الآية 105 من سورة التوبة.

ص: 490

الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} (1) ، وأمثالها كثير جداً.

واتفق العقل مع الشرع على أن العبد يحمد ويذم على فعله.

قال شيخ الإسلام: ((قول القائل: هذا فعل هذا، وعمل هذا، لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالعمل نفس الفعل، وتارة يراد مسمى المصدر، فيقول: فعلت هذا، أفعله فعلاً، وعملت هذا أعمله عملاً، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمى المصدر، كصلاة الإنسان، وصيامه، ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمى المصدر والفعل.

وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب، وبناء الدار، ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال الله – تعالى:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} (2) ، فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن.

ومن هذا الباب: قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعملُونَ} ، فإنه في أصح القولين ((ما)) بمعنى الذي، والمراد به ما تنحتونه من الأصنام، كما قال تعالى:{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ {95} وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (3) أي: والله خلقكم، وخلق الأصنام التي تنحتونها. ومنه حديث حذيفة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم:((إن الله خالق كل صانع وصنعته)) (4) .

لكن قد يستدل بالآية على أن الله خالق أفعال العباد من وجه آخر، فيقال: إذا كان خالقاً لما يعملون من المنحوتات، لزم أن يكون هو الخالق؛ لتأليف

(1) الآية 277 من سورة البقرة.

(2)

الآية 13 من سورة سبأ.

(3)

الآيتان 95، 96 من سورة الصافات.

(4)

رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) .

ص: 491

الذي أحدثوه فيها، فإنها إنما صارت أوثاناً بذلك التأليف، وإلا فهي بدون ذلك ليست معمولة لهم.

وإذا كان خالقاً للتأليف كان خالقاً لأفعالهم.

والمقصود أن لفظ الفعل، والعمل، والصنع، وأنواع ذلك كلفظ البناء والخياطة والنجارة، تقع على نفس مسمى المصدر، وعلى المفعول.

وكذلك لفظ التلاوة والقراءة، والكلام، والقول، يقع على نفس مسمى المصدر، وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول، والكلام.

فيراد بالتلاوة والقراءة: نفس القرآن، المقروء المتلو، كما يراد به مسمى المصدر، فإذا قال القائل: هذه التصرفات فعل الله، أو فعل العبد، فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر، فهذا باطل باتفاق المسلمين، وبصريح العقل، وإن أراد أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات، فهذا حق)) (1) .

فالذين أنكروا أن يكون لله – تعالى – فعل يقوم به، لم يفرقوا بين فعله ومفعوله، وخلقه، ومخلوقه.

والفرق واضح، فأعمال العباد مخلوقة لله – تعالى – مفعولة له، ليست هي نفس فعله، وإنما هي فعل العباد، قائمة بهم، وهي أيضا مفعولة لهم إذا أريد بالفعل المفعول.

وخلق الله – تعالى – لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته، كما تقدم التنبيه على ذلك.

فأفعال العباد مخلوقة لله كسائر مخلوقاته، ومفعولة له، وهي فعل العباد حقيقة، وقائمة بهم حقيقة.

فالكفر، والكذب، والظلم، ونحو ذلك من القبائح، يتصف بها من قامت

(1)((مجموع الفتاوى)) (8/121-122) .

ص: 492

به وفعلها، ولا يتصف بها من خلقها، وجعلها صفة لغيره.

فكما أن الله – تعالى – لا يكون متصفاً بما خلقه في خلقه من الألوان والروائح، والطعوم، فكذلك لا يكون متصفاً بالفعل الذي خلقه في عباده، وجعله وصفاً لهم.

وبهذا تزول شبهة المعتزلة ومن وافقهم، في نفيهم الأفعال القبيحة أن تدخل تحت مشيئة الله وخلقه محتجين بأنه تعالى منزه عن القبيح. والله أعلم.

قوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أول الآية: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) .

ينكر تعالى على المشركين الكافرين به، الذين يعبدون معه غيره، من الأوثان التي لا تملك لهم، ولا لنفسها نفعاً، ولا ضراً، ومع ذلك يجعلونها نظراء وشبهاء لله رب العالمين، في التوجه إليها بالعبادة، يطلبون منها أن تتوسط لهم عند الله وتشفع لهم، وهي ملك لله يتصرف فيها كيف يشاء.

والمقصود من الآية: أن من سوى المخلوق بالله في صفة من الصفات، أو فعل من الأفعال، أو في ما يجب له من الحق، فقد جعل لله نداً، وأشرك بالله غيره.

فقول الله، وكلامه، لا يشبه قول عباده وكلامهم، فمن زعم أن قول العباد يشبه قول الله، فقد جعل لله نداً، وكذلك سائر أوصافه.

قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .

(1) الآية 9 من سورة فصلت.

ص: 493

قال ابن جرير: ((يقول تعالى لنبيه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ َ} يقول: لئن أشركت بالله شيئاً يا محمد ليبطلن عملك، ولا تنال به ثواباً، ولا تدرك به جزاء إلا جزاء من أشرك بالله.

وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، أي: أوحي إلى الذين من قبلك من الرسل مثل الذي أوحي إليك، فاحذر أن تشرك بالله شيئاً فتهلك)) (1) .

وفي هذه الآية تعظيم أمر الشرك؛ لأن الله تعالى وجه الخطاب إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – بأنه لو أشرك لحبط عمله، وأصبح من الخاسرين، فكيف بغيره من سائر الناس؟ ومثلها قوله – تعالى – بعد ما ذكر فضل الأنبياء ونعمته عليهم:{وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (2) .

ووجه الاستدلال بالآية: التحذير من الوقوع في أي نوع من أنواع الشرك، مثل أن يعتقد أن صفة الله كصفات الخلق، أو كلامه ككلامهم، فمن وقع في ذلك، فقد وقع في الشرك المحبط للأعمال، وصاحبه من الخاسرين.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا أخَرَ} هذه الآية في سياق ثناء الله – تعالى – على عباده المؤمنين، الذين يخشونه، ولا يخشون أحداً غيره، ويتجهون إليه بالدعاء والعبادة وحده، ويبيتون ليلهم سجداً لله وقياماً، رجاء ثوابه، وخوفاً من عقابه.

وهذه الآية بمعنى الحديث الآتي، وقد جاء في رواية: أن ابن مسعود لما ذكر الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: فنزل تصديق ذلك {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية.

(1)((تفسير الطبري)) (11/16) طبعة بولاق.

(2)

الآية 88 من سورة الأنعام.

ص: 494

والمقصود: الثناء على المؤمنين الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر غيره، ومثل ذلك الابتعاد عن القول بأن شيئاً من أوصاف الله وأفعاله يكون مثل أوصاف المخلوقين وأفعالهم، تعالى الله وتقدس.

فمن ابتعد عن الشرك كله بأنواعه، فهو المستحق لثناء الله، وهو عبد الله المستوجب لوعده بقوله:{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا {75} خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (1) .

ولكون الشرك يقع من الناس كثيراً، وأكثرهم يجهل أنواعه، ذكر قول عكرمة:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} .

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقهُمَ} ، و {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ} ، فذلك إيمانكم، وهم يعبدون غيره)) . يعني: أن إيمانهم هو إقرارهم بتوحيد الربوبية، وعلمهم بأن الله هو المتفرد بالخلق.

روى ابن جرير، عن عكرمة، في قوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} قال: هو قول الله – تعالى - {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فإذا سئلوا عن الله، وعن صفته، وصفوه بغير صفته، وجعلوا له ولداً، وأشركوا به)) (2) .

قوله: ((وما ذكر في خلق أفعال العباد وأكسابهم)) يعني: أن أفعالهم، وأكسابهم مخلوقة لله – تعالى -، وإن كانت فعلاً لهم حقيقة، ولا فرق بين الفعل، والكسب، كما قال – تعالى -:{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت} فالكسب هو العمل.

والذين يجعلون أفعال العباد وأكسابهم فعلاً لله – تعالى – مشركون؛

(1) الآيتان 75، 76 من سورة الفرقان.

(2)

انظر ((تفسير الطبري)) (16/287) . تحقيق محمود شاكر.

ص: 495

لأنهم جعلوا له ما للمخلوق.

كما أن الفريق الضال الآخر الذين يجعلون العباد خالقين لأفعالهم، وموجدين لها، مشركون بذلك، وهذا وجه إيراد البخاري – رحمه الله – للآيات التي سبق ذكرها، وتقدم الكلام على أفعال العباد.

ثم استدل على دخول أفعال العباد في مخلوقات الله – تعالى – بقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَرَهُ تَقدِيراً} فدخلت أفعالهم في عموم {كُلَّ شَيءٍ} ، ودل قوله:{فَقَدَرَهُ تَقدِيراً} على أنه – تعالى – أتقن ذلك، غاية الإتقان، حيث خلقها وجعلها مفعولة للعباد، واقعة منهم، بإرادتهم، واختيارهم، لم يرغموا عليها، بل فعلوها راغبين في فعلها، مختارين لها، ولذلك استحقوا عليها الثواب، والعقاب.

قوله: ((وقال مجاهد: {مَا نُنَزِلُ المَلائِكَةَ إِلا بِالحَقّ} يعني: بالرسالة، والعذاب.

يعني: أن تنزل الملائكة هو فعلهم بأمر الله – تعالى – لهم طائعين ممتثلين أمر ربهم، فالنزول منهم فعل لهم يستوجبون به الثناء من الله؛ لأنهم أطاعوه بذلك، فأفعالهم قائمة بهم يفعلونها باختيارهم، كبني آدم.

وأما قوله: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فهو فعل الله، والضمير في {لَهُ} عائد إلى الذكر في قوله:{إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكرَ} .

وقوله: {عِندِنَا} أراد به، بيان أن هذا فعل الله الخاص به.

وبيَّن ذلك بقوله: {لِيسأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدقِهِم} ((المبلغين المؤدين من الرسل)) أي: المؤدين الرسالة، كما أمرهم الله.

فالصدق: فعل الصادقين، والصادق هو: المتصف بالصدق، الذي قام به الصدق فعلاً له، فالصدق فعلهم وعملهم، والله تعالى – يسألهم عن عملهم.

ص: 496

والسؤال من الله فعله – تعالى – وقوله، يسأل به الرسل، عن تبليغهم ما أمرهم بإبلاغه لعباده، وزاد ذلك إيضاحاً بقوله:

{وَالَّذي جَاءَ بِالصِدقِ} القرآن: {وَصَدَّق بِهِ} المؤمن، يقول يوم القيامة:((هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه)) .

فبين أن القرآن – الذي فسر به الصدق – غير التصديق، بل التصديق فعل المصدق – وهو المؤمن، أو الرسول – وهو عمله الذي يثاب عليه.

ولهذا يجيب ربه إذا سأله يوم القيامة: ((ماذا عملت بما علمت؟)) قائلاً: هذا الذي أعطيتني – يعني القرآن – عملت بما فيه. فتبين أن القرآن غير عمل القارئ، فتحريك اللسان، والشفتين، والصوت، ورفعه، وخفضه، هو عمل الرجل الذي يقرأ، وأما المقروء المتلفظ به، فهو القرآن كلام الله، وكلام الله غير عمل القارئ، ولهذا قال: هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه، مجيباً ربه.

********

146 – قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله، قال: سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله نداً، وهو خلقك)) ، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم أن تزاني بحليلة جارك)) .

الذنوب تتفاوت في العظم، فبعضها أعظم من بعض، فيكون ما يترتب عليها من العقوبات كذلك.

وأعظم الذنوب الشرك بالله – تعالى -، قال تعالى عن لقمان: {يَا بُنَيَّ

ص: 497

لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1) ، فالشرك أعظم الذنوب عند الله، فلذلك حرم على صاحبه الجنة، وأخبر أن مأواه النار، وأنه لا يخرج منها كما قال تعالى:{وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2) .

وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا} (4) .

فلذلك يتعين على المرء أن يجتهد غاية وسعه في التعرف على أنواع الشرك، حتى يجتنبها؛ لأنه إذا لم يعرفها يوشك أن يقع فيها وهو لا يشعر، فيكون في ذلك هلاكه الأبدي. وتقدم القول في النِّد.

قوله: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك)) أسند الجعل إلى العبد؛ لأنه فعله، ولهذا استحق عليه عقاب الله وعذابه.

وقوله: ((وهو خلقك)) يعني: أن الدلائل على وجوب عبادة الله وحده، وإخلاص العبادة له، واضحة جلية، مثل كونه تعالى هو المنفرد بالخلق، والإيجاد من العدم، وبالرزق، فهو المستحق للعبادة وحده.

وقول عبد الله: ((إن ذلك لعظيم)) يعني: أن عظمه وقبحه مستقر في نفوس العقلاء، والناظرين في شرع الله، ودلائل وجوب عبادته.

قوله: ((قلت: ثم أي؟)) يعني: ما هو الذنب الذي يلي الشرك في العظم عند الله؟

(1) الآية 13 من سورة لقمان.

(2)

جزء من الآية 167 من سورة البقرة.

(3)

الآية 72 من سورة المائدة.

(4)

الآية 116 من سورة النساء.

ص: 498

((قال: ((أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك)) . قتل النفس بغير حق عمداً عظيم جداً، كما قال تعالى:{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1) .

وفي الحديث الذي رواه أبو داود، عن عبادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بَلَّحَ)) (2)، أي: لا يزال مسرعاً في سيره إلى الله، وإنما يحبسه ويمنعه من السير إصابته الدم الحرام، معنى ((بلح)) انقطع من العجز والإعياء، فلم يستطع المشي. وهذا جزء من حديث طويل، ولفظه:

((عن أم الدرداء، قالت: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركاً، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً)) .

فقال هاني بن كلثوم: سمعت محمود بن الربيع يحدث، عن عبادة بن الصامت، أنه سمعه يحدث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:((من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله، لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) ، قال لنا خالد: ثم حدثني ابن أبي زكريا عن أم الدرادء، عن أبي الدرداء، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:((لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلَّح)) (3) .

وعن البراء بن عازب، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لزوال الدنيا أهون

(1) الآية 93 من سورة النساء.

(2)

((سنن أبي داود)) (4/464) .

(3)

انظر ((السنن)) (4/463-464) رقم (4270) .

ص: 499

على الله من قتل مؤمن بغير حق)) (1) ، والأحاديث في هذا فيها كثرة.

والقتل مع عظمه يتفاوت، فبعضه أعظم من بعض، وأعظمه أن يقتل الرجل ولده؛ لأن الله جعل له من الشفقة، والحنو، والحب، ما لا ينكر، وأمر الله – تعالى – بمراعاة حقه، فإذا بدل مكان الإحسان الواجب له أعظم إساءة – وهي القتل – استحق على ذلك أعظم العقوبة، فكيف إذا كان الباعث على القتل خوف الفقر، وأن يشاركه في مأكله؟ فإنه ينضاف إليه بذلك جرائم أخرى.

قوله: ((قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني بحليلة جارك)) ، الزنا جريمة نكراء، ويتفاوت جرمه حسب قرب المزني بها وبعهدها عنه، وحسب الحقوق التي تجب مراعاتها أكثر في الشرع.

فإذا كانت ذات قرابة من جهة النسب فالزنا بها أعظم، وكذلك إذا كانت زوجة قريب منه، أو زوجة من له حق الجوار، فإن جريمة ذلك أعظم مما لو زنا بمن هي بعيدة عنه قرابة وجواراً.

قوله: ((أن تزاني)) يدل على المفاعلة، ومعنى ذلك أن تطاوعه المرأة على الفاحشة، وفي ذلك دليل على أنها إذا لم تطاوعه فالذنب أعظم.

والحليلة: هي التي يحل وطؤها، وتحل معه في فراش واحد.

والشاهد من الحديث قوله: ((أن تجعل لله نداًً وهو خلقك)) .

فالإنسان هو الذي يجعل الند، ويفعل ذا حقيقة، فهو فعله الذي يباشره ويقوم به، ويتصف به، فإذا فعل ذلك فهو المشرك، ولذلك استحق العذاب العظيم، وأضيف إليه الذنب؛ لأنه صدر منه.

(1) رواه ابن ماجه في ((السنن)) (2/874) رقم (2619)، قال المنذري: إسناده حسن، ورواه النسائي رقم (3987) .

ص: 500

فتبين الفرق بين قول الله - تعالى - وفعله، وبين قول العبد وفعله، وهو ما أراده المؤلف.

فإذا قرأنا القرآن فإنما نقرؤه بأصواتنا المخلوقة التي لا تماثل صوت الرب تعالى، وما نقرؤه من القرآن فهو كلام الله - تعالى- مبلغاً عنه، لا مسموعاً منه، وإنما سمعه منه جبريل، ونحن نقرؤه بحركاتنا، وأصواتنا.

فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ. وهذا ما يدل عليه قوله تعالى:{وَإِن أحَدٌ مِنَ المُشرِكينَ استَجَارَكَ فَأَجِرهُ حَتَّىَ يَسمَعَ كَلَامَ اللهِ} فهو يسمع كلامه ممن يقرؤه عليه يبلغه إياه، لا من الله - تعالى -.

*****

قال: ((باب قول الله - تعالى -: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} .

روى مسلم، عن أنس، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال:((أتدرون مم أضحك؟)) قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:((من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداًً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام قال: فيقول: بعداً لكُنَّ، وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)) (1) .

((قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب إثبات السمع لله، وأطال في تقرير ذلك، وتقدم في أوائل التوحيد في قوله:{كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} .

والذي أقول: إن غرضه في هذا الباب: إثبات ما ذهب إليه أن الله يتكلم

(1)((مسلم)) (8/217) .

ص: 501

متى شاء)) (1) .

والظاهر أن غرضه في هذا الباب قريب من الذي قبله، وهو بيان أن أعمال العباد واقعة بفعلهم، وأن الكلام يكون صفة لمن تكلم به، فالأعضاء حين تشهد على صاحبها تنطق بكلام لها حقيقة، مضاف إليها على الحقيقة، فهو صفة لها؛ لأنه قام بها، فكذلك كل متكلم، فكلامه فعله ووصفه.

وهذا يدل على أن المتكلم بكلام لغيره لا يكون ذلك الكلام مضافاً إليه وصفاًً له، بل هو ناقل أو مبلغ، وأما حركة لسانه وشفتيه، وتصويته به، فهي أفعاله، والمصوت به الذي تحرك اللسان والشفتان به هو كلام ذلك الغير، كما تقدم.

وأعمال العباد كلها مخلوقة محدثة.

قال البخاري – رحمه الله: ((وكل من لم يعرف الله بكلامه، أنه غير مخلوق، فإنه يعلم، ويرد جهله إلى الكتاب والسنة، فمن أبى بعد العلم به كان معانداً؛ لقوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (2) .

فأما ما احتج به الفريقان لمذهب أحمد (3) ، ويدعيه كل لنفسه، فليس بثابت كثير من أخبارهم، وربما لم يفهموا دقة مذهبه، بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق، وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة، وتجنبوا أهل الكلام، والخوض،

(1)((الفتح)) (13/496) .

(2)

الآية 115 من سورة النساء.

(3)

يعني: الذين يقولون: ألفاظنا وتلاوتنا للقرآن مخلوقة، فإن حقيقة قول هؤلاء أن القرآن مخلوق، والفريق الثاني: الذين يقولون: تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة، وألفاظنا به غير مخلوقة.

ص: 502

والتنازع، إلا فيما جاء فيه العلم، وبينه رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

حدثنا إسحاق، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – قوماً يتدارءون فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه بعضاً، ما علمتم منه فقولوا، وما لا فكلوه إلى عالمه)) .

وكل من اشتبه عليه شيء فأولى أن يكله إلى عالمه، كما قال عبد الله بن عمرو، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا يدخل في المتشابهات إلا ما بين له.

حدثنا أحمد بن إشكاب، حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه:((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) ثم ذكر حديث ابن مسعود الآتي.

ثم قال: حدثنا موسى، عن وهيب، عن داود، عن الشعبي، في بيع المصاحف:((أنه لا يبيع كتاب الله، وإنما يبيع عمل يديه)) .

ثم ذكر آثاراً في ذلك، وذكر قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في أبي موسى:((أوتي مزماراً من مزامير آل داود)) ، وقوله:((زينوا القرآن بأصواتكم)) ثم قال:

((وعامة هذه الأخبار مستفيضة عند أهل العلم، ولا ريب في تخليق مزامير آل داود، وندائهم؛ لقوله عز وجل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ} )) .

ثم ذكر قوله تعالى: {وَاتلُ مَا أُوحِىَ إِليكَ مِن كِتَابِ رَبِكَ} ، ثم قال:((فبين أن التلاوة من النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وأن الوحي من الرب)) .

ثم ذكر أحاديث وآيات وآثاراً كثيرة، ثم قال: ((ومما يقوي قول الشعبي في بيع المصاحف أنه إنما يبيع عمل يديه، قول زياد بن لبيد – رضي الله عنه – للنبي – صلى الله عليه وسلم:

ص: 503

((كيف يرفع العلم وقد ثبت ووعته القلوب؟)) (1) .

فهذا الذي ذكره يبين ما أراده هنا، وهو ظاهر من الآية التي ترجم بها، عند التأمل؛ لأنها في سياق ما ذكره الله عن أهل النار، من كلام أعضائهم، قال الله – تعالى -:{وَيَومَ يُحشَرُ أَعدَاءُ اللهِ إلىَ النَّارِ فَهُم يُوزَعُونَ {19} حَتىَ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيِهِم سَمعُهُم وأَبصَارُهُم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ {20} وَقَالُواْ لِجُلُودِهِم لِمَ شَهِدتُم عَلينَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الذِي أنطَقَ كُلَّ شيءٍ وَهُوَ خَلَقَكُم أَوَلَ مَرةٍ وَإليهِ تُرجَعُونَ {21} وَمَا كُنتُم تَستَرُونَ} الآية.

قال ابن كثير: ((أي: تقول لهم الأعضاء والجلود، حين يلومونها على الشهادة عليهم: ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلون، بل كنتم تجاهرون الله بالكفر، والمعاصي، ولا تبالون منه في زعمكم لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم)) (2) .

وبهذا يتبين أن هذا قول الأعضاء ذكره الله عنها على ما سيقع يوم القيامة.

ولهذا لا يقال: إن هذا ليس كلام الله، بل هو كلام الأعضاء حكاه الله عنها؛ لأن الأعضاء لم تتكلم إلى الآن، وإنما ستتكلم يوم القيامة، والله – عز وجل – علم ما سيكون وما تتكلم به، فذكره لعباده ليحذروا الوقوع فيما يوجب شهادة الأعضاء عليهم، فهو كلام الله تكلم به، وأخبر به عما سيقع، وحتى الكلام الذي وقع وذكره تعالى عمن قاله، فإن ذلك يكون كلامه، كما حكى عن الأنبياء وقومهم وغيره.

والمقصود أن الاستدلال بالآية المذكورة على أن أعمال الإنسان وأقواله – ومن ذلك قول الأعضاء – تقع منهم على الحقيقة، وتقوم بهم، وعليها

(1) انظر كتاب ((خلق أفعال العباد)) (70-105) تحقيق بدر.

(2)

((تفسير ابن كثير)) (4/96) طبعة الحلبي.

ص: 504

يستحقون الجزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وأن أعمال العبد مخلوقة لله - تعالى -؛ لأن الله هو الخالق وحده، وجعلهم عاملين لها حقيقة، وتقدم بيان ذلك.

******

147-

قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله رضي الله عنه قال: اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي - كثيرة شحم بطونهم، قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إذا جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا، فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله - تعالى -:{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} الآية.

قوله: ((كثيرة شحم بطونهم)) كثيرة: صفة لشحم وأنثه؛ لأن شحم مضاف إلى البطون، وكذا صفة القلوب، والمعنى: أن هؤلاء كبار الجسوم، لكن فقههم قليل، ولهذا صدرت منهم تلك المقالة الدالة على قلة فهمهم.

والشاهد من الآية لمقالتهم هذه: قوله تعالى: {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ، كما في قول أحدهم: إن جهرنا سمع، وإن أخفينا لم يسمع، والآخر الذي هو أفقه من هذا علق علم الله بذلك بقوله: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فهو شاك في ذلك، ولهذا وصفهم عبد الله رضي الله عنه بقلة الفقه، وتقدم وجه استدلال المؤلف بذلك.

******

قال: باب قول الله - تعالى -: {كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} ، {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} ، وقوله تعالى:{لَعَلَّ اللهَ يُحدِثُ بَعدَ ذَلِكَ أَمراً} ، وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين؛ لقوله

ص: 505

تعالى: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَمِيعُ البَصِيرُ} .

وقال ابن مسعود عن النبي – صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)) .

يريد بهذا بيان أن الله – تعالى – يحدث ما يريد إحداثه، في أي وقت أراد، وأن إحداثه ذلك من أفعاله التي هي أوصاف له، فيحدث الأمر من أمره – تعالى – والكلام، ويطلق عليه أنه حدث، ومحدث؛ لأنه وجد بعد ما قبله، ويسمى كلامه حديثاً، ويطلق عليه أنه حادث، ومحدث بمعنى الجديد الذي تكلم به بعد كتبه السابقة له، ولهذا قال: وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين.

فمن ذلك كلامه، ومخاطبته لمن يريد أن يخاطبه من خلقه، وأمره لمن يأمره، ونهيه، وإجابته لمن يدعوه، وإحياؤه لمن يريد حياته، وإماتته لمن يريد أن يميته، وإذلال من يريد ذله، وإعزاز من يشاء، وهدايته من يشاء، وإضلال من يشاء، وتصرفه في خلقه وملكه كيف يشاء.

((قال عبيد بن عمير: {كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} قال: من شأنه أن يجيب داعياً، ويعطي سائلاً، أو يفك عانياً، أو يشفي سقيماً)) .

وقال مجاهد: ((كل يوم يجيب داعياً، ويكشف كرباً، ويجيب مضطراً، ويغفر ذنباً)) .

وقال قتادة: ((لا يستغني عنه أهل السماوات، والأرض، يحيي حياً، ويميت ميتاً، ويربي صغيراً، ويفك أسيراً، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم، ومنتهى شكواهم)) .

وقال سويد بن جبلة: ((إن ربكم كل يوم في شأن، فيعتق رقاباً، ويعطي

ص: 506

رغاباً، ويقحم عقاباً)) (1) .

وروى ابن جرير، عن عبد الله بن مثيب الأزدي، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم – هذه الآية: {كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} ، فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟ قال:((أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين)) (2) وعلقه البخاري جازماً به، عن أبي الدراداء، موقوفاً)) (3) ، ورواه ابن ماجة مرفوعاً (4) .

ونقل الحافظ في كلامه على هذه الترجمة قول ابن بطال، وقول الكرماني وغيرهما، وأطال فيما هو بعيد عن مراد البخاري؛ لأنهم يحاولون شرح ما ذكره على ما يتفق مع عقيدة الأشاعرة، مع أنه مباين لها.

قوله: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} قيل هذه الآية، كقوله تعالى:{اقتَرَبَ لِلنَّاس حِسَابُهُم وَهُم فيِ غَفلَةِ مُّعرِضُونَ} أي: دنت القيامة وقربت، والناس عنها غافلون لاهون في دنياهم.

وإذا جاءهم ذكر من الله جديد، قريب العهد بالله، فيه تذكيرهم وأمرهم بالأخذ لما فيه سعادتهم، وفيه عظتهم عن التشاغل بالدنيا ونسيان الآخرة، استمعوه سماع غافل لاه لاعب.

قال ابن كثير: ((أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله. فقال: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} أي: جديد إنزاله)) (5) .

(1)((تفسير ابن كثير)) (7/470) طبعة الشعب.

(2)

انظر ((تفسير الطبري)) (27/79) .

(3)

انظر ((البخاري)) (6/181) .

(4)

انظر ((السنن)) (1/73) رقم (202) ، ورواه ابن حبان في ((صحيحه)) ، عن أبي الدرداء، مرفوعاً، قال:((من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين)) ((الإحسان)(238) .

(5)

((تفسير ابن كثير)) (5/225) .

ص: 507

وقال أبو جعفر ابن جرير – رحمه الله: (يقول – تعالى ذكره -: ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس، ويذكرهم به، ويعظهم، إلا استمعوه، وهم يلعبون)) (1) .

وقوله: ((لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)) لما ذكر الله – جل وعلا – حكمه في المطلقة، وأمره بأن تطلق لعدتها، وأمر بإحصائها، ونهى عن إخراجها من بيت زوجها، ما دامت في العدة، وأنها لا تخرج منه إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، وأخبر – تعالى – أن هذا من حدوده التي حدها،، ونهى عن تعديها، وأن من تعداها فقد ظلم نفسه، بعد ذلك قال تعالى:{لَا تَدري لَعَلَ اللهَ يُحدِث بَعدَ ذَلِكَ أَمراً} .

يعني: يحدث للزوجين حالاً غير ما كانا عليه وقت الطلاق، بأن تتبدل الكراهية رغبة، والبغض حباً، وأن يراجع الرجل نفسه فيندم على ما حصل منه، والزوجة كذلك.

قال ابن جرير: {لَا تَدري لَعَلَ اللهَ يُحدِث بَعدَ ذَلِكَ أَمراً} : يقول – جل ثناؤه -: لا تدري ما الذي يحدث، لعل الله يحدث بعد طلاقكم إياهن رجعة)) (2) .

والمقصود الذي أراده المؤلف – رحمه الله – من هاتين الآيتين: أن الله – تعالى – يتكلم بعد أن لم يكن تكلم بذلك الكلام بعينه، ويأمر، وينهى بعد أن لم يكن أمر بذلك المأمور وذلك المنهي عنه بعينه، لمن وجه إليه الأمر والنهي، وهذا هو معنى الحدث الذي أراد بيانه، وهو: الفعل المتجدد الذي يتعلق بمشيئته تعالى، سواء كان كلاماً، أو أمراً، أو نهياً، أو إحياء لميت، أو إماتة لحي، أو هداية ضال، أو ضلال غاو، أو تغيراً لحكم شرعه قبل

(1)(17/2) .

(2)

((تفسير الطبري)) (12/87) .

ص: 508

ذلك، أو أذن به، أو تغيير ما في نفوس بعض خلقه، أو غير ذلك مما يشاؤه ويريده – جل وعلا -، كما تقدم في معنى قوله تعالى:{كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} .

وقوله تعالى: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} وقوله: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ إلَا كَانُوا عَنهُ مَعرِضينَ} ، قال شيخ الإسلام: ((هذا يدل على أن الذكر منه محدث، ومنه ما ليس بمحدث؛ لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال: ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعاما حلالا، ونحو ذلك.

ويعلم أن المحدث في الآيتين ليس هو المخلوق، الذي يقوله الجهمية.

ولكنه الذي أنزل جديداً، فإن الله كان ينزل من القرآن شيئاً بعد شيء، فالمنزل أولاً قديم بالنسبة إلى المنزل آخراً، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كمال قال:{كَالعُرجُونِ القَديمِ} ، وقال:{تَاللهَ إِنَكَ لَفي ضَلَالِكَ القَديِمِ} (1) .

ومراد الإمام البخاري – رحمه الله – من هاتين الآيتين الرد على من ينكر أفعال الله – تعالى – من القول والفعل ونحوهما مما يتعلق بمشيئته وإرادته وقدرته، فإن هذا الأصل أنكرته الجهمية، والمعتزلة، ومن تشعب عنهما، ظانين أنه لا يمكن إثبات حدوث العالم وإثبات وجود الخالق له – تعالى – إلا بإثبات حدوث الأجسام، ولا يمكن حدوث الأجسام إلا بإثبات حدوث ما يقوم بها من الصفات والأفعال المتعاقبة، التي يسمونها: الحوادث، فلذلك قالوا: كل من قامت به الحوادث أو كان محلاً لها فهو حادث.

(1)((مجموع الفتاوى)) (12/522) .

ص: 509

وهذا الذي حدا بهم إلى إنكار صفات الله، وأفعاله القائمة به المتعلقة بمشيئته وقدرته.

وعليهم توجه رد الإمام البخاري – رحمه الله – في هذا الكتاب، كما قال:((باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب، وأمره، فالرب – تعالى – بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون، غير المخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مكون مخلوق)) .

ثم بعد ذلك قال: ((باب قول الله – تعالى -: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم)) .

ثم ذكر قول عبد الله بن مسعود: ((إذا تكلم الله بالوحي)) إلى آخره، وذكر حديث عبد الله بن أنيس وفيه:((فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب)) .

وذكر حديث أبي هريرة: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها)) إلى آخره، وحديث أبي سعيد الخدري: ((يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار

)) ، إلى آخر ما ذكره من الأبواب التي من تدبرها، وتأمل ما تحتها من النصوص، تبين له دقه فهمه رحمه الله، وتبين له بطلان مذهب أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم.

والمقصود أن الإمام البخاري – رحمه الله – يرى أن الله – تعالى – يوصف بأنه يحدث

ص: 510

ما يشاء من القول، والأمر، والفعل، وهذا ما دل عليه العقل والفطرة وكتب الله، ولهذا قال: ((وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين؛ لقوله تعالى: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَمِيعُ البَصِيرُ} .

فكما أنه تعالى لا مثل له في ذاته، كذلك في أفعاله، وأوصافه وأحداثه التي يحدثها مما يتعلق بمشيئته، وهي أفعاله، وهذا هو الحق الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

قوله: ((وقال ابن مسعود، عن النبي – صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)) .

هذا طرف من حديث رواه أبو داود، وأحمد، والنسائي، وابن حبان في ((صحيحه)) وصححه، من طريق عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال:((كنا نسلم في الصلاة، ونأمر بحاجتنا، فقدمت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يصلي، فسلمت عليه، فلم يرد عليَّ السلام، فأخذني ما قدم وما حدث، فلما قضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصلاة قال: ((إن الله – عز وجل – يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله – تعالى – قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة، فرد عليَّ السلام)) (1) .

وفي رواية النسائي: ((وإن مما أحدث)) ، وأصل القصة في ((الصحيحين)) .

فقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحدث ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)) موافق لقوله تعالى: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} ولا يصف الله أعلم منه – تعالى – ولا أعلم من رسول بعده، ومن لم يرض بما قاله الله ورسوله فبعداً له.

*****

148-

قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا حاتم بن

(1) انظر ((سنن أبي داود)) (1/212)، باب: رد السلام في الصلاة، وانظر ((المسند)) (1/409، 415، 435) ، وانظر ((الإحسان)) (3/19) رقم (1221) .

ص: 511

وردان، حدثنا أيوب، عن عكرمة عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال:((كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم وعندكم كتاب الله، أقرب الكتب عهداً بالله، تقرؤونه محضا لم يشب)) .

يعني: أن الله قد أغناكم بما جاءكم به نبيكم – صلى الله عليه وسلم – فقد أنزل الله عليه آخر الكتب التي قضى الله – تعالى – أن تنزل إلى الأرض من عنده، فهو أحدثها بالله، وأقربها عهداً به، وقد وصل إلينا خالصاً، ليس فيه ما يداخله من غيره، فكيف بعد ذلك يسوغ للمسلم أن يذهب يسأل اليهود والنصارى عما في أيديهم من كتبهم؟

وقد أعلمنا الله – تعالى – أنهم حرفوها، وزادوا فيها ونقصوا منها، ثم كذبوا على الناس بأن قالوا: هذا من عند الله، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (1) .

وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) .

وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) إلى غير ذلك مما ذكره الله – تعالى – عنهم من الكذب،

(1) الآية 79 من سورة البقرة.

(2)

الآية 78 من سورة آل عمران.

(3)

الآية 71 من سورة آل عمران.

ص: 512

والتزوير، وتحريف كلام الله عن مواضعه، وتغييره وتبديله.

والشاهد فيه قوله: ((وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدا بالله)) . وهذا معنى كونه محدثاً، يعني: أنه قريب عهده بالله – تعالى -، بأن تكلم به وأنزله بعد الكتب السابقة، بل تكلم به تعالى في مناسبات تعرفون كثيراً منها.

ومعنى قوله: ((محضاً لم يشب)) : يعني: أنه لم يخالطه شيء من غيره.

149 – قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبيد الله ابن عبد الله، أن عبد الله بن عباس

قال: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم، أحدث الأخبار بالله، محضا لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله، وغيروا فكتبوا بأيديهم، قالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا بذلك ثمنا قليلا، أو لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم)) .

هذا يدل على أنه كان من المسلمين في عهد ابن عباس من يسأل أهل الكتاب ويكتب أخبارهم، وذلك في آخر عهد الصحابة، وكان الصحابة ينهون عن ذلك، ويحذرون منه؛ لأنهم يعرفون كذبهم، وتحريفهم لكتاب الله، ولاستغنائهم بما جاء به نبيهم – صلى الله عليه وسلم.

وقد روى البخاري أن أمير المؤمنين معاوية – رضي الله عنه – أنه كان يحدث رهطاً من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين، الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب)) (1) أي: نجرب عليه الكذب في أخباره.

(1) انظر ((الفتح)) (13/333) .

ص: 513

((روى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة من حديث جابر، أن عمر أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتاب أصابه من أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب، وقال: ((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل، فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)) ورجاله ثقات إلا أن مجالداً فيه ضعف)) (1) .

ولهذا نهى ابن عباس عن سؤالهم، وبين أنه ليس هناك ما يدعو إلى سؤالهم، وقد أغنى الله المسلمين بكتابه الذي تولى حفظه بنفسه، فلا يقدر أحد على تغييره وتبديله، وهو أيضا آخر الكتب نزولا من عند الله، فهو أحدثها به، نزل عليكم بعد كل الكتب التي يحدثونكم عنها.

مع أن الذي عندهم قد اختلط الحق فيه بالباطل، فلا يتميز، وما كان فيه من حق فهو منسوخ بالقرآن الذي جاء به خاتم النبيين – صلى الله عليه وسلم.

ومما يدل على أن أهل الكتاب لا يريدون الحق: كونهم لا يسألون المسلمين عما جاء به نبيهم، وهذا مما يمنع من سؤالهم. وقد سبق ذكر بعض الآيات التي تنص على تحريفهم وتبديلهم الكتاب بما يكذبونه؛ ليشتروا به من حطام الدنيا ما استطاعوا، فمثل هؤلاء حرام سؤالهم؛ لأنهم يضلون من سألهم والشاهد قوله:((وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم – صلى الله عليه وسلم – أحدث الأخبار بالله)) ، والحديث هو الجديد، ضد القديم، وهذا معنى قوله في الآية:{مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرٍ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} أي: جديد. وقوله: ((محضاً لم يشب)) أي: خالصاً، لم يخالطه شيء من غيره.

*******

قال: ((باب قول الله – تعالى -: {لَا تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} وفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – حين ينزل عليه الوحي)) .

(1)((الفتح)) (13/334) .

ص: 514

يقصد بهذا التمييز بين فعل العبد، وفعل الرب - تعالى - وصفاته.

فتحريك النبي صلى الله عليه وسلم لسانه بالوحي هو فعله، ولكن المحرك به اللسان هو كلام الله وصفته، ولهذا قال: ((وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، يعني: أنه كما قال ابن عباس: يعالج من الوحي شدة، وكان يحرك شفتيه بالقرآن، وذلك عندما يتلوه عليه جبريل، فيحرك لسانه وشفتيه بما يقرؤه جبريل، خوفا من أن يفوته شيء منه، فنهاه الله - تعالى- عن ذلك حيث يقول:{لَا تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ} أي: تستعجل بحفظه، مخافة أن يفوتك فلا تحفظه.

وتكفل الله له بأن يحفظه إياه، فقال تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {18} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} يقول تعالى لنبيه: لا تستعجل إذا سمعت جبريل يقرأ عليك القرآن، فتحرك به لسانك وشفتيك مخافة أن لا تحفظه، بل أنصت، واستمع لما يقرأه جبريل، فنحن نجمعه، فلا يذهب منه شيء.

و ((قرآنه)) يعني: قراءته التي يقرؤها عليك جبريل، فإذا قرأه فاتبع قرآنه)) فكان صلى الله عليه وسلم يستمع لما يقرؤه عليه جبريل، فإذا انتهى قرأه النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله من تحريك شفتيه ولسانه وما يعالج من الشدة كل ذلك فعله وعمله، وهو مخلوق.

أما ما يحرك به لسانه وشفتيه، فهو كلام ربه - جل وعلا -، ومثل ذلك جبريل.

قال المؤلف في بدء الوحي، بسنده عن ابن عباس، في قوله تعالى:{لَا تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل

ص: 515

شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله – تعالى - {لَا تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ {16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، قال: جمعه لك في صدرك، وتقرأه،:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال: فاستمع له وأنصت،:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي – صلى الله عليه وسلم – كما قرأه)) (1) وسيأتي قريباً.

وقال في ((خلق أفعال العباد)) : ((سمعت عبد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى ابن سعيد يقول: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة، - يعني: حركاتهم، وأصواتهم، واكتسابهم، وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف، المسطور، المكتوب، الموعى في القلوب، فهو كلام الله، ليس بمخلوق، قال الله – تعالى -: {بَل هُوَ قُرآنٌ مَّجِيدٌ {21} فيِ لَوحٍ مَّحفُوظِ} ، فذكر أنه يحفظ ويسطر)) (2) .

وقال أيضاً: ((فأما المداد، والرق

، ونحوه، فإنه مخلوق، كما أنك تكتب ((الله)) ، فالله في ذاته هو الخالق، وخطك واكتسابك من فعلك خلق؛ لأن كل شيء دون الله بصنعه، وهو خلق، وقال تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3) .

وقال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (4)، وقال تعالى:{بَل هُوَ قُرآنٌ مَّجِيدٌ {21} فيِ لَوحٍ مَّحفُوظِ} (5) .

وقال أيضا: ((وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لجبريل حين سأله عن الإيمان، قال: أن

(1) البخاري (1/4) .

(2)

((خلق أفعال العباد)) (47) .

(3)

. الآية 2 من سورة الفرقان.

(4)

الآية 4 من سورة الزخرف.

(5)

((خلق أفعال العباد)) (49) .

ص: 516

تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟

قال: نعم، ثم قال: ما الإسلام؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله.

فذكره، قال: إذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم.

فسمى الإيمان، والإسلام، والشهادة، والإحسان، والصلاة بقراءتها وما فيها من حركات الركوع والسجود، فعلاً للعبد)) (1) .

وقال: ((قال الله عز وجل: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، ولكنه كلام الله تلفظ به العباد، والملائكة، وبين ذلك ما حدثني به عبد العزيز بن عبد الله – وذكر سنده – إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا أحب الله عبداً، نادى جبريل: يا جبريل أحب فلاناً، فينوه بها جبريل في حملة العرش، فيحبه أهل العرش، فيسمع أهل السماء السابعة لغط أهل العرش – وذكره -)) (2) .

فحب جبريل، ونداؤه لأهل العرش وأهل السماوات هو فعل جبريل، وهو مخلوق.

وأما حب الله للعبد ونداؤه لجبريل فهو فعله تعالى.

وقال أيضا: ((قال معاوية: لو شئت أن أحكي لكم قراءة رسول الله – صلى الله عليه وسلم: لفعلت. وسئل النبي – صلى الله عليه وسلم أي الناس أحسن قراءة؟ قال: ((الذي إذا سمعته رأيت عليه أنه يخشى الله عز وجل) .

(1) المصدر السابق (57) .

(2)

المصدر نفسه (72-73) .

ص: 517

ويذكر عن سعد – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم: خير الذكر الخفي.

وقال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (1) .

وقال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} (2) .

وسمع معاذ قارئا يرفع صوته بالقرآن، فقال:{إِنَّ أَنكَرَ الأَصَوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ} .

حدثنا مسدد، حدثنا معتمر، سمعت أبي، سمعت أبا عثمان يقول: ما سمعت صنجاً قط، ولا بربطاً، ولا مزماراً أحسن صوتاً من أبي موسى، إلا فلاناً، إن كان ليصلي بنا فنود أنه قرأ البقرة من حسن صوته.

ويذكر عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ أنه قال: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نقول، ويكتب علينا؟ قال: وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟)) .

فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أصوات الخلق، وقراءتهم، ودراستهم، وتعليمهم، وألسنتهم، مختلفة بعضها أحسن، وأزين، وأحلى، وأصوت، وأرتل، وألحن، وأعلى، وأخف، وأغض، وأخشع.

وقال تعالى: {وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَاّ هَمْسًا} (3) ، وأجهر، وأخفى، وأمد، وأمهر، وألين، وأخفض من بعض)) (4) .

(1) الآية 55 من سورة الأعراف.

(2)

الآية 205 من سورة الأعراف.

(3)

الآية 108 من سورة طه.

(4)

((خلق أفعال العباد)) (72-73) .

ص: 518

قوله: ((وقال أبو هريرة: عن النبي – صلى الله عليه وسلم: ((قال الله – تعالى – أنا مع عبدي إذا ذكرني، وتحركت بي شفتاه)) .

هذا التعليق وصله المؤلف في ((خلق أفعال العباد)) (1) .

ومراده من الحديث أن قوله: ((وتحركت بي شفتاه)) وكذا قوله: ((إذا ذكرني)) أنه فعل العبد وعمله الذي يجازيه الله عليه، والشفتان واللسان تتحرك بذكر الله واسمه وصفته، لا بذاته تعالى.

فمثل ذلك قراءة القرآن، فإن اللفظ والصوت والحركة فعل العبد، وهو مخلوق، وأما ما يلفظ به ويقرؤه فهو كلام الله – تعالى -، وقد تكرر هذا لأن المؤلف يكرره؛ لأنه قد بلي بمن يقول: قراءة العباد غير مخلوقة.

قال رحمه الله: ((القراءة هي التلاوة، والتلاوة غير المتلو، وقد بينه أبو هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم – قال: اقرءوا إن شئتم: يقول العبد: ((الحمد لله رب العالمين)) ، فيقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد:((مالك يوم الدين)) فيقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد:((إياك نعبد، وإياك نستعين)) ، فيقول الله: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل)) .

فبين أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء، والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة.

ثم روى عن أبي الدرداء: ((سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أفي كل صلاة قراءة؟ قال: ((نعم)) ، فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه، قال النبي – صلى الله عليه وسلم:((اقرءوا إن شئتم)) .

(1)(ص141) تحقيق بدر.

ص: 519

فالقراءة لا تكون إلا من الناس، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه.

وسئل النبي – صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت)) فذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن بعض الصلاة أطول من بعض، وأخف، وأن بعضهم يزيد على بعض في القراءة، وبعضهم ينقص، وليس في القرآن: زيادة ولا نقصان، فأما التلاوة فإنهم يتفاضلون في الكثرة والقلة والزيادة والنقصان.

وقد يقال: فلان حسن القراءة، ورديء القراءة، ولا يقال: حسن القرآن، ورديء القرآن.

وإنما نسب إلى العباد القراءة، لا القرآن؛ لأن القرآن كلام الرب جل ذكره.

والقراءة فعل العبد، لا يخفى معرفة هذا القدر إلا على من أعمى الله قلبه، ولم يوفقه، ولم يهده سبيل الرشاد.

وليس لأحد أن يشرع في أمر الله – عز وجل – بغير علم، كما زعم بعضهم: أن القرآن بألفاظنا، وألفاظنا به شيء واحد، التلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء.

فقيل له: إن التلاوة فعل التالي، وعمل القارئ فرجع، وقال: ظنتهما مصدرين.

فقيل له: هلا أمسكت، كما أمسك كثير من أصحابك؟ ولو بعثت إلى من كتب عنك، فاسترددت ما أثبت، وضربت عليه؟

فزعم أن كيف يمكن هذا وقد قلتُ، ومضى؟

فقيل له: كيف جاز لك أن تقول في الله – عز وجل – شيئاً لا يقوم به شرح وبيان، إذ لم تميز بين التلاوة والمتلو؟

ص: 520

فسكت إذ لم يكن عنده جواب)) (1) .

******

150-

قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى:{لَا تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أحركهما لك كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحركهما، فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه. فأنزل الله عز وجل:{لَا تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ {16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، قال: جمعه في صدرك، ثم تقرؤه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، قال: فاستمع له وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أتاه جبريل عليه السلام استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي – صلى الله عليه وسلم –

كما أقرأه)) .

قوله: {لَا تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} أي: لا تحرك بالقرآن لسانك، فدل على أن المحرك به غير الحركة والتحرك، فذلك فعل العبد، بخلاف المحرك به فإنه القرآن.

قوله: (يعالج من التنزيل شدة)) أي: أنه كان يتحمل هماً، ويعاني كرباً وخوفاً من أن يذهب عنه ما يلقيه جبريل إليه، فلذلك كان يحرك لسانه وشفتيه بترديد ما يقوله جبريل، لعله يثبت معه، وقد وصف ابن عباس لسعيد بالتمثيل، مما يدل على أن ابن عباس قد شاهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تلك الحالة.

(1)((خلق أفعال العباد)) (104-105) ، والظاهر أن هذه المحاور بين البخاري وبعض من خالفه في ذلك.

ص: 521

فلما نهاه ربه تعالى عن ذلك الفعل، وأخبره أنه سوف يثبته في صدره، وإنما عليه أن يستمع إلى جبريل، وأن الله يتولى جمعه في صدر النبي – صلى الله عليه وسلم – وحفظه، ترك ما كان يفعله، وهذا من الحفظ للقرآن الذي أخبر تعالى أنه يحفظه، كما قال تعالى:{إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكرَ وإِنَّا لَهُ لحَافِظُونَ} .

فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستمع إلى جبريل، فإذا انتهى قرأه النبي – صلى الله عليه وسلم – كما قرأه جبريل.

قوله: ((لتعجل به)) أي: إن تحريكه لسانه به ليتعجل بحفظه خوفاً من فواته عليه أو نسيانه، فقال الله – تعالى -:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال ابن عباس: في صدرك، ثم تقرؤه كما كان جبريل يقرؤه.

قوله: {وَقُرْآنَهُ} يعني: قراءته، والمقصود قراءة جبريل له، وبهذا سميت القراءة قرآناً.

قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي: إذا قرأه عليك جبريل الذي أمره الله بذلك، فاتبع قراءته، فإسناد الفعل إلى ضمير المتكلم المعظم، الذي هو الله – تعالى -؛ لأنه - جل وعلا - هو الآمر، وهو المتكلم به، وجبريل رسوله إلى محمد – صلى الله عليه وسلم، والرسول يبلغ رسالة من أرسله.

قال في ((خلق أفعال العباد)) ((حدثنا عبيد الله بن موسى، وذكر سنده إلى سعيد ابن جبير أنه سئل عن قوله تعالى: {لَا تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} ؟ فقال: قال ابن عباس: كان يحرك لسانه إذا نزل عليه، فقيل: {لَا تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} يخشى أن يتفلت، ثم {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي: جمعه في صدرك {وَقُرْآنَه ُ} أن تقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} يقول: أنزل عليه، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} أن نثبته على لسانك)) (1) وفي رواية: ((قال:

(1)(ص84) ورواه في ((الصحيح)) (6/203) .

ص: 522

علينا أن نجمعه في صدرك {وَقُرآنَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ ُ} فإذا أنزلناه فاستمع {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله)) (1) .

******

قال: ((باب قول الله - تعالى -: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} يتخافتون: يتسارون.

قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: ((يقول جل ثناؤه: أخفوا قولكم، وكلامكم أيها الناس، أو أعلنوه وأظهروه، {إِنَهُ عَلِيمُ بِذاتِ الصُدُورِ} يقول: إنه ذو علم بضمائر الصدور التي لم يتكلم بها، فكيف بما نطق به وتكلم به، أخفى ذلك أو أعلن؛ لأن من لم تخف عليه ضمائر الصدور، فغيرها أحرى أن لا يخفى عليه.

{أَلَا يَعلَمُ} الرب جل ثناؤه {مَن خَلَقَ} من خلقه، يقول: كيف يخفى عليه خلقه الذي خلق، {وَهُوَ اللَّطِيفُ} بعباده {الخَبِيرُ} بهم وبأعمالهم)) (2) ؟

قال الحافظ: ((أشار بهذه الآية إلى أن القول أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره.

فإن كان بالقرآن، فالقرآن كلام الله، وهو من صفات ذاته فليس بمخلوق؛ لقيام الدليل القاطع بذلك، وإن كان بغيره فهو مخلوق، بدليل قوله تعالى {أَلَا يَعلَمُ مَن خَلَقَ} بعد قوله:{ {إِنَهُ عَلِيمُ بِذاتِ الصُدُورِ.}

قال ابن بطال: ((مراده إثبات العلم لله صفة ذاتية؛ لاستواء علمه بالجهر

(1) انظر ((الصحيح)) (6/203) .

(2)

((تفسير الطبري)) (29/5) طبع بولاق.

ص: 523

من القول والسر)) (1) .

قلت: كلا القولين لم يردهما البخاري، أما قول ابن بطال، فلا يتفق مع أحاديث الباب، وظاهر أنه لم يرد ما زعمه ابن بطال.

وأما قول الحافظ، فينطبق على مذهب الأشاعرة الذين يجعلون كلام الله صفة ذاتية، يعني: أنه معنى قائم بذات الله – تعالى -، والبخاري – رحمه الله – من أبعد الناس عن مثل هذا القول الباطل، المتناقض.

والصواب: أنه أراد بيان أن أفعال الله وأوصافه لا تشتبه بأفعال العباد وأوصافهم، فإن أقوال العباد الموصوفة بأنهم يجهرون بها أو يسرونها هي أقوالهم وأعمالهم التي يجازيهم ربهم عليها بالثواب أو العقاب.

أما كلام الله – تعالى – وفعله فلا يكون وصفاً للعباد، بأنه قول لهم أو فعل لهم.

وقد بين مراده هذا في كتابه ((خلق أفعال العباد)) ، فقال:((فأما المتلو فقول الله الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (2)، وقال تعالى:{هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} (3) .

وقال عبد الله بن عمرو، عن النبي – صلى الله عليه وسلم:((يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً، فيشفع لصاحبه)) ، وهو اكتسابه وفعله.

قال الله – تعالى -: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (4) ، قال صعصعة، عم الفرزدق، لما سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه الآية: حسبي، قد علمت فيم الخير، وفيم الشر.

(1)((الفتح)) (13/501) .

(2)

الآية 11 من سورة الشورى.

(3)

الآية 29 من سورة الجاثية.

(4)

الآية 7، 8 من سورة الزلزلة.

ص: 524

وقد دخل في ذلك قراءة القرآن، وغيرها.

وقد بين الله ذلك قولاً للمخلوقين حين قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (1) .

فأخبر أن العمل من الحياة، ثم بين خلقه فقال:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2) .

مع أن الجهمية، والمعطلة، إنما ينازعون أهل العلم على قول الله، أن الله يتكلم، وإن تكلم فكلامه مخلوق، فقالوا، إن القرآن بعلم الله مخلوق، فلم يميزوا بين تلاوة العباد، وبين المقروء.

وقد رفع أبو بكر صوته بقوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (3)(4) .

يعني: أن الصوت الذي صوت به أبو بكر ورفعه هو من عمله وصفته، أما المصوت به فهي آية من كتاب الله، وهو كلام الله، فيجب التفريق بين ما هو فعل العبد وصفته، وبين ما هو من فعل الرب وصفته.

وبهذا يتضح مراد البخاري، وأنه ليس كما ذكر الحافظ، وابن بطال، والغريب أنه ذكر عن ابن المنير ما هو الصواب، ولم يقتنع به فيما يظهر.

قال ابن المنير: ((قصد البخاري الإشارة إلى النكتة التي كانت سبب محنته، حيث قيل عنه: إنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فأشار بالترجمة إلى أن تلاوة الخلق تتصف بالسر والجهر، وذلك يستدعي كونها مخلوقة)) .

(1) الآية 2 من سورة الملك.

(2)

الآية 13، 14 من سورة الملك.

(3)

جزء من الآية 28 من سورة غافر.

(4)

((خلق أفعال العباد)) (74-75) .

ص: 525

وفي قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} ، ثم قوله:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} تنبيه على أن قولهم مخلوق، وقوله:{وَلَا تَجهَر بِصَلَاتِكَ} يعني: بقراءتك، دل على أنها فعله، وقوله:: ((من لم يتغن بالقرآن)) فأضاف التغني إليه، دل على أن القراءة فعل القارئ)) (1) .

قوله: ((يتخافتون)) : يتسارون، بيان لقوله تعالى:{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ عَشْرًا} (2) بأن المخافتة من الإسرار، وذلك من أعمالهم.

******

151-

قال: ((حدثني عمرو بن زرارة، عن هشيم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى:{وَلَا تَجهَر بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِت بِهاَ} قال: نزلت، ورسول الله مختف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَجهَر بِصَلَاتِكَ} أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن {وَلَا تُخَافِت بِهاَ} عن أصحابك فلا تسمعهم، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً} .

- حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: نزلت هذه الآية: {وَلَا تَجهَر بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِت بِهاَ} في الدعاء.

فقوله: {وَلَا تَجهَر بِصَلَاتِكَ} واضح في أن المقصود القراءة، وأن الجهر فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – وكذا الإخفات الذي نهي عنه، ومثلهما التوسط بينهما، كل ذلك فعله، فلذلك صح أن ينهى عنه، ولا يقول أحد بأن النهي عن القرآن، أو عن الصلاة.

وبينه بقوله: ((فكان إذا صلىبأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن جاء به)) فنهاه الله – تعالى – عن رفع الصوت به؛ لئلا يسبه المشركون، كما نهاه عن الإسرار به؛ لئلا يخفى على أصحابه، وأمره بأن يقرأه قراءة يسمع بها أصحابه الذين معه، ولا يسمعه المشركون الذين

(1)((المتوارى)) (ص428) .

(2)

الآية 103 من سورة طه.

ص: 526

خارج البيت الذي هو فيه، وهذا معنى قوله:{وَابْتَغِ بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً} .

فبين بهذا أن القراءة غير المقروء، وأن الصوت غير المصوت به، وأن الجهر والإسرار، والتوسط بينهما، كل ذلك فعل القارئ، التالي، وهو من عمله الذي يؤمر به، أو ينهى عنه، ويجازى عليه.

أما المقروء، والمصوت به، فهو قول من كان ذلك القول له، وصفته.

فإن كان من القرآن، فهو قول الله – تعالى -، وإن كان من غيره فهو قول ذلك الغير الذي قاله مبتدءاً.

وقول عائشة في الآية المذكورة: أنها نزلت في الدعاء، لا يخالف ما ذكره ابن عباس؛ لأن الآية تنزل في سبب معين، ويدخل في معناها غير ذلك المعين الذي نزلت من أجله.

وقد أمر الله – تعالى – بإخفاء الدعاء بقوله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (1) } ، وقال تعالى:

{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (2) } مع أن القراءة والصلاة من دعاء العبادة.

ووجه الدليل من الآية واضح وبيَّن فيما سبق.

*****

152-

قال: ((حدثنا إسحاق، حدثنا أبو عاصم، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) وزاد غيره ((يجهر به)) .

((ليس منا)) يعني: من المسلمين، وهو وعيد لمن لم يفعل ذلك.

والأولى أن لا يتعرض لمثله بالتأويلات التي تخرج الكلام عن مراد المتكلم.

وسبق القول بأن الصواب في التغني أنه: تحسين الصوت وتزيينه بالقرآن.

(1) الآية 55 من سورة الأعراف.

(2)

الآية 205 من سورة الأعراف.

ص: 527

وجاء الأمر به كما رواه المؤلف – رحمه الله – في ((خلق أفعال العباد)) ورواه غيره، قال:((حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي عن الأعمش، سمع طلحة، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) (1)

وتفسير التغني بالجهر لا ينافي ما ذكرته؛ لأن السلف يفسرون الكلام ببعض ما دل عليه، ومقصودهم بهذا التفسير أن لا يدخل فيه ما يشبه الغناء، فإنه مكروه كراهة شديدة، أو محرم.

قال الكرماني: ((لم يتغن به)) أي: يجهر بقراءة القرآن، وقيل: يستغني به.

وأشار بالترجمة إلى أن تلاوة الناس تتصف بالجهر، والإسرار، وذلك يدل على أنها مخلوقة لله – تعالى -، وكذا قوله:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} دليل على أن قولهم مخلوق، وكذا قوله:{وَلَا تَجهَر بِصَلَاتِكَ} أي: بقراءتك، يدل على أنها فعله، وكذا قوله:((من لم يتغن بالقرآن)) أضاف الفعل إليه)) (2) .

وقال أيضا: ((يجهر به)) يتغنى، ومعناه: يجهر به بتحسين الصوت، وتخزينه وترقيقه، ويستحب ذلك ما لم تخرجه الألحان عن حد القراءة، فإن أفرط حتى زاد حرفا، أو أخفى حرفا، فهو حرام)) (3) .

وقال الخطابي: ((إن العرب كانت تولع بالغناء والنشيد في أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب أن يكون هجيراهم مكان الغناء، فقال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) (4) .

والشاهد من الحديث: أن التغني والجهر فعل العبد، وهو مخلوق.

وأما المتغنى به المجهور به، فهو كلام الله – تعالى -.

فتبين بذلك الفرق بين أفعال العباد، وأوصافهم، وأوصاف أعمالهم، وبين فعل الله، ووصفه، ومرادنا بفعله الذي هو وصفه، لا مفعوله كما هو اصطلاح الأشاعرة.

(1)(ص78، 82، 83) من طرق عدة، وأحمد (4/283) ، وابن أبي شيبة (2/251، 252) .

(2)

((شرح الكرماني)) (25/219) .

(3)

المصدر السابق (19/30) .

(4)

المصدر السابق (19/31) .

ص: 528