الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معتمر، سمعت أبي يقول: حدثنا قتادة، أن أبا رافع حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش)) .
الكتابة هي: إثبات الكلام المكتوب، في محل الكتابة، والله سبحانه، كتب ذلك الكتاب في شيء تثبت فيه الكتابة، ويثبت الكلام في ذلك الشيء بالكتابة، سواء كان اللوح المحفوظ أو غيره، فالمقصود إثبات الكتابة للكلام، وأن كون الكلام في الكتاب، ليس ككون الماء في الإناء، والعرض بالجوهر، والرجل في البيت، بل هو قسم غير هذا، وهو معقول يدركه الناس، ويفهمون
معنى كون الكلام في الكتاب
، وهذا الحديث تقدم شرحه، وغرضه من الطريق الأخرى، تصريح أبي رافع وقتادة بالتحديث، فيزول احتمال التدليس.
وقوله: ((قبل أن يخلق الخلق)) لا يعارض قوله في الرواية قبلها: ((لما قضى)) ؛ لأنه يجوز أن يراد بالخلق: التقدير والفراغ منه، وهو غير الإيجاد، ومعلوم أن خلق الله - تعالى - لا نهاية له.
وتبين أن مقصود البخاري رحمه الله بهذا الباب، أن يبين معنى كون القرآن في المصحف؛ أنه مكتوب مسطور فيه، مثل ما أن اسم الله في المصحف، فإن القرآن كلام الله، والكلام يقوم بالمتكلم صفة له، قال شيخ الإسلام: ليس معنى قول السلف: القرآن كلام الله، منه بدأ، ومنه خرج، أنه فارق ذاته، وحل في غيره، فإن كلام المخلوق إذا تكلم به، لا يفارق ذاته، ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى:{كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ مِن أَفوَاهِم إِن يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} .
فقد أخبر، أن الكلمة تخرج من أفواهم، ومع هذا فلم تفارق ذاتهم (1) .
فالقرآن كلام الله، ويحفظ في القلوب، كما يحفظ الكلام، ومذكور بالألسنة كما يذكر الكلام بالألسنة، وهو مكتوب في المصاحف، والأوراق، كما أن الكلام يكتب في الكتاب والورق.
والكلام هو مجموع اللفظ والمعنى، فاللفظ يطابق المعنى ويدل عليه.
ولا يجوز أن يقال: إن القرآن محفوظ، كما أن الله معلوم، وهو متلو، كما أن الله مذكور، ومكتوب، كما أن الرسول مكتوب، فهذا خطأ، وضلال.
فليس وجود الأعين القائمة بأنفسها، كوجود العبارة الدالة على المعنى المطابق لها، والفرق ظاهر بين قوله تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} ، وقوله:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ {77} فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} ، وبين قوله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} فإن القرآن، لم ينزل على نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم وإنما الذي في زبر الأولين ذكره، والخبر عنه، كما أن محمداًً صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة، والإنجيل فالله ورسوله معلوم بالقلوب، مذكور بالألسنة مكتوب في المصحف، كما أن القرآن معلوم لأهل الكتاب قبلنا، مكتوب عندهم، وذلك ذكره والخبر عنه.
ولكن الذي في المصحف عندنا، هو نفس القرآن.
ولهذا يجب أن يفرق بين قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبرِ} وبين قوله تعالى: {وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ {2} فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} فإن كون الأعمال
(1)((مجموع الفتاوى)) (12/517-518) .
في الزبر، مثل كون القرآن، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم في زبر الأولين.
وأما الكتاب المسطور في الرق المنشور، فهو كما يكتب الكلام نفسه في الكتاب.
فأين هذا من هذا؟
وذلك أن كل شيء له في الوجود أربع مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في الكتاب.
والكلام وجوده في اللسان، وليس بينه وبين المحل المكتوب فيه، مرتبة أخرى، بل نفس الكلام يثبت في الكتاب، كما قال تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ {77} فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} ، وقال تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} ، وقال تعالى:{يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً {2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} ، وقال تعالى:{كَلَاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ {11} فَمَن شَاء ذَكَرَهُ {12} فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ {13} مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} ، وقال تعالى:{وَلَو نَزَلنَا عَلَيَكَ كِتَابَاً فِي قِرطَاسٍ} .
وليس في المصحف من الأعيان إلا ذكرها، ووصفها، والخبر عنها.
والكلام في الكتاب، ليس هو فيه، كما تكون الصفة بالموصوف، والعرض بالجوهر، والجسم بالمكان، وما هو بمنزله الدليل على المدلول، كالمخلوق الدال على الخالق. بل هو قسم آخر، معقول بنفسه، والناس بفطرهم يفهمون معنى كون كلام الله في المصحف، وأن كلامه الذي قام به لم يفارق ذاته ويحل في غيره، ويعلمون أن الذي في المصحف ليس مجرد دليل على معنى قائم في نفس الله، بل الذي في المصحف كلام الله، مطابق للفظه، ولفظه مطابق لمعناه، ومعناه مطابق لما في الخارج، وهو كلام الله حقيقة لا مجازاً.
وهذه مسألة عظيمة، ضل فيها طوائف من الناس، والبخاري رحمه الله ممن ابتلي فيها بمن لم يفهم الحق فيها؛ فارتكب شططاً، ونسب البخاري فيها
إلى الباطل، ولهذا أكثر من البيان لها كما سبق، ومنشأ الاختلاف فيها، يعود إلى أصلين (1) .
أحدهما: مسألة تكلم الله - تعالى - بالقرآن، وغيره.
والثاني: تكلم العباد بكلام الله، وقد حاولت بيان الحق، في كلا المسألتين فيما سبق، قدر ما أوتيت من بيان، والله المستعان.
*****
قال: باب قول الله - تعالى -: {وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} .
يريد رحمه الله بهذا الباب بيان أن الله - تعالى - هو الخالق لكل شيء، وحده لا شريك له في ذلك، فيدخل فيه: أعمال العباد وأفعالهم، والآية نص فيه:{وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} سواء كانت ((ما)) موصولة أو مصدرية، فعلى التقديرين، فالآية دالة على أن أفعال العباد مخلوقة؛ لأن آلهتهم التي يعبدونها صارت على شكل معين، وهيئة خاصة بعملهم وصنعهم.
وقد أطالوا الكلام في إعراب ((ما)) في هذه الآية، وادعى بعضهم إجماع أهل السنة على أنها مصدرية، وشنعوا على المعتزلة، في دعواهم: أنها موصولة، ظانين أنها إذا كانت موصولة، صارت دليلاً على أن العباد يخلقون أفعالهم.
والصواب، أنها موصولة، وأنها لا تدل على أن العباد يخلقون أفعالهم، كما زعم القدرية من المعتزلة.
قال الإمام ابن جرير: ((وفي قوله: ((وما تعملون)) وجهان: أحدهما: أن يكون ((ما)) بمعنى المصدر، فيكون معنى الكلام حينئذ: والله خلقكم وعملكم.
(1) لخصت هذا الفصل من المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى.
والآخر: أن يكون بمعنى ((الذي)) فيكون معنى الكلام حينئذ: والله خلقكم والذي تعملونه، وذكر عن قتادة أنه قال: والله خلقكم وما تعملون بأيديكم (1) ، فهذا يدل على أنها موصولة عنده.
وقال شيخ الإسلام: قال الله – تعالى -: {قَالَ أَتَعبُدُونَ مَا تَنحِتُونُ {95} وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} ((فما)) بمعنى ((الذي)) ، ومن جعلها مصدرية، فقد غلط، ولكن إذا خلق [الله] المنحوت، كما خلق المصنوع، والملبوس، والمبني، دل على أنه خالق كل صانع وصنعته (2) .
والمعنى: أن الآية فيها التصريح، بأن أصنامهم من مخلوقات الله، وإن كان شكلها، ووضعها، على صفة معينة من صنعهم، فإن الله هو الذي أقدرهم على ذلك، ويسر لهم أسبابه، ولهذا أخبر تعالى بأنه هو الذي خلق الفُلْك، وهي مصنوعة لبني آدم، قال تعالى:{وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} (3)، وقال تعالى:{وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (4) وهذه كلها مصنوعة لبني آدم، وهذا يبين وجه دلالة الآية، المترجم بها، على أن الله هو خالق أفعال بني آدم، فهم وأفعالهم من خلق الله – تعالى -. وإن كانت ((ما)) في الآية موصولة، فلا داعي للتعسف والتكلف لجعلها مصدرية، حتى لا يكون فيها متعلق للقدرية المعتزلة، القائلين بأن العبد يخلق فعله بنفسه، فهذا قول ظاهر البطلان، وكل باطل لا يؤيده كتاب الله – تعالى -، بل يدل على بطلانه.
(1)((تفسير الطبري)) (23/75) .
(2)
((مجموع الفتاوى)) (8/98) .
(3)
الآية 42 من سورة يس.
(4)
الآية 80 من سورة النحل.
فقد ضل من أخرج أفعال العباد عن مخلوقات الله – تعالى -، كما ضل من قابلهم، وقال: إن العباد مجبورون على أعمالهم، فلا اختيار لهم ولا قدرة.
والحق وسط بين هاتين الضلالتين، وهو أن الله – تعالى – خلق العباد، وخلق لهم قدرة واختياراً بهما يفعلون ما يريدون فعله، ويتركون ما يريدون تركه.
وسبب الضلال في هذه المسألة: عدم التفريق بين خلق الله ومخلوقه.
((فخلق الله: صفته التي يخلق بها الخلق، وأما مخلوقه فهو أثر الصفة، وهو مفعوله، وخلق الله – تعالى – لمخلوقاته، ليس هو نفس مخلوقاته، بل خلقه فعله المتصف به، ومخلوقاته مفعولاته التي يفعلها ويوجدها إذا شاء، وأفعال العباد مخلوقه له تعالى كسائر المخلوقات، ومن جملة مفعولاته، وليست هي نفس فعل الرب، بل هي نفس فعل العبد، فالكذب والظلم، ونحوهما من القبائح، يتصف بها من كانت فعلاً له، قائمة به، ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له؛ لأنه – تعالى – جعلها صفة لغيره، كما أنه – تعالى – لا يتصف بما خلقه في غيره، من الطعوم، والألوان، والروائح، والأشكال، وغير ذلك.
فإذا خلق الإنسان أبيض، أو أسود، لم يكن ذلك اللون وصفاً له، وكذلك إذا خلق هذا الشيء مُرّاً، أو حلواً، أو على صورة قبيحة مذمومة، لم يكن تعالى متصفاً بذلك، بل المتصف بها من قامت به وفعلها (1) .
وقال أيضاً: ((القرآن دل على أن مفعولات العباد، الخارجه عن أنفسهم، مصنوعة لهم، وما كان مصنوعاً لهم، فهو من فعلهم، ومقدورهم بالضرورة، والاتفاق.
(1)((مجموع الفتاوى)) (8/123) بتصرف.
قال الله – تعالى – لنوح – عليه السلام: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} (1)، وقال تعالى:{وَيَصنَعُ الْفُلْكَ} (2) ، وقد أخبر – تعالى – أن الفلك مخلوقة من مخلوقاته، مع كونها مصنوعة لبني آدم، وجعلها، من آياته، فقال تعالى:{وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (3)، وقال تعالى:{أ َلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (4)، وقال تعالى:{وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} (5)، وقال تعالى:{قَالَ أَتَعبُدُونَ مَا تَنحِتُونُ {95} وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} . فجعل الأصنام معمولة لهم، وأخبر أنه خالقهم، وخالق معمولهم، فإن ((ما)) ها هنا بمعنى الذي، والمراد: خلق ما يعملونه من الأصنام، وإذا كان خالقاً للمعمول، وفيه أثر فعلهم، دل على أنه خالق لأفعال العباد.
وأما قول من قال: إن ((ما)) مصدرية فضعيف جداً (6) .
وفي قوله تعالى: {قَالَ أَتَعبُدُونَ مَا تَنحِتُونُ {95} وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} تنبيه لعبَّاد الأصنام، على فساد ما صاروا إليه من عبادتها، مع نحتهم إياها بأيديهم، فكيف تعبدون أصناماً تعملونها بأيديكم؟ والله خالقكم وما تعملونه، فأوجدكم، بعد أن لم تكونوا شيئاً، وخلق لكم ما تصلح به حياتكم، وخلق ما تنحتونه، فهو الخالق لكل شيء، فالواجب عليكم أن تعبدوه، وحده لا شريك له، فهو المتفرد بالخلق، والمالك لكل شيء، فمن
(1) الآية 37 من سورة هود عليه السلام.
(2)
الآية 38 من سورة هود عليه السلام.
(3)
الآية 41 من سورة يس.
(4)
الآية 65 من سورة الحج.
(5)
الآية 12 من سورة الزخرف.
(6)
((مجموع الفتاوى)) (8/16-17) .
السفاهة: أن تعبدوا تلك الصور، التي نحتموها بأيديكم، ثم سميتموها كذباً وبهتاناً: آلهة، وقد علمتم: أنها ما صارت صوراً، إلا بنحتكم إياها وعملكم، والله هو الذي أقدركم على عملها، ومكنكم من ذلك، فهو الخالق لكم ولما تعملونه بأيديكم.
قال ابن القيم: ما المصدرية وما الموصولة، يتعاقبان غالباً، ويصلح أحدهما في الموضع الذي يصلح فيه الآخر، وربما احتملهما كلام واحد، ولا يميز بينهما إلا بنظر وتأمل، فإذا قلت: يعجبني ما صنعت، فهي صالحة لأن تكون مصدرية، أو موصولة، وكذلك:{وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} {وَاللهُ بَصِيرُ بِمَا يَعمَلُونَ} فتأمله تجده كذلك.
ولدخول إحداهما على الأخرى؛ ظن كثير من الناس؛ أن قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} أنها مصدرية، واحتجوا بها على خلق الأعمال، وليست مصدرية، وإنما هي موصولة.
والمعنى: والله خلقكم، وخلق الذي تعملونه وتنحتونه من الأصنام، فكيف تعبدونها، وهي مخلوقة من مخلوقات الله – تعالى-؟
ولو كانت مصدرية، لكان الكلام إلى أن يكون حجة لهم (1) أقرب من أن يكون حجة عليهم؛ إذ يكون المعنى: أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وخلق عبادتكم لها، فأي معنى في هذا؟ وأي حجة عليهم؟ (2) .
وقوله تعالى: {إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ} .
يخبر تعالى عباده، أن كل شيء خلقه، وحده لا شريك له، فلا خالق
(1) أي: القدرية الذين ينكرون خلق الله لأفعال العباد.
(2)
((بدائع الفوائد)) (1/162) .
غيره، وأنه خلقه، بقدر قدره وقضاه، فلا يتعداه ولا يقتصر دونه، فيدخل في هذا العموم أفعال العباد، فهي داخلة في خلقه وتقديره.
قال ابن جرير: ((يقول – تعالى ذكره -: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه، وفي هذا بيان، أن الله – جل ثناؤه – توعد هؤلاء المجرمين، على تكذيبهم بالقدر، مع كفرهم به. ثم روى عن ابن عباس أنه كان يقول: إني أجد في كتاب الله قوماً يسحبون في النار على وجوههم، يقال لهم: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} ؛ لأنهم كانوا يكذبون بالقدر، وإني لا أراهم، فلا أدري: أشيء كان قبلنا، أم شيء فيما بقي؟ (1) .
وذكر آثاراً بهذا المعنى.
وقال ابن كثير: ((وقوله: {إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ} ، كقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقدِيراً} ، وكقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى {1} الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى {2} وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي: قدر قدراً، وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله، السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها، من الأحاديث الثابتة، على الفرقة القدرية، الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة)) (2) ثم ذكر جملة من الأحاديث المثبتة للقدر، والتي فيها وعيد من أنكره.
قوله: (( (ويقال للمصورين: أحيوا ما خلقتم)) .
يقال لهم ذلك يوم القيامة، تبكيتاً وتعذيباً لهم، بتكليفهم ما لا يقدرون عليه، حيث كانوا في الدنيا، يضاهئون الله فيما يختص به، وهو الخلق
(1)((تفسير الطبري)) (27/11) .
(2)
((تفسير ابن كثير)) (3/422) .
والتصوير. وسيأتي ذلك – إن شاء الله تعالى -.
قوله تعالى: {} إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
المقصود من الآية هنا: التفرقة بين الخلق والأمر، فإن الخلق هو أثر الأمر، الكائن به الخلق، فإن الله – تعالى – إذا أراد
شيئاً قال له: كن، فيكون، فالقول وصفه – تعالى – والخلق الذي هو المخلوق مفعوله المكون المخلوق الموجد بالقول، ولهذا قال تعالى:{أَلَا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ} فعطف الأمر على الخلق؛ لأنه غيره، وهو – تعالى – مختص بذلك وحده، فلا أحد يشاركه فيهما، وكلاهما عام شامل، فلا يخرج عن خلقه تعالى مخلوق، ومن ذلك أفعال العباد.
وأمره – تعالى – يتناول الأمر القدري، والأمر الديني الشرعي.
قال ابن كثير – رحمه الله تعالى – ((يخبر – تعالى – بأنه خلق هذا العالم: سماواته، وأرضه، وما بين ذلك، في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن.
والستة أيام هي: الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم.
قوله: {يُغشِى الَّليلَ النَهَارَ يَطلبُهُ حَثِيثاً} أي: يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً، أي: سريعاً، لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا (1) .
(1)((تفسير ابن كثير)) (3/422) .
فالليل بأثر النهار، والنهار يطرد الليل دائماً، حتى يأذن الله بانقضاء هذا العالم، وهناك يبدأ اختلال توازنه، بطلوع الشمس من مغربها.
{وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٍ بِأَمرِهِ} أي: أنها مخلوقة لله، مقهورة مسخرة، لا تخالف أمر خالقها، الذي سخرها لكم، فاعبدوه، فإنه هو المستحق للعبادة دون سواه، وهو الذي له الخلق والأمر وحده.
{تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} قال ابن الأنباري: ((تبارك)) فيه قولان:
أحدهما: أن معناه: تقدس، أي: تطهر، والقدس عند العرب: الطهر، والماء المقدس: هو ماء المطر، والقدوس: الذي طهر من الأولاد، والشركاء، والصاحبة.
والثاني: تفاعل من البركة، أي: البركة تكتسب، وتنال بذكر اسمه تعالى (1) .
وقال الأزهري: ((أخبرني المنذري، عن أبي العباس، أنه سئل عن تفسير {تَبَارَكَ اللهُ} فقال: ارتفع، والمتبارك المرتفع.
وقال الزجاج: تبارك: تفاعل من البركة، كذلك يقول أهل اللغة.
وقال: تبارك: تعالى وتعاظم. وقال ابن الأنباري: تبارك الله، أي: يتبرك باسمه في كل أمر. ومعنى تبارك: تقدس، أي: تطهر، والمقدس: المطهر.
وقال الليث: تبارك: تمجيد وتعظيم)) (2) .
وهذه الأقوال متقاربة، وكلها حق، يدل عليه هذا اللفظ، فهو – تعالى – عال على خلقه، في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وهو القدوس المتنزه عن كل عيب أو نقص يلحق خلقه، أو لا يليق بعظمته، وكبريائه،
(1)((الزاهر)) (1/147) .
(2)
((تهذيب اللغة)) (10/230) .
وهو الذي يبارك على ما يشاء من خلقه، فيجعله مباركاً، وبذكر اسمه يكثر الخير، وتحل البركة، وهو أهل المجد والتعظيم.
قوله: ((قال ابن عيينة: بين الله الخلق من الأمر، لقوله:{أَلَا لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} .
قال الحافظ: ((روى هذا الاثر ابن أبي حاتم، موصولاً، في الرد على الجهمية.
ولفظه: قال: كنا عند سفيان بن عيينة، فقال:{أَلَا لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} فالخلق: هو المخلوقات، والأمر: هو الكلام.
وفي رواية من طريق حماد بن نعيم: ((سمعت سفيان بن عيينة، وسئل عن القرآن: أمخلوق هو؟ فقال: يقول الله – تعالى -
{أَلَا لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} ألا ترى كيف فرق بين الخلق، والأمر فالأمر: كلامه، فلو كان كلامه مخلوقاً لم يفرق)) (1) .
وقال البخاري -: ((والقرآن كلام الله غير مخلوق؛ لقول الله – تعالى -: {إَِنَ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُغشِى الَّليلَ النَهَارَ يَطلبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتُ بِأَمرِهِ} ، فبين أن الخلائق، والطلب الحثيث، والمسخرات بأمره، ثم شرح فقال: {أَلَا لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} ، قال ابن عيينة: قد بيَّن الله الخلق من الأمر، بقوله: {أَلَا لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} ، فالخلق بأمره، كقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} (2)، كقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) .
(1)((الفتح)) (13/532-533) .
(2)
الآية 4 من سورة الروم.
(3)
الآية 82من سورة يس.
وكقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (1) ، ولم يقل بخلقه)) (2) .
والأدلة كثيرة، في التفرقة بين الخلق والأمر، والمخلوقات وجدت بالأمر، كما أشار إلى ذلك الإمام البخاري، بما استدل به من قوله تعالى:{إِنَّمَا أَمرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، فبين أن تكوين الأشياء وإيجادها، بقوله:{كُن} ، وأنه يوجد عقب قوله:{كُن} .
وكذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} ، فالسماء والأرض، مخلوقات بأمره، الذي هو قوله لها:((كوني)) ، كما قال تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين} (3) ،
وكل شيء غير الله، مخلوق، بقوله – تعالى – ومن ذلك أفعال العباد، فمن أخرج أفعال العباد من خلق الله، فقد ضل وأشرك في ربوبية الله – تعالى -.
قال عبد العزيز الكناني: ((قال الله – تعالى -: {إِنَّمَا قَولُنَا لِشَىءٍ إِذَا أَرَدناه َ أَن نَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (4)، وقال سبحانه:{قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (5) ، فدل – عز وجل – بهذه الأخبار، وأشباهٍ لها في القرآن كثيرة، على أن كلامه، ليس كالأشياء، وأنه غير الأشياء، وأنه خارج عن الأشياء، وأنه يكوَّن الأشياء، ثم أنزل – عز وجل – خبراً مفرداً، ذكر فيه خلق الأشياء كلها، فلم يدع منها شيئاً، إلا ذكره، وأدخله في خلقه،
(1) الآية 25 من سورة الروم.
(2)
((خلق أفعال العباد)) (ص37-38) .
(3)
الآية 11 من سورة فصلت.
(4)
الآية 40 من سورة النحل.
(5)
الآية 47 من سورة آل عمران.
وأخرج كلامه وأمره من جملة الخلق، وفصله منها؛ ليدل على أن كلامه غير الأشياء المخلوقة، وخارج عنها، فقال:{ُ إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَات وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَامٍ} الآية.
فجمع في قوله: {أَلَا لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} جميع ما خلق، فلم يدع شيئاً، ثم قال:{وَالأَمرُ} ، يعني: والأمر، الذي كان به الخلق خلقاً، فرقاً بين خلقه، وأمره، فجعل الخلق خلقاً، والأمر أمراً، وجعل هذا غير هذا)) (1) .
قوله: ((وسمى النبي – صلى الله عليه وسلم – الإيمان عملاً)) .
يعني: في جوابه – صلى الله عليه وسلم – السائل: ((أي الأعمال أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله)) كما سيأتي، فالإيمان، هو عمل القلب وتصديقه، وقول اللسان، والعمل بالبدن التابع لذلك من الصلاة، والحج، والصوم، والجهاد في سبيل الله، وامتثال أوامر الله – تعالى -، والانتهاء عما نهى عنه، فهذا كله هو الإيمان بالله، وهو عمل الجوارح الباطنة والظاهرة.
قال في ((خلق أفعال العباد)) : ((وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لجبريل حين سأله عن الإيمان قال: ((تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله)) . قال: ((فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟)) قال: ((نعم)) . ثم قال: ((ما الإسلام؟)) قال: ((تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله))
…
فذكره قال: ((إذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟)) قال: ((نعم)) .
فسمى الإيمان والإسلام، والشهادة، والإحسان، والصلاة بقراءتها، وما فيها، من حركات الركوع والسجود: فعلاً للعبد)) (2) .
(1)((الحيدة)) (ص26-27) .
(2)
(ص60) .
وقال في ((الصحيح)) : ((باب من قال: إن الإيمان هو العمل؛ لقول الله -تعالى -: {وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ} ، وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى:{فَوَرَبِكَ لَنَسئلَنَّهُم أَجمَعِينَ {92} عَمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ} : عن قول: لا إله إلا الله. ثم ذكر حديث أبي هريرة الآتي.
وإطلاق العمل على الإيمان، وكون الإيمان يشمل التصديق، والقول، والعمل، الأدلة عليه كثيرة، وكلام السلف فيه كثير واضح، والخلاف فيه واقع من أهل البدع، كالمرجئة من الجهمية وغيرهم.
قال: ((قال أبو ذر، وأبو هريرة: ((سئل النبي – صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟)) قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) .
ذكر حديث أبي هريرة، موصولاً في كتاب الإيمان (1) ، وفي كتاب الحج بأتم مما هنا، وذكر حديث أبي ذر في العتق، ولفظه:((سألت النبي – صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟)) قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) ، قلت:((فأي الرقاب أفضل؟)) قال: ((أغلاها ثمنا)) . وهو صريح في أن الإيمان يسمى عملاً؛ لأنه صادر من العبد، وعمل العبد مخلوق، وهذا هو مراد البخاري، وقد تقدم مراراً، الفرق بين عمل العبد، وكلام الله – تعالى – إذا قرأه العباد.
ولا يدل عطف الجهاد على الإيمان، أن الجهاد ليس منه، بل الأعمال الصالحة، المعطوفة على الإيمان، داخلة فيه، وعطفها عليه، إما من عطف الخاص على العام أو لأن الأعمال لازمة للإيمان، فإذا لم يأت بها العبد، دل ذلك على أنه ليس عنده إيمان؛ لأن انتفاء اللازم، يقتضي انتفاء الملزوم.
ولذلك صارت الأعمال، في عرف الشرع، داخلة في اسم الإيمان.
(1) انظر كتاب الإيمان من ((الصحيح)) (1/18) .
وأيضاً فعطف الأعمال على الإيمان، لرفع توهم أن مجرد الإيمان، بدون الأعمال اللازمة له، يوجب الثواب الموعود به في الآخرة، وهو الجنة بلا عذاب، فعطفت عليه تخصيصاً، وتنصيصاً؛ ليعلم ذلك. هذا هو قول أهل السنة، وهو الذي دلت عليه نصوص كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
بقي أن يقال: إذا كان الإيمان من عمل العباد، وأعمال العباد مخلوقة، كما تبين لنا، فهل الإيمان مخلوق؟
فالجواب: أنه لا بد من التفصيل، والبيان في ذلك؛ لأن هذا السؤال فيه إجمال وإيهام، فإن أريد بالإيمان، أعمال العباد، وتصديقاتهم، فأعمال العباد كلها مخلوقة.
وإن أريد بالإيمان، شيء من صفات الله وكلامه، وشرعه الذي هو أمره، ونهيه، ووعده، ووعيده، وقدره الذي هو علمه ومشيئته وكلامه، فهو غير مخلوق.
وأما الأفعال المأمور بها والمنهي عنها، والمقدرات من الآجال، والأرزاق، والأعمال، فهي مخلوقة محدثة.
قال شيخ الإسلام: ((إذا قال: الإيمان مخلوق، أو غير مخلوق؟ قيل له: ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئاً من صفات الله وكلامه، كقوله: لا إله إلا الله، وإيمانه الذي دل عليه اسمه ((المؤمن)) ؟ فهو غير مخلوق. أو تريد شيئاً من أفعال العباد، وصفاتهم؟ فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم، وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد المحدث المخلوق، صفة قديمة غير مخلوقة،
ولا يقول هذا من يتصور ما يقول، فإذا حصل التفصيل ظهر الهدى، وبان السبيل)) (1) .
وقال أيضاً: ((الشرع الذي هو أمر الله ونهيه غير مخلوق، وأما الأفعال المأمور بها، والمنهي عنها، فلا ريب أنها مخلوقة، وكذلك القدر، الذي هو علمه ومشيئته وكلامه غير مخلوق، وأما المقدرات من الآجال، والأرزاق، والأعمال، فكلها مخلوقة)) (2) .
واتفق أئمة المسلمين، على أن جميع أفعال العباد مخلوقة، كما ذكر البخاري – رحمه الله – عن يحيى بن سعيد القطان، قال: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة (3) .
قوله: ((وقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ} )) .
العمل الذي جوزوا عليه الجنة، يشمل الطاعات كلها، واجتناب المناهي كلها، فدخل فيه الإيمان، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والصلاة، وأداء الزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
و ((ما)) في قوله: ((بما)) يجوز أن تكون موصولة، أي: بالذي كنتم تعملونه، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: بعملكم.
والباء سببية، أي: دخول الجنة بسبب الأعمال الصالحة، وأما الحديث
(1)((مجموع الفتاوى)) (7/664) .
(2)
((مجموع الفتاوى)) (7/661) .
(3)
((خلق أفعال العباد)) (ص42) .
((لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)) فالباء فيه للعوض والمقابلة، فالجنة ليست عوضاً للعمل، وإنما هي فضل من الله، والأعمال الصالحة سبب لدخولها، كما هو قول أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، أهل القياس الفاسد، فإنهم يرون الجنة عوضاً للعمل.
والمقصود: أن الآية تدل على أن العمل، الذي أدخل المؤمنون بسببه الجنة، فعل لهم يتعلق باختيارهم، ولهذا جوزوا عليه، والعباد وأعمالهم خلق الله – تعالى -.
قوله: ((وقال وفد عبد القيس للنبي – صلى الله عليه وسلم: مرنا بجمل من الأمر، إن عملنا بها دخلنا الجنة، فأمرهم بالإيمان، والشهادة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فجعل ذلك كله عملاً)) .
سيأتي الحديث بطوله، والدلالة منه ظاهرة؛ لأنهم قالوا:((نعمل بها)) فأمرهم بالإيمان، والشهادة، إلى آخر ما ذكر، فدل، على أن المذكور كله، عمل لهم، ومعلوم أنهم مخلوقون، فكذلك عملهم مخلوق، وهو المراد.
*****
179-
قال: ((حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، والقاسم التميمي، عن زهدم، قال: كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين ود وإخاء، فكنا عند أبي موسى الأشعري، فقرب إليه الطعام، فيه لحم دجاج، وعنده رجل من بني تيم الله، كأنه من الموالي، فدعاه إليه، فقال الرجل: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته، فحلفت لا آكله، فقال: هلم فلأحدثك عن ذلك، إني أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – في نفر من الأشعريين نستحمله، قال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم، فأتي النبي – صلى الله عليه وسلم – بنهب إبل، فسأل عنا، فقال: أين النفر الأشعريون؟ فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى.
ثم انطلقنا، قلنا: ما صنعنا؟ ! حلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يحملنا، وما عنده ما يحملنا، تغفلنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمينه، والله لا نفلح أبداً.
فرجعنا إليه، فقلنا له، فقال: لست أنا أحملكم، ولكن الله حملكم، إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير منه، وتحللتها)) .
((زهدم)) هو ابن مضرب – تشديد الراء – الجرمي، نسبه إلى جرم بن زياد بطن من قضاعة، ((والأشعري)) نسبة إلى الأشعر بن سبأ، أبي قبيلة من اليمن.
((ود وإخاء)) الود: صافي الحب، وأما الإخاء: فمن الأخوة، والمصاحبة، المقتضية للعطف، والود، والنصرة. وهذا تعليل لقوله:((فكنا عند أبي موسى الأشعري)) ؛ لأن زهدم من جرم.
((فقرب إليه الطعام)) : يؤخذ منه ما كان عليه الصحابة، ومن سلك طريقهم، من عدم التكلف لمن يحضر مجالسهم، وأنهم إذا حضر وقت طعامهم، قدم على ما هو عليه، سواء كثر الحضور أو قلوا، وفيه تهيئة الطعام وإعداده لصاحب البيت، وفيه دخول الرجل على صديقه، وعرض الطعام على من حضره، ولو كان قليلاً.
((فيه لحم دجاج)) قال الحافظ: ((الدجاج: اسم جنس مثلث الدال، والواحدة دجاجة، دخلتها الهاء للوحدة، قاله الجوهري. سمي بذلك؛ لإسراعه في الإقبال والإدبار)) (1) .
وفيه جواز أكل الدجاج، وأن الحيوان إذا كان في جنسه ما يأكل الجلة،
(1) من ((الفتح)) ملخصاً (9/645) .
لم يلتفت إلى ذلك.
((وعنده رجل من بني تيم الله، كأنه من الموالي)) بيَّن الحافظ أن هذا الرجل هو زهدم، وذكر رواية الترمذي، وفيها:((عن زهدم، قال: دخلت على أبي موسى، وهو يأكل دجاجاً، فقال: ادن فكل، فإني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأكله)) .
وفي رواية البيهقي، عن زهدم، قال: رأيت أبا موسى يأكل دجاجاً، فدعاني، فقلت: إني رأيته يأكل نتناً، قال: ادن فكل)) (1) .
ومن أجل ذلك، جزم الحافظ بأنه زهدم الراوي، لكن كيف يقول عن نفسه:((كأنه من الموالي)) . ويعني بذلك: العجم، أطلق عليهم ((موالي)) ؛ لأن من أسلم على يديه أحد، دعوه مولىً له، وهم أسلموا على أيدي الصحابة – رضي الله عنهم.
((فدعاه إليه)) أي: إلى الأكل. ((فقال الرجل: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته)) أبهم المأكول؛ لكراهة ذكره، كما هي عادتهم في ما هو مستقذر، يكنون عنه.
ومعنى ((قذرته)) : استقذرته، فصار عندي قذراً.
((فحلف لا آكله)) أي: من أجل ما رأى؛ لأنه كرهه.
((هلم فلأحدثك عن ذلك)) هلم: أقبل، وتعال، أخبرك عن حلفك، وأنه لا يمنع من أكله؛ لأن الله – تعالى – جعل له كفارة، تخرج بها من حرج اليمين.
((إني أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين)) النفر: هم الجماعة من
(1)((الفتح)) (9/ 646، 647) .
الناس القليلة، من الثلاثة إلى العشرة، لا واحد له من لفظه.
((نستحمله)) أي: نطلب منه أن يحملنا، أي: يعطينا من الإبل ما يحملنا، ويحمل متاعنا، وذلك في غزوة العسرة ((غزوة تبوك)) .
قال: ((والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم)) جاء في رواية في ((الصحيح)) : قال: ((فوافقته وهو غضبان)) ولهذا أخبره بأنه لا يحملهم، وأكد ذلك بالقسم؛ لأنه بنى على الحال التي هو فيها، ولم يكن عنده شيء يحملهم عليه، ولهذا قال:((وما عندي ما أحملكم)) .
((فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بنهب إبل)) النهب: الغنيمة، وهو مصدر، بمعنى المنهوب، كالخلق بمعنى المخلوق.
((فسأل عنا، فقال: ((أين النفر الأشعريون)) ؟: فأمر لنا بخمس ذود)) . الذود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، وهو لفظ مؤنث، لا واحد له من لفظه.
((غر الذرى)) أي: بيض الأسنمة، فذروة البعير: سنامه؛ لأنه أعلى ما فيه، إما أنه أراد أنها سمان، في أسنمتها الشحم الأبيض، أو أن شعور أسنمتها بيض.
((ثم انطلقنا، فقلنا: ما صنعنا؟ حلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم لا يحملنا، وما عنده ما يحملنا، ثم حملنا)) يعني: أن صنعنا هذا ليس من البر، بل هو مما يخاف عقباه، حيث حملنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على مخالفة ما حلف عليه، فأوقعناه في الحنث، ولهذا قال:((والله لا نفلح أبداً)) أي: لا يحصل لنا الفلاح، وهو الفوز بالخير والسعادة الدنيوية والأخروية.
((تغفلنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمينه)) ، أي: أخذنا ما أعطانا في حالة غفلته عن يمينه ونسيانه لها.
((فرجعنا إليه فقلنا له، فقال: لست أنا أحملكم، ولكن الله حملكم)) هذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد، فإن الله – تعالى – هو المتصرف في عباده، وعملهم يقع بخلقه – تعالى – ومشيئته، فكما أنه – تعالى – خالق العبد، فهو خالق أفعاله.
ولهذا أسند النبي – صلى الله عليه وسلم – حملهم إلى الله، مع أنه الذي أعطاهم الإبل؛ لأن إعطاءهم إياها، بعد إرادة الله وخلقه.
((وقال الماوردي: معناه: أن الله – تعالى – آتاني ما أحملكم عليه، ولولا ذلك لم يكن عندي ما أحملكم عليه (1) .
قال الحافظ: ((المراد منه نسبة الحمل إلى الله – تعالى – وإن كان الذي باشر ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فهو كقوله: {وَمَا رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلَكِنَ اللهَ رَمَى} (2) .
((إني والله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها، إلا أتيت الذي هو خير منه وتحللتها)) ، في هذا دلالة، على أن من حلف على فعل شيء أو تركه، فرأى أن مخالفة يمينه، خير له في دينه أو دنياه، فإن المشروع في حقه أن حقه أن لا يمضي في يمينه، بل يفعل الذي هو خير، ويكفر عن يمينه.
*****
180-
قال: ((حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا قرة بن خالد، حدثنا أبو جمرة الضبعي، قلت لابن عباس: فقال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر حرم، فمرنا بجمل من الأمر، إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو إليها من وراءنا،
(1)((شرح مسلم)) للنووي (11/110) .
(2)
((الفتح)) (13/534) .
قال: ((آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: لا تشربوا في الدباء، والنقير، والظروف المزفتة، والحنتمة)) .
قوله: ((قلت لابن عباس)) لم يذكر مقول القول، وقد بينه في آخر ((المغازي)) في باب: وفد عبد القيس (1) وفيه: ((عن أبي جمرة، قلت لابن عباس – رضي الله عنهما: إن لي جرة ينتبذ لي نبيذ فأشربه حلواً في جرة، إن أكثرت منه فجالست القوم، فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: قدم)) إلى آخره.
قال الحافظ: في قوله: ((خشيت أن أفتضح)) أي: لأني أصير في مثل حال السكارى (2) .
ويجوز أن يحدث له تسهيلاً، أو رياحاً في بطنه، ويخشى أن يغلبه شيء من ذلك فيفتضح. والله أعلم.
والوفد: الجماعة المختارة للقاء العظماء، وعبد القيس قبيلة كبيرة، كانت مساكنهم في شرق الجزيرة العربية، قرب الأحساء، والقطيف، وكانت تسمى البحرين (3)، قال الحافظ: ((الذي تبين لنا، أنه كان لعبد القيس وافدتان:
أحدهما: قبل الفتح، ولهذا قالوا: بيننا وبينك كفار مضر، وكان ذلك إما في سنة خمس أو قبلها، وكان عددهم ثلاثة عشر رجلاً.
(1) انظر ((صحيح البخاري)) (5/138) .
(2)
((الفتح)) (8/86) .
(3)
قال ياقوت: ((البحرين: اسم جامع لبلاد على ساحل بحر النهر بين البصرة وعمان)) . ((معجم البلدان)) (1/347) .
وثانيهما: كانت سنة الوفود، وكان عددهم أربعين رجلاً (1) وذكر أدلة ذلك.
ومضر أبو القبيلة المشهورة، وهو مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
((فقالوا: إن بيننا وبينك المشركين من مضر)) يعني: أن بلادهم بعيدة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم، وفي طريقهم إليه المشركون الذين هم أعداء لهم، فإذا تمكنوا منهم قتلوهم، وهم بحاجة إلى التعلم من رسول الله – صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالوا:((فمرنا بجمل من الأمر)) وفي الرواية الأخرى: ((بأمر فصل)) أي: بين جامع، لا نحتاج معه إلى غيره، وفاصل بين الحق والباطل، ولهذا قالوا: إن عملنا به دخلنا الجنة.
((وندعو إليها من وراءنا)) أي: الأوامر التي تأمرنا بها، نعمل بها، وندعو قومنا إلى العمل بها.
((وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر حرم)) دليل على تعظيم الأشهر الحرم، حتى عند المشركين، حيث لا يتعرضون لأعدائهم في الأشهر الحرم.
وقد نوه الله – تعالى – عن حرمتها في كتابه، حين قال:{مِنهَا أَربَعَةُ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِينُ القَيِّمُ فَلَا تَظلِمُواْ فِيهنَّ أَنفُسَكُم} .
((قال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع)) أي: أربع جمل، كما في سؤالهم، أو أربع خصال ((آمركم بالإيمان بالله)) ثم فسر ذلك بقوله:((وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله)) أي: أن تشهدوا أن الله هو الإله الحق، المستحق أن يؤله، ويعبد وحده، وأن تفعلوا ذلك مخلصين له التألة، وأن تشهدوا أن كل مألوه غيره باطل وضلال، من توجه إليه بالعبادة، فهو
(1)((الفتح)) (8/85) .
من أصحاب النار، الذين لا يخرجون منها أبداً، إذا ماتوا على ذلك. هذه الكلمة أصل وأساس ما بعدها، بل هي أصل الإسلام، فلا يدخل الإسلام أحد إلا بها، وبمعرفتها والعمل بها، تتفاوت درجات الناس عند الله تعالى، وهي تشمل معرفة القلب وعمله، وعمل الجوارح، ولهذا جعلها النبي – صلى الله عليه وسلم – الإيمان، وأما الإشكالات التي ذكرها الحافظ عن شراح هذا الحديث، والتقديرات المبنية عليها (1) ، فهي غير واردة على الحديث أصلاً.
ومن تلك الإيرادات: أن ذكر الشهادة للتبرك، وليست مرادة لنفسها، وعليه فأول الخصال: الأمر بالصلاة، وذلك أن القوم كانوا مؤمنين، مقرين بالشهادتين، فلا وجه لذكرها. وهذا من الكلام الباطل لمخالفته لنص الحديث، والذي حملهم عليه: مذهبهم بأن الإيمان مجرد التصديق والمعرفة، وهو مخالف لنصوص الكتاب والسنة، فإذا لم يقترن بالتصديق عمل صالح، فلا اعتبار له في الشرع، كما أن الإيمان يتجدد، ويزداد، والأعمال من الإيمان، بها يزيد، وبتركها أو نقصها ينقص.
((وإقام الصلاة)) أي: تصلون الصلوات الخمس مقيمين لها، بأن تأتوا بها قائمة غير ناقصة، بشرائطها، وواجباتها، وما يلزم لها.
((وإيتاء الزكاة)) أي: أن تؤتوها من فرضها الله لهم، ممتثلين أمر الله، خائفين من عقابه لو منعتموها، راجين ثوابه في أدائها، طيبة بها نفوسكم، محبين لذلك مغتبطين به.
((وتعطوا من المغنم الخمس)) أي: خمس ما غنمتم فإنه لله ورسوله، وهو بمنزلة الزكاة في الوجوب، فتعطوه من هو له، ممتثلين أمر الله في ذلك، كما في الزكاة.
(1) انظر ((الفتح)) (1/132) وما بعدها.
وهذه الأوامر الأربع: وهي الإيمان، وفسره بشهادة أن لا إله إلا الله.
وأما النواهي: فهي أن لا يشربوا في الدباء، وهي: ثمر اليقطين إذا يبس، فإنه يكون كالجرار، وإذا وضع فيه نبيذ التمر، أو غيره أسرع إليه الغليان، فيكون خمراً، وكذلك بقية الأوعية المذكورة.
والنقير: وعاء يتخذ من جزوع النخل، ينقر وسطه حتى يصير شبه الجرة.
والمزفت: هو المطلي بالزفت، وهو المقير.
وأما الحنتم فقال في ((النهاية)) : هي جرار مدهونة خضر، كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة، ثم توضع فيها، فقيل للخزف كله: حنتم، واحدتها حنتمة.
وإنما نهى عن الانتباذ فيها؛ لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها.
وقيل: لأنها كانت تعمل من طين يعجن بالدم والشعر، فنهى عنها ليمتنع من عملها، والأول أوجه)) (1) بل هو المتعين.
والمراد من الحديث قوله: ((فمرنا بجمل من الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو إليها من وراءنا، قال: آمركم بأربع)) فعملهم الذي بسببه يدخلون الجنة، هو فعل لهم، يضاف إليهم حقيقة، وهم يباشرونه، ويعملونه حقيقة باختيارهم وإرادتهم، ومع ذلك هو من خلق الله – تعالى -، فهو داخل في عموم خلقه، وعموم إرادته ومشيئته، لأنه تعالى هو خالقهم وخالق أعمالهم، كما في الحديث الذي رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) حيث قال: ((فأما أفعال
(1)((النهاية)) (1/448) .
العباد: فحدثنا علي بن عبد الله، حدثنا مروان بن معاوية، حدثننا أبو مالك، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن الله يصنع كل صانع وصنعته)) فأخبر أن الصناعات، وأهلها مخلوقة.
حدثنا محمد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة رضي الله عنه:((إن الله خلق كل صانع وصنعته، إن الله خالق صانع الخزم، وصنعته)) (1) .
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما:((العجز والكيس من القدر)) ، وذكر أحاديث بهذا المعنى ثم قال: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة.
قال أبو عبد الله: حركاتهم، وأصواتهم، واكتسابهم، وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين، المثبت في المصحف، فهو كلام الله ليس بخلق)) (2) .
181-
قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) .
182-
((حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي
(1) قال الأزهري: قال ابن الأعرابي: الخزم: الخرازون. ثم ذكر هذا الحديث (7/217)((تهذيب اللغة)) .
(2)
((خلق أفعال العباد)) (ص41-42) .
– صلى الله عليه وسلم: ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) .
قال في ((اللسان)) : ((في أسماء الله الحسنى: ((المصور)) ، وهو الذي صور جميع الموجودات ورتبها، فأعطى كل شيء منها صورة خاصة، وهيئة مفردة بها، على اختلافها وكثرتها – قال:((والصورة في الشكل)) (1) .
وفي ((متن اللغة)) : ((الصورة: الشكل، والهيئة، والحقيقة)) (2) .
وتقدم أن ((المصور)) من أسماء الله الحسنى، وأن التصوير، بمعنى إعطاء كل شيء شكله، الذي هو عليه، من خصائص الله – تعالى -، ولهذا من تشبه به تعالى في ذلك، وصور صور الأحياء، فإن الله يعذبه أشد العذاب.
وقد تكاثرت النصوص الدالة على شدة عذاب المصورين، كما في هذين الحديثين.
قال عكرمة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنهُمُ اللهُ فِي الدُّنيَا وَالأَخِرَة وَأَعَدَّ لَهُم عَذَاباً مُهِيناً} نزلت في المصورين (3) .
وفي ((الصحيحين)) من حديث عبد الله بن مسعود، قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورين)) (4)، وفي رواية لمسلم:((إن من أشد أهل النار يوم القيامة عذاباً المصورين)) .
وروى مسلم إلى ابن عباس، قال: جاءه رجل، فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال له: ادن مني، فدنا منه، ثم قال: ادن مني،
(1)((لسان العرب)) (4/473) .
(2)
((متن اللغة)) (4/514) .
(3)
رواه ابن جرير في ((تفسيره)) (22/44) .
(4)
انظر: ((الفتح)) (10/382) ، و ((مسلم)) (3/1670) رقم (2109) .
فدنا حتى وضع يده على رأسه.
قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:((المصور في النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفساً فتعذبه في جهنم)) (1) .
وفي رواية له: (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ)) والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة.
قوله: ((ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) يقال لهم ذلك تعجيزاً لهم وتعذيباً، يعني: أوجدوا فيه الروح، التي بها الحياة، وليس ذلك بطاقة أحد غير الله – جل وعلا – وهذا لأنهم ذهبوا يتشبهون بالله – تعالى – في التصوير والخلق، فطعنوا بذلك وجاوزوا حدَّهم؛ لأن الله – تعالى – وحده، هو المصور الذي يصور كل حي، ويوجد فيه الروح، فصار جزاء هؤلاء: أن يعذبوا بما لا يطاق، ولا يستطاع، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
والمقصود من الحديث، نسبة الخلق إليهم في قوله:((أحيوا ما خلقتم)) فالتصوير فعلهم وعملهم، الذي استحقوا عليه العقاب؛ لأنهم فعلوه بطوعهم، واختيارهم، فهو فعلهم حقيقة، والله خالقهم، وخالق أفعالهم، كما تقدم، ومن أجل أن ذلك فعلهم حقيقة جوزوا عليه.
******
183-
قال: ((حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، سمع أبا هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((قال الله – عز وجل – ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، ليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو شعيرة)) .
(1) انظر: ((صحيح مسلم)) (3/1671) الحديث رقم (2110) .
هذه من الأحاديث القدسية التي يرويها النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ربه – جل وعلا – عن طريق الإلهام، أو المنام، أو بواسطة الملك، وهي مضافة إلى الله – تعالى – قولاً له، ويختلف عنها القرآن، بأنه كلام الله المنزل على محمد – صلى الله عليه وسلم – نزل به الروح الأمين، المتحدى به، أو بسورة منه، المتعبد بتلاوته.
قوله: ((ومن أظلم)) يعني: أن فاعل ذلك، ظالم ظلماً لم يبلغه أحد، فهو استفهام يفيد كثرة الظلم، وعظمه، وإنكاره.
ومعنى ((ذهب)) : قصد وفعل ذلك.
وقوله: ((كخلقي)) يعني: في الصورة فقط، وإلا فلا أحد من الخلق، يقدر أن يوجد حياة فيما يصوره، مهما أوتي من الفكر، والإمكانيات المادية، وغيرها، فلن يستطيع ذلك، ولهذا قال:((فليخلقوا ذرة)) أي: ليوجدوا فيها الحياة أو ليوجدوها من العدم، وليجعلوا فيها روحاً تحيا بها، وليس هذا بمقدور الخلق ولو اجتمعوا له.
ثم انتقل بهم إلى ما هو أسهل من ذلك، وهو الحبة التي تكون بها حياة النبات، فإذا وضعت في الأرض، وسقيت بالماء نبتت بإذن الله، ولن يستطيع المصورون أن يخلقوا تلك الحبة، بل ذلك ليس في مقدور الخلق كلهم.
ثم قال: ((وليخلقوا شعيرة)) ، والشعيرة أقل قيمة من الحبة، ولكن فيها من الحياة ما في الحبة، فإذا كان المصورون، وغيرهم الذين يضاهئون الله في خلقه، عاجزين عن خلق الحبة والشعيرة، فضلاً عما فيه روح، فكيف يذهبون يصورون الصور التي فيها مضاهاة لخلق الله – تعالى؟ ولعظيم جرمهم، استحقوا من العذاب، ما لا يكون لسائر أهل الكبائر.
والمقصود بالأمر في قوله: ((فليخلقوا ذرة)) إلى آخره، التعجيز وإذلالهم لذلك، وتعذيبهم.
ومراد البخاري – رحمه الله – نسبة الخلق إليهم فعلاً لهم حقيقة، مع أنهم مخلوقون لله – تعالى – فالله خالقهم، وخالق أفعالهم، ولكنه جعلهم فاعلين قادرين على فعلهم، باختيارهم وقدرتهم التي خلقها الله فيهم، ولهذا عذبهم على ذلك، ولو لم يكن فعلاً لهم حقيقة ما عذبوا عليه.
قال الحافظ: ((الذي يظهر: أن مناسبة ذكر حديث المصورين، لترجمة هذا الباب، من جهة أن من زعم أنه يخلق فعل نفسه، لو صحت دعواه لما وقع الإنكار على هؤلاء، فلما كان أمرهم بنفخ الروح فيما صوروه، أمر تعجيز، ونسبة الخلق إليهم، إنما هي على سبيل التهكم والاستهزاء، دل على فساد قول من نسب خلق فعله إليه استقلالاً)) (1) .
والصواب ما تقدمت الإشارة إليه من مراد البخاري – رحمه الله – أن الأفعال المسندة إليهم، أفعال لهم حقيقة، وهي مخلوقة لله – تعالى – فإن الله خالق كل فاعل وفعله، وهو خالق كل شيء، فلا يكون العباد خالقين لأفعالهم استقلالاً وإيجاداً، وإنما هم فاعلون لها، بجعل الله لهم فاعلين، وإقداره لهم على ذلك، فجعل القدرة لهم على فعلها، وأوجد فيهم الإرادة لها والاختيار، فصاروا فاعلين لها بذلك، حيث باشروا الفعل بأنفسهم، فهو فعلهم حقيقة، ولذلك استحقوا عليها الثواب أو العقاب.
وقال الكرماني: ((لعل غرض البخاري، في تكثير هذا النوع، في هذا الباب وغيره، بيان جواز ما نقل عنه أنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق – إن صح عنه -)) (2) .
قال الحافظ: ((قلت: قد صح عنه أنه تبرأ من هذا الإطلاق، فقال:
(1)((الفتح)) (13/535) .
(2)
((شرح الكرماني)) (25/244) .
((كل من نقل عني أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق، فقد كذب عليّ، وإنما قلت: أفعال العباد مخلوقة. أخرج ذلك غنجار، في ترجمة البخاري، من تاريخ بخارى، بسند صحيح إلى محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، أنه سمع البخاري يقول ذلك)) (1) ومن طرق أخرى.
قال ابن القيم – بعدما ذكر ما ذكره البخاري -: (وقال جابر بن عبد الله: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن.
يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر، ولا أقدر، وتعلم، ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فيسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به، قال: ويسمي حاجته)) قال الترمذي، هذا حديث حسن صحيح (2) .
فقوله: ((إذا هم أحدكم بالأمر)) صريح في أنه في الفعل الاختياري، المتعلق بإرادة العبد، وإذا علم بذلك، فقوله:((أستقدرك بقدرتك)) أي: أسألك أن تقدرني على فعله، بقدرتك، ومعلوم أنه لم يسأله القدرة المصححة [للفعل] ، التي هي سلامة الأعضاء، وصحة البنية. وإنما سأل القدرة التي توجب الفعل، فعلم أنها مقدرة لله، ومخلوقة له.
(1)((الفتح)) (13/535) .
(2)
هو مخرج في ((الصحيحين)) ، وتقدم في هذا الكتاب.
وأكد ذلك بقوله: ((فإنك تقدر ولا أقدر)) أي: تقدر أن تجعلني قادراً، فاعلاً، ولا أقدر أن أجعل نفسي كذلك، وكذلك قوله:((تعلم ولا أعلم)) أي: حقيقة العلم بعواقب الأمور، ومآلها، والنافع منها والضار عندك، وليس عندي.
وقوله: ((يسره لي)) أو ((اصرفه عني)) ، فإنه طلب من الله تيسيره إن كان له فيه مصلحة، وصرفه عنه إن كان فيه مفسدة، وهذا التيسير والصرف متضمن إلغاء داعية الفعل في القلب، أو إلقاء داعية الترك فيه، ومتى حصلت داعية الفعل، حصل الفعل، [وإذا حصل] داعية الترك امتنع الفعل.
وعند القدرية: ترجيح فاعلية العبد على الترك، ليس للرب فيه صنع، ولا تأثير، فطلب هذا التيسير منه لا معنى له عندهم، فإن تيسير الأسباب التي لا قدرة للعبد عليها موجودة، ولو لم يسألها العبد.
وقوله: ((ثم رضني به)) يدل على أن حصول الرضا، وهو فعل اختياري من أفعال القلوب،، - أمر مقدور للرب تعالى – وهو الذي يجعل نفسه راضية.
وقوله: ((فاصرفه عني، واصرفني عنه)) صريح في أنه سبحانه هو الذي يصرف عبده عن فعله الاختياري، إذا شاء صرفه عنه، كما قال تعالى في حق يوسف:{لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ} وصرف السوء والفحشاء: هو صرف دواعي القلب، وميله، فينصرفان عنه بصرف دواعيهما.
وقوله: ((واقدر لي الخير حيث كان)) يعم الخير المقدور للعبد من طاعته، وغير المقدور له.
فعلم أن فعل العبد للطاعة والخير، أمر مقدور لله – تعالى -، إن لم يقدره الله لعبده، لم يقع من العبد.
ففي هذا الحديث الشفاء في مسألة القدر، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – الداعي به أن يقدم بين يدي هذا الدعاء ركعتين، عبودية منه بين يدي نجواه، وأن يكونا من غير الفريضة؛ ليتجرد فعلهما لهذا الغرض المطلوب.
ولما كان الفعل الاختياري متوقفاً على العلم، والقدرة، والإرادة، لا يحصل إلا بها، توسل الداعي إلى الله – تعالى – بعلمه، وقدرته، وإرادته التي يفعل بها من فضله.
وأكد هذا المعنى بتجرده، وبراءته من ذلك، فقال:((إنك تعلم، ولا أعلم، وتقدر، ولا أقدر)) ، وأمر الداعي أن يعلق التيسير بالخير، والصرف بالشر، وهو علم الله – سبحانه – تحقيقاً للتفويض إليه، واعترافاً بجهل العبد بعواقب الأمور كما اعترف بعجزه.
((ففي هذا الدعاء إعطاء العبودية حقها، وإعطاء الربوبية حقها، والله المستعان)) (1) .
**********
(1)((شفاء العليل)) (ص110-111) .
قال: ((باب قراءة الفاجر، والمنافق، وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم)) .
الفاجر هو: الخارج عن الطاعة، فيشمل الكافر والفاسق.
وأما المنافق، فهو: الذي يظهر خلاف ما يبطن، وأعظم ذلك الكفر والتكذيب، فمن أبطن الكفر والتكذيب، فهو المنافق النفاق الأكبر، وإن تنوع ذلك.
وقوله: ((وتلاوتهم)) مبتدأ، وخبره جملة:((لا تجاوز حناجرهم)) والجملة من المبتدأ والخبر حال.
وهذا الباب كسابقه مما مر ذكره، يريد به التفرقة بين التلاوة والمتلو، وأن التلاوة من عمل التالي، وعمل العباد متفاوت، فمنه المقبول المرفوع إلى الله - تعالى -، ومنه المردود الذي لا يجاوز فم قائله، وعمل البر المتقي ليس كعمل الفاجر، والمنافق، وعمل الشيطان الذي يسترق السمع من الملائكة، وأخيه الكاهن ليس كعمل الملك.
فهذا التفاوت يدل على أنه عملهم، وعملهم كله مخلوق، ولهذا قال رحمه الله في ((خلق أفعال العباد)) : وذكر النبي صلى الله عليه وسلم قراءة المنافقين والفجار، فبين ما يتآكلون بقراءتهم، فلا يرتابن أحد في خلق المنافقين وأصحاب الجحيم وأعمالهم.
حدثنا عبيد الله - هو أبو قدامة - ابن سعيد، حدثنا حماد بن زيد، قال: من قال: كلام العباد ليس بمخلوق فهو كافر.
حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، حدثني بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس التجيبي حدثه، أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخلف قوم من بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غياً.
ثم يكون خلف يقرءون القرآن، لا يعدو تراقيهم. ويقرأ ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر)) . فقال بشير: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به)) .
ثم قال: ((ومما يدل على أصوات العباد)) (1) : قول النبي – صلى الله عليه وسلم – وأكثر منافقي أمتي قرآؤها)) . فعد قراءة المعطلة، والجهمية، وأهل الأهواء، وغيرهم.
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم: ((يقرأ القرآن رجال، يمرقون من الدين، لا يجاوز حلوقهم، هم شر الخلق والخليقة)) .
وقال: ((يتعجلونه، ولا يتأجلونه)) (2) . وهذا يبين مراده من هذا الباب هنا.
قال الحافظ: ((التلاوة متفاوتة بتفاوت التالي، فيدل على أنها من عمله)) (3) .
*****
184-
قال: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس، عن أبي موسى – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، والذي لا يقرأ كالتمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها)) .
(1) يعني: أنها مخلوقة لله – تعالى – مثل سائر المخلوقات.
(2)
((خلق أفعال العباد)) (ص193-194) .
(3)
((الفتح)) (13/536) .
ضرب الأمثال يراد به تقريب المعنى إلي الفهم.
والمقصود بالمثل هنا: الوصف والحال، فالمؤمن طيب في نفسه، وما من عمل يكون طيبا، فلهذا جعل صلى الله عليه وسلم – مذاقه طيبا، ورائحته التي تتعدى إلى من حوله طيبة، وإن كان المقصود بهذا الحديث من يحمل القرآن ويقرؤه، فغير القراءة من الأعمال يلتحق بها.
فإذا كان حامل القرآن مؤمنا، عاملا به، صادف محلا قابلا، فأثمر.
والأترجة، تجمع طيب المذاق، وطيب الرائحة ،وحسن المنظر ،وطيب نكهتها ،وجودة الهضم ،وفيها منافع أخرى، فناسب تمثيل المؤمن القارئ للقرآن بها.
قال الحافظ: ((وقع في رواية شعبة، عن قتادة: ((المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به)) وهي زيادة مفسرة للمراد، وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن، ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر، ونهي، لا مطلق التلاوة)) (1) .
قوله: ((والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة، طعمها طيب ولا ريح لها)) يعني بالمؤمن الذي لا يقرأ القرآن: هو الذي لا يحفظه، ولا يتلوه، فالإيمان بالله ورسله وما جاءت به طيب، ومذاقه حلو، ولكن إذا آمن بالقرآن، وعمل به، وهو لا يقرؤه، فاتته الرائحة الطيبة، والله – تعالى – يجمع الطيبين فيسكنهم دار الطيبات، كما يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه فيجعله في جهنم.
قال الحافظ: ((قيل: خص صفة الإيمان بالطعم، وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن، إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة)) (2) .
(1)((الفتح)) (9/67) .
(2)
((الفتح)) (9/66) .
قوله: ((ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مر)) .
الفاجر أصله ومذاقه مر خبيث، وإذا قرأ القرآن كان ما يصدر منه من القراءة طيب، ولكن مصدر القراءة خبيث، ومثل القراءة بالرائحة التي يدركها من حوله، فلما كان هذا العمل طيباً، صار مثل الرائحة الطيبة، الصادرة من محل خبيث، مؤذ، ضار، وإن كان ينتفع برائحته.
قوله: ((ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها)) يعني: اجتمع فيه خبث الأصل، وخبث العمل، فلا نفع فيه لنفسه ولا لغيره، بل هو ردىء مؤذ في نفسه، ولا علم له ينتفع به.
قال النووي: ((فيه فضيلة حافظ القرآن، واستحباب ضرب الأمثال لإيضاح المقاصد)) (1) .
والمقصود بقارئ القرآن، من حفظه، وتعاهده بكثرة التلاوة؛ للوقوف على أسرار معانيه، والعمل بأوامره، والانتهاء عن مناهيه، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، لا مجرد الحفظ والتلاوة.
وكلام الله – تعالى – له تأثير في باطن العبد، وظاهره، إذا كان مؤمناً به، والعباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك، وهو المؤمن المتقي التالي له، ومنهم من لا نصيب له البتة، وهو المنافق، ومن تأثر ظاهره دون باطنه فذلك المرائي)) (2) .
والمراد منه للباب: أن هذا التفاوت، في وصف المؤمن القارئ، وغير القارئ، والفاجر والمنافق، يدل على أن ذلك عملهم، تفاوت بالإيمان مع
(1)((شرح مسلم)) (6/83) .
(2)
((مكمل إكمال الإكمال)) ملخصاً (2/415) .
القراءة وعدمها، وبالفجور والنفاق مع القراءة وعدمها، فإذا كان ذلك بعملهم، فأعمالهم كلها مخلوقة، كما تقدم إيضاح ذلك.
********
185-
قال: ((حدثنا علي، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري. ح.
وحدثني أحمد بن صالح، حدثنا عنبسة، حدثنا يونس، عن ابن شهاب أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير، أنه سمع عروة بن الزبير يقول: قالت عائشة رضي الله عنه: سأل أناس النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الكهان؟ فقال: ((إنهم ليسوا بشيء)) فقالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً، قال: فقال النبي – صلى الله عليه وسلم: ((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرقرها في أذن وليه، كقرقرة الدجاجة، فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة)) .
قوله: ((سأل أناس النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الكهان)) جاء في ((صحيح مسلم)) ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده حقا، قال: ((تلك الكلمة الحق، يخطفها الجني،
فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة)) (1) .
فالسؤال وقع عما يخبرون به، فلهذا قال:((ليسوا بشيء)) أي: أخبارهم باطلة وكذب، ليست شيئا واقعا، فلما قالوا: إنهم يصدقون أحيانا، أخبر أن ذلك الصدق، هو القليل الذي يخطفه الشيطان، المسترق للسمع، من الملك الذي يتكلم بالوحي، فيلقيه في أذن وليه من الإنس، الذي هو الكاهن، ويكذب معها مائة كذبة.
(1) انظر ((صحيح مسلم)) (4/1750) رقم (2228) .
ويجوز أنهم سألوا عن حكمهم، وعن إتيانهم، كما في ((صحيح مسلم)) أن معاوية بن الحكم قال: يا رسول الله، كنا نأتي الكهان، قال:((فلا تأتوا الكهان)) (1) .
والكهان هم: الذين يخبرون عن المستقبل غالباً، استناداً إلى أسباب خفية، من اتصالهم بالجن، الذين يسترقون السمع من الملائكة، وهو الأصل عندهم، وقد تكون أخبارهم وهمية.
ويطلق اسم الكاهن على كل من يتعاطى علم الغيب، أو يحكم بغير ما أنزل الله (2) .
وفي كليات أبي البقاء: ((الكاهن هو: من يخبر بالأحوال الماضية، والعراف: من يخبر بالأحوال المستقبلة)) (3) .
وقال الخطابي: ((الكهنة: قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطباع نارية؛ فألفتهم الشياطين؛ لما بينهم من التناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل إليه قدرتهم. وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية، خصوصاً في العرب؛ لانقطاع النبوة فيهم، وهي على أصناف.
منها: ما يتلقونه من الجن، فإن الجن يركب بعضهم بعضاً، إلى أن يسمع أعلاهم شيئا من كلام الملائكة، كما وصف ذلك في الحديث، وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جداً، كما في أخبار شق، وسطيح، وغيرهما من كبار الكهان، وأما في الإسلام، فقد ندر ذلك جداً حتى يكاد يضمحل.
ومنها: ما يخبر الجني به من يواليه، مما غاب عن غيره، مما لا يطلع عليه الإنسان غالباً، أو يطلع عليه من قرب منه.
(1) المصدر المذكور (4/1749) رقم (2227) .
(2)
انظر ((الفتح)) (10/216) .
(3)
((كليات أبي البقاء)) (4/129) .
ومنها: ما يستند إلى التجربة، والعادة، فيستدل على الحادث، بما وقع قبل ذلك، وقد يكون ذلك بنوع من السحر، أو بنوع يضاهي السحر، مثل: الزجر، والطرق، والنظر في النجوم.
ومنها: ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس، وقد يبتلي الله – تعالى – بهذا النوع بعض الناس، فيقع له ما ظنه، فيكون ذلك فتنة له، ولغيره مع كثرة الكذب فيه (1) .
قوله: فقالوا: يا رسول الله. فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً)) أي: إن الكهان يخبرون بالأمر، فيقع مثل ما أخبروا به. فالحق: هو الخبر المطابق للواقع، يعني: الصدق.
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – جواباً على هذا الإيراد: ((تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني)) أي: أن الحق الذي يقع في خبر الكاهن، يكون مما خطفه الجني، الذي هو الشيطان مسترق السمع، من الملائكة الذين يكونون في السحاب، فيتحدثون بينهم فيما أوحاه الله إليهم، فيخطف الجني الكلمة منهم.
((فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة)) أي: يرددها مثل ترديد الدجاجة صوتها، بترجيع، وزمزمة، ولهذا صارت أخبار الكهان كذلك.
وهو يرددها لتستقر في ذهنه ويحفظها، هذا إذا لم يصبه الشهاب، الذي يرسله الله عليه، فأحياناً يقتله الشهاب، وقد يذهب بعقله، وقد يسلم.
وسمى الكاهن ولياً للشيطان؛ لأنه يطيعه ويتولاه، أو أراد العموم في الكاهن والمنجم، والعراف، ونحوهم ممن يتولى الشياطين.
قال الخطابي: ((يبين – صلى الله عليه وسلم – أن إصابة الكاهن أحياناً، إنما هي لأن الجني
(1)((الفتح)) مع بعض التصرف (10/217) .
يلقى إليه الكلمة، التي يسمعها استراقا من الملائكة، فيزيد عليها أكاذيب، يقيسها على ما سمع، فربما أصاب نادراً، وخطؤه الغالب)) (1) .
((فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة)) أي: الشياطين يخلطون مع الكلمة الواحدة من الحق، التي سمعوها من الملائكة، أكثر من مائة كذبة، ومع ذلك يصدقهم الناس، من أجل أنهم يصيبون في واحد من أخبارهم، البالغة أكثر من مائة، والباقي كله كذب، وهذا من العجائب، ومما يدل على حب النفوس للباطل، وإلا كيف يصدق، وهو إذا صدق مرة واحدة، كذب أكثر من مائة مرة؟!
قال الحافظ: ((والذي يظهر لي من مراد البخاري: أن تلفظ المنافق بالقرآن كما يتلفظ به المؤمن، فتختلف تلاوتهما، والمتلو واحد، فلو كان المتلو عين التلاوة، لم يقع فيه تخالف، وكذلك الكاهن، في تلفظه بالكلمة من الوحي، التي يخبره بها الجني، مما يختطفه من الملك تلفظه بها، وتلفظ الجني مغاير لتلفظ الملك؛ فتفاوتا)) (2) .
قلت: هذا بعض ما أراده البخاري – رحمه الله، وتمامه: أن هذا التفاوت المذكور بينهم، يدل على أن التلفظ عمل لهم، وهم وأعمالهم مخلوقون، كما تقدم إيضاح ذلك، والله أعلم.
186-
قال: ((حدثنا أبو النعمان، حدثنا مهدي بن ميمون، سمعت محمد بن سيرين يحدث، عن معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون
(1)((الفتح)) (10/220) .
(2)
((الفتح)) (13/536) .
من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه)) .
قيل: ما سيماهم؟ قال: ((سيماهم التحليق – أو قال: التسبيد -)) .
هذا الحديث تقدم في باب قوله تعالى: {تَعرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِليهِ} ، وتقدم شرحه هنا، إلا أن هذه الرواية فيها ما ليس في تلك، فنبين ما لم يتقدم، فمن ذلك قوله:((يخرج ناس من قبل المشرق)) . المراد: مشرق المدينة، وهو العراق أو قربه، وقد خرجوا فيه كما هو معلوم، وقاتلهم علي ابن أبي طالب – رضي الله عنه – وقتل معظمهم، ولكنهم لم يزل يخرج منهم طوائف، حتى صار لهم أسوأ الأثر على الأمة الإسلامية.
ومن ذلك قوله: ((ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه)) أي: المكان الذي خرج منها لما رمي به، ومعنى ذلك: أنهم لا يعودون إلى الإسلام أبداً، وهذا شأن أهل الأهواء، والبدع؛ لأنهم يرون أن ما هم عليه هو الحق، ومن عداهم فهو على الباطل؛ فهم الذين زين لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنة.
وقوله: ((سيماهم التحليق)) أي: علامتهم أنهم يحلقون رؤوسهم. ((والتسبيد)) : هو التحليق، أو المبالغة فيه، وقيل: هو ترك غسل الشعر ودهنه، وقال الكرماني: هو: استئصال الشعر)) (1) .
وقد ذكروا، أن السلف لم يكونوا يحلقون رؤوسهم إلا في النسك، أو الحاجة.
ولا يلزم أن يكون الحلق علامة على الخوارج في جميع الأزمنة، فإن عادات
(1) انظر شرحه (25/248) .
الناس تتغير، وتختلف.
والمراد من الحديث: أن قراءة هؤلاء لا تجاوز تراقيهم، والترقوة: هي العظم الناتئ في أعلى الصدر، وأسفل الرقبة، ولكل واحد ترقوتان.
والمعنى: أن القرآن لا يصل إلى قلوبهم، فلا يفقهونه، ولا يؤثر فيهم، مع أنهم يحفظونه، ويتلونه فتلاوتهم لا تنفعهم، بخلاف المؤمنين المتقين، فإنهم إذ تلوا آيات الله زادتهم إيماناً، فهم يزدادون إيمانا بعملهم، ثم يجزيهم الله على ذلك أفضل الجزاء؛ لأن ذلك عملهم، أما المذكورون في هذا الحديث، فلم ينتفعوا بفهم كتاب الله، فيدخل الإيمان في قلوبهم، وإنما يتلونه بألسنتهم ولا يصل إلى القلوب، فلم يتأثروا بآيات الله تقى، ولا علماً، ولا إيماناً، فعملهم مردود؛ لأنه لا أثر له في نفوسهم، فلم يمتثلوا أمر الله وما أريد منهم، ولم ينتفعوا بعملهم، وهذا يدل على أن التلاوة التي انتفع بها المتقون، ولم تنفع هؤلاء، أنها عملهم الذي يجزون عليه، وأعمالهم مخلوقة لله من سائر المخلوقات، وهذا المطلوب.
******
قال: ((باب قول الله تعالى: {وَنضَعُ المَوازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيامَةِ} وأن أعمال بني آدم وقولهم يوزن)) .
معنى وضع الموازين: إحضارها، والقسط: العدل.
قال الكرماني: ((القسط: مصدر يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، أي: الموازين العادلات. وجمع باعتبار العباد، وأنواع الموزونات.
{لِيَومِ القِيامَةِ} أي: في يومها. وقال الزجاج: أي: نضع الموازين ذوات القسط، وفائدة ذلك إظهار العدل، والمبالغة في الإنصاف، والإلزام، قطعاً لأعذار العباد)) (1) .
وقال الخازن: {وَنضَعُ المَوازِينَ القِسطَ} أي: ((ذوات العدل، وصفها بذلك؛ لأن الميزان قد يكون مستقيماً، وقد يكون بخلافه، فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل)) (2) .
((وقال الزجاج: المعني: ونضع الموازين ذوات القسط، والقسط العدل، وهو مصدر يوصف به، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط)) (3) .
قال ابن كثير: ((الأكثر على أنه ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة)) (4) .
قال الحافظ: ((اختلف في ذكر الميزان بلفظ الجمع، هل المراد: أن لكل شخص ميزاناً، أو لكل عمل ميزان؟ فيكون الجمع على ظاهره، أو ليس هناك
(1)((شرح الكرماني)) (25/248) .
(2)
((تفسير الخازن)) (4/296) .
(3)
((الفتح)) (13/538) .
(4)
((تفسير ابن كثير)) (5/339) .
إلا ميزان واحد، والجمع باعتبار تعدد الأعمال، والأشخاص؟
والذي يترجح، أنه ميزان واحد، ولا يشكل بكثرة من يوزن عمله؛ لأن أحوال يوم القيامة لا تكيف بأحوال الدنيا)) (1) .
((قال أبو إسحاق الزجاج، أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان، وكفتان، ويميل بالأعمال.
وأنكرت المعتزلة الميزان. وقالوا: هو عبارة عن العدل.
فخالفوا الكتاب، والسنة؛ لأن الله - تعالى - أخبر أنه يضع الموازين، لوزن الأعمال؛ ليرى العباد أعمالهم ممثلة، ليكونوا على أنفسهم شاهدين)) (2) .
قلت: وإنكار المعتزلة ونحوهم للميزان، وأن الأعمال توزن يوم القيامة، هو سبب النص، على وجوب الإيمان به، في عقائد أهل السنة، وإلا فهو من جملة ما اشتمل عليه اليوم الآخر، والإيمان به ركن من أركان الإيمان، لا يتم لأحد إيمان إلا به.
قوله: ((وأن أعمال بني آدم وقولهم يوزن)) يعني: أن كل ما يصدر من بني آدم، ويترتب عليه الجزاء، فهو يوزن؟ لأنهم متعبدون لله مكلفون بما أراده منهم، فراقبهم الله على ذلك، فإذا حضروا لديه يوم القيامة، جازاهم أتم الجزاء، وأظهر عدله في حكمه عليهم، حتى يعذروا من أنفسهم.
ومراد البخاري رحمه الله أن أعمال بني آدم وأقوالهم، مخلوقة لله
(1)((الفتح)) (13/537-538) .
(2)
((الفتح)) (13/538) .
- تعالى -؛ فلهذا توزن، فيجازون عليها، ومن ذلك قراءتهم القرآن، وذكرهم لله - تعالى - بالتسبيح والتحميد والتهليل، كما يأتي في الحديث.
قال ابن المنير: ((جمع البخاري في هذه الترجمة بين فوائد:
منها: وصف الأعمال بالوزن.
ومنها: إدراج الكلام في الأعمال، لأنه لما وصف الكلمتين بالخفة على اللسان والثقل في الميزان، دل على أن الكلام عمل يوزن.
ومنها: أنه ختم كتابه بهذا التسبيح، وقد ورد في الحديث ما يدل على استحباب ختم المجالس بالتسبيح، وأنه كفارة لما لعله يتفق في أثناء الكلام، مما ينبغي هجره، وهذا نظير كونه بدأ كتابه بحديث ((الأعمال بالنيات)) فكأنه تأدب في فاتحته وخاتمته، بآداب السنة والحق.
فالأدب في الابتداء: إخلاص القصد والنية، وفي الانتهاء: مراقبة الخواطر ومناقشة النفس على الماضي، والاعتماد في تكفير ما لعله يحتاج إلى تكفير، بما جعله الشرع مكفراً للهفوات (1) .
قال الحافظ: ((الظاهر أن أعمال بني آدم وأقوالهم كلها توزن، لكن خص من ذلك طائفتان:
الأولى: الكفار الذين ليس لهم حسنات، فهم يقعون في النار من غير حساب ولا ميزان، كما قال تعالى:{فَلَا نُقِيمُ لَهُم يَومَ القِيامَةِ وَزناً} (2) .
الثانية: المؤمنون الذين لا سيئات لهم، ولهم حسنات كثيرة، فهم يدخلون الجنة بغير حساب، كما في حديث السبعين ألفا، وهم الذي يمرون على الصراط كالبرق الخاطف، أو كلمح البصر، أو كالريح (3)
(1)((المتواري)) (ص432-433) .
(2)
الآية 105 من سورة الكهف.
(3)
((الفتح)) (13/538) .
قوله: ((وقال مجاهد: القسطاس: العدل، بالرومية)) .
يعني: أن هذه عربت فصارت عربية، وأنكر بعض العلماء أن يكون في القرآن شيء من غير العربية، وهذا حق؛ لأن ما عرب، وأدخل في اللغة، يكون منها.
قال الإمام الطبري: ((كل ما ذكر عن أهل التفسير من الكلمات، أنها بلسان الحبشة، أو الروم، أو الفرس، أو غيرهم، معناه: اتفاق اللسانين فيها)) (1) .
((ويقال: القسط: مصدر المقسط، وهو العادل)) .
قال الأزهري: ((قال الليث، القسط بكسر القاف: العدل، والفعل منه: أقسط، بالألف.
والقسط: بفتح القاف: الجور. يقال: قسط يقسط قسطاً، وقسوطاً.
والقسط بكسر القاف: النصيب، وقال الله – تعالى -:{وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} ، قال الفراء: هم الجائرون، الكفار.
وأما المقسطون: [فهم] العادلون، المسلمون)) (2) .
قال الحافظ: ((وقد اعترض على البخاري في قوله: ((القسط مصدر المقسط)) ؛ لأن مصدر المقسط: الإقساط، قال ابن بطال، والكرماني: إنه أراد بالمصدر ما حذفت زوائده كقول الشاعر: وإن أهلك فذلك قدري.
يقصد: تقديري، فرد إلى أصله)) (3) .
(1) انظر مقدمة تفسيره.
(2)
((تهذيب اللغة)) (8/388) ، وانظر ((معاني القرآن)) للفراء (3/193) .
(3)
((الفتح)) (13/540) .
وقيل: إن القسط من الأضداد، أي: يأتي للعدل، وللجور.
((وأما القاسط فهو الجائر)) .
تقدم كلام الفراء فيه.
*****
187-
قال: ((حدثنا أحمد بن إشكاب، حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) .
والمراد بالكلمتين: الجملتان، ((فسبحان الله وبحمده)) جملة تامة، و ((سبحان الله العظيم)) كذلك، ففيه إطلاق الكلمة على الكلام، وهو كثير.
وقوله: ((حبيبتان إلى الرحمن)) فيه: أن الله تعالى يحب بعض الكلام، وبعض العمل أكثر من غيره، ومحبة الله من صفاته، التي يجب أن تثبت له، على ما يليق بعظمته، ولا يجوز تأويل محبته، وتحريف الكلم فيها عن مواضعه، كفعل أهل البدع.
وقد مضى القول في ذلك.
((خفيفتان على اللسان)) أي: عند النطق بهما لا تثقلان اللسان، ولا تكلفه؛ لسهولة حروفهما، وخفتهما على اللسان، مع ما فيهما من الثواب العظيم، ومحبة الرحمن – عز وجل – لهما، فخليق بالعبد أن يكثر منهما، وهذا يوضح مراد المؤلف – رحمه الله – وهو: أن تكلم العبد، وتلفظه، ونطقه بالكلام، من عمله الذي يجزى عليه، وعمله كله مخلوق، مع أنه لا يجوز أن يقال: إن هاتين الكلمتين:
((سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) أنهما مخلوقتان، وإنما المخلوق فعل العبد وعمله، وكذا تلاوة التالي، هي فعله وعمله، يجازى عليها، وتوضع في الميزان، أما المتلو، فهو كتاب الله وكلامه، وهو غير مخلوق.
فهاتان الكلمتان توزنان، ويثقل بهما الميزان، وهذا دليل واضح، على أن تكلم العبد بالذكر وبالقرآن، عمل له يثاب عليه، ويوضع في ميزانه، ليعطيه الله أجره عليه وافراً غير منقوص، ونحن نردد هذا المعنى ونكرره؛ لأن المؤلف – رحمه الله – صنع ذلك، كما سبق أن ذكرناه.
وقد أجمع السلف على أن أعمال العباد مخلوقة، كما سبق، وهذا هو المقصود من الحديث الذي أراده المؤلف؛ لأن ما يوضع في الميزان فهو مخلوق؛ لأنه من عمل العبد، وما يتلمس من مقاصد غير هذا، هي تابعة لهذا، وليست مقصودة لذاتها.
قوله: ((ثقيلتان في الميزان)) قال الحافظ: ((هو موضع الترجمة؛ لأنه مطابق لقوله: ((وأن أعمال بني آدم توزن)) (1) ، وما يوزن، فهو عمل للعبد وهو مخلوق.
((سبحان الله وبحمده)) قال الأزهري: ((قال الليث: سبحان الله، تنزيه لله، عن كل ما لا ينبغي له أن يوصف به [ونصب على المصدر]، تقول: سبحت الله تسبيحاً، أي: نزهته تنزيها، وكذلك روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم.
قال الزجاج: ((سبحان)) في اللغة: تنزيه لله – عز وجل – عن السوء.
قلت: وهذا قول سيبويه. يقال: سبحت الله تسبيحا وسبحانا، بمعنى واحد، فالمصدر ((تسبيح)) ، والاسم ((سبحان)) يقوم مقام المصدر.
(1)((الفتح)) (13/540) .
قلت: ومعنى تنزيه الله من السوء: تبعيده منه، وكذلك تسبيحه: تبعيده، من قولك: سبحت في الأرض: إذا أبعدت فيها. ومنه قوله – جل وعز -: {كُلُُُُُ ُ فِي فَلَكٍ يَسبَحُونَ} ، وكذلك قوله:{وَالسَابِحَاتِ سَبحاً} هي: النجوم تسبح في الفلك، أي تذهب فيه بسطاً، كما يسبح السابح في الماء.
وكذلك السابح من الخيل، يمد يديه في الجري سبحاً، كما يسبح السابح في الماء. وجماع معناه: بعده تبارك وتعالى عن أن يكون له مثل أو شريك أو ضد، أو ند)) (1) .
وقال الحافظ: ((معنى التسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص.
فيلزم نفي الشريك، والصاحبة، والولد، وجميع الرذائل، ويطلق التسبيح، ويراد به جميع ألفاظ الذكر.
ويطلق، ويراد به صلاة النافلة. و ((سبحان)) : اسم مصدر منصوب على أنه واقع موقع المصدر، لفعل محذوف، تقديره: سبحت الله سبحاناً، كسبحت الله تسبيحاً، ولا يستعمل غالبا إلا مضافاً)) (2) .
قوله: ((وبحمده)) . قيل: الواو للحال، والتقدير: أسبح الله متلبساً بحمدي له، من أجل توفيقه. وقيل: عاطفة، والتقدير: أسبح الله، وأتلبس بحمده، ويحتمل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف متقدم، والتقدير: وأثني عليه بحمده، فتكون ((سبحان الله)) جملة مستقلة، ((وبحمده)) جملة أخرى.
قال الخطابي في حديث: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك)) أي: بقوتك
(1)((تهذيب اللغة)) (4/338-339) .
(2)
((الفتح)) (11/206) .
التي هي نعمة، توجب عليّ حمدك، سبحتك، لا بحولي، وقوتي)) (1) .
قوله: ((سبحان الله العظيم)) أعاد التسبيح للتكرير والمبالغة في تنزيهه تعالى، والإكثار من ذكره تعالى، وهو من أفضل الأعمال.
ووصفه بالعظمة؛ ليستحضر أنه أهل التسبيح ومستحقه دائماً، وأن العبد لن يؤدي حقه، مهما أكثر من تسبيحه، وعبادته.
((قال ابن بطال: هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر، إنما هي لأهل الشرف في الدين، والكمال، كالطهارة من الحرام والمعاصي العظام، فلا تظن أن من أدمن الذكر، وأصر على ما شاءه من شهواته، وانتهك دين الله – تعالى – وحرماته، أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين، ويبلغ منازلهم، بكلام أجراه على لسانه، ليس معه تقوى، ولا عمل صالح)) (2) .
قال الكرماني: ((هذا الكلام من جوامع الكلم، وفيه امتثال لقوله تعالى:{فَسَبِح بِحَمدِ رَبِكَ} ، وتفسير له، ولما كان ذلك مندوبا إليه، عند أواخر المجالس، جعل البخاري – رحمه الله تعالى كتابه كمجلس علم؛ فختم به.
وذكر هذا الباب هنا ليس مقصوداً بالذات، بل هو لإرادة أن يكون آخر كلامه تسبيحاً وتحميداً)) (3) .
قلت: بل الظاهر: أنه مقصود بالذات، مع ما أشار إليه الكرماني، وتقدم بيان ذلك.
(1)((الفتح)) (13/541) .
(2)
((الفتح)) (13/541) .
(3)
((شرح الكرماني)) (25/251) .
قال الحافظ نقلا عن شيخه البلقيني: ((لما كان أصل العصمة أولاً وآخراً، هو توحيد الله - تعالى - ختم بكتاب التوحيد، وكان آخر الأمور التي يظهر بها المفلح من الخاسر: ثقل الموازين وخفتها، جعله آخر تراجم الكتاب، فبدأ بحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) وذلك في الدنيا، وختم بأن الأعمال توزن يوم القيامة، وأشار إلى أنه إنما يثقل منها، ما كان بالنية الخالصة لله - تعالى -.
وفي الحديث الذي ذكره، ترغيب وتخفيف، وحث على الذكر المذكور، لمحبة الرحمن له.
والخفة بالنسبة لما يتعلق بالفعل، والثقل بالنسبة لإظهار الثواب.
وجاء ترتيب هذا الحديث على أسلوب عظيم، وهو أن حب الرب سابق، وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال، ثم بين ما فيها من الثواب العظيم، النافع يوم القيامة)) انتهى (1) .
قال الحافظ: ((والذي يظهر: أنه قصد ختم كتابه بما دل على وزن الأعمال؛ لأنه آخر آثار التكليف، فإنه ليس بعد الوزن، إلا الاستقرار في إحدى الدارين، إلى أن يريد الله - تعالى - إخراج من قضى بتعذيبه من الموحدين، فيخرجون من النار بالشفاعة، كما تقدم.
قال الكرماني: وأشار أيضاً، إلى أنه وضع كتابه قسطاساً، وميزاناً يرجع إليه، وأنه سهل على من يسره الله - تعالى - عليه.
وفيه إشعار بما كان عليه المؤلف في حالتيه، أولاً وآخراً، تقبل الله - تعالى - منه، وجزاه أفضل الجزاء)) (2) .
(1)((الفتح)) (13/542) .
(2)
((الفتح)) (13/542) .
قلت: كل هذه الأمور، إن كانت مقصودة للبخاري - رحمه الله تعالى - فإنها جاءت تبعاً لما ذكر، من أن مراده: بيان خلق أفعال العباد، وأصواتهم وكلامهم، فإنها توزن، فيجازون عليها، وأن تلفظهم بالقرآن، والذكر والتسبيح، من أعمالهم، والعباد وأعمالهم من مخلوقات الله - تعالى - فإنه خالق كل شيء. والله أعلم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين.
****