الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: ((باب
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به
آناء الليل وآناء النهار، ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت كما يفعل.
فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله)) .
هذه الترجمة كالتي قبلها، وكذا الأبواب الآتية كلها في بيان أن أعمال العباد منوطة بهم يفعلونها باختيارهم، وأنها مخلوقة مثلهم.
وذلك مثل أصواتهم وتحريك ألسنتهم وشفاههم، وحفظهم ودعائهم، وتبليغهم، وصلاتهم، وكون الإنسان خلق هلوعا جزوعا منوعا، فهذه أوصاف الإنسان، والله خلقه كذلك.
وكذا روايتهم، وبيانهم عن معاني كلام الله، وأصواتهم حسنها وقبيحها، ومهارتهم بالقرآن وغيره، وكتابتهم، وأدواتهم التي يكتبون بها، وغير ذلك كلها عمل لهم، وهم وأعمالهم مخلوقون.
فقوله: ((آتاه الله القرآن)) يعني: يسر له حفظه، وأقدره عليه، فحفظه وعمل به.
((فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار)) أي: يتلوه ويتهجد به في الصلاة وخارجها أوقات الليل والنهار، وهذا من أفضل الأعمال التي يؤجر عليها العبد.
فدل ذلك على أن تلاوته القرآن من عمله وعمله مخلوق، فلزم أن تكون غير المتلو.
فالتلاوة عمل العبد، وفعله، والمتلو قول الرب تعالى وصفته، كما تقدم.
((ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت كما يفعل)) . هذا يبين أن التلاوة، والقيام بالقرآن فعل التالي، وعمله، كما هو واضح.
ولهذا قال: ((لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت كما يفعل)) . قال البخاري – رحمه الله: ((فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله)) .
وذكر ما ذكره هنا في كتابه ((خلق أفعال العباد)) بنصه (1) ، ثم ذكره بسنده، قال ابن المنير:((ثبت عن البخاري أنه قال: من نقل عني أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق، فقد كذب، وإنما قلت: إن أفعال العباد مخلوقة، قال: وقد قارب الإفصاح في هذه الترجمة بما رمز إليه في التي قبلها)) (2) .
قوله: ((وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} .
أي: من الدلالات الواضحة على وحدانية الله، ووجوب عبادته، ورجوعكم إليه للحساب والجزاء، وأن الأمر والملك كله له، خلق السماوات والأرض، وما فيهما من العجائب، والآيات الدالة على الله، ومن ذلك اختلاف ألسنتكم، أي: أصواتكم بحيث لا يلتبس صوت واحد بآخر على كثرتهم، وكذا اختلاف اللغات، واختلاف الألوان، فهذا بشرته بيضاء، وهذا سوداء، وبين ذلك.
والمقصود أن إضافة الألسنة إلى الناس يدل على أنها أعمالهم وأوصافهم، فإذا قرأ القارئ كلام الله – تعالى – فالصوت صوت القارئ، والكلام كلام الباري.
فكما أن الألوان صفتهم، فكذلك النطق، والتكلم، والتصويت.
قال في ((خلق أفعال العباد)) ، بعد أن ذكر هذه الآية:((فمنها العربي، ومنها العجمي، فذكر اختلاف الألسنة والألوان، وهو كلام العباد)) .
(1)(ص118) تحقيق عميرة و (ص196) بدر.
(2)
((الفتح)) (13/503) .
وقال تعال: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِي عَمِلي وَلَكُم عَمَلُكُم أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعمَلُ وَأَنَا بَرِئٌ مِمَّا تَعمَلُونَ} (1) .
قوله: ((وقال – جل ذكره -: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} )) .
قال الحافظ: ((الآية الأولى: المراد منها اختلاف ألسنتكم؛ لأنها تشمل الكلام كله، فتدخل القراءة، وأما الثانية فعموم فعل الخير يتناول قراءة القرآن والذكر، والدعاء، وغير ذلك، فدل على أن القراءة فعل القارئ)) (2) .
وقال المصنف في ((خلق أفعال العباد)) {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ، فأثبت الخير منهم فعلاً)) (3) .
يعني: أن الله – تعالى – أمر عباده أن يفعلوا الخير، فدل على أن ذلك فعلهم، ومن فعل الخير: قراءتهم القرآن، وذكرهم لله – تعالى – ودعائهم إياه، فالقراءة والذكر والدعاء فعل لهم يثابون عليه، كما تقدم.
***
153 – قال: ((حدثنا قتيبة حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، فهو يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا، لفعلت كما يفعل، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في حقه فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتي عملت فيه مثل ما يعمل)) .
قد ذكر هذا الحديث في فضائل القرآن بأتم من هذا اللفظ، ونصه:
(1)(ص195-196) .
(2)
((الفتح)) (13/502) .
(3)
(ص197) .
((أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً، فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل)) .
وترجم له هناك بقوله: ((باب اغتباط صاحب القرآن)) فجعل هذا من الغبطة، وليس من الحسد، وتسميته حسداً من باب التجوز.
قال الحافظ: ((معنى قوله: ((لا تحاسد إلا في اثنتين)) أي: لا رخصة في الحسد إلا في خصلتين، أو لا يحسن الحسد – إن حسن -، وأطلق الحسد مبالغة في الحث على تحصيل الخصلتين)) (1) .
وقال النووي: قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي، ومجازي، فالحقيقي: تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة، مع النصوص الصحيحة.
وأما المجازي: فهو الغبطة، وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره، من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد من الحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما)) (2) .
قوله: ((آتاه الله القرآن)) أي: منَّ عليه بحفظه، وهي من أعظم المنن، فإذا انضم إلى ذلك العمل به تمت نعمة الله، وذلك الذي قصد بقوله:((فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار)) ومعنى: يتلوه: يقرؤه، ويعمل به.
(1)((الفتح)) (9/73) .
(2)
((شرح مسلم)) (6/97) .
وآناء الليل والنهار: ساعاتهما، يعني: أنه يلازم ذلك في غالب أوقاتهما.
قوله: ((فهو يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل)) هذا هو الذي أطلق عليه بأنه حسد، وهو حسد جائز؛ لأنه يتمنى الخير من غير ضرر بالغير.
فهو لم يتمن زوال ما أوتي صاحب النعمة، كما يفعل إخوان الشياطين، ولكنه تمنى أن يكون مثله، قد أوتي القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار.
وكذلك الآخر الذي تمنى أن يكون له من المال مثل ما للمنفق ماله في وجوه الخير.
ولم يرد زوال النعمة عن ذلك المنفق.
والشاهد من الحديث قوله: ((آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار)) فحفظ القرآن، وتلاوته، والقيام به، وكل ذلك عمل الإنسان، وهو مخلوق، وأما القرآن المحفوظ في الصدور، والمتلو المقوم به فهو كلام الله – جل وعلا -.
154-
قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) .
هذا الحديث كالذي قبله، فنكتفي بما تقدم.
***********
قال: ((باب قول الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .
قال الكرماني: ((لا بد في الرسالة من ثلاثة أمور: المرسل، والمرسل إليه،
والرسول، ولكل منهم أمر، للمرسل الإرسال، وللرسول التبليغ، وللمرسل إليه القبول والتسليم)) (1) .
قلت: بقي أمر رابع، وهو الرسالة التي يرسل بها الرسول، وهي أوامر الله ونواهيه وحكمه لمن أرسل إليهم، أما الإرسال فهو تكليف الرسول بالرسالة، واكتفى عن ذلك بقوله:((وللمرسل إليه القبول والتسليم)) ؛ لأن القبول والتسليم يكون للرسالة.
قال ابن جرير: ((أمر الله نبيه بإبلاغ أهل الكتاب والمشركين ما أنزل الله عليه فيهم، من معايبهم، وما أمرهم به، ونهاهم عنه، وأن لا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبوه بمكروه إذا قام فيهم بأمر الله، وأن لا يتقي إلا الله، فإنه كافيه كل أحد، ودافع عنه كل مكروه.
وأعلمه أنه إن قصر عن إبلاغ شيء مما أنزله إليه فيهم فهو من عظيم ما ارتكب من الذنب، بمنزلة ما لو لم يبلغ من الرسالة شيئا)) ثم روى عن ابن عباس:((إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك لم تبلغ رسالاتي)) (2) .
ومقصوده بهذا الباب: أن إبلاغ الرسالة من الرسول فعل له يثيبه الله عليه، وأن الكلام الذي جاء به يبلغه صفة لربه، وأنه ليس فيما بلغه ما يدل على قول الذين يقولون بخلقه، أو خلق شيء منه.
قال في ((خلق أفعال العباد)) ، بعد ما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم:((ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)) .
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإبلاغ منه، وأن كلام الله من ربه، ولم يذكر عن أحد من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان خلاف ما وصفنا، وهم
(1)((شرح الكرماني)) للبخاري (25/221) .
(2)
((تفسير الطبري)) (10/467) ملخصا.
الذين أدوا الكتاب والسنة بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – قرنا بعد قرن)) (1) . يعني: أنه ليس فيما بلغه النبي – صلى الله عليه وسلم – شيء مما يقوله الجهمية وأشباههم.
وقال: ((ما جاء في قول الله – عز وجل: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – ((بلغوا عني ولو آية)) ، ((وليبلغ الشاهد الغائب)) ، وأن الوحي قد انقطع، ثم ذكر حديث عائشة ((من زعم أن محمداً كتم شيئا من الوحي، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .
وقال صالح: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} (2)، وقال شعيب:{لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} (3)، وقال تعال:{لِيَعلَمَ أَن قَد أَبلَغُواْ رِسَالاتِ رَبّهِم} (4) .
فبين أن الرسالة من الله، والإبلاغ من الرسل، ثم روى خطبته صلى الله عليه وسلم يوم النحر، وفيها:((اللهم هل بلغت؟ فليبغ الشاهد الغائب، ولا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) .
وقال ابن عباس: ((والذي نفسي بيده إنها الوصية إلى أمته)) .
وروي عنه أيضا قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((ما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولكن بعثني الله إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت
(1)((خلق أفعال العباد)) (ص60) .
(2)
الآية 79 من سورة الأعراف.
(3)
الآية 93 من سورة الأعراف.
(4)
الآية 28 من سورة الجن.
لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه إليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم)) (1) .
وذكر أحاديث في هذا المعنى.
وقال أيضاً: ((وقال الله – عز وجل: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} فذلك كله مما أمر به، ولذلك قال: ((وأقيموا الصلاة)) فالصلاة بجملتها طاعة الله، وقراءة القرآن من جملة الصلاة، فالصلاة طاعة الله، والأمر بالصلاة قرآن، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على اللسان، والقراءة والحفظ والكتابة مخلوق، وما قرئ وحفظ وكتب ليس بمخلوق.
ومن الدليل عليه أن الناس يكتبون ((الله)) ويحفظونه، ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه.
والخالق الله بصفته.
ويقال له: أترى القرآن في المصحف؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن من صفات الله ما يرى، وهذا رد لقول الله – تعالى - {لا تُدرِكُهُ الأَبصَارُ} في الدنيا {وَهُوَ يَدرِكُ الأَبصَارَ} .
وإن قال: يرى كتابة القرآن، فقد رجع إلى الحق.
ويقال له: هل تدرك الأبصار إلا اللون؟ فإن قال: لا (2) . قيل له: وهل يكون اللون إلا في الجسم؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن القرآن جسم يرى)) (3) .
وقال أيضاً: ((قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
(1)((خلق أفعال العباد)) (ص125-138) .
(2)
أي: اعتراف بأن الأبصار لا تدرك إلا اللون.
(3)
((خلق أفعال العباد)) (ص115-116) .
رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، فذكر إبلاغ ما أنزل إليه، ثم ذكر فعل تبليغ الرسالة، فقال:((إن لم تفعل فما بلغت رسالته)) فسمى تبليغه الرسالة وتركه فعلاً.
فلا يمكن لأحد أن يقول على الرسول: ((إنه لم يفعل ما أمر به من الرسالة)) .
ثم روى عن ابن عباس، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – خطب الناس يوم النحر ثم رفع رأسه إلى السماء فقال:((اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟)) .
قال ابن عباس: والذي نفسي بيده إنها الوصية إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب. وذكر حديث أبي الأحوص، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((وأتتني رسالة من ربي، فضقت بها ذرعاً، ورأيت أن الناس سيكذبونني، فقيل لي: لتفعلن، أو لنفعلن بك)) (1) يعني: أنه إذا بلغ فقد فعل ما أمر به، وتلاوته ما أنزل عليه من تبليغه، وذلك فعله.
ومقصوده من الآية: أن تبليغ الرسالة، وعدمه، كلاهما فعل للعبد وهو مخلوق، والرسالة هي أمر المرسل، ونهيه وقوله، وهو الله – تعالى -، وذلك ليس بمخلوق.
وقوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} أي: تفعل التبليغ لعموم ما أنزله الله إليك، ولا تذر منه شيئاً، وهذا يدل على بطلان ما لم يبلغه من الأعمال، والاعتقادات وغيرها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بلغ كل ما أنزله الله عليه.
وقال الحافظ: ((احتج أحمد بهذه الآية على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه
(1) المرجع نفسه (75-76) .
لم يرد في شيء من القرآن، ولا من الأحاديث أنه مخلوق، ولا ما يدل على ذلك.
وذكر عن الحسن البصري أنه قال: ((لو كان ما يقول الجعد (1) حقا لبلغه النبي – صلى الله عليه وسلم)) (2) .
قوله: ((وقال الزهري: من الله – عز وجل – الرسالة، وعلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – البلاغ، وعلينا التسليم)) .
يعني: أن الرسالة من الله أمراً وقولاً له، وذلك مما يضاف إليه فعلاً ووصفاً، وعلى الرسول البلاغ، وهو: إيصال أمر الله وقوله إلى الناس، وإفهامهم إياه، وأمرهم بقبوله، وترغيبهم على ذلك، وتخويفهم من عذاب الله إن لم يقبلوا رسالاته ويمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه، وهذا عمل الرسول، وفعله الذي يثيبه الله عليه، أو يعاقبه على تركه.
((وعلينا التسليم)) أي: التسليم للرسالة بقبولها والانقياد لها، وعدم المعارضة، والعمل بفعل المأمور، واجتناب المحظور، وهذا فعل العباد الذي عليه يترتب الثواب، أو العقاب عند المخالفة.
قال الحافظ: ((أخرجه الحميدي في النوادر، ومن طريقه الخطيب (3) قال الحميدي: ((حدثنا سفيان، قال: قال رجل للزهري: يا أبا بكر، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من شق الجيوب)) ما معناه؟ فقال الزهري: من الله
العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم)) . وأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الأدب)) (4) ، ورواه ابن أبي عاصم في الزهد، ولفظه: ((أخبرنا دحيم، أخبرنا
(1) هو: الجعد بن درهم، أول من أنكر صفات الله – تعالى – ومحبته لعباده، فقتله خالد بن عبد الله القسري، أحد قواد بني أمية سنة (32) .
(2)
في ((الجامع)) .
(3)
في ((الجامع)) .
(4)
((الفتح)) (13/504) .
الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمه، عن أبي هريرة، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) قال الأوزاعي: قلت للزهري: يا أبا بكر، ما هذا الحديث؟ قال: فقال: من الله العلم، ومن الرسول البلاغ، وعلينا
التسليم)) (1) .
قوله: ((وقال: {لِيَعلَمَ أَن قَد أَبلَغُواْ رِسَالاتِ رَبّهِم} .
قال ابن الجوزي: فيه خمسة أقوال:
أحداها: ليعلم محمد – صلى الله عليه وسلم – أن جبريل قد بلغ إليه، قاله ابن جبير.
الثاني: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم – أن الرسل قبله قد بلغوا رسالات ربهم، وأن الله قد حفظهم، ودفع عنهم، قاله قتادة (2) .
الثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد.
الرابع: ليعلم الله – عز وجل – ذلك موجودا ظاهرا يجب به الثواب، فهو كقوله:{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} (3) .
الخامس: ليعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج (4) .
قلت: هذا بمعنى الأول، ومعناه: ليعلم محمد – صلى الله عليه وسلم – أن الملائكة التي تنزل بالوحي، أو يحرسون من ينزل به من استراق الشياطين، أنهم جاءوا بما أرسلوا به كاملاً.
(1)((كتاب الزهد)) لابن أبي عاصم (ص33-34) .
(2)
اختار هذا القول ابن جرير.
(3)
الآية 142 من سورة آل عمران.
(4)
((زاد المسير)) (8/386) .
والقول الثاني هو الأولى، والأقرب، ويليه الرابع، ولكن وجوب الثواب وجوب تفضل وكرم من الله – تعالى -، والقول الثالث داخل في معنى الآية، فإن الله – تعالى – يؤيد رسله بالآيات الدالة على صدقهم، حتى يتيقن قومهم صدقهم.
والمراد من الآية هو ما دلت عليه الآية الأولى، فإن الرسل لهم أفعالهم وأعمال يعملونها، وتطلب منهم، وتضاف إليهم على أنها أعمالهم حقيقة، ولا تشتبه أعمالهم وأفعالهم بأفعال الله وأوصافه تعالى.
قوله: ((وقال تعالى: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} .
المراد منها ظاهر مما سبق قبلها، كما أوضحناه.
قوله: ((وقال كعب بن مالك حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} .
قال الحافظ: تقدم هذا مسنداً في تفسير براءة في حديثه الطويل، وفي آخره. قال الله – تعالى:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لَاّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ومراد البخاري: تسمية ذلك عملاً (1) .
قال الكرماني: ((ومناسبته للترجمة: التفويض، والانقياد، والتسليم، ولا ينبغي لأحد أن يزكي عمله، بل يفوض إلى الله سبحانه وتعالى)(2) .
قال بعض المتأخرين: موضع احتجاج البخاري: ((وقال كعب حين تخلف)) ؛ لأن القول والتخلف فعل كعب)) وهذا غير صحيح؛ لأنه لا خصوص لقول
(1)((الفتح)) (13/504) .
(2)
((شرح الكرماني)) (25 /) .
كعب، بل مثل كل قول، وإنما احتج بقوله:{فَسَيَرَىَ اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤمِنُونُ} فهو نص في أن لهم عملاً يجازون عليه بالثواب أو العقاب.
قوله: ((وقالت عائشة: إذا أعجبك حسن عمل امرئ فقل: {فَسَيَرَىَ اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤمِنُونُ} ، ولا يستخفنك أحد)) .
مقصوده: أن العمل يضاف إلى العامل فعلاً له، مثل الصلاة، والقراءة، والصوم، والحفظ، وهو مخلوق؛ لأنه عمل مخلوق.
أما الأمر بالصلاة والصوم فهو من الله، وليس بمخلوق.
وكذا القراءة هي فعل القارئ وفعله مخلوق، وما يقرؤه ليس مخلوقاً، بل هو كلام الله تعالى.
ومعنى قولها: ((ولا يستخفنك أحد)) أي: لا تغتر بعمل أحد يظهر لك منه الخير والصلاح، فتثني وتمدح، فإنه عرضة للانتكاس، ما لم تره واقفاً عند حدود الشرع، متأسياً بالأبرار، متبعاً لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
وقد روى المؤلف هذا الأثر مبسوطاً في كتابه: ((خلق أفعال العباد)) ، حيث قال: ((حدثني يحيى بن بكير، حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة – رضي الله عنهما، وذكرت الذي كان من شأن عثمان بن عفان: ((وددت أني كنت نسياً منسياً، فوالله ما أحببت أن ينتهك من عثمان أمر قط إلا وقد انتهك مني مثله، حتى والله لو أحببت قتله، لقتلت، يا عبيد الله بن عدي، لا يغرنك أحد بعد الذي تعلم، فوالله ما احتقرت أعمال أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى تهجم النفر الذين طعنوا في عثمان، فقالوا قولاً لا يحسن مثله، وقرءوا قراءة لا يحسن مثلها، وصلوا صلاة لا يصلى مثلها، فلما تدبرت الصنيع إذ هم والله ما يقاربون أعمال أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم.
فإذا أعجبك حسن قول امرئ فقل: {اعمَلُواْ فَسَيَرَىَ اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} فلا يستخفنك أحد)) (1) .
يعني أن أولئك الخوارج كانوا يجتهدون اجتهاداً في العبادة ما اجتهده أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يرتكبون العظائم والجرائم، وهذا بمعنى قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – في وصفهم:((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصومه مع صومهم)) .
قال الحافظ: ((وأخرجه ابن أبي حاتم، من رواية يونس بن أبي يزيد، عن الزهري، أخبرني عروة، أن عائشة كانت تقول: ((احتقرت أعمال أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – حين نجم القراء الذين طعنوا على عثمان
…
فذكر نحوه، وفيه:((فوالله ما يقاربون عمل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا أعجبك حسن عمل امرئ منهم فقل: اعملوا)) الخ (2) .
والمراد بالقراء: الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان، وأنكروا عليه أشياء الحق فيها معه، وبعضها هو معذور فيها، فاقتحموا عليه بيته فقتلوه، وفتحوا بذلك على الأمة فتنة لا تزال الأمة تصلى نارها.
قوله: ((وقال معمر: {ذَلِكَ الكِتابُ} هذا القرآن، {هُدَى للِمُتَّقِينَ} بيان ودلالة، كقوله تعالى:{َ ذَلِكُم حُكمُ اللهِ} هذا حكم الله {لَا رَيبَ فِيهِ} لا شك.
{تِلكَ أَياتُ اللهِ} يعني: هذه أعلام القرآن، ومثله:{حَتَى إِذا كُنتُم فيِ الفُلكِ وَجَرَينَ بِهمِ} يعني: بكم)) .
معمر هو: ابن المثنى، أبو عبيدة، قال الحافظ: ((ومناسبة الآية لما تقدم،
(1)((خلق أفعال العباد)) (ص56) .
(2)
((الفتح)) (13/505) .
من جهة أن الهداية نوع من التبليغ)) (1) يعني:
الهداية المضافة إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – في مثل قوله تعالى: {وَإِنَكَ لَتَهدِي إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ} .
وأقول: يجوز أنه أراد: أن الهدى في القرآن، وما خالفه فهو ضلال.
وأن المتقين إذا حصل بينهم خلاف يرجعون إلى القرآن، فيحصلون على الهدى، وقد أوضح الله – تعالى – في القرآن أن أعمال العباد مخلوقة، فمن خالف ذلك ضل في هذه المسألة، كما أن هذا القرآن مما جاءنا به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبلغنا إياه.
ولهذا قال في ((تفسيره)) : ((بيان ودلالة)) أي: مبين للحق، ودال عليه، كما أنه مبين للباطل، ومحذر منه.
قوله: {ذَلِكَ الكِتابُ} ، يعني: هذا الكتاب الذي بين أيديكم تقرءونه، فيه الهدى لمن اتبعه واتقى، وبين أن الإشارة المستعملة للبعيد، قصد بها القريب، على خلاف المعتاد فيها.
وبين أن هذا يستعمل أحياناً، فمثل له بقوله:{ذَلِكُم حُكمُ الله ِ} أي: هذا حكم الله الذي حكم به بينكم.
ثم فسر قوله: {لَا رَيبَ فِيهِ} بأنه: لا شك فيه، أي: في هدايته ودلالته على الحق، فمن اهتدى به فهو المهتدي، ومن جانبه وترك ما دل عليه فهو الضال.
ثم ذكر ما هو نظير ذلك في الإشارة إلى البعيد، والمراد القريب، وهو قوله تعالى:{تِلكَ أَياتُ اللهِ} قال: يعني: هذه أعلام القرآن، أي: دلائله وبيناته الدالة على الصراط المستقيم، وهي الفارقة بين الحق والباطل، ثم قال:
(1)((الفتح)) (13/506) .
((ومثله)) أي: ومثل هذا الاستعمال بالإشارة إلى القريب بما هو للبعيد.
قوله تعالى: {حَتَى إِذا كُنتُم فيِ الفُلكِ وَجَرَينَ بِهمِ} يعني: بكم، أي: أن الضمير الذي جعل للغائب، قصد به في هذه الآية الحاضر، فيكون مثل الإشارة للقريب بما هو موضوع للبعيد، وهذا سائغ في اللغة.
وعلماء البلاغة يقولون: إذا خرج اللفظ عما وضع له، فمقصود به نكتة بيانية، فالإشارة التي للبعيد إذا استعملت للقريب، دل على علو مكانة المشار إليه ورفعته.
قوله: ((وقال أنس: بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – خاله حراما إلى قوم. وقال أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله – صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يحدثهم)) .
هذا طرف من حديث أخرجه في عدة أماكن من كتابه الصحيح، منها في الجهاد في أبواب متعددة، وفي أحدها قال:((بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – أقواما من بني سليم إلى بني عامر، في سبعين، فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإلا كنتم مني قريبا، فتقدم فأمنوه، فبينما يحدثهم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلاً أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل – عليه السلام – النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم، وأرضاهم، فكنا نقرأ: بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا، وأرضانا، ثم نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحاً، على رعل، وذكوان، وبني لحيان، وبني عصية، الذين عصوا الله ورسوله)) (1) .
(1) انظر ((البخاري)) (4/22) .
والمقصود أن تبليغ الرسالة عمل الرسول، ونقل قول المرسل إلى المرسل إليه، فلذلك قال:((أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يحدثهم)) .
فحديثه إياهم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو إبلاغهم الرسالة، وهو ما فيه أمره ونهيه مما هو شرع لله الذي كلف العباد به.
والله – تعالى – كلف رسله إبلاغ قومهم، وعلى ذلك يجزيهم ما يستحقون من الأجر، والجزاء يكون على عمل العامل.
155 – قال: ((حدثنا الفضل بن يعقوب، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا المعتمر بن سليمان، حدثنا سعيد بن عبيد الله الثقفي، حدثنا بكر بن عبد الله المزني، وزياد بن جبير بن حية، عن جبير بن حية، قال المغيرة: أخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – عن رسالة ربنا، أنه من قتل منا صار إلى الجنة)) .
هذا قطعة من حديث طويل يخاطب به المغيرة بن شعبه – رضي الله عنه – ترجمان عامل كسرى، لما سأله: ما أنتم؟ قال: ((نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك، إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين – تعالى ذكره وجلت عظمته – إلينا نبياً من أنفسنا، نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا، رسول ربنا أن نقاتلكم، حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة، في نعيم لم ير مثلها، ومن بقي منا ملك رقابكم)) (1) .
والمقصود قوله: ((أخبرنا نبينا عن رسالة ربنا)) فهذا من الإبلاغ الذي
(1) انظر ((الصحيح)) (4/118) باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب.
أبلغهم، وكل ما أخبرهم به من أمر، أو نهي، أو وعد، أو وعيد، أو قصص، عن الأنبياء وأممهم، أو غيرهم، وغير ذلك، فإنه من إبلاغ الرسالة التي أرسل بها.
ودل قوله: ((عن رسالة ربنا)) أن الرسالة تكون بالكلام الذي يخاطب به المرسل الرسول، وإبلاغ المرسل إليهم ذلك الكلام هو إبلاغ الرسالة، وإبلاغ الرسالة فعل الرسول وقوله وعمله، وهو غير الرسالة، وهو مخلوق.
فالرسالة قول المرسل، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وإخباره عن جزائه وغير ذلك، وهذا ليس فعلاً للرسول، بل كلام الله بأمره ونهيه.
*****
156-
قال: ((حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: من حدثك أن محمداً – صلى الله عليه وسلم – كتم شيئاً.
- وقال محمد: حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم – كتم شيئاً من الوحي، فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول:
هذا الحديث تقدم بعضه في باب قوله تعالى: {عَالِمُ الغَيبِ} .
وقولها: ((فلا تصدقه)) يعني: أن من زعم ذلك فهو كاذب، ولا يكفي أنه لا يصدق، بل لا يصح إسلامه، ويجب تعريفه أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بلغ رسالة ربه فإن اعترف بذلك وآمن به وإلا قتل مرتداً.
ومقصودها – رضي الله عنها: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بلغ جميع ما يلزم الأمة في دينها، وما يصلحها وينفعها، ولم يترك شيئاً مما ينبغي العمل به أو علمه
واعتقاده إلا وأخبر به وبلغه كما أمر.
فكل ما لم يخبر به أو يأمر به أمته فليس من رسالته، وهو بدعة منكرة.
فيجب الوقوف مع ما جاء به من الكتاب والسنة، ولا بد أنه صلى الله عليه وسلم امتثل ما أمره الله به من إبلاغ الرسالة قولاً وعملاً، فبلغها على الوجه الأتم الأكمل.
وسبق أن إبلاغ الرسالة من فعله وقوله وعمله، وفعله وعمله مخلوق، فلا يلتبس ذلك بقول الله وكلامه الذي هو الرسالة، فهذا صفة الله، والإبلاغ فعل الرسول، وهذا التفريق هو ما قصده الإمام البخاري – رحمه الله.
*****
157-
قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، قال: قال عبد الله: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله تعالى؟ قال: أن تدعو لله ندا وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزني حليلة جارك.
فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الآية.
تقدم الكلام على هذا الحديث، ومقصوده هنا أن ما بلغه الرسول – صلى الله عليه وسلم – أمته، سواء كان من قوله الذي هو سنته، أو مما أنزله الله عليه قولاً لله – تعالى -، فإن ذلك كله من تبليغ الرسالة، فحين أخبر السائل بما هو أعظم الذنوب، أنزل الله عليه تصديق ما قاله من كلام الله الذي تعبد عباده بتلاوته، مع أنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما عن الوحي الذي يوحيه الله إليه.
قال الحافظ (1) : ((مناسبة هذا الحديث للترجمة أن التبليغ على نوعين:
أحدهما – وهو الأصل -: أن يبلغه بعينه، وهو خاص بما يتعبد بتلاوته، وهو القرآن.
وثانيهما: أن يبلغ ما يستنبط من أصول ما تقدم إنزاله، فينزل عليه موافقته فيما استنبطه، إما بنصه، وإما بما يدل على موافقته بطريق الأولى، كهذه الآية، فإنها اشتملت على الوعيد الشديد في حق من أشرك، وهي مطابقة للنص، وفي حق من قتل النفس بغير حق وهي مطابقة للحديث بطريق الأولى، لأن القتل بغير حق وإن كان عظيماً، لكن قتل الولد أشد قبحاً من قتل من ليس بولد القاتل، وكذا القول في الزناة، فإن الزنا بحليلة الجار أعظم قبحاً من مطلق الزنا.
ويحتمل أن يكون نزول هذه الآية سابقا على إخباره صلى الله عليه وسلم بما أخبر به، لكن لم يسمعها الصحابي إلا بعد ذلك.
ويحتمل أن يكون كل من الأمور الثلاثة (2) نزل تعظيم الإثم فيه سابقاً، ولكن اختصت هذه الآية بمجموع الثلاثة في سياق واحد مع الاقتصار عليها، فيكون المراد بالتصديق: الموافقة في الاقتصار عليها.
فعلى هذا فمطابقة الحديث للترجمة ظاهرة جداً، والله أعلم (3)
((واستدل أبو المظفر ابن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجوهر وعرض، وقالوا: الجسم: ما اجتمع من الافتراق، والجوهر: ما حمل العرض، والعرض: ما لا يقوم
(1) أصل الكلام للكرماني: انظر شرحه (25/224) ، ولكن الحافظ تصرف فيه.
(2)
يعني المذكور في الحديث، وهي الشرك، وقتل الولد خشية الفقر، والزنا بحليلة الجار.
(3)
((الفتح)) (13/507) .
بنفسه، وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا الأخبار في خلق الروح قبل الجسد، والعقل قبل الخلق (1) ، واعتمدوا على حدسهم، وما يؤدي إليه نظرهم، ثم يعرضون عليه النصوص، فما وافقه قبلوه، وما خالفه ردوه، ثم ساق الآيات ونظائرها مما فيه الأمر بالتبليغ.
قال: وكان مما أمر بتبليغه التوحيد، بل هو أصل ما أمر به، فلم يترك شيئاً من أمور الدين أصوله، وقواعده، وشرائعه إلا بلغه، ثم لم يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه.
فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم، وسلكوا غير سبيلهم، بطريق محدث مخترع، لم يكن عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه – رضي الله عنهم.
ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن، والقدح، ونسبتهم إلى قلة المعرفة، واشتباه الطرق.
فالحذر من الاشتغال بكلامهم، والاكتراث بمقالاتهم، فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا وتجد لخصومهم عليه كلاماً يوازيه، أو يقاربه، فكل بكل مقابل، وبعض ببعض معارض، وحسبك من قبيح ما يلزم من طريقهم أنا إذا جربنا على ماقالوه، وألزمنا الناس بما ذكروه، لزم من ذلك تكفير العوام جميعاً؛ لأنهم لا يعرفون إلا الاتباع المجرد.
ولو عرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرهم، فضلاً عن أن يصير منهم صاحب نظر.
(1) لم يصح بذلك خبر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم، بل الأخبار تدل على نقيضه.
وإنما غاية توحيدهم: التزام ما وجدوا عليه أئمتهم في عقائد الدين والعض عليها بالنواجذ، والمواظبة على وظائف العبادات، وملازمة الأذكار، بقلوب سليمة طاهرة عن الشبه والشكوك.
فتراهم لا يحيدون عما اعتقدوه، ولو قطعوا إرباً إرباً، فهنيئاً لهم هذا اليقين، وطوبى لهم هذه السلامة.
فإذا كفر هؤلاء، وهم السواد الأعظم، وجمهور الأمة، فما هذا إلا طي بساط الإسلام، وهدم منار الدين، والله المستعان)) (1) .
وتقدم بعض ما يتعلق بذلك في أول الكتاب.
*****
قال: ((باب قول الله تعالى: {قُل فَأتُواْ بِالتَورَاةِ فَاتَلُوهَا} .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعطي أهل التوراة، التوراة، فعملوا بها، وأعطي أهل الإنجيل، الإنجيل، فعملوا به، وأعطيتم القرآن، فعملتم به)) .
قال الحافظ: ((مراده بهذه الترجمة: أن يبين أن المراد بالتلاوة: القراءة، وقد فسرت التلاوة بالعمل، والعمل من فعل العامل)) (2) .
أقول: مراده: بيان أن التلاوة والقراءة فعل العباد، وأن المتلو غير التلاوة، والمقروء غير القراءة، كما سبق بيانه.
وهو ينوع الأدلة على ذلك ويكررها؛ ليتضح الأمر، ويتبين الحق؛ لأنه رحمه الله قد ابتلي بمن يقول: التلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء،
(1)((الفتح)) (13/507) .
(2)
((الفتح)) (13/508) .
وذلك غير مخلوق، ورمي بأنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد صرح بأن ذلك كذب عليه.
قال شيخ الإسلام: (إذا قرأ الناس كلام الله، فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به، وإذا قرأه المبلغ لم يخرج بذلك عن كونه كلام الله، فإن الكلام كلام من قاله مبتدئاً، أمراً يأمر به، أو خبراً يخبره، وليس هو كلام المبلغ له عن غيره، إذ ليس على الرسول إلا البلاغ المبين.
وإذا قرأه المبلغ فقد يشار إليه من حيث هو كلام الله، فيقال: هذا كلام الله، مع قطع النظر عما بلغه به العباد من صفاتهم، وقد يشار إلى نفس صفة العبد، كحركته، وصوته، وقد يشار إليهما.
فالمشار إليه الأول غير مخلوق؛ لأنه كلام الله، والمشار إليه الثاني مخلوق، لأنه صفة العبد، والمشار إليه الثالث ومنه ما هو مخلوق، ومنه ما ليس بمخلوق.
وما يوجد في كلام الآدميين من نظير هذا، هو نظير صفة العبد، لا نظير صفة الرب.
وإذا قال قائل: القاف في قوله تعالى: {وَأقِم الصَّلاةَ لِذِكرِي} كالقاف في قول الشاعر ((قفا نبك من ذكرى حبيب؟)) .
قيل: ما تكلم الله به، وسمع منه، لا يماثل صفة المخلوقين.
ولكن إذا بلغنا كلام الله، فإنما نبلغه بصفاتنا، وصفاتنا مخلوقة، والمخلوق يماثل المخلوق.
وكلام المتكلم في نفسه واحد، فإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم به، فإذا أنشد منشد قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه، مع أن أصوات المنشدين له تختلف، وتلك الأصوات ليست صوت لبيد.
وكذلك من روى حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – بلفظه، كقوله:((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) كان هذا كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لفظه ومعناه، ويقال لمن رواه: أدى الحديث بلفظه، وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول.
فالقرآن أولى أن يكون كلام الله لفظه ومعناه، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم.
ولهذا قال الإمام أحمد، وغيره من أئمة السنة: من قال: اللفظ بالقرآن – أو لفظي بالقرآن – مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق، فهو مبتدع؛ لأن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظاً، وذلك فعل العبد، ويراد به القول الذي يلفظ به اللافظ، وذلك كلام الله، لا كلام القارئ، فمن قال: إنه مخلوق فقد قال: إن الله لم يتكلم بهذا القرآن، وإن هذا الذي يقرأه المسلمون ليس هو كلام الله.
ومعلوم أن هذا مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول.
وأما صوت العبد فهو مخلوق، وقد صرح أحمد وغيره أن الصوت المسموع صوت العبد، ولم يقل قط: إن من قال: صوتي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، وإنما قال: من قال: لفظي بالقرآن، والفرق بينهما واضح.
والفرق بين لفظ الكلام وصوت مبلغه فرق واضح.
فكل من بلغ كلام غيره بلفظ ذلك الغير، فإنما بلغ لفظ ذلك الغير لا لفظ نفسه، وهو إنما بلغه بصوت نفسه، لا بصوت ذلك الغير.
واللفظ، والقراءة، والتلاوة، والكتابة، ونحو ذلك، لما كان يراد به المصدر الذي هو حركات العباد، وما يحدث عنها من أصواتهم، وشكل المداد، ويراد به نفس الكلام الذي يقرأه التالي، ويتلوه، ويلفظ به، ويكتبه، منع أحمد وغيره من إطلاق النفي والإثبات الذي يقتضي جعل صفات الله مخلوقة، أو جعل
صفات العباد ومدادهم غير مخلوق)) (1) .
ومما يدل على أن التلاوة فعل التالي، وأنها غير المتلو: قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {91} وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} (2)، أي: وأمرت أن أتلو القرآن.
وقوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} (3) وغير ذلك من الآيات، فقد أمر الله عبده ورسوله بالتلاوة، كما أمره بالعبادة، فدل ذلك على أن التلاوة من العبادة التي يفعلها العبد، وتضاف إليه فعلاً له، ويثاب عليها، والأدلة على أن التلاوة غير المتلو كثيرة، قد ذكر المؤلف – رحمه الله – جملة كبيرة منها في كتابه:((خلق أفعال العباد)) بالإضافة إلى ما ذكره في هذا الكتاب.
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((زينوا القرآن بأصواتكم (4) وتقدم.
وحديث البراء عن عازب: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً، أو قراءة منه)) .
فالقارئ يكون حسن الصوت وقبيح الصوت؛ لأنه فعله، وقد جعل الله اختلاف ألسنة الناس وألوانهم من الآيات الدالة عليه – تعالى – وعلى وجوب عبادته وحده، ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز الحلف بكلام أحد من الخلق؛ لأنه لا يجوز الحلف بالمخلوق، وكلامهم مخلوق.
قال البخاري – رحمه الله تعالى -: ((وليس لأحد أن يحلف بالمخلوقين، ولا بأعمالهم ولا بكلامهم، ولا كلام الكفار والمنافقين، ولا بقول إبليس.
(1)((مجموع الفتاوى)) (12/71-75) ملخصاً.
(2)
الآيتان 91، 92 من سورة النمل.
(3)
الآية 27 من سورة الكهف.
(4)
رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص159-160) .
فمن حلف بقول المجوس أو نحوهم لم يلزمه حنث.
وإنما يذكر عن ابن مسعود، وإبراهيم، وعن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلاً:((من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها كفارة)) فأما أصوات المخلوقين فليس فيها كفارة)) (1) .
وقال: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما: كان في خاتم رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((محمد رسول الله)) .
وقد كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – كتاباً فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وقرأه ترجمان قيصر، على قيصر وأصحابه.
ولا نشك في قراءة الكفار، وأهل الكتاب، أنها أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله العزيز المنان، ليس بمخلوق، فمن حلف بأصوات قيصر، وبنداء المشركين الذين يقرون بالله، لم يكن عليه يمين دون الحلف بالله؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم:((لا تحلفوا بغير الله)) .
وليس لأحد أن يحلف بالخواتيم، والدراهم البيض (2) ، وألواح الصبيان التي يكتبونها، ثم يمحونها مرة بعد مرة، وإن حلف، فلا يمين عليه؛ لقوله عز وجل:{فَلَا تَجْعلُواْ للهِ أَندَاداً} (3) .
وقال: ((فإن احتج محتج فقال: قد روي ((إن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)) . قيل له: لو صح هذا الخبر لم يكن لك فيه حجة؛ لأنه قال: ((كلام الله)) ، ولم يقل: قول العباد المؤمنين والمنافقين، وأهل الكتاب، الذين يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا واضح بيَّن عند من كان عنده أدنى معرفة، أن القرآن غير المقروء.
(1)((خلق أفعال العباد)) (ص196) عقائد السلف.
(2)
يعني: التي كتب عليها اسم الله أو شيء من القرآن.
(3)
((خلق أفعال العباد)) (ص197) عقائد السلف.
وليس لكلام الفجرة وغيرهم فضل على كلام غيرهم، كفضل الخالق على المخلوق، وتبارك ربنا وتعالى وعز وجل عن صفة المخلوقين.
وإن قال قائل: فقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه)) .
قيل له: أليس القرآن خرج منه، فخروجه منه ليس كخروجه منك، إن كنت تفهم، مع أن هذا الخبر لا يصح؛ لإرساله وانقطاعه.
فإن قال: فإن لم يكن الذي يتكلم به العبد قرآناً، لِمَ تُجْزِهِ صلاته؟
قيل له: قال النبي – صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة إلا بقراءة)) .
وقال أبو الدرداء: سئل النبي – صلى الله عليه وسلم: أفي كل صلاة قراءة؟
فقال: ((نعم)) .
والقراءة هي التلاوة، والتلاوة غير المتلو، وقد بينه أبو هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((اقرءوا إن شئتم، يقول العبد: ((الحمد لله رب العالمين)) فيقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد:((الرحمن الرحيم)) يقول الله – عز وجل: ((أثنى عليّ عبدي)) ، يقول العبد:((مالك يوم الدين)) يقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد:((إياك نعبد وإياك نستعين)) ، يقول الله: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل)) .
فبيَّن أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت)) .
فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الصلاة أطول من بعض، وأخف، وأن بعضهم يزيد على بعض في القراءة، وبعضهم ينقص، وليس في القرآن زيادة ولا نقصان، وأما التلاوة فإنهم يتفاضلون في الكثرة والقلة، والزيادة
والنقصان، وقد يقال: فلان حسن القراءة، أو رديء القراءة، ولا يقال حسن القرآن، أو رديء القرآن، وإنما نسب إلى العباد القراءة، لا القرآن؛ لأن القرآن كلام الله – عز وجل، والقراءة فعل العبد، ولا يخفي هذا القدر إلا على من أعمى الله قلبه (1) .
قال: ((وأما قوله: ((فهل يرجع إلى الله إلا باللفظ الذي تلفظ به)) (2) فإن كان الذي تلفظ به قرآناً فهو كلام الله؟ قيل له: ما قولك: تلفظ به؟ فإن اللفظ غير الذي تلفظ به؛ لأنك تلفظت بالله، وليس الله هو لفظك، وكذلك تلفظ بصفة الله، تقول: الله، وليس قولك: الله، هو الصفة، وإنما تصف الموصوف، فأنت الواصف، والله الموصوف بكلامه، كالواصف الذي يصف بكلام غير الله، وأما الموصوف بصفته وكلامه فهو الله)) (3) .
يعني: أن الذي يقرأ كلام الله، فما يلفظ به هو كلام الله، وليس هو كلام القارئ، وإنما للقارئ حركة لسانه وشفتيه وصوته، وذلك فعله.
وإذا قرأ صفة الله في القرآن التي وصف الله بها نفسه، فليس القارئ هو الواصف لله – تعالى – وإنما يتلفظ بصفة الله التي قالها الله – تعالى – واصفاً بها نفسه.
((قال الضحاك: لم يحرم الله على بني إسرائيل طعاماً، وإنما حرموه على أنفسهم اتباعاً لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه لله – عز وجل – فكذبهم الله – تعالى – فقال:{قُل فَأتُواْ بِالتَورَاةِ} أي: قل يا محمد لهم: ائتوا بالتوراة، التي فيها التحريم والتحليل {فَاتَلُوهَا} أي: فاقرءوها؛ حتى يتبين
(1)((خلق أفعال العباد)) (ص199-200) .
(2)
يعني المحتج بقول صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه)) ، والعبد لا يرجع إلى الله إلا بعلمه، فيكون لفظه بالقرآن عمله.
(3)
((خلق أفعال العباد)) (ص204) .
ما قلتم، {إِن كُنتُم صَادِقينَ} ، فيما ادعيتم، فلم يأتوا بها؛ خوفاً من الفضيحة)) (1)
فالتلاوة في هذه الآية هي القراءة، وهي فعل العبد وعمله، والمتلو كتاب الله وكلامه.
قوله: ((وقول النبي – صلى الله عليه وسلم: ((أعطي أهل التوراة التوراة)) إلى آخره، معنى ((أعطي)) هنا: أنزل عليهم، أي: أنزل الله التوراة على موسى، فعمل بها قومه، باتباعها وتلاوتها للتفهم والتعبد.
وأنزل الله الإنجيل على عيسى، فعمل به من شاء الله أن يعمل من النصارى بأن آمنوا به واتبعوه، وقرؤوه للفهم والعبادة ومثل ذلك أهل القرآن، ففي ذلك دليل على أن التلاوة من عمل العباد، وكسبهم، وأنها غير المتلو، كما تقدم إيضاح ذلك.
قوله: ((وقال أبو رزين: يتلونه حق تلاوته: يعملون به حق عمله)) .
أبو رزين هو: مسعود بن مالك الأسدي الكوفي، من كبار التابعين.
ومعنى ذلك أن التلاوة، يراد بها القراءة كما سبق، ويراد بها الاتباع والعمل.
قال الراغب: ((التلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة، تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي، وترغيب وترهيب وهو أخص من القراءة، فكل تلاوة قراءة، وليس كل قراءة تلاوة)) (2) .
(1)((تفسير الخازن)) (1/382) .
(2)
((المفردات)) (ص75) .
وقال الأزهري: ((قال الليث: يقال: تلا يتلو، يعني: قرأ، قراءة، وتلا: إذا تبع، فهو تال، أي: تابع)) (1) .
((وقال أبو زيد في قوله – عز وجل: {يَتلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتهِ} قال: يتبعونه حق اتباعه.
وقال مجاهد: يعملون به حق عمله.
وقال ابن عباس: يتبعونه حق اتباعه، فيعملون به حق عمله.
وقال أبو عبيدة في قوله: {وَاتَّبعُواْ مَا تَتلُواْ الشَّياطِينُ} قال: ما تتكلم به، كقولك: يتلو فلان كتاب الله، أي: يقرؤه، ويتكلم به.
وقال عطاء: {مَا تَتلُواْ الشَّياطِينُ} : ما تحدث، وما تقص)) (2) .
فتبين بهذا أن التلاوة تطلق على القراءة، وعلى الاتباع، وإذا قيل: تلاه حق تلاوته، يكون المعنى: عمل به حق عمله، يعني: العمل الكامل والاتباع في كل ما جاء به.
قوله: ((يقال: يتُلىَ: يُقرأ)) هذا تفسير لقوله تعالى: {أَنَّا أَنزَلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ يُتلَىَ عَلَيهِم} أي: يقرأ عليهم.
قال ابن جرير: {يُتلَىَ عَلَيهِم} يقرأ عليهم، وذكر بسنده إلى يحيى بن جعدة أن ناساً من المسلمين، أتوا نبي الله – صلى الله عليه وسلم – بكتب قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلما نظر فيها ألقاها، ثم قال:((كفى بها حماقة قوم – أو ضلالة قوم – أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم، إلى قوم غيرهم)) فنزلت: {أَوَلَم يَكفِهم أَنَّا أَنزَلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ يُتلَىَ عَلَيهِم
(1)((تهذيب اللغة)) (14/316) .
(2)
المصدر المذكور (14/319) .
إِنَ فيِ ذَلِكَ لَرَحمَةً وَذِكرَى لِقَومٍ يُؤمِنُونَ} (1) .
ومثل ذلك قوله تعالى: {وَيَستَفتُونَكَ فِي النِسَاءِ قُلِ اللهُ يُفتِيكُم فِيهِنَّ وَمَا يُتلَىَ عَلَيكُم فِي الكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاءِ} ، والذي يتلى عليهم هو آيات الفرائض من المواريث وغيرها.
قال الحافظ: ((هذا الذي ذكر البخاري هو كلام أبي عبيدة في كتاب مجاز القرآن: {يُتلَىَ عَلَيهِم} يقرأ عليهم. وقوله: {وَمَا كُنتَ تَتلُواْ مِن قَبلِهِ مِن كِتَابٍ} ما كنت تقرأ كتاباً قبل القرآن)) (2) .
أقول: الآية التي ذكرها البخاري لم يتكلم عليها أبو عبيدة في كتابه مجاز القرآن، وهذه التي ذكرها غير تلك، فكيف يقال: إن ما ذكره البخاري هو كلام أبي عبيدة؟ وإن كان نظيراً له فليس هو (3) .
قوله: ((حسن التلاوة: حسن القراءة للقرآن)) .
يعني: أن التلاوة فعل العباد، وليس هي المتلو، ولهذا يوصف التالي بأنه حسن التلاوة، أو سيئها، ولا يجوز أن يوصف القرآن بذلك.
قال البخاري – رحمه الله: ((القراءة لا تكون إلا من الناس، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه)) .
وسئل النبي – صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت)) ثم ذكر ماتقدم قريباً (4) .
(1)((تفسير الطبري)) (21/7)، وقال السيوطي: أخرجه الدارمي، وأبو داود في المراسيل، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والإسماعيلي: انظر ((الدر المنثور)) (6/471) .
(2)
((الفتح)) (13/509) .
(3)
انظر مجاز القرآن (2/116) .
(4)
انظر ((خلق أفعال العباد)) (ص166) تحقيق بدر.
قوله: ((لا يمسه)) لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلا الموقن؛ لقوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1)
يعني: أن الطهارة المذكورة في قوله - تعالى - {لَاّ يَمَسُهُ إِلا المُطَهَّرُونَ} هي الطهارة من الشرك، والكفر، والغفلة والإعراض، ويتبع ذلك الذنوب.
قال الفراء: ((ويقال: لا يمسه: لا يجد طعمه ونفعه إلا المطهرون، من آمن به)) (2) .
((وهذا من باب الاعتبار والقياس؛ لأنه إذا كان ورق المصحف لا يمسسه إلا المطهرون، فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة.
ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب)) فإذا كان الملك لا يدخل البيت الذي فيه كلب، فكذلك المعاني التي تحبها الملائكة لا تدخل القلب الذي فيه أخلاق الكلاب)) (3) .
قال الحافظ: ((حاصل هذا التفسير، أن معنى: لا يمس القرآن: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، وأيقن بأنه من عند الله، فهو المطهر من الكفر، ولا يحمله بحقه إلا المطهر من الجهل والشك، لا الغافل عنه الذي لا يعمل [به] فيكون كالحمار الذي يحمل ما لا يدريه)) (4) .
((وعلى القول بأن المراد بقوله تعالى: {لَاّ يَمَسُهُ إِلا المُطَهَّرُونَ}
(1) الآية 5 من سورة الجمعة.
(2)
((معاني القرآن)) (3/130) .
(3)
((مجموع الفتاوى)) (5/551-552) بتصرف.
(4)
((الفتح)) (13/509) .
هو اللوح المحفوظ، أو المصحف، فكما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر، فكذلك معاني القرآن لا يذوقها إلا القلب الطاهر، وهو قلب المتقي. وهذا قول طائفة من السلف)) (1) .
((والصحيح أنه يجب الوضوء لمس المصحف، وهو مذهب الأئمة الأربعة؛ لما في الكتاب الذي كتبه النبي – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن حزم، وفيه ((وأن لا يمس القرآن إلا طاهر)) . وقال الإمام أحمد: لا شك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كتبه له. وهذا هو المعروف عن الصحابة، سعد، وسلمان، وابن عمر)) (2) .
واختلف أقوال السلف في المراد بالكتاب، وبالمطهرين: فقيل: الكتاب هو: ما بأيدي الملائكة، كما في قوله تعالى:{فَمَن شَاء ذَكَرَهُ {12} فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ {13} مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ {14} بِأَيْدِي سَفَرَةٍ {15} كِرَامٍ بَرَرَةٍ} ، وهذا اختيار الإمام مالك، فعلى هذا يكون المراد بالمطهرين: الملائكة.
وقيل: المراد بالكتاب: المصحف الذي كتب فيه القرآن. وقال القرطبي: وهو الأظهر، واستدل بما في كتابه – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن حزم، وبحديث ابن عمر: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (لا تمس القرآن إلى وأنت طاهر)) وبقول أخت عمر له، لما دعا بالصحيفة قبل أن يسلم:((لا يمسه إلا المطهرون)) (3) .
وقال ابن كثير: ((وقال آخرون: {لَاّ يَمَسُهُ إِلا المُطَهَّرُونَ} من الجنابة والحدث، فلفظ الآية خبر، ومعناها الطلب)) .
والمراد بالقرآن ها هنا: المصحف، كما روى مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو)) . واحتجوا
(1)((مجموع الفتاوى)) (13/242) .
(2)
المرجع قبله (21/288، 266) ببعض التصرف.
(3)
انظر تفسير القرطبي (17/225- 226) .
بما في كتاب عمرو بن حزم، وبما روى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري، قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:((ولا يمسن القرآن إلا طاهر)) . وهذه وجادة جيدة، ومثل هذا ينبغي الأخذ به.
وقد أسنده الدارقطني، عن عمرو بن حزم، وعبد الله بن عمر، وعثمان بن أبي العاص، وفي إسناد كل منها نظر)) (1) .
((قال ابن عبد البر: كتاب ابن حزم روي مسنداً من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف عند أهل العلم، معرفة يستغنى بها في شهرتها عن الإسناد)) (2) .
قوله: ((وسمى النبي – صلى الله عليه وسلم: الإسلام والإيمان والصلاة: عملاً)) .
قال الحافظ: ((أما تسمية الإسلام عملاً، فاستنبطه من حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، وقال عن الإسلام: أن تسلم وجهك لله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)) الحديث.
فسمى الإيمان، والإسلام، والصلاة بقراءتها، وما فيها من حركات الركوع والسجود فعلاً)) (3) .
قلت: الظاهر أن مراده: ما ذكره في ((خلق أفعال العباد)) ، حيث قال: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سئل النبي – صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟
(1)((تفسير ابن كثير)) (8/22) ملخصاً.
(2)
انظر ((الموطأ)) (1/199) .
(3)
((الفتح)) (13/509) .
قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) ، ورواه في ((الصحيح)) من حديث أبي ذر، في العتق، في باب أي الرقاب أفضل، ورواه في كتاب الإيمان، باب من قال: إن الإيمان هو العمل؛ لقوله تعالى: {وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ} وفي أماكن أخر، وسيأتي في آخر الكتاب.
وقال بعد ما ذكره في ((خلق أفعال العباد)) : ((فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – الإيمان والتصديق، والجهاد، والخير، عملاً)) (1) .
وهذا واضح جداً، ولم يختلف فيه أهل السنة، وهو دليل على أن القراءة ليست هي المقروء؛ لأنها من عمل القارئ الذين يؤجر عليه.
وإذا ثبت أن الإيمان من عمل المؤمن، فمثله الإسلام؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – جعل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.
وأما كون الصلاة عملاً فهو ظاهر جداً.
قوله: ((وقال أبو هريرة: قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لبلال: ((أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام؟ قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر إلا صليت) .
ذكر هذا الحديث بسنده موصولاً في مناقب بلال، ووجه الدلالة منه: أنه سمى الصلاة عملاً، مع ما فيها من القراءة والتكبير، والتسبيح والتحميد، وغير ذلك.
قوله: ((وسئل: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد، ثم حج مبرور)) .
تقدم قريباً، والاستدلال به واضح، فإنه جعل الإيمان والجهاد والحج عملاً.
*****
(1) انظر ((خلق أفعال العباد)) (ص48-53) .
158-
قال: ((حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يونس، عن الزهري، أخبرني سالم، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة، التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل، الإنجيل، فعملوا به حتى صليت العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملا، وأكثر أجرا؟ قال الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. فقال: فهو فضلي أوتيه من أشاء)) .
تقدم هذا الحديث في باب المشيئة والإرادة، ومعنى قوله:((إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأمم)) أن بقاء هذه الأمة في الدنيا كنسبة ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بالنسبة لليوم.
فالمعنى: أن مدة هذه الأمة بالنسبة إلى من سبقها من الأمم قليلة.
وإذا كان مدة مجموع الأمة قليلة، لزم أن يكون عمر كل فرد منها قصيراً، وكأن الحديث قصد به الإخبار بقلة بقاء هذه الأمة في الدنيا، وبكثرة أجرها، وفضلها، ولذلك ضرب المثل لها ولأهل الكتاب؛ لأن اليهود والنصارى، وهذه الأمة كلهم أعطوا كتبا جاءتهم من الله ليعملوا بها، ورواية الترمذي توضح ذلك، ونصها:
((إنما أجلكم فيما خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغارب الشمس، وإنما مثلكم، ومثل اليهود والنصارى، كرجل استعمل عمالاً، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط، فعملت اليهود على قيراط قيراط.
ثم أنتم تعملون من صلاة العصر إلى مغارب الشمس على قيراطين قيراطين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر أعمالاً، وأقل عطاء؟
قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإنه فضلي أوتيه من أشاء)) هذا حديث حسن صحيح)) (1) .
ففي هذا أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن شيئين: أحدهما: مدة بقاء هذه الأمة في الدنيا بالنسبة لمن سبقها من الأمم، وأنه مثل نسبة ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بالنسبة لليوم الكامل.
والثاني: مثل هذه الأمة، ومثل اليهود والنصارى، فعلى هذا لا يكون قوله:((أوتي أهل التوراة)) إلى آخره شرح وتفصيل لما تقدم، كما قاله الحافظ، وإنما هو كلام مستأنف، أريد به بيان فضل هذه الأمة على اليهود والنصارى، وكثرة أجورها.
قوله: ((أوتي أهل التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا)) كأنه أريد منهم أن يعلموا جميع النهار، ولهذا قال:((ثم عجزوا)) أي: عن العمل بقية النهار.
قوله: ((فأعطوا قيراطاً قيراطاً)) أي: كل فرد منهم أعطي قيراطاً.
قوله: ((ثم أوتي أهل الإنجيل)) إلى آخره، مثل سابقه.
((ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس)) أي: أن هذه الأمة أكملت العمل الذي طلب من اليهود والنصارى فعجزوا عن أدائه، فلذلك أعطوا ضعفي ما أعطي من قبلهم من الأجر.
ويفهم منه أن هذه الأمة يستمر عملها بالقرآن إلى قيام الساعة؛ لأنه
(1)((جامع الترمذي)) (5/153) .
قال: ((فعملتم به حتى غربت الشمس)) ، كما يدل على حسد اليهود والنصارى للمسلمين على ما هم عليه من الحق، ويدل على عظم فضل الله على هذه الأمة.
والمقصود منه في هذا الباب قوله: ((أوتي أهل التوراة) إلى آخره.
فإنه يدل على أن العمل فعل العباد، ومن ذلك قراءة الكتاب الذي أوتوه، وتلاوته، وأن ما يعطيه الله العبد غير عمله، بل هو جزاء عمله.
وكذلك الكتاب الذي آتاه الله اليهود والنصارى، والمسلمين ليس هو عملهم وتلاوتهم، فالذي أوتوه وحي أنزله الله على رسله إليهم، وعملهم به هو فعلهم من تلاوته، وامتثال أوامره، والانتهاء عن مناهيه.
قال في ((خلق أفعال العباد)) : ((باب قول الله عز وجل: {فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَاَ إِن كُنتُم صَادِقِينَ} ، وقال تعالى:{وَمِن آيَاتِهِِ خَلقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافُ أَلسِنتِكُم وَأَلوانِكُم} فمنها العربي، ومنها العجمي، فذكر اختلاف الألسنة والألوان، وهو كلام العباد، وقال تعالى:{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّيِ عَمَليِ وَلَكُم عَمَلُكُم أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعمَلُ وَأَنَا بَرِئٌ مِمَّا تَعمَلُونَ} .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم: ((رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل)) .
فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله.
وقال الله تعالى: {وَافعَلوُاْ الخَيرَ} . فأثبت الخير منهم فعلاً)) (1) .
معنى: قيام العبد بالكتاب هو: فعل العبد الذي يجازى عليه، وليس هو الكتاب، وبهذا يتضح مراده بهذه النصوص.
*****
(1)((خلق أفعال العباد)) (ص195-197) ملخصاً.
قال: ((باب: وسمى النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة عملاً. وقال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) .
يعني: أن الصلاة فعل من أفعال العباد، وفيها قراءة القرآن، وأقل ذلك قراءة الفاتحة؛ لأن الصلاة لا تصح بدون قراءة الفاتحة، فتبين بذلك أن القراءة ليست هي المقروء، وإنما هي عمل العبد وفعله وكسبه، فالقراءة من جملة الصلاة، وقد سمى النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة كلها عملاً.
*****
159-
قال: ((حدثني سليمان، حدثنا شعبة، عن الوليد، وحدثني عباد بن يعقوب الأسدي، أخبرنا عباد بن العوام، عن الشيباني، عن الوليد بن العيزار، عن أبي عمرو الشيباني، عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن رجلا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله)) .
الرجل السائل هو ابن مسعود كما صرح به في الرواية الأخرى.
وهو يدل على حرص الصحابة على فعل الأفضل، وتحريهم الأعمال الفاضلة في التقديم؛ لأن عمر الإنسان قصير، وربما شغل عن كثير من العمل، وفي كثير من الأوقات.
قال ابن دقيق العيد: ((سؤاله عن أفضل الأعمال طلبا لمعرفة ما ينبغي تقديمه، وحرصا على معرفة الأصل؛ ليتأكد القصد إليه، وتشتد المحافظة عليه، ولعله أراد بالأعمال هنا: الأعمال البدنية، كما قال الفقهاء: ((أفضل عبادات البدن: الصلاة)) ، فلا تكون أعمال القلوب داخله فيه، فعلى هذا لا تعارض بينه وبين حديث أبي هريرة:((أفضل الأعمال إيمان بالله)) (1) .
(1)((شرح العمدة)) (1/131-132) ملخصاً.
وقال الحافظ: ((محصل ما أجاب به العلماء عن الأحاديث التي اختلفت فيها الأجوبة، بأن كل واحد منها أفضل الأعمال، أن الجواب اختلف؛ لاختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم. أو كان الاختلاف، باختلاف الأوقات، بأن يكون العمل في وقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال، أو أن ((أفضل)) ليست على بابها، بل المراد بها الفضل المطلق)) (1) .
((الصلاة لوقتها)) يعني: في الوقت الذي عينه الشارع، وهو وقت الاختيار.
وبر الوالدين: التوسع في الإحسان إليهما، وضده العقوق.
ويراد بالبر أيضا التوسع في فعل الطاعة، كما في قوله تعالى:{ٍ لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} إلى آخر الآية (2) .
والجهاد: استفراغ الوسع وبذل الجهد في قتال العدو ومدافعته، وهو ثلاثة أنواع: جهاد العدو الظاهر من الكفار وغيرهم.
وجهاد العدو الخفي، وهو الشيطان، وجهاد النفس، وكلها يشملها الحديث، وتدخل في قوله تعالى:{وَجَهِدُواْ بِأَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم فِي سَبِيِل اللهِ} وغير ذلك من النصوص الآمرة بالجهاد.
والمقصود من الحديث هنا: تسمية الصلاة عملاً، حيث أجاب النبي – صلى الله عليه وسلم –
(1)((الفتح)) (2/9) ملخصاً.
(2)
الآية 177 من سورة البقرة.
السائل الذي قال: أي الأعمال أفضل؟ فقال: ((الصلاة لوقتها)) فجعلها عملاً، ومعلوم أن الصلاة فيها قراءة القرآن، فدل على أن القراءة من عمل العبد؛ لأنها فعل القارئ، كما سبق، وتقدم نقل كلام البخاري في هذا، وقوله: ((قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة.
والقراءة لا تكون إلا من الناس، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه)) (1) . يعني: أنه جعل القراءة إلى إرادة المخاطبين في قوله: ((إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، وقول العبد: الحمد لله)) الخ، هي قراءته، فهو يقرأ الفاتحة، وهي من كلام الله - تعالى -.
وقوله: ((وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه)) يعني: جنس الكلام؛ لأن الكلام هو الذي يوجد به الخلق عندما يقول الله له: كن، يكون موجوداً، ولا يدل ذلك على أن القرآن قديم، كما يقول أهل البدع، فالله تكلم بالقرآن ثم أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: باب قول الله - تعالى -: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} هلوعاً: ضجوراً.
قال ابن جرير: ((الهلع: شدة الجزع، مع شدة الحرص والضجر)) وروى بسنده عن بن عباس: ((الهلع هو: الجزوع الحريص، وعن سعيد بن جبير: هلوعاً: شحيحاً جزوعاً.
(1) انظر ((خلق أفعال العباد)) (ص164) .
وعن عكرمة: ضجوراً، وقال الضحاك: بخيل منوع للخير، جزوع إذا نزل به البلاء)) (1) .
وقال الفراء: ((الهلوع: الضجور، وصفته كما قال الله – تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} فهذه صفة الهلوع. ويقال منه: هلع، يهلع هلعاً، مثل جزع، يجزع جزعاً)) (2) .
وقال المبرد: ((الهلع: من الجبن عند ملاقاة الأقران، يقال: نعوذ بالله من الهلع. ويقال: رجل هلوع، إذا كان لا يصبر على خير، ولا شر، حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق، قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (3) .
وكل هذه الأقوال متفقة في المعنى، والمعنى: أن هذه الأوصاف المذكورة خلقت في الإنسان، ولكنها فعله الذي يصدر منه عن إرادته، فيلام عليها أو يثنى عليه بها، فهو ضجور غير ثابت، قليل الصبر، ومنوع هلوع، فإذا أصابه الخير منع، وإذا وقع في شدة جزع، وذلك كله فعله المضاف إليه فعلاً له على الحقيقة، والله خلقه على ذلك، فدل هذا على أن الله – تعالى – خالق أفعال الإنسان كما أنه خالقه.
قال الحافظ: ((مقصود البخاري: أن الصفات المذكورة بخلق الله – تعالى – في الإنسان، لا أن الإنسان يخلقها بفعله)) (4)
(1)((تفسير الطبري)) (29/78) .
(2)
((معاني القرآن)) (3/185) .
(3)
((الكامل)) (3/1092) .
(4)
((الفتح)) (13/511) .
160-
قال: ((حدثنا أبو النعمان، حدثنا جرير بن حازم، عن الحسن، حدثنا عمرو بن تغلب، قال: أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – مال فأعطى قوما، ومنع آخرين، فبلغه أنهم عتبوا، فقال: ((إني أعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، أعطي أقواما لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب، فقال عمرو: ما أحب أن لي بكلمة النبي صلى الله عليه وسلم – حمر النعم)) .
عمرو بن تغلب، النمري، من النمر بن قاسط، ويقال: العبدي، من عبد القيس من أهل جواثا، قرية من قرى البحرين، صحابي جليل القدر.
روى عنه الحسن البصري، ولم يرو عنه غيره، فيما قاله غير واحد.
وقال ابن عبد البر: روى عنه أيضا الحكم بن الأعرج، وعداده في أهل البصرة، وهو كغيره من كثير من الصحابة الذين لم تعرف أخبارهم، ولم تدون مآثرهم، فعليهم رضوان الله ورحمته أجمعهم)) (1) .
قوله: ((أتي النبي صلى الله عليه وسلم مال)) الخ، هذا المال إما من الخمس الذي أفاءه الله على رسوله، أو من الغنائم، أو من الزكاة.
وفي الرواية التي ذكرها البخاري في الجمعة: ((أتى بمال، أو سبي)) (2) .
وكانت سنته صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءه شيء من المال وزعه في مصالح الإسلام ولا يدخر شيئا، ومن المصالح: إعطاؤه من لم يتمكن الإسلام من قلوبهم، فيؤثروا
(1) انظر ((تهذيب الكمال)) (2/1027) مخطوط، ورجال البخاري للكلاباذي (2/537) .
(2)
انظر ((الفتح)) (2/403) .
الآخرة على الدنيا، يعطيهم خوفاً عليهم من الجزع، وعدم الصبر، فيتزعزع إيمانهم، فهذا الذي جعله يعطي قوماً، ويمنع آخرين، يمنع كُمَّلَ الإيمان الذين ذاقوا طعمه وحلاوته، التي لا تعادلها الدنيا بأسرها، بل ولا شيئاً منه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:((وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير)) .
((فبلغه أنهم عتبوا)) قال الأزهري: ((قال ابن شميل، وابن المظفر: العتب: الموجدة، تقول: عتب فلان على فلان، إذا وجد عليه)) (1) .
والمعنى: أنه صار في نفوسهم عليه شيء بسبب منعهم من هذا المال؛ لأنهم يرون أنهم أحق من غيرهم، وذلك لخفاء الأمر عليهم، وإلا فالمتعين الرضا بما يفعله الرسول – صلى الله عليه وسلم – والتسليم لأمره وفعله، وهذا شأن الصحابة رضوان الله عليهم غالباً.
((فقال: إني أعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي)) الخ.
يعني: أن تخصيصه بعض الناس بالعطاء ليس دليلاً على أنه صلى الله عليه وسلم يحب المعطي أكثر من غيره، بل يعطيه خوفاً عليه من الجزع، وعدم الصبر على بلوى الإعواز، وقلة ذات اليد، فإذا لم يحصل لهؤلاء ما يتطلعون إليه من العطاء كان ذلك عونا للشيطان عليهم، في إرجاعهم عن الإسلام، أو اعتراضهم على النبي – صلى الله عليه وسلم، فيكون في ذلك هلاكهم.
أما الذين أودع الله في قلوبهم الخير والغنى بالإسلام ومحبته والرغبة فيه، والرجاء لما أعد الله لهم في الآخرة، فإنهم أحب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ممن أعطاهم من ذلك المال وغيره، ولم يثنه عن عطائهم إلا ما علمه من الغنى في قلوبهم، وثقتهم بوعد الله لهم، وإيمانهم الذي لا يتزعزع، وحبهم لله ورسوله، بحيث يحبون ما أحبه الله ورسوله، فلا يرون أن غير ما فعله أحسن مما فعله.
(1)((تهذيب اللغة)) (2/277) .
قال الحافظ: ((وفيه أن الرزق في الدنيا ليس على قدر درجة المرزوق في الآخرة، ففي الدنيا تقع العطية والمنع بحسب السياسة الدنيوية، فكان – صلى الله عليه وسلم – يعطي من يخشى عليه الجزع والهلع لو مُنع، ويمنع من يثق بصبره واحتماله، وقناعته عنه بثواب الآخرة.
وفيه أن البشر جبلوا على حب العطاء وبغض المنع، والإسراع إلى إنكار ذلك قبل الفكرة في عاقبته، إلا من شاء الله.
وفيه أن المنع قد يكون خيراً للممنوع، كما قال تعالى:{وَعَسَىَ أَن تَكرَهُواْ شَيئاً وَهُوَ خَيرٌ لَّكُم} ومن ثم قال الصحابي: ((ما أحب أن لي بتلك الكلمة حمر النعم)) ، والباء في قوله:((بتلك)) للبدلية، أي: ما أحب أن لي بدل كلمته [النوق الحمر] ؛ لأن الصفة المذكورة تدل على قوة إيمانه المفضي به إلى دخول الجنة، وثواب الآخرة خير وأبقى.
وفيه استئلاف من يخشى جزعه، أو يرجى بسبب إعطائه طاعة من يتبعه، والاعتذار إلى من ظن ظناً، والأمر بخلافه)) (1) .
والمقصود من الحديث، قوله صلى الله عليه وسلم:((لما في قلوبهم من الجزع، والهلع)) ، وقوله:((وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير)) ، فإن الهلع والجزع، وكذلك غنى القلب والإيمان، كل ذلك وصف للإنسان، وهو فعله وعمله، والله خالقه.
فإن الله خلق الإنسان وخلق أفعاله، فجعله فاعلاً لهذه الأشياء.
قال الكرماني: ((الغرض من هذا الباب: إثبات أن أخلاق الإنسان، من الهلع، وضده، الضجر، وعدمه، والانقياد، والامتناع، وغيرهما، بخلق الله تعالى)) (2) .
********
(1)((الفتح)) (13/511) .
(2)
انظر ((شرح الكرماني)) (24/227-228) .
قال: ((باب ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم، وروايته عن ربه)) .
قال العيني: ((أي: هذا باب في ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه – أي بدون واسطة جبريل – صلى الله عليه وسلم – ويسمى بالحديث القدسي)) (1) .
وكذا قال أكثر الشراح.
وقال الحافظ: ((يحتمل أن تكون الجملة لأولى محذوفة المفعول، والتقدير: ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – ربه عز وجل.
ويحتمل أن يكون ضمن الذكر معنى التحديث، فعداه بعن، فيكون قوله:((عن ربه)) متعلق بالذكر والرواية معا، وقد ترجم هذا في كتاب:((خلق أفعال العباد)) ، بلفظ: ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يذكر ويروي عن ربه)) وهو أوضح)) (2) .
وأقول: إن مراده أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يروي عن ربه ما قاله – تعالى – وأنزل عليه، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يذكر بلفظه الذي هو فعله كلام ربه تعالى – وكلام الله – تعالى -، غير فعل الرسول ولفظه، فاللفظ للرسول والملفوظ به هو كلام الله، فهذا الباب كسابقه مما فيه التفريق بين فعل العبد المخلوق، وبين ما هو وصف لله غير مخلوق، وهذا هو الذي تتفق معه الأحاديث التي ذكرها، والله أعلم.
*****
161-
قال: ((حدثني محمد بن عبد الرحيم، حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع الهروي، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – يرويه عن ربه عز وجل: ((قال: إذا تقرب العبد إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذ أتاني مشيا أتيته هرولة)) .
(1)((عمدة القاري)) (25/188) .
(2)
((الفتح)) (13/512) .
قال شيخ الإسلام: ((ظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر، وكلاهما مذكور بلفظ المساحة.
فلا يخلو إما أن يكون ظاهر اللفظ في تقرب العبد إلى ربه هو تقرب بالمساحة المذكورة، أو لا يكون.
فإن كان ذلك هو ظاهر ذلك اللفظ، فإما أن يكون ممكنا، أو لا يكون.
فإن كان ممكنا، فالآخر أيضا ممكن، ولا يكون في ذلك مخالفة للظاهر.
فإن لم يكن ممكنا فمن أظهر الأشياء للإنسان علمه بنفسه وسعيه، فيكون قد ظهر للمخاطب معنى قربه بنفسه.
وقد علم أن قرب ربه إليه من جنس ذلك، فيكون الآخر أيضا ظاهرا في الخطاب، فلا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع، بل ظاهره هو المعنى الحق.
ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه شبرا، وذراعا، ومشيا، وهرولة)) (1) .
وبهذا يظهر معنى الحديث، وأنه ليس المراد منه: التقرب إلى الله – تعالى – بحركة البدن بهذه المقادير، والهيئة، وإنما المقصود التقرب إلى الله – تعالى – بالإنابة والرجوع وإقبال القلب، وفعل الطاعات التي تقرب العبد إلى ربه، وقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم:((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) (2) .
وتقدم أن قرب الله – تعالى – ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم خلوه من فوق عرشه، بل يقرب إلى من يشاء من عباده وهو فوق عرشه، لا يكون
(1)((نقض التأسيس)) (3/21-92) مخطوط.
(2)
سبق تخريجه في الجزء الأول.
شيء من خلقه فوقه أبداً، ولما قرب كليمه موسى إليه نجيا كان – جل وعلا – فوق عرشه، وكذلك غير موسى إذا قربه إليه، فإنه يقرب إليه وهو فوق عرشه – تعالى وتقدس -، وسبق الكلام على هذا الحديث (1) .
والشاهد من الحديث قوله: ((يرويه عن ربه – عز وجل – قال: إذا تقرب)) إلى آخره، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يروي عن ربه هذا الكلام، الذي تكلم الله به فرواه عنه، سواء كان ذلك بواسطة جبريل – وهو الظاهر – أو بغير واسطة، والصحابة سمعوا هذا الكلام بلفظ الرسول – صلى الله عليه وسلم، وصدقوه بأنه كلام الله ورواه رسوله عنه.
*****
162-
قال: ((حدثنا مسدد، عن يحيى، عن التيمي، عن أنس بن مالك، عن أبي هريرة، قال ربما ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا تقرب العبد مني شبرا تقربت منه ذراعا، وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا – أو بوعا)) .
الباع معروف، وهو قدر مد اليدين، من أطراف أصابع اليد إلى أطراف الأصابع الأخرى، والبوع بفتح الباء مصدر باع، وبالضم جمع باع.
قوله: ((وقال معتمر: سمعت أبي، سمعت أنسا، عن أبي هريرة، عن ربه – عز وجل.
قصده التصريح بأنه مرفوع، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – رواه عن ربه – عز وجل.
******
163-
قال: ((حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم، قال: ((لكل عمل كفارة، والصوم لي، وأنا أجزي به، ولخلوف فم
(1) يراجع الجزء الأول (ص339) .
الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) .
قوله: ((لكل عمل كفارة)) يعني: جزاء وثوابا معينا، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولكن الصوم يضاعف بدون حساب.
والسبب أنه يكون خالصا؛ لأنه سر بين العبد وربه فإنه يمكنه أن يظهر للناس أنه صائم وهو يأكل في الخفاء، فإذا التزم العبد الصوم دل على خوفه من الله، ورجائه لثوابه، وتقدم شرح الحديث المقصود منه ظاهر، وهو كالذي قبله.
*****
164-
قال: ((حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة، عن قتادة. ح.
وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه، قال:((لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن متى)) ، ونسبه إلى أبيه)) .
يونس بن متى، هو نبي كريم من أنبياء الله - تعالى - الذين جاءوا بالهدى والنور؛ لإخراج الناس من الظلمات.
((قال العلماء: إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا، إن كان قاله بعد أن علم أنه أفضل الخلق، وإن كان قاله قبل علمه بذلك فلا إشكال.
وقيل: خص يونس عليه السلام بهذا القول؛ لما يخشى عليه من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقص له، فبالغ صلى الله عليه وسلم في ذكر فضله؛ لسد هذه الذريعة.
وقد روى قصته السدي بأسانيده، عن ابن مسعود وغيره: أن الله بعث يونس إلى أهل نينوى - وهي من أرض الموصل - فكذبوه، فوعدهم بنزول
العذاب في وقت معين، وخرج عنهم مغاضبا لهم، فلما رأوا آثار ذلك خضعوا لله، وتضرعوا، وآمنوا فرحمهم الله، وكشف عنهم العذاب، وذهب يونس، وركب سفينة فلجّت به، فاقترعوا فيمن يطرحونه فوقعت القرعة عليه ثلاثا، فطرحوه، فالتقمه الحوت)) (1){فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبحَانَك إِنِي كُنتُ مِنَ الظَّالِمينَ} فاستجاب الله له، وأمر الحوت بطرحه على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين تظله)) والظلمات هي ظلمات البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل.
وما ذكره من أنه خص بالذكر إلى آخره، هو المناسب لما جاء من النهي عن المفاضلة بين الأنبياء؛ لئلا يفضي ذلك إلى تنقص أحد منهم.
ولهذا جاء في رواية لهذا الحديث ذكرها البخاري في الأنبياء بلفظ ((ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس)) .
وفي أخرى: ((لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس)) (2) .
قال الحافظ: ((وعند الطبراني: ((لا ينبغي لأحد أن يقول)) إلى آخره.
وفي أخرى عنده: ((ما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس)) .
وهذا يؤيد أن المراد تفضيله على النبي – صلى الله عليه وسلم)) (3) .
وهذا يدل على أن المقصود: النهي عن المفاضلة بين أنبياء الله؛ لئلا يكون ذلك طريقا إلى تنقص أحد منهم.
والمراد من الحديث قوله: ((فيما يرويه عن ربه)) بهذا لفظ الرسول – صلى الله عليه وسلم – يروي هذا الكلام عن ربه، يعني: أن الله تكلم به، فرواه لنا عنه رسوله – صلى الله عليه وسلم – بلفظه الذي هو فعله، وهو مخلوق، وما رواه فهو كلام الله غير مخلوق.
(1)((الفتح)) (6/452) .
(2)
((الفتح)) (6/451) .
(3)
((الفتح)) (6/451) .
((ونسبه إلى أبيه)) يعني: أن ((متى)) هو أبوه، وليس ذلك اسم أمه، وأراد به الرد على من زعم أن ((متى)) اسم أمه، كما روي عن كعب الأخبار.
******
165-
قال: ((حدثنا أحمد بن أبي سريج، أخبرنا شبابة، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة المزني، عن عبد الله بن المغفل المزني، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم – يوم الفتح على ناقة له يقرأ سورة الفتح – أو من سورة الفتح – قال: فرجع فيها.
قال: ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل، وقال: لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي – صلى الله عليه وسلم، فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟ قال: آآ آثلاث مرت)) .
عبد الله بن مغفل بن عبد غنم المزني أبو سعيد، ذكر البخاري عن يحيى بن معين أنه كان يكنى أبا زياد، وهو من مشاهير الصحابة رضوان الله عليهم، وهو أحد البكائين في غزوة تبوك، أسفا على فوت تلك الغزوة عليهم، وشهد بيعة الرضوان، وهو أحد العشرة الذين بعثهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليفقهوا الناس بالبصرة، وهو أول من دخل من باب مدينة تستر. توفي في البصرة سنة تسع وخمسين أو سنة ستين، أو إحدى وستين، رضي الله عنه، وعن جميع إخوانه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
((يوم الفتح)) هو فتح مكة، وكان في رمضان، من سنة ثمان من الهجرة.
وسورة الفتح نزلت في غزوة الحديبية، وكانت في ذي القعدة سنة ست في قول الجمهور، نزلت في مرجعه منها، والفتح المذكور في السورة هو صلح الحديبية على قول أكثر المفسرين من الصحابة وغيرهم، ولا ينافي ذلك دخول
(1) انظر ((الإصابة)) (4/242) ، و ((الاستيعاب)) (3/966) .
فتح مكة فيه، وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة الفتح في ذلك اليوم يدل على أن فتح مكة داخل في قوله:{إِنَّا فَتَحنَا لَكَ فَتحَاً مُبِيناً} .
((فرجع فيها)) بتشديد الجيم، أي: ردد الصوت في حلقه، وجهر به مكررا بعد إخفائه.
قال المؤلف في فضائل القرآن: ((باب الترجيع، ثم ذكر هذا الحديث – وفيه – قال: رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ، وهو على ناقته – أو جمله – وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح – أو من سورة الفتح، قراءة لينة، يقرأ وهو يرجع)) (1) .
قال الحافظ ابن كثير: الترجيع هو: الترديد في الصوت، كما جاء أنه يقول: آآ آ، وكأن ذلك صدر من حركة الدابة تحته، فدل على جواز التلاوة عليها، وإن أفضى إلى ذلك، ولا يكون ذلك من باب الزيادة في الحرف، بل هو مغتفر للحاجة، كما يصلي على الدابة حيث توجهت به مع إمكان تأخير ذلك والصلاة إلى القبلة)) (2) .
والصواب أنه قصد الترجيع، وليس ذلك من حركة الدابة كما زعم ابن كثير، وكثيرا ما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في أسفاره، ولم يذكر ذلك عنه إلا في هذه الواقعة، فدل على قصده ذلك.
قال الحافظ: ((الترجيع: هو تقارب ضروب الحركات في القراءة، وأصله الترديد، وترجيع الصوت، ترديده في الحلق، وقد فسره بقوله: آء آء آء، ثلاث مرات، بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة، ثم همزة أخرى.
قالوا: يحتمل أمرين: أحدهما: أن ذلك حدث من هز الناقة.
والآخر: أنه أشبع المد في موضعه فحدث ذلك، وهذا أقرب، لأنه قال:
(1) انظر ((الفتح)) (9/92) و (13/515) .
(2)
((فضائل القرآن)) في آخره ((تفسير ابن كثير)) .
((لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت)) .
وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع، كما في الشمائل للترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي داود، واللفظ له من حديث أم هانئ:((كنت أسمع صوت النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يقرأ، وأنا نائمة على فراشي، يرجع القرآن)) .
والذي يظهر: أن في الترجيع قدرا زائدا على الترتيل، فعند ابن أبي داود عن علقمة، قال: بت مع عبد الله بن مسعود في داره، فنام، ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيه، لا يرفع صوته، ويسمع من حوله، ويرتل ولا يرجع.
قال ابن أبي حمزة: معنى الترجيع: تحسين التلاوة، لا ترجيع الغناء؛ لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة.
قال: ((وفي الحديث: ملازمته – صلى الله عليه وسلم – للعبادة؛ لأنه حالة ركوبه وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة، وفي جهره في ذلك إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار، مثل إرادة التعليم، وإيقاظ الغافل، ونحو ذلك)) (1) .
والمقصود أن الترجيع فعل الرسول –صلى الله عليه وسلم – بحركة لسانه وشفتيه يرجع كلام ربه الذي أبلغه الأمة عن الله – تعالى -.
فالمسموع بصوته هو كلام الله، والصوت هو صوت المبلغ، ولهذا يرفعه إن شاء، ويخفضه، ويرجعه إن شاء ولا يرجعه؛ لأنه فعله يتعلق بإرادته، وهو يبلغ كلام الله بأي وجه كان من أوجه التبليغ، بصوته الذي يؤدي به
(1)((الفتح)) (9/92) ببعض التصرف.
عن الله، سواء رجع الكلام، أو لم يرجع، فلا يخرجه ذلك عن كونه كلام الله، أبلغه إلى أمته عن ربه بصوته وروايته، ولكن هو يتصرف بصوته فيرفعه تارة، ويخفضه أخرى، ويرجع الكلام مرة، ويترك الترجيع أخرى، إذ ذلك فعله الذي يفعله إذا شاء.
*****
قال: ((باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها، لقول الله – تعالى:{قُل فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} .
تقدم الكلام على هذه الآية، ومراده: أن التفسير والإيضاح والتفهيم لكلام الله من فعل المفسر، والمبين الموضح لمن لا يفهم ذلك الكلام، وهذا كله فعل العباد وهو مخلوق، كما أن القراءة، والكتابة، والحفظ، فعل العبد وهو مخلوق.
وأما المكتوب المقروء والمحفوظ إذا كان من كتب الله، فهو كلام الله.
وكذلك التفسير، والتبليغ، والتبيين، فعل العبد المفسر المبين، وهو مخلوق، وأما المفسر المبين المبلغ فهو كلام الله.
ومثل ذلك الترجمة من لغة إلى أخرى، فإن الترجمة فعل المترجم، ولهذا استدل في كتابه:((خلق أفعال العباد)) ، على أن كلام العباد مخلوق، وهو من أفعالهم بقوله تعالى:{وَمِن أيَاتِهِ خَلقُ السّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلَافُ أَلسِنَتِكُم وَألَوَانِكُم} ، ثم قال:((فمنها العربي، ومنها العجمي، فذكر اختلاف الألسنة والألوان، وهو كلام العباد)) (1) .
وروى عن حماد بن زيد أنه قال: ((من قال: كلام العباد ليس بمخلوق فهو كافر)) (2) .
(1) انظر (196) .
(2)
المصدر (193) .
وقال أيضا: ((وقد كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – كتابا فيه ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وقرأه ترجمان قيصر، على قيصر وأصحابه، ولا نشك في قراءة الكفار وأهل الكتاب أنها أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله العزيز المنان، ليس بمخلوق، فمن حلف بأصوات قيصر، وبنداء المشركين الذين يقرون بالله لم يكن عليه يمين دون الحلف بالله؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم:((لا تحلفوا بغير الله)) (1) .
يعني: أن الصوت الذي تكون به القراءة ونحوها فعل ذلك المصوت، وفعل العبد مخلوق.
قال الحافظ: ((وجه الدلالة من الآية: أن التوراة بالعبرانية، وقد أمر الله تعالى أن تتلى على العرب، وهم لا يعرفون العبرانية، فقضية ذلك الإذن بالتعبير عنها بالعربية)) (2) . وتقدم وجه مراده بالباب.
قوله: ((وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل، و {يَا أَهلَ الكِتابِ تَعَالَواْ إِلىَ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَينَنَا وَبَيَنكُم} الآية.
أبو سفيان كنية، ويكنى أيضا بأبي حنظلة، واسمه: صخر بن حرب بن أمية مشهور باسمه وكنيته، أسلم عام الفتح، وكان رئيسا لقومه قبل ذلك، وشهد مع النبي – صلى الله عليه وسلم – حنينا والطائف، وروي أن عينه أصيبت يوم الطائف، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم:((إن شئت دعوت فردت عليك، وإن شئت فالجنة)) قال: الجنة، مات في خلافة عثمان سنة أربع وثلاثين، وقيل غير ذلك، رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله جميعاً (3) .
هرقل هو: ملك الروم، هذا اسمه، وهو بكسر الهاء وفتح الراء، وسكون
(1) المصدر السابق (158) .
(2)
((الفتح)) (13/516) .
(3)
انظر ((الإصابة)) (3/412) ، و ((الاستيعاب)) (2/714) .
القاف، ولقبه قيصر، وهو لكل من ملك الروم، كما أن كسرى لقب لمن ملك الفرس.
وهذا جزء من الحديث الطويل المذكور في بدء الوحي وغيره.
قال الحافظ: ((ووجه الدلالة منه: أن النبي – صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربي، ولسان هرقل رومي، ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه، والمترجم المذكور هو الترجمان)) .
واستدل في ((خلق أفعال العباد)) بقصة هرقل على أن القراءة فعل القارئ.
فقال: قد كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قيصر: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وقرأه ترجمان قيصر على قيصر وأصحابه، ولا يشك في قراءة الكفار أنها أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله – تعالى – ليس بمخلوق، ومن حلف بأصوات الكفار ونداء المشركين لم يكن عليه يمين، بخلاف ما لو حلف بالقرآن)) (1) .
وتقدم نقل هذا، والحافظ تصرف فيه.
وفيه دليل على جواز إرسال الكتب التي فيها شيء من القرآن إلى الكفار، وفيه كتابة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) في أول الكتب، وبداءة صاحب الكتابة بنفسه، وفيه قرن العبودية بالرسالة.
*****
166-
قال: ((حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عمر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية،
(1)((الفتح)) (13/516) .
ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، و {قُولُواْ أَمنَّا بِاللهِ وَمَاَ أُنزِلَ} الآية.
المقصود بأهل الكتاب هنا اليهود، والعبرانية: لغتهم التي أنزلت التوراة بها وقد أخبر الله – تعالى – أنهم تعمدوا تحريفها، والزيادة فيها والنقصان منها؛ لتتفق مع أهوائهم، وما يريدون، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يوثق بترجمتهم وتفسيرهم لها، مع أن الله – تعالى – قد أغنانا عما في أيديهم بما أنزل علينا من كتابه المهيمن على جميع الكتب قبله، وبما جاء به نبينا – صلى الله عليه وسلم – من الحكمة التي تفسر القرآن وتبينه.
روى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، من حديث جابر، أن عمر أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب، وقال:((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)) قال الحافظ: ((رجاله موثقون إلا أن مجالداً فيه ضعف)) (1) .
وقد أمرنا الله – تعالى – أن نقول: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {136} فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) .
وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كثيرا ما يقرأ هذه الآية: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ} ، والآية التي في سورة آل عمران {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء}
(1)((الفتح)) (13/334) .
(2)
الآيتان 136 و 137 من سورة البقرة.
الآية (1) في ركعتي الفجر.
وفي ((الدر المنثور)) : ((أخرج ابن أبي حاتم، عن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن)) (2) .
قوله: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)) . قال الحافظ: أي: إذا كان ما يخبرونكم به محتملاً؛ لئلا يكو في نفس الأمر صدقا، فتكذبوه، أو كذبا فتصدقوه، فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه، نبه على ذلك الشافعي رحمه الله.
ويؤخذ من هذا الحديث التوقف عن الخوض في المشكلات، والجزم فيها بما يقع في الظن، وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف من ذلك)) (3) .
والمقصود أن الترجمة والتفسير ليست هي ذلك الكتاب المترجم أو المفسر، ولا تسمى الترجمة أو التفسير قرآنا، أو إنجيلا، أو توراة.
((بل اتفق المسلمون على جواز مس المحدث لكتب التفسير، واتفقوا على أنه لا تجوز الصلاة بتفسيره، وكذلك ترجمته بغير العربية عند عامة أهل العلم، وتجويز إقامة الترجمة مقامه في بعض الأحكام لا يقتضي تناول اسمه لها، كما أن القيمة في الزكاة إذا أخرجت عن الإبل أو البقر أو الغنم لم تسم إبلا ولا بقرا، ولا غنما، بل تسمى باسمها كائنة ما كانت)) (4) .
(1) الآية 64 من سورة آل عمران.
(2)
(1/338) .
(3)
((الفتح)) (8/170) .
(4)
((مجموع الفتاوى)) (6/542) .
((مع أن أكثر المنتسبين إلى العلم من المسلمين لا يستطيعون القيام بترجمة معاني القرآن، وتفسيره، وبيانه؛ فلأن يعجز اليهود عن ترجمة ما عندهم، وبيانه أولى.
لأن عقل المسلمين أكمل، وكتابهم أقوم قيلاً، وأحسن حديثاً، ولغتهم أوسع لا سيما إذا كانت تلك المعاني غير محققة، بل فيها باطل كثير، فإن ترجمة المعاني الباطلة وتصويرها صعب؛ لأنه ليس لها نظير من الحق من كل وجه)) (1)
والمقصود أنه إذا ترجم كتاب الله من لغة إلى أخرى فإن الترجمة ليست هي كلام الله، وإنما هي ترجمة لكلامه تعالى، وهي غير المترجم، بل هي عمل المُتَرجِم، ومعلوم أن عمل الإنسان مخلوق مثله.
وليس الأمر كما تقوله الأشعرية إن كلام الله لا يختلف باختلاف اللغات، فبأي لسان قرئ فهو كلام الله.
بل إذا ترجم من لغة إلى أخرى، لم يكن هو كلام الله – تعالى -، وهذا هو ما أراد البخاري بيانه فيما يظهر، والله أعلم.
167-
قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: أتي النبي – صلى الله عليه وسلم – برجل، وامرأة من اليهود، قد زنيا، فقال: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما، ونخزيهما، قال:{قُل فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} فجاءوا فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه، قال: ارفع يدك، فإذا
(1) المرجع (4/117) .
فيه آية الرجم تلوح، فقال: يا محمد: إن عليهما الرجم، ولكننا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما، فرأيته يجانئ عليها الحجارة)) .
قد أمر الله نبيه أن يحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله عليه، أو أن يعرض عنهم، فإنهم لا يضرونه شيئاً.
وأخبر تعالى أنهم إذا جاءوه ليحكم بينهم ليس قصدهم حكم الله، فإنهم يعلمونه في كتابهم، وإنما يحكمونه رجاء أن يحكم بينهم بما يهوونه، قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
…
{41} سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {42} وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (1) } .
فنهى الله – تعالى – رسوله أن يحزن على المسارعين في الكفر من أهل الكتاب وأهل النفاق، الخارجين عن طاعة الله، وطاعة رسله، المقدمين لآرائهم وأهوائهم على شرائع الله – تعالى -، ومن الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خاوية منه، منطوية على الكفر بالله ورسله وعبادة الشهوات، وهم ما بين يهودي قد نصب العداء لله ولدينه ومن اتبعه، فهو يجهد نفسه في محاربته، أو زنديق كره الحق ومن جاء به ومن اتبعه، وكل منهم قد أكل قلبه الحقد على هذا الدين، وعلى من اتبعه، وكل منهم سَمّاع للكذب يقوله،
(1) الآيات 41- 43 من سورة المائدة.
وينميه، ويسمعه ويقبله، وأكَّال للسحت غير مبال بعاقبته، وهم مع ذلك أهل تحريف وتزييف؛ اتباعاً لأهوائهم، وبعداً عن الحق، ومحاربة له، يوصي بعضهم بعضاً بعدم قبول ما يخالف أهواءهم، وأنظمتهم التي وضعوها وفق ما يشتهون، وما توحيه إليهم شياطينهم أولئك الذين أراد الله – تعالى – فتنتهم، فلا أحد يملك هدايتهم؛ لأن قلوبهم نجسة فلا تقبل طهارة الإيمان، وإنما هي محل للكفر وكل خلق خبيث.
وقد خير الله رسوله بين الحكم بينهم وبين الإعراض عنهم، وأمره إن حكم أن يحكم بينهم بالعدل، وإن كانوا أعداء لله ورسوله، فإن الله حكم عدل يحب العدل وأهله.
وأخبر تعالى أن أمر هؤلاء عجيب، كيف يحكمونك وعندهم كتاب الله التوراة فيها حكمه واضح لهم، ولكنهم يعرضون عنه طلباً لما يهوونه، وليس هذا شأن المؤمنين، ولكنه نهج الكافرين.
روى أبو داود من حديث أبي هريرة قال: ((زنى رجل من اليهود، وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتياً دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، قلنا: فتيا نبي من أنبيائك.
قال: فأتوا النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب، فقال: ((أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه - والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما -.
قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت، ألظ به النشدة، فقال: اللهم إذ نشدنا، فإنا نجد في التوراة الرجم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟
قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في امرة من الناس، فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم.
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم: ((فإني أحكم بما في التوراة)) فأمر بهما فرجما.
قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَا أَنَزَلنَا التَّورَاةَ فِيهَا هُدَىَ وَنُورُ يَحكُم ُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أسلمُواْ} كان النبي – منهم)) (1) .
فهذه القصة تبين سبب مجيئهم إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وأن الذي جاء بالزانيين هم اليهود، رجاء أن يحكم عليهما بغير ما أتى في التوراة من الرجم، ولكنه صلى الله عليه وسلم أحيا حكم الله فيها بعد ما أماتوه.
قوله: ((ما تصنعون بهما؟)) يعني: ما هو حكم الله فيهما الذي في كتابكم؟ فكتموه، وقالوا:((نسخم وجوههما، ونخزيهما)) أي: نسود وجوههما بالفحم، ويركبان على حمار يطاف بهما في الطرق، قفا كل واحد إلى قفا الثاني، وهذا هو الخزي الذي يفعلونه بهما.
فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم: {فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} أن ما ذكرتم هو حكم الله فيهما الذي في التوراة.
ومعلوم أنهم ينقلون ما فيها بالعربية كما هو ظاهر؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يعرف العبرانية.
((فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه)) يرضون، يعني: يثقون به، وأنه موافق لهم على كتمان
(1)((السنن)) (4/598) رقم (4450) وفيه رجل مجهول.
آية الرجم، ويحتمل أن الكتاب الذي يقرأ بغير العربية، وأنه يقرأه ويترجمه، ويحتمل أنه قد ترجم إلى العربية، فعلى الأول وضعه يده على الموضع الذي فيه آية الرجم؛ لإخفائها عمن يعرف لغتهم ممن أسلم، أو لا يوافقهم، وعلى الثاني ظاهر.
قوله: ((ارفع يدك، قيل: إن القائل عبد الله بن سلام، كما في بعض الروايات، وهذا يؤيد الاحتمال الأول.
((تلوح)) يعني: أنها واضحة لمن يقرأ ذلك الكتاب.
((نتكاتمه فيما بيننا)) يعني: يتواطئون على كتمانه، وعدم إظهاره لأحد.
((يجانئ عليها الحجارة)) يعني: أنه يقيها بنفسه عن الحجارة.
والمقصود: أن الأمر بتلاوة التوراة على من لا يعرف اللغة التي كتبت بها لا بد أن يكون ذلك عن ترجمة لها، ثم اعتماد تلك الترجمة مما يقتضي الاكتفاء بترجمة المترجم وإن كان واحداًً.
والترجمة ليست هي المُتَرْجَم، وإنما هي فعل المُتَرْجِم وعمله.
وفعله وعمله مخلوق، وهذا هو المراد بالاستدلال بهذه القصة.
وفيه دلالة ظاهرة في أن اليهود كانوا ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها، وأنهم يعرفون الحق، ولا يتبعونه، بل يتعمدون تركه.
قال: ((باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم: ((الماهر بالقرآن مع السفرة البررة، وزينوا القرآن بأصواتكم)) .
قصد البخاري – رحمه الله – بهذا الباب: زيادة إيضاح ما سبق في الأبواب قبل هذا، من أن التلاوة فعل التالي، فهي داخلة في أفعال العباد، ولهذا
توصف بالمهارة، وهي جودة الحفظ، وعدم التردد في التلاوة، وتوصف بالحسن والمد، والترتيل، والتطريب، وتحسين الصوت، وبأضداد ذلك، كما سبق وصفها بالترجيع، والخفض، والرفع، ومد الصوت.
وهذا كله يحقق أن التلاوة فعل القارئ الذي يقرأ القرآن.
قوله: ((الماهر)) قال الأزهري: ((الماهر: الحاذق بكل شيء، وأكثر ما يوصف به السابح، يقال: مهرت بهذا الأمر، أمهر به، مهارة: إذا صرت به حاذقاً)) (1) .
قال الحافظ: ((الماهر هو: الحاذق، والمراد به هنا: جودة التلاوة مع حسن الحفظ.
والمراد بالسفرة: الكتبة، جمع سافر، مثل كاتب، وزنه ومعناه، وهم هنا: الذين ينقلون من اللوح المحفوظ (2) ، وصفوا بالكرام؛ لكثرة طاعتهم، وبعدهم عما يشين.
والبررة: المكثرون في الطاعة، المبالغون فيها)) .
وقال الحافظ: ((المطيعون، المطهرون من الذنوب، والكرام: المكرمين عند الله)) (3) .
ومعلوم أن إكرام الله لهم لطاعتهم، وبرهم.
ورواية مسلم: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران)) (4) .
(1)((تهذيب اللغة)) (6/298-299) .
(2)
((الفتح)) (13/518) .
(3)
المصدر المذكور.
(4)
انظر مسلم (1/549-550) رقم (798) .
فالمهارة بالقرآن: جودة الحفظ، وجودة التلاوة، من غير تردد فيه؛ لأن الله – تعالى يسره عليه كما يسره على الملائكة الكرام البررة، فكان مثلهم في قراءة القرآن ومعهم في الدرجة عند الله – تعالى -.
وتقدم الكلام على معنى قوله: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) ، وأن المراد به: تحسين الصوت حتى يجذب المستمع إلى الإصغاء إليه، ويجد به لذة، وينفتح له قلبه، وتحسين الصوت فعل العبد، ووصفه، ولهذا قال في ((خلق أفعال العباد)) :
((فبين النبي – صلى الله عليه وسلم – أن أصوات الخلق،، وقراءتهم، ودراستهم وتعليمهم، وألسنتهم مختلفة، بعضها أحسن، وأزين، وأحلى، وأصوت، وأرتل، وأعلى، وألحن، وأخف، وأغض، وأخشع، قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصوَاتُ لِلرَّحمَنِ فَلَا تَسمَعُ إِلا هَمساً} ، وأجهر، وأخفى، وأمهر، وأمد، وألين، وأخفض من بعض، ثم ذكر بسنده عن عائشة – رضي الله عنها، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يشتد عليه له أجران)) (1) .
*****
168-
قال: ((حدثني إبراهيم بن حمزة، حدثني ابن أبي حازم، عن يزيد، عن محمد ابن إبراهيم عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن، يجهر به)) .
رواية مسلم: ((ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) (2)
وكأن قوله ((يجهر به)) مدرج في الحديث، ومعنى ((ما أذن)) : ما استمع
(1)((خلق أفعال العباد)) (93-94) .
(2)
انظر ((صحيح مسلم)) (1/545) .
لشيء كاستماعه لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن، فالله – تعالى – يحب حسن الصوت فيمن يتلو كتابه، ويستمع لذلك الصوت أكثر من غيره، وإلا فهو تعالى لا يفوت سمعه صوت.
والقرآن هنا اسم جنس لكل كتاب أنزله الله – تعالى – على نبي من أنبيائه.
وقوله: ((يجهر به)) تفسير لقوله: ((يتغنى به)) ، وهو كلام لأحد رواة الحديث، وتقدم شرح هذا الحديث في باب قول الله – تعالى -:{وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعةُ عِندَهُ إِلا لِمَن أَذِنَ لَهُ} .
والمقصود منه هنا قوله: ((ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن)) فأضاف حسن الصوت إلى النبي، لأنه فعله وعمله، وبين أنه مطلوب منه، ومحبوب لله – تعالى -، فتبين بهذا أن التلاوة وتحسين الصوت بها، والجهر بها، وخفض الصوت، كله فعل العبد، والعبد وأفعاله مخلوق.
وأما القرآن الذي يحسن صوته به، ويرفعه أو يخفضه، فهو كلام الله غير مخلوق.
169-
قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله، عن حديث عائشة – حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، وكل حدثني طائفة من الحديث – قالت: فاضطجعت على فراشي، وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله يبرئني، ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، وأنزل الله – عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفكِ} عشر الآيات كلها)) .
((الإفك)) هو: الكذب الظاهر البين، وهو من عظائم الذنوب.
((طائفة من الحديث) أي: قطعة منه، وهو جمع حديثهم، ولم يكونوا متفقين على جميعه، والقائل هو ابن شهاب الزهري.
((وأنا حينئذ أعلم أني بريئة)) يعني: أن ما قاله أهل الإفك، بعيد عنها، وليست من أهله، فهي أعلم بنفسها، وعلى يقين من أن الله سيظهر براءتها لنبيه وعباده ويجزي الأفاكين، الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله والمؤمنين.
قال أبو بكر ابن العربي: ((كل من سب عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله، فهو كافر، وهذا قول مالك، وهو أمر واضح لأهل البصائر)) (1) .
وقال القاضي أبو يعلى: ((من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر، بلا خلاف)) .
وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم.
فروي عن مالك: من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن؛ لأن الله - تعالى - قال: {يَعِظِكُم اللهُ أَن تَعُودُواْ لِمثلِهِ أَبَدَاً إِن كُنتُم مُؤمِنينَ} .
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل ابن إسحاق: أتي أمير المؤمنين بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة، والآخر عائشة، فأمر بقتل الذي شتم عائشة، وترك الآخر، فقال إسماعيل، ما حكمهما إلا أن يقتلا؛ لأن الذي شتم عائشة رد القرآن، وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم، من أهل البيت وغيرهم.
(1)((أحكام القرآن)) (3/135) .
وقال أبو السائب القاضي: كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي، وكان بحضرته رجل، فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فقال: يا غلام، اضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي – صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي – صلى الله عليه وسلم – خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه، فضربوا عنقه وأنا حاضر. رواه اللالكائي.
وروى عن محمد بن زيد، أخي الحسن بن زيد، أنه قدم عليه رجل من العراق، فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود فضرب به دماغه فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا، ومن بني الآباء، فقال: هذا سَمّى جدي – يعني: رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قرنان (1) . ومن سمى جدي: قرنان، استحق القتل، فقتله.
وأما سب غير عائشة من أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – ففيه قولان: أحدهما: أنه كَسَابّ غيرهن من الصحابة.
والثاني: وهو الأصح أنه من قذف واحدة من أمهات المؤمنين، فهو كقذف عائشة – رضي الله عنها.
وذلك لأن هذا فيه غضاضة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأذي له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده، وهذا ظاهر (2) .
((وأن الله يبرئني)) أي: أنها على علم ويقين بأن الله – تعالى – سيظهر براءتها لنبيه، بأمر يطلعه عليه، إما رؤيا يريها إياه، أو غير ذلك، غير أنها ما كانت تنتظر أن ينزل في شأنها وحيا من كلامه تعالى يتلى إلى يوم القيامة، كما وقع؛
(1) قال الليث: القرنان: نعت سوء في الرجل، الذي لا غيرة له، قال الأزهري:((هذا من كلام حاضرة العراق، ولم أر البوادي لفظوا به، ولا عرفوه)) ((تهذيب اللغة)) (9/93) .
(2)
من ((الصارم المسلول)) (565-567) .
لأنها في نفسها أقل قدرا من أن تتطلع إلى هذا الأمر العظيم.
فأنزل الله – عز وجل – في براءتها بضعة عشر آية.
والمقصود قولها: ((والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى)) ، فبينت أن التلاوة غير المتلو المنزل، فالتلاوة فعل العباد، والإنزال والإيحاء والتكلم فعل الله وصفته، كما قال المؤلف في ((خلق أفعال العباد)) :((فبينت بقولها: ((ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى)) إن الإنزال من الله، وإن الناس يتلونه)) (1) .
قال العيني: ((مطابقته للترجمة في قوله: ((بأمر يتلى)) أي: بالأصوات في المحاريب والمحافل)) (2)، وتقدم شرح الحديث في باب قوله تعالى:: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِلُواْ كَلَامَ اللهِ} .
*****
170-
قال: ((حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن عدي بن ثابت، أراه عن البراء، سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ في العشاء:: {وَالتِينِ وَالزَّيتُونِ} فما سمعت أحدا أحسن صوتا – أو قراءة – منه)) .
ذكر هذا الحديث في كتاب الصلاة، وفيه أنه كان في سفر، وذكر الحافظ في شرحه أن في رواية النسائي: أنها في الركعة الأولى، وذكر في تفسير سورة {وَالتِينِ} أن في كتاب الصحابة لأبي علي ابن السكن في ترجمة زرعة بن خليفة، رجل من أهل اليمامة، أنه قال: سمعنا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – فأتيناه، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، وأسهم لنا، وقرأ في الصلاة
بـ {وَالتِينِ وَالزَّيتُونِ} و {إِنَّاَ أَنزَلنَاهُ فِي لَيلةِ القَدرِ} .
(1)((خلق أفعال العباد)) (ص86) .
(2)
((عمدة القاري)) (25/193) ، وأخذه من الكرماني، انظر شرحه (25/234) .
ثم قال: ((فيمكن أن تكو هي الصلاة التي عين البراء بن عازب أنها العشاء، ويقوي ذلك أنا لا نعرف في خبر أنه قرأ بالتين، إلا في حديث البراء بن عازب، ثم حديث زرعة المذكور)) (1) .
وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقرأ في الصلاة أحيانا بقصار المفصل.
وفيه استحباب تحسين الصوت بالقرآن في الصلاة وغيرها.
والمقصود قوله: ((فما سمعت أحدا أحسن صوتا – أو قراءة – منه)) فجعل الصوت والقراءة له، فدل على أن الصوت والقراءة ليست هي المصوت به، المقروء، وهو واضح، والإمام البخاري – رحمه الله – يكرر ذلك، وينوع عليه الأدلة؛ لأنه قد خفي على بعض العلماء، ولأنه قد ابتلي بمن يقول: إن القراءة هي المقروء، والتلاوة هي المتلو، ونسب إليه زورا أنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، وهو برئ من ذلك.
171-
قال: ((حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – متواريا بمكة، وكان يرفع صوته، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن، ومن جاء به، فقال الله – عز وجل – لنبيه:{وَلَا تَجهَر بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِت بِهَا} .
تقدم شرح هذا الحديث، والشاهد منه هنا: قوله: ((يرفع صوته، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن)) وقوله: {وَلَا تَجهَر بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِت بِهَا وَابتغِ بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ويعني بالصلاة: القراءة، فالصوت له – أي للقارئ – ورفعه وخفضه وصف للصوت، وهو الذي إن شاء رفعه، وإن
(1)((الفتح)) (2/250) و (8/713-714) .
شاء خفضه، فلذلك فعله، وهو فعله مخلوق، أما القرآن الذي يُسِرُّ به صوته، أو يخافت به، أو يبتغي به بين ذلك سبيلا، فهو كلام ربه غير مخلوق، بل هو وصف له.
*****
172-
قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، أنه أخبره، أن أبا سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو باديتك فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم)) .
((تحب الغنم والبادية)) محبته للبادية تابعة لمحبة الغنم؛ لطلب المراعي لها، وذلك لا يكون إلا في البادية غالباً، والبادية خلاف الحاضرة التي فيها البناء والمدن.
وهي مأخوذة من البدو والظهور؛ لأنها ليس فيها ما يسترها من المباني والحيطان، فهي صحراء، لا عمارة فيها.
((فأذنت للصلاة)) الأذان هو: الإعلام بدخول وقت الصلاة، وطلب حضور المصلين لأدائها جماعة، ولا يسمى أذانا إلا إذا كان برفع الصوت.
قال تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} (1)، وقال تعالى:{وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالحَجِ} (2) ، ولما نزل قول الله – تعالى - {وَأَذَانٌ
(1) الآية 70 من سورة يوسف.
(2)
الآية 27 من سورة الحج.
مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (1) أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برفع الصوت بهذه البراءة في ذلك اليوم، قال أبو هريرة: كنت مع علي بن أبي طالب حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة، فكنا ننادي: أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله - أو مده - إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر، فإن الله برئ من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك، قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي)) (2)، أي: بحّ صوته؛ لشدة رفعه.
((فارفع صوتك بالنداء)) أي: اجتهد في رفع صوتك، ولا تألو، وإلا فأصل الأذان لا يكون إلا برفع الصوت.
قال الحافظ: ((فيه إشعار بأن أذان من أراد الصلاة كان متقررا عندهم؛ لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين.
واستدل به الرافعي على استحباب الأذان للمنفرد، وهو الراجح عند الشافعية)) (3) .
((فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن، ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)) .
مدى الصوت: نهايته، وأقصى ما يبلغه، والمعنى: أن كل من سمع صوته من عاقل وغيره، من البهائم والجمادات - فإن لها سماعا يعلمه الله - تعالى - فإنها تشهد للمؤذن بالتوحيد عند الله يوم القيامة، وهذه فضيلة عظيمة
(1) الآية 3 من سورة براءة.
(2)
((مسند الإمام أحمد)) (2/299) .
(3)
((الفتح)) (2/88) .
للأذان، فينبغي أن يحافظ على ذلك ويحرص عليه.
وفي ((سنن)) أبي داود والنسائي عن أبي هريرة: ((المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس)) ، قال الخطابي:((المعنى أنه يستكمل مغفرة الله إذا استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة، إذا بلغ الغاية من الصوت، وقيل: المعنى: لو قدر أن المكان الذي يصل إليه صوته لو كان له ذنوب تملؤه لغفرت)) (1) .
((وقال النوربشتي: المراد من هذه الشهادة: اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة، كما يفضح بالشهادة قوما، فكذلك يكرم بالشهادة آخرين)) (2) .
وقال الكرماني: ((رفع الصوت بالقرآن، أحق بالشهادة، وأولى)) (3) .
يعني: أن ذلك مراد البخاري من الحديث.
والظاهر أن مراده: أن أصوات العباد من أفعالهم التي يثابون عليها، أو يعاقبون، ومن ذلك القراءة، والتلاوة، فهي فعل التالي الذي يثاب عليه.
*****
173-
قال: ((حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أمه، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ القرآن، ورأسه في حجري، وأنا حائض)) .
ترجم لهذا الحديث في الحيض: باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض. وكان أبو وائل يرسل خادمه، وهي حائض، إلى أبي رزين فتأتيه بالمصحف، فتمسكه بعلاقته، ثم ذكر الحديث بلفظ: ((كان يتكئ في حجري، وأنا
(1)((معالم السنن)) (1/354) ، و ((النسائي)) (2/13) .
(2)
((الفتح)) (2/89) .
(3)
انظر شرحه للبخاري (25/235) .
حائض، ثم يقرأ القرآن)) وفعل أبي وائل يدل على جواز حمل الحائض المصحف، ولكن من وراء حائل، وكذا أبو رزين لو كان ذلك غير جائز عنده لم يمكنها من حمله، إلا أن يقال: إنه لم يعلم بحالها، والحجر بفتح الحاء وسكون الجيم وكسرها، هو: حضن الإنسان ما بين يديه من ثوبه.
قال ابن دقيق العيد: ((فيه إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأن قولها: ((فيقرأ القرآن)) إنما يحسن التنصيص عليه إذا كان ثمة ما يوهم منعه، ولو كانت قراءة القرآن للحائض جائزة، لكان هذا الوهم منتفياً، أعني: توهم قراءة القرآن في حجر الحائض، ومذهب الشافعي الصحيح: امتناع قراءة الحائض القرآن)) (1) .
والمقصود من الحديث هنا أن القراءة غير القرآن، إذ لو كانت القراءة هي القرآن، لما جاز أن يقرأ ورأسه في حجر عائشة وهي حائض.
((قال ابن المنير: ظن الشارح (2) أن غرض البخاري: إثبات جواز قراءة القرآن بتحسين الصوت، وليس كذلك.
وإنما غرضه الإشارة إلى ما تقدم من وصف التلاوة بالحسن، والتحسين، والترجيع، والرفع، والخفض، ومقارنة الحالات البشرية، كقولها:((يقرأ القرآن في حجري وأنا حائض)) . فكل ذلك يحقق: أن القراءة فعل القارئ، وأنها متصفة بما تتصف الأفعال به، ومتعلقة بالظروف المكانية، والزمانية)) (3) .
(1)((شرح العمدة)) (1/127) .
(2)
هو ابن بطال.
(3)
((الفتح)) (13/519) ، وانظر المنواري لابن المنير (ص431) .
قال: ((باب قول الله – تعالى -: {فَاقرَأُوا مَا تَيَسَرَ مِنهُ} .
أمر الله – تعالى – عباده أن يقرءوا ما تيسر من القرآن، وهذا من اليسر عليهم، إذ قيد ذلك بما تيسر، ولم يكلفهم قراءته كله.
والقراءة التي أمر الله عباده بها هي فعلهم، ومعلوم أنهم يتفاوتون في القراءة، وفي الحفظ والتحصيل، وفي جودتها والمهارة في القرآن، وفي الفهم ومعرفة المراد من الخطاب، وغير ذلك. وهذا كله فعلهم وعملهم، الذي يجازون عليه ويثنى عليهم به، ويمدحون، وهذا مراد البخاري – رحمه الله تعالى – من ترجمته بالآية، وسواء أريد بالقراءة الصلاة، أو نفس القراءة فإن القراءة ركن في الصلاة، وقد يعبر عن الشيء بركنه.
قال الخازن: ((فيه قولان: أحدهما: أن المراد بهذه القراءة: القراءة في الصلاة؛ لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل.
الثاني: أن المراد بما تيسر منه دراسته، وتحصيل حفظه، فيقرأ ما سهل عليه حفظه)) (1) .
وقال الحافظ: ((المراد بالقراءة: الصلاة؛ لأن القراءة بعض أركانها)) (2) .
قال ابن جرير: ((يقول: فاقرأوا من الليل ما تيسر لكم من القرآن في صلاتكم، وهذا تخفيف من الله – عز وجل – عن عباده فرضه الذي كان فرض عليهم، بقوله: {قُمِ الَّليلَ إِلا قَلِيلاً {2} نِصفَهُ أَوِ انقُص مِنهُ قَلِيلاً} )) (3) .
وقال القرطبي: ((فيه قولان: أحدهما: أن المراد نفس القراءة، أي: فاقرأوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم.
(1)((تفسير الخازن)) (7/170) .
(2)
((الفتح)) (13/520) .
(3)
((تفسير الطبري)) (29/141) .
والثاني: ((فاقرأوا ما تيسر منه)) أي: فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآنا، كقوله:{وَقُرآنَ الفَجرِ} أي: صلاة الفجر)) (1) .
174-
قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني عروة أن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد القاري حدثاه، أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت.
فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال:((أرسله، اقرأ يا هشام)) فقرأ القراءة التي سمعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كذلك أنزلت)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اقرأ يا عمر)) ، فقرأت، فقال:((كذلك أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه)) .
هشام بن حكيم بن حزام الأسدي، هو وأبوه صحابيان، ممن أسلم يوم الفتح، له فضائل جمة، وكان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فلذلك كان
(1)((الجامع لأحكام القرآن)) (19/53-54) .
عمر – رضي الله عنهما – إذا بلغه الشيء المكروه يقول: أما ما عشت أنا وهشام فلا يكون ذلك.
قال الحافظ: ((تأخر موته إلى خلافة علي بن أبي طالب، ووهم من زعم أنه استشهد في خلافة أبي بكر، وتوفي قبل والده رضي الله عنهما، وعن جميع صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم (1)، قال ابن سعد: توفي أول خلافة معاوية)) (2) .
قوله: ((فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة)) الخ، يعني: أن قراءة هشام تختلف عما قرأه عمر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ألفاظ كثيرة، فلذلك ظن عمر رضي الله عنه أن ذلك غلط من هشام.
((فكدت أساوره)) بالسين المهملة، أي: أواثبه وأجرره، قال النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع
أي: واثبتني، وفي رواية مالك:((أن أعجل عليه)) .
ومعنى كدت: قربت من أن أفعل فيه ذلك.
((فتصبرت)) أي: حملت نفسي على الصبر، حتى ينتهي من صلاته، وفي رواية مالك:((ثم أمهلت حتى انصرف)) يعني: من صلاته، كما قال هنا:((حتى سلم)) .
((فلببته بردائه)) أي: أدرت رداءه على رقبته، وجمعت طرفيه عند لبته، وأمسكته خشية أن ينفلت، ولهذا قال:((فانطلقت به أقوده)) يعني: بردائه، ((فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟)) ظن عمر – رضي الله
(1) انظر ((الفتح)) (9/25) .
(2)
((سير أعلام النبلاء)) (3/52) وانظر ((الاستيعاب)) (ص1538)، و ((الإصابة)) : الترجمة رقم (8965) ، و ((أسد الغابة))
…
(5/398) .
عنه – أن هشاما أخذ هذه السورة عن غير رسول الله – صلى الله عليه وسلم، فأخطأ الذي أقرأه، أو أنه لم يتقنها فوقع في مخالفة ما تلقاه عمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا لما قال هشام: أقرأنيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم، قال له عمر: كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت)) وكان عمر رضي الله عنه شديدا في أمر الله – تعالى -، ولهذا ذهب به يقوده بردائه حتى دخل به على رسول الله –صلى الله عليه وسلم – فقال له:((إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان)) إلى آخره، وقد علم أن من قرأ القرآن على غير ما أنزله الله – تعالى – فقد ارتكب جرما يستحق العقاب عليه، وهذا هو الذي حمل عمر على ما فعله رضي الله عنه.
((فقال: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته)) يؤخذ من هذا مشروعية التثبيت في الأمور، ووقوف الحاكم
بنفسه على الحقائق، وإن كان المخبر موثوقا به.
((فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((كذلك أنزلت)) يعني: أنزلت من عند الله على ما قرأه هشام، ولم يكن مخطئا كما ظنه عمر – رضي الله عنه.
((ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا عمر، فقرأت، فقال: كذلك أنزلت)) .
يعني: أن الله أنزل هذه السورة على ما قرأه عمر، فعمر وهشام كلاهما مصيب في قراءته؛ لأن القرآن نزل على أكثر من حرف، بل على سبعة أحرف.
وأما قول الحافظ: ((وكان سبب اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قديما، ثم لم يسمع ما أنزل فيها، بخلاف ما حفظه وشاهده.
ولأن هشام من مسلمة الفتح، فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – أقرأه ما نزل أخيرا فنشأ اختلافهما من ذلك)) (1) . ففيه نظر، إذ لو كان الأمر على ما ذكره لقال
(1)((الفتح)) (9/26) .
الرسول صلى الله عليه وسلم – لعمر: إن هذه الأحرف التي سمعتها من هشام نزلت بعد ما قرأت هذه السورة، ولكنه قال بعد ما سمع قراءة كل واحد منهما:((كذلك أنزلت)) ، فتبين أن كلا من الحروف التي قرأها هشام، والحروف التي قرأها عمر، نزلت من عند الله.
وليس في قراءة هشام زيادة عما عند عمر في الآيات، وإنما هناك اختلاف في الحروف فقط، ومن أجل ذلك قال لكل واحد منهما بعد ما سمع قراءته:((كذلك أنزلت)) ويوضح ذلك قوله: ((إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه)) أي: لا تتكلفوا التزام حرف واحد، فإن الله – تعالى – قد أوسع عليكم، ويسر لكم قراءة القرآن على سبعة أحرف، رحمة منه وفضلاً، فله الحمد والمنة.
قال الجزري: ((نزل القرآن على سبعة أحرف؛ للتخفيف على هذه الأمة واليسر بها، والتهوين عليها؛ شرفا لها وتوسعة ورحمة؛ لأن العرب الذين نزل القرآن بلغاتهم، لغاتهم مختلفة، ويعسر على أحدهم انتقاله من لغته إلى غيرها، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك، ولا بالتعليم والعلاج، ولا سيما الشيخ والمرأة الكبيران، ومن لا يقرأ كتاباً، كما أشار إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((بعثت إلى أمة أميين، فيهم الشيخ الفاني، والعجوز الكبيرة)) (1) .
ومعنى الحرف كما قال أهل اللغة: حرف كل شيء طرفه وحافته، وأحد حروف التهجي، كأنه قطعة من الكلمة (2) .
وقد اختلف العلماء في تعيين الحروف السبعة اختلافاً كثيراً، وأشكل ذلك على كثير من العلماء.
(1) النشر (1/71-72) ملخصاً.
(2)
سيأتي معنى الحرف أيضا في كلام ابن قتيبة.
فقيل: الحروف السبعة سبع لغات من لغات العرب مفرقة في القرآن، ورد هذا القول ابن جرير، وابن عبد البر، وغيرهما، ودل على عدم صحته هذا الحديث؛ لأن هشاماً وعمر كلاهما قرشي، فلغتهما واحدة، ولا يعقل أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يعلم الرجل القرآن بغير لغته.
وقيل: المراد بها: تأدية المعنى الواحد باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة؛ لأن هشاماً وعمر لغتهما واحدة، وقد اختلف قراءتهما.
اختار هذا القول ابن جرير الطبري، وابن عبد البر، وقال: إنه قول أكثر العلماء، وهذا هو الصواب، كما يأتي بيانه.
((وقال الداني: معنى نزول القرآن على سبعة أحرف يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه نزل على سبعة أوجه من اللغات متغايرة في القرآن.
الثاني: أنها قراءات سميت أحرفاً؛ لعادة العرب في تسمية الشيء باسم ما هو منه.
وقد أجمع العلماء على أنه لم يقصد أن كل حرف يقرأ على سبعة أوجه، إذ لا يوجد ذلك إلا في كلمات معدودة، نحو ((أف)) و ((جبريل)) و ((أرجه)) و ((هيهات)) و ((هيت)) .
كما أجمعوا أنه ليس المراد بالأحرف السبعة: قراءات القراء السبعة الذين اشتهروا بذلك؛ لأن أول من جمع قراءاتهم ابن مجاهد في أثناء المائة الرابعة.
وأكثر العلماء على أنها لغات، كما قال أبو عبيد: إنها سبع لغات متفرقة في القرآن (1) .
وهذا خلاف ما قاله ابن عبد البر: إن أكثر أهل العلم على أن المراد تأدية
(1) النشر (1/74-75) ملخصاً.
المعنى الواحد بألفاظ مترادفة، وإن كان ذلك في لغة واحدة كما سبق قريباً، وتقدم أن هذا الحديث يؤيد صحة هذا القول، ويرد ما قاله الداني: إنه قول أكثر العلماء.
قال الجزرى: رحمه الله – ((ما زلت أستشكل هذا الحديث، وأفكر فيه، وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة، حتى فتح الله عليَّ بما يمكن أن يكون صواباً إن شاء الله – تعالى -، وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وشاذها، وضعيفها، ومنكرها، فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف، لا يخرج عنها.
(1)
إما في الحركات بلا تغير فى المعنى والصورة، نحو ((البخل)) بأربعة، و ((يحسب)) بوجهين.
(2)
أو بتغير في المعنى فقط، نحو:(فَتَلَقَّى آدَمَ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٌ)(1) ، {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} و ((أمه)) (2) .
(3)
وإما في الحروف بتغير المعنى، لا الصورة، نحو ((تبلوا)) و ((تتلوا)) (نُنَحِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) ، {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} (3) .
(4)
أو عكس ذلك [أي بتغير الحروف مع اتفاق المعنى] نحو ((بصطة)) و ((بسطة)) و ((الصراط)) و ((السراط))
(5)
أو بتغيرهما نحو ((أشد منكم)) و ((أشد منهم)) ، و ((يأتل)) و ((يتأل)) و (فامضوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ) و {فَاسعَواْ إِلَى ذِكرِ اللهِ} .
(1) يعني: بنصب آدم، ورفع كلمات، عكس القراءة المشهورة.
(2)
بالتاء المربوطة، وبالهاء.
(3)
الأولى بالحاء المهملة، والثانية بالجيم المشددة.
(6)
أو بالتقديم والتأخير نحو {فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ} و (وَيُقْتَلُونَ فَيَقْتُلُونَ) ، و {وَجَاءَت سَكرَةُ المَوتِ بِالحَقِ} و (جَاءَتْ سَكْرَةُ الحَقِّ بالْمَوْتِ) .
(7)
أو في الزيادة والنقصان، نحو ((وأوصى)) و ((وصى)) و {وَمَا خَلَقَ الذَكَرَ وَالأُنثَى} و ((والذكر والأنثى)) .
وأما اختلاف الإظهار والإدغام، والروم والإشمام، والتفخيم والترقيق، والمد والقصر، والإمالة والفتح، والتخفيف والتسهيل، والإبدال والنقل، ونحو ذلك مما يعبر عنه بالأصول، فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى)) (1) .
وقال ابن قتيبة – رحمه الله – ((وقد غلط في تأويل هذا الحديث قوم، فقالوا: السبعة الأحرف: وعد، ووعيد، وحلال، وحرام، ومواعظ، وأمثال، واحتجاج.
وقال آخرون: هي سبع لغات في الكلمة، وليس شيء من ذلك لهذا الحديث بتأويل.
ومن قال: فلان يقرأ بحرف ((أبي عمرو)) (2) .
أو بحرف ((عاصم)) (3) ، فإنه لا يريد شيئاً مما ذكر، وليس يوجد في كتاب الله – تعالى – حرف قرئ على سبعة أوجه يصح، فيما أعلم.
وإنما تأويل قوله – صلى الله عليه وسلم: ((نزل القرآن على سبعة أحرف)) : على سبعة أوجه من اللغات، متفرقة في القرآن، يدلك على ذلك قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم:
(1) النشر (1/77-78) .
(2)
هو: أبو عمرو بن العلاء بن عمار المازني، المقرئ، أحد الأئمة السبعة، توفي سنة (154هـ) .
(3)
هو عاصم بن أبي النجود، المقرئ المشهور، توفي سنة (127هـ) .
((فاقرءوا كيف شئتم)) ، وقصة عمر مع هشام، وقوله صلى الله عليه وسلم:((إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه)) .
فمن قرأه، قراءة عبد الله بن مسعود، فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة أُبيّ بن كعب، فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة زيد بن ثابت، فقد قرأ بحرفه.
والحرف يطلق على أحد حروف المعجم، وعلى الكلمة الواحدة، وعلى الكلام المؤلف في معنى، أو معان كثيرة، كما يقال: قال الشاعر في كلمته – يعني: قصيدته -.
وقال الله -تعالى -: {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} (1)، وقال تعالى:{وَأَلزَمَهُم كَلِمَةَ التَّقوَىَ} (2)، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} (3)، أراد سبحانه وتعالى: من يعبد الله على الخير يصبه، من تثمير المال، وعافية البدن، وإعطائه السؤال، فهو مطمئن ما دام ذلك له.
وإن امتحنه الله تعالى باللأواء في عيشه، والضراء في بدنه وماله، كفر به.
فهذا عَبَدَ الله على وجه واحد، وهو معنى الحرف، ولو عَبَد الله على الشكر للنعمة، والصبر للمصيبة، والرضا بالقضاء، لم يكن عبد الله على حرف.
وقد تدبرت وجوه الخلاف في القراءات، فوجدتها سبعة أوجه:
أولها: الاختلاف في إعراب الكلمة، أو في حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتابة، ولا يغير معناها، نحو قوله تعالى: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ
(1) الآية 74 من سورة التوبة.
(2)
الآية 26 من سورة الفتح.
(3)
الآية 11من سورة الحج.
أَطهَرُ لَكُم} و (أَطْهَرَ لَكُمْ)(1) ، {وَهَل نُجازِي إِلَاّ الكَفُورَ} (وَهَل يجازي إِلَاّ الْكَفُورَ) ، و {وَيأمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخِلِ} والبَخَلِ (2){فَنَظِرةُ إِلَى مَيسَرَةٍ} ((وميسرة)) (3) .
الوجه الثاني: أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة، وحركات بنائها بما يغير معناها، ولا يزيلها عن صورتها في الكتابة، نحو قوله تعالى:{رَبَّنَا بَاعِد بَينَ أَسفَارِنَا} و ((رَبُّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)) (4)، وقوله تعالى:{إِذ تَلَقَّونَهُ بِأَلسِنَتكُم} و (تَلِقُونَه)(5) و {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} و ((أمه)) (6) 0) .
الوجه الثالث: أن يكون الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها، بما يغير معناها، ولا يزيل صورتها، نحو قوله تعالى:
{وَانظُر إِلَى العِظَامِ كَيفَ نَنشِرُهَا} ، وننشرها، وقوله:{حَتَّىَ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِم} وفرغ.
الوجه الرابع: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتابة، ولا يغير معناها، نحو قوله تعالى:{إِن كَانَت إِلَاّ صَيحَةً وَاحِدَةً} وقوله: ((إلا زقية واحدة)) وقوله: {كَالعِهنِ المَنفُوشِ} و ((كالصوف المنقوش)) .
الوجه الخامس: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها، ومعناها، ونحو قوله:((وطلع منضود)) في موضع، و {وَطَلِحٍ مَّنضُودٍ} في موضع آخر.
(1) الثانية بنصب الراء.
(2)
بفتح الخاء.
(3)
بضم السين.
(4)
الأولى بفتح الباء على صورة الدعاء، والثانية بضم الباء وفتح العين والدال، خبر.
(5)
بفتح التاء، وكسر اللام، وضم القاف، من الولق، وهو الكذب.
(6)
أي: بعد النسيان له.
الوجه السادس: أن يكون الاختلاف في التقديم، والتأخير، نحو {وَجَاءَت سَكرَةُ المَوتِ بِالحَقِ} وفي موضع آخر ((وجاءت سكرة الحق بالموت)) .
الوجه السابع: أن يكون الاختلاف بالزيادة، والنقصان، نحو قوله تعالى:{وَمَا عَمِلَتهُ أَيدِيهِم} وقوله: {إِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُ الحَمِيدُ} و ((إن [الله] الغني الحميد)) .
وكل هذه الحروف كلام الله – تعالى – أنزل به الروح الأمين، على رسوله – صلى الله عليه وسلم – وكان يعارضه في كل سنة، في شهر رمضان، وفي السنة التي توفي فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عارضه مرتين، فيحدث الله إليه من ذلك ما يشاء، وينسخ ما يشاء، وييسر على عباده ما يشاء، فكان من تيسيره أن أمره أن يقرئ كل قوم من العرب بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم.
فالهذلي يقرأ ((عتى حين)) يريد {حَتَّىَ حِينٍ} ؛ لأنه هكذا ينطق بها.
والأسدي يقرأ ((تِعْملون)) و ((تِعلم)) و ((يَسْوَدُّ وجوه)) و ((ألم إعْهَدْ إليكم)) .
والتميمي يهمز، والقرشي لا يهمز، فلو أمر كل واحد أن يلتزم لغة غيره لصعب عليه مفارقة ما جرت عليه عادته، وما نشأ عليه، ولم يمكنه ذلك إلا بمشقة، وبعد رياضة طويلة.
فأراد الله رحمة منه، ولطفاً بعباده، أن يجعل لهم متسعاً في لغاتهم يناسب تيسيره عليهم في الدين.
فإن قيل: أليس هذا اختلافاً، وقد قال الله – تعالى -:{وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللهِ لَوجَدُواْ فِيهِ اختِلافاً كَثِيراً} .
قيل: الاختلاف نوعان: اختلاف تضاد، وهو الذي نفاه الله – تعالى – عن
كتابه، مثل أن ينهى عن شيء، ويأمر به في مكان آخر، أو ينفي الشيء، ويثبته في مكان آخر، ونحو ذلك، وهذا لا وجود له في كتاب الله – تعالى -.
الثاني: اختلاف تنوع وتغاير، وهو جائز في الكلام، وكثير؛ لأن كل واحد لا ينافي الآخر، وذلك نحو قوله تعالى:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلَاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بفتح التاء من ((علمت)) وضمها؛ لأن موسى – عليه السلام – خاطب فرعون بهذا، وهذا، فأنزل الله المعنيين جميعاً.
ومثلها قوله تعالى: ((ننشرها)) و ((ننشزها)) فالانتشار، الإحياء، والإنشاز: هو التحريك، والحياة حركة، فلا فرق بينهما.
وكذلك ((فزع عن قلوبهم)) و ((فرغ)) ؛ لأن فزع: خفف عنها الفزع، وفرغ: أزيل، وأخليت منه، وكل ما في القرآن من تقديم وتأخير، أو زيادة أو نقصان، فعلى مثل هذه السبيل.
فإن قيل: هل يجوز أن نقرأ بجميع هذه الأوجه؟
قيل: كل ما كان منها موافقا لرسم المصحف [وقرأ به الأئمة، ونقل نقلاً متواتراً] جاز لنا أن نقرأ به؛ لأن الصحابة قد أجمعوا على ما فعله أمير المؤمنين، وحرقوا ما خالف المصحف الإمام، فلا يجوز لأحد أن يخالف المصحف الذي أجمع عليه الصحابة، رضوان الله عليهم، كما لا يجوز أن نكتب مصحفاً مخالفاً له (1) .
وقال الحافظ: ((اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة، أبلغها أبو حاتم ابن حبان إلى خمسة وثلاثين قولاً.
وقوله: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} ، يدل على التوسعة في القراءة،
(1)((تأويل مشكل القرآن)) (ص34-42) ببعض التصرف والتلخيص.
والتيسير، وهذا يقوي قول من يقول: المراد بالأحرف: تأدية المعنى باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة؛ لأن هشاماً وعمر لغتهما واحدة، ونقل ابن عبد البر عن أكثر أهل العلم أن هذا هو المراد بالأحرف السبعة.
وذهب أبو عبيد وآخرون إلى أن المراد: اختلاف اللغات، واتفقوا على أنه ليس المقصود أن كل كلمة تقرأ بسبع لغات.
ولا يقصد أن التوسعة في القراءة تقع بالتشهي حسب مراد المتكلم، إذا أراد أن يغير الكلمة بمرادفها، بل لا بد في ذلك من السماع من الرسول – صلى الله عليه وسلم. ولهذا جاء أن كل واحد من المختلفين الذين على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: أقرأني النبي – صلى الله عليه وسلم، وإن كان وجد من كان يقرأ بذلك، وإن لم يكن مسموعاً من النبي – صلى الله عليه وسلم، مثل قراءة ابن مسعود (عَتَّى حِين) بلغة هذيل، وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وكتب إليه:((إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل)) وهذا قبل أن يجمع أمير المؤمنين عثمان- رضي الله عنه – الناس على مصحف واحد، بقراءة واحدة.
وحاصل ذلك أن معنى قوله: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف)) أنه أنزل موسعاً على القارئ أن يقرأه على سبعة أوجه، بأن يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من الآخر، وذلك لتسهيل قراءته، إذ لو أخذوا بأن يقرأوه على حرف واحد لشق عليهم)) (1) .
وقال ابن عبد البر: ((وفي حديث عمر مع هشام رد لقول من قال: إنها سبع لغات؛ لأن عمر قرشي عدوي، وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته، كما أنه محال أن يقرئ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واحداً
(1)((الفتح)) (9/30) .
منهما بغير ما يعرفه من لغته.
والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدل على نحو ما يدل عليه حديث عمر هذا.
وقالوا: إنما معنى السبعة الأحرف: سبعة أوجه من المعاني، المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو أقبل، وتعال، وهلم، وعليَّ. وعلى هذا الكثير من أهل العلم)) (1) .
وهذا هو الصحيح، والأخبار الصحيحة والآثار عن علماء الأمصار تدل على صحة هذا القول، وأنه الصواب، مثل ما رواه الإمام أحمد، وابن جرير، وابن عبد البر، عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((قال جبريل: اقرأوا القرآن على حرف، فقال مكائيل: استزده، فقال: على حرفين، حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم يختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، كقولك: هلم، وتعال)) ، وفي رواية ابن عبد البر:((فقال مكائيل: استزده، حتى بلغ إلى سبعة أحرف، فقال: اقرأه فكل شاف كاف، إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، وعلى نحو: هلم، وتعال، وأقبل، واذهب، وأسرع، وعجل)) (2) .
وروى الإمام أحمد، والطبري، من حديث أبي هريرة، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((أنزل القرآن على سبعة أحرف، غفورا رحيما، عزيزا حكيما، عليما حكيما)) وربما قال: ((سميعا بصيرا)) (3)، قال ابن عبد البر:
(1)((التمهيد)) (8/281) .
(2)
((المسند)) (5/51) ، والطبري (1/23) ، والتمهيد (8/290) .
(3)
((المسند)) (2/332) ، و ((تفسير الطبري)) (1/22) .
((وقوله: سميعا عليما، وغفورا رحيما، وعليما حكيما، أراد به ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، وأنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها معنى، وضده، وما أشبه ذلك، وهذا كله يعضد قول من قال: إن معنى السبعة الأحرف: سبعة أوجه من الكلام المتفق معناه، المختلف لفظه، نحو: هلم، وتعال، وعجل، وأسرع، وانظر، وأخر)) (1) .
وذكر عن الزهري أنه قال: ((إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد، ليس تختلف في حلال، ولا حرام)) (2) .
وذكر عن أُبيّ بن كعب أنه كان يقرأ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَواْ فِيهِ} ((مروا فيه، سعوا فيه)) ، كل هذه الأحرف كان يقرؤها أُبيّ بن كعب، فهذا معنى الحروف المراد بهذا الحديث)) (3) .
وروى ابن جرير أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية: (إِنَّ نِاشِئَةَ اللَّيلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَصْوَبُ قِيلاً) فقال بعض القوم: يا أبا حمزة، إنما هي ((وَأَقْوَمُ)) فقال: أقوم، وأصوب وأهيأ، واحد)) (4) .
وروي عن سعيد بن المسيب: أن الذي ذكر الله – تعالى ذكره – أنه قال: {إِنَّمَا يُعَلمُهُ بَشَرُ} إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي، فكا يملي عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم: سميع عليم، أو عزيز حكيم، أو غير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم وهو على الوحي، فيستفهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم فيقول: أعزيز حكيم؟ أو سميع عليم؟ أو عزيز عليم؟ فيقول له رسول الله
(1)((التمهيد)) (8/284) .
(2)
((التمهيد)) (8/291) .
(3)
المصدر نفسه.
(4)
((تفسير ابن جرير)) (1/52) .
– صلى الله عليه وسلم: أي ذلك كتبت، فهو كذلك، ففتنة ذلك، فقال: إن محمداً وَكَلَ ذلك إليَّ، فاكتب ما شئت. وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة (1) .
ومما يسأله عنه، هل هذه الحروف السبعة موجودة في المصحف الذي بين أيدي المسلمين؟ أو أنها كانت زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم، والخليفتين بعده، وصدرا من خلافة عثمان – رضي الله عنهم – ثم لما جمع عثمان الناس على مصحف واحد، تركت الحروف الستة، أو بعضها؟
قال الحافظ: ((قال أبو شامة: وقد اختلف السلف في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، هل هي مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم، أو ليس فيه إلا حرف واحد منها؟
مال ابن الباقلاني إلى الأول، وصرح الطبري وجماعة بالثاني، وهو المعتمد.
وقد أخرج ابن أبي داود في المصاحف، عن أبي الطاهر بن أبي السرح، قال: سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين، والعراقيين: هل هي الأحرف السبعة؟ قال: لا، وإنما الأحرف السبعة مثل: هلم، وتعال، وأقبل، أي ذلك قلت أجزاك)) قال: وقال لي ابن وهب مثله.
والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله، المقطوع به، المكتوب بأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – وفيه بعض الأحرف التي اختلف فيها من الأحرف السبعة، لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي {تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ} في آخر براءة، وفي غيره بحذف ((من)) .
(1)((تفسير ابن جرير)) (1/54) تحقيق محمود شاكر.
وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار في عدة واوات، ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معاً، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتابته لواحد، أو اثنين، [وعلمه بعض الصحابة] ، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم،
فهو مما كانت القراءة جائزة به توسعة على الناس، وتسهيلاً، فلما آل الأمر إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان – رضي الله عنه – وكفَّر بعضهم بعضاً، اختار الصحابة – رضي الله عنهم – الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته، وتركوا الباقي.
قال الطبري: وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار على حرف واحد، كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة؛ لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة، لم يكن على سبيل الإيجاب، بل على سبيل الرخصة.
قلت: ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} وقال أبو العباس ابن عمار: أصح ما عليه الحذاق: أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها، لا كلها، [فما وافق رسم المصحف من تلك الحروف جازت القراءة به مع التواتر]، وما خالفه مثل:((أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج)) ، ومثل:((إذا جاء فتح الله والنصر)) فهو من تلك القراءات التي تركت، إن صح سندها، ولا يكفي صحة سندها في إثبات كونها قرآناً، ولا سيما والكثير منها مما يحتمل أن يكون من التفسير الذي قرن إلى التنزيل، فصار يظن أنه منه)) (1) .
وقال البغوي في ((شرح السنة)) : ((المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرض على رسول الله – صلى الله عليه وسلم، فأمر عثمان – رضي الله عنه – بنسخه في المصاحف، وجمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك؛ قطعاً لمادة الخلاف،
(1)((الفتح)) (9/30) .
فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ، والمرفوع، كسائر ما نسخ، ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم)) (1) .
قال ابن عبد البر: المصحف الذي بأيدي الناس اليوم هو منها حرف واحد، وعليه أهل العلم.
ثم ذكر عن مالك أنه سئل عمن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب: ((فامضوا إلى ذكر الله؟ فقال: ذلك جائز، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرءوا منه ما تيسر)) ، مثل ((تعلمون، ويعلمون، لا أرى في اختلافهم في مثل هذا بأساً.
ثم قال: قال ابن وهب: أخبرني مالك بن أنس، قال: أقرأ عبد الله بن مسعود رجلاً: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ {43} طَعَامُ الأَثِيمِ} فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال ابن مسعود: طعام الفاجر، فقلت لمالك: أترى أن يقرأ كذلك؟
قال: نعم، أرى ذلك واسعاً.
قال: معناه عندي: أن يقرأ به في غير الصلاة (2) ، وإنما ذكرنا عن مالك تفسيراً لمعنى الحديث، وإنما لم نجز القراءة به في الصلاة؛ لأن ما عدا مصحف عثمان فلا يقطع عليه، وإنما يجري مجرى السنن، التي نقلها الآحاد، لكن لا يقدم أحد على القطع في رده.
وذكر عن ابن القاسم أنه قال: أرى أن على الإمام أن يمنع من يبيع مصحف ابن مسعود، وأن يضرب من قرأ به، ويمنعه.
(1)((الفتح)) (9/30) ، وانظر ((شرح السنة)) (4/511) ، وقد تصرف الحافظ فيه.
(2)
الظاهر أن ابن مسعود أراد أن يفسر الأثيم، ويبين معناه له.
وقد قال مالك: من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود، أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف، لم يصل وراءه.
وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك، إلا قوماً شذوا، لا يعرج عليهم.
وهذا كله يدلك على أن السبعة الأحرف التي أشير إليها في الحديث ليس بأيدي الناس منها إلا حرف زيد بن ثابت الذي جمع عليه عثمان – رضي الله عنه – المصحف.
وذكر بسنده إلى أبي الطاهر، قال: سألت سفيان بن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين، والعراقيين، هل تدخل في السبعة الأحرف؟ فقال: لا. وإنما السبعة الأحرف كقولهم: هلم، أقبل، تعال، أي ذلك قلت أجزأك.
قال أبو طاهر: وقاله ابن وهب.
قال أبو بكر محمد بن عبد الله الأصبهاني المقرئ: معنى قول سفيان هذا أن اختلاف العراقيين، والمدنيين، حرف واحد، من الأحرف السبعة، وبه قال محمد بن جرير الطبري.
وقال أبو جعفر الطحاوي: كانت هذه السبعة للناس في الحروف؛ لعجزهم عن أخذ القرآن على غيرها؛ لأنهم أميين، لا يكتبون إلا القليل منهم، فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له، إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ، إذا كان المعنى متفقاً، فكانوا كذلك حتى كثر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقرأوا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرأوا بخلافها.
وبان بما ذكرناه أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة
الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد)) (1) .
فإن قيل: هذه الأحرف أنزلها الله، وعلمها الرسول – صلى الله عليه وسلم – الصحابة، فثبتت لديهم من كلام الله، وتركها وعدم الاعتناء بها وحفظها ونقلها يكون تفريطاً من الأمة بما كلفت بحفظه.
قيل: الأمر كذلك أن الله أنزلها قرآناً، والرسول – صلى الله عليه وسلم – علمها الصحابة، وحفظهم إياها، ولكن الأمة لم تفرط بحفظها، ولم تضيع ما كلفت به، وإنما جعل الأمر إليها، فخيرت في قراءة القرآن بأي حرف من الأحرف السبعة شاءت، مثل تخييرها في كفارة اليمين بين ثلاثة الأشياء، المذكورة في الآية، إما عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فلو أجمعوا على التكفير بواحدة من الثلاث دون حصر التكفير بأي واحدة من الثلاث شاء المكفر لكان ذلك صواباً، مؤدياً للواجب من حق الله – تعالى -. فكذلك مسألة الأحرف السبعة، فإن الله خيرهم فيها توسعة لهم وتسهيلاً عليهم، فإذا رأت الأمة الاقتصار على حرف واحد، من الأحرف السبعة؛ لأمر أوجب ذلك، من خوف الاختلاف، والكفر الذي قد يكون من بعضهم لبعض بسبب القراءة بالأحرف السبعة، كان الصواب – بل الواجب – هو الاقتصار على حرف واحد منها، مع أمن الاختلاف، والتفرق. وهذا ما أدركه الخليفة الثالث، ووافقه عليه أصحاب الرسول – صلى الله عليه وسلم – فكان فيه الخير، والرشد، والهدى، وقد أوضح ذلك الإمام ابن جرير في مقدمة التفسير (2) .
ومقصد البخاري: قوله: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} فأسند القراءة إليهم، مما يدل على أنها فعلهم، ولما فيها من وصف التيسير، فإنهم يختلفون في ذلك،
(1)((التمهيد)) (8/291-24) .
(2)
انظر (1/58) بتحقيق محمود شاكر.
فمنهم من ييسر له أكثر مما ييسر لغيره، ولما فيه من اختلاف قراءتهم، فكل واحد منهم قرأ بغير قراءة الآخر، فالاختلاف وصف لقراءتهم، لا للقرآن، وهذا كله يدل على أن ذلك فعلهم، وهو المقصود.
*****
قال: باب قول الله تعالى -: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مُيَسر لِمَا خُلِقَ لَهُ)) يقال: ميسر: مهيأ.
وقال مجاهد: يسرنا القرآن بلسانك، هونا قراءته عليك.
وقال مطر الوراق: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} قال: ((هل من طالب علم فيعان عليه) .
قال العيني: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي: سهلناه للادكار والاتعاظ.
{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} متعظ، وأصل ((مدكر)) مفتعل من الذكر، قلبت التاء دالاً، ثم أدغمت في الأخرى (1) .
قال ابن جرير: ((يقول تعالى ذكره: ولقد سهلنا القرآن، بيناه، وفصلناه للذكر، لمن أراد أن يتذكر، ويعتبر، ويتعظ، وهوناه.
ثم روى عن مجاهد أنه قال: هوناه، وعن ابن زيد، قال: بيناه.
ثم قال: وقال بعضهم: هل من طالب علم، أو خير، فيعان، وهو قريب المعنى مما قلناه)) (2) .
وقال ابن كثير: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه، لمن أراده ليتذكر الناس، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
(1)((عمدة القاري)) (25/195) .
(2)
((تفسير الطبري)) (27/96) .
لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} ِ (1) وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} ِ (2) ، وقال مجاهد، يعني: هونا قراءته.
وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن.
وقال الضحاك: عن ابن عباس: ((لولا أن الله يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل)(3) .
{فَهَل مِن مُّدَّكِرٍ} استفهام أريد به الحض على التذكر، ولا بد قبل التذكر من التعلم، فالله - تعالى - قد سهل طرق حفظ القرآن، وفهمه، وثمرة ذلك: العمل به، والاتعاظ بمواعظه.
قال ابن كثير: {فَهَل مِن مُّدَّكِرٍ} أي: فهل من متذكر بهذا القرآن الذي يسر الله حفظه ومعناه؟ وقال محمد بن كعب القرظي: فهل من منزجر عن المعاصي؟ (4) .
وقال القسطلاني: ((ولقد سهلناه للحفظ، وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه، ويروى أن كتب أهل الأديان كالتوراة والإنجيل، لا يتلوها أهلها إلا نظراً، ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن)) (5) .
وقول مجاهد، تقدم أن ابن جرير رواه بسنده عنه، وقال الحافظ: رواه الفريابي في تفسيره بسنده.
(1) الآية 29 من سورة ص.
(2)
الآية 97 من سورة مريم.
(3)
((تفسير ابن كثير)) (7/453) .
(4)
المصدر نفسه.
(5)
((إرشاد الساري)) (10/469) .
وقوله: ((هونا قراءته عليك)) لا يريد اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فإن ظاهر الآية يدل على العموم، ولهذا قال:{فَهَل مِن مُّدَّكِرٍ} وإنما يريد تهوين قراءته على كل من أقبل عليه صادقاً، ويدخل في ذلك فهم معانيه، فإن الله - تعالى - قد يسرها لمن تدبره.
وقول مطر الوراق، سبق أن ابن جرير رواه بسنده، وقال: إنه قريب المعنى مما قلناه، يعني: فصلناه، وبيناه، لمن أراد الفهم والتذكر، والاتعاظ، وذلك لما في لفظ التيسير مما يدل على التسهيل، والإعانة، وما يدل عليه الاستفهام من إرادة ذلك، والله أعلم. ومقصود البخاري: أن حفظ كتاب الله وفهمه، والتذكر به والاتعاظ، وكذلك تلاوته وقراءته، كل ذلك عمل العبد الذي يطلب من ربه أن يعينه عليه، ويسهله له، وقد وعد بذلك جل وعلا.
أما المفهوم المحفوظ المتلو فهو غير فعل العبد المخلوق، بل هو كلام الله وصفته.
175-
قال: ((حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا يزيد، حدثني مطرف بن عبد الله، عن عمران، قال: قلت: يا رسول الله، فيما يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له)) .
هذا السؤال تكرر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عدد من أصحابه، فبين لهم أن الله - تعالى - قد علم أهل الجنة وأهل النار قبل وجودهم، وأنه تعالى قد كتب ذلك في الأزل، ونهاهم صلى الله عليه وسلم أن يتكلوا على ذلك الكتاب، ويدعوا العمل.
وكأنه عرض لهم أنه إذا كان أهل الجنة قد عملوا، وكتبوا، وكذلك أهل
النار، فلا فائدة في العمل، والاجتهاد، فإنه لا بد من حصول المكتوب، فأجابهم عن ذلك بقوله:((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) ، يعني: أن الذي كتب من أهل الجنة سوف يهيئ الله له أسباب عمل أهل الجنة، وييسرها له فيعملها، فتكون سبباً لدخوله الجنة. وكذلك الذي كتب من أهل النار، لابد أن يعمل عملاً يستحق به دخول النار، وقد أوضح ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – إيضاحا تاما.
ففي سنن أبي داود، والترمذي، أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سئل عن هذه الآية:{وَإِذ أَخَذَ رَبُكَ مِن بَنِي آَدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِيَّتَهُم} ؟ فقال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل عنها فقال: ((إن الله – عز وجل – خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون)) .
فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:((إن الله – عز وجل – إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار)) (1) .
وفي ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين
(1) انظر ((السنن)) لأبي داود (5/79-80)، والترمذي (5/266) رقم (3075) وقال: حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر. ورواه الإمام أحمد في ((المسند)) (1/44، 45) ، وابن وهب في ((كتاب القدر)) (ص73) .
ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء)) (1) .
وفيه أيضاً عن أبي الأسود الدِّئِليّ، قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشي قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟
فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم.
قال: فقال: أفلا يكون ظلماً؟
قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله، وملك يده، فلا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.
فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا حرز عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشي قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟
فقال: ((لا، بل شيء قضى عليهم، ومضى عليهم، وتصديق ذلك كتاب الله – عز وجل: {وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَألهَمَها فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا} (2) .
وروى ابن وهب عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفي يده كتابان، فقال:((هل تدرون ما هذان الكتابان؟)) فقلنا: لا، إلا أن تخبرنا يا رسول الله، فقال للذي بيده اليمنى:((هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، وأجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً)) .
(1) انظر (4/2044) رقم (2653) .
(2)
((صحيح مسلم)) (4/2041) رقم (2650) .
ثم قال للذي في شماله: ((هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، وأجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً)) .
فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله؟ إن كان الأمر قد فرغ منه؟
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل)) .
ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيديه، فنبذهما، ثم قال:((فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة، وفريق في السعير)) (1) .
والأحاديث في هذا كثيرة، ففي ذلك أن الله – تعالى – علم أهل الجنة وكتبهم، وأرادهم كوناً من أهلها، وكذلك أهل النار، قبل وجودهم بزمن طويل جداً، وقبل أن يعملوا ما يستحقون عليه دخول الجنة أو النار، وهذا من كمال علم الله – تعالى -، وهو مما يجب الإيمان به، وقد نص الأئمة على كفر من جحده.
قال اللالكائي: ((روي عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وعبيد الله بن الحسن العنبري: يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا.
وعن سعيد بن جبير: القدرية يهود، وعن الشعبي: القدرية نصارى.
وعن نافع مولى ابن عمر: القدرية يقتلون، وحكى المزني عن الشافعي: أنه كفرهم، وعن إبراهيم بن طهمان: القدرية كفار.
(1) رواه الترمذي (4/249) ، وابن وهب في كتاب القدر (83-87) والآجري في الشريعة (ص173) ، وابن جرير في ((التفسير)) من طريق ابن وهب (25/9) ، وهذان الكتابان اللذان أخذهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليسا هما الكتابان اللذان كتب الله فيهما أسماء أهل الجنة وأهل النار، وإنما ذلك تمثيل من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتقريب إلى أفهام الناس بأن الله – تعالى – علم كل شيء مما سيكون وما يصير إليه العباد، وكتبه تأكيداً لعلمه تعالى، فلا يتغير ولا يتبدل.
وعن أحمد بن حنبل مثل قول مالك)) (1) .
وفي هذه الأحاديث بيان أن كل أحد لا بد له من عمل يكون سبباً لدخوله الجنة أو النار.
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – بين أن الله – تعالى – علم أهل الجنة، وأهل النار، وأنه كتب ذلك ونهى الناس أن يتكلوا على ما سبق في الكتاب عليهم، ويدعوا العمل، كما يفعله الملحدون، وقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فأهل السعادة سوف تتهيأ لهم من الأسباب ما تمكنهم من عمل أهل السعادة.
وكذلك أهل الشقاء، لا بد أن يعملوا الأعمال التي يشقون بها، ويستحقون النار عليها.
فالله – تعالى- يعلم كل شيء على ما هو عليه، وقد جعل لكل شيء سبباً، وجعل العبد قادراً على العمل الذي كتب عليه، فيفعله مختاراً، راغباً غير مجبر عليه، ولا ملزم به.
ولهذا يجب على العبد، مع الإيمان بالقدر: الاجتهاد في العمل، والأخذ بأسباب النجاة، والالتجاء إلى الله – تعالى – بأن ييسر له أسباب السعادة، وأن يعينه عليها.
والله – تعالى – مع غناه عن الخلق كلهم، خلقهم، وأرسل إليهم الرسل تبين لهم ما يسعدهم، وما فيه شقاؤهم، وهدى عباده المؤمنين لما خلقوا له، وهداهم لما اختُلِف فيه من الحق، فمنَّ عليهم أن حبب إليهم الإيمان، والعمل الصالح، ويسر ذلك لهم، وأعانهم عليه، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم ضده من الكفر والمعاصي، والفسوق، وجعلهم راشدين، وكل ذلك فضل منه
(1)((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (2/706-707) .
وكرم من غير استحقاق لهم عليه، فإيجادهم من العدم فضل منه، وإرسال الرسل إليهم تدلهم على الحق فضل منه، وهدايته
لهم فضل منه، وجميع ما ينالون به الخير من قواهم وغيرها بفضله، وكذلك إثابته لهم على أعمالهم الصالحة فضل منه وكرم، وإن كان أوجب ذلك على نفسه، كما حرم على نفسه الظلم، قال تعالى:{كَتبَ رَبُّكُم عَلَى نَفسِهِ الرَّحمَةَ} وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلينَا نَصرُ المُؤمِنينَ} ، فهو واجب بإيجابه ووعده، وهو لا يخلف وعده، وكل ذلك بفضله ومنته، والخلق لا يوجبون على الله شيئاً، ولا يحرمون عليه شيئاً، بل هم أعجز من ذلك، وأقل.
فكل ما يصيب الخلق من النعم فهي من فضل الله، وكرمه، وكل ما يصيبهم من النقم فهي بعدل، وهم يستحقونها جزاء لأعمالهم، ويعفو الله عن كثير.
ولا بد للعبد أن يجمع بين أمر الله وقدره، ووعده، ووعيده؛ لأن من أعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد، معتمداً على القدر، فهو ضال، ومن حاول القيام بالأمر والنهي، وأعرض عن القدر، فهو أيضا ضال، ولهذا أمر الله عباده أن يعبدوه مستعينين به على ذلك، كما قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ} .
فيعبدون اتباعا لأمره، ويستعينونه إيماناً بالقدر، وذلك أنه لا يقع شيء إلا بعد مشيئته، وهو الخالق لكل شيء، ومن ذلك أفعال العباد، وإن كانت تقع باختيارهم وقدرتهم، فهو الخالق لها، ولا تقع إلا إذا شاء، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالِمينَ} (1) ، وإذا لم يعن الله العبد على الفعل لم يستطعه.
(1) الآية آخر سورة التكوير.
فمن ظن أنه يطيع الله بلا معونته، كما تزعم القدرية المجوسية فهو جاحد لقدرة الله التامة، ومشيئته الشاملة لكل شيء، وخلقه لكل شيء.
ومن ظن أنه إذا أعين على ما يريد، ويسر له ذلك كان محموداً، محبوباً، سواء وافق ذلك الأمر الشرعي أو خالفه، فقد جحد دين الله وكذب كتبه ورسله، ووعده، ووعيده، واستوجب غضب الله وعقابه، وصار من الذين قال الله عنهم:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلَاّ تَخْرُصُونَ} (1) .
قوله: ((فيم يعمل العاملون؟)) أي: أعمال العباد، هل قدرها الله عليهم وسبق علم الله بها، وكتابته لها، فهم يعملون في أشياء قضاها الله وفرغ منها، فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما قدره، وقضاه؟ وهذا هو الواقع.
أو أنهم يعملون في شيء لم يقدر، ولم يكتب عليهم، بل هو موكول إليهم؟
وذكر هذا الحديث في القدر بلفظ: ((قال رجل: يا رسول الله، أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: كل يعمل لما خلق له، أو لما ييسر له)) (2) .
فقوله: ((فيم يعمل العاملون؟)) مرتب على قول النبي – صلى الله عليه وسلم – إنه قد علم أهل الجنة، من أهل النار، فكأنه وقع في نفسه أنه ما دام قد فرغ من ما يصير إليه العباد، وعلم الله أهل السعادة، وأهل الشقاء، قبل وجودهم، فلماذا العمل، والإنسان لا بد أن يصير إلى ما كتب عليه، فهي أمور منتهية، ولابد من حصولها؟
(1) الآية 148 من سورة الأنعام.
(2)
((البخاري)) (8/104) .
فأجابه النبي – صلى الله عليه وسلم – بما أزال هذا الإشكال بقوله: (كل يعمل لما خلق له)) ، يعني أن أهل الجنة لا بد أن يعملوا أعمالاً يستحقون بها دخول الجنة، وأهل النار لا بد أن يعملوا أعمالاً يستحقون بها دخول النار.
وقد علم الله أن من يكون من أهل الجنة يعمل عملهم، وييسر ذلك له، ويتفضل عليه، فيحبب إليه الإيمان، ويزينه في قلبه، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويجعله راشداً مطيعاً مهتدياً، وهذا كله فضل الله ومنته، وهو معنى تيسيره لليسرى، وأما أهل النار فقد علم الله – تعالى – أنهم يكفرون، ويبغضون الإيمان، ويأبونه، ويفعلون ذلك اختياراً منهم، وحباً له، بعكس أهل الإيمان، وهو معنى تيسيرهم للعسرى، كما قال تعالى:{فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل ميسر لما خلق له)) .
ووجه الاستدلال من الحديث: أن قوله: ((كل ميسر لما خلق له)) يدل على أن العبد له عمل ييسر له فيعمله، فيستحق عليه الجزاء، وذلك الجزاء هو الذي خلق العبد له، إما الجنة وإما النار، فالعبد فاعل على الحقيقة، فهو المؤمن، والمصلي، والعامل، حقيقة، وهو الكافر، والمنافق، والعاصي، والسارق، والزاني، حقيقة، ولذلك استحق العذاب، أو الثواب.
وكذلك هو القارئ إذا قرأ كتاب الله – تعالى -، فالقراءة فعله، وكسبه، وعمله، والمقروء: كتاب الله وصفته الذي تكلم به، وقاله، وأنزله على رسول – صلى الله عليه وسلم، وقد يسر الله القرآن للذكر، فإذا تذكره العبد، وقرأه، وعمل به، فذلك عمله، يضاف إليه، ويجزى عليه.
قال الإمام البخاري رحمه الله: ((ويقال لمن زعم أني لا أقول: القرآن مكتوب في المصحف، ولكن القرآن بعينه في المصحف، يلزمك أن تقول:
إن ما ذكره الله في القرآن من الجن، والإنس، والملائكة، والمدائن، ومكة، والمدينة، وغيرها، وإبليس، وفرعون، وجنودهما، والجنة، والنار، عاينتهم بأعيانهم في المصحف؛ لأن فرعون مكتوب فيه، كما أن القرآن مكتوب فيه.
ويلزمك أكثر من ذلك، حين تقول: الله في المصحف، وهذا أمر بيَّن؛ لأنك تضع يديك على هذه الآية، وتراها بعينك:{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} فلا يشك عاقل بأن الله هو المعبود، وقوله:{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} هو قرآن، فالقرآن قول الله – عز وجل – والقراءة، والكتابة، والحفظ للقرآن، هو فعل المخلوق؛ لقوله:{فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} وقوله: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنَ القُرآَنِ} .
والقراءة فعل الخلق، وهي طاعة الله، والقرآن ليس هو بطاعة، إنما هو الأمر بالطاعة، ودليله قوله تعالى:{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} (1)، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} (2)، وقوله:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (3)، وقال عز وجل:{يَأَيُهَا الرَّسُولُ بَلِغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِكَ} ، فلذلك كله مما أمر به، ولذلك قال:{أَقِيمُواْ الصَّلاةَ} ، والصلاة بجملتها طاعة لله، والأمر بالصلاة قرآن، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على اللسان.
والقراءة والحفظ والكتابة مخلوق، وما قرئ، وحفظ، وكتب، ليس
(1) الآية 106 من سورة الإسراء.
(2)
الآية 29 من سورة فاطر.
(3)
الآية 17 من سورة القمر.
بمخلوق، ومن الدليل عليه: أن الناس يكتبون ((الله)) ويحفظونه، ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه، والخالق الله بصفته)) (1)
176-
قال: ((حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندور، حدثنا شعبة، عن منصور والأعمش، سمعا سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان في جنازة، فأخذ عوداً فجعل ينكت في الأرض، فقال: ((ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من الجنة، أو من النار)) قالوا: ألا نتكل؟ قال: ((اعملوا، فكل
ميسر، {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الآية)) .
((أنه كان في جنازة)) قال الأزهري: ((قال أبو العباس: الجنازة بالكسر: السرير، وبالفتح: الميت، وقال الليث: الإنسان الميت، والشيء الذي قد ثقل على قوم، واغتموا به، هو جنازة، عن الأصمعي: الجنازة – بالكسر – هو الميت نفسه)) (2) .
وفي ((المصباح)) : ((جنزت الشيء، أجنزه – من باب ضرب -: سترته، ومنه اشتقاق الجنازة، وهي بالفتح والكسر، والكسر أفصح، وقال الأصمعي وابن
(1)((خلق أفعال العباد)) (188-190) .
(2)
((تهذيب اللغة)) (10/622) .
الأعرابي: بالكسر: الميت نفسه، وبالفتح: السرير، وروى أبو عمر الزاهد، عن ثعلب عكس هذا، فقال: بالكسر: السرير، وبالفتح: الميت نفسه)) (1) .
((فأخذ عوداً فجعل ينكت في الأرض)) أي: يضرب فيها بذلك العود، ويكون ذلك عادة من فعل المفكر المهموم.
((فقال: ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار)) الخطاب وإن كان موجهاً إلى الحاضرين، فالمقصود به عموم الخلق من الإنس والجن.
ومعنى كتابة مقعده: أن الله علم مصيره، ومستقره في الجنة أو في النار، وكتبه، وذلك قبل وجوده، كما سبقت الإشارة إليه.
((قالوا: ألا نتكل؟)) أي: ندع العمل اعتماداً على ما كتب لنا، وقدر، فإننا لا بد صائرين إليه، فلا يكون في العمل تغيير لما كتب، وهذا الإشكال يعرض لكثير من الناس، وقد أزاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله:((اعملوا فكل ميسر)) أي: ميسر لما خلق له من الجنة أو النار، فإن كان العبد خلق للجنة والسعادة، فسوف يهيئ الله له من أسباب السعادة، وييسرها له ويسهلها عليه، حتى يتمكن من العمل الذي يكون سبباً لذلك، وإن كان من أهل الشقاء، فلا بد أن يقيّض له من الأسباب ما يتمكن به من العمل للشقاء.
فالله – تعالى – لا يظلم أحداً، وقد حرم الظلم على نفسه – تعالى – وجعله بين عباده محرماً، ولكن لكمال قدرته خلق العبد فاعلاً مختاراً، فإما
(1)((المصباح المنير)) (1/153) .
أن يختار طريق الهدى، أو طريق الردى، وكل واحد من الفريقين يجد نفسه غير مدفوع إلى ذلك، بل يفعله عن رغبة منه، واختيار، ولو حيل بينه وبين ما يريده لربما قاتل من يحاول أن يصده عن مراده، والله – تعالى – ييسر للعبد من العمل ما يستحق به ما كتب عليه وقدر، قبل أن يخلق، ولهذا قرأ النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله تعالى:{فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .
وتقدم وجه الدلالة من الحديث لمراد البخاري في الحديث الذي قبله، وهو أن التيسير يدل على أن العبد الذي يسر له العمل عامل حقيقة، ويدخل في ذلك قراءة القرآن، فهي عمل القارئ، وأما المقروء فهو كتاب الله – تعالى – كما سبق.
قال ابن المنير: ((ما ذكره البخاري في هذا الباب راجع إلى ما تقدم من وصف القراءة بالتيسير، وهذا يدل على أنها فعل [العبد] ، ويشهد [له] قوله: كل ميسر لما خلق له، ومما خلق له التلاوة، والله أعلم)) (1) .
قوله: ((ومما خلق له التلاوة)) يعني: أنها عمل الإنسان الذي يترتب عليه مصيره الذي كتب له، كما مر في الحديث.
ذكر شيخ الإسلام أن الجهمية افترقت على ثلاث فرق، فرقة تقول: القرآن مخلوق، وفرقة تقول: كلام الله، وتسكت، وفرقة تقول: ألفاظنا
(1)((المتواري)) (ص432) .
وتلاوتنا للقرآن مخلوقة.
وحقيقة قول هؤلاء: أن القرآن الذي نزل به جبريل على محمد مخلوق لم يتكلم الله به، وشبهتهم: أن أفعالنا وأصواتنا مخلوقة، ونحن إنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا.
ثم قابل هؤلاء قوم أرادوا رد باطلهم، فوقعوا في باطل آخر، حيث قالوا: تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة، وألفاظنا به غير مخلوقة (1) ؛ لأن هذا هو القرآن، وهو غير مخلوق.
ولم يفرقوا بين الاسم المطلق، والاسم المقيد بالدلالة، فأنكر الإمام أحمد على هؤلاء وبَدّعهم، وأحمد وسائر الأئمة ينكرون أن يكون شيء من كلام الله مخلوقاً، حروفه أو معانيه، وينكرون أن يكون القرآن المنزل ليس هو كلام الله، كما ينكرون على من يجعل شيئاً من أفعال العباد أو أصواتهم غير مخلوق.
وكلام أحمد في مسألة التلاوة، والقراءة، والإيمان، من نمط واحد، منع إطلاق القول بأن ذلك مخلوق؛ لأنه يتضمن القول بأن من صفات الله ما هو مخلوق، ولما فيه من الذريعة، ومنع أيضاً إطلاق القول بأنه غير مخلوق؛ لما فيه من البدعة والضلال.
وذلك أن التلاوة، والقراءة، واللفظ، قد يراد به مصدر: تلا يتلو تلاوة، وقرأ يقرأ، قراءة، ولفظ، يلفظ، لفظاً، ومسمى المصدر هو فعل العبد، وحركاته، وذلك مخلوق، ليس هو القول المسموع المتلو.
وقد يراد بالتلاوة، والقراءة، واللفظ: المتلو، المقروء، المتلفظ به، وهو المسموع، وهذا هو كلام الله – تعالى – ليس بمخلوق.
(1) ممن يقول بذلك محمد بن داود المصيصي، وأبو حاتم الرازي، وأبو عبد الله بن حامد، وأبو نصر السجزي، وأبو عبد الله بن منده، وأبو إسماعيل الهروي، وأبو العلاء الهمداني، وأبو الفرج المقدسي: انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/361) .
وقد يراد مجموع الأمرين، فلا يجوز إطلاق القول بأنه مخلوق، ولا نفي الخلق عن الجميع (1) .
*****
قال: ((باب قول الله -تعالى -: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} .
أي: ليس الأمر، كما قال المكذبون لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن ما يقوله شعر، أو كهانة، أو أساطير الأولين اكتتبها، ليس الأمر كذلك، بل هو قرآن مجيد)) قال البغوي: كريم، شريف، كثير الخير، ليس كما زعم المشركون، أنه شعر، أو كهانة.
{فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} قرأ نافع بالرفع، على أنه نعت للقرآن، فإن القرآن محفوظ من التبديل والتغيير، والتحريف؛ قال الله – تعالى -:{إِنَّا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقرأ الباقون بالجر، على أنه نعت للوح، وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، ومنه تنسخ الكتب، محفوظ من الشياطين، ومن الزيادة فيه، والنقصان)) (2) .
و ((المجيد)) الكريم، واسع الخير، كثير الصفات الحميدة.
قال ابن القيم: ((المجد مستلزم للعظمة، والسعة والجلال، كما يدل عليه موضوعه في اللغة، فهو دال على صفات العظمة والجلال)) (3) .
والقرآن عظيم، واسع المعاني، كثير الخير، وفيه الهدى والنور، وهو جليل القدر؛ إذ هو كلام رب العالمين.
(1)((مجموع الفتاوى)) (12/359-374) ملخصاً.
(2)
((تفسير البغوي على هامس الخازن)) (7/232) .
(3)
((جلاء الأفهام)) (ص216) .
قوله: {وَالطُّورِ {1} وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ} ، قال قتادة: مكتوب)) .
قال ابن كثير – رحمه الله: ((يقسم تعالى بمخلوقاته، الدالة على قدرته العظيمة، أن عذابه واقع بأعدائه، وأنه لا دافع
له عنهم، فالطور هو: الجبل، الذي يكون فيه أشجار، مثل الذي كلَّم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى، وما لم يكن فيه شجر، لا يسمى طوراً، وإنما يقال له: جبل.
{وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ} قال قتادة: مكتوب، قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل: الكتب المنزلة المكتوبة، التي تقرأ على الناس، جهاراً، ولهذا قال:{فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} (1) .
قال البخاري – رحمه الله: ((وقال إسحاق بن إبراهيم: فأما الأوعية، فمن يشك في خلقها؟ قال الله – تعالى -:{وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ {2} فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} ، وقال:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} ذكر أنه يحفظ، ويسطر. قال:{وَمَا يَسطُرُونَ} .
ثم روى عن قتادة قال: {وَالطُّورِ {1} وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ} قال: المسطور: المكتوب، {فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} : وهو الكتاب، وروى عن مجاهد:(كتاب مسطور) : وصحف مكتوبة، (في فِي رَقٍ مَّنشُورٍ) : في صحف)) (2) .
((قال أبو عبد الله: فأما المداد، والرق، ونحوه، فإنه خلق، كما أنك تكتب ((الله)) ، فالله في ذاته هو الخالق، وخطك واكتسابك من فعلك خلق؛ لأن كل شيء، دون الله، صفة، وهو خلق، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ
(1)((تفسير ابن كثير)) (7/403) .
(2)
((خلق أفعال العباد)) (ص43) .
شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقدِيراً} وقال: {وَإِنَّهُ فِي أُمِ الكِتَابِ لَدَينَا لَعَلِيٌ حَكِيم} ، {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (1) .
قوله: {يَسطُرُونَ} : يخطون)) .
تفسير لقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} .
قال ابن كثير: {وَالقَلَمِ} الظاهر أنه جنس القلم، الذي يكتب به، كقوله:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه، على ما أنعم به عليهم، من تعليم الكتابة، التي بها تنال العلوم.
ولهذا قال: {وَمَا يَسطُرُونَ} قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يعني: وما يكتبون، وقال أبو الضحى: عن ابن عباس {وَمَا يَسطُرُونَ} أي: وما يعملون، وقال السدي:{وَمَا يَسطُرُونَ} يعني: الملائكة، وما تكتب من عمل العباد)) (2) .
قوله: {فِي أُمِّ الْكِتِابِ} : جملة الكتاب وأصله)) .
قال ابن كثير: ((قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتِابِ لَدَينَا لَعَلِيٌ حَكِيمُ} يبين شرفه، في الملأ الأعلى، ليشرفه ويعظمه، ويتبعه أهل الأرض، فقال تعالى:{وَإِنَّهُ} أي: القرآن: {فِي أُمِّ الْكِتِابِ} أي: اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس، ومجاهد {لَدَينَا} أي: عندنا، قاله قتادة وغيره، {لَعَلِيٌ} أي: ذو مكانة عظيمة، وشرف، وفضل، قاله قتادة.
{حَكِيمٌ} أي: محكم، بريء من اللبس والزيغ، وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله)) (3) .
(1) المصدر نفسه (ص44) .
(2)
((تفسير ابن كثير)) (8/212-213) .
(3)
المصدر المذكور (7/205) .
(( {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} : ما يتكلم من شيء إلا كتب عليه. وقال ابن عباس: يكتب الخير والشر)) .
قال الله – تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ {17} مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) . قال ابن كثير:: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} يعني: الملائكة، أقرب إلى الإنسان، من حبل وريده، ومن تأوله على العلم؛ فإنما فر لئلا يلزم حلول، أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع، تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه، فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، كما قال في المحتضر:{وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنكُم وَلَكِن لَاّ تُبصِرُونَ} ، يعني: ملائكته، وكما قال:{إِنَّا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فالملائكة نزلت بالذكر، وهو القرآن، بإذن الله – عز وجل – وكذلك الملائكة، أقرب إلى الإنسان من حبل وريده، بإقدار الله لهم على ذلك.
{إِذ يَتَلَقَّى المُتَلَقّيَانِ} يعني: الملكين، اللذين يكتبان عمل الإنسان.
{عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِمَالِ قَعِيدُ} أي: واحد عن يمينه، والآخر عن شماله، مترصد لما يقوله أو يفعله.
{مَّا يَلفِظُ} أي: ابن آدم {مِن قَولٍ} أي: ما يتكلم بكلمة، {إِلَاّ لَدَيهِ رَقِيبُ عَتِيدُ} إلا ولها من يراقبها، معتد لذلك فيكتبها، ولا يترك له كلمة، ولا حركة إلا كتبها)) (2) .
وقول ابن عباس، يفيد أنهما لا يكتبان إلا لحسنات والسيئات، وظاهر
(1) الآيات من 16-18 من سورة ق.
(2)
((تفسير ابن كثير)) (7/376) .
الآية أنهما يكتبان، كل ما نطق به الإنسان أو عمله؛ لأنه قال:{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} .
قال مجاهد: الذي يكتب الحسنات عن يمينه، والذي يكتب السيئات عن شماله.
وقال أيضاً: مع كل إنسان ملكان، ملك عن يمينه، وملك عن يساره.
قال: ((فأما الذي عن يمينه، فيكتب الخير، وأما الذي عن يساره، فيكتب الشر)) .
وقال قتادة: تلا الحسن: {عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِمَالِ قَعِيدُ} فقال: يا ابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك، فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك، فيحفظ سيئاتك، فاعمل بما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت، طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فيقال لك:{اقرَأ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسِيباً} ، عدل والله فيك من جعلك، حسيب نفسك)) (1) .
(( {يحرِّفُونَ} : يُزيلون: وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز وجل ولكنهم يحرفونه: يتأولونه على غير تأويله)) .
قال الحافظ: ((لم أر هذا موصولاً من كلام ابن عباس، من وجه ثابت، مع أن الذي قبله، من كلامه، وكذا الذي بعده، وهو قوله: ((دراستهم: تلاوتهم)) ، وما بعده، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم، وتقدم في باب قوله
(1) روى هذه الآثار ابن جرير في ((تفسيره)) (26/159) .
{كُلَّ يَومٍ هُوَ فِي شَأنٍ} عن ابن عباس، ما يخالف ما ذكر هنا، وهو تفسير {يحرِّفُونَ} بقوله: يزيلون.
وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن، في قوله:{يحرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} قال: يقلبون ويغيرون.
وقال الراغب: ((التحريف: الإمالة، وتحريف الكلام: أن يجعله على حرف من الاحتمال، بحيث يمكن حمله على وجهين، فأكثر)) (1) .
وقال: ((صرح كثير من أصحابنا، بأن اليهود، والنصارى بدلوا التوراة، والإنجيل.
وذكر بعض الشراح، أن في هذه المسألة، أربعة أقوال:
أحدها: أنها بدلت كلها، وينبغي حمل هذا الإطلاق على أكثرها؛ لأن الآيات والأخبار الكثيرة، تدل على بقاء شيء منها
لم يبدل، كقوله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (2) ، ومنه قصة رجم اليهوديين، وفيها وجود آية الرجم، في التوراة، ويؤيد ذلك، قوله تعالى:
{قُل فَأَتُوْ بِالتَّورَاةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} .
الثاني: أن التبديل وقع في معظمها، وأدلة ذلك كثيرة، وينبغي حمل القول الأول عليه.
الثالث: وقع التبديل في اليسير منهما، ومعظمهما باق على حاله، قال: ونصره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في الجواب الصحيح.
(1)((الفتح)) (13/523) .
(2)
الآية 157 من سورة الأعراف.
الرابع: ((إنما وقع التبديل والتغيير، في المعاني، لا في الألفاظ، وهو ما ذكره البخاري هنا)) (1) .
والصحيح: أن التبديل والتحريف، وقع في كثير من ألفاظهما، ومعانيهما، كما قال الله – تعالى - {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2)، وقال تعالى:{يحرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} (3) .
قال شيخ الإسلام: ((علماء المسلمين، وعلماء أهل الكتاب، متفقون على وقوع التحريف في معاني وتفسير الكتب السابقة، وإن كانت كل طائفة تزعم أن الأخرى هي التي حرفت المعاني.
وأما ألفاظ الكتب، فقد ذهبت طائفة من علماء المسلمين إلى أن ألفاظهما لم تبدل، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب.
وذهب كثير من علماء المسلمين، وأهل الكتاب إلى إنه بدل بعض ألفاظها.
وهذا هو المشهور عن كثير من علماء المسلمين وقاله أيضاً كثير من علماء أهل الكتاب، حتى في صلب المسيح، ذهبت طائفة من النصارى إلى أنه لم يصلب، وإنما صلب الذي شبه بالمسيح، كما أخبر به القرآن، فإنه لما ألقي شبهه على المصلوب، ظنوا أنه هو المسيح، أو تعمدوا الكذب.
ثم هؤلاء، منهم: الذين يقولون: إن في ألفاظ الكتب ما هو مبدل.
(1)((الفتح)) بتصرف (13/523-524) .
(2)
الآية 78 من سورة آل عمران.
(3)
الآية 46 من سورة النساء، والآية 13 من سورة المائدة.
ومنهم: من يجعل المبدل من التوراة والإنجيل كثيراً منهما، وربما جعل بعضهم المبدل أكثرهما، لا سيما الإنجيل، فإن الطعن فيه أكثر، وأظهر منه في التوراة.
ومن هؤلاء، من يسرف، حتى يقول: إنه لا حرمة لشيء منهما، بل يجوز الاستنجاء بهما.
ومنهم من يقول: الذي بدلت ألفاظه، قليل منهما، وهذا أظهر، والتبديل في الإنجيل أظهر، بل كثير من الناس يقول: هذه الأناجيل ليس فيها من كلام الله، إلا القليل، والإنجيل الذي هو كلام الله ليس هو هذه الأناجيل.
والصحيح: أن هذه التوراة، والإنجيل، الذي بأيدي أهل الكتاب، فيه ما هو حكم الله، وإن كان قد بدل وغيِّر بعض ألفاظهما؛ لقول الله – تعالى -:: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، إلى قوله:{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ} (1) فعلم: أن التوراة التي
كانت موجودة، بعد خراب بيت المقدس، بعد مجيء بختنصر، وبعد مبعث المسيح، وبعد مبعث محمد – صلى الله عليه وسلم – فيها حكم الله.
والتوراة التي كانت عند يهود المدينة، على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم، وإن قيل: إنه غيِّر بعض ألفاظها بعد مبعثه، فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك، فإن هذا غير معلوم لنا، وهو متعذر، بل يمكن تغيير كثير من النسخ، وإشاعة ذلك عند الاتباع، حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غُيِّر، ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب، وإنما تختلف في اليسير من ألفاظها.
(1) الآيات 41- 43 من سورة المائدة.
فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ، بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم – ممكن، لا يمكن أحدٌ أن يجزم بنفيه، ولا يقدر أحد من اليهود، والنصارى، أن يشهد بأن كل نسخة في العالم من الكتابين، متفقة الألفاظ؛ إذ لا سبيل إلى علم ذلك.
وذلك أن اليهود قبل مبعث النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلى عهده، وبعده، منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها، وعندهم نسخ كثيرة من التوراة.
وكذلك النصارى، ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها، ولو كان هذا ممكناً، وواقعاً، لكان من الوقائع العظيمة، التي تتوافر الدواعي على نقلها.
ومثل التوراة، الإنجيل، قال الله – تعالى -:{وَليَحكُم أَهلُ الإِنجِيلِ بِما أَنَزَلَ اللهُ فِيهِ} (1) فعلم، أن في الإنجيل حكماً، أنزله الله – تعالى – لكن الحكم من باب الأمر والنهي، ولا يمتنع أن يكون التغيير والتبديل في باب الإخبار، وهو الذي وقع فيه التبديل لفظاً.
وأما الأحكام التي في التوراة، فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها (2) .
وبهذا يتبين: أن ما ذكره البخاري- رحمه الله – أحد أقوال العلماء، وهو أن ألفاظ كتب الله السابقة للقرآن، لم تغير ولم تبدل، وإنما حرفت معانيها، وأولت على غير تأويلها، فيكون معنى التحريف، الذي ذكره الله – تعالى – عنهم: هو تحريف المعاني، وصرفها عن مراد الله بها، إلى ما تهوى نفوسهم، وما يريدون حسب رغباتهم.
(1) الآية 47 من سورة المائدة.
(2)
((الجواب الصحيح)) (1/379-381) .
ولكن يبقى أن يقال: هل التوراة والإنجيل التي بأيدي اليهود، والنصارى، هي التي أنزل الله على موسى وعيسى، لم يذهب منهما شيء ولم يزد عليهما شيء؟ هذا الذي لا يستطيع أحد أن يجزم به، فالصحيح: أنه حصل في ألفاظهما التبديل والتغيير، وأن بعض ألفاظها أزيل، ووضع بدله غيره، لا كما يقول البخاري – رحمه الله.
فإن كانت التوراة هذه، الموجودة اليوم بأيدي الناس، فلا شك في تغيير وتبديل بعض ألفاظها حسب الترجمة العربية.
فقد جاء في الإصحاح التاسع عشر، من سفر التكوين، من التوراة، قوله:((صعد لوط من زغر، وسكن في الجبل، وابنتاه معه، إذ خاف من المقام في زغر، وسكن في مغارة هو وابنتاه معه، فقالت الكبيرة للصغيرة، أبونا شيخ، وإنسان، ليس في الأرض للدخول علينا كسبيل كل الأرض، تعالي نسقي أبانا خمراً وننضجع معه، ونبقي من أبينا نسلاً، فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة)) (1) إلى آخر الكلام، وهو باطل قطعاً، وقد نزه الله نبيه لوطاً – عليه السلام _ أن يقع على ابنتيه، فتحبلان منه، وإنما هذا من وضع اليهود أعداء الله – تعالى -.
فقوله: ((وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله – عز وجل)) غير مسلم، بل بدل بعض ألفاظها، كما سبق في كلام شيخ الإسلام أنه الصحيح.
((قال الزركشي: اغتر بعض المتأخرين، بما قاله البخاري، فقال: إن في تحريف التوراة خلافاً، هل هو في اللفظ والمعنى، أو في المعنى فقط؟ ومال إلى الثاني، ورأى جواز مطالعتها، وهو قول باطل، ولا خلاف أنهم حرفوا، وبدلوا،
(1) انظر التوراة السامرية (ص59) .
والاشتغال بنظرها، وكتابتها، لا يجوز بالإجماع، وقد غضب النبي – صلى الله عليه وسلم – حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال:((لو كان موسى حياً، ما وسعه إلا اتباعي)) ولولا أنه معصية ما غضب.
ونظَّر الحافظ بهذا الكلام، وقال:((الظاهر: أنه مكروه كراهة تنزيه، وقال: الأولى، التفرقة بين من لم يتمكن، ويصر من غير الراسخين في الإيمان، فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك، بخلاف الراسخين، فيجوز لهم، ولا سيما عند الاحتجاج، ويدل على ذلك نقل الأئمة قديماً وحديثاً من التوراة)) (1) .
وتحريف معانيها وتفسيرها بغير المراد، فهذا ظاهر جداً، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف، وكثير من آيات القرآن صريحة في هذا، وهو مراد البخاري بقوله:((ولكنهم يحرفونه: ويتأولونه عن غير تأويله)) أي: يحرفون معانيه، ويفسرونه بما لم يرده المتكلم، اتباعاً لأهوائهم.
قال ابن القيم: ((التأويل: تفعيل من آل يؤول إلى كذا: إذا صار إليه، فالتأويل التصيير، وأولته تأويلاً: إذا صيرته إليه)) (2) .
وتسمى عاقبة الشيء تأويلاً؛ لأن الأمر يصير إليها، وكذلك حقيقة الشيء المخبر به، كما قال تعالى:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (3) .
وعند المتأخرين، التأويل هو: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، إلى ما هو أخفى منه؛ لدليل يقترن بذلك، والدليل قد يكون عقلياً، وقد
(1)((الفتح)) (13/525) .
(2)
انظر ((الصواعق)) (1/77) .
(3)
الآية 53 من سورة الأعراف.
يكون شرعياً، ويسمى التفسير تأويلاً.
قوله: (( {دراستهم} : تلاوتهم)) .
قال الحافظ: وصله ابن أبي حاتم، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس (1) .
وهذا جزء من قوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} (2) .
وفي ((اللسان)) : ((درست الكتاب، أدرسه، درساً، أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه عليَّ)) (3) ، والمقصود أن الدراسة هي التلاوة، وهي فعل التالي.
قوله: (( {واعية} : حافظة)) .
قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلَنَاكُم فِي الجَارِيَةِ {11} لِنَجعَلَهَا لَكُم تَذكِرةً وَتَعَيِهَا أًذُنُ وَاعِيَةُ} والجارية هي: السفينة، التي صنعها نبي الله نوح – صلى الله عليه وسلم – وهو أبو البشر الثاني، لأن الله – تعالى – يقول:{وَجَعَلنَا ذُرِيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} فتكون السفينة، تذكرة لما وقع لقوم نوح، لما عصوا رسولهم، فيبتعد المتذكر عن معصية الله؛ لئلا يصيبه ما أصابهم، وهذه العظة والتذكرة تعيها الأذن الواعية، المتيقظة، المتنبهة.
ومراده: أن الحفظ والفهم فعل العبد الذي يقرأ، ويحفظ، ويفهم.
قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ} : يعني: أهل مكة ومن بلغ هذا القرآن، فهو له نذير)) .
(1)((الفتح)) (13/525) .
(2)
الآية 156 من سورة الأنعام.
(3)
((لسان العرب)) (1/968) .
الوحي من الله – تعالى – وهو: الإعلام بخفية، والإنذار فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم وإنذاره بالقرآن: أن يقرأه على الناس، وقراءته هي فعله، وهو وفعله مخلوق، وهذا وجه الاستدلال من الآية.
((ومن بلغ)) أي: من بلغه هذا القرآن، فهو له نذير، والذي يبلغه، يسمعه من المبلغ له بصوت ذلك المبلغ، والصوت من فعل المبلغ، وهو مخلوق، والقرآن المبلغ بالصوت كلام الله – تعالى – غير مخلوق.
وقد أكثر البخاري – رحمه الله – من الاستدلال لهذه المسألة، لأنه قد بلي بمن يقول: القراءة هي المقروء، ونسب إليه، أنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق.
وهو برئ من ذلك.
قال الحافظ: ((هذا الذي ذكره البخاري، هو قول ابن عباس، رواه ابن أبي حاتم عنه، وقال: أخرج ابن أبي حاتم في كتاب ((الرد على الجهمية)) ، عن عبد الله بن داود الخرسي قال: ما في القرآن آية أشد على أصحاب جهم من هذه الآية
{لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} ، فمن بلغه القرآن، فكأنما سمعه من الله – تعالى -)) (1) .
******
177-
قال: ((وقال لي خليفة بن خياط: حدثنا معتمر، سمعت أبي، عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لما قضى الله الخلق كتب كتابا عنده: غلبت – أو قال: سبقت – رحمتي غضبي. فهو عنده فوق العرش)) .
178-
((حدثني محمد بن أبي غالب، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا
(1)((الفتح)) (13/526) .