الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
في بيان بطلان قول أهل التأويل الفاسد
فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في تأويل إتيان الله - تعالى - بأنه رؤيتهم إياه، أو أنه مجاز حذف تقديره:((يأتيهم بعض ملائكة الله، أو: أن يأتيهم بصورة من الصور المخلوقة)) إلى آخر ما ذكر.
والجواب: أن هذه التأويلات مخالفة لكتاب الله - تعالى - ولأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة، بحيث يجوز أن نقول: إنها تكذيب لكلام الله وكلام رسوله، ورد له، وفتح لباب الزندقة والكفر.
لأن النصوص في ذلك جلية واضحة، فإذا صح تأويلها بما ذكر، أمكن كل مبطل أن يؤول ما شاء من التأويل.
قال الله - تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الامُورُ} (1) .
وقال- تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلآئِكَةُ أوْ يَأتِىَ رَبُّكَ} (2) .
فبين تعالى أن إتيانه غير إتيان الملائكة، وغير إتيان الآيات.
وقال - جل وعلا -: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (3) .
(1) الآية 21 من سورة البقرة.
(2)
الآية 158 من سورة الأنعام.
(3)
الآية 22 من سورة الفجر.
وغير ذلك من الآيات، وأما الأحاديث، فكثيرة جداً، وسيأتي ذكر بعضها، إن شاء الله – تعالى -.
فالحق الذي دلت عليه نصوص الوحي: أن لله – تعالى – أفعالاً اختيارية يفعلها بمشيئته، كالاستواء، والنزول، والمجيء، والخلق، والرزق، ونحو ذلك.
قال ابن كثير: ((قوله – تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} ، يعني: يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولهذا قال – تعالى -: {وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الامُورُ} (1) .
وقال ابن جرير: ((والأولى بالصواب من وجه قوله: {فيِ ظُلَلِ مِنَ الغَمَامِ} أنه من صلة فعل الله – تعالى – وأن معناه: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة)) ؛ لما حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريح، عن زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفاً)) ، وذلك قوله:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} (2) .
ثم ذكر حديث الصور الطويل المشهور، وفيه:((فيقول الله لي: يا محمد، فأقول: نعم، وهو أعلم، فيقول: ما شأنك؟ فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك (3) ، فاقض بينهم، فيقول: قد شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم
…
فبينا نحن وقوف سمعنا حساً من السماء شديداً،
(1)((تفسير ابن كثر)) (1/248) .
(2)
الآية 210 من سورة البقرة.
(3)
هذه الجملة من الحديث فيها نكارة؛ لأنها تخالف النصوص الثابتة قطعاً من أن الشفاعة لا تطلب من الله رأساً بدون دعاء ، وكذلك له تعالى ، حتى يأمر – جلا وعلا – بها ، قال تعالى:{مَن ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِندَهُ إِلا بِإذنِهِ} .
فهالنا فنزل أهل السماء الدنيا، بمثلي من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا، وهو آت)) .
ثم ذكر مثل ذلك في كل سماء، ثم قال:((حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام، والملائكة، ولهم زجل من تسبيحهم، يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان رب العرش ذي الجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، قدوس، قدوس، سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه أبداً أبداً، فينزل تبارك وتعالى يحمل عرشه يومئذ ثمانية)) (1) .
وهذا صريح في أن إتيان الله – تعالى – على ظاهره، يأتي إلى الأرض، يفصل بين عباده، ويتولى حسابهم بنفسه – تعالى -، وكل واحد منهم سوف يخاطبه، كما سيأتي في حديث عدي بن حاتم.
وهذا الحديث الذي استشهد به الإمام الطبري، وإن كان سنده ضعيفاً، إلا أن هذا القدر منه قد دلت عليه النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، فوجب قبوله، والإيمان به.
والله – عز وجل – ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في أوصافه، ولا في أفعاله، فمجيء الله – تعالى – ونزوله، وعلوه، واستواؤه، خاص به، على ما يليق بعظمته.
((والمجيء والإتيان، والصعود والنزول، توصف به روح الإنسان التي تفارقه بالموت، وتوصف به الملائكة، وليس نزول الروح وصعودها من جنس نزول
(1)((تفسير الطبري)) (1/191) طبعة بولاق الأولى
البدن وصعوده، فإن روح المؤمن تصعد إلى فوق السماوات ثم تهبط إلى الأرض فيما بين قبضها ووضع الميت في قبره.
وهذا زمن يسير لا يمكن صعود البدن ثم نزوله في مثله.
وكذلك صعودها في النوم، وذهابها إلى أماكن نائية، ثم عودها إلى البدن في اليقظة، لا يمكن للبدن مثل ذلك.
فإذا كانت الروح تعرج إلى السماء في هذا الوقت القصير، فهذا يدل على أن عروجها ومجيئها ليس من جنس عروج البدن ومجيئه، ومثل ذلك يقال في الملائكة.
فمجيء الرب تعالى، وصعوده، واستواؤه، فوق ذلك كله وأجل منه وأعظم، فإنه – تعالى – أبعد عن مماثلة كل مخلوق، من مماثلة مخلوق لمخلوق كالروح والبدن مثلاً)) (1) .
وقوله: ((نسبة الإتيان إلى الله عبارة عن رؤيتهم إياه)) .
فنقول: هذا من التحريف الجلي، فالناس كلهم يفرقون بين الإتيان والرؤية، فإن الإتيان المذكور في الحديث فعل الله – تعالى – يفعله إذا شاء، وأما الرؤية فهي تقع من الخلق.
وقد ذُكرت في أول الحديث في قوله: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)) وذلك بعد مجيئه – تعالى – إليهم في الموقف، وقوله لأهل ذلك الموقف:((ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون، فتمثل لهم معبوداتهم، ثم يتبعونها إلى النار)) .
فهذا التأويل بطلانه ظاهر، وهو أشبه باللعب في كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم،
(1)((شرح حديث النزول)) (ص 75 ، 92 ، 93) بتلخيص وتصرف.
بل هو تحريف كتحريف الباطنية والفلاسفة وأهل الزندقة.
وأما قوله: ((وقيل: الإتيان: فعل من أفعال الله يجب الإيمان به مع تنزيه الله عن سمات الحدوث)) . فيقال: لو أن الحافظ رحمه الله اقتصر على هذا القول الذي ذكره بصيغة التمريض، لكان أولى له وأعذر عند الله – تعالى – وعند عباده المؤمنين؛ لأنه لا يخالف لفظ الحديث، وإن كان الفعل عند الأشعرية يقصد به المفعول، كما تقدم.
وأما قوله: ((وقيل: فيه حذف تقديره: يأتيهم بعض ملائكة الله، ورجحه عياض)) فيقال: بطلان هذا أظهر مما تقدم.
وكل مَنْ قَبِلَ ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وسلم له منقاداً، فإنه يعلم يقيناً بطلان هذا القول، بل هذا يعلمه كل عاقل يتصور ما يقول.
ونحن نسأل أصحاب هذا القول الذي رجحه عياض: هل يجوز للمَلَك الذي يأتيهم – كما زعموا- أن يقول لأهل ذلك الموقف: أنا ربكم؟ وقد قال الله – تعالى – عن الملائكة أجمعين: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين َ} (1) .
والله – تعالى – لا يأمره بذلك؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر، فإن هذا شرك وكفر، والله – تعالى – لا يأمر به.
ومثل هذا، التأويل الرابع، الذي جعله محتملاً له، وهو قولهم: إن الله – تعالى – يأتيهم بصورة مخلوقة، تقول لهم: أنا ربكم)) فهذا كلام سخيف مضحك، وشر البلية ما أضحك.
فلولا أنه مسطور في الكتب المتداولة بين طلبة العلم لنزهت كتابي عن ذكره،
(1) الآية 29 من سورة الأنبياء.
فإن مثله يجب أن تنزه عنه كتب العلم؛ لأنه منكر من القول وزور، وهو أقرب إلى السخرية والتهكم بكلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من كونه يحتمله، ولا يشك من يعرف معاني الكلام أن هذا تحريف لكلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتعطيل لله – تعالى – عن الإتيان، والصعود والاستواء، أو فعل ما يريد من ذلك.
ولكن هؤلاء المحرفون يجهدون أنفسهم ويبذلون وسعهم في تحريف كلام الله وكلام رسوله، وصد الناس عن قبوله على ظاهره، ثم يغلبون وتكون جهودهم عليهم حسرة، وسوف يندمون عند ظهور الحقائق.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -:
((وأما أهل التحريف والتأويل، فهم الذين يقولون: إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما هو الحق في نفس الأمر، وأن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا.
ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات، التي يحتاج فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة، وإلى الاستعانة بغرائب المجازات، والاستعارات.
وهم في أكثر ما يتأولونه قد يعلم عقلاؤهم علماً يقيناً أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه.
وهؤلاء كثيراً ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض، فيقصدون حمل اللفظ على ما يمكن أن يريده متكلم، لا يقصدون طلب مراد المتكلم به، وحمله على ما يناسب حاله.
وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم، وتفسير كلامه بما يعرف به مراده، وعلى الوجه الذي يعرف مراده، فصاحبه كاذب على من تأول كلامه.
ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل، بل يقولون: يجوز أن يراد كذا، وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ.
فهذه طريق خلق كثير من المتكلمين، وغيرهم)) (1) .
ومن تأمل هذه الأحاديث التي تقدم ذكر بعضها، وتفهم سياقها، وما دلت عليه من المعاني، وما اتفقت عليه من الأخبار بأن الله يأمر كل من عبد غيره أن يتبعه، بعدما يمثل له ذلك المعبود، وأنه لا يبقى في الموقف إلا من يعبد الله وحده، من بر وفاجر، فيأتيهم الله في صورة لا يعرفونه فيها، امتحاناً، فيثبتهم، ثم يتجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة، وذلك بعد أن كشف لهم عن ساقه فسجدوا له، هل يصح عند عاقل أنهم يسجدون لصورة مخلوقة؟
فمن تأمل ذلك علم قطعاً أن الذي يأتيهم هو رب العالمين، وليس ملكاً ولا شيئاً آخر مما ذكره المحرفون، وعلم قطعاً بطلان تأويلهم.
وأما قوله: ((يحتمل أن المعنى: يأتيهم الله بصورة، تظهر لهم من الصور المخلوقة)) ، فهذا الاحتمال هو ما ذكره الرازي في تأسيسه، وقد تكفل شيخ الإسلام بدحض باطلة، قال رحمه الله:
((الوجه الثاني: أن قوله: تكون ((في)) بمعنى الباء، والتقدير: فيأتيهم الله بصورة، غير الصورة التي عرفوها في الدنيا إلى آخره.
يقال: أولاً: هذا تبديل للغة، وقلب [لها]، فإن الباء في مثل قولك: جئت بكذا، تكون لتعدية الفعل، فالمجرور بالباء في مثل هذا اللفظ يدل دلالة صريحة على أنه أوقع الفعل ممن غيره، فهو جعل غيره آتياً، كقوله – تعالى -: {عَسَى
(1)((درء تعارض العقل والنقل)) (1/12) .
اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} (1) .
وقوله: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاءَ} (2) .
وقوله: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ} (3) . فليس في هذا النظم إشعار بأن المأتي به ظرف للفاعل، ولا أنه فوقه، أو في جوفه، أو غير ذلك من المعاني التي يدل عليها لفظ ((في)) ولذلك لا تصلح أن توضع ((في)) موضع الباء في هذا الاستعمال، فلا تقول:((عسى الله أن يأتيني فيهم)) ((إنما يأتيكم فيه الله)) .
وأما قوله: {فَلَنَأتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ} ، فإذا كان هو الذاهب بالجنود، فإنه يصح أن يقول ((فلنأتينهم في جنود)) وإلا لم يصح، وهذا من المشهور في اللغة يعرفه عامة علماء اللغة.
فلذلك صار هذا التأويل تحريفاً لكلام الله، وكلام رسوله، فإن قوله – تعالى:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} (4) ، لا يصلح أن يراد به أنه يرسل ذلك، ولا يأتي هو.
ثم قال: ((الوجه الثالث)) : أن قوله: ((فيأتي الله في صورته التي يعرفون)) وقوله: ((فيأتيهم الله في صورة غير صورته)) .
وقوله: ((أتاهم رب العالمين في أدني صورة من التي رأوه فيها أول مرة)) .
وقوله: ((في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) ، ونحو ذلك،
(1) الآية 83 من سورة يوسف عليه السلام.
(2)
الآية 33 من سورة هود عليه السلام.
(3)
الآية 37 من سورة النمل.
(4)
الآية 210 من سورة البقرة.
لو احتمل أن يكون بمعنى: فيأتيهم بصورة، فإن لفظ الصورة المضاف إلى شيء هو من باب الإضافة النفسية، لا الخلقية، فإن الإضافة تكون فيما هو قائم بنفسه، كما في قوله ((ناقة الله)) و ((بيت الله)) و ((أرض الله)) ونحو ذلك مما فيه دلالة على أنه منفصل عن المضاف إليه، وأما الصفات، مثل العلم، والقدرة، ونحو ذلك، فإذا أضيف كانت إضافته إضافة نفسية، إذا لم يتبين خلاف ذلك.
والصورة صفة قائمة بذي الصورة، فليست من الأعيان المنفصله عن المضاف إليه، حتى تجعل بمعنى الملك، فلا يمكن أن تكون صورة الله التي يأتي فيها مخلوقاً منفصلاً عنه.
الوجه الرابع: أنه قال: فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون (1)، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا)) ، وفي لفظ:((أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم)) (2) .
ومعلوم أن أحداً من الملائكة لا يقول للخلق: أنا ربكم، بل لا يدعي هذه الدعوى إلا كافر بالله، كفرعون، والدجال، والشيطان.
بل الملائكة عباد مطيعون لله – تعالى –، لا يدعون الربوبية، ولا الإلهيَّة، كما قال – تعالى -:{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين َ} (3) .
ولا يأمر الله أحداً من الخلق أن يقول لجميع العباد: أنا ربكم، فإنه - تعالى – لا يأمر بالشرك.
(1) هذه رواية مسلم في حديث أبي هريرة، انظر:((صحيح مسلم)) (1/164) .
(2)
هذه أيضا رواية مسلم من حديث أبي سعيد، إلا أنه ليس فيها ((أول مرة)) ، انظر:((مسلم)) (1/168) .
(3)
الآية 29 من سورة الأنبياء.
ومن زعم أن الله يأمر بهذا، فهو مفتر على الله.
وإن كان الملك يقول امتحاناً، فهذا لا يصلح، كما لا يصلح أن يقول أحد من الأنبياء والمرسلين للناس: أنا ربكم، على سبيل الامتحان.
ولسنا ننكر الامتحان في القيامة، فإن المحنة لا تنقطع إلا بدخول دار الجزاء، الجنة أو النار، ولكن المحنة من الملائكة أن يقول للعبد: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
الوجه الخامس: أنه لو كان الممتحن لهم في ذلك الموقف، ملكاً من الملائكة، لقال لهم: من ربكم؟ ومن تعبدون؟ ويقال لهم: هلا تذهبون مع ربكم؟ إذ من الممكن أن يظهر لهم صورة، ويقول لهم الملك: هلا تذهبون مع هذه الصورة؟ كما أنه في أول الحديث قال: وأذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد.
فلو كان المخاطب لهم عن الله – تعالى – لقال ما يصلح له، كما في نظائر ذلك، ولكن من شأن الجهمية أنهم يجعلون المخاطب للعباد بدعوى الربوبية غير الله، كما قالوا: إن الخطاب الذي سمعه موسى، بقوله:{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (1) ، كان قائماً بمخلوق، كالشجرة، وكما قالوا: في قوله: ((من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)) (2) . إنه يقول هذا ملك من الملائكة. وهذا كله من الكفر والإلحاد. وكما يزعم الرازي في قوله: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (3) . أن ربه ملك من الملائكة.
(1) الآية 12 من سورة طه.
(2)
الحديث سيأتي.
(3)
الآية 22 من سورة الفجر، انظر:((تفسير الرازي)) (31/ 173) ومراده قوله: ((الرب هو المربي، ولعل ملكاً هو أعظم الملائكة هو مربِّ للنبي – صلى الله عليه وسلم – جاء، فكان هو المراد من قوله: وجاء ربك)) (ص 174) .
الوجه السادس: أنه قال: ((فيأتيهم الله في صورة، غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) (1) ، وهذا نص في أنهم رأوا الله قبل هذا الخطاب في صورة غير الصورة [التي ظهر لهم فيها حال الخطاب] ، فلو كان المخاطب لهم ملكاً لكان المرئي قبل ذلك هو الملك، لا الله، والحديث نص في أنهم رأوا الله قبل هذه المرة.
الوجه السابع: أنه قال: ((فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه)) (2) .
وفي الحديث الآخر: ((إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله، من بر وفاجر، أتاهم الله في أدنى صورة، من التي رأوه فيها (3) .
وفي رواية: ((إنا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، فيأتيهم الجبار في صورة، غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) (4) .
وفي رواية: ((أتاهم رب العالمين، في أدنى صورة من التي رأوه فيها، فيقال: ماذا تنتظرون؟ فيقولون: فارقنا الناس أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم، ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد، فيقول: أنا ربكم؟ فيقولون: لا نشرك بالله شيئاً، مرتين، أو ثلاثاً فيقول: هل بينكم وبينه آية، فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد
(1) سيأتي ذلك في حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى.
(2)
سيأتي ذلك في حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى.
(3)
تقدم ذلك في حديث أبي هريرة، وهو متفق عليه.
(4)
في حديث أبي سعيد، وهو متفق عليه.
اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) (1) .
وهذا صريح بأن الذي أتاهم، وقال: أنا ربكم، هو الذي أراهم العلامة حتى عرفوه فسجدوا له بعد ذلك، وعرفوا أنه رب العالمين، ولو كان القائل: أنا ربكم، ملكا، لكان الملك هو الذي اعترفوا آخر اً أنه رب العالمين، وهو الذي سجدوا له، وهذا من أعظم الكفر والضلال.
الوجه الثامن: أن قوله: ((فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) وأنه يبدي العلامة التي ذكرها، فيسجدون له، صريح بأن الذي يسجدون له، قد جاء في الصورة التي يعرفون، ويتجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة، وذلك صريح بأن الله هو الآتي، في الصورة التي عرفوه فيها، ويسجدون له لما عرفوه)) (2) .
وقولهم: ((يحتمل أن يكون المراد: إذا جاء إحسان ربنا عرفناه)) ، وقوله:((فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون)) ، معناه: بالصورة التي يعرفون أنها من أمارات الإحسان.
فيقال: هذا باطل، فإن معرفة آياته تكون في الإحسان والعقاب، في الدنيا والآخرة، والله – تعالى – هو الخالق لكل شيء، كما قال – تعالى -:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} (3) .
وقال – تعالى - {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (4) .
(1)((نقض التأسيس)) (3/223) ، وكل هذه الروايات التي ذكرها في ((الصحيحين)) .
(2)
((نقض التأسيس)) (3/223) ، وكل هذه الروايات التي ذكرها في ((الصحيحين)) .
(3)
الآية 93 من سورة النمل.
(4)
الآية 53 من سورة فصلت.
فمعرفة الله بآياته ليست موقوفة على الإحسان، فبطلان هذه الدعوى واضح، كما أن الأوجه التي ذكرها شيخ الإسلام كلها تبطل هذا الزعم.
ومما يبطله أيضاً ما ذكر في الأحاديث، أنه إذا قال لهم أولاً:((أنا ربكم، يقولون: لا نشرك بالله شيئاً، أو نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء عرفناه، فيقول: هل بينكم وبينه آية، فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى ممن كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود)) إلى آخره.
وقد قال أهل التأويل الباطل: إن المراد بقوله: ((فيكشف عن ساق)) : الشدة، كما يقال: كشفت الحرب عن ساق.
كما قالوا في قوله: ((فيأتيهم في الصورة التي يعرفون)) إنها أمارات الإحسان)) وهذا تناقض، حيث جعلوا ما تتوقف معرفته عليه: مرةً الإحسان، ومرة أخرى هو الشدة والعذاب.
ومما يبطل قولهم أيضاً ما في حديث جابر: ((ثم يأتينا ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم ويتبعونه)) (1) ، وهذا صريح أن الذي أتاهم، والذي تجلى لهم هو ربهم – تعالى – وأنهم عرفوه لما تجلى لهم يضحك.
ثم إن جميع ألفاظ الحديث صريحة في أن الذي يأتي، وجاء إليهم، وقال: أنا ربكم، ورأوه، هو الذي سجدوا له، فاقتضى ذلك أن يكون المتجلي لهم، المسجود له، هو الذي جاءهم في الصورة، وتكرر ذلك، فلا يجوز أن يكون ذلك ملكاً، أو بعض النعم المخلوقة، أو شدة، أو غير ذلك مما زعمه المبطلون.
(1) رواه مسلم في ((صحيحه)) رقم (316) ، ورواه الإمام أحمد، انظر:((المسند)) (3/345) .
ولهذا كان الإمام أحمد يحتج على إثبات الرؤية بالمجيء والإتيان، كما ذكر الخلال في السنة، عن أبي طالب، قال:((وقول الله تعالى: {هَل يَنِظُرُونَ إِلا أَن يَأتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالمَلائِكَةُ} {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّاَ صَفَّاَ} فمن قال: إن الله لا يرى فقد كفر)) .
فبين أن هذه الآيات تدل على أنه يأتي، ويجيء، وذلك يقتضي الرؤية، كما صرحت به الأحاديث المفسرة لكتاب الله تعالى.
ومما يبين فساد قول المؤولين: أن في حديث ابن مسعود فرقاً بين إتيان الرب نفسه، وإتيان سائر المعبودات، وذلك يفسر ما ورد في بقية الأحاديث، فإنه قال:
((ثم ينادي مناد: يا أيها الناس، ألا ترضون من ربكم الذي خلقكم ورزقكم، وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولاه، ويعبده في الدنيا؟ أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى، قال: فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا، قال: فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون.
فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان من الحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون، قال: ويتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويتمثل لمن كان يعبد عزيزاً شيطان عزيز.
قال: فيتمثل لهم الرب فيأتيهم فيقول: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهاً ما رأيناه بعد، فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: نعم، بيننا وبينه علامة، إذا رأيناها عرفناه، فيقول: ما هي؟ قال: فيقولون: يكشف عن ساقه، قال: فعند ذلك يكشف عن ساقه،
قال: فيخر من كان يسجدله طوعاً، ويبقى قوم ظهورهم كأنها صياصي البقر)) (1) .
فلما ذكر تلك المعبودات، ذكر أنه يمثل أشباهها، وأن المعبود من الأنبياء تأتي شياطينهم؛ لأنهم قد اتبعوها في الدنيا وعبدوها، وذكر أن الرب - تعالى - لما امتحن العباد هو الذي يتمثل لهم، وهو الذي أظهر لهم العلامة التي عرفوه بها حتى سجدوا.
فلو كان الآتي هو ملك من ملائكة الله، أو شيء من مخلوقاته، لكان بيان هذا أولى من بيان أن أولئك إنما جاءت أشباههم، إذ في هذا من المحذور ما ليس في ذلك، بل هذا التفريق بين هذا وهذا دليل واضح على أن الذي أتاهم هو رب العالمين، الذي تمثل لهم في الصورة، والذي اتبعه المشركون هو أشباه المعبودات، وشياطين الأنبياء.
ومما يبين ذلك ما أخبر به: أنه بعد إتيانه إياهم في الصورة التي يعرفون، وإظهار الآية التي عرفوه بها، وسجود المؤمنين له دون المنافقين أنهم اتبعوه حتى مروا على الصراط، كما بين ذلك في حديث أبي هريرة وأبي سعيد وجابر وابن مسعود، فلو كان الذي جاء في هذه المرة الثانية هو بعض النعم – كما زعم المحرفون – لكانوا قد اتبعوا تلك النعمة المخلوقة، وليس الرب الذي عبدوه، وهو خلاف نصوص الأحاديث، وخلاف العدل الذي أخبر به الحديث، وذلك أن العبادة مستلزمة كمال المحبة للمعبود، وكمال التعظيم له، فإن المعبود هو الذي يقصد ويحب لذاته، والمرء مع من أحب، وهذا حقيقة العدل: أن يكون الإنسان مع المحبوب الذي يحبه محبة كاملة بحيث يحبه لذاته.
(1) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في ((السنة)) (2/521) فقرة (1203)، ورواه الدراقطني في كتاب: الرؤية، انظر:(ص 297) رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية.
وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون المؤمنون متبعين لغير الله، والذي جاءهم هو الذي اتبعوه، وهو الله، وهو الذي جاءهم في الصورة التي عرفوه فيها.
ولا ريب أن عند الجهمية ممتنعاً أن يكونوا متبعين لله، كما يمتنع أن يكون هو الآتي، وكما يمتنع أن يكون قد أتاهم في صورة، وكما يمتنع أن يتجلى لهم ضاحكاً، وكما يمتنع أن يكشف عن ساقه، بل أن يكون له ساق.
فأحد الأمرين لازم: إما أن يكون ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم – هو الحق، أو ما يقوله هؤلاء الجهمية – المحرفون -.
وهما متناقضان غاية التناقض، ومن عرف ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم ثم وافقهم فلا ريب أنه منافق)) (1) .
وأما قولهم: ((يحتمل أن يراد بالصورة: الصفة (2)، والمعنى: أنه يظهر لهم من بطش الله وشدة بأسه ما لم يألفوه، ولم يعتادوه، ثم يأتيهم بعد ذلك بأنواع الرحمة والكرامة، على الوجه الذي اعتادوه وألفوه)) (3) .
قال شيخ الإسلام: ((هذا التأويل أفسد من الذي قبله، وأكثر الوجوه التي أبطل بها التأويل السابق تبطل هذا، ولهذا خصائص تظهر بوجوه:
أحدها: أن تفسير الصورة بمجرد الصفة فاسد (4) ، فحيث دل لفظ الصورة على صفة قائمة بالموصوف، أو على صفة قائمة بالذهن واللسان، فلا بد مع ذلك أن يدل على الصورة الخارجية.
الثاني: أن إظهار الشدة في تسمية ذلك صفة، كإظهار النعمة، وكإظهار
(1)((نقض التأسيس)) (3/365-375) المخطوط، ببعض التصرف.
(2)
هذا التأويل غير التأويل المشهور، الذي يظن كثير من الناس أنه قول أهل السنة، وهو أن المراد بالصورة: أن خلق فيه السمع والبصر والإرادة، ونحو ذلك، وسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى -.
(3)
هذا من كلام الرازي في تأسيسه.
(4)
سيأتي بيان فساده إن شاء الله تعالى -.
الملك، إذ جميع ذلك عبارة عن خلق شيء من الأجسام وإظهاره.
فتسمية هذا صفة دون الملك والإحسان تحكم باطل.
الثالث: أن الناس مازالوا يألفون أن الله يبتليهم بالسراء والضراء، فدعوى أن أحدهما مألوف دون الآخر باطل.
الرابع: أن الله إذا أظهر عذابه وشدته، لم يجز الامتناع من السجود له في هذه الحال، ولا يجوز إنكار ربوبيته، حتى يقول الأنبياء والمؤمنون: نعوذ بالله منك، وينكرون أن يكون هو ربهم، ومعلوم أن السجود في حال إظهار الشدة أولى منه في حل إظهار النعمة، كما في الكسوف والخسوف ونحوهما.
الخامس: أن هذا يكون قبل مرورهم على الصراط، وقبل تميز المنافقين من المؤمنين، والنعيم والعذاب والشدة بعد ذلك، إذا مروا على الصراط وتميز السعداء من الأشقياء.
السادس: أنه أخبر في الأحاديث أن المشركين الذين عبدوا مع الله إلهاً آخر قد صاروا إلى العذاب، وبعد ذلك يأتي المسلمين ربُّهم في غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها.
فلم يظهر الشدة والبطش والعذاب إلا للكفار من المشركين وأهل الكتاب.
السابع: أن في الأحاديث: ((إذا سجد المسلمون، لم يتمكن من السجود المنافقون)) ، وفي أحاديث أخرى (1) : أنهم يعطون بعد هذا الأنوار، على قدر أعمالهم، ثم يمرون على الصراط، فناج مسلم، وهو الذي ينجو بلا أذى، وناج مخدوش، وهو الذي يصيبه من لفح النار، ومكدوس في نار
(1) كحديث جابر، وحديث ابن مسعود، وقد تقدم ذكر من خرجهما.
جهنم، وهم المعذبون.
فلم يكن العذاب والشدة إلا بعد هذا كله، حيث المرور على الصراط، فكيف يقال: إن إتيانه أولاً في غير صورته التي يعرفون، هو إتيان عذابه وبأسه، وهو لم يأت منه شيء بعد؟
الثامن: أنهم تأولوا كشفه عن ساقه بأنه إظهار الشدة، وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي [لا] يعرفونها يكشف لهم عن ساقه فيسجدون له، فإذا تأولوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته، كان هذا من التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة.
التاسع: أنه ليس في ما ذكره إلا أنه يجيء بعض مخلوقاته، إما التي تسر، وإما التي تضر، ومن المعلوم أن الله – تعالى – لا يوصف بنفسه مخلوقاته، بل كونها ليست صفات له أظهر من كونها ليست صورة له، فقول القائل: يأتيهم الله في صورته التي يعرفون، أو التي لا يعرفون، أي في صفته التي يعرفون، أو التي لا يعرفون، ثم يؤول ذلك بمجيء بعض ما يخلقه من الضراء أو السراء، من أفسد الكلام، فإن النعم والنقم ليست من صفات الله التي يوصف بها، وإنما يوصف بأنه يخلقها ويحدثها ويفعلها، فلا يصح أن يكون مجيئها مجيء الله في صفته.
العاشر: أن أكثر هؤلاء المؤولة أشاعرة، وعندهم أن الخلق هو المخلوق، كما سيأتي – إن شاء الله – بيانه، فليس الخلق صفة لله – تعالى – عندهم، كالمعتزلة، فإذا كان كذلك كيف يكون المخلوق المكون من صفات الله تعالى؟
الحادي عشر: أنه لو كان اللفظ: فيأتيهم الله في صورة عظيمة، أو: في صفة عظيمة، كما يقال: وجاء الملك في صورة عظيمة، ودخل المدينة على صفة عظيمة، ونحو ذلك، لأمكن صحة دعواهم أن الصورة أو الصفة من
المخلوقات؛ لأن قوله: في صورة، أو صفة، نكرة مثبتة لم يعين صاحبها.
فإذا قيل: في صورته التي يعرفون، أو صورته التي لا يعرفون، أو: في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، وقيل: إن الصورة بمعنى الصفة، كان ذلك صفة له، فيمتنع أن يكون عائداً إلى غيره.
الثاني عشر: أن ألفاظ الحديث في هذا كله مصرحة بأن الله – تعالى – هو الآتي، وهي بذلك موافقة لدلالة القرآن مفسرة له، حيث أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – في أول الأحاديث بأنهم يرون ربهم، كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب، جواباً لهم لما سألوه: هل نرى ربنا يوم القيامة؟
وأخبرهم أيضاً ابتداءً بدون سؤال، فإنه – صلى الله عليه وسلم – كان يحدثهم بهذا الحديث مرات متعددة.
ثم وصف هذه الرؤية، فأخبر أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، وأخبر باتباع المشركين لما كانوا يعبدونه، ثم قال:((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعم، أنت ربنا، فيتبعونه)) .
وفي الحديث الآخر يقال لهم: ((هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً، ثم يرفعون رؤوسهم، وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة)) .
وفي الحديث الآخر: ((ثم يأتينا ربنا، بعد ذلك، فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى
لهم يضحك، قال: فينطلق بهم فيتبعونه)) .
وفي الحديث الآخر: قال: ((يجمع الله الأولين والآخرين لميقات)) (1) يوم معلوم، قياماً، أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء، قال: وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي مناد
…
)) الخ.
وإذا كانت الأحاديث مصرحة بمجيء الرب نفسه صريحاً يعلمه الخاص والعام، ويزيل كل شبهة، علم أن هذه التحريفات، تكذيب للرسول – صلى الله عليه وسلم، لا تصدر إلا من جاهل بما أخبر به أو منافق، ليس بمؤمن به.
فأما من آمن به، وعلم ما جاء به، فلا يكون إلا مصدقاً بمضمونها.
ومضمون ما يقوله هؤلاء المحرفون: أن العبادة تكون لغير الله، وهذا من جملة شركهم، فإنهم دخلوا في الشرك من وجوه: منها: إثباتهم خصائص الربوبية لغير الله، حتى جعلوه يدعي الربوبية، ويحاسب العباد، ويسجدون له)) (2) .
واعلم أن لهم تأويلات غير ما ذكر هنا، من ذلك ما ذكره الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد، وما ذكره الفخر الرازي في ((تأسيسه)) ، وتبعه على ذلك كل من جاء بعده من شراح الحديث، إلا من شاء الله – تعالى -، فلذلك ننقل ما فيه شبهة قد تشكل على من قرأ كلامهم، وننقل رد شيخ الإسلام عليهم، أما ما هو ظاهر البطلان، فلا حاجة إلى ذكره.
قال الرازي: ((اعلم أن الصورة ما وردت في القرآن، ولكنها واردة في الأخبار، عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: ((إن الله خلق آدم على صورته)) وقوله: ((لا يقولن أحدكم لعبده: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) .
ثم قال: ((والجواب: اعلم أن الهاء في قوله: على صورته،
(1) وكل هذه الروايات ثابتة في ((الصحاح)) وغيرها، وسبقت الإشارة إلى ذكر من رواها.
(2)
((نقض التأسيس)) (3/377 – 383) مخطوط.
يحتمل أن تكون عائدة على شيء غير صورة آدم، وغير الله، ويحتمل أن تكون عائدة إلى آدم، ويحتمل أن تكون عائدة إلى الله، فهذه طرق ثلاث)) .
ثم ذكر الطريقين الأولين والتأويل فيهما، ولظهور بطلان ما ذكره نعرض عنهما؛ لأننا قد ذكرنا فيما تقدم ما يبين بطلان كون الضمير عائدا إلى غير الله – تعالى -.
ثم قال: (الطريق الثالث أن يكون ذلك الضمير عائداً إلى الله – تعالى – وفيه وجوه:
الأول: المراد من الصورة: الصفة، فيكون المعنى: أن آدم عليه السلام امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات، قادراً على استنباط الحرف، والصناعات، وهذه صفات شريفة، مناسبة لصفات الله من بعض الوجوه، فصح قوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله خلق آدم على صورته)) بناءً على هذا التأويل.
فإن قيل: المشاركة في صفات كمال تقتضي المشاركة في الإلهية.
قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المساواة في الإلهية، ولهذا المعنى قال الله – تعالى - {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} (1)، وقال – صلى الله عليه وسلم:((تخلقوا بأخلاق الله)) (2) .
الثاني: أنه كما يصح إضافة الصفة إلى الموصوف، فقد يصح إضافتها إلى الخالق، والموجد، فيكون الغرض من هذه الإضافة الدلالة على أن هذه الصورة ممتازة عن سائر الصور، بمزيد الكرامة والجلالة.
(1) الآية 27 من سورة الروم.
(2)
سيأتي – إن شاء الله تعالى – أنه حديث باطل لا أصل له.
قال: والخبر الثاني: ما رواه ابن خزيمة في كتابه الذي سماه ((التوحيد)) بإسناده عن ابن عمر، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:((لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) ، قال: واعلم أن ابن خزيمة ضعف هذه الرواية، ويقول: إن صحت هذه الرواية فلها تأويلان:
الأول: أن يكون المراد بالصورة: الصفة على ما بيناه.
الثاني: أن يكون المراد من هذه الإضافة: بيان شرف هذه الصورة، كما في قوله:((بيت الله)) و ((ناقة الله)) (1) .
وقد تولى شيخ الإسلام – رحمه الله – رد هذه التأويلات، ردا مقنعاً، عن علم، وبإنصاف، ولخطورة هذه المسألة، ومكانة شيخ الإسلام، فإني أكتفي بنقل كلامه هنا، وهو كاف واف.
قال – رحمه الله – بعدما نقل الكلام المتقدم عن الرازي:
((فيقال: هذا الحديث مخرج في ((الصحيحين)) من وجوه:
ففي ((الصحيحين)) عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً، ثم قال له: اذهب فسلم على أولئك الملائكة فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك، وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم)) (2) .
قال في رواية جعفر بن محمد بن رافع على صورته.
وروى البخاري من حديث أبي سعيد المقبري، ويحيى بن همام عن
(1)((تأسيس التقديس)) للرازي (ص 83 91) .
(2)
انظر: ((البخاري مع الفتح)) (6/362) و (11/2) و ((مسلم)) (4/2183) رقم (2841) .
أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)) (1) .
وذكر بعض ما تقدم من روايات الحديث، ثم قال: لم يكن بين السلف، من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في هذا الحديث عائد إلى الله – تعالى – فإنه مستفيض من طرق متعددة، عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك، وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين، من الكتب، كالتوراة، وغيرها، وما كان من العلم الموروث عن نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم، فلنا أن نستشهد عليه بما عند أهل الكتاب، كما قال تعالى:{قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (2) .
ولكن كان العلماء في القرن الثالث، من يكره روايته، ويروي بعضه، كما يكره رواية بعض الأحاديث، لمن يخاف أن يلم نفسه ويفسد عقله، أو دينه، كما قال عبد الله بن مسعود:((ما من رجل يحدث قوماً حديثاً، لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم)) (3) . وفي البخاري، عن علي بن أبي طالب، أنه قال:((حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)) (4) .
وإن كانوا مع ذلك، لا يرون كتمان ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – مطلقاً، بل لا بد أن يبلغوه، حيث يصلح ذلك، ولذلك اتفقت الأمة على تبليغه، وتصديقه، وإنما دخلت الشبهة في الحديث؛ لتفريق ألفاظه، فإن من ألفاظه
(1) انظر: ((الفتح)) (5/182) ، ورواه مسلم من حديث المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وفيه:((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) (4/2017) .
(2)
آخر آية من سورة الرعد.
(3)
رواه مسلم في ((مقدمة الصحيح)) (1/11) .
(4)
رواه في كتاب العلم، باب: من خص بالعلم قوماً دون قوم؛ كراهية أن لا يفهموا، انظر:((الفتح)) (1/225) .
المشهورة: ((إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته، ولا يقل أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) (1) .
وهذا فيه حكم عملي، يحتاج إليه الفقهاء، وفيه الجملة الثانية الخبرية المتعلقة بالإخبار، عن خلق آدم، فكثير من الفقهاء روى الجملة الأولى فقط، وهي قوله:((فإذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)) ولم يذكر الثانية.
وعامة أهل الأصول والكلام، إنما يروون الجملة الثانية وهي قوله:((خلق الله آدم على صورته)) ، ولا يذكرون الجملة الطلبية، فصار الحديث متواتراً بين الطائفتين، وصاروا متفقين على تصديقه، لكن مع تفريق بعضه عن بعض، وإن كان هو محفوظاً عند آخرين من علماء الحديث وغيرهم.
وقد ذكره النبي – صلى الله عليه وسلم – ابتداءً في إخباره بخلق آدم، في ضمن حديث طويل، إذا ذكر على وجهه زال كثير من الأمور المحتملة.
ولكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة، جعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله – تعالى -، حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة، في عامة أمورهم، كأبي ثور، وابن خزيمة، وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة.
قال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتاب ((الفصول في الأصول)) : ((فأما تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة، فغير مقبول، وإن صدر ذلك التأويل عن إمام معروف، غير مجهول، نحو ما ينسب إلى أبي بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة، في تأويل الحديث: ((خلق الله آدم
(1) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (9/445) ، والدراقطني في ((الصفات)) (ص 35، 36) ، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1/228، 229) ، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/81 –86) .
…
على صورته)) ، فإنه: يفسر ذلك بذلك التأويل، ولم يتابعه عليه من قبله من أئمة الحديث، كما روينا عن أحمد – رحمه الله، ولم يتابعه أيضاً من بعده، حتى رأيت في كتاب الفقهاء للعبادي الفقيه: أنه ذكر الفقهاء، وذكر عن كل واحد منهم مسألة انفرد بها، فذكر الإمام ابن خزيمة، وأنه انفرد بتأويل هذا الحديث:((خلق الله آدم على صورته)) ، على أني سمعت عدة من المشايخ رووا أن ذلك التأويل مزور مربوط على ابن خزيمة، وإفك مفترى عليه، فهذا وأمثال ذلك من التأويل لا نقبله ولا يلتفت إليه)) .
قلت: ذكر الحافظ أبو موسى المديني، فيما جمعه من مناقب إسماعيل بن محمد التيمي، قال: سمعته يقول: أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة، ولا يطعن عليه ذلك، بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب. قال أبو موسى: أشار بذلك إلى أنه قلَّ من إمام إلا وله زلة، فإذا ترك ذلك الإمام لأجل زلته، ترك كثير من الأئمة.
إذا عرف ذلك فيقال: أما عود الضمير إلى غير الله – تعالى -، فباطل من وجوه:
أحدها: ما في ((الصحيحين)) ابتداءً ((أن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً)) .
وفي أحاديث أخر: ((أن الله خلق آدم على صورته)) ولم يقدم ذكر أحد يعود الضمير إليه.
وما ذكر بعضهم: من أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى رجلاً يضرب رجلاً، ويقول: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فقال:(خلق الله آدم على صورته)) أي صورة هذا المضروب.
فهذا شيء لا أصل له، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث.
الثاني: أن الحديث الآخر لفظه: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن
الله خلق آدم على صورته) (1) وليس في هذا ذكر أحد يعود الضمير إليه.
الثالث: أن اللفظ الذي ذكره ابن خزيمة، وتأوله، وهو قوله:((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجهاً أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) (2) ، ليس فيه ذكر أحد يصلح عود الضمير إليه، وقوله في التأويل: أراد – صلى الله عليه وسلم – أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب، والذي قبح وجهه، فزجر – صلى الله عليه وسلم – أن يقول: ووجه من أشبه وجهك.
فيقال له: لم يتقدم ذكر مضروب، فيما رويته عن النبي – صلى الله عليه وسلم، ولا في لفظه ذكر ذلك، بل قال:((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) ، ولم يقل: إذا قاتل أحدكم أحداً، أو إذا ضرب أحداً، والحديث الآخر ذكرته (3) من رواية الليث بن سعد، ولفظه:((ولا يقل أحدكم: قبح الله وجهك، ووجهاً أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) (4) .
وليس في هذا ذكر مضروب، حتى يصلح عود الضمير إليه.
فإن قيل: قد يعود الضمير إلى ما دل عليه الكلام، وإن لم يكن مذكوراً، كما في قوله تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ} (5) أي: البخل؛ لأن لفظ البخل يدل على المصدر الذي هو البخل، ومنه قول الشاعر
(1) تقدم تخريجه قريباً.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
الخطاب لابن خزيمة، فإنه رواه من هذا الطريق.
(4)
انظر: كتاب ((التوحيد)) لابن خزيمة (81 – 86) .
(5)
الآية 180 من سورة آل عمران.
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف، والسفيه إلى خلاف أي: إلى السفه.
قيل: إنما يكون ذلك فيما لا لبس فيه، حيث لم يتقدم ما يصلح لعود الضمير إلا ما دل عليه الخطاب، فيكون العلم بأنه لا بد للظاهر من مضمر يدل على ذلك، أما إذا تقدم اسم صريح قريب إلى الضمير، فلا يصلح أن يترك عوده إليه، ويعود إلى شيء متقدم، لا ذكر له في الخطاب، وهذا مما يعلم بالضرورة فساده في اللغات.
الرابع: أنه في مثل هذا لا يصلح إفراد الضمير، فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم، فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر، بأن الله خلق آدم على صورته، في غاية البعد.
لا سيما وقوله: ((إذا قاتل أحدكم)) ، و ((إذا ضرب أحدكم)) عام في كل مضروب.
والله خلق آدم على صورهم جميعهم، فلا معنى لإفراد الضمير.
وكذلك قوله: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك)) عام في كل مخاطب، والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم.
الخامس: أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم، لم يخلق آدم على صورهم. فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه: خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم في الوجود، لا يقال: إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود، كما يقال: خلق الخلق على غير مثال، أو نسج هذا على منوال هذا، ونحو ذلك، فإنه في جميع هذا إنما يكون المصنوع المقيس متأخراً في الذكر، عن المقيس عليه.
وإذا قيل: خلق الوالد على صورة ابنه، أو على خلق ابنه، كان كلاماً
فاسداً، بخلاف ما إذا ذكر التشبيه بغير لفظ الخلق، وما يقوم مقامه، مثل أن يقال: الوالد يشبه ولده، فإن هذا سائغ؛ لأن قوله:((خلق)) إخبار عن تكوينه، وإبداعه، على مثال غيره، ومن الممتنع أن الأول يكون على مثال ما لم يكن بعد، وإنما يكون على مثال ما قد كان.
السادس: أنه إذا كان المقصود أن هذا المضروب والمشتوم يشبه آدم، فمن المعلوم أن هذا من الأمور الظاهرة، المعلومة للخاص والعام، فلو أريد التعليل بذلك لقيل:((فإن هذا يدخل فيه الأنبياء، إذ هذا يدخل فيه آدم، أو نحو ذلك من العبارات، التي تبين قبح كلامه، وهو اشتمال لفظه على ما يعلم هو وجوده)) .
أما مجرد إخباره بما يعلم وجوده كل أحد، فلا يستعمل في مثل هذا الخطاب.
السابع: أن يقال إذا أريد مجرد المشابهة لآدم وذريته، لم يحتج إلى لفظ ((خلق)) على كذا، فإن هذه العبارة إنما تستعمل فيما فعل على مثال غيره، بل يقال:((فإن وجهه يشبه وجه آدم)) ، أو ((فإن صورته تشبه صورة آدم)) .
الثامن: أن يقال: مثل هذه تصلح لقوله: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك)) فكيف يصلح لقوله: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)) .
ومعلوم أن كون صورته تشبه صورة آدم، لا توجب سقوط العقوبة عنه، فإن الإنسان لو كان يشبه نبياً من الأنبياء، أعظم من مشابهة الذرية لأبيهم في مطلق الصورة والوجه، ثم وجبت على ذلك الشبيه بالنبي عقوبة، لم تسقط عقوبته بهذا الشبه باتفاق المسلمين، فكيف يحوز تعليل تحريم العقوبة بمجرد المشابهة المطلقة لآدم؟
التاسع: أن في ذرية آدم من هو أفضل منه، وتناول اللفظ لجميعهم واحد، فلو كان المقصود بالخطاب ليس ما يختص به آدم، من ابتداء خلقه على صورته، بل المقصود مجرد مشابهة المضروب المشتوم له، لكان ذكر سائر الأنبياء أولى، كإبراهيم، وموسى، وعيسى، وإن كان آدم أباهم، فليس هذا المقام مقاماً له به اختصاص، على زعم هؤلاء.
العاشر: - وهو قاطع أيضاً – أن يقال: كون الوجه يشبه وجه آدم، هو مثل كون سائر الأعضاء تشبه أعضاء آدم، فإن رأس الإنسان يشبه رأس آدم، ويده تشبه يده، ورجله تشبه رجله، وبطنه، وظهره، وفخذه، وساقه، يشبه بطنه وظهره وفخذه وساقه، فليس للوجه بمشابهة آدم اختصاص.
بل جميع أعضاء البدن بمنزلته في ذلك، فلو صح أن يكون هذا علة لمنع الضرب، لوجب أن لا يجوز ضرب شيء من أعضاء بني آدم؛ لأن ذلك جميعه على صورة أبيهم آدم.
وفي إجماع المسلمين على وجوب ضرب هذه الأعضاء، في الجهاد للكفار والمنافقين، وإقامة الحدود - مع كونها مشابهة لأعضاء آدم، وسائر النبيين – دليل على أنه لا يجوز المنع من ضرب الوجه، ولا غيره؛ لأجل هذه المشابهة.
الحادي عشر: أنه لو كان علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه: أنه يشبه وجه آدم، لنهي أيضاً عن الشتم والتقبيح لسائر الأعضاء [فيقال] : لا يقولن أحدكم: قطع الله يدك، ويد من أشبه يدك.
الثاني عشر: أن ما ذكروه من أنه إبطال لقول من يقول: إن آدم كان على صورة أخرى، مثل ما يقال: عظيم الجثة، طويل القامة، وإن النبي – صلى الله عليه وسلم – أشار إلى إنسان معين، وقال: إن الله خلق آدم على صورته، أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان، من غير تفاوت البتة.
فيقال لهم: الحديث المتفق عليه في ((الصحيحين)) ، مناقض لهذا التأويل،
مصرح فيه بأن خلق آدم أعظم من صور بنيه بشيء كثير، وأنه لم يكن على شكل أحد من أبناء الزمان.
فعن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((خلق الله آدم على صورته، وطوله ستون ذراعاً، ثم قال له: اذهب، فسلم على أولئك الملائكة، فاسمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم.
قال: فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)) (1) .
قال في رواية يحيى بن جعفر، ومحمد بن رافع:((على صورته)) ، وذكر فيه: طوله ستون ذراعاً، وأن الخلق لم يزل ينقص حتى الآن، وأن أهل الجنة يدخلون على صورة آدم.
ولم يقل: إن آدم على صورتهم، بل قال: على صورة آدم.
وقد روي: أن عرض أحدهم سبعة أذرع، فهل في تبديل كلام الله ورسوله أبلغ من هذا؟ أن يجعل ما أثبته النبي – صلى الله عليه وسلم – وأخبر به، وأوجب التصديق به، قد نفاه، وأبطله، وأوجب تكذيبه، وإبطاله؟
الثالث عشر: أنه قد روي من غير وجه: ((على صورة الرحمن)) (2) .
وأما عود الضمير على آدم ففاسد، وبيان ذلك من وجوه:
أحدهما: أنه إذا قيل: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق
(1) تقدم الحديث.
(2)
تقدم تخريجه، وانظر كتب ((التوحيد)) لابن خزيمة (2/85) وذكر من خرجه هناك غيره، ورواه الدراقطني في ((الصفات)) (36 - 37) وهو حديث ثابت.
آدم على صورة آدم)) أو: ((لا يقل أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورة آدم)) .
كان هذا من أفسد الكلام، فإنه لا يكون بين العلة والحكم مناسبة أصلاً؛ فإن كون آدم مخلوقاً على صورة آدم، فأي تفسير فسر، فليس في ذلك مناسبة للنهي عن ضرب وجوه بنيه، ولا عن تقبيحها، وتقبيح ما يشبهها. وإنما دخل التلبيس بهذا التأويل حيث فرق الحديث:
فروى قوله: ((إذا قاتل أحدكم، فليتق الوجه)) وحده مفرداً.
وروى قوله: ((إن الله خلق آدم على صورته)) مفرداً.
أما مع أداء الحديث على وجهه، فإن عود الضمير إلى آدم، يمتنع فيه؛ وذلك أن خلق آدم على صورة آدم، سواء كان فيه تشريف لآدم، أو كان مجرد إخبار بالواقع، لا يناسب الحكم.
الوجه الثاني: أن الله خلق سائر أعضاء آدم على صورة آدم، فلو كان ذلك مانعاً من ضرب الوجه وتقبيحه لوجب أن يكون مانعاً من ضرب سائر الأعضاء، وتقبيح سائر الصور، وهذا معلوم الفساد في العقل والدين، وتعليل الحكم الخاص بالعلة المشتركة، من أقبح الكلام.
وإضافة ذلك إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يصدر إلا عن جهل عظيم، أو نفاق شديد، إذ لا خلاف في علمه، وحكمته، وحسن كلامه.
فإن هذا مثل أن يقال: لا تضربوا وجوه بني آدم، فإن أباهم له صفات يختص هو بها دونهم، مثل كونه خلق من غير أبوين. أو يقال: لا تضربوا وجوه بني آدم، فإن أباهم خلق من تراب.
الوجه الثالث: أن هذا تعليل للحكم بما يوجب نفيه، وهذا من أعظم
التناقض، وذلك أنهم تأولوا الحديث على أن آدم لم يخلق من نطفة، وعلقة، ومضغة، وعلى أنه لم يتكون في مدة طويلة، بواسطة العناصر، وبنوه قد خلقوا من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضعة، وخلقوا في مدة من عناصر الأرض.
فإن كانت العلة المانعة من الضرب للوجه وتقبيحه كونه خلق على هذا الوجه، وهذه العلة منتفية في بنيه، فينبغي أن يجوز ضرب وجوه بنيه، وتقبيحها؛ لانتفاء العلة فيها، فإن آدم هو الذي خلق على صورته دونهم، إذ هم لم يخلقوا على صورهم التي هم عليها، كما خلق آدم، بل نقلوا من نطفة إلى علقة، ثم إلى مضغة.
الوجه الرابع: ما أبطل به الإمام أحمد هذا التأويل، حيث قال: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلق؟
وهذا الوجه الذي ذكره الإمام أحمد يعم الأحاديث كلها، قوله ابتداء:((إن الله خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً)) .
وقوله: ((لا تقبحوا الوجه)) إلى آخره، و ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) .
وذلك أن قوله: ((خلق آدم على صورته)) يقتضي أنه كان له صورة قبل الخلق [خلقه] عليها.
فإن هذه العبارة لا تستعمل إلا في مثل ذلك، وبمثل هذا أبطلنا قول من يقول: إن الضمير عائد إلى المضروب، فإن المضروب متأخر عن آدم، فجميع ما يذكر من التأويلات مضمونها أن صورته تأخرت عنه، فتكون باطلة.
وأيضاً: فمن المعلوم بالضرورة أنه لم تكن لآدم صورة خلق عليها قبل صورته التي خلقها الله – تعالى -.
الوجه الخامس: أن جميع ما يذكر من التأويلات، كقولهم: خلق آدم على صورة آدم، موجود نظيره في جميع المخلوقات، سواء أريد بذلك الصورة الثابتة قدراً في علم الله وكتابه، أو غير ذلك.
وأما كونه خلق على صورته ابتداء، أو في غير مدة، فإنه ليس كذلك، بل خلقه تنقل من حال إلى حال، من التراب إلى الطين، ثم إلى الصلصال، كبنيه فإنهم من نطف، إلى علق، ثم إلى مضع.
فإذا جاز أن يقال في أحدهما: خلق على صورته، مع تنقل إلى هذه الأطوار، جاز ذلك في الآخر.
ولاشك أن هذه الأحاديث وردت في تخصيص آدم، بأنه خلق على صورته دون غيره من الخلق، وإن كان بنوه تبعاً له في ذلك.
ولكن هذا كخلقه بيده، وإسجاد ملائكته له، وبهذا علم بطلان ما يوجب الاشتراك، ويزيل الاختصاص.
الوجه السادس: أن المعنى الذي تدل عليه هذه العبارة التي ذكروها هي من الأمور المعلومة ببديهة العقل، التي لا يحسن بيانها، والخطاب بها لتعريفها، فإن قول القائل: إن الشيء الفلاني خلق على صورة نفسه، لا يدل لفظه على غير ما هو معلوم بالعقل، إن كان مخلوقاً على الصورة التي خلق عليها.
وهذا مثل أن يقال: أوجد الله الشيء، كما أوجده، وخلق الله الأشياء على ما هي عليه، وعلى الصورة التي هي عليها، ونحو ذلك، مما هو معلوم ببديهة العقل، ومعلوم أن بيان هذا وإيضاحه قبيح جداً.
الوجه السابع: أن ما ذكروه من كون آدم خلق على صورة آدم، أو أنه خلق من غير نطفة، ثم علقة، ثم من مضغة، أو أنه لم يخلق من مادة، أو بواسطة القوى والعناصر – كما يدعون – لا دليل عليه، وليس في هذه
الأحاديث ما يدل عليه بحال من الأحوال.
الوجه الثامن: أن الحديث، وري من وجوه، بألفاظ تبطل دعوى الضمير إلى آدم، مثل قوله:((لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) (1) .
وقوله في الطريق الآخر، من حديث أبي هريرة:((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن)) (2) .
وقول ابن عباس فيما ذكره عن الله – تعالى -: ((تعمد إلى خلق من خلقي، خلقتهم على صورتي، فتقول لهم: اشربوا يا حمير)) (3) .
وأما تضعيف ابن خزيمة لحديث ابن عمر، بأن الثوري أرسله، فخالف فيه الأعمش، وأن الأعمش وحبيباً مدلسان.
فيقال: قد صححه إسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وهما أجل من ابن خزيمة باتفاق الناس.
وأيضاً فمن المعلوم أن عطاء بن أبي رباح، إذا أرسل هذا الحديث، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا بد أن يكون قد سمعه من أحد.
فإذا كان في إحدى الطريقين، قد بين أنه أخذه عن ابن عمر، كان بياناً وتفسيراً لما تركه، وحذفه في الطريق الأخرى، ولم يكن هذا اختلافاً أصلاً.
ولو قدر أن عطاء لم يذكره إلا مرسلاً، عن النبي – صلى الله عليه وسلم، فمن المعلوم أن عطاء من أجل التابعين قدراً، فإنه هو، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، من أئمة التابعين في زمانهم.
(1) تقدم تخريجه
(2)
تقدم أيضا ذكر ما رواه.
(3)
روي أن هذا الخطاب موجه إلى موسى صلى الله عليه وسلم لما ضرب الحجر وانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.
ومن المعلوم أن مثل عطاء، لو أفتى في مسألة فقه، بموجب خبر أرسله، لكان ذلك يقتضي ثبوته عنده.
ولهذا يجعل الفقهاء احتجاج المرسل بالخبر دليلاً على ثبوته عنده.
والأخبار التي توجب العلم أعظم من التي توجب العمل.
فإذا كان عطاء، قد جزم بهذا الخبر العلمي، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الباب العظيم، فلا يمكن أن يستجيز ذلك من غير أن يكون ثابتاً عنده.
واتفاق السلف على رواية هذا الخبر، ونحوه، مثل عطاء، وحبيب بن أبي ثابت، والأعمش، والثوري، وأصحابهم، من غير نكير سمع من أحد لمثل ذلك، في ذلك العصر، مع أن هذه الروايات المتنوعة في مظنة الاشتهار، دليل على أن علماء الأمة [لا] تنكر إطلاق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن، بل كانوا متفقين على إطلاق مثل هذا.
وكراهة بعضهم لرواية ذلك في بعض الأوقات، له نظائر، فإن الشيء قد يمنع سماعه لبعض الجهال، وإن كان متفقاً عليه بين علماء المسلمين.
والله – تعالى – قد وصف هذه الأمة بأنها خير أمة أخرجت للناس، وأنها تأمر بالمعروف، وتنهي عن المنكر، فمن الممتنع أن يكون في عصر التابعين، يتكلم أئمة ذلك العصر بما هو كفر، وضلال، ولا ينكر عليهم أحد.
فلو كان قوله: ((خلق آدم على صورة الرحمن)) ، باطلاً، لكانوا مقرين للباطل، غير منكرين له.
وقد روي بهذا اللفظ من طريقين مختلفين، كما روي عن أبي هريرة، فيؤيد أحدهما الآخر، ويشهد له، ويعتبر به، بل قد يفيد ذلك العلم، إذا خيف في الرواية من تعمد الكذب، أو من سوء الحفظ.
فإذا كان الرواة ممن لا يتواطأون في العادة على الكذب، لم يبق إلا سوء
الحفظ، فإذا تبين أن كل واحد منهم حفظ مثل ما حفظ الآخر، كان ذلك دليلاً على أن الحديث محفوظ، ولهذا مَنْ منع مِن الاحتجاج بالمرسل، إذا روي من وجه آخر؛ احتج به.
ولهذا الترمذي وغيره، يجعل الحسن: ما وري من وجهين مختلفين، وليس في طريقه متهم بالكذب، ولم يكن مخالفاً للأخبار المشهورة، وأدنى أحوال هذا الحديث ذلك.
ويؤيده أن الصحابة تكلموا بمعناه، كما تقدم عن ابن عباس.
وليس ذلك مأخوذاً عن أهل الكتاب؛ لأنه كان ينهى عن الأخذ عنهم، كما في البخاري وغيره، ولا يجوز أن يكون ذلك من قبيل الرأي.
وهذه الوجوه كلها مبطلة لقول من يعيد الضمير إلى آدم.
فهي أدلة مستقلة في الإخبار بأن الله خلق آدم على صورة نفسه – تعالى -.
وبهذا يحصل الجواب عما يذكر من كون الأعمش وحبيب مدلسين، فقد أخذه عنهما الأئمة، ووافقهما الثوري، وتلقاه العلماء – مثل أحمد وإسحاق وسفيان، وغيرهم – بالقبول.
وقد قدمنا أنه يجوز الاستشهاد بما عند أهل الكتاب، مما هو موافق لما أثر عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – ففي السفر الأول من التوراة:((سنخلق بشراً على صورتنا، يشبهنا)) (1) .
وأما قول المؤولة: إن الله لم يغير صورة آدم، ولم يمسخها كل مسخ غيره، كالحية والطاووس، ولهذا قيل: خلق آدم على صورته، أي: على صورة آدم.
(1) هذا النص يوجد في التوراة السامرية هكذا: ((وقال الله: نصنع إنساناً يشبهنا وصورتنا، ليستولي على سمك البحر)) (ص36) طبعة السقا.
فيقال: العبارة المعروفة عن هذا المعنى أن يقال: أبقى آدم على صورته، أو تركه على صورته، أو لم يغير صورة آدم، لا يقال: خلقه على صورة نفسه، فإن هذا اللفظ لا يستعمل في مثل هذا المعنى.
ولهذا قال الله – تعالى – عن الذين مسخ منهم قردة، وخنازير:{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} (1)، ولم يقل: وخلق منهم.
كما أن من المعروف الظاهر لكل أحد: أن صورة آدم كانت كهذه الصور لبنيه لم تمسخ، وما ذكروه من مسخ غير آدم غير معلوم، ولا مذكور.
وأما قولهم: إنه أراد به بيان بطلان قول الدهرية، في أن الإنسان لا يتولد إلا من نطفة، ودم الطمث.
فيقال لهم: قد أخبر الله – تعالى – أنه خلق آدم من الماء والتراب، ومن الطين، ومن الحمأ المسنون، فهذه نصوص ظاهرة متواترة، يسمعها العام والخاص، تبين أنه لم يخلق من نطفة، ودم الطمث، وتبطل هذا القول إبطالاً بيناً معلوماً بالاضطرار.
وأما قوله: إن آدم خلق على صورة آدم، فليس فيه دلالة على إبطال قول الدهرية ولا غيرهم.
وقولهم: خلق آدم ابتداء من غير تقدم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
يقال لهم: بعد تقدم، تراب، وطين، وصلصال.
وأما قولهم: إن الصورة تذكر ويراد بها الصفة، يقال: شرحت له صورة هذه الواقعة، وذكرت له صورة هذه المسألة.
والمراد: أن الله – تعالى – خلق آدم من أول الأمر كاملاً، تاماً، في علمه، وقدرته، وكونه سعيداً، عارفاً، تائباً.
(1) الآية 60 من سورة المائدة.
فيقال: الصورة: هي الصورة الموجودة في الخارج، ولفظ ((صَ وَرَ)) يدل على ذلك، وما من موجود من الموجودات إلا [له] صورة في الخارج.
وما يكون من الوقائع، يشتمل على أمور كثيرة، لها صور موجودة.
وكذلك المسئول عنه من الحوادث، وغيرها، له صور موجودة في الخارج، ثم تلك الصور الموجودة، ترتسم في النفس صورة ذهنية.
فقوله: شرحت له صورة الواقعة، وأخبرني بصورة المسألة.
إما أن يكون المراد به الصورة الخارجية، أو الصورة الذهنية.
وأما الصفة: فهي في الأصل: مصدر وصفت الشيء، أصفه، وصفاً، ثم يسمون المفعول، باسم المصدر [صفة] .
وإذا كان ما في النفس من العلم بالشيء، يسمى مثلاً له، وصفة.
فالصورة الذهنية: هي المثل الذي يسمى أيضاً صفة، ومثلاً.
ولهذا يقال: تصورت الشيء، وتمثلت الشيء، وتخيلته، إذا صار في نفسك صورته ومثاله وخياله.
كما يسمى مثاله الخارجي: صورة، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم:((لعن الله المصورين)) (1) .
كما يسمى ذلك تمثالاً، في مثل قول علي:((بعثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأمرني أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) (2) .
وقوله: لفظ الصورة يذكر ويراد به: الصفة.
(1) سيأتي الحديث مشروحاً – إن شاء الله – وهو متفق عليه.
(2)
رواه مسلم ، انظر:(رقم 969)(2/666) .
إن أراد به أن الصورة توصف بالقول، وأن لفظ الصورة يراد به ما يوصف بالقول من الصورة الخارجية، أو ما يطابقه من الصورة الذهنية، فهذا قريب.
ولكن هذا يوجب أن يكون له صورة خارجية، وإن طابقتها الصورة الذهنية.
وإن أراد به أن لفظ الصفة قد لا يراد به إلا ما يقوم بالأعيان، كالعلم، والقدرة، فهذا باطل، لا يوجد في الكلام أن قول القائل – مثلاً -: صورة فلان يراد بها مجرد الصفات القائمة [به] ، من العلم، والقدرة، ونحو ذلك.
بل هذا من البهتان على اللغة وأهلها.
وأيضا فقول القائل: خلق آدم، على صورة آدم، بمعنى: على صفة آدم، لا يدل على أنه خلق على صفات الكمال ابتداء، ولو أريد بالصورة ما يتأخر عن وجوده، فإن المخلوق على صفة من الصفات، يخلق عليها في وقت خلقه وبعده، يبين ذلك أنه جعل أحد المحملين كونه خلق عارفاً، تائباً، مقبولاً عند الله – تعالى – ومعلوم أن هذه الصفة تأخر وجودها عن ابتداء خلقه، فإن التوبة كانت بعد الذنب.
فإذا كان لا ينافي كونه مخلوقاً عليها تأخرها، فكذلك صفة العلم والقدرة، لا ينافي كونه مخلوقاً عليهما تأخرهما عن ابتداء خلقه، وإذا كان كذلك، فلا فرق بينه وبين غيره.
وعلى كلِّ فما ذكره من أن معنى الحديث: أنه خلق كاملاً، باطل، فإن آدم لم يجعل ابتداء على صفة الكمال، بل بعد أن خلقه الله – تعالى – علمه الأسماء التي لم يكن بها عالماً، كما علم بنيه البيان، بعد أن خلقهم.
فهذه التأويلات: تارة يكون المعنى المحمول عليه النص فيها باطلاً، وتارة يكون غير دال عليه، وتارة يكون النص دالاً على نقيض ما يقول المؤول، ومضاداً له.
وتارة يجمع من ذلك ما يجمع، وهذا شأن أهل التحريف، والإلحاد، ومن ذلك ما ذكر لأحمد، فقال: إن قائل ذلك جهمي، وهو قوله:((خلق على صورة الطين)) ، وهذا وإن كان أجود من هذه التأويلات المذكورة، فإنه فاسد، فإن هذا يقتضي أن تكون له صورة أخرى، خلقت على تلك الصورة، وآدم بعينه هو تلك الصورة، التي خلق فيها الروح.
بل تصويره هو خلقه من تراب، ثم من طين، كما قال – تعالى -:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} (1) فقدم الخلق على التصوير، فكيف تكون الصورة لآدم سابقة على الخلق، حتى يقال: خلق آدم على تلك الصورة. ولو أريد أنه خلق من صورة الطين، لا من أبوين، لقيل كما قال الله – تعالى -:{مِن تُرَابِ} ، وقال تعالى -:{خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ} (2)، وقال – تعالى -:{إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (3) .
وكذلك لو تأوله متأول على الصورة المقدرة له، وهي ما سبق له في علم الله – تعالى – وكلامه، وكتابه، أي خلق آدم على الصورة التي قدرها له، فهذا لا يصح، وإن كان الله – تعالى – خلق كل شيء على ما سبق من تقديره، فتأويل الحديث بذلك باطل؛ لأن جميع الأشياء خلقها الله - تعالى – على ما قدره، فلا اختصاص لآدم بذلك، كما أنه لا يصح أن يقول: لا تقبحوا الوجه، ولا يقول أحدكم: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على ما قدره؛ فإن الوجه وسائر المخلوقات خلقها الله على ذلك، فينبغي أن لا يصلح تقبيح شيء من الأشياء البته؛ لعموم العلة.
(1) الآية 11 من سورة الأعراف.
(2)
الآية 71 من سورة ص.
(3)
الآية 28 من سورة الحجر.
وقوله في الحديث: ((فكل من يدخل الجنة يدخلها على صورة آدم)) صريح في أنه أراد صورة آدم المخلوقة، لا المقدرة.
وتسمية ما قدر ((صورة)) ليس له أصل في كلام الله وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم.
وإن كان بعض المتأخرين يقول: لفلان عند فلان صورة عظيمة، وهذا الأمر مصور في نفسي، لكن مثل هذا لا يجوز أن يحمل عليه كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا خطابه لأمته، لأنه ليس من لغته)) (1) .
وأما قوله: المراد من الصورة الصفة، كما بيناه، فيكون المعنى: أن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات، قادراً على استنباط الحرف والصناعات، وهذه صفات شريفة مناسبة لصفات الله من بعض الوجوه، فصح قوله: إن الله خلق آدم على صورته على هذا التأويل.
فالكلام عليه من وجوه:
أحدهما: أنه تقدم أن لفظ الصفة، سواء عني به القول الذي يوصف به الشيء، وما يدخل في ذلك من المثال العلمي الذهني، أو أريد به المعاني القائمة بالموصوف، فإن لفظ الصورة لا يجوز أن يقتصر به على ذلك، بل لا يكون لفظ الصورة إلا لصورة موجودة في الخارج، أو لما يطابقها من العلم والقول، وذلك المطابق يسمى صفة، ويسمى صورة.
وأما الحقيقة الخارجية، فلا تسمى: صفة، كما أن المعاني القائمة بالموصوف لا تسمى وحدها: صورة.
وإذا كان كذلك، فقوله:((على صورته)) لا بد أن يدل على الصورة الموجودة في الخارج، القائمة بنفسها، التي ليست مجرد المعاني القائمة بها، من العلم والقدرة، وإن كان لتلك [المعاني] صورة، وصفة ذهنية؛ إذ
(1)((نقض التأسيس)) (3/202 – 250) .
وجود هذه الصورة الذهنية مستلزم لوجود [الصورة الخارجية] وإلا [كانت الصورة الذهنية] جهلاً لا علماً.
فسواء عنى بالصورة، الصورة الخارجية، أو العلمية، لا يجوز أن يراد به مجرد المعنى القائم بالذات، والمثال العلمي المطابق لذلك.
الوجه الثاني: أن قوله: إن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بالعلم والقدرة، إن أراد به امتيازه عن بنيه، فليس كذلك، وإن أراد امتيازه عن الملائكة والجن، فهو لم يتميز بنفس العلم والقدرة، فإن الملائكة قد تعلم ما لا يعلمه آدم، كما أنها تقدر على ما لا يقدر عليه؛ وإن كان علمه الله ما لم تكن الملائكة تعلمه.
فقد ثبت باتفاق الطوائف، أن آدم لم يخلق على صفة من العلم والقدرة امتاز بها عن سائر الأشخاص والأجسام، بل فيها من كان امتيازه عن آدم بالعلم والقدرة أكثر.
الوجه الثالث: أن يقال: المشاركة في بعض الصفات، واللوازم البعيدة، إما أن يصحح قول القائل: إن الله خلق آدم على صورة الله، أو لا يصحح ذلك، فإن لم يصحح ذلك، بطل قولك.
وإن كانت تلك المشاركة تصحح هذا الإطلاق، جاز أن يقال: إن الله خلق كل ملك من الملائكة على صورته، بل خلق كل حي على صورته؛ إذ ما من شيء من الأشياء، إلا وهو يشاركه في بعض اللوازم البعيدة، كالوجود، والقيام بالنفس، وحمل الصفات.
فعلى هذا يصح أن يقال في كل جسم وجوهر: أن الله خلقه على صورته.
[فبطل هذا التأويل على التقديرين] .
الوجه الرابع: أن لفظ الحديث: ((إذ قاتل أحدكم، أو ضرب أحدكم، فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) فنهى عن ضرب الوجه؛ لأن الله خلق آدم على صورته، فلو كان المراد مجرد خلقه عالماً قادراً، ونحو ذلك، لم يكن للوجه بذلك اختصاص، بل لا بد أن يريد الصورة التي يدخل فيه الوجه، ومثل ذلك يقال في اللفظ الآخر:((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) ، فهو يقتضي النهي عن ذلك؛ لتناوله الله – تعالى -، وأن وجه ابن آدم داخل فيما خلقه الله على صورته.
فإن قيل: هذا تصرح بأن وجه الله يشبه وجه الإنسان، كما ورد:((صورة الإنسان على صورة الرحمن)) (1) .
فالجواب: أن هذا أيضاً لازم للمنازع، ولهذا أورده الرازي، وأجاب عنه بقوله:((فإن قيل: المشاركة في صفات الكمال، تقتضي المشاركة في الإلهية، قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة، مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة، لا تقتضي المساواة في الإلهية، ولهذا المعنى قال – تعالى - {وَلَهُ المَثَلُ الأعلَى} (2)، وقال – صلى الله عليه وسلم:((تخلقوا بأخلاق الله)) (3) .
فيقال: لا ريب أن كل موجودين، لا بد أن يتفقا في شيء يشتركان فيه، وأن أحدهما أكمل فيه وأولى من الآخر، وإلا إذا قدر أنهما لا يتفقان في شيء أصلاً، ولا يشتركان فيه، لم يكونا موجودين، وهذا معلوم بالفطرة البديهية، التي لا يتنازع فيها العقلاء، الذين يفهمونها.
وهذا الذي جاءت به السنة من ثبوت هذا الشَّبه من بعض الوجوه، وقد أخبر به الرسول – صلى الله عليه وسلم – فوجب قبوله، والإيمان به، والله – تعالى – هو الذي
(1) تقدم ذكر من رواه.
(2)
الآية 27 من سورة الروم.
(3)
((أساس التقديس)) (ص 86 – 87) ، والحديث غير معروف، بل هو موضوع، كما قاله شيخ الإسلام، انظر:((نقض التأسيس)) (3/272) .
خلق آدم على صورته، وهذا لا يناقض قوله – تعالى -:{لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءُُُ ُ} لأن المماثلة منفية عن الله – تعالى - على كل حال، فهو – جل وعلا – لا يماثله شيء، وليس له سمي، ولا ند، ولا كفء، وكل ذلك لا يمنع المشابهة من بعض الوجوه البعيدة، كالوجود مثلاً، والعلم، والحياة، ونحو ذلك.
الوجه الخامس: أن يقال: المحذور الذي فروا منه إلى تأويل الحديث، على أن الصورة بمعنى الصفة، أو الصفة المعنوية؛ أو الروحانية، ونحو ذلك، يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا [منه] .
فإذا كان مثل هذا لازماً على التقديرين، لم يجز ترك مقتضي الحديث، ومفهومه، مع أنه لا محذور فيه.
وذلك أن كون الإنسان على صورة الله - تعالى – التي هي صفته، أو صورته المعنوية، أو الروحانية، فيه نوع من المشابهة
كما أنه إذا أقر الحديث كما جاء فيه نوع من المشابهة، غايته أن يقال: المشابهة هنا أكثر، ولكن مسمى نوع من المشابهة لازم على التقديرين.
والتشبيه المنفي بالنص، والإجماع، والأدلة العقلية الصحيحة، منتف على التقديرين.
وإذا ادعى المنازع أن هذا فيه نوع من التجسيم المقتضي للتركيب، فقد تقدم أن ما يسمونه تركيباً لازم على القول بثبوت الصفات، بل على القول بنفس الوجود الواجب، بل هو لازم لمطلق الوجود.
وتقدم بيان ذلك، وبيان أن جميع ما يدعى من الأدلة العقلية المانعة من ذلك أنها فاسدة، ومتناقضة.
ومعنى فسادها ظاهر، ومعنى تناقضها: أن ما يدعيه يلزمه من الإثبات نظير ما نفاه، فيكون جامعاً بين النفي، وإثباته، وإثبات نظيره.
الوجه السادس: أن يقال: إذا كان مخلوقاً (1) على صورة الله - تعالى –
(1) التقدير: إذا كان آدم مخلوقاً
…
الخ.
المعنوية، فلا يخلو: إما أن يكون ذلك مقتضياً لكون صفات العبد المعنوية، من جنس صفات الله، بحيث تكون حقيقتها من جنس حقيقتها، أو لا يقتضي ذلك، بل يقتضي المشابهة فيها مع تباين الحقيقتين.
فإن كان مقتضى الحديث الأول، فهو تصريح بأن الله له مثل، وهذا باطل، وهو أيضا ممتنع في العقل.
فإن المتماثلين في الحقيقة، يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه.
والمخلوق يجب أن يكون معدوماً، محدثاً، مفتقراً، ممكناً.
والخالق يجب أن يكون قديماً، واجب الوجود غنياً.
[فيلزم] أن يكون الشيء الواحد واجباً، ممكناً، غنياً، فقيراً، موجوداً، معدوماً، وهذا جمع بين النقيضين.
فثبت أن الحديث لا يجوز حمله على هذا [المعنى] .
وأيضا: فإنه لا هذا التقدير لا يكون في حمله على الصورة الظاهرة محذور، ولم يكن ذلك مقتضياً لكون صفات العبد من [جنس] صفات الرب – تعالى -، بحيث تكون الحقيقة من جنس الحقيقة، مع كون هذا عالماً، وهذا عالماً، وهذا حياً، وهذا حياً، وهذا قادراً، وهذا قادراً، وهذا سميعاً بصيراً، وهذا سميعاً بصيراً، بل هذا موجود، وهذا موجود، مع كون الحقيقتين، والعلم، والقدرة، متشابهات.
وكذلك لا يجب إذا كان لهذا وجه وصورة، ولهذا وجه وصورة، أن تكون الحقيقة من جنس الحقيقة، مع تشابه الحقيقتين.
يوضح ذلك أنه على التقديرين، لا بد أن يكون بين الذات والذات مشابهة
إذا كان على الصفة المعنوية، فإن كون هذا عالماً قادراً، وهذا عالماً قادراً، وهذا موجوداً، وهذا موجوداً، وهذا ذاتاً لها صفات، وهذا ذاتاً لها صفات، لا بد أن يثبت التشابه كما تقدم.
الوجه السابع: أن الأدلة الشرعية، والعقلية، التي يثبت بها تلك الصفات، يثبت بنظيرها هذه الصورة.
فإن وجود ذات ليس لها صفات ممتنع في العقل، وثبوت الصفات الكمالية معلوم بالشرع والعقل.
كذلك ثبوت ذات، لا تشبه الموجودات بوجه من الوجوه ممتنع في العقل.
وثبوت المشابهة في بعض الوجوه، في الأمور الكمالية، معلوم بالشرع والعقل.
وكما أنه لا بد لكل موجود من صفات تقوم به، فلا بد لكل قائم بنفسه من صورة يكون عليها، ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يكون عليها.
الوجه الثامن: أن هذا المعنى الذي ذكروه، وإن كان ثابتاً بنفسه (1) ، ويمكن أن يكون الحديث دالاً عليه باللزوم والتضمن، لكن قصر الحديث عليه باطل قطعاً، كما تقدم.
الوجه التاسع: أن ثبوت الوجه، والصورة لله – تعالى – قد جاء في نصوص كثيرة من الكتاب، والسنة المتواترة، واتفق على ذلك سلف الأمة.
[وقد تقدم بعض النصوص التي فيها إثبات الوجه والصورة لله – تعالى -] مع أن النصوص في الوجه لا يمكن استقصاؤها.
(1) يعني أن آدم متصف بالعلم، والقدرة، والحياة، وغير ذلك من الصفات.
فإن قيل: قوله – صلى الله عليه وسلم: ((خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال له: اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة، فسلم عليهم واستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، قال: فذهب، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله.
قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، طوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)) (1) .
وهذا الحديث إذا حمل على صورة الله – تعالى -، كان ظاهره أن الله طوله ستون ذراعاً، والله – تعالى – كما قال ابن خزيمة: جل أن يوصف بالذرعان، والأشبار.
ومعلوم أن هذا التقدير في حق الله – تعالى – باطل، على قول من يثبت له حداً ومقداراً من أهل الإثبات، وعلى قول النفاة كذلك.
أما النفاة فظاهر، وأما المثبتة فعندهم قدر الله – تعالى – أعظم، وحده لا يعلمه إلا هو، وكرسيه قد وسع السماوات والأرض، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والعرش لا يعرف قدره إلا الله – تعالى -.
وقد قال – تعالى -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
وقد تواترت النصوص عن النبي – صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، أن الله يقبض السماوات والأرض بيديه.
قال ابن عباس: ((ما السماوات السبع وما بينهما، وما فيهما، في يد
(1) تقدم ذكر من رواه.
(2)
الآية 67 من سورة الزمر.
الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم)) (1) .
وإذا كان الأمر كذلك، كان – جل وعلا – أكبر وأعظم من أن يقدر بهذا المقدار.
وهذا من المعلوم بالضرورة، من العقل والدين.
[وليس ما ذكر هو ظاهر الحديث] ، ومن زعم أن الله طوله ستون ذراعاً، فهو مفتر كذاب، ملحد، وفساد هذا معلوم بالضرورة، ومعلوم عدم ظهور ذلك من الحديث، فإن الضمير في قوله:((طوله)) عائد إلى آدم، الذي قيل فيه ((خلق آدم على صورته)) ثم قال:((طوله ستون ذراعاً)) ، أي: طول آدم، ولفظ الطول وقدره، ليس داخلاً في مسمى الصورة، حتى يقال: إذا قيل: خلق الله آدم على صورته، وجب أن يكون على قدره.
ومن المعلوم أن الشيئين المخلوقين يكون أحدهما على صورة الآخر، مع التفاوت العظيم في جنس ذواتهما، وقدر ذواتهما.
والإضافة تتنوع دلالتها بحسب المضاف إليه، فلما قال في آخر الحديث:
((فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، طوله ستون ذراعاً)) اقتضى ذلك مشابهة الجنس في القدر؛ لأن صورة المضاف، من جنس صورة المضاف إليه، وحقيقتهما واحدة.
وأما قوله: ((خلق الله آدم على صورته)) ، فإنها تقتضي نوعاً من المشابهة فقط، لا تقتضي تماثلاً في حقيقة، ولا قدر.
وأما قول ابن خزيمة: فإن الإضافة [فيه] إضافة خلق، كما في ((ناقة الله)) و ((بيت الله)) و ((أرض الله)) و ((فطرة الله))
(1) رواه ابن جرير في ((تفسيره)) (24/25) .
فالكلام عليه من وجوه:
أحدهما: أنه لم يكن قبل آدم صورة مخلوقة، خلق عليها، فقول القائل: خلق على صورة مخلوقة - لله – وليس هناك إلا صورة آدم، بمنزلة قوله: على صورة آدم، وقد تقدم إبطال هذا من وجوه كثيرة.
الثاني: أن إضافة المخلوق جاءت في الأعيان القائمة بنفسها، كالناقة والبيت، والأرض، والفطرة، التي هي [السنة] المطردة.
فأما الصفات القائمة بغيرها، مثل العلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، إذا أضيفت كانت إضافة صفة إلى الموصوف.
وهذا هو الفرق بين [الإضافتين] وإلا التبست الإضافة التي هي إضافة صفة إلى موصوف، والتي هي إضافة مملوك ومخلوق إلى المالك والخالق، وذلك هو ظاهر الخطاب في الموضعين؛ لأن الأعيان القائمة بنفسها، قد علم المخاطبون أنها لا تكون قائمة بذات الله – تعالى – فيعلمون أنها ليست إضافة صفة.
وأما الصفات القائمة بغيرها، فيعلمون أنه لا بد لها من موصوف تقوم به، وتضاف إليه.
وعلى هذا، فالصورة قائمة بالموصوف بها، المضافة إليه.
فصورة الله، كوجه الله، ويد الله، وعلم الله، وقدرة الله، ومشيئة الله، وكلام الله، ويمتنع أن تقوم بغيره.
الوجه الثالث: أن الأعيان المضافة إلى الله، لا تضاف إليه؛ لعموم كونها مخلوقة مملوكة له؛ إذ ذلك يوجب إضافة جميع الأعيان إلى الله – تعالى -؛ لأنها كلها مخلوقة له، مملوكة.
فلو كان قوله في ناقة صالح: {نَاَقَةَ اللهِ} بمعنى: الله خلقها، وهي
ملكه؛ لوجب أن تضاف سائر النوق إلى الله بهذا المعنى، فلا يكون حينئذ لها اختصاص بالإضافة، وكذلك قوله:{وَطَهِر بَيتِيَ} لو كان المراد به: خلقي وملكي؛ لوجب إضافة سائر البيوت إلى الله – تعالى – لمشاركتها في هذا المعنى.
فلابد أن يكون في العين المضافة معنى يختص بها، تستحق به الإضافة، فبيت الله هو الذي اتخذ لذكر الله - تعالى – وعبادته، وهذه إضافة من جهة كونه معبوداً فيه، فهو إضافة إلى إلهيته، لا إلى عموم ربوبيته، وخلقه، كما في لفظ العبد، فإن قوله:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (1) ، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} (2) ، هو إضافة إليه؛ لأنهم عبدوه، لا لعموم كونه عَبَّدهم بخلقه لهم، فإن هذا يشركهم فيه جميع الناس.
وهو تعالى قد خص بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (3)، وقوله:{يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا} (4) ، ونحو ذلك [خصهم من بين الناس بالإضافة إليه] .
كذلك الناقة فيها اختصاص بكون الله – تعالى – جعلها آية، ففيها معنى الإضافة إلى إلهيته.
وأما قوله – تعالى -: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (5) ،
(1) الآية 19 من سورة الجن.
(2)
الآية 63 من سورة الفرقان.
(3)
الآية 42 من سورة الحجر.
(4)
الآية 6 من سورة الإنسان.
(5)
الآية 56 من سورة العنكبوت.
وقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} (1) ، ففي الإضافة تخصيص
للأرض، التي هي باقية على ما خلقها الله – تعالى – فلم يستول عليها الكفار، والفجار من عباده، ويمنعوا – باستيلائهم عليها – من عبادة الله عليها.
ولهذا لم تدخل أرض الحرب في هذا العموم.
وقد يقال: الإضافة لعموم الخلق؛ لأن الأرض واحدة لم تتعد، كما تعددت النوق، والبيوت، والعبيد.
وقوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (2) ، تضاف إلى الله – تعالى – من الوجهين، من جهة أن الله خلقها، فتكون إضافة إلى جهة ربوبيته.
ومن جهة أنه – تعالى – فطرها على الإسلام، الذي هو عبادة الله، فتكون الإضافة إلى ألوهيته.
وأما الصورة المخلوقة، فهي مشاركة لجميع الصور في كون الله خلقها من جميع الوجوه، فما الموجب لتخصيصها بالإضافة إلى الله – تعالى -؟.
وأيضاً فسائر الأعضاء مشاركة للصورة التي هي الوجه في كون الله – تعالى – خلق ذلك جميعه، فينبغي أن يضاف سائر الأعضاء إلى الله – تعالى – بهذا الاعتبار، حتى يقال [ليد الإنسان] : يد الله، ولوجهه: وجه الله، ولقدمه: قدم الله، ونحو ذلك؛ لأن الله خلقه.
الوجه الرابع: أن قوله: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) ، لو كانت الإضافة خلق وملك؛ لوجب أن
(1) الآية 97 من سورة النساء.
(2)
الآية 30 من سورة الروم.
لا يضرب شيء من الأعضاء؛ لأن إضافته إلى خلق الله – تعالى - وملكه كإضافة الوجه سواء.
الوجه الخامس: أن قوله: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) يدل على أن المانع هو مشابهة وجهه لصورة الله – تعالى -.
فلو أريد صورة يخلقها الله – تعالى -؛ لكان كونه هو مخلوقاً لله أبلغ من كونه مشبهاً لما خلقه الله، فيكون عدولاً عن التعليل بالعلة الكاملة إلى ما يشبهها.
الوجه السادس: أن العلم بأن الله خلق آدم، من أظهر العلوم، عند العامة والخاصة، فلو لم يكن في قوله:((على صورته)) معنى إلا أن الله – تعالى – خلقها، وهي ملكه؛ لكان قوله:((خلق آدم)) كافيا ً.
إذ على هذا التقدير: ((خلق آدم)) و ((خلق آدم على صورته)) سواء، ولا فرق بين قول القائل:((هذا مخلوق الله، وقوله: هذا خلقه الله على الصورة التي خلقها الله)) ومثل هذا الكلام لا يجوز أن يضاف إلى أدنى الناس، ممن يعرف اللغة، فكيف يضاف إلى النبي – صلى الله عليه وسلم –؟
الوجه السابع: أن قوله: ((خلق آدم على صورته)) ، أو ((على صورة الرحمن)) يقتضي أن برأه، وصوره على تلك الصورة.
فلو أريد الصورة المخلوقة المملوكة، التي هي صورة آدم المضافة إليه تشريفاً، لقيل:((صورة آدم صورة الله)) ، أو ((صورة الإنسان صورة الله)) ، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على الإضافة المجردة، وإن كان في ذلك ما فيه.
أما إذا قيل: ((خلقه على صورته)) ، ولم يرد إلا أن صورته المخلوقة هي
المضافة إلى الله؛ لكونها مخلوقة له، فهذا تناقض ظاهر، لا يحتمله اللفظ)) (1) .
وأكتفي بهذا النقل المطول عن شيخ الإسلام رحمه الله، وقد اختصرته كثيراً، وتصرفت فيه قليلاً جداً؛ لأجل الإيضاح، ومن أراد الاستيعاب فليرجع إليه، فإن فيه علماً غزيراً، وإبطالاً لتأويل المتكلمين، بحجج وبراهين مقنعة لمن يريد الحق.
قوله: ((وضرب الصراط بين ظهري جهنم)) معنى ضرب: نصب ووضع فوق النار، والصراط: هو الجسر الذي يعبر عليه، كما هو معلوم في حياة الناس اليوم.
ومعنى قوله: ((بين ظهري جهنم)) يعني: فوقها، ويمتد من طرفها إلى طرفها الآخر.
يقال: أقام الرجل بين ظهراني القوم، إذا أقام معهم في أرضهم، كما في الحديث:((أنا برىء من مسلم أقام بين ظهراني المشركين)) (2) .
ومعنى ذلك: أن الصراط الذي يعبر عليه المؤمنون إلى الجنة يؤتى به في ذلك اليوم، فيوضع فوق النار، فيعبرون عليه، فليس لهم طريق إلى الجنة، إلا من فوق جهنم، ومع ذلك، فقد جاء وصف الصراط بأنه دقيق جداً، وغير ثابت، بل هو متحرك، ومضطرب، وهو في منتهى الحرارة؛ لأنه فوق جهنم، فالعبور عليه شديد جداً، والحقيقة أن العبور بالأعمال، فمن كان مستقيماً على صراط الله في الدنيا الذي هو دينه، استقام على ذلك الصراط.
وأما تثنية الظهر في قوله: ((بين ظهري جهنم)) فإنه يدل على أن الصراط مستوعب جهنم، يعني يمر عليها كلها، والله أعلم.
(1)((نقض التأسيس)) (3/273 - 275) ملخصا.
(2)
رواه أبو داود في ((الجهاد)) ، باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، (3/105)، والترمذي في ((السير)) باب: كراهية المقام بين أظهر المشركين، رقم (1604)(4/155) .
قوله: ((فأكون أنا وأمتي أول من يجيز)) يعني: رسولنا محمداً – صلى الله عليه وسلم، وأمته الذين هم أتباعه على دينه، هم أول من يعبر الصراط، إلى الجنة، وفيه دليل على فضله – صلى الله عليه وسلم – على سائر الأنبياء، وفضل أمته على الأمم.
ثم يعبر الأمم الأخرى من أتباع الرسل مع رسلهم، فكل أمة معها رسولها.
قوله: ((ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل)) وذلك لهول الموقف، وعظم ذلك المنظر، وشدة الأمر، فالطريق الذي يمكن أن ينجو من سلكه من فوق جهنم، وهو كما مر دقيق، وغير ثابت، وفي منتهى الحرارة، وعليه كلاليب تخطف بعض الناس، فإذاً لا بد من النار، ومن أجل ذلك خرست الألسن، فلا أحد يستطيع أن يتكلم، وإنما ينفرد بالتكلم رسل الله، حيث أمنوا بأمان الله لهم، وكلامهم هو تضرع إلى الله – تعالى – بقولهم:((اللهم سلم سلم)) .
قوله: ((وفي جهنم كلاليب)) جمع كلوب، وهو حديدة معقوف رأسها ومحدد، بحيث تدخل في الشيء الذي يراد إمساكه بها، وقد يقسم رأسها إلى عدة كلاليب يستخرج بها ما يسقط في البئر، أو غيرها، وقد يعلق بها اللحم.
ولكن هذه الكلاليب على خلاف المعهود للناس من كلاليب الدنيا، ولهذا قال:((مثل شوك السعدان)) ، السعدان عشب تحبه الإبل، وتسمن عليه، له شوك مفلطح، يشبه القرص، وعلى دائرته شويكات كثيرة معقفة، وفي أحد جانبيه شويكات كذلك معقفة، إذا أمسكت شيئاً يصعب استخراجها، ولما كان شوك السعدان ليس كبيراً، قال:((غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله)) ، يعني: لا أحد يستطيع وصف كبرها، وقدرتها على خطف من أمرت بخطفه، وإنما يعلم ذلك خالقها وحده.
قوله: ((تخطف الناس بأعمالهم)) أي: بسبب أعمالهم، التي عصوا الله بها
وخالفوا أمره، ولهذا قال:((فمنهم الموبق)) أي: الهالك الذي أهلكته ذنوبه، وهو من سقط في النار.
((والمخردل)) وهو من يلقى في النار، ويرمى به فيها، والمعنى: أن الكلاليب تمسكه فتلقيه في النار صريعاً، إلقاء بقوة وشدة.
قوله: ((أو المجازى، ونحوه)) هو شك من الراوي: هل قال: المخردل، أو المجازى؟ والمجازى: هو الذي يجزى بعمله، فإذا لم يعف الله – تعالى - عن عبده فإنه يهلك.
قوله: ((ثم ينجلي)) أي: ينجلي ذلك الأمر الهائل، وينكشف، وهو العبور على النار، والمحاسبة، وغير ذلك من عظائم يوم القيامة.
قوله: ((حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد)) كل عمل له بداية ونهاية، ونهايته الفراغ منه، والمعنى: أن الله تعالى يتولى محاسبة عباده بنفسه وينتهي من ذلك، وهو – تعالى – أسرع الحاسبين، وجاء وصف الله – تعالى – بذلك في كثير من النصوص، وهو من أوصاف الفعل، وهي كثيرة.
قوله: ((وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار)) المقصود بأهل النار هنا: أهل التوحيد، الذين دخلوا النار بذنوبهم، وموبقات أعمالهم، وهم كثيرون.
أما المشركون، والكافرون، فإنهم لا يخرجون من النار، بل هم خالدون فيها، وأوضح ذلك بقوله:
((أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يشهد أن لا إله إلا الله)) فهذا صريح في أنه يدخل النار خلق كثير ممن لا يشرك بالله شيئاً، ولكنهم عصوا الله بفعل المحرمات، غير الشرك، وبترك الأوامر، ولهذا قال:((ممن يشهد أن لا إله إلا الله)) يعني:
يعبد الله وحده، ولا يشرك معه غيره في العبادة.
قوله: ((فيعرفونهم في النار، بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود؟ حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود)) وهذا أيضاً صريح وواضح في أنهم كانوا يصلون، ويسجدون لله - تعالى – ويعبدونه وحده.
وأثر السجود هي الأعضاء التي يسجد عليها، وهي: الجبهة والأنف، وبطون الكفين، والركبتان، وأطراف القدمين.
وفي هذا دليل على فضل السجود لله - تعالى – وهو من آيات الله تعالى الدالة على قدرته الباهرة، حيث تأكل النار جسم ابن آدم إلا هذه المواضع المختلفة في البدن، فإنها لا تضرها، ولا تغيرها؛ لأن الله حرمها عليها، والنار لا تأكل إلا ما أمرها الله بأكله.
قوله: ((فيخرجون من النار قد امتحشوا)) امتحشو: يعني احترقوا، وقد استدل بهذه الجملة من يقول: إنهم يموتون في النار، وقيل: إنهم لا يموتون، فالله أعلم.
أما قوله: ((فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته، كما تنب الحبة في حميل السيل)) فالمراد: نبات لحومهم وغيرها التي أحرقتها النار، ولا يلزم من ذلك أنهم ماتوا، وفارقتهم الحياة، بل الظاهر أنهم بقوا أحياء يذوقون العذاب، جزاء لإجرامهم، وسيأتي أنهم يموتون موتاً حقيقيًّا، فالله أعلم.
وماء الحياة، جاء تفسيره بأنه نهر من أنهار الجنة، وسيأتي في حديث أبي سعيد: أنهم يلقون في ذلك النهر، ثم ينبتون على حافتيه.
((والحبة)) هي: البذرة التي ينبت منها الزرع وغيره.
وحميل السيل هو: ما يحمله من الغثاء، ويلقيه على جوانب الوادي، والنبات يكون فيه أسرع، وأقوى؛ لما فيه من الأسمدة.
قوله: ((ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار)) يعني: أنه أخرج من النار
وأوقف قريباً منها، وجعل وجهه إليها، لا يستطيع أن يصرف وجهه عنها، وذلك من بقية عذابه، ولهذا يدعو ربه بأن يصرف وجهه عن النار، ويكون ذلك هو أعظم ما يتمناه ويريده، بل هو مراده.
قوله: ((هو آخر أهل النار دخولاً الجنة)) أهل الفساد قسمان: قسم خلق للنار، وهم المشركون والكفار باختلاف أنواعهم، فهؤلاء لا يخرجون من النار أبداً.
وقسم يكون من أهل النار مؤقتاً، وهؤلاء هم عصاة المؤمنين من الذين لا يعبدون إلا الله وحده، إلا أنهم ارتكبوا ذنوبا عظاماً استوجبوا بها النار، وهم خلائق لا يحصيهم إلا الله - تعالى -، ويتفاوتون في لبثهم في النار تفاوتاً عظيماً، ولكن لا يبقى في النار منهم أحد وإن طال لبثه، وهذا الرجل المذكور في الحديث هو آخر من يخر ج من النار من الموحدين الذين أدخلوا النار، وهو أدنى أهل الجنة منزلة، كما سيأتي التصريح بذلك في هذا الحديث.
قوله: ((قشبني ريحها)) قال النووي: معنى قشبني: سمني، وآذاني، وأهلكني، قاله جماهير أهل اللغة.
وقال الخطابي: قشبه الدخان: ملأ خياشيمه وأخذ بكظمه، وأصل القشب: خلط السم بالطعام، يقال: قشبه، إذا سمّه (1) .
والمعنى: أن ريح النار الكريه عذّبه، وبلغ منه مبلغ الهلاك.
قوله: ((وأحرقني ذكاؤها)) ذكاؤها: حرها ووهجها.
((ثم يقول الله: هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك، لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء)) .
(1)((فتح الباري)) (11/459) .
هذا الرجل الذي هو آخر من يخرج من النار، من أهل الإيمان، يخاطبه الله - تعالى - بعد أن يدعوه، ويسأله بأن يصرف وجهه عن النار، فهو قد قصر مسألته لله على صرف وجهه عن النار فقط.
ولهذا يقول الله له: لعلك إذا أعطيتك ما سألتني، أن تسأل غيره، وليس ذلك لأن الله - تعالى - يكبر عليه شيء، بل لتحصل هذه المحاورة بين رب العالمين وبين هذا الرجل الذي هو أدنى أهل الجنة منزلة، وليظهر ضعف العبد، وقصر نظره، وغنى الرب - تعالى -، وكمال حلمه وعلمه، وحكمته ورحمته، وسيعيد البخاري هذا الحديث مستدلاً به على وقوع الكلام من الله - تعالى - لمن يشاء من عباده يوم القيامة.
قوله: ((فإذا أقبل على باب الجنة، ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب: قدمني إلى باب الجنة)) أي: أنه يرى الجنة، ظاهراً، فيحاول أن يفي بعهوده ومواثيقه التي أعطاها ربه، فيسكت وقتاً، ولكن لضعفه وفقره، وحاجته إلى فضل ربه، لا يستطيع الصبر، فيعود مرة أخرى ناكثاً لعهوده ومواثيقه بأنه لا يسأل غير ما سأل أول مرة، ولكن الله - تعالى- يعفو عنه ويعذره؛ لأنه لا يستطيع الصبر على ما يرى.
وقول الله - تعالى - له: ((ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك)) يعني: أنك كثير الغدر والخيانة، فقد نكثت بالعهود والمواثيق التي أعطيتها بأنك لا تسأل غير ما سألت مرات متعددة.
قوله: ((انفهقت له الجنة)) أي: انفتحت، وانزاحت الستائر التي تحجب الرؤية، قوله:((الحبرة والسرور)) أي: يرى أنواع النعيم، من المأكولات، وغيرها، فالخير كله بحذافيره في الجنة.
قوله: ((لا أكون أشقى خلقك)) يقول ذلك، لأنه يشاهد أهل الجنة يتنعمون بأنواع النعيم، وما هم فيه من الفرح والسرور، وهو ممنوع عن دخولها،
فتصور عند ذلك أنه أشقى خلق الله، وليس كذلك.
قوله: ((حتى يضحك الله منه)) صفة الضحك تكاثرت عليها الأدلة، وهي صفة من صفات الفعل، يجب الإيمان بها على ظاهر ما دلت عليه النصوص، ولا يجوز تأويل الضحك بلازمه، كما يقوله أهل الباطل، من الجهمية ومن سار على نهجهم، من أن الضحك هو الرضا أوالعطا، ونحو ذلك مما هو من مخلوقات الله - تعالى -.
قال أبو سعيد الدرامي رحمه الله: [وادعى المعارض أن ضحك الرب: رضاه ورحمته، وصفحه عن الذنوب، كقولك: رأيت زرعاً يضحك.
فيقال له: كذبت بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - إذ شبهت ضحكه بضحك الزرع؛ لأن ضحك الزرع ليس بضحك، وإنما هو خضرته ونضارته، ولم تسبق إلى هذا التفسير، فأنت محرف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف تجعل ضحك الرب إلى أوليائه، كضحك الزرع، الذي هو عبارة عن نضارته وخضرته؟ فهو ما دام كذلك فهو يضحك لكل من رآه، لمن يسقيه، ومن يحصده.
وقولك: إن ضحكه: رضاه ورحمته، تصديق لبعض الحديث، وتكذيب للبعض الآخر، حيث رددت الضحك وقبلت الرضا، والله - تعالى - لا يضحك لأحد إلا عن رضا، فيجتمع منه الضحك والرضا.
ولم نسمع عن أحد من أهل السنة أنه يشبه ضحك الله - تعالى - أو شيئاً من أفعاله بشيء من فعل المخلوقين، كما ادعيت أيها المعارض.
بل نقول: إن الله - تعالى - يضحك كما يشاء، وكما يليق به.
ثم ادعيت تفسيراً أوحش من هذا، فقلت: يحتمل أن يكون ضحكه أن يظهر من خلقه ضاحكاً، يأتيهم يبشرهم.
مع أن الحديث الذي ذكره المؤول يرد عليه، وفيه قول أبي رزين:((قلت: يا رسول الله، أو يضحك ربنا؟ قال: نعم)) ، ولم يقل: يخلق ربنا من يضحك.
ثم قال أبو رزين: ((لن نعدم من رب يضحك خيراً)) فجعل الضحك من الرب - تعالى - دليلاً على حصول الخير.
ثم ادعى المعارض ما هو أبعد من هذا كله، فزعم أن معنى: يضحك الله من كذا، أي: يجعله ضاحكا.
فيقال: إذا تحولت اللغة العربية إلى لغتك، ولغة أصحابك، جاز فيها أنكر من هذا التأويل، وأفحش.
ولو كان كما ذكر، لكان سؤال أبي رزين، لرسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - يدل على الجهل، حيث سأل، أو يُضحك ربنا الخلق؟ وهو يعلم أن كل الخلق الذي يضحكهم هو الله - تعالى -، وقد قرأ قوله تعالى:{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (1) .
ثم ذكر بسنده حديث ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - قال:((آخر رجل يدخل الجنة رجل يمشي، يكبو على الصراط مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي أنجاني منك، فترفع له الجنة، فيقول: يا رب أدنني إليها، وفيه: ((ألا تسألوني: مم أضحك؟)) فقالوا: مم تضحك؟ فقال: من ضحك رب العالمين)) (2) .
وذكر الحديث: ((ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره)) (3) .
(1) الآية 43 من سورة النجم.
(2)
رواه مسلم في ((الصحيح)) (1/174 - 175) في الإيمان.
(3)
رواه الإمام أحمد في ((المسند)) (4/11، 12) .
وحديث أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ثلاثة يضحك الله - تعالى - إليهم يوم القيامة: رجل قام من الليل، والقوم إذا صفوا للقتال، والقوم إذا صفوا للصلاة)) (1) . وحديث نعيم بن عمار ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - فقال: أي الشهداء أفضل؟ قال: ((الذين يلقون في الصف، ولا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك الذين يتبلطون (2) في الغرف العلى من الجنة، يضحك إليهم ربك، وإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه)) (3) .
وحديث عبد الله بن عمرو: ((يضحك الله إلى صاحب البحر ثلاث مرات، حين يركبه، ويخلى من أهله، وحين يميد متشطحاً، وحين يرى البر
…
)) .
وحديث ابن مسعود: ((إن الله يضحك إلى اثنين: رجل قام من جوف الليل، فتوضأ وصلى، ورجل كان مع قوم، فلقوا العدو فانهزموا وحمل عليهم، فالله يضحك إليه)) (4) .
وحديث أبي هريرة: ((يضحك الله من رجلين قتل أحدهما صاحبه، وكلاهما دخل الجنة)) (5) .
وحديث أسماء بنت يزيد بن السكن: لما توفي سعد بن معاذ، صاحت أمه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا يرقأ دمعك، ويذهب حزنك؟ فإن
(1) رواه الإمام أحمد في ((المسند)) (3/80) وابن ماجه (1/73) والبغوي في ((شرح السنة)) (4/2) .
(2)
قال في ((القاموس)) : تلبط: تحير، وعدا، واصجع، وتمرغ، فمعناه: تبوأ المكان واستقر فيها.
(3)
قال المنذري: رواه الطبراني بإسناد حسن، انظر:((الترغيب والترهيب)) (2/319) .
(4)
رواه ابن ماجه في ((سننه)) من حديث أبي سعيد الخدري (1/73) .
(5)
متفق عليه، انظر:((الفتح)) (6/39) ومسلم (3/1504، 1505) .
ابنك أول من يضحك الله إليه)) (1) ] (2) .
((والضحك في موضعه المناسب له، صفة مدح وكمال، وإذا قُدِّر حَيَّان: أحدهما يَضْحَكُ منه، والآخر لا يضحك، فإن الأول أكمل من الثاني.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ينظر إليكم الرب قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب)) .
فقال له أبو رزين العقيلي: يا رسول الله، أو يضحك الرب؟ قال:((نعم)) قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً)) .
فجعل الأعرابي العاقل - بصحة فطرته - ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه، فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العبوس الذي لا يضحك، مذموم بذلك.
وإذا كان الضحك فينا مستلزماً لشيء من النقص، فالله - تعالى - منزه عن ذلك، فضحكه - تعالى - يليق به، لا يلزم عليه شيء من النقص)) (3) .
ولأصحاب التأويل، تأويلات مضحكة، وحجج متهافتة سخيفة، يحاولون أن ينفوا عن الله - تعالى - ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، كقولهم: لو كان يضحك، لكان هذا القول - مثلا - مضحكاً له، وقوله: لو جاز عليه الضحك لجاز عليه البكاء.
وهكذا تكون حجج أهل الضلال والهوى، وطرد قولهم أن يقال: لو جاز عليه العلم لجاز عليه الجهل، ولو جاز أن يكون حياً لجاز أن يموت.
(1) قال في ((مجمع الزوائد)) : رواه الطبراني (9/309)
(2)
الرد على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدرامي (ص 530 536) ملخصاً في عقائد السلف.
(3)
((مجموع الفتاوى)) (6/121- 122) بشيء من التصرف.
فكيف تجعل صفات الكمال مستلزمة لثبوت صفات النقص؟ أليس هذا هو قلب الحقائق، وعين المحال؟ سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.
ومن لا يكتفي بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويتخذه إماماً هادياً، اجتالته الشياطين، وتقاذفته الأهواء، ومن حكم عقله على الوحي فسوف يلقيه في مكان سحيق.
قوله: ((فإذا ضحك منه، قال له: ادخل الجنة)) الضحك دليل على الرضا، ولهذا لما ضحك الله - تعالى - من هذا
الرجل، رضي عنه فأمره بدخول الجنة، وهذا مما يبطل قول أهل التأويل الذين يفسرون الضحك في الله - تعالى - بالثواب.
قوله: ((فإذا دخلها قال الله له: تمنه)) أي: اسأل ما تريد، واطلب ما يخطر على بالك.
قوله: ((فسأل ربه، وتمنى)) السؤال لما يتوقع حصوله، والتمني لما لا يتوقع حصوله، بل هو بعيد المنال.
قوله: ((حتى إن الله ليذكره، يقول: كذا وكذا)) أي يقول له: اسأل كذا وكذا، من الأشياء التي لم تخطر على فكره.
قوله: ((حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله: ذلك لك ومثله معه)) كان أبو سعيد الخدري يستمع لأبي هريرة، فلما قال:((ذلك لك ومثله معه قال له: ((عشرة أمثاله معه يا أبا هريرة)) يعني: أن الله - تعالى - يعطي هذا الرجل كل ما سأل وتمنى، ومعه عشرة أمثاله، قال أبو هريرة:((ما حفظت إلا قوله: ((ذلك لك، ومثله معه)) ، قال أبو سعيد:((أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((ذلك لك، وعشرة أمثاله)) .
وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه بهذا الحديث مرات
متعددة، في بعضها ذكر ما حفظه أبو سعيد، حيث حضر ذلك المجلس الذي قال فيه:((ذلك لك وعشرة أمثاله)) وغاب عنه أبو هريرة، ولا منافاة، ومثل ذلك يحصل كثيراً.
قوله: ((قال أبو هريرة: فذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولاً الجنة)) .
وهو أدنى أهل الجنة منزلة، ومع ذلك يعطى ما ذكر، وقد جاء في بعض الروايات أنه يعطى عشر مرات.
66 -
قال: حدثنا يحيي بن بكير، حدثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟
قال: ((هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قلنا: لا، قال: ((فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما)) .
ثم قال: ((ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغبرات من أهل الكتاب.
ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟
قالوا: كنا نعبد عزيز ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة، ولا ولد، فما تريدون؟
قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم.
ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟
فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون [في جهنم] .
حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟
فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا.
قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم.
فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق.
فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعه، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً.
ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: مدحضة، مزلة، عليه خطاطيف، وكلاليب، وحسكة مفلطحة، لها شوكة عقيفاء، تكون بنجد، يقال لها: السعدان.
المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً، فما أنتم بأشد لى مناشدة في الحق، قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار.
وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم، يقولون: ربنا، إخواننا الذين كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا.
فيقول الله - تعالى – اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا.
ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا.
ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا.
قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني، فاقرءوا {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (1) .
فيشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون.
فيقول الجبار جل جلاله: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار
(1) الآية 40 من سورة النساء.
فيخرج أقواماً قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه، كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض.
فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة.
فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه.
فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه)) .
قوله: ((قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟)) في رواية مسلم: ((أن ناساً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا
…
الخ)) فما هنا تفسير لها.
قوله: ((هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟))
في رواية مسلم: ((في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب)) يعني: في وقت خلو السماء من السحاب والقتر، فقوله:((ليس معها سحاب)) زيادة إيضاح لقوله: ((صحواً)) .
قوله: ((ثم ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون)) تقدم في حديث أبي هريرة قوله: ((يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه)) . فيكون المنادي هو الله تعالى، ومعلوم أن النداء هو رفع الصوت بالكلام، فما أبلغ هذا في إثبات تكلم الله تعالى حقيقة.
قوله: ((فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم)) يعني: عبَّاد الصليب، وهم النصارى كما هو معلوم.
((والأوثان هي الأصنام، وقد تطلق على كل معبود من دون الله تعالى)) .
قال ابن الأثير: ((الفرق بين الوثن، والصنم: أن الوثن: كل ما له جثة معمولة، من جواهر الأرض، أو من الخشب أو الحجارة، كصورة الآدمي تعمل وتنصب، فتعبد، والصنم: الصورة بلا جثة. ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلعهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن على غير الصورة)) (1) .
وقد جاء في قصة عدي بن حاتم أنه قال: ((قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: ((ألق هذا الوثن عنك)) (2) وهذا يدل على أن الوثن يطلق على كل ما عبد من دون الله، وقد قال الأعشى:
تطوف العفاة بأبوابه
…
كطوف النصارى ببيت الوثن (3)
يريد بالوثن: الصليب.
قوله: ((وأصحاب كل آلهة مع آلهتم)) ، قال الله تعالى:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ {22} مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ {23} وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ {24} مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُون} (4) والمقصود بأزواجهم: نظراؤهم وإخوانهم في العمل. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (5) .
فالله تعالى يحشر كل عابد مع معبوده؛ لأنهم كانوا في الدنيا يزعمون أن معبوداتهم من دون الله سوف تتولاهم، وتشفع لهم وتنفعهم، فجمعهم الله مع معبوداتهم ليظهر كذبهم وغرورهم، وفقر كل من العابد والمعبود.
(1)((النهاية)) (5/151) .
(2)
أخرج قصته أحمد (4/378) والترميذي رقم (2956) وابن هشام في ((السيرة)) (2/578) .
(3)
انظر ((ديوان الأعشى)) ص (209) .
(4)
الآيات 22-25 من سورة الصافات.
(5)
الآية 17 من سورة الفرقان.
وفي رواية عبد الله بن مسعود: ((يقول الله – تعالى – للناس في ذلك الموقف: أليس عدل مني أن أُوَلِّيَ كل عابد ما كان يعبد؟)) . قوله: ((حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغبرات من أهل الكتاب)) .
البر: هو المطيع لله، المتبع لرسله، والفاجر هو: الخارج عن الطاعة، ولو في بعض الأمور.
والغبرات جمع غبر، بضم الغين وفتح الباء، المقصود: بقايا من اليهود والنصارى قليلة، وأما معظمهم وجُلُّهم فقد ذهب بهم مع أوثانهم إلى جهنم.
قوله: ((ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب)) في ذلك الموقف أمور عظام ومهولة، وله أحوال متعددة، وحقائقها لا تعلم إلا بالمعاينة، ولكن الرسل، ولا سيما خاتمهم، جاءوا بما يكفي المؤمن في الإتقان من أوصاف ذلك اليوم.
وفي هذا: ((أن جهنم يؤتى بها كأنها سراب)) وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) (1) .
فيؤتى بجهنم بهذه الصفة تعرض على الناس في ذلك الموقف، وهناك:{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (2) .
والسراب: هو ما يرى في الأرض الخالية المستوية وقت ما تشتد حرارة الشمس من أثر انعكاس أشعتها على الأرض، فيرى في القيعان كأنه ماء، فإذا قرب إليه الرائي أُبعد عنه، فهو كما قال الله تعالى:
(1) انظر ((صحيح مسلم)) (8/149) .
(2)
الآية 2 من سورة الحج.
{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (1) .
قوله: ((فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيزاً ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد)) السؤال لتبكيتهم، وتقريرهم بما يستحقون به العذاب، وهو عبادتهم لغير الله.
وفيه دليل على أن الناس في ذلك اليوم يكونون على عقائدهم في الدنيا؛ لأن هؤلاء اليهود والنصارى لما سئلوا عما كانوا يعبدون قالوا: عزيزاً ابن الله والمسيح ابن الله، فهم لا يزالون يعتقدون أن عزيزاً ابن الله، وكذلك النصارى يظنون ذلك في المسيح.
والكذب الذي أضيف إليهم هو قولهم: عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله، ولهذا قال: لم يكن لله صاحبة ولا ولد.
قوله: ((فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم)) في ذلك الموقف يشتد الظمأ لتوالي الكربات، وترادف الشدائد المهولات، ولهذا صار أول مطلبهم الماء، وقد مثلت لهم جهنم كأنها ماء، كما سبق في قوله:((كأنها سراب)) فيقال لهم: اذهبوا إلى ماترون، وتظنونه ماء، فاشربوا فيذهبون فيجدون جهنم يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون فيها، ومثل ذلك يقال للنصارى بعدهم.
قوله: ((حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر)) تقدم في الحديث قبله: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها)) وما هنا أعم، وتقدم الكلام عليه.
قوله: ((فيقال لهم: ما يحبسكم، وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم، ونحن أحوج منا إليه اليوم)) الذي يخاطبهم بذلك هو رب العالمين، كما هو واضح في السياق.
والرواية التي ذكرها البخاري في ((التفسير)) : ((حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر أو فاجر، أتاهم رب العالمين)) (2) ، وهذا من الامتحان
(1) الآية 39 من سورة النور.
(2)
انظر ((البخاري)) (6/65.
والابتلاء؛ ليتبين ثباتهم وصدقهم، ولذلك قالوا: فارقنا الناس في الدنيا ونحن أحوج إليهم منا اليوم، وذلك لأنهم عصوا الله وخالفوا أمره وناصبوا من أطاعه العداوة، فعاديناهم لذلك، وزايلناهم بغضاً لهم في الله، وإيثاراً لطاعة ربنا، كما قال إبراهيم عليه السلام، والذين معه من الرسل والمؤمنين:{قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) .
قوله: ((إليه)) قال مصححو الطبعة البولاقية: ((هكذا في جميع النسخ متناً وشرحاَ بضمير الإفراد، وهو مخالف لما ذكره الشارح [يعني: القسطلاني] نقلاً عن البرماوي والكرماني والعيني، حيث قال: ((وكنا في ذلك الوقت أحوج إليهم)) وتقدم في تفسير سورة النساء بضمير الجمع)) (2) .
وقد أشار الحافظ إلى صحة الإفراد، وأن عياضاً رجحه، وجعل الضمير عائداً إلى الله تعالى، والمعنى:((فارقنا الناس في معبوداتهم، ولم نصاحبهم، ونحن اليوم أحوج إلى ربنا من أي يوم كان، أي: إنا محتاجون إليه)) (3) .
قوله: ((وإنا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا)) يعني: أنهم امتثلوا قول المنادي، وليسوا ممن يعبد تلك المعبودات التي أحضرت إلى عابديها، ثم سيقوا معها إلى النار، وقد علموا أن ربهم تعالى سيأتيهم.
قوله: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) .
وقد تقدم الكلام في الصورة بما يكفي، وفي الرواية التي ذكرها في ((التفسير)) :((أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة)) وهو لفظ
(1) الآية 4 من سورة الممتحنة.
(2)
حاشية البخاري ((طبعة بولاق)) (9/159) .
(3)
انظر ((فتح الباري)) (11/450) .
رواية مسلم (1)، وفي السنة لابن أبي عاصم:((ثم يتبدى الله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أول مرة)) ، وفي رواية عنده أيضا:((ثم يرفع برنا ومسيئنا، وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة)) (2) وقد تقدم.
وفي صحيح مسلم في هذا الحديث: ((ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) (3) .
ففي هذه الألفاظ بيان صريح بأنهم قد رأوه في صورة عرفوه فيها، قبل أن يأتيهم هذه المرة، وفي ذلك رد لما قاله الإمام أبو سعيد الدرامي رحمه الله، حيث جعل معرفتهم إياه بصفاته التي تعرف بها إليهم في الدنيا.
وكذلك قوله: ((إن هذا التحول من صورة إلى صورة، هو تمثيل يمثله الله في أعينهم.
أما هو - تعالى - فلا يتحول من صورة إلى صورة، وهذا خلاف ما صرحت به الأحاديث كما ذكرنا (4) .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول أبي سعيد هذا، ورده من وجوه عدة، فقال بعد ما ذكر أقوال أهل التأويل، من الجهمية والحلولية، لحديث الصورة وإتيان الرب - تعالى - إلى أهل الموقف بصورته، فقال: ((وأقرب ما يكون عليه إتيان الله - تعالى - في صورته بعد صورة - وإن كان تأويلا باطلاً - أيضاً ما ذكره بعض أهل الحديث، مثل أبي عاصم
(1) انظر ((صحيح مسلم مع النووي)) (3/27) .
(2)
انظر ((السنة)) (1/285) .
(3)
((صحيح مسلم)) (1/169) ، رقم (302) .
(4)
انظر الرد على ((المريسي)) (ص421) مجموعة عقائد السلف.
النبيل، أنه كان يقول: ذلك تغيير يقع في عيون الرائين، كنحو ما يخيل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو به فيتوهم الشيء على الحقيقة.
وقال عثمان بن سعيد في نقضه على بشر المريسي: ((وأما إنكارك على رسول الله – صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله يتراءى لعباده المؤمنين يوم القيامة، في غير صورته، فيقولون: نعوذ بالله منك، ثم يتراءى في صورته التي يعرفونها، فيتبعونه، فزعمت أن من أقر بهذا فهو مشرك.
فيقال لهم: أليس قد عرفتم ربكم في الدنيا، فكيف جهلتموه عند العيان، وشككتم فيه؟
وقد صح بهذا الخبر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم كأنك تسمعه يقوله من جودة إسناده.
ولو أن الله تجلّى لهم أول مرة في صورته التي عرّفهم صفاتها في الدنيا، لاعترفوا بما عرفوا، ولكنه يُرى نفسه في أعينهم؛ لقدرته، ولطف ربوبيته، في صورة غير ما عرفهم الله صفاتها في الدنيا؛ ليمتحن الله بذلك إيمانهم، ثانية في الآخرة، أنهم لا يعترفون بالعبودية في الدنيا والآخرة إلا للمعبود الذي عرفوه في الدنيا بصفاته التي أخبرهم بها في كتابه، واستشعرتها قلوبهم حتى ماتوا على ذلك.
فإذا مثل في أعينهم غير ما عرفوا من الصفة نفروا، وأنكروا، إيماناً منهم بصفة ربوبيته التي امتحن قلوبهم في الدنيا بها، من غير أن يتحول الله من صورة إلى صورة.
ولكن يمثل ذلك في أعينهم، كما مثل جبريل مع عظم صورته، في صورة دحية الكلبي، وكما مثل لمريم بشراً، وكما شبه عيسى في أعين اليهود)) (1) .
(1) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي (ص421 – 423) ، وانظر ((نقض التأسيس)) (3/397-401) المخطوط.
وهذا باطل من وجوه:
أحدها: أن في حديث أبي سعيد المتفق عليه: ((فيأتيهم في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) .
…
وفي لفظ: ((في أدنى صورة من التي رأوه فيها)) ، وهذا يفسر قوله في حديث أبي هريرة: ((فيأتيهم الله في صورة غير
صورته التي يعرفون)) ، ويبين أن تلك المعرفة كانت لرؤية منهم متقدمة، في صورة غير الصورة التي أنكروه فيها.
وفي هذا التفسير قد جعل صورته التي يعرفون، هي التي عرفهم صفاتها في الدنيا، وليس الأمر كذلك؛ لأنه أخبر أنها الصورة التي رأوه فيها أول مرة، لا أنهم عرفوها بالنعت في الدنيا.
ولفظ الرواية صريح في ذلك، وقد بينا أنه في غير حديث ما يبين أنهم رأوه قبل هذه المرة.
الثاني: أنهم لا يعرفون في الدنيا لله صورة، ولم يروه في الدنيا في صورة، فإن ما وصف الله – تعالى – به نفسه، ووصفه به رسوله، لا يوجب لهم معرفة صورة يعرفونه فيها، ولهذا قال – تعالى -:{لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءُُُ} (1) ، فلو أرادوا الصفات المخبر بها في الدنيا لذكروا ذلك.
فعلم أنهم لم يطبقوا الصورة التي رأوه فيها أول مرة [على ما علموه في الدنيا](2) .
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في سدرة المنتهى: ((فغشيها من أمر الله ما غشاها، حتى لا يستطيع أحد أن ينعتها من حسنها)) (3) ، فالله أعظم من أن يستطيع
(1) الآية 11 من سورة الشورى.
(2)
ليست من كلام الشيخ، وإنما زدتها للإيضاح.
(3)
انظر ((صحيح مسلم)) (1/146) ، الحديث رقم (259) .
أحد أن ينعت صورته، وهو سبحانه وصف نفسه لعباده بقدر ما تحتمله أفهامهم.
ومعلوم أن قدرتهم على معرفة الجنة بالصفات أيسر، ومع هذا فقد قال:((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) (1) فالخالق أن لا يكونوا يطيقون معرفة صفاته كلها أولى.
الوجه الثالث: أن في حديث أبي سعيد: ((فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة)) فقوله: ((لا يتحول من صورة إلى صورة ولكن يمثل ذلك في أعينهم)) مخالف لهذا النص.
الوجه الرابع: أن في حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، من طريق العلاء:((أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون)) وفي لفظ ((أشباه ما كانوا يعبدون)) .
ثم قال: ((ويبقى محمد وأمته، فيتمثل لهم الرب – تبارك وتعالى 0 فيأتيهم فيقول: ((ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهاً ما رأيناه بعد)) ، فقد أخبر أن الله – تعالى – هو الذي يتمثل لهم، ولم يقل لهم كما قال في معبودات المشركين، وأهل الكتاب.
الوجه الخامس: أن في عدة أحاديث، كحديث أبي سعيد، وابن مسعود:((قال: هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فيسجدون له)) . وهذا بيِّن أنهم لم يعرفوه بالصفة التي وصف لهم في الدنيا، بل بآية وعلامة عرفوها في الموقف.
وكذلك في حديث جابر: ((قال: فيتجلى لنا يضحك)) ، ومعلوم أنه وإن
(1) رواه البخاري في عدة مواضع من ((صحيحه)) ، وسيأتي، ومسلم: انظر (4/2174) رقم (2824) .
وصف بالدنيا بالضحك فصورته لا تعرف بغير المعاينة.
الوجه السادس: أنه مثل ذلك بقوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} (1)، وبقوله:{وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم ْ} (2) ، وهذا غير مناسب؛ لأن اليهود غلطوا في الذي رأوه، حيث ظنوه المسيح، ولم يكن هو، ولكن ألقى شبهه عليه، وكذا الذي رأته مريم، ومحمد صلى الله عليه وسلم، هو جبريل نفسه في صورة آدمي، فكيف يقاس ما رئي هو نفسه في صورة على ما لم ير؟
وأما التقليل والتكثير في أعينهم فهو في المقدار، ليس في نفس المرئي، ولكن في صفته.
الوجه السابع: أن هذا المعنى كان مقيداً بالرائي، لا بالمرئي، مثل قوله تعالى:{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ْ} (3) ، فقيد ذلك بأعين الرائين، يقال: كان هذا في عين فلان رجلاً، فظهر امرأة، وكان كبيراً، فظهر صغيراً، ونحو ذلك.
لا يقال: جاء فلان في صورة كذا، ثم تحول في صورة كذا، ويكون التصوير في عين الرائي فقط)) (4) .
قوله: ((فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن الضمير في قوله: ((فيكشف عن ساقه)) يعود إلى الله تعالى، ففي ذلك إثبات الساق صفة لله تعالى، ويكون هذا الحديث ونحوه تفسيراً لقوله تعالى: {يَوْمَ
(1) الآية 44 من سورة الأنفال.
(2)
الآية 157 من سورة النساء.
(3)
الآية 44 من سورة الأنفال.
(4)
((نقض التأسيس)) (3/397 – 404) المخطوطة.
يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ْ} (1) .
قال البخاري في ((التفسير)) من ((صحيحه)) : ((باب: ((يوم يكشف عن ساق)) :
حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد – رضي الله عنه _ قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً)) وهذا حديث متفق على صحته، وفيه التصريح في أن الله تعالى يكشف عن ساقه، وعند ذلك يسجد له المؤمنون.
ومن تأوّله التأويلات المستكرهة، فقد استدرك على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يرض بما جاء به عن ربه تبارك وتعالى.
ومعلوم أن قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ْ} (2) ليس نصاً في أن الساق صفة لله – تعالى -؛ لأنه جاء نكرة غير معرف بالإضافة إلى الله – تعالى -، فيكون قابلاً كونه صفة، وكونه غير صفة، وتعينه لواحد من ذلك يتوقف على الدليل، وقد دل الدليل الصحيح على أنه صفة لله – تعالى – فلا يجوز تأويله بعد ذلك.
أما ما جاء عن ابن عباس وغيره أن ذلك: الشدة والكرب يوم القيامة، فهذا بالنظر إلى لفظ الآية؛ لأنها كما قلنا لم تدل على الصفة بلفظها، وإنما الدليل هو الحديث المذكور، مع أنه جاء عن أبي سعيد، راوي الحديث، وجاء عن غيره أيضاً، أنهم جعلوها دالة على الصفة.
قال شيخ الإسلام: ((وقد طالعت التفاسير المنقولة، عن الصحابة،
(1) الآية 42 من سورة ن.
(2)
الآية 42 من سورة ن.
وما رووه من الحديث، ووقفت على أكثر من مِائَة تفسير، فلم أجد عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات، أو أحاديثها، بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، إلا في مثل قوله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ْ} فروي عن ابن عباس، وطائفة، أن المراد به: الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد، وطائفة، أنهم عدوها في الصفات، للحديث الذي رواه أبو سعيد في ((الصحيحين)) .
ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة، لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر)) (1) .
وقال أيضاً: ((الصحابة قد تنازعوا في تفسير هذه الآية، هل المراد به: الكشف عن الشدة، أو المراد: أنه يكشف الرب عن ساقه؟
ولم يتنازع الصحابة والتابعون فيما يذكر من آيات الصفات، إلا في هذه الآية، بخلاف [قوله:{لِمَا خَلَقتُ بِيَدَى َّ {} وَيَبقَى وَجهُ رَبِكَ} ونحو ذلك، فإنه لم يتنازع فيها الصحابة والتابعون] ، وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أن ذلك صفة لله – تعالى – [يعني قوله – تعالى -:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} ؛ لأنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} ، ولم يقل عن ساق الله، ولا قال: يكشف الرب عن ساقه، وإنما ذكر ساقاً نكرة غير معرفة، ولا مضافة.
وهذا اللفظ بمجرده، لا يدل على أنها ساق الله، والذين جعلوا ذلك من صفات الله – تعالى –أثبتوه بالحديث الصحيح، المفسر للقرآن، وهو
(1)((مجموع الفتاوى)) (6/394 - 395) .
حديث أبي سعيد الخدري، المخرج في ((الصحيحين)) الذي قال فيه:((فيكشف الرب عن ساقه)) .
وقد يقال: إن ظاهر القرآن يدل على ذلك، من جهة أنه أخبر أن يكشف عن ساق، ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه، وأيضاً فحمل ذلك على الشدة، لا يصلح، لأن المستعمل في الشدة أن يقال: كشف الله الشدة – أي: أزالها – كما قال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} (1) وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (2) .
وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أنه يقال: كشف الشدة – أي: أزالها – فلفظ الآية: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} وهذا يراد به الإظهار والإبانة، وأيضاً هناك تحدث الشدة، لا إزالتها، فلا تكشف الشدة يوم القيامة.
لكن هذا الظاهر [من كون القرآن دالاً على الصفة] ليس ظاهراً من مجرد لفظة ((ساق)) بل بالتركيب، والسياق، وتدبر المعنى المقصود)) (3) .
وبهذا يتبين بطلان قول من يقول: المراد بالساق: الأمر الشديد المهول، أو أنه مَلَكٌ يجعله الله علامة يعرفونها، ونحو ذلك من التأويلات الباردة السخيفة التي يجب أن ينزه عنها كلام العقلاء، فضلاً عن كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
وكل من جرّد نفسه لله، وطرح عنه التعصب، والتقليد، فإنه يعلم بطلان هذه التأويلات، وسخافتها.
قوله -: ((فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب
(1) الآية 50 من سورة الزخرف.
(2)
الآية 75 من سورة المؤمنون.
(3)
((نقض التأسيس)) (3/15-16) .
كيما يسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً)) ، وهذا مما يدل على أن الساق صفة لله – تعالى – حيث عرفه المؤمنون بذلك فسجدوا له، ومعلوم أن الشدائد في ذلك اليوم متوالية، من النفخ في الصور، وجمع الناس في صعيد واحد من أولهم إلى آخرهم، فيطول وقوفهم، شاخصة أبصارهم، حفاة، عراة، غرلاً، جياعاً عِطاشاً، ثم يؤتى إليهم بجهنم، تُجر بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، ثم تتوالى الأهوال من نصب الموازين، والصراط، والعبور على النار، حتى ينجو المؤمنون إلى الجنة، وأما من عداهم فلا يخرجون من شدة إلا إلى ما هو أشد منها، وكل هذه الأمور وغيرها لم توجب للمؤمنين السجود.
فلما مثل لكل قوم ما يعبدون، وأمروا باتباع معبوداتهم إلى النار، وبقي المؤمنون ينتظرون معبودهم، حتى إذا جاءهم في صورة لا يعرفونه بها، وقال: أنا ربكم، فيتعوذون بالله منه، خوفاً أن يكون غير ربهم؛ لأنهم لم يكونوا يشركون به شيئاً ثم يقول لهم: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، الساق، عند ذلك يكشف عن ساقه - جل وعلا -، فيخرُّون له سُجَّداً.
وأما المنافقون الذين يراءون الناس بعبادتهم، فمنعوا من السجود، وجعلت ظهورهم طبقاً واحداً، لا يستطيعون الانحناء، ولا السجود؛ لأنهم ما كانوا في الحقيقة يسجدون لله في الدنيا، وإنما كانوا يسجدون لأغراضهم الدنيوية.
قوله: ((ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: مدحضة، مزلة)) المدحضة: الذي لا تستمسك فيه الأقدام، ومزلة: صفة لمدحضة، يعني: أن القدم إذا وطئ عليه لا يثبت، بل يزل، والدحض: هو الموضع الذي فيه طين وأصابه الماء، فأصبح يدحض من وطئ عليه، أي: يزله، ولا يثبت عليه قدم.
قوله: ((عليه خطاطيف)) هو الحديدة المعقوفة، المحددة؛ لأجل أن تمسك
من أريد خطفه بها، فهي قريبة من الكلوب، وتقدم شرحها وتفسير السعدان.
قوله: ((المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب)) يعني: مرورهم على النار يختلف باختلاف إيمانهم، فمن كان إيمانه كاملاً، وعمله صالحاً خالصاً لله، فإنه يمر من فوق جهنم كلمح البصر، ومن كان دون ذلك يكون مروره بحسب إيمانه وعمله، كما فصل ذلك في الحديث، ومثل بالبرق، والريح، إلى آخره.
قوله: ((فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً)) جعل المارين على الصراط أربعة أصناف:
الأول: الناجي المسلم من الأذى، وهؤلاء يتفاوتون في سرعة المرور عليه كما سبق.
والثاني: الناجي المخدوش، والخدش هو الجرح الخفيف، يعني: أنه أصابه من لفح جهنم، أو أصابته الكلاليب والخطاطيف التي على الصراط بخدوش.
والثالث: المكدوس في النار، الملقى فيها بقوة، قال ابن الأثير:((كأن الإنسان تجمع يداه، ورجلاه، ويشد، ويلقى في النار، وهو بمعنى المكردس، وجاء في بعض نسخ مسلم ((مكدوش)) (1) .
والرابع: الذي يسحب على الصراط سحباً قد عجزت أعماله عن حمله.
قوله: ((فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم، من المؤمن يومئذ للجبار)) هذا من كرم الله، ورحمته، حيث أذن لعباده المؤمنين في مناشدته وطلب عفوه عن إخوانهم الذين ألقوا في النار، بسبب جرائمهم التي كانوا
(1)((جامع الأصول)) (11/314) مطبعة أنصار السنة.
يبارزون بها ربهم، ومع ذلك ألهم المؤمنين الذين نجوا من عذاب النار وهول الصراط، ألهمهم مناشدته، والشفاعة فيهم، وأذن لهم في ذلك؛ رحمة منه لهم – تبارك وتعالى.
((يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا)) مفهوم هذا أن الذين لا يصلون مع المسلمين، ولا يصومون معهم، لا يشفعون فيهم، ولا يناشدون ربهم فيهم.
وهو يدل على أن هؤلاء الذين وقعت مناشدة المؤمنين لربهم فيهم كانوا مؤمنين، موحدين؛ لقولهم: ((إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ولكن ارتكبوا بعض المآثم، التي أوجبت لهم دخول النار.
وفي هذا رد على طائفتين، ضالتين، الخوارج، والمعتزلة، في قولهم: إن من دخل النار، لا يخرج منها، وإن صاحب الكبيرة في النار.
((فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني، فاقرؤوا: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (1) أما كون المؤمنين يذهبون ِإلى النار، وكيف يستطيعون الوصول إليها؟ وكيف يعرفون من في قلبه مثقال دينار، أو نصف دينار، أو مثقال ذرة من إيمان؟ هذه كلها من أمور الآخرة، التي لا تقاس بما تعارف
(1) الآية 40 من سورة النساء.
عليه الناس في الدنيا، ولا يستطيع عقل البشر الحكم عليها، وإنما تعرف حقائقها يوم القيامة، فهناك يأتي تأويلها، وإنما يجب علينا تصديقها، والتيقن منها.
وليس بمستنكر في قدرة الله – تعالى – أن يجعل النار غير مؤذية لهؤلاء المؤمنين الذاهبين إلى إخوانهم في النار، كالملائكة الذين فيها.
والمقصود بالصور في قوله: ((ويحرم صورهم على النار)) وجوههم، وقد تقدم أن الله يحرم على النار مواضع السجود، وذلك من آيات الله وعظيم قدرته.
واستشهاد أبي سعيد بالآية ظاهر في أن العبد إذا كان معه مثقال ذرة من إيمان، فإن الله يضاعفه له، فينجيه بسببه.
قوله: ((فيشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون)) صريح في أن هؤلاء الأقسام الثلاثة يشفعون، ولكن يجب أن يعلم أن شفاعة أي شافع، لا تقع إلا بعد أن يأذن الله فيها، كما تقدم في مناشدتهم ربهم وسؤالهم إياه، ثم يأذن لهم فيقول: اذهبوا فمن وجدتم، إلى آخره.
قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (1) .
ولا تقع أيضا إلا لمن يرضى الله – تعالى – عنه، وهو تعالى لا يرضى إلا عن أهل التوحيد والإخلاص، أما المشركون، ومنهم عباد الأولياء والقبور فحرام عليهم الشفاعة، كحرمة الجنة عليهم، كما هو معلوم من نصوص الشرع.
قوله: ((فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج
(1) الآية 255 من سورة البقرة.
أقواماً قد امتحشوا)) الله تعالى هو مالك الشفاعة، والأمر له في كل شيء، والملائكة، والرسل، والمؤمنون، يطلبون منه أن يشفعهم في من دخل النار من المؤمنين بأن يخرجهم، وهو – تعالى – الذي يُلقي هذا الطلب في نفوسهم كما سبق، والمراد بشفاعته – تعالى – رحمته لهؤلاء المعذبين، فيخرجهم من النار.
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون} (1) .
وقال تعالى {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَاّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (2) .
والعهد: هو شهادة ألَاّ إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، صادقاً مخلصاً، وعمل بما دلت عليه هذه الشهادة.
ففي هذه الآيات – ونحوه كثير – البيان الواضح في أن الشفاعة لله وحده، وأنها لا يمكن أن تقع من أحد عند الله إلا بعد أن يأذن لمن يشفع، ويرضى عن المشفوع له، وحقيقة الشفاعة أن الله يكرم الشافع بإذنه له في ذلك، ويرحم المشفوع فيه.
(1) الآيتان 43 – 44 من سورة الزمر.
(2)
الآية 87 من سورة مريم.
(3)
الآية 4 من سورة السجدة.
قوله: ((فيقبض قبضة)) فيه إثبات القبض لله تعالى، ومِنْ لازِمِهِ إثبات اليد التي يقبض بها، وكم في كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من نص يثبت ذلك، ولكن أهل التأويل الفاسد المحرِّفين يأبون قبول ذلك، والإيمان به، وسوف يعلمون أن الحق ما قاله الله وقاله رسوله، وأنهم قد ضلوا السبيل في هذا الباب.
قوله: ((قد امتحشوا)) يعني: احترقوا، وفي رواية مسلم:((قد عادوا حمماً)) أي: صاروا حمماً، والحمم - بضم الحاء وفتح الميم الأولى المخففة - هو الفحم.
والامتحاش: احتراق الجلد، وظهور العظم، وليس المقصود هنا أن عظامهم ظهرت، وإنما المقصود احتراقهم ظاهراً.
وبهذا استدل على أن من يدخل النار من الموحدين يموتون فيها؛ لأنهم احترقوا، وصاروا حمماً، وفي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها، ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحماً، أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل)) (1) .
قال ابن رجب: ((وظاهر الحديث يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة، وتفارق أرواحهم أجسادهم، ويدل على ذلك: ما أخرجه البزار، من حديث عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد بن مسلمة، أخبرني موسى بن جبير، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أدنى أهل
(1)((صحيح مسلم)) (3/37) مع شرح النووي.
الجنة حظاً – أو نصيباً – قوم يخرجهم الله من النار، فيرتاح لهم الرب – تعالى – أنهم كانوا لا يشركون بالله شيئاً، فينبذون بالعراء، فينبتون كما تنبت البقلة، حتى إذا دخلت الأرواح إلى أجسادها، قالوا: ربنا كما أخرجتنا من النار، وأرجعت الأرواح إلى أجسادها، فاصرف وجوهنا عن النار، فيصرف وجوههم عن النار)) (1) .
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لكن ناس أصابتهم النار)) إلى آخره، معناه: أن المذنبين من المؤمنين يميتهم الله – تعالى – إماتة بعد أن يعذبوا المدة التي أرادها الله – تعالى -، وهذه الإمامة، إماتة حقيقية، يذهب معها الإحساس، ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم، ثم يميتهم، ثم يكونون فحماً، فيُحملون ضبائر، كما تحمل الأمتعة، ويلقون على أنهار الجنة، فيصب عليهم ماء الحياة، فيحيون، وينبتون نبات الحبة في حميل السيل، في سرعة نباتها، وضعفها، فتخرج لضعفها صفراء، ملتوية، ثم تشتد قوتهم، ويصيرون إلى منازلهم، وتكمل أحوالهم، هذا هو ظاهر الحديث.
وحكى القاضي عياض فيه وجهين، أحدهما: أنها إماتة حقيقية، والثاني ليس بموت حقيقي، ولكن يغيب عنهم إحساسهم بالألم، والمختار ما قدمناه)) (2) .
قوله: ((فينبتون في حافتيه، كما تنبت الحبة في حميل السيل)) المقصود: نبات لحومهم وأبصارهم وعظامهم التي احترقت في النار، ولا يلزم عند من يقول إنهم لا يموتون موتاً حقيقياً أنهم ماتوا في النار بحيث تفارق أرواحهم أجسامهم، والله أعلم.
(1)((التخويف من النار)) (ص152) .
(2)
((شرح النووي على مسلم)) (3/38) .
و ((الحبة)) بكسر الحاء، قال الحافظ:((هي بزور الصحراء، وجمعها: حبب، بكسر الحاء، وأما الحبة بفتح الحاء – وهو ما يزرعه الناس – فجمعها حبوب)) (1)(2)
((في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان إلى الظل كان أبيض)) يعني بذلك: سرعة خروج لحومهم؛ لأن النبت في حميل السيل – كما ذكر – يخرج بسرعة، ولهذا يكون من جانب الظل أبيض، ومن جانب الشمس أخضر، وذلك لضعفه ورقته، ولا يلزم أن يكون نبتهم كذلك – كما قاله بعضهم: بأن الذي من جانب الجنة يكون أبيض، والذي من جانب النار يكون أخضر – بل المراد تشبيههم بالنبت المذكور في سرعة خروجه، ورقته، ولذلك قال:((فيخرجون كأنهم اللؤلؤ)) يعني: في صفاء بشرتهم، وحسنها.
قوله: ((فيجعل في رقابهم الخواتيم)) خواتيم: جمع خاتم، وهذه الخواتيم يكتب فيها ((عتقاء الرحمن من النار)) كما ذكر في الرواية الأخرى.
قوله: ((فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة، بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه)) يعني أنهم لم يعملوا صالحاً في الدنيا، وإنما معهم أصل الإيمان، الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله والإيمان برسولهم. قال الكرماني:((ليس معهم إلا مجرد الإيمان، دون أمر زائد عليه، من الأعمال والخيرات، وعلم منه أن شفاعة الملائكة، والنبيين، والمؤمنين، فيمن كان له طاعة غير الإيمان الذي لا يطلع عليه إلا الله)) (3) ، وتقدم في الحديث
(1)((شرح النووي على مسلم)) (3/38) .
(2)
انظر ((الفتح)) (11/458) .
(2)
((شرح الكرماني)) (25/150) .
(3)
أنهم يخرجون من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان، ومن كان في قلبه مثقال نصف دينار، ومن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، والله أعلم.
قوله: فيقال لهم: ((لكم ما رأيتم، ومثله معه)) يظهر أنهم يدخلون أماكن من الجنة خالية، ولهذا قيل لهم ذلك.
ومحل الشاهد من الحديث قوله: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته، التي رأوه فيه أول مرة)) ، وقوله:((فيكشف عن ساق، فيسجد له كل مؤمن)) مع قوله: ((فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ، إلا كما تضارون في رؤيتهما)) جواباً لسؤالهم: ((هل نرى ربنا يوم القيامة)) وهي كما ترى أدلة واضحة صريحة، وهذا من أوضح الأدلة على أن عموم أهل الموقف من الرجال، والنساء، والمنافقين، يرونه، فإن الناس يعمهم، والحشر مشترك بينهم.
فقد ظهر مراد النبي – صلى الله عليه وسلم – لكل عاقل عارف باللغة بقوله: ((إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ليس دونهما سحاب)) أن مراده رؤيتهم إياه بأبصارهم، لا يستريب في ذلك من عرف دلالة الألفاظ على المعاني، وليس في الممكن عبارة أوضح من هذا.
*******
67 – وقال حجاج بن منهال: حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة، عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يحبس المؤمنون يوم القيامة، حتى يهموا بذلك.
فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم.
فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، لتشفع لنا عند ربك، حتى يريحنا من مكاننا هذا.
قال: فيقول: لست هناكم، قال: ويذكر خطيئته التي أصاب، أكله من الشجرة وقد نهي عنها، ولكن ائتوا نوحاً، أول نبي بعثه الله – تعالى – إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً، أول نبي بعثه الله – تعالى – إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، سؤاله ربه بغير علم.
ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، قال: فيأتون إبراهيم، فيقول: إني لست هناكم، ويذكر ثلاث كذبات كذبهن، ولكن
ائتوا موسى، عبداً آتاه الله التوراة، وكلمه وقربه نجياً.
قال: فيأتون موسى، فيقول: إني لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، قتله النفس، ولكن ائتوا عيسى، عبد الله ورسوله، وروح الله وكلمته.
قال: فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمداً – صلى الله عليه وسلم – عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، فيأتوني، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعط.
قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، فيحد لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة – قال قتادة: وسمعته أيضا يقول: ((فأخرج فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة – ثم أعود فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه.
قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة – قال قتادة: وسمعته يقول: فأخرج، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة – ثم أعود الثالثة، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه.
قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه.
قال: ثم أشفع فيحد لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة – قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأخرج، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة – حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن – أي: وجب عليه الخلود -، ثم تلا الآية:{عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُكَ مَقَامَا مَّحمُودَا} .
قال: وهذا المقام المحمود، الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم –)) .
هذا حديث الشفاعة المشهور، وقد تقدم في باب قوله تعالى:{لِمَا خَلَقتُ بِيَدَىَّ} .
وقد جاء من رواية عدد من الصحابة، ((وأول حديث أبي هريرة:((أنا سيد الناس يوم القيامة، يجمع الله الناس، الأولين والآخرين، في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، ولا يحتملون))
وزاد في رواية إسحاق بن راهويه: ((فتدنو الشمس من رؤوسهم، فيشتد
عليهم حرُّها، ويشق عليهم دنُّوُّها، فينطلقون من الضجر والجوع مما هم فيه)) .
وأول حديث أبي بكر: ((عُرض عليَّ ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيفظع الناس لذلك، والعرق كاد يلجمهم)) .
وفي حديث عبادة بن الصامت: ((إني لسيد الناس يوم القيامة – بغير فخر -، وما من الناس إلا من هو تحت لوائي، ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد)) (1)
وبهذا يتبين أن قوله في رواية أنس: ((يحبس المؤمنون يوم القيامة)) أن قبله كلاماً محذوفاً، وأن المقصود الخلق عامة، ولهذا جاءت أكثر الروايات بالتعبير ((بالناس)) .
وفي هذه الرواية – زائداً على ما تقدم -، ذكر الذنوب التي يعتذر بها الأنبياء، وتقدم أن هذا من الأدلة على وقع الذنوب في الجملة من الأنبياء، وتقدم الكلام في هذه المسألة.
ومن ذلك قوله: ((فاستأذن على ربي في داره)) ، وتكرر ذلك ثلاثا، قيل: المراد الجنة، والظاهر أن المراد مكان معين، كما في حديث الشفاعة الطويل ((فآتي تحت العرش)) ، وفي حديث الصور:((فآتي مكاناً تحت العرش، يقال له: الفحص)) ، فيكون المعنى: المكان الذي تحت عرشه.
وما ذكره الحافظ، نقلاً عن الخطابي، أن قوله:((فأستأذن على ربي في داره)) يوهم المكان، والله منزه عن ذلك، وإنما معناه في داره التي اتخذها لأوليائه، وهي الجنة، أضيفت إليه إضافة تشريف، مثل بيت الله وحرم
(1) انظر ((الفتح)) (11/432) .
الله)) (1) .
فيقال له: ماذا تقصد بالمكان؟ إن كنت تريد مكاناً يحويه ويحيط به، فالله - تعالى - منزه عن ذلك.
وإن كنت تريد أنه ليس فوق عرشه، عال على خلقه، كما هو مذهب أهل الباطل من أشعرية، ومعتزلة، وغيرهم، فقد أثبت الله - تعالى - ذلك لنفسه وأثبتته له رسله، واتفقت عليه كتبه، وأجمعت عليه أتباع الرسل، وفطر الله - تعالى - عليه خلقه، فإنكار ذلك عناد، ومكابرة للعقول السليمة من الانحراف، ومخالفة للشرع، وقد تقدم من الأدلة على ذلك ما يكفي بعضه لمن يريد الحق.
ومما لم يتقدم في الرواية السابقة قوله: ((فأخرج)) فأخرجهم من النار)) يعني: يخرج من المكان الذي استأذن في الدخول فيه.
وفيه ألفاظ أُخر تختلف عما سبق، ولكن المعنى متقارب.
والمقصود منه هنا قوله: ((فأستأذن على ربي في داره، فإذا رأيته وقعت ساجداً)) كرر ذلك ثلاث مرات، وهو صريح في أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى ربه عياناً في ذلك المكان، فيسجد له، وإذا رآه جاز أن يراه غيره.
وأما تلاوة الآية إلى آخر قول أنس، فهو تفسير للمقام المحمود، وسيأتي.
وفي هذا الحديث إشكال ظاهر، حتى قال الداودي:((أول هذا الحديث ليس متصلاً بآخره، بل بقي بين طلبهم الشفاعة، وبين قوله: ((فأستشفع)) ، أمور كثيرة من أمور القيامة)) (2)، وقال: ((وكأن راوي الحديث ركّب شيئاً على غير أصله، وذلك أن أول الحديث في ذكر الشفاعة، في الإراحة من كرب الموقف، وآخره في الشفاعة لإخراج بعض العصاة من النار، وهذا إنما يكون
(1)((الفتح)) (13/429) .
(2)
ذكره الحافظ في ((الفتح)) (13/426) .
بعد انتهاء الوقوف، والقضاء بين الخلق، وذهاب أهل الجنة إليها، وأهل النار إليها)) ، قال الحافظ:((وهذا إشكال قوي)) (1)
ثم ذكر جوابه، عن القاضي عياض، قال: وتبعه عليه النووي.
وحاصله: أن الحديث فيه اختصار، وحذف، وذكر بعض الروايات التي تبين ذلك.
منها ما في حديث أُبي بن كعب، عند أبي يعلى:((ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط، وهو منصوب بين ظهراني جهنم، فيمرون)) .
ومنها ما في رواية ابن عباس عند الإمام أحمد: ((فيقول عز وجل يا محمد، ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: يا رب، عجِّل حسابهم)) .
وذكر جواب القرطبي، ((بأن قوله في حديث أبي هريرة:((أدْخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب)) فهذا يدل على الشفاعة في تعجيل الحساب)) (2)
وذكر غير ذلك مما هو مخالف لظواهر الأحاديث، فلا يعول عليه.
وقال ابن أبي العز: ((والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه، ولا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في إتيان الرب - تعالى - لفصل القضاء، مع أنه المقصود من سياق الحديث.
فإن الناس يطلبون الشفاعة ليقضى بينهم، فيستريحوا من عناء الموقف.
وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور المشهور، فإن فيه:
(1)((الفتح)) (11/ 437 - 438) ببعض التصرف.
(2)
((الفتح)) (11/438) .
((فأذهب فأسجد تحت العرش، في مكان يقال له: الفحص، فيقول الله: ما شأنك؟ - وهو أعلم - فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه: شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينهم، قال: فأرجع فأقف مع الناس)) ، ثم ذكر ((انشقاق السماوات، وتنزل الملائكة، ثم يجيء الرب - تعالى - لفصل القضاء)) إلى آخره. وكأن السلف اقتصروا على هذا القدر من الحديث، للرد على الخوارج، ومن تابعهم من المعتزلة، الذين أنكروا خروج أحد من النار، بعد دخولها، فذكروا القدر الذي فيه التصريح بذلك)) (1) .
وبذلك يزول الإشكال، فإن حديث الصور مشهور، وإن كان سنده ضعيفاً، ولكن له شواهد كثيرة صحيحة، فيصلح أن يكون جواباً لهذا الإشكال، والله أعلم.
وأما قوله تعالى: ((عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)) فقال ابن جرير: ((يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أقم الصلاة المفروضة، في أوقاتها التي أمرتك بإقامتها فيها، ومن الليل فتجهد فرضاً فرضته عليك، لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاماً تقوم فيه محموداً، تحمده وتغبط فيه.
قال أكثر أهل العلم: إنه الشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه، من شدة ذلك اليوم
…
ثم ذكر الآثار في ذلك.
وذكر بسنده، عن مجاهد: أن المقام المحمود: أن يجلسه معه على عرشه.
ثم قال: الصواب: ما صح به الخبر، أنه الشفاعة
…
وذكر بعض أحاديث الشفاعة، ثم قال: ((وما قاله مجاهد، غير مدفوع صحته سنداً، ولا نظراً،
(1)((شرح الطحاوية)) (ص193) .
إذ لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته، ولا التابعين بإحالة ذلك)) (1) .
قال الحافظ: ((الجمهور على أن المراد بالمقام المحمود: الشفاعة، وبالغ الواحدي ونقل فيه الإجماع.
ثم قال: والراجح أن المراد به الشفاعة، لكن الشفاعة التي وردت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان:
الأول: العامة في فصل القضاء.
والثاني: الشفاعة في إخراج المذنبين من النار)) (2) .
*****
68 -
قال: حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدثني عمي، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة، وقال لهم: اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض)) .
ذكر البخاري رحمه الله هذا الحديث من رواية أنس رضي الله عنه في سبعة مواضع غير هذا الموضع، منها في غزوة الطائف، ولفظه: ((قال ناس من الأنصار - حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ما أفاء، من أموال هوازن، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم
يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم.
قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم غيرهم.
(1)((تفسير الطبري)) (15/143 - 147) ملخصاً.
(2)
((الفتح)) (11/426 - 427) ملخصاً.
فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما حديث بلغني عنكم؟)) .
فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منا، حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر، أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به)) قالوا: يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:((ستجدون أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض)) (1) .
وله ألفاظ وروايات متعددة، من رواية أنس وغيره.
والأثرة: اختصاص غيرهم واستبدادهم بما يستحقونه هم، والمعنى: أن الناس يختصون بالدنيا، ويستأثرون بها، دون الأنصار، مع استحقاق الأنصار لها وهم الذين اجتمعوا على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآووه إلى بلادهم، وعاقدوه على أن ينصروه، ويمنعوه مما يمنعون أنفسهم وأولادهم منه، فلنصرهم لله ورسوله سموا الأنصار، وهو أشرف أسمائهم وقد وقع لهم ما أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك تقدير الحكيم العليم، حيث استأثر الناس عليهم بالدنيا، مع أنهم الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم، وهذا من فضل الله عليهم، حتى يجازيهم على أعمالهم الدرجات العالية في جنات عدن، فتظهر هناك فضيلتهم، ويغبطهم الناس الذين استأثروا عليهم بالدنيا أعظم غبطة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
قوله: ((جمعهم في قبة من أدم)) القبة: كل ما كان مقبباً، وفي الأصل
(1) انظر ((الفتح)(8/52) .
أن يكون عالي الوسط متداني الأطراف، والأدم: الجلود.
وتقدم تفسير الصبر.
وقوله: ((حتى تلقوا الله ورسوله)) هذا هو محل الشاهد من الحديث؛ لأن اللقاء يتضمن الرؤية والمعاينة كما قال أهل اللغة.
قال الأزهري: ((كل شيء استقبل شيئاً، أو صادفه، فقد لقيه، من الأشياء كلها)) (1)
وقال ابن فارس: ((اللقاء: الملاقاة، وتوافي الاثنين متقابلين، ولقيته لقيا، ولقيانا، واللقية: فعلة من اللقاء والجمع: لقى، قال:
وإني لأهوى النوم من غير نعسة لعل لقياكم في المنام تكون)) (2) .
وقال الراغب: ((اللقاء: مقابلة الشيء ومصادفته معاً، وقد يعبر به على كل واحد منهما، يقال: لقيه يلقاه لقاء، ولقياً، ولقية.
ويقال ذلك: في الإدراك بالحس، وبالبصر، وبالبصيرة، قال تعالى:{وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} (3) .
وقال تعالى: {لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (4) .
وملاقاة الله عبارة عن القيامة، وعن المصير إليه، قال تعالى:{وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ} (5)، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللهِ} (6) .
(1)((تهذيب اللغة)) (9/299) .
(2)
((مقاييس اللغة)) (5/261) .
(3)
الآية 143 من سورة آل عمران.
(4)
الآية 62 من سورة الكهف.
(5)
الآية 223 من سورة البقرة.
(6)
الآية 249 من سورة البقرة.
واللقاء: الملاقاة، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} (1)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيه} ِ (2)، وقال:{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا (3) } ) ، أي: نسيتم القيامة، والبعث والنشور)) (4) . وقد ذكر لقاء الله في القرآن في أكثر من عشرين موضعاً، كقوله تعالى:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (5) كقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} (6) وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ} (7)، وقوله تعال:{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (8)، وقوله تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِين} (9)، وقوله تعالى:{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ (10) } ) ، وقوله تعالى:{يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (11)، وقوله تعالى:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (12) ،
وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ
(1) الآية 15 من سورة يونس.
(2)
الآية 6 من سورة الانشقاق.
(3)
الآية 14 من سورة السجدة.
(4)
((المفردات)) (ص453) .
(5)
الآية 44 من سورة الأحزاب.
(6)
الآية 77 من سورة التوبة
(7)
الآية 31 من سورة الأنعام.
(8)
الآية 154 من سورة الأنعام.
(9)
الآية 45 من سورة يونس.
(10)
الآية 5 من سورة العنكبوت.
(11)
الآية 2 من سورة الرعد.
(12)
الآية الأخيرة من سورة الكهف..
النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ َ} (1)، وقوله تعالى:{أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (2)، وقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} َ (3)، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي َ} (4) .
فمن قرأ هذه الآيات ونحوها مما لم نذكر، مؤمناً بها، علم يقيناً أن مضمونها إخبار الله تعالى بأن العبد سيلقى ربه، لقاء يتضمن المحاسبة والكلام والمقابلة والمعاينة، والجزاء بالعمل الذي كان العبد يعمله في الدنيا.
ولم يزل أهل السُّنَّة من السلف، وأتباعهم، يستدلون بمثل هذه الآيات على رؤية الله تعالى.
وسيأتي حديث عدي بن حاتم، وفيه:((واعلموا أن كل واحد منكم سيلقى ربه، ليس بينه وبينه ترجمان)) .
فمن أنكر ذلك فقد خالف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسلك غير سبيل المؤمنين.
والله تعالى - جعل التكذيب بلقائه كفراً، لا ينفع معه عمل كما في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (} َ (5) .
قال ابن بطة: ((سمعت أبا عمر الزاهد اللغوي يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا {43} تَحِيَّتُهُمْ
(1) الآية 8 من سورة الروم.
(2)
الآية 54 من سورة فصلت.
(3)
الآية 105 من سورة الكهف.
(4)
الآية 23 من سورة العنكبوت.
(5)
(الآية 23 من سورة العنكبوت.
يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ َ} (1) : أجمع أهل اللغة أن اللقاء ها هنا لا يكون إلا معاينة ونظرة بالأبصار)) (2) .
وقال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: ((اللقاء فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى واحتجوا بآيات اللقاء على من أنكر رؤية الله في الآخرة، من الجهمية، والمعتزلة وغيرهم.
وجعلوا اللقاء يتضمن معنيين، أحدهما: السير إلى الملك.
والثاني: معاينته، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهَِ} (3) .
فذكر أنه يكدح إلى الله، فيلاقيه، والكدح يتضمن السلوك والسير إليه، واللقاء يعقبها.
وأما المعاينة من غير سير إلى المعاين - كمعاينة الشمس، والقمر - فلا يسمى لقاء.
وقول الذين يجعلون المراد من اللقاء، هو الجزاء، دون لقاء الله، معلوم الفساد بالاضطرار، بعد تدبر الكتاب والسُّنَّة.
ويظهر فساده من وجوه:
أحدها: أنه خلاف التفاسير المأثورة عن الصحابة والتابعين.
الثاني: أن حذف المضاف إليه لا بد أن يقارنه قرائن تبين ذلك، كما في
(1) الآيتان 43 - 44 من سورة الأحزاب.
(2)
انظر ((مجموع الفتاوي)) (6/488) .
(3)
الآية 6 من سورة الانشقاق.
قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} (1) ولو قال قائل: رأيت زيداً أو لقيته، وأراد بذلك أنه رأى غلامه، أو أباه، أو لقيهما، لم يجز ذلك في لغة العرب بلا نزاع.
ولقاء الله - تعالى - قد ذكر في كتاب الله وسنة رسوله في مواضع كثيرة مطلقاً غير مقترن بما يدل على أنه أريد بلقاء الله بعض مخلوقاته من ثواب وغيره.
الثالث: أن اللفظ إذا تكرر ذكره في الكتاب، ودار مرة بعد مرة على وجه واحد، وكان المراد به غير مفهومه ومقتضاه عند الإطلاق، ولم يبين ذلك، كان تدليساً وتلبيساً يجب أن يصان كلام الله عنه، الذي أخبر أنه شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وأنه بيان للناس.
وقد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وأنه بين للناس ما نزل إليهم.
وأما قول أهل البدع: إن القرينة الدالة على أن لقاء الله غير مراد من هذه النصوص: هو ما في العقل من امتناع ذلك وإحالته.
فهو مردود من وجهين:
أحدهما: أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك، بل البراهين العقلية تتفق مع القرآن، كما قال الله - تعالى -:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} (2) .
وما يدعيه نفاة لقاء الله ورؤيته من الحجج العقلية التي تخالف ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، ليست حججاً، وإنما هي شبهات فاسدة، عند من له خبرة جيدة بالمعقولات، وإنما تنطلي على المقلدين.
(1) الآية 82 من سورة يوسف.
(2)
(الآية 6 من سورة سبأ.
الثاني: أنه لو فرض أن هناك دليلاً عقلياً ينافي مدلول القرآن لكان خفياً، له مقدمات طويلة، متنازع فيها، ليس فيها واحدة متفق عليها، والواقع أنها شبهات فاسدة، أورثها صدودهم عن كتاب الله.
ومن الضروري أن الذي أخبر أنه بيان للناس، وأن كلامه هدى ورحمة، وشفاء، وبلاغ مبين، إذا أراد بكلامه الموصوف بما ذكر ما يقوله هؤلاء المتكلمون، فإنه بعكس تلك الأوصاف، فيكون فيه الضلال، واللبس؛ لأنه لا يدل على قولهم.
واتفاق المسلمين على وجوب تنزيه كلام الله ورسوله من ذلك أمر ضروري.
الوجه الرابع: أنه سيأتي في حديث ابن عباس، قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((أنت الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق)) . ففرق بين لقائه، وبين الجنة والنار.
ومعلوم أن الجنة والنار، تتضمن جزاء المطيعين، والعصاة، فعلم أن لقاء الله غير لقاء الثواب، والعقاب.
الوجه الخامس: ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن العباد سوف يلقون ربهم، وقد ذكر البخاري في هذا الباب قليلاً منها، مثل حديث عدي بن حاتم ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حاجب يحجبه، ولا ترجمان)) .
الوجه السادس: أنه لو أريد بلقاء الله ما يخلقه من ثواب أو عقاب أو غير ذلك، لكان ذلك واقعاً في الدنيا والآخرة، كما في عقاب الأمم المكذبة، ونصر المؤمنين، وإسعادهم.
وقد علم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لقاء الله - تعالى - لا يكون إلا بعد الموت.
كما علموا بطلان قول أهل البدع: إن لقاء الله هو لقاء بعض مخلوقاته.
وعلى قولهم، فليس في اللفظ ما يدل على تعيين مخلوق دون مخلوق، فإذا قالوا: إن لقاء الله هو الجنة، أو النار، جاز أن يقال: بل هو بعض ملائكته أو بعض الشياطين، أو غير ذلك، إذ ليس دلالة اللفظ على تعيين هذا بأولى من دلالته على تعيين هذا، فبطل قولهم.
الوجه السابع: أن لقاء الله لم يستعمل في لقاء غيره، لا حقيقة ولا مجازاً، بل وفي المخلوق كذلك، فلا يقال: لقيت زيداً، وأنت تريد عمراً.
الوجه الثامن: النصوص الكثيرة التي تفرق بين لقاء الله، وثوابه وجزائه، كقوله تعالى:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (1) ، فلو كان لقاؤه هو لقاء جزائه، لكان هو الأجر الكريم، ولا يحسن أن يخبر بأنه أعده لهم بعد ما حصل لهم؛ لأنهم لقوه، فلقاؤه وسيلة، وإعداد الأجر الكريم مقصود، فكيف يخبر بالوسيلة بعد حصول المقصود.
ومثل هذا يصان عنه كلام أوسط الناس، فضلاً عن كلام رب العالمين، ولا سيما وقد قرن اللقاء بالتحية، التي لا تكون إلا في اللقاء.
الوجه التاسع: ما في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) (2) ، فلو كان لقاء الله هو جزاءه، لامتنع أن يحب جزاء عبده، ويكره جزاء آخر.
والله تعالى لا يكره جزاء عباده بما يستحقون، بل يحب ذلك، ولا يجزيهم إلا بما يستحقون، والجزاء لا يلقاه الله - تعالى -، ودلائل بطلان هذا القول
(1) الآية 44 من سورة الأحزاب.
(2)
رواه البخاري، انظر ((الفتح)) (11/357) في الرقاق، ورواه مسلم في ((الذكر والدعاء)) (4/2065، 2066، 2067) .
لا حصر لها)) (1) .
فيكتفى بما ذكر، وبذلك يتضح أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار:((اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله)) يتضمن معاينتهم لربهم، وتكليمه لهم ومجازاتهم، وتكريمه لهم بمخاطبتهم قبل أن يدخلهم دار النعيم الأبدي.
فهو صلى الله عليه وسلم يقول لهم: تسلَّوا عما فاتكم من الدنيا مما تستحقونه، بما يكون لكم بعد البعث من الموت، عندما تلقون ربكم، فيكرمكم بتحيته لكم ومخاطبتكم، ورؤيتكم إياه، فذلكم اليوم الذي تسعدون فيه حقاً.
وكذلك تلاقون نبيكم على حوضه، الذي منّ الله به عليه، فأكرمه به في الموقف الذي يشتد فيه الظمأ، فأنتم أحق من يرد ذلك الحوض، فتشربون منه دون معوق، أو مكدر، فلا ينالكم بعد ذلك نصب، ولا وصب، ولا ظمأ، ولا أذى.
69 -
قال: ((حدثني ثابت بن محمد، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تهجد من الليل قال: اللهم ربنا لك الحمد، أنت قيم السموات والأرض، ولك الحمد، أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك خاصمت، وبك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وأسررت، وأعلنت، وما أنت أعلم به مني، لا إله إلا أنت)) .
(1)((مجموع الفتاوي)) بتصرف وتلخيص (6/462-475) .
قال أبو عبد الله: قال قيس بن سعد، وأبو الزبير، عن طاوس: قيام.
وقال مجاهد: القيوم: القائم على كل شيء، وقرأ عمر: القيام، وكلاهما مدح)) .
تقدم شرح هذا الحديث، والمقصود منه هنا قوله:((أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق)) ففرق بين لقائه وجزائه، بقوله:((ووعدك حق، ولقاؤك حق، والنار حق)) .
فلقاؤه غير وعده، وغير جزائه، الذي هو الجنة والنار.
فدل على أن تفسير لقائه بثوابه أو نحو ذلك تفسير باطل، لم يدل عليه لا كتاب ولا سنة، بل الأدلة من الكتاب والسُّنَّة تبين بطلانه.
وبذلك يتبين أن لقاءه - تعالى - يتضمن رؤيته، ومعاينته، وهو ما أراده البخاري من هذا الحديث، وذلك ما قاله السلف، وهو واضح.
*****
70 -
قال: ((حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو أسامة، حدثني الأعمش، عن خيثمة، عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه)) .
قوله: ((ما منكم من أحد)) الخطاب للصحابة، ويتناول جميع المؤمنين، سابقهم ولاحقهم، برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة.
والترجمان: هو الواسطة بين اثنين أو أكثر الذي ينقل الكلام من لغة إلى أخرى، أو يبلغ عن المتكلم كلامه.
والمقصود هنا أنه ليس بين العبد وربه أحد يبلغه عنه، لا من الملائكة ولا من البشر.
بل الله - تعالى - هو الذي يتولى كلام عباده في ذلك الموقف بنفسه، فيحاسبهم على أعمالهم، وقد بين ذلك في لفظ الحديث، لكن الإمام البخاري رحمه الله اختصره، واقتصر على محل الشاهد منه.
ولفظه: ((بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل.
فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد نبئت عنها.
قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة (1) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحداً إلا الله.
- قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء (2) الذين سعروا البلاد؟ - ولئن طالت بك حياة، لتفتحن كنوز كسرى قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز.
ولئن طالت بك الحياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من الذهب أو الفضة، يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحداً يقبله منه.
وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقول: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى.
فيقول ألم أعطك مالاً، وأفضل عليك؟ فيقول: بلى.
(1) الظعينة: الهودج فيه المرأة، وهو شبه الغرفة الصغيرة يوضع فوق البعير، فتركب في وسطه المرأة ليسترها، والظعن هو: الخروج من المكان والسير.
(2)
الدعار - بضم الدال - مأخوذ من الدعارة، هي: الخبث، والتلصص، وقطع الطريق.
فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم.
قال عدي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة.
قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ملء كفه)) (1) .
وفي رواية: ((كنت عند رسول صلى الله عليه وسلم فجاء رجلان، أحدهما يشكو العيلة، والآخر يشكو قطع السبيل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما قطع السبيل فإنه لا يأتي عليك إلا قليل حتى تخرج العير إلى مكة بغير خفير (2) .
وأما العيلة، فإن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه.
ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً؟ فليقولن: بلى، ثم ليقولن: ألم أرسل إليك رسولا؟ فليقولن: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) (3) .
ففي هاتين الروايتين بيان جلي بأن الله - تعالى - يتولى كلام عباده ومحاسبتهم بنفسه بدون واسطة بينه وبينهم، وفي ضمن ذلك رؤيته - تعالى - وسماع كلامه.
قوله: ((ولا حجاب يحجبه)) أي: ليس بين العبد وبين ربه ما يمنع رؤيته ومشاهدته. وهذا ظاهر الدلالة على رؤية المؤمن ربه يوم يحاسبه، وعلى سماعه كلامه.
(1) انظر البخاري (6/110) ، وانظر ((فتح الباري)) (6/610)
(2)
(الخفير: هو من يحمي سالك الطريق ويجيره ممن يريده بسوء.
(3)
انظر ((فتح الباري)) (3/281) .
وفيه دليل على أن لله تعالى حجاباً يحتجب به عن خلقه، والأدلة على ذلك كثيرة، وأهل البدع ينكرون حجاب الله تعالى، فهو عندهم كما يقول الفخر الرازي:((هو عبارة عن الجسم المتوسط بين جسمين آخرين. وهذا محال على الله)) (1) .
ونقل الحافظ عن ابن بطال، أن الحجاب هو: الآفة المانعة من النظر التي تكون على أبصار المؤمنين، ومعنى رفع الحجاب: إزالة الآفة من أبصار المؤمنين المانعة لهم من الرؤية، فيرونه لارتفاعها عنهم، بخلق ضدها فيهم)) (2) .
ومقتضى هذا الكلام أن الذي يمنع المؤمنين في الدنيا من رؤية الله تعالى هو الآفة التي على أبصارهم، ولو زالت تلك الآفة لرأوه.
فالحجاب عند هؤلاء: هو عدم الإدراك في أبصار الخلق، وما وصف به الله - تعالى - من الحجاب راجع إلى الخلق. وشبهتهم: أن ما ستر بالحجاب، فالحجاب أكبر منه، ويكون متناهياً، ومحاذياً للحجاب، وهذا لا يكون إلا للأجسام.
نقل ابن حجر، عن العلائي قوله:((المراد بالحاجب، والحجاب: نفي المانع من الرؤية)) ثم قال: ((وقد ورد ذكر الحجاب في عدة أحاديث صحيحة.
والله - سبحانه - منزه عما يحجبه، إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس، ولكن المراد بحجابه: منعه أبصار خلقه، وبصائرهم، بما شاء متى شاء كيف شاء، وإذا شاء كشف ذلك عنهم)) (3) .
وهكذا شراح الحديث وغيرهم - الأشاعرة - ساروا على هذا المنوال.
(1)((تأسيس التقديس)) (ص99) .
(2)
((الفتح)) (13/430) .
(3)
المرجع المذكور (ص431) .
ويلزم من ذلك أن الله - تعالى - وصف نفسه وكذلك رسوله وصفه بما يجب أن ينزه عنه، فهؤلاء المبتدعة أعلم من الله، ومن رسوله بالله، وأحرص على تنزيه الله من الله ورسوله، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِبًا} (1) .
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْيًا} (2) .
وقال تعالى: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (3) ، وعدم الإدراك الذي زعموا ليس شيئاً موجوداً فيكون حائلاً دون رؤيتهم ربهم، بل هو عدم، والعدم لا وجود له.
فتجليه للجبل يدل على أنه محتجب بحجاب كشف للجبل منه ما جعله دكاً.
وفي صحيح مسلم، عن أبي موسى الأشعري، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) (5) .
(1) الآية 5 من سورة الكهف.
(2)
الآية 52 من سورة الشورى.
(3)
الآية 15 من سورة المطففين.
(4)
الآية 143 من سورة الأعراف.
(5)
انظر ((صحيح مسلم)) (1/162) الحديث رقم (179) .
ومعلوم أن بصر الله تعالى لا ينتهي دون شيء، ولا يحول دونه شيء، فهو بكل شيء بصير، فلولا الحجاب الذي احتجب به لما بقي شيء من المخلوقات إلا ذاب واحترق، فكيف جاز لهؤلاء الذين جعلوا أقيستهم وعقولهم هي الحكم على ما يوصف الله - تعالى - به، وما يمتنع عليه.
وسيأتي حديث أبي موسى، وفيه:((وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) .
وفي ((صحيح مسلم)) ، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال يقول الله تبارك وتعالى: ((تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتُنَجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل)(1)
والنصوص في إثبات الحجب لله - تعالى - كثيرة، يؤمن بها أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلمون بما ورثوه من نور النبوة بأن الله - تعالى - احتجب بالنور، وبالنار، وبما شاء من الحجب، وأنه لو كشف عن وجهه الكريم الحجاب لما قام لنوره شيء من الخلق، بل يحترق، ولكنه تعالى في الدار الآخرة يكمل خلق المؤمنين ويقويهم على النظر إليه - تعالى - فينعمون بذلك، بل هو أعلى نعيمهم يوم القيامة.
وقد تولى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إبطال شبه هؤلاء المنكرين لحجب الله - تعالى -، في كتابه ((نقض تأسيس الجهمية، وإبطال بدعهم الكلامية)) بوجوه كثيرة، أكثر من أربعين وجهاً، كل وجه منها كاف في إبطال قولهم.
(1)((صحيح مسلم)) (1/163) الحديث رقم (181) .
قال رحمه الله: ((أحدها: أنهم يقولون: إن الحجاب هو ما يخلقه الله في العين من الرؤية المتعلقة به تعالى.
وهذا باطل بالضرورة؛ لأنهم فسروا الحجاب بعدم الإدراك في أبصارهم، والعدم لا يخلق ولا وجود له، فهو ليس شيئاً.
الثاني: أنه ثبت في الحديث قوله: ((فيكشف الحجاب، فينظرون إليه)) .
وكشف الشيء: إزالته ورفعه، وهذا لا يوصف به المعدوم، فإنه لا يزال، ولا يرفع، وإنما الذي يُزال ويُرفع: الموجود.
الثالث: أنه قال: ((فيكشف الحجاب فينظرون إليه)) فجعل النظر متعقباً لكشف الحجاب. وعند هؤلاء المبتدعة: الحجاب هو عدم خلق الرؤية، وضده خلق الرؤية، فيكون زوال ذلك العدم هو عين الرؤية، لا يكون شيئاً يتعقب [كشف] الحجاب، وتقدم أن العدم ليس شيئاً.
الرابع: أن في الحديث: ((حجابة النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه)) .
ولو كان كما زعموا هو خلق الرؤية لم يكن كشف ذلك يحرق شيئاً. فالمؤمنون يرون ربهم في عرصات القيامة، وفي الجنة، ولا تحرق رؤيتهم شيئاً.
الخامس: [أنه] ثبت في ((الصحيحين)) : ((وما بين القوم وبين أن ينظرون إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن)) .
وعلى قول هؤلاء: ما بينهم وبين أن ينظرون إليه إلا زوال ذلك العدم بخلق الرؤية في أعينهم.
ومعلوم أن عدم خلق الرؤية فيهم ليس هو رداء الكبرياء، ولا هو على وجه الله الكريم، ولا هو في جنة عدن، ولا هو شيء أصلاً حتى يوصف بصفات الموجود.
السادس: أن من تأمل نصوص الكتاب والسُّنَّة، وما ورد في ذلك من الآثار عن الصحابة والتابعين، علم بالضرورة علماً يقيناً لا يستريب فيه أن لله حجاباً، وحجباً منفصلة عن العباد، يكشفها إذا شاء، فيتجلى، وإذا شاء لم يكشفها.
وإذا كان الحجاب كما يقول الرازي وذووه: ((هو الجسم المتوسط بين جسمين)) فلازم الحق حق، لا يمكن أن يدفع حيث علم بالاضطرار من دين المرسلين، فلا يدفع بما أحدثه سلف الرازي، وأئمته، ولا بما يشنعون به على أهل السُّنَّة من اصطلاحات، وألفاظ ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان.
فإن من أعظم بدعهم: قولهم: إن الله ليس بجوهر ولا جسم، وهذا هو الصنم الأكبر الذي صدوا به عباد الله عن معرفته، والإيمان به.
وهو الذي عُطل الله به من أسمائه وصفاته.
بل هو أساس الشرك والردة، والنفاق، وإن كان قد اغتر به طوائف من أهل الإيمان، لم يعلموا ما قصده واضعوه الذين أفسدوا به فطرة العباد التي فطرهم الله عليها، وأفسدوا به معاني كتاب الله، وصدوا به عن سبيل الله.
وهو لهؤلاء المبتدعة كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى للمشركين القدماء.
فإن الله - تعالى - لم ينزل في شيء من كتبه، ولا قال أحد من رسله، ولا أحد من ورثتهم: إن الله ليس بجوهر ولا جسم، وإن كان إثبات ذلك أيضاً بدعة وضلالة، إلا أن نفيه أعظم وأضل.
السابع: أن الله - تعالى - قال: {وَمَا كَاَنَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللهُ إِلَاّ وَحيًا أَو مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} ومعلوم أن هذا التكليم مثل ما حصل لموسى، وهو أرفع درجة من التكليم بالوحي، وإرسال الرسول باتفاق المسلمين، كما دل على ذلك الكتاب والسُّنَّة.
فإذا كان الحجاب كما يقول هؤلاء: هو عدم خلق الرؤية، فذلك مشترك بين الأقسام الثلاثة، فلا يكون لمن كلم من وراء حجاب ميزة.
وبطلان ذلك ظاهر.
وقوله تعالى: {مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} معناه: من خلف حجاب، وعدم خلق الرؤية عدم محض، ليس له خلف، ولا أمام، فعلم أن الحق إثبات الحجاب لله حقيقة؛ لأنه موجود.
والتقدير على قولهم: أن يقال: ((أو من وراء عدم خلق الرؤية)) وهذا يشبه كلام المجانين، ولا يجعل هذا معنى كلام الله إلا زنديق متلاعب بالقرآن.
الثامن: أنه تعالى قال في الكفار: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (1)) ، فجعل حجابهم يوم القيامة، ولو كان الحجاب هو عدم خلق الرؤية لكانوا محجوبين في الدنيا والآخرة، ولكان المؤمنون أيضاً داخلين في ذلك، معذبين بهذا الحجاب الذي عذب به الكفار في الآخرة.
ولكنه حجاب خاص يحجب الله به الكفار حين يتجلى للأبرار.
ثم هذا الذي قالوه في الحجاب حمل للفظ على ما لا تحتمله اللغة بوجه من الوجوه فهو تبديل للغة، كما هو تحريف للقرآن وتبديل لمعانيه)) (2) .
قوله: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه)) .
وفي رواية ((حاجب)) وهذا يدل على وجود الحاجب كما تقدم، ويدل على جواز أن يكون له ترجمان يبلغ عنه.
(1) الآية 15 من سورة المطففين.
(2)
((نقض التأسيس)) بتصرف وتلخيص، وانظر بقية الوجوه فيه (3/145-154) مخطوط.
وقد جاء نص القرآن بأن التكليم يكون من وراء حجاب، وعلى قول المنكرين للحجاب لا يمكن أن يكون بينه وبين عباده حجاب حقيقي، ولا ترجمان، وهذا يلزم منه إما إنكار وجود الله، أو أنه حال مع خلقه، تعالى الله عن ذلك.
ومذهبهم في المسألتين من أعظم الباطل - أعني الرؤية والكلام - لأنهم يقولون: التكليم: هو خلق إدراك الكلام؛ لأن كلام الله معنى قائم بنفسه.
كما أنهم يقولون: الرؤية هي رفع الموانع، وخلق الرؤية في العين، فعلى هذا يكون الذي يراه المؤمنون في الجنة شيئا مخلوقاً، والنصوص تبطل ذلك، وكذلك العقل والفطر إذا سلمت من الانتكاس، والتغيير.
71 -
قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، عن أبي عمران، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) .
قال الحافظ: في رواية الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجوني، في أول هذا الحديث:((جنان الفردوس أربع، ثنتان من ذهب))
…
الخ.
وهذا يبين أن الحديث قد حذف شيء من أوله.
وهو يدل على تفاوت منازل الجنة ودرجاتها، فبعضها أعلى من بعض حساً ومعنى، حيث يكون بناؤها من الذهب، وأوانيها من الذهب، ومعلوم أن الذهب هو أغلى المعادن وأنفسها لدى المخاطبين بالقرآن عند نزوله، ويجوز أن يكون فيها ما هو أعلى من الذهب وأرفع؛ لأن الله - تعالى - أخبر أن فيها ما لا عين رأته، ولا أذن سمعته، ولا خطر على قلب بشر، وتقدم البحث في درجات الجنة.
قوله: ((وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن.
هذا الشاهد من الحديث للباب، إذ فيه التصريح بقرب نظرهم إلى ربهم فإذا أراد تعالى أن ينعمهم ويزيد في كرامتهم رفع رداء الكبرياء عن وجهه فنظروا إليه، وفي الرواية التي ذكرها في ((التفسير)) ، ((رداء الكبر على وجهه)) (1)
لقد تخبط شراح الحديث هنا من الأشاعرة - تخبطهم في كثير من صفات الله - تعالى - فأخرجوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره إلى المجازات البعيدة، وطلبوا له التأويلات المستكرهة، تحريفاً له وتعطيلاً لله من أوصافه، ظانين أن ما وصفه به رسوله في مثل هذا الحديث فيه تجسيم وتشبيه، كما هي طريقتهم.
نقل الحافظ كثيراً من كلامهم على هذا الحديث، فنقل عن القاضي عياض قوله:((من أجرى هذا الكلام على ظاهرة أفضى به إلى التجسيم)) .
وقال الكرماني: ((هذا من المتشابهات، فإما مفوض، وإما متأول بأن المراد من الوجه الذات، والرداء صفة من صفات الذات اللازمة، المنزه عما يشبه المخلوقات)) ، وقال المازري:((عبر عن زوال الموانع، ورفعها عن أبصارهم برداء الكبرياء)(2) .
ونحن نجيبهم عما قالوا بجوابين، أحدهما مجمل، والآخر مفصل.
أما المجمل، فنقول: نحن لا نشك، ولا يشك مسلم عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف قدره، أنه أفصح منكم، وأقدر على بيان الحق وإيضاح ما يريد
(1) انظر البخاري (6/121) تفسير سورة الرحمن.
(2)
انظر بقية كلامهم في ((الفتح)) () 13/433 فإني اختصرته.
منكم ومن أئمتكم، وأنه أنصح للأمة وأشفق عليها وأحرص على هدايتها، وسد طرق الكفر والضلال عنها، منكم ومن غيركم، وأنه أعلم بالله وما يجب له وما يمتنع عليه، وأنه أخشى لله وأتقى له، فمع ذلك يمتنع أن يتكلم بما ظاهره الكفر والضلال، أو بما يؤدي إلى الباطل، بل كلامه فيه الهدى والنور والعصمة من الضلال والانحراف لمن آمن به واتبعه.
بخلاف كلام غيره من الناس فإنه لا بد من عرضه على قول الله وقول رسوله، فإن وافقه قبل، وإلا رد على قائله.
فالحق قطعاً فيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في قول من خالفه ممن يتلقى عقيدته عن أهل الكلام والفلسفة المبنية على آراء الرجال وتخرصاتهم.
وأما الجواب المفصل: فمن وجوه:
أحدها: أن ما قالوه خلاف ظاهر النصوص، كما صرحوا بذلك، وليس في اللفظ المذكور ولا في غيره مما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما قالوه.
ومعلوم أن صرف اللفظ عن ظاهره يحتاج إلى دليل يدل على ذلك، وإلا صار التأويل تحريفاً وتلاعباً.
أما ما يدعون من قرينة دلالة العقل، فمجرد دعوى تفتقر إلى برهان، والحق أن العقل يدل على ما دل عليه نص الشرع.
الوجه الثاني: أنه قال: ((وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) ، ومن المعلوم أن الكبرياء من صفات الله - تعالى - ولا يجوز للعباد أن يتصفوا بها، فقد توعد الله المتكبر بجهنم، كما قال تعالى َ {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينََ} (1) .
(1) الآية 72 من سورة الزمر.
وفي الحديث: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) (1) .
فلا يجوز أن يكون رداء الكبرياء إلا وصفاً لله - تعالى - فبطل قولهم: ((إن المقصود من رداء الكبرياء: زوال الموانع)) .
الوجه الثالث: أنه أضاف رداء الكبرياء إلى وجه الله الكريم حجاباً له.
فقال: ((إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) ، فلا يجوز أن يكون رداء الكبرياء ما في أعين العباد من المانع الذي منعهم من رؤية الله كما يقوله هؤلاء، وقيد ذلك في جنة عدن.
وعلى مقتضى قولهم أنه لو زال المانع عن أعين العباد لرأوه في الدنيا.
الوجه الرابع: أنه ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله - تعالى -: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)) (2) .
ورواه مسلم، ولفظه:((العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته)) (3) .
ورواه ابن ماجه، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم)) (4) .
ووصف الله - تعالى - بأن العظمة إزاره، والكبرياء رداؤه، كسائر صفاته، تثبت على ما يليق به، ويجب أن يؤمن بها على ما أفاده النص دون تحريف ولا تعطيل.
(1) رواه مسلم (1/93) .
(2)
رواه أبو داود في ((السنن)) (4/350) .
(3)
((صحيح مسلم)) (4/2023) رقم (2620) .
(4)
انظر ابن ماجه (2/1397) رقم (4174) .
قوله: ((في جنة عدن)) قيد لكونهم ليس بينهم وبين أن ينظروا إلى وجه ربهم - جل وعلا - إلا رداء الكبرياء.
وهذا دليل على فضل جنة عدن، وعلوها، ومن لازم ذلك علو الله - تعالى -؛ لأنهم ينظرون إليه - تعالى - من فوقهم، وتقدم بحث ذلك بما فيه الكفاية.
وأما قول ابن بطال: ((لا تعلق به للمجسمة في إثبات المكان؛ لما ثبت من استحالة أن يكون جسماً، أو حالاً في مكان.
فيكون تأويل الرداء: الآفة الموجودة في أبصارهم، المانعة لهم من رؤيته، وسماه رداء لتنزله في المنع منزلة الرداء الذي يحجب الوجه عن رؤيته، فأطلق عليها الرداء مجازاً، وقوله:((في جنة عدن)) راجع إلى القوم)) (1) .
فيقال له أولاً: من هم المجسمة؟ ومعلوم أنه يقصد من أثبت أن الله فوق عرشه، وأنه يراه أهل الجنة من فوقهم، ولا شك أن نصوص الكتاب والسُّنَّة في إثبات ذلك أكثر من أن يحاط بها.
وعلى اصطلاح ابن بطال وذويه، كل من أثبت ذلك فهو مجسم. والله - تعالى - قد أثبت ذلك لنفسه، وأثبته رسوله له، ونحن نتبع ذلك، سواء سماه أهل البدع تجسيماً شنعوا على من اعتقده، أو قاله، أو لم يسموه، فإنه هو الحق الذي لا مرية فيه عند أهله.
وأما قوله: ((لما ثبت من استحالة أن يكون - سبحانه - جسماً، أو حالاً في مكان)) فكما سبق أن هذه البدعة هي التي عُطل رب العالمين من أسمائه وصفاته بها، وأنها الصنم الذي عبده المتكلمون، وصدوا به عباد الله عن معرفته وعبادته بأسمائه وصفاته.
(1)((الفتح)) (13/433) .
ثم هذا القول من ابن بطال ومن قال به مجرد دعوى، لا برهان عليها، فمن أين لهم استحالة أن يكون الله في مكانه، وكتب الله وسنة رسوله ظاهرة في ذلك جلية تنادي بأن الله فوق عرشه مستو عليه، عال على خلقه؟
أما يستحيون من الدعاوى الكاذبة، التي يريدون بها التشنيع على أتباع الرسل؟!
وقد علم أن مقصودهم بالجسم: ما شغل مكاناً، أو ما يصلح أن يقال إنه هنا أو هناك، أو ما صحت الإشارة إليه، أو ما كان له مقدار.
وتقدم من الأدلة على استواء الله - تعالى - على عرشه، وعلوه على خلقه، وأنه يشار إليه، ويقال: إنه في السماء، ما فيه مقنع لمن يريد الحق.
وأما قوله: ((في جنة عدن راجع إلى القوم)) فمراده: أن القوم في جنة عدن، وأنه لا يجوز أن يقال: إن الله يرى في جنة عدن، وإنما معناه الإخبار بأن القوم في جنة عدن.
فيقال: أولاً: هذا رد صريح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك ضلالاً، وبعداً عن سبيل المؤمنين.
ويقال: ثانيا: إن هذا من جنس تأويلات أهل البدع الباردة، التي لا تصدر عن عربي يعرف معنى ما يقول، فضلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أفصح العرب، وكونهم في جنة عدن قد علم من أول الحديث؛ لأنه قال:((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما))
…
الخ، ثم أخبر أن رؤيتهم لربهم قريبة، ليس دونها إلا رفع الحجاب، فهم يرونه في جنة عدن من فوقهم، يوضحه الحديث المتقدم:((إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن)) ، ومن أجل ذلك أورده البخاري رحمه الله في هذا الباب مستدلاً به على رؤية الله - تعالى - كما هو واضح وصريح في ذلك.
****
72 -
قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الملك بن أعين، وجامع ابن أبي راشد، عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة؛ لقي الله وهو غضبان)) .
قال عبد الله: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ الله} ُ (1) الآية.
قوله: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة)) ((مَن)) مِن أدوات العموم، والأغلب أن تكون لخطاب من يعقل.
و ((مال)) نكرة، أضيفت إلى نكرة موصوفة بالإسلام، فشملت كل مسلم، وكل ما يسمى مالاً، قليلاً كان أو كثير.
روى الطبراني من حديث جابر بن عتيك، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار)) ، قالوا: يا رسول الله، وإنْ شيء يسير؟ قال:((وإن كان سواكاً)) (2) .
ورواه الحاكم، ولفظه:((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأدخله النار)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال:((وإن كان سواكاً، وإن كان سواكاً)) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة (3) . وقال الذهبي: صحيح.
(1) الآية 77 من سورة آل عمران.
(2)
((معجم الطبراني الكبير)) (2/210) .
(3)
((المستدرك)) (4/295) .
((اقتطع)) من القطع؛ لأنه قطعه عن صاحبه، أو أخذ قطعة من ماله بالحلف الكاذب.
قوله: ((لقي الله وهو عليه غضبان)) هذا محل الشاهد من الحديث الذي أورده من أجله، وتقدم أن اللقاء يتضمن النظر والمعاينة، وأن السلف استدلوا بلفظ اللقاء على الرؤية.
قال الحافظ: ((في حديث وائل بن حجر عند مسلم: ((لقي الله وهو عنه معرض)) .
وفي رواية كردوس، عن الأشعت، عند أبي داود:((لقي الله، وهو أجذم)) قال: وفي حديث أبي أمامة عند مسلم، والنسائي، نحو ما في هذا الحديث:((فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)) ، وفي حديث عمران، عند أبي داود ((فليتبوأ مقعده من النار)) (1) .
وهذا وعيد شديد جداً لمن يفعل ذلك، فعلى المسلم أن يحذر كل الحذر من أموال المسلمين بأي وسيلة كانت، فإن ذلك من أسباب سخط الله - تعالى -.
قوله: ((مصداقه من كتاب الله جل ذكره)) إلى آخره، أي: الذي يصدق هذا الحديث ويوافقه.
قال ابن كثير: ((يقول تعالى: إن الذين يعتاضون عما عاهدهم عليه من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته للناس وبيان أمره، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة، بالأثمان القليلة الزهيدة - وهي عرض الدنيا الزائلة - {أُولَئِكَ لَا خَلَقَ لَهُم فِي الأَخِرَةِ} أي: لا نصيب لهم فيها، ولا حظ لهم منها، {وَلَا يُكَلِمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنُظُر إِلَيهِم يَومَ القِيامَةِ} برحمة منه لهم،
(1)((الفتح)) (11/559) .
بمعنى: لا يكلمهم كلام لطف بهم، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة {وَلَا يُزَكِيهِم ِ} أي: من الذنوب، والأدناس، بل يأمر بهم إلى النارِ، {وَلَهُم عَذَابُ أَلِيمُ ِ} (1) مؤلم شديد الألم.
قال الحافظ: ((يؤخذ من الآية تفسير قوله: ((لقي الله وهو عليه غضبان)) ، ومقتضاه: أن الغضب سبب لمنع الكلام، والرؤية، والرضا سبب لوجودهما)) (2) .
وفيه وصف الله - تعالى - بالغضب، وأنه يغضب على بعض عباده بسبب ذنوبهم، وفيه أن الغضب غير العقاب، وإذا كان يغضب فهو تعالى يرضى، والأدلة على ذلك كثيرة.
73 -
قال: ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى، وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله - تعالى - يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)) .
قوله: ((ثلاثة لا يكلمهم الله)) أي: ثلاثة من أجناس الناس، يعم الذكور والإناث، والأحرار والعبيد.
وعدم تكليم الله لهم يوم القيامة دليل على غضبه عليهم، ومقتضاه: أنهم
(1)((تفسير ابن كثير)) (2/51) ط الشعب.
(2)
((الفتح)) (13/433) .
يذهب بهم إلى النار بدون سؤال ومحاسبة؛ لأنهم قد تناهى جرمهم في القبح، فاستحقوا أليم العذاب، مع الإعراض عنهم وإهانتهم من أول الأمر، فيكون هذا الحديث مخصصاً لحديث عدي السابق، وهو قوله:((ما منكم من أحد إلَاّ سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)) .
وقوله: ((ولا ينظر إليهم)) نظر الله - تعالى - إلى العبد يقتضي الرحمة، وهؤلاء فعلوا أفعالاً مقتهم الله عليها، فأعرض عنهم، ومن أعرض الله عنه فهو هالك، الهلاك الأكبر.
والمقصود بالنظر المنفي هنا، نظر خاص يتضمن الإحسان والرحمة، ويفهم منه نظر العبد إلى الله - تعالى - لا يحجب بصره شيء أبداً، في أي وقت كان.
وهذا القدر من الحديث: أعني قوله: ((لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة)) هو محل الشاهد لما مر، ولأن الكلام والنظر المقيد بيوم القيامة يدل على اللقاء، واللقاء يتضمن المعاينة.
ثم ذكر أفعالهم التي استحقوا عليها هذا الوعيد الشديد، وهي ثلاثة أنواع:
أحدها: الحلف على السلعة التي يريد بيعها، أنه أعطى بها أكثر مما يريد المشتري أن يأخذها به، وهو كاذب في حلفه، وذلك لأنه اشترى بيمينه ثمناً قليلاً بخساً، مما يدل على رغبته في الدنيا وزهده في الآخرة، واليمين دين يتعبد الله به، فمن خاف الله في يمينه، فلم يكذب فهو من المتقين في ذلك.
ومن بذل يمينه بعرض من الدنيا، فهو فاجر يستحق العقوبة، مستخف بحرمات الله.
والسلعة هي: كل بضاعة عرضت للبيع.
والنوع الثاني - وهو أخص من الذي قبله - وهو الحلف على يمين كاذبة
بعد العصر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، وهذا يكون عند من يحكم بين الحالف والمحلوف له، وهو الحاكم؛ لأن المحلوف له يلزم بأن هذا المال للحالف بمقتضى يمينه، وهذا هو معنى الاقتطاع.
وخص المسلم لأن ماله أشد حرمة، وحقه على أخيه المسلم أعظم، وإلا فمال الكافر غير المحارب لا يجوز أخذه إلا بحق.
وخص وقت بعد العصر لفضله، ولأنه آخر النهار الذي أثنى الله على المسبحين فيه لقرب نهاية النهار وختم عمله، وقرب الليل الذي فيه النوم المذكر بالمصير إلى الله - تعالى -، وهو وقت أصوات الداعين لله والمسبحين.
وهذه اليمين هي الغموس سميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم فلا يخرج منه إلا أن يشاء الله - تعالى - فإنه يخرج الحي من الميت.
النوع الثالث: منع فضل الماء الذي زاد عن حاجته، ويحتاج إليه سالك الطريق؛ وذلك لأن الماء يتجدد بدله كلما أخذ منه، ولا يضر بذله، فمانعه لا يكون إلا لئيماً خبيث النفس، يقصد الأذية، وليس لديه رحمة للخلق، ولا رغبة في الخير.
وفهم من قوله: ((فضل ماء)) أن ما يحتاجه لشربه هو ومن يلزمه إعاشته لا يلزمه بذله.
ولكون الماء يتجدد بما أخذ منه، ولا صنع للإنسان فيه، كالطعام مثلاً واللباس الذي يحتاج معالجة وعملاً، لأجل ذلك يقول الله - تعالى - يوم القيامة:((اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)) .
ومن منع فضل الله فهو الخاسر الخسران الأبدي.
وقوله: ((يقول الله)) إلى آخره، لا يعارض أول الحديث أن هؤلاء
لا يكلمهم الله، لأنه لا يلزم أن يكون هذا القول مواجهاً به صاحب هذا العمل فقد يكون للملائكة الذين يتولون عذابه، أو غير ذلك، والله أعلم.
74 -
قال: ((حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه يسميه بغير اسمه، قال:((أليس ذا الحجة؟)) قلنا: بلى.
قال: ((أي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:((أليس البلدة؟)) قلنا: بلى، قال:((فأي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى.
قال: ((فإن دماءكم وأموالكم - قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم - عليكم حرام، كحرمةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم.
ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى من بعض من سمعه)) .
فكان محمد إذا ذكره، قال: صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:((ألا هل بلغت، ألا هل بلغت)) .
هذا الحديث قاله صلى الله عليه وسلم في خطبته العظيمة يوم النحر، في حجة الوداع، وفي هذا الحديث بيان وجوب الاجتماع على الحق، والاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعظم حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ووجوب سلوك طريقه صلى الله عليه وسلم، وبيان أن الله - تعالى - أتم عليهم نعمته بنبيه، وأخذهم بما جاء به.
وحذرهم من ترك هذا الهدى والرجوع إلى الضلال وكفر النعمة والفرقة الداعية إلى التصارم والقتال، فإن ذلك من الكفر.
وبين أن الزمان قد عاد كما خلقه الله، بعد تبديل المشركين الشهور المحرمة بالتقديم والتأخير حسب أهوائهم، حتى يستحلوا القتال في الأشهر الحرم.
وفيه بيان تأكد حرمة الأشهر الحرم التي حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، وحرمة مكة، وأن هذا التحريم مستمر إلى يوم القيامة لا يستحله إلا من جانب طريق الرسل، وأحل شعائر الله والشهر الحرم والبلد الحرام، وذلك من العظائم.
قوله: ((الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)) كان المشركون لا يستحلون القتال في الأشهر الحرم، ولما كان منها ثلاثة متواليات، طالت عليهم، فتحيلوا على تأخير المحرم وتقديم صفر مكانه، فيحلون المحرم عاماً ويحرمون صفر بدله ويحرمونه عاماً، فيجعلون المحرم هو صفر في هذا العام مثلاً، وفي العام الآخر يبقون المحرم وصفر على ما هما عليه، يفعلون ذلك تحيلاً على استحلال القتال، كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ِ} (1) .
فيستحلون القتال في الشهر الحرام، ويسمونه بغير اسمه، ويحرمون في
(1) الآية 37 من سورة التوبة.
الشهر الحلال ويسمونه محرماً؛ ليتفق ذلك مع عدة ما حرم الله - تعالى- من الأشهر؛ لأن توالى ثلاثة شهور محرمة يطول عليهم، ففعلوا ذلك لأجل قتال أعدائهم، ولغير ذلك من أغراضهم.
وفي السَّنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم اتفق أن الأشهر الثلاثة كلها محرمة، لأنها السَّنة التي كانوا يحرمون القتال في محرم على ما هو عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:((الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)) أي: رجع تحريم الأشهر الحرم في حساب المشركين وعملهم متفقاً مع حكم الله وشرعه، فقد جعل الله السَّنة اثني عشر شهراً، منها أربعة حرم، يحرم القتال فيها، والظلم فيها أعظم منه في غيرها.
قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، ((كان جنادة بن عوف بن أمية الكناني، يوافي الموسم في كل عام، وكان يُكْنَى أبا ثمامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب، ألا إن محرم العام الأول هذا العام حلال، فيحله الناس، فيحرم صفر عاماً ويحرم المحرم عاماً)) .
قال شاعرهم - وهو عمير بن قيس الذي يقال له: جذل الطعان - يفتخر بذلك:
لقد علمت معدُّ بأن قومي
…
كرام الناس إن لهم كراما
ألسنا الناسئين على معد
…
شهور الحل نجعلها حراما
فأى الناس لم ندرك بوتر
…
وأي الناس لم نعلك لجاما
وقوله: ((ورجب مضر)) إضافة إليهم؛ لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه وحرمة القتال فيه، أكثر من غيرهم، وكان بعض العرب يعمل فيه ما يعملونه في محرم حسب حاجتهم إلى القتال.
وقوله: ((الذي بين جمادى وشعبان)) تأكيد لتعريفه، ونَص عليه.
والمراد بالزمان في قوله: ((إن الزمان قد استدار)) : السَّنة:
قال الخطابي: ((كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقديم والتأخير؛ لأسباب تعرض لهم.
منها: استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام، ثم يحرمون بدله شهراً غيره، فتتحول بذلك السنة وتتبدل، فإذا أتى عدة من السنين استدار الزمان، وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك)) (1) .
فعلى هذا يكون المراد بالزمان: مطلقة.
قوله: ((أي شهر هذا؟)) إلى قوله: ((أليس يوم النحر؟)) لما كان متقرراً عندهم حرمة ذي الحجة وحرمة البلد الحرام، وحرمة يوم النحر، أراد صلى الله عليه وسلم أن يؤكد تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بالتمثيل البالغ في الحرمة منتهاها.
وفيه تعظيم شأن الدماء والأموال والأعراض وشدة حرمتها، حيث قال:((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) فهذا غاية ما يمثل به شدة حرمة الشيء وتعظيمه.
وقد صح أن أول ما يبدأ به في المُقَاصَّة بين الناس يوم القيامة: الدماءُ.
قوله: ((وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم)) هذا هو المقصود من الحديث؛ لأنه ظاهر في مواجهتهم لله - تعالى - ومخاطبته لهم، فيدل على أنهم يرونه، كما تقدم أن اللقاء يتضمن المعاينة والرؤية.
وهذه الجملة تأكيد لما سبق من ذكر حرمة الدماء، وما عطف عليها، إذ المعنى: إذا تأكد لديكم شدة حرمة ذلك، فاحذروا أن تقعوا فيه، فإنكم
(1) انظر ((فتح الباري)) (8/325) .
سوف تلاقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وهو أعلم بها منكم.
والسؤال يتضمن الجزاء.
وقوله: ((فلا ترجعون بعدي ضلالاً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) أي: إياكم أن تعرضوا عما تركتكم عليه، وحضضتكم عليه، وهو التمسك بكتاب ربكم وسنة نبيكم، فإنه الصراط المستقيم، الذي يوصلكم إلى الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، فإنكم إن ملتم عن ذلكم ضللتم الطريق السوي، وارتكبتم أعظم ما حذرتكم منه، وهو الوقوع في الدماء، فيصبح بعضكم يضرب رقاب بعض، وهذا هو الضلال.
قوله: ((ألا ليبلغ الشاهد الغائب)) هذا من الواجب الذي لا يجوز الإخلال به أو التساهل؛ لأن الأمة لا تصلح إلا بمعرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم العمل به، كما قال الإمام مالك:((إنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها)) .
ولما جهلت الأمة طريق الرسول كثر الضلال فيها، والتخبط في ظلمات الجهل والخرافة، فظهرت فيها الرافضة، والصوفية، والباطنية، والملاحدة والزنادقة، وكل منهم يدعي أن الحق معه لا يعدوه، ومن خالفه فهو ضال أو كافر حلال الدم والمال، وغالب ذلك بسبب الجهل بما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإن كان رؤساء هذه الطرق بالغالب ملاحدة يتسترون بالإسلام، هدفهم هدمه من أساسه، {وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللهُ واللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ} .
قوله: ((فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى من بعض من سمعه)) .
الوعي: هو الفهم والمعرفة ثم الامتثال، والمراد تبليغ أقواله – صلى الله عليه وسلم – المتضمنة لأحكام الدين الذي جاء به.
وقوله: ((فلعل)) مشعر بقلة ذلك، ولهذا جاء في رواية بدل ((فلعل)) ((رُبَّ)) المفيدة للتقليل.
قال الحافظ: ((فيه الحث على تبليغ العلم، وجواز التحمل قبل كمال الأهلية، وأن الفهم ليس شرطاً في الأداء، وأنه يأتي في الآخر من يكون أفهم من بعض من تقدم ولكن بقلة)) (1)
هذه النصوص التي ذكرها المؤلف – رحمة الله – كلها دلت على أن الله – تعالى – يُرى في الآخرة، دلالة متنوعة.
منها ما هو نص جلي لا يحتمل أي تأويل، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:((إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر)) .
وقوله: ((إنكم سترون ربكم عياناً)) .
وقوله جواباً لسؤالهم: ((هل نرى ربنا يوم القيامة؟)) فقال: ((هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قالوا: لا، قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ، إلا كما تضارون في رؤيتهما)) .
وقوله: ((فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون. فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه)) .
وقوله في حديث الشفاعة: ((فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي، فإذا رأيته وقعت ساجداً)) كرر ذلك مراراً، كل هذه الألفاظ صريحة في الرؤية، غير قابلة لتأويل وصرف عن ظاهرها.
فلا عذر لمن خالفها، ولا حجة له، إلا اتباع الهوى، والتقليد الأعمى أو التعصب، أو الضلال البعيد، أو الكفر والجحود.
فقد وضح مراد النبي – صلى الله عليه وسلم – من هذه الأحاديث لكل عاقل، عارف باللغة،
(1)((الفتح)) (1/159) .
لا يستريب في ذلك من عرف دلالة الألفاظ على المعاني؛ أن مراده بهذه الألفاظ المذكورة رؤيتهم إياه بأبصارهم، وليس في الممكن أوضح من هذه العبارات.
وهناك نصوص كثيرة غير ما ذكره هنا دالة على رؤية الله – تعالى – في الآخرة دلالة ظاهرة، استقصاها كثير ممن ألف في هذا الموضوع.
قال ابن القيم: ((اتفق [على أن الله يُرَى في الآخرة] الأنبياء، والمرسلون وجميع الصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام، على تتابع القرون.
وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، ومن حبل الله منقطعون، وعلى مَسبَّةِ أصحاب رسول الله عاكفون، وللسنة وأهلها محاربون، ولكل عدو لله ورسوله ودينه مسالمون.
وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، أولئك أحزاب الضلال، وشيعة اللعين، وأعداء الرسول وحزبه)) (1) .
وقال شيخ الإسلام: ((والذي يجب على كل مسلم اعتقاده: هو أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة، في عرصة القيامة (2) ، وبعد ما يدخلون الجنة، على ما تواترت به الأحاديث، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – عند العلماء بالحديث، فإنه أخبر أنا نرى ربنا كما نرى القمر ليلة البدر، والشمس عند الظهيرة، لا نُضَام في رؤيته)) (3)
(1)((حادي الآرواح)) (ص212) .
(2)
عرصة القيامة، أو عرصاتها: هي مواقفها التي يقف الناس فيها مجتمعين.
(3)
((مجموع الفتاوي)) (6/485) .
واعلم أن الذين أنكروا رؤية الله - تعالى - اعتمدوا على شبه سموها براهين عقلية، وتعلقوا ببعض الأيات والأخبار، وهي في الحقيقة مبطلة لقولهم.
ومن أعظم الفرق إنكاراً لرؤية الله - تعالى - بالأبصار: المعتزلة، وبنوا إنكارهم لها على التشبيه المستكن في نفوسهم؛ لأنهم بنوا علمهم على الجدل، الذي أصله القياس المبني على تشبيه الغائب بالمشاهد، فإذا نظرت فيما ذكروه وجدت ذلك واضحاً في استدلالاتهم وتعليلاتهم إلى جانب التعصب للآراء.
قال عبد الجبار: ((قال أهل العدل بأسرهم، والزيدية، والخوارج وأكثر المرجئة: لا يجوز أن يُرَى الله - تعالى - بالبصر، ولا يدرك به على وجه، لا لحجاب ومانع، لكن لأن ذلك يستحيل)) (1)
1 -
ثم استدل ((بأن الرؤية لا تصح إلا بحاسة البصر، والله لا يجوز أن يوصف بأن له حواس)) (2) فالله عنده لا يَرى ولا يُرى - تعالى الله عن ذلك -.
2 -
((ولأن البصر لا يصح أن يَرَى إلا ما كان مقابلاً، أو في حكم المقابل، وهذا لا يكون إلا للجسم ذي الألوان، وهو محال على الله)) (3) .
3 -
((ما يصح أن يُرى، لا يجوز أن يختص بصحة رؤيته بعض الرائين دون بعض، كما أن ما يصح أن يُعلم لا يجوز أن يختص بالعلم به بعض الأحياء دون بعض)) (4) .
(1)((المغني)) للقاضي عبد الجبار المعتزلي (4/139) .
(2)
المصدر السابق (ص36) .
(3)
المصدر السابق (ص140) .
(4)
المصدر السابق (ص89) .
4 – ((ولأن الموانع من الرؤية لا تختص بشيء تصح رؤيته دون شيء، وهي القرب المفرط، والبعد المفرط، والحجاب، واللطافة، والرقة، وأن يكون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي، أو يكون حالاً فيما هذا سبيله، فإذا زالت هذه الموانع، وجب أن يُرى ما صحت رؤيته)) (1) والحجاب عندهم مستحيل على الله، كما تقدم.
فهذه جملة من أدلة هذه الفرقة، التي يسمونها براهين، إذا تأملها العاقل وجدها مبنية على قياس رب العالمين على المخلوق، وتحكيم الآراء، ولهذا ذهبت هيبة الله وعظمته من قلوبهم، واستخفوا بكتابه، فاجتهدوا في تحريف معانيه وصرفه عما قصد به.
والمقصود ذكر بعض أدلتهم العقلية – كما يقولون – وهي في الحقيقة شبه داحضة، وضلالات بينَّة لمن عرف الحق.
وهم لا يقبلون أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم، وإن كانت أسانيدها في غاية الصحة والجودة، ويقبلون قول فلان وفلان؛ لأنهم يزعمون أن ذلك براهين عقلية.
فقوله: ((إن لله لا يرى بالبصر، لا لحجاب يحجبه، أو مانع يمنع رؤيته، لكن لأن رؤيته مستحيلة)) فيقال له: هذا مجرد دعوى غير مقبولة، وهو في مقابلة قول الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ.}
وقوله في المعذبين: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} .
وقوله تعالى: {للَّذينَ أَحسَنُواْ الحُسنَى وَزِيَادَةُ} وفسر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، ((كما في صحيح مسلم)) ، وهو أيضا مصادم لقول
(1) المصدر السابق (116) .
رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته)) كما سبق.
فأيهما أحق بالاتباع: قول طائفة الاعتزال، عبّاد الآراء والأهواء، أم قول الله ورسوله؟ إن المقارنة بين هذا وهذا غير سائغة ولا مقبولة، لولا أن المسلمين قد بُلُوا بمن يعظّم آراء المعتزلة ويرى لها وزناً.
وكل ما أشرنا إليه عن المعتزلة هو في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة، فلا يسوغ لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر الاعتداد بها، أو جعلها أدلة على أمر قد بان ووضح غاية الوضوح من كتاب الله وسنة رسوله.
((وقد ثبت اتفاق سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وثبت في النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته)) .
وقال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر صحواً ليس دونه سحاب)) (1) .
وقولهم: ((إن ما يُرى يجب أن يكون مقابلاً للرائي، وأن يكون متحيزاً في جهة، ولا يكون ذلك إلا لجسم، والله يتعالى عن ذلك؛ لأن هذا صفة المحدث.
وهذا شيء لازم للرؤية، ولهذا سخر المعتزلة وغيرهم من الأشعرية لما قالوا: إن الله يُرى لا من جهة؛ لأن هذه رؤية غير معقولة؛ لإثباتهم الرؤية ونفيهم الجهة.
وأهل السُّنَّة يقولون: لا مانع من كون المرئي – الذي هو رب العالمين –
(1)((نقض التأسيس)) (2/406) .
جل وعلا – في مقابلة الرائين من عباده المؤمنين، فهم يرونه من فوقهم، كما صرحت به النصوص، ولا محذور فيه.
وأما اللوازم الباطلة، التي يدعيها المعتزلة وغيرهم، فهي منتفية عن الله – تعالى -.
ونحن نستفسر منهم: ما هو مرادكم بكونه مقابلاً للرائي؟ هل تريدون أنه لا بد له من مكان يحويه ويحيط به؟ فإن كان هذا ما أردتم، فالله – تعالى – له مكان هو فوق عرشه، ولا يحيط به شيء، ولا يحويه شيء – جل وعلا – وهو أكبر من كل شيء وأعظم، فهو – تعالى – يطوي السماوات كلها بيمينه، ويقبض الأرض كلها بيده الأخرى، وتكون كالخردلة في يد أحدنا، ولله المثل الأعلى.
وأما التحيز، فإن أردتم أن الله مختلط بخلقه لئلا يلزم أن يكون متحيزاً، فنحن نكفر بقولكم هذا، ونتيقن أنه باطل، والنصوص من الشرع ترده، وكذلك العقل يرده.
وإن أردتم أن الله لا حقيقة له تميزه عن خلقه، فكذلك هذا كفر وضلال.
وإن أردتم أن الله – تعالى – متميز من خلقه، وأنه بائن منه، فهذا حق، والنصوص فيه أكثر من أن تحصى، وهو ما يعتقده المسلمون ويؤمنون به، واتفق عليه سلف هذه الأمة وأئمتها قبل ظهور المعتزلة والفرق الضالة، ومثل ذلك يقال في الجهة.
(1) الآية 67 من سورة الزمر.
وتقدم من أدلة الكتاب والسُّنَّة، والعقل، وإجماع أهل الحق، وأدلة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، على أن الله في السماء مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه ما يكفي عن ذكر شيء من ذلك هنا.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -: ((كون الرؤية مستلزمة لأن يكون الله في جهة من الرائي أمر ثبت بالنصوص المتواترة، كما في قوله: ((هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب ولا قتر؟)) .
قالوا: لا يا رسول الله، قال:((فإنكم ترونه كذلك)) . وذكر الحديث بطوله.
قال أبو سعيد: أشهد لحفظته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
فهذا فيه مع إخباره أنهم يرونه، إخبارهم أنهم يرونه في جهة منهم، من وجوه:
أحدها: أن الرؤية في لغتهم لا تعرف إلا لرؤية ما يكون في جهة منهم، فأما رؤية ما ليس في جهة فلم يكونوا يتصورونه، فضلا عن أن يكون اللفظ دالاً عليه، بل لا يتصور أحد من الناس وجود موجود في غير جهة.
الثاني: أنه قال: ((فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس صحواً، وكما ترون القمر صحواً)) فشبه لهم رؤيته برؤية الشمس والقمر، وهما يريان من جهة.
الثالث: أنه قال: ((هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟)) .
فشبه رؤيته برؤية أظهر المرئيات، إذا لم يكن ثم حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه وبين المرئي.
وفي لفظ في ((الصحيح)) : ((إنكم ترون ربكم عياناً)) (1) .
(1)((نقض التأسيس)) (2/409-415) ملخصاً.
((فقد أخبرنا أنا نراه، وأخبرنا أيضاً أنه قد استوى على العرش، فهذه النصوص يصدق بعضها بعضاً، والعقل أيضاً يوافقها، ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته، وأنه فوق سماواته، وأن وجود موجود لا مباين للعالم، ولا مداخل له، محال في بديهة العقل.
فإذا كانت رؤيته تعالى مستلزمة هذه المعاني التي شنعتم بها، فهي حق، وإذا سميتم أنتم هذا قولاً بالجهة والتجسيم، لم تكن هذه التسمية نافية لما علم بالشرع والعقل.
ثم يقال: ما تعنون بقولكم: إن هذا إثبات للجهة، والجهة ممتنعة على الله؟ أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟
فإن أردتم الأول، فقد علم أنه ليس هناك موجود إلا الخالق والمخلوق، والله – تعالى – فوق مخلقاته، بائن منها.
وعليه فليس الله – تعالى – في جهة موجودة.
وقولكم: إن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة، باطل، فإن سطح العالم مرئي، وليس هو في عالم آخر.
وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي – كما تقولون -: ((إن الجسم في حيز، والحيز تقدير مكان، وتجعلون ما وراء العالم حيزاً)) .
فيقال: الجهة والحيز إذا كانا أمراً عدمياً فهو ليس شيئاً، وما كان في جهة عدمية أو في حيز عدمي فليس هو في شيء.
ولا فرق بين قول القائل: هذا ليس في شيء، وبين قوله: هو في العدم، أو أمر عدمي.
فإذا كان الخالق – تعالى – مبايناً للمخلوقات عالياً عليها، وما ثم موجود إلا الخالق، أو المخلوق، لم يكن معه غيره من الموجودات، فضلاً عن أن
يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره ويحيط به)) (1) .
((وقوله صلى الله عليه وسلم: ((هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟)) تشبيه لرؤيتهم لربهم برؤية أظهر المرئيات، إذا لم يكن بينهم وبينها حجاب منفصل عنهم يحول بينهم وبين المرئي.
ومن يقول: إنه يُرى في غير جهة، يمتنع عنده أن يكون بينه بين العباد حجاب منفصل، إذ الحجاب لا يكون إلا للجسم ولما يكون في جهة.
والحجاب عندهم عدم خلق الإدراك في العين، كما تقدم.
الرابع: أنه أخبر أنهم لا يضارون في رؤيته، وفي رواية ((لا يضارون)) ، ونفي الضير، والضيم، إنما يكون لما يمكن لحوقه للرائي، ومعلوم أن رؤية ما ليس بجهة من الرائي، لا فوقه ولا في شيء من جهاته، لا يتصور فيها ضير ولا ضيم حتى ينفي ذلك.
وقد روى ابن ماجه، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله – تعالى - {سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} .
قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته في ديارهم)) (2) وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند، فإن الأدلة الصحيحة تؤيده.
الخامس: أن كون الله – تعالى – يُرى بجهة من الرائي، ثبت بإجماع السلف، ونصوصهم في ذلك مشهورة.
(1)((درء تعارض العقل والنقل)) (1/153-254) ببعض التصرف.
(2)
((سنن ابن ماجه)) (1/65 - 66) ، رقم (184) .
((فسلف الأمة وأئمتها متفقون على أن الله يُرى في الآخرة عياناً كما نرى الشمس والقمر، وأنه لا يلزم من تعذر رؤية الشيء في حال تعذُّرُها في حال أخرى، بل قد يرى الشيء في حال دون حال، كما أن الأنبياء يرون ما لا يراه غيرهم)) (1) .
السادس: ((أن كل موجود قائم بنفسه فلا بد أن يكون في جهة، والله – تعالى – هو الحق، وهو فوق خلقه، عال عليهم)) (2) .
وأما ما تعلقوا به من مثل قوله: {لَن تَرَاني} ، وقوله: لَا تُدرِكُهُ الأبصَارُ} ونحو ذلك، فكله يدل على عكس ما قالوا.
والإدراك المنفي هو الإحاطة، وليست الرؤية، كما بيّن ذلك حبر الأمة ابن عباس، ومثَّل ذلك بالسماء، والشمس، حيث قال للسائل:((ألست ترى السماء؟ قال: بلى. فقال: أكلها ترى؟ قال: لا. قال: فالله أعظم)) .
وما يذكر عنه أنه فسر الآية بنفي الرؤية كذب عليه.
وقد قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ {61} قَالَ كَلَاّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (3) .
فأثبت الرؤية ونفى الإدراك، فدل ذلك على أن الإدراك غير الرؤية. وبهذا أجاب العلماء عن استدلالهم بهذه الآية.
(1)((درء تعارض العقل والنقل)) (5/132) .
(2)
((نقض التأسيس)) (2/409-415) ملخصاً.
(3)
الآيتان 61، 62 من سورة الشعراء.
قال: ((باب ما جاء في قول الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
الرحمة المضافة إلى الله - تعالى - تكون صفة له ذاتية، كقوله تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} ٍ (2)، وقوله تعالى:{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَة (3) } وقوله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} (4)
وقوله تعالى: {ِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (5) . ونحو ذلك وهو كثير.
وتكون مفعولاً له مخلوقاً، وهي من أثر صفة الرحمة الذاتية، كقوله تعالى:: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا} (6)، وقوله تعالى:{ِ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (7) }
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (8) .
وقوله تعالى: {وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ (9) } وهو أيضا كثير.
(1) الآية 56 من سورة الأعراف.
(2)
الآية 156 من سورة الأعراف.
(3)
الآية 132 من سورة الأنعام.
(4)
الآية 147 من سورة الأنعام.
(5)
الآية 218 من سورة البقرة.
(6)
الآية 21 من سورة يونس.
(7)
الآية 9 من سورة هود.
(8)
الآية 48 من سورة الفرقان.
(9)
الآية 63 من سورة النمل.
ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلق الله مائة رحمة، فوضع واحدة بين خلقه، وخبّأ عنده مِئَةً إلا واحدة)) (1) .
ومثله ما يأتي من قوله: ((فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)) .
ومراده بيان أن الرحمة تطلق على المخلوق، فتكون مخلوقة لله مفعولاً له، وذلك من آثار رحمته التي هي صفته تعالى، كما في قوله صلى الله عليه وسلم جواباً لسعد بن عبادة، لما قال له: ما هذا؟ قال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عبادة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) .
ولكن أشار إلى هذا اللفظ كعادته بذكره غير الصريح، والاكتفاء بالتلويح.
وفي الآية التي ترجم بها إشارة إلى مراده، فكأنه لحظ أن الرحمة فيها الجنة، وهي قريب من المحسنين، كما في الحديث:((الجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله، والنار مثل ذلك)) يعني: من المسيئين.
وبذلك تظهر المناسبة بين الآية المترجم بها وأحاديث الباب. والله أعلم)) .
وقال الحافظ: ((المراد أنه يدخل من أحسن الجنة التي وعد المتقين برحمته، وقد قال للجنة: أنت رحمتي، وقال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة، والعلم عند الله)) (2) .
وليس هذا من التأويل المذموم؛ لأنه من المعنى الذي دلت عليه الآية ضمناً، وإلا فمنطوقها دال على صفة الرحمة الموصوف بها رب العالمين - جل وعلا -.
ومما يبين ذلك أن هذه الآية جاءت عقب الأمر بالدعاء تضرعاً وخفية،
(1) رواه مسلم، انظر (17/69) بشرح النووي.
(2)
((الفتح)) (13/437) .
والنهي عن الاعتداء والإفساد في الأرض بالمعاصي، ثم أمر تعالى بدعائه خوفاً وطمعاً، وهذه حال المتقين، الذين أحسنوا في أعمالهم، وأحسنوا إلى عباد الله بالنصح لهم، وإصلاح الأرض بالطاعة، والبعد عن مساخط الله التي هي الإفساد في البلاد والعباد، وهؤلاء هم المحسنون الذين قريبة منهم رحمة الله - تعالى -، ومنها الجنة.
قال ابن جرير: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} يقول جل ذكره: إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا قريب منهم، وذلك هو رحمته؛ لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعد لهم من كرامته إلا أن تفارق أرواحهم أجسادهم.
ولذلك ذكَّرَ قوله: ((قريبٌ)) وهو خبر عن الرحمة، والرحمة مؤنثة؛ لأنه أريد به القرب في الوقت)) (1) .
وقال ابن كثير: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره، ويتركون زواجره، كمال قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (2) .
وقال: ((قريب)) ولم يقل قريبة؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله.
وقال مطر الوراق: ((استنجزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين)) رواه ابن أبي حاتم (3) .
****
(1)((تفسير الطبري)) (12/488) ط: المعارف.
(2)
الآية 156 من سورة الأعراف.
(3)
((تفسير ابن كثير)) (2/222) .
75 -
قال: ((حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عاصم، عن أبي عثمان، عن أسامة، قال: كان ابن لبعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم يقضي، فأرسلت إليه أن يأتيها، فأرسل: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل إلى أجل مسمى، فلتصبر، ولتحتسب)) ، فأرسلت إليه فأقسمت عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت معه، ومعاد بن جبل، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، فلما دخلنا ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي، ونفسه تقلقل في صدره، حسبته قال: كأنها شنة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد بن عبادة: أتبكي؟ فقال: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) .
تقدم هذا الحديث في باب قول الله - تعالى -: {قُلِ أدعُواْ اللهَ أَوِ أدعُواُ الرَّحَمَنَ} .
وتقدم شرحه هناك، والشاهد منه قوله:((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) أي: الذين جعل الله في قلوبهم الرحمة، التي يرحمون بها عباد الله، فرحمة الله منهم قريب.
وسبق أن اللفظ الذي تقدم في الباب المشار إليه أوضح وأظهر في الدلالة على مقصوده هنا، ولكنه عدل عنه كعادته، إيثاراً للإشارة على التصريح في العبارة، حتى يروّض ذهن القارئ على التفطن والاستنباط، ولأن عادته أيضاً إذا أعاد الحديث فلا بد أن يختاره بألفاظ غير لفظه المتقدم، ما وجد إلى ذلك سبيلاً في المتن وفي رجال السند، أو على الأقل في أحدهما.
هنا السند أكثرهم غير من تقدم، والمتن فيه تغاير عما سبق.
76 -
قال: ((حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن الأعرج، عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اختصمت الجنة والنار إلى ربهما، فقالت الجنة: يا رب، ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ وقالت النار: يعني: أوثرت بالمتكبرين؟
فقال الله - تعالى - للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها.
قال: فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحداً، وإنه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد - ثلاثاً - حتى يضع فيه قدمه، فتمتلئ، ويرد بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط قط)) .
الاختصام: هو التنازع بين فريقين، يذكر كل واحد منهما حجته أمام من يحكم بينهما.
وتقدم هذا الحديث في ((التفسير)) بلفظ تحاجت الجنة والنار.
وفي ((صحيح مسلم)) : ((احتجت)) ، والمعنى واحد.
قال المهلب: ((يجوز أن يكون هذا الخصام حقيقة، بأن يخلق الله فيهما فهماً، وكلاماً، والله قادر على كل شيء، ويجوز أن يكون هذا مجازاً، كقولهم: ((امتلأ الحوض، وقال قَطْنِِي)) ، والحوض لا يَتكلم، وإنما ذلك عبارة عن امتلائه)) (1) .
قلت: الأول هو المعتمد، وتقدم الكلام فيه والاستدلال له في شرح حديث أنس:((لا يزال يلقى في النار، وتقول: هل من مزيد)) .
(1) انظر ((الفتح)) (13/436) .
وقال النووي: ((هذا الحديث على ظاهره، وأن الله – تعالى – يجعل في النار والجنة تمييزاً تدركان له، فتحاجتا، ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك التمييز دائماًً)) (1) .
قال الحافظ: ((وحاصل اختصامهما: افتخار إحداهما على الأخرى بمن يسكنها، فتظن النار أنها بمن ألقي فيها من عظماء الدنيا أبر عند الله من الجنة.
وتظن الجنة أنها بمن أسكنها من أولياء الله – تعالى – أبر عند الله.
فأجيبتا: بأنه لا فضل لأحدهما على الأخرى من طريق من يسكنها، وفي كلامهما شائبة شكاية إلى ربهما، إذ لم تذكر كل واحدة منهما إلا ما اختصت به، وقد ردَّ الله الأمر في ذلك إلى مشيئته)) (2) .
قلت: الظاهر أن افتخار النار على الجنة بأنها محل انتقام الله – تعالى – من الطغاة والمجرمين الذين عصوا الله وكذبوا رسله، وسخروا منهم وبارزوا الله بالجرائم والآثام.
وغالب هذا النوع من قادة الناس ورؤسائهم وأغنيائهم، وأهل السيادة والقيادة فيهم، وأهل التجبر والتكبر.
وأما الجنة فإنها اشتكت لكون من يدخلها الضعفاء والفقراء وأهل المسكنة غالباً، ولهذا قالت:((ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟)) .
قوله: ((قالت الجنة)) إلى آخره. تقدم أن الصحيح أن هذا بلسان المقال، أي: أنه قول قالته الجنة حقيقة، وأن الله جعل لها شعوراً وتمييزاً، وعقلاً ونطقاً، والله لا يعجزه شيء.
(1)((شرح مسلم)) (17/181) .
(2)
((شرح مسلم)) (17/181) .
وليس هذا خاصاً بالجنة والنار، فقد ذكر الله – تعالى – أن الجبال كانت تسبح مع نبي الله داود عليه السلام.
وقوله: ((فقالت: يا رب ما لها)) . عدول بالخطاب من المتكلم إلى الغائب، كأن الراوي كره أن يأتي به على أصله خشية أن يظن ظان أنه مضاف إليه، وهذا كثير في روايات الحديث.
والمقصود بضعفاء الناس: فقراؤهم، وأهل المسكنة والتواضع، الذين لا يبغون في الأرض علواً ولا فساداً، ولا يترفعون على عباد الله، بل هم متواضعون لله خاضعون له، أذلة على المؤمنين، وإن كانوا عند ذوي السلطان حقيرين ساقطين في أعينهم، لا يؤبه لهم لديهم، فهم عند الله عظماء رفعاء.
قوله: ((قالت النار: يعني: أوثرت بالمتكبرين)) أي: خصصت بأهل التكبر على عباد الله والتجبر والظلم للناس باحتقارهم، وغمط حقوقهم.
قوله: ((فقال الله للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء)) .
هذا هو حكم الله بينهما، يعني: أن الله – تعالى – خلق الجنة ليرحم بدخولها من شاء من عباده، من يتفضل عليه ويجعله مؤهلاً لذلك.
وأما النار فخلقها لمن عصاه وكفر به، وبرسله، يعذبهم بها.
وذلك كله ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ولكن لا يدخل النار إلا من استوجبها بعمله.
(1) الآية 44 من سورة الإسراء.
وهذه الجملة وهي قوله: ((فقال الله للجنة: أنت رحمتي)) هي الشاهد للباب، فالجنة قريب من المحسنين، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
ثم قال: ((ولكل واحدة منكما ملؤها)) وهذا وعد من الله – تعالى – لهما بأن يملأهما بمن يسكنهما، وفي هذا إشعار بأنهما يرغبان ذلك، وقد جاء الطلب من النار صريحاً، كما قال تعالى:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (1) } ، وأقسم الله – تعالى – ليملأن جهنم من الجِنَّةِ والناس أجمعين)) .
فهما يمتلآن من بني آدم ومن الجن.
فمن آمن وعبد الله وحده، واتبع رسله، فمصيره إلى الجنة، ومن عصى وبغى، وطغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى.
قوله: ((فأما الجنة، فإن الله لا يظلم من خلقه أحداً، وأنه ينشئ للنار من يشاء فيلقيهم فيها)) ، وتقدم حديث أنس في باب قول الله – تعالى -:{هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يزال يلقى فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع فيها رب العالمين قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قد قد بعزتك وكرمك.
ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة)) (2) .
وفي ((صحيح مسلم)) في هذا الحديث قال: ((فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله – تبارك وتعالى – رجله، تقول: قط قط قط، فهناك تمتلئ، ويُزْوَى بعضها إلى بعض، ولا يظلم ربك من خلقه أحداً.
(1) الآية 30 من سورة ق.
(2)
انظر الجزء الأول من هذا الشرح (ص140) .
وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً)) (1) ، ورواه البخاري بهذا اللفظ في ((التفسير)) (2) .
وبهذا يتبين أن قوله: ((وأنه ينشئ للنار من يشاء فيلقيهم فيها)) أنه خطأ، وإنما انقلب على الراوي، فصار ما للجنة للنار، فإن إنشاء الخلق يكون للجنة، وأما النار فإن الله – تعالى – يضع عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، وتتضايق على من فيها، وبذلك تمتلئ ولا يظلم ربك أحداً. ويؤيد ذلك أن هذا الحديث جاء في ((التفسير)) من ((صحيح البخاري)) ، وجاء كذلك في مسلم على الوجه الصحيح، كما ذكره آنفاً، وبأنه خطأ قد انقلب على الراوي جزم به شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، ويؤيده أيضا قوله تعالى:{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: من ذريتك وممن تبعك من بني آدم.
فلو دخلها أحد من غير أتباع الشيطان من ذريته وذرية آدم لم تمتلئ منهم.
قال الحافظ: قال أبو الحسن القابسي: ((المعروف في هذا الموضع أن الله ينشئ للجنة خلقاً، وأما النار فيضع فيها قدمه. قال: ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشئ للنار خلقاً إلا هذا) انتهى.
وقد مضى في تفسير سورة ق، من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة:((ويقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد، فيضع الرب عليها قدمه، فتقول: قط قط)) .
ومن طريق همام بلفظ: ((فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله، فتقول: قط قط، فهناك تمتلئ، ويُزْوَى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً)) (3) .
(1)((صحيح مسلم)) (4/2187) رقم (2846) .
(2)
انظر ((الفتح)) (8/595) .
(3)
انظر ((الفتح)) (13/436-437) .
وقال: ((وقد قال جماعة من الأئمة: إن هذا الموضع من الحديث مقلوب، وجزم ابن القيم بأنه غلط، واحتج بأن الله – تعالى – أخبر بأن جهنم تمتلئ من إبليس وأتباعه من بني آدم، وكذا أنكر الرواية شيخنا البلقيني، واحتج بقوله:{وَلَا يَظلِمُ رَبُكَ أَحَدَا} . ثم ذكر تأويلات بعيدة جداً، بل باطلة، ثم قال: ((وفي الحديث دلالة على اتساع الجنة والنار، بحيث تسع كل من كان، ومن يكون إلى يوم القيامة، وتحتاج إلى زيادة، وقد تقدم أن آخر من يدخل الجنة يُعطى مثل الدنيا عشر مرات.
وقال الداودي: يؤخذ من الحديث أن الأشياء توصف بغالبها؛ لأن الجنة يدخلها غير الضعفاء، والنار قد يدخلها غير المتكبرين، وفيه رد على من حمل قول النار:{هَلْ مِن مَّزِيد} على أنه استفهام إنكار، وأنها لا تحتاج إلى زيادة)) (1) .
وقال شيخ الإسلام: ((قوله: وأما الجنة، فيبقى فيها فضل، فينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم)) : ((ووقع في بعض طرق البخاري غلط، قال فيه: ((وأما النار فيبقى فيها فضل)) ، والبخاري رواه في سائر المواضع على الصواب؛ ليبين غلط هذا الراوي، كما جرت عادته بمثل ذلك، إذا وقع من بعض الرواة غلط في لفظ، ذكر ألفاظ سائر الرواة التي يعلم بها الصواب، وما علمت وقع فيه غلط إلا وقد بين فيه الصواب)) (2) .
وقال ابن القيم: ((وأما اللفظ الذي وقع في ((صحيح البخاري)) في حديث أبي هريرة: ((وأنه ينشئ للنار من يشاء، فيلقى فيها، فتقول: هل من مزيد)) فغلط من بعض الرواة، انقلب عليه لفظه، والروايات الصحيحة ونص القرآن يرده، فإن الله سبحانه أخبر أنه يملأ جهنم من إبليس وأتباعه،
(1)((الفتح)) (13/437) .
(2)
((منهاج السنة)) (3/25) .
فإنه لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة، وكذب رسله، قال تعالى:{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ {8} قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} (1) ، ولا يظلم الله أحداً من خلقه)) (2) .
77 -
قال: ((حدثنا حفص بن عمر، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليصيبن أقواماً سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم: الجهنميون)) .
((سفع)) بفتح السين، وسكون الفاء، هو أثر تغير البشرة من حر النار أي: يصيبهم من لهبها ما يغير ألوانهم، وتقدم أنهم يحترقون حتى يكونوا فحماً.
قوله: ((بذنوب أصابوها)) أي: أن إصابتهم بسفع النار جزاء على ما اقترفه من الذنوب عقوبة لهم.
((ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته)) أي: يرحمهم الله تفضلاً منه وجوداً عليهم من غير استحقاق للجنة، وهذا محل الشاهد من الحديث، ووجهه أن هؤلاء لما كان معهم شيء من الإيمان صارت رحمة الله قريبة إليهم بالنسبة لمن هو في النار، وبقدر ما معهم من إيمان وإحسان.
والجهنميون نسبة إلى جهنم؛ لأن أثر إحراقهم ظاهر عليهم.
قولُهُ: ((وقال هَمّامٌ: حدثنا قتادة، حدثنا أنس)) إلى آخره.
يريد بيان أن عنعنة قتادة محمولة على السماع؛ لأنه صرح بالتحديث من هذه الطريق. والله أعلم.
(1) الآيتان 8، 9 من سورة تبارك.
(2)
((حادي الأرواح)) (ص295) .
قال: ((باب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا} (1) .
قال ابن كثير: ((أخبر تعالى عن قدرته العظيمة، التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره، وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما، فلا تضطربا عن أماكنهما، كما قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (2)، وقال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ (3) (4) } .
وقوله تعالى: {وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} (5)، أي: لا يقدر على إبقائهما بلا زوال واضطراب إلا هو - تعالى -، ومع موجب زوالهما واضطرابهما من جرائم بني آدم أمسكهما، فحلم الله الواسع، ومغفرته العظيمة، تدعوه تعالى إلى إمساكهما، ولهذا قال تعالى:{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورَا} فيحلم ويغفر، ويستر، ويصفح عن العظيم مما يبارزه به عباده من الجرائم، كما ذكر تعالى عن بعض المجرمين ما يقتضى تفطر السماوات، وتشقق الأرض، وانهداد الجبال الراسيات منه، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (6) .
(1) الآية 41 من سورة فاطر.
(2)
الآية 65 من سورة الحج.
(3)
((تفسير ابن كثير)) (6/543) ط: الشعب.
…
(4)
الآية 25 من سورة الروم.
(5)
الآية 41 من سورة فاطر.
(6)
الآيات 88 - 91 من سورة مريم.
ومراد البخاري رحمه الله من هذا الباب إثبات جنس الفعل لله تعالى؛ لقوله في الآية: ((يمسك)) وقوله في الحديث: ((يضع السماوات على إصبع)) إلى آخره، وإن تقدم ذكر الاستواء المتضمن للعلو فهو من صفات الذات والفعل، وأما هذا فهو نوع آخر من صفات الله - تعالى - الدالة على أنه تعالى فعَّال لما يريد، وهذا ما أنكره أهل الباطل من معتزلة وغيرهم، فأراد البخاري أن ينبه عى بطلان قولهم.
يعني: أن الله - تعالى - هو الممسك للسماوات والأرض بقدرته، وإذا أراد أن يطوي السماوات والأرض لترك إمساكهما فزالتا، فهو تعالى يفعل باختياره ما شاء، وفعله غير خلقه، وهذا يرد مذهب المعتزلة ومن قال بقولهم، حيث قالوا: إن أفعال الله - تعالى - مخلوقة.
قال المؤلف رحمه الله في كتابه ((خلق أفعال العباد)) : ((ادعت المعتزلة: أن فعل الله مخلوق، وأن أفعال العباد غير مخلوقة، وهذا خلاف علم المسلمين، إلا من تعلق من البصريين بكلام سنسويه، كان مجوسياً فادعى الإسلام)) (1) .
يعني: أن المسلمين مجمعون على خلاف ما يقوله المعتزلة من أن فعل الله - تعالى - مخلوق، ومراده بذلك: أنه لا فرق عندهم بين الفعل والخلق، فليس لله فعل يفعله باختياره وإرادته، وإنما يخلق، والخلق هو المخلوق المفعول.
وقوله: ((إلا من تعلق بكلام سنسويه من البصريين)) ، يقصد القدرية الذين أنكروا علم الله بالأشياء قبل وجودها، وتقديره لها، وخلقه إياها، فهؤلاء شذوا عن المسلمين.
وقد اتفق سلف هذه الأمة وأئمتها على أن الله - تعالى - متصف بصفات
(1)((خلق أفعال العباد)) (ص75) ، تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة.
الأفعال كما أنه متصف بصفات الذات، ولم يخالف في ذلك إلا الجهمية والمعتزلة.
ولا ينبغي أن يعد خلاف هؤلاء خلافاً؛ لأنهم تركوا صريح الأدلة في ذلك من كتاب الله - تعالى -، ومن سنة رسوله، ومن العقل أيضاً.
وقد علم أن الأفعال نوعان: متعد، ولازم، والله - تعالى - متصف بالنوعين.
فالمتعدي مثل الرزق، والإحياء، والإماتة، والخلق، ونحو ذلك.
واللازم مثل المجيء، والنزول، والإتيان، والاستواء، ونحوه.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) ، فجمع النوعين في هذه الآية، وكل ذلك واقع بمشيئته تعالى.
وهذا معنى قول أهل السُّنَّة: إن الله موصوف بالأفعال الاختيارية، أي: التي يفعلها باختياره تعالى، وأدلة ذلك في كتاب الله، وسنة رسوله، كثيرة جداً، وسوف يذكر فيما يأتي طرفاً من ذلك.
ومراده بيان أن أفعال الله من صفاته، وهي ثابتة بالكتاب والسُّنَّة والإجماع من أهل العلم والإيمان، وبالعقل السليم، وسيأتي في الباب بعد هذا التفرقة بين الفعل والمفعول، وما يأتي بعده إلى آخر الكتاب تفريع عليه.
***
78 -
قال: ((حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن الله يضع السماء على إصبع،
(1) الآية 4 من سورة السجدة.
والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والأنهار على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول بيده: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:{وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ} .
سبق هذا الحديث في باب قول الله - تعالى -: {لِمَا خَلَقتُ بِيَدَىَّ} وذكره هناك من طريقين، غير الطريق التي هنا، وتقدم شرحه هناك، وجرياً على عادته إذا أعاد ذكر الحديث؛ فلا بد أن يغاير بين لفظه اللاحق وبين السابق، وبين سنديه، فإن لم يمكن ذلك فعل ما أمكنه منه.
وهنا قد غاير بين لفظه هنا وهناك، وكذلك في الإسناد.
ففي الباب السابق ((أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم)) .
وفي الطريق الأخرى: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب)) .
وهنا: ((جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الراغب: ((الحبر: الأثر المستحسن، ومنه ما روي: (يخرج من النار رجل قد ذهب حبره، وسبره)) أي: جماله، وبهاؤه، ومنه سمي الحبر بالكسر، والحبر: العالم، وجمعه أحبار - سموا بذلك - لما يبقى من أثر علومهم في قلوب الناس، ومن آثار أفعالهم الحسنة المقتدى بها)) (1)، وفي ((القاموس)) : الحبر: ((العالم أو الصالح)) .
قوله: ((ثم يقول بيده: أنا الملك)) ، أي: أنه تعالى يهزهن، استخفافاً لهذه المخلوقات، واستصغاراً لها أمام عظمة الله وقوته - جل وعلا -، وقد جاء مصرحاً بذلك في الروايات الأخرى.
قال ابن جرير: ((وحدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، عن منصور، عن خيثمة بن عبد الرحمن،
(1)((المفردات)) (ص106) .
عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه حبر من أحبار اليهود، فجلس إليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((حدثنا؟)) قال: إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة جعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والماء الشجر على إصبع، وجميع الخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه؛ تصديقاً لما قال، ثم قرأ هذه الآية:{وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَمِيعَا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامِةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيَّاتٌ بِيمِينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمَّا يُشرِكُونَ} (1) .
ثم رواه من طريق أخرى، وهو صحيح لا مطعن فيه، وقد رواه أحمد والبخاري ومسلم، من حديث عبد الله بن عمر، ولفظه:((قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)) وهذا لفظ رواية مسلم (2) .
وقال ابن جرير: ((حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمر، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، يخطب الناس، فمر بهذه الآية: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَمِيعَا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامِةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيَّاتُ بِيمِينِهِ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأخذ السماوات والأرضين السبع فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما - كما يقول الغلام بالكرة -: أنا الله الواحد، أنا الله العزيز))
حتى لقد رأينا
(1)((تفسير الطبري)) (24/26) .
(2)
انظر ((صحيح مسلم)) (4/2148) رقم (2788) وقد تقدم.
المنبر وإنه ليكاد يسقط به)) (1)
وقال أيضاً: ((حدثنا علي بن داود، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا ابن أبي حازم، قال: حدثني أبو حازم، عن عبيد الله بن مقسم، أنه سمع عبد الله بن عمر، يقول: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: ((يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيديه)) وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وجعل يقبضهما، ويبسطهما، قال:((ثم يقول: أنا الرحمن، أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)) وتمايل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه، وعن شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم)) (2) .
وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث في هذا، ففي هذه ونحوها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذكر صفات الله - تعالى - فى المجامع العامة، ويخطب ببيانها على المنبر، ويبالغ في إيضاحها، وتفهيم السامعين لها، حتى إنه يقبض يديه ويبسطهما عند ذكره لقبض الله - تعالى - السماوات والأرض، خلافاً لمن زعم أنه لا ينبغي ذكر صفات الله عند عامة الناس، وهو زعم باطل مخالف للحق وطريق الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يعرف الناس بربهم، ويذكر لهم صفاته وأفعاله وأقواله في كل موطن، ويكرر ذلك في مجالسه، وخطبه، يعرف ذلك من سبر حاله، وتتبع سنته، صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع مجالاً للشك في أن المراد من هذه النصوص هو ما دلت عليه ظاهراً، وأن تأويلها وصرفها عن ظاهرها باطل قطعاً، وتحريف للكلم عن مواضعه.
(1)((تفسير الطبري)) (24/26) ، ورواه البخاري (6/104) ، ومسلم (4/2147) ، رقم (2786) .
(2)
المرجع السابق.
ويزيد ذلك تأكيداً وبياناً أن أحداً من الصحابة لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستفسر عن شيء منها؛ لأنهم فهموا المراد من ظاهر الخطاب ونصه.
ومما يزيد ذلك تأكيداً أيضاً، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر ولا حرفاً واحداً يدل على وجوب التأويل كما يقوله الموجبون للتأويل.
ومعلوم أن بيان ما أنزل الله إلى عباده واجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فعل بقوله، وفعله، كما كان يقبض يديه ويبسطهما عندما ذكر قبض الله - تعالى - لسماواته وأرضه بيديه، تقريراً منه صلى الله عليه وسلم لظاهر النص، وتأكيداً لما يفهمه كل مخاطب عربي يسمع هذا الكلام، ولو كان من أبلد الناس.
وهذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لو فعله أحد أمام من يدعون التحقيق، وأنهم أهل السُّنَّة، لصاحوا به، وعدوه مشبهاً مجسماً.
وكان صلى الله عليه وسلم يفعل مثل ذلك كثيراً عند ذكر صفات الله - تعالى -، كما سبق أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ قول الله - تعالى -:{وَكَانَ اللهُ سَمِيعَا بَصِيراً} .
وضع إصبعه على عينه، والأخرى على أذنه، زيادة إيضاح وتبيين أنه أراد ظاهر الخطاب، وكما سبق أيضاًً أنه قال:((إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ليس دونهما سحاب ولا قتر)) ، وغير ذلك.
وفي هذا الحديث ثبوت صفة الكف لله - تعالى -؛ لقوله: ((فيجعلهما في كفه)) .
وتقدم أن ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم لفرحه بما قاله الحبر حيث ذكر ما يصدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم مما أوحاه الله إليه، ولهذا قرأ قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَمِيعَا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامِةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيَّاتٌ بِيمِينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمَّا يُشرِكُونَ} (1) ؛ لأن هذه الآية مطابقة لما قاله الحبر،
(1) الآية 67 من سورة الزمر.
وهو من العلم الموروث عن الأنبياء الذي أوحاه الله إليهم، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك؛ لأنه إخبار عن شيء لم يقع، وإنما سيقع كما هو ظاهر.
وقد تقدم ذكر الأدلة في إثبات يدي الله - تعالى - وأصابعه، وتفنيد تأويلات المنكرين لها، وبيان أن تأويلها من تحريف الكلم عن مواضعه.
****
قال: ((باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض، وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره [وكلامه] وهو الخالق، هو المكون غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مكون)) .
التخليق: مصدر، والمصدر هو: الحدث الذي لم يقترن بزمن، والحدث لا بد له من محدث، فتخليق السماوات والأرض هو فعل الله الذي وجدت به، فالله - تعالى - هو الخالق، والخلق والتخليق فعله الواقع منه على المخلوق، فالمخلوقات وجدت بفعل الله.
والمخلوق ليس هو فعل الله، وإنما هو مفعوله، أي: مخلوقه الذي صدر عن تخليقه.
وأفعاله الله نوعان: لازم، ومتعدَّ، فاللازم: نحو نزوله، ومجيئه، والمتعدي: نحو خلقه ورزقه، ولابد لهذا النوع من مفعول يتعدى إليه، وهو المخلوق، والمرزوق، بخلاف الأول.
قوله: ((وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره)) يعني: أن التخليق فعل الرب - تعالى - والمقصود بالأمر هنا: قوله للمخلوق: ((كن)) .
قوله: ((فالرب بصفاته وفعله وأمره [وكلامه] يعني: أن صفاته وأمره وفعله، وكلامه، داخل في مسمى اسم الرب - تعالى - لا يكون شيء
منها غيره؛ لأن صفة الشيء تقوم به، وفعله يقوم به - لا بغيره - وكذا أمره وكلامه.
ولفظه: ((وكلامه)) ثبتت في بعض نسخ الصحيح، وهي رواية أبي ذر، أحد رواة الصحيح عن البخاري، وهو من عطف الخاص على العام.
قوله: ((وهو الخالق، المكوِّن، غير مخلوق)) المكون بكسر الواو المشددة، وهو بمعنى المصوِّر.
قوله: ((وما كان بفعله وأمره، وتخليقه، وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مكوَّن)) يعني: أن الفعل غير المفعول، فالفعل من صفات الفاعل يقوم به، والمفعول هو ما وجد بالفعل، فهو مفعول له محدث بعد أن لم يكن، بخلاف الفعل، فإنه قائم بالفاعل، فهو صفته، فالمفعول مخلوق، مكوَّن - بفتح الواو المشددة - بعد أن لم يكن.
ومراد البخاري رحمه الله الرد على من لم يفرق بين الفعل المفعول، كما بين ذلك في كتابه ((خلق أفعال العباد)) فإنه قال فيه:
((اختلف الناس في الفاعل، والمفعول، فقالت القدرية: الأفاعيل كلها من البشر، ليست من الله.
وقالت الجبرية: الأفاعيل كلها من الله.
وقالت: الفعل والمفعول واحد، لذلك قالوا: لـ ((كن)) مخلوق، وقال أهل العلم: التخليق فعل الله، وأفاعيلنا مخلوقه؛ لقوله تعالى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (1)، يعني: السر والجهر من القول، ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق)) (2)
(1) الآيتان 13، 14 من سورة الملك.
(2)
((خلق أفعال العباد)) (ص144) ، تحقيق عبد الرحمن عميرة.
وقال أيضاً: ((وأما الفعل من المفعول، فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث؛ لقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} (1) ، فالسماوات والأرض مفعولة، وكل شيء سوى الله بصفاته - فهو مفعول - فتخليق السماوات فعله؛ لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل، وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله، ففعله من ربوبيته، حيث يقول:((كن فيكون)) ، و ((كن)) من صفته، وهو الموصوف به، كذلك قال: رب السماوات، ورب الأشياء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((رب كل شيء ومليكه)) (2) .
وهذا شرح لما ترجم به هنا، وبيان لمراده، وهو واضح.
وبه يتبين خطأ ابن بطال في قوله: ((غرضه بيان أن جميع السماوات والأرض وما بينهما مخلوق؛ لقيام دلائل الحدوث عليها)) إلى آخره، كما ذكره الحافظ عنه في ((الفتح)) (3) ؛ لأن هذا أمر ظاهر، لا ينكره أحد.
****
79 -
قال: ((حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرها محمد بن جعفر، أخبرني شريك ابن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس، قال: بت في بيت ميمونة ليلة، والنبي صلى الله عليه وسلم عندها، لأنظر كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد، فنظر إلى السماء، فقرأ:{إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} إلى قوله: {لأُوْلىِ الأَلبَابِ} ثم قام فتوضأ، واستن،
(1) الآية الأولى من سورة الأنعام.
(2)
((خلق أفعال العباد)) (ص113) ، تحقيق الدكتور عميرة.
(3)
انظر: ((الفتح)) (13/440) .
ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى للناس الصبح)) .
هذا الحديث أكثر البخاري رحمه الله من تكراره، فقد ذكره فيما يقرب من عشرين موضعاً، كما بينته في دليل القارئ.
وميمونة: أم المؤمنين بنت الحارث الهلالية، وهي خالة ابن عباس أخت أمه لبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب.
وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير.
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء، سنة سبع، بسرف، وهو حلال غير محرم، وتوفيت رضي الله عنها بسرف، سنة إحدى وخمسين، وقيل غير ذلك، وصلى عليها ابن عباس، ودفنت هناك (1) .
قوله: ((بت في بيت ميمونة)) في رواية مسلم: ((فرقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي)) ، وفي أخرى له، قال:((بعثني العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم)) .
وكان العباس بعثه في حاجة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يا بني، بت عندنا الليلة)) ذكره الحافظ،
عن قيام الليل، لمحمد بن نصر (2) ، فانتهز ابن عباس هذه الفرصة لينظر إلى عمل رسول الله - في الليل، فيتخذه قدوة.
قوله: ((فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة)) كان صلى الله عليه وسلم خير الناس لأهله، فكان يفعل ما يأنسون به من المحادثة، والتعليم لكل خير، من أمور الدنيا والآخرة.
(1) انظر ((الإصابة)) (8/126) ، و ((الاستيعاب)) (4/1914) ، و ((أسد الغابة)) (7/272) ، وغيرها كثير.
(2)
انظر ((فتح الباري)) (2/482)، وانظر ((مختصر قيام الليل)) (ص105) وفيه:((بعثني أبي العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العشاء الآخرة في حاجة له، فلما بلغته إياها قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي بني، بت عندنا هذه الليلة))
…
الخ.
قوله: ((فلما كان ثلث الليل الأخير)) يجوز أن يكون التقدير: فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم في ثلث الليل الأخير، ويجوز أن تكون (كان) تامة، والتقدير: فلما جاء ثلث الليل، وهذا هو الأظهر.
قوله: ((أو بعضه)) أي: بعض الليل، والبعض يصدق على كل فترة منه.
وقد جاء في غير هذا الموضع: ((حتى انتصف الليل، أو قريباً منه)) .
قوله: ((قعد، فنظر إلى السماء، فقرأ:{إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} إلى آخره، المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم حين استيقظ نظر إلى السماء معتبراً بخلقها، ولهذا قرأ الآيات المذكورات، وجاء في روايات أنه قرأ العشر آيات من آخر سورة آل عمران، وهذا هو محل الشاهد من الحديث للباب؛ لأن فيها قوله:{إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} ، مع قوله:{رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً} ، فالمنظور إليه، المشاهد، المشار إليه بقوله:{مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً} ، مفعول مخلوق، وهو غير الفعل الذي هو صفة الفاعل، والفعل نتج عنه المفعول المحدث، هذا هو وجه الاستدلال الذي أراده البخاري رحمه الله.
قوله: ((ثم قام فتوضأ واستن)) أي: استاك بالسواك دالكاً به أسنانه.
وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ويحث عليه، وأخبر أنه مطهرة للفم، ومرضاة للرب - تعالى.
قوله: ((ثم صلى إحدى عشرة ركعة)) هذه سنته صلى الله عليه وسلم التي استمر عليها كما أخبرت بذلك زوجه عائشة رضي الله عنها أنه ما كان يزيد على إحدى عشرة ركعة في رمضان وغيره.
قوله: ((ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى ركعتين)) هاتان الركعتان، غير ما سبق ذكره من أنه صلى إحدى عشرة ركعة، بل هما سنة الفجر، لأنه صلاهما بعد الأذان، وكان صلى الله عليه وسلم يصليهما في بيته، ويحافظ عليهما حضراً وسفراً.
قوله: ((وصلى للناس الصبح)) أي: صلى بهم إماماً، كما هو ظاهر، وقد تقدم شرح بعض هذا الحديث في باب قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِ} .
****
قال: ((باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} (1) .
قال ابن جرير: ((يقول جل ذكره: ولقد سبق منا القول لرسلنا إنهم لهم المنصورون، أي: مضى بهذا منا القضاء، والحكم في أم الكتاب، وهو أنهم لهم النصرة والغلبة، بالحجج)) ثم روى عن قتادة: قال: سبق هذا من الله لهم أن ينصرهم.
ثم ذكر أن بعضهم فسر السبق: بالسعادة، أي: سبق القضاء، والحكم لهم بالسعادة، وذكر أنه روي في قراءة عبد الله:(ولقد سبقت كلمتنا على عبادنا المرسلين) فجعلت ((على)) مكان اللام، فكأن المعنى: حقت عليهم ولهم، كما قيل:{عَلَى مُلكِ سُلَيمانَ} ، وفي ملك سليمان، إذ كان المعنى في ذلك واحداً)) (2) .
والسبق هو التقدم على الشيء، والكلمة المضافة إلى الله - تعالى - هي كلمته الكونية القدرية.
والقدر يتضمن علم الله بالشيء، وكتابته لذلك، ومشيئته له، ثم إيجاده له وفق تقديره، وهذا لابد أن يكون بكلامه.
وقد علم أن كلام الله - تعالى - ينقسم إلى: كوني قدري، وإلى شرعي أمري، وهذا الذي يخالفه أكثر العباد، ويعصونه.
(1) الآية 171 من سورة الصافات.
(2)
((تفسير الطبري)) (23/114) .
أما القسم الأول فلا يخالفه أحد، بل لابد من وقوعه وحصوله، وهو قد يكون متفقاً مع الكلام الشرعي الأمري، وقد يكون مخالفا له، وسيأتي تفصيل ذلك - إن شاء الله تعالى - في موضعه.
ومراد البخاري رحمه الله أن كلمة الله - تعالى - سبقت وجود الرسل والمرسل إليهم، فهي قبل الخلق الذي هو المخلوق، وهي غيره؛ لأنها صفة الله - تعالى -، وأما نصر الرسل وإسعادهم فهو جزاء عملهم وطاعتهم، فهو من إثابته لهم وفضله عليهم، فهو مخلوق بكلمته - تعالى -.
وأما قول الحافظ: ((أشار به إلى ترجيح القول بأن الرحمة من صفات الذات؛ لكون الكلمة من صفات الذات، فمهما استشكل في إطلاق السبق في صفة الرحمة، جاء مثله في صفة الكلمة، ومهما أجيب عن قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُناَ} حصل به الجواب عن قوله: ((سبقت رحمتي)) ، وقد غفل عن مراده من قال: دل وصف الرحمة بالسبق على أنها من صفات الفعل)) (1) .
فهذا بعيد كل البعد عن مراد البخاري، وهو مبني على مذهب الأشعرية القائلين بأن الكلام من صفات الذات، وهو المعنى القائم بذات الله - تعالى -، وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله، واعتقاد أهل السُّنَّة، وإنما مراده ما ذكرت. والله أعلم.
وأما صفات الرحمة فتكون صفة ذات وصفة فعل، كما سبق الكلام في ذلك.
وفي كتاب ((خلق أفعال العباد)) للبخاري رحمه الله نقلاً عن أبي عبيدة: {إنمَاَ قَولُنَاَ لِشَيءٍ إِذَا أَرَدناهُ نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، فأخبر أن أول خلقه بقوله، وأول خلق هو من الشيء الذي قال:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ} فأخبر
(1)((فتح الباري)) (13/441) .
أن كلامه قبل الخلق)) (1) ، وهذا قريب مما ذكره هنا، وهو يعين على فهم مراده.
قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي)) .
تقدم هذا الحديث في باب قول الله - تعالى -: ((ويحذركم الله نفسه)) لكن بلفظ يختلف عما هنا، فلفظه هناك:((لما خلق الله الخلق كتب في كتابه - وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش -: إن رحمتي تغلب غضبي)) والمعنى لا يختلف، والمقصود بالقضاء: التقدير، ويأتي القضاء بمعنى الأمر والحكم، قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ} (2)، ويأتي بمعنى: قدر وأمضى، كما في قوله تعالى:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} (3)، ويأتي بمعنى: فرغ من الشيء وأتقنه، نحو قوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (4)، والمعنى هنا: لما فرغ من تقدير الخلق، كما في الرواية الآتية في باب قول الله تعالى -:{بَل هُوَ قُرءَانُ مَّجِيدُ} ؛ أن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق)) .
ومراد البخاري من هذا الحديث: أن الكتاب الذي كتبه قبل خلق الخلق فيه سبق رحمته لعباده المرسلين، أي: أن كلمته التي سبقت بنصره عباده المرسلين قبل وجودهم.
(1)((خلق أفعال العباد)) (ص44) ، تحقيق عبد الرحمن عميرة.
(2)
الآية 23 من سورة الإسراء.
(3)
الآية 4 من سورة الإسراء.
(4)
الآية 12 من سورة فصلت.
وبهذا يتبين أن قوله غير خلقه، ونصرته لعباده المرسلين من رحمته التي سبقت غضبه، وتقدم الكلام على قوله ((عنده فوق عرشه)) ، وأنه يدل على استوائه على عرشه، وعلوه على خلقه، كما تقدم الكلام في صفة الرحمة والغضب.
80 -
قال: ((حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأعمش، سمعت زيد بن وهب، سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وأربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك، فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها)) .
علماء الأمة يعدون هذا الحديث أصلاً كبيراً من أصول الإسلام؛ لأن فيه بيان وجوب الإيمان بالقدر، وهو أحد أركان الإيمان بالله ورسوله.
قوله: ((الصادق المصدوق)) وصف للنبي صلى الله عليه وسلم مستمر، أي: أنه صادق فيما يخبر به، وما يفعله، فلا يخبر إلا بالحق المطابق للواقع.
والصدق يطلق أيضاً على الفعل، يقال: صدق القتال، وهو صادق فيه والرسول صلى الله عليه وسلم صادق في أقواله وأفعاله.
((المصدوق)) فيما يأتيه من الأخبار؛ لأنه وحي من الله - تعالى -.
قوله: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً وأربعين ليلة)) يعني:
أنه في هذه المدة يكون نطفة داخل بويضة المرأة، فيستمر هذه المدة، وتغلب عليه هذه الصفة في الأربعين الأولى - يعني: وصف النطفة، وفي الثانية: وصف العلقة، وفي الثالثة: وصف المضغة، وإن كانت خلقته قد تمت وتم تصويره.
قوله: ((ثم يكون علقة مثله)) يعني: بعد مضى أربعين على النطفة في الرحم، تصير علقة، وهي قطعة دم جامد، فتنقلب النطفة بعد دخولها بويضة المرأة، ومرور أربعين يوماً، إلى علقة، بدون تخطيط ولا روح.
((ثم يكون مضغة مثله)) يعني: بعد تمام الأربعين الثانية تصير العلقة مضغة.
والمضغة: قطعة لحم على قدر ما يمضغ الإنسان في فمه، وفي هذا الدور يبدأ تخطيط خلقه.
فالحديث يدل على أن خلق الإنسان يتقلب في مِئَة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار، في كل أربعين يوماً منها يكون في طور، فهو في الأربعين الأولى نطفة، وفي الثانية علقة، وفي الثالثة مضغة، وبعد ذلك يأتيه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتابة رزقه وأجله، وشقاوته أو سعادته.
((ثم يبعث إليه الملك)) جاء في الحديث الذي رواه مسلم، عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وقال:((يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين، أو خمسة وأربعين ليلة، فيقول: يا رب، أشقي أو سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي: رب، أذكر أو أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، ورزقه، ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص)) (1) .
وفيه أيضاً عنه قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا مر بالنطفة اثنتان
(1)((مسلم)) (4/2037) رقم (2644) .
وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر، ولا ينقص)) (1) .
وقد يبدو أن هذا يخالف حديث عبد الله بن مسعود؛ لأن ظاهر حديث عبد الله – كما تقدم- أنه يبقى أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين أخرى علقة، ثم أربعين مضغة، ثم يبعث إليه الملك بعد الأربعين الثالثة.
قال ابن رجب: ((ظاهر حديث حذيفة يدل على أن تصوير الجنين، وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في الأربعين الثانية، فيلزم أن يكون في الأربعين الثانية لحماً وعظاماً، وهذا خلاف ظاهر حديث عبد الله، وظاهره أنه يصورها، ويخلق هذه الأجزاء كلها، وقد يكون خلق ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام، فلا يكون بين الحديثين اختلاف.
وتأول بعضهم على أن الملك يقسّم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء، فيجعل بعضها للجلد، وبعضها للحم، وبعضها للعظام، فيقدر ذلك كله قبل وجوده، وهذا خلاف ظاهر الحديث)) (2) .
قال ابن رجب: ((وقد ذكر علماء الطب ما يوافق الحديث، قالوا: إن المني إذا وقع في الرحم حصل له زبدة ورغوة ستة أيام، أو سبعة أيام، وفي هذه الأيام تصور النطفة من غير استمداد من الرحم (3) ، ثم بعد ذلك تستمد منه.
(1) المرجع المذكور.
(2)
شرح الأربعين (1/117-118) الطبعة السعدية.
(3)
تبين في الطب الحديث أن نطفة الرجل تحمل حيوانات منوية كثيرة جداً، وإذا صادف واحد من هذه الحيوانات بويضة المرأة يكون انعقاد التلقيح.
وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا بثلاثة أيام، وقد يتقدم ويتأخر يوماً، ثم بعد ستة أيام، وهو الخامس عشر من وقت العلوق، ينفذ الدم إلى الجميع، فيصير علقة، ثم تتميز الأعضاء تميزاً ظاهراً، ويتنحى بعضها عن مماسة بعض، وتمتد رطوبة النخاع، ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الأصابع [ويتميز] تميزاً يستبين في بعض، ويخفى في بعض.
قالوا: وأقل مدة يتصور فيها الذكر ثلاثون يوماً، والزمان المعتدل في تصوير الجنين خمسة وثلاثون يوماً، وقد يتصور في خمسة وأربعين يوماً، ولم يوجد في الإسقاط ذكر تم قبل ثلاثون يوماً، ولا أنثى قبل أربعين يوماً.
فهذا يوافق ما دل عليه حديث حذيفة في التخليق في الأربعين الثانية، ومصيره لحماً فيها أيضاً)) (1) .
وقال ابن القيم: ((إذا اشتمل الرحم على المني، ولم يقذف به إلى الخارج، استدار على نفسه وصار كالكرة، وأخذ بالشدة إلى تمام ستة أيام، فإذا اشتد نقط فيه نقطة في الوسط، وهو موضع القلب، ونقطة في أعلاه، وهي نقطة الدماغ، وفي اليمين، وهي نقطة الكبد، ثم تتباعد تلك النقط، ويظهر بينها خطوط حمر، إلى تمام ثلاثة أيام أخر، ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر، فيصير المجموع سبعة وعشرين يوماً، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنبين، وذلك في تسعة أيام، فتصير ستة وثلاثين يوماً، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهوراً بيناً في تمام أربعة أيام، فيصير المجموع أربعين يوماً تجمع خلقه.
وهذا مطابق لقوله – صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً)) واكتفى صلى الله عليه وسلم بهذا الإجمال عن التفصيل، وهذا يقتضي أن الله قد جمع
(1)((شرح الأربعين)) (1/118-119) الطبعة السعدية.
خلقه فيها جمعاً خفياً)) (1) .
وهذا الذي ذكره ابن رجب وشيخه ابن القيم – رحمهما الله تعالى – يكاد يكون متفقاً مع ما يقرره الأطباء حديثاً، وقد أصبحت الأجنة مشاهدة بواسطة آلات التصوير والمناظير، فصارت عند علماء الأجنة من الأطباء من الأمور الظاهرة، وعندهم التخليق يبدأ مبكراً من أيام الأربعين الأولى، وأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا تخالف الواقع، وإنما يأتي الغلط من عدم فهم مراده صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر خلق الإنسان في مواضع عديدة من القرآن، كما قال تعالى:{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (2)، وقال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3) وحديث عبد الله يتفق مع هذه الآية الكريمة.
ولدلالة خلق الإنسان على خالقه، وعظيم قدرته، وعلى إعادته بعد موته، وعلى وجوب عبادة الله وحده، أكثر الله – تعالى – من ذكره في كتابه، وأمر عباده بالاعتبار به.
والملك الذي يرسل إلى النطفة في الرحم خلقه الله لذلك، وجعل ذلك وظيفته، وقد جعل الله – تعالى – لملائكته أعمالاً يختص بها كل فريق منهم.
قوله: ((فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد)) .
(1)((التبيان)) (ص337) .
(2)
الآية 14 من سورة نوح.
(3)
الآيات 12 – 14 من سورة المؤمنون.
قال الحافظ: ((المراد بالكلمات: القضايا المقدرة، وكل قضية تسمى كلمة)) (1) .
وهذا هو الذي عناه العلماء بقولهم في هذا الحديث: وجوب الإيمان بالقدر، فكل ما سيجري على هذه النطفة التي ذكر تكوينها في أول بدايتها، مكتوب مفروغ منه، قبل وجودها، فما تأكله مكتوب مسجل، لا يزيد ولا ينقص، وما تعمله كذلك، وبقاؤها حية في هذه الدنيا كذلك، ونهايتها ومصيرها مسجل معلوم لله – تعالى -: فالسعادة والشقاوة قد سبق بهما الكتاب، غير أن ذلك مقدر بحسب الأعمال التي يعملها هذا المخلوق، ومرتب عليها، بمعنى أن الله علم ذلك فكتبه، وكل ميسر لما خلق له.
وهذا أصل عظيم من أصول الإسلام، لا يمكن أن يستقيم لأحد دينه إلا بالإيمان به، وهو محل الشاهد الذي ساقه البخاري من أجله، فقد سبقت كلمة الله لعباده السعداء بالسعادة قبل وجودهم، وذلك فضل من الله ورحمة تفضل عليهم بذلك.
وظاهر حديث عبد الله بن مسعود هذا أن الكتابة تكون بعد الأربعين الأخيرة، وحديث حذيفة بن أسيد ظاهر في أن الكتابة تكون بعد الأربعين الأولى.
قال ابن رجب: ((جمع بعضهم بينهما بأن الكتابة تكون مرتين، ثم قال: وقد يقال: إن إحداهما في السماء، والأخرى في بطن أمه.
والأظهر أنها مرة واحدة.
ولعل ذلك يختلف باختلاف الأجنة، فبعضهم يكتب له ذلك بعد الأربعين
(1)((الفتح)) (11/482) .
الأولى، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة)) (1) .
وقال ابن القيم: ((ما في حديث ابن مسعود تقدير ثان بعد التقدير الذي ذكره في حديث حذيفة، فأول تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق التي هي أول مراتب الإنسان.
والتقدير الثاني: تقدير عند كمال خلقه، ونفخ الروح، فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره، وهذا تقدير عند تمام خلقه وتصويره)) (2) .
قوله: ((ثم ينفخ فيه الروح)) في رواية لمسلم: ((ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات)) . قال الحافظ: ((ويجمع بأن هذه الرواية صريحة في تأخير النفخ؛ للتعبير بقوله: ((ثم)) ، والأخرى محتملة، فترد إلى الصريحة، ولأن قوله في رواية مسلم:((ويؤمر بأربع كلمات)) معطوفة بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب فيكون عطف جملة على جملة، والتقدير:((يجمع خلقه في هذه الأطوار، ويؤمر الملك بالكتابة)) ، وجاء قوله:((ينفخ فيه الروح)) متوسطاً بين الجمل)) (3) .
وقال ابن رجب: ((إما أن يكون هذا من تصرف الرواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه، وإما أن يكون المراد ترتيب الأخبار فقط، لا ترتيب ما أخبر به)) .
وعلى كل فحديث ابن مسعود يدل على تأخير نفخ الروح في الجنين وكتابة الملك [ما أمر به] إلى ما بعد أربعة أشهر، حتى تتم الأربعون الثالثة.
فأما نفخ الروح فقد روي صريحاً عن الصحابة – رضي الله عنهم – أنه
(1)((شرح الأربعين)) (1/129) .
(2)
((التبيان)) (ص345) .
(3)
((الفتح)) (11/485) بمعناه ملخصاً.
إنما ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود)) (1) .
وقال عياض: ((اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم تختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود في الشاهد، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام، وقيل: إنه الحكمة في عدة الوفاة)) (2) .
والحديث يدل صراحة أن الملك هو الذي ينفخ في الجنين الروح، التي تحصل بها الحياة، وتسري في الجسد، وهي سر من الله، لا يعلم حقيقتها إلا هو تعالى، كما قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (3) .
قوله: ((فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها)) .
هذا مما يدل على ما أراده البخاري – رحمه الله؛ لأن سبق الكتاب لما سيكون صريح في هذا النص، وهو دليل على كمال علم الله تعالى – وكمال قدرته، وإحاطته بكل شيء، فهو – تعالى – يعلم الأشياء قبل وجودها، وكتب كل ما هو كائن، فكل الحوادث تقع وفق علمه وكتابته.
فإذا وضعت النطفة التي يتكون منها الإنسان في رحم المرأة، وأراد - تعالى - تكوينها مخلوقاً أمر بكتابة ما يعمله هذا المخلوق، وما يكون له من رزق، وما سيلاقيه في حياته، وما يؤول إليه وينتهي، من سعادة أو شقاوة.
(1)((شرح الأربعين)) (1/123-124) .
(2)
من ((الفتح)) (11/485) .
(3)
الآية 85 من سورة الإسراء.
وهذه الكتابة غير كتابة المقادير السابقة لخلق الخلائق، المذكورة في مثل قوله تعالى:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا (1) } .
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم، عن عبد الله بن عمرو، قال:((إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) ونحو ذلك من النصوص. وليس في كتابة الله تعالى وتقديره كل شيء قبل وجوده منافاة لمشيئة الإنسان واختياره، كما يتوهمه بعض الناس.
لأن الله – تعالى – كتب علمه بما يعمله هذا المخلوق، وما يترتب على عمله، ولم يجبره على فعل المعاصي، بل نهاه عنها وزجره وحذره من فعلها، وتوعده على ذلك، وخلّى بينه وبين نفسه ليختار ما يريد من غير إكراه وإلزام.
والمقصود أن هذا يدل على سبق الرحمة من الله لأهل السعادة قبل وجودهم، حيث قدر ذلك وكتبه، تفضلاً منه وإحساناً، ثم هيأهم للعمل لذلك ويسره لهم، فيدخل ذلك في قوله تعالى:{وَلَقد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعبَادِنَا المُرسَلِينَ} .
ثم هذا يدل على أن الجزاء مرتب على العمل، فلا يدخل أحد الجنة إلا إذا عمل بعمل أهل الجنة، ولا يدخل أحد النار إلا إذا عمل بعمل أهل النار.
قال ابن رجب: ((فيه أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال، وأن كلاً ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب السعادة أو الشقاوة)) (2) .
(1) الآية 22 من سورة الحديد.
(2)
((شرح الأربعين)) (1/132) .
وفيه أن الإنسان قد يعمل بعمل أهل الجنة، وهو في الحقيقة من أهل النار، فلا بد أن يعمل بعمل أهل النار قبيل موته، فيختم له بذلك وبالعكس؛ لأن الكتاب سبق بذلك، والحقيقة أن الذي سبق هو علم الله بأنه سوف يكون كذلك، وقد كتب الله ذلك.
وهذا هو الذي أزعج كثيراً من السلف، وأقلقهم.
قال ابن رجب: ((بكى أحد الصحابة عند موته، فسئل عن ذلك؟ فقال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن الله – تعالى – قبض خلقه قبضتين، فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار)) ولا أدري في أي القبضتين كنت.
وقال بعض السلف: الذي أبكى العيون أشد البكاء هو الكتاب السابق)) .
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلاً عند الموت يلقن الشهادة: لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر.
فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.
وقال سفيان لبعض الصالحين: هل أبكاك قط علم الله فيك؟ فقال ذلك الرجل: تركتني لا أفرح أبداً.
وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق، والخواتيم، فكان يبكي، ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، ويبكي ويقول: أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت.
وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضاً على لحيته ويقول: يا رب، قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك؟
وقال حاتم الأصم: من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار، فهو مغتر، فلا يأمن الشقاء:
الأول: خطر يوم الميثاق حين قال: هؤلاء في الجنة، ولا أبالي، وهؤلاء في النار، ولا أبالي، فلا يعلم في أي الفريقين كان؟
والثاني: لما خلق في الظلمات الثلاث، حين نادى الملك بالشقاوة أو السعادة ولا يدري: أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟
والثالث: ذكر هول المطلع بعد الموت، فلا يدري: أيبشر برضاء الله، أم بسخطه؟
والرابع: يوم يصدر الناس أشتاتاً، فلا يدري مع أي الفريقين يسلك به؟
وقال سهل التستري: المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر.
وكان الصحابة – رضوان الله عليهم – ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه.
فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر.
وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في دعائه: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) فقيل له: يا نبي الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟
فقال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن – عز وجل – يقلبها كيف يشاء)) (1) .
وفي الجملة: فالخواتم ميراث السوابق، فكل شيء سبق في الكتاب السابق.
(1) أخرجه أحمد في المسند (3/122، 256) و (6/91، 315) ، والترمذي من حديث أنس وأم سلمة وعائشة، انظر الترمذي (5/538) .
وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتم، وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟)) (1) .
81 -
قال: ((حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عمر بن ذر، سمعت أبي يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا جبريل، ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟)) فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ لَهُ مَا بَينَ أَيدِيِنَا وَمَا خَلفَنَا وَمَا بَينَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّا} قال: كان الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم)) .
المقصود: أن كل شيء بتصريف الله وتدبيره، فلا أحد يملك معه شيئاً حتى يملكه هو ما يريد، فله الأمر من قبل وجود الخلق، ومن بعد وجودهم، وما بين ذلك، فلا يخرج من قبضته شيء، فإذا وقع في خلقه خير وفضل فبرحمته التي سبقت منه لهم، وإن وقع غير ذلك، فبعدله وسبب ذنوب خلقه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وأمره تعالى غير خلقه وأفعاله، فلهذا قال:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} فالتنزيل فعل جبريل، ولا يقع إلا بأمر الله - تعالى -، فأمره تعالى سابق خلقه وما يفعلونه.
ذكر ابن جرير عن الضحاك في قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} قال: احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى تكلم المشركون في ذلك، واشتد ذلك على نبي الله، فأتاه جبريل، فقال: اشتد عليك احتباسنا عنك، وتكلم في ذلك المشركون، وإنما أنا عبد الله ورسوله، إذا أمرني بأمر أطعته، {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} أي: بقول ربك، {لَهُ مَا بَينَ أَيدِيِنَا وَمَا خَلفَنَا} معناه: له ما بين أيدينا من أمر الآخرة؛ لأن ذلك لم يجيء [وهو
(1)((شرح الأربعين)) (1/137-139) .
آت] ، فهو بين أيديهم، وما خلفنا من أمر الدنيا، وذلك ما قد خلفوه فمضى، فصار خلفهم بتخليفهم إياه، وما بين ذلك ما لم يمض من أمر الدنيا إلى الآخرة)) (1) .
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّا} أي: أنه تعالى علم كل شيء، فلا يخفى عليه شيء، ولا يغيب عنه صغير أو كبير، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أكبر من ذلك ولا أصغر إلا في كتاب مبين، قد كتبه قبل وجود خلقه لا من خشية نسيان أو فوات.
ووجه الاستشهاد بهذا الحديث: أن الأمر الذي قال جبريل عنه: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} يدخل فيه الأمر الكوني القدري الذي سبق كل ما هو كائن، والأمر الشرعي التكليفي، ونزول جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بالخير والبركة والنصر والتأييد للمؤمنين، فهو مما سبقت به كلمته تعالى لرسوله ومن معه، والله أعلم.
قال البخاري في كتابه ((خلق أفعال العباد)) : ((قال الله عز وجل عن جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} فبين أن التنزيل غير الأمر)) (2) . وتقدم أن أمر الله سابق لخلقه.
82 -
قال: ((حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، وهو متكئ على عسيب، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، فسألوه، فقام متوكئاً على العسيب، وأنا خلفه، فظننت
(1)((تفسير الطبري)) (16/401-405) ببعض التصرف.
(2)
(ص183) تحقيق بدر البدر.
أنه يوحى إليه، فقال:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} ، فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه)) .
قال ابن جرير: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يعني: أنه من الأمر الذي يعلمه الله دونكم، فلا تعلمونه، ويعلم ما هو.
{وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} خرج الكلام خطاباً لمن خوطب به، والمراد: جميع الخلق؛ لأن علم كل أحد سوى الله - تعالى - وإن كثر، فهو في علم الله - تعالى - قليل، والمعنى: وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا قليلاً من كثير مما يعلم الله)) (1) .
قوله: ((في حرث بالمدينة)) في رواية لابن مردويه: ((في حرث للأنصار)) ، وعند مسلم:((كان في نخل)) وكل هذه الألفاظ تؤكد أن هذه الواقعة كانت في المدينة، ومعلوم أن سورة الإسراء مكية، فإما أن يقال: إن هذه الآية مدنية، وهو الأوجه، فكثير من السور المكية يكون فيها آيات مدنية، أو يقال: إنها نزلت مرتين للتأكيد، كما قيل في الفاتحة، وغيرها.
وأما كونه صلى الله عليه وسلم -لم يجبهم بها من أول وهلة، فلعله كان ينتظر الأمر يأتيه من الله، إما بزيادة أو بغير ذلك. والله أعلم.
قوله: ((وهو متكئ على عسيب)) أي: معتمد عليه وهو يمشي، والعسيب بوزن عظيم، هو جريد النخل، بمنزلة الغصن من الشجرة، ويسمى عسيباً إذا كان فيه خوصة، فإذا أزيل فهو جريدة.
قوله: ((فظننت أنه يوحى إليه)) ، في الرواية الأخرى: ((فعلمت أنه يوحى
(1)((تفسير الطبري)) (15/157) .
إليه)) وقد يستعمل الظن بمعنى العلم.
قال ابن كثير: ((قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم، ولهذا قال:{وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى.
والمعنى: أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه - تعالى -.
وقد اختلف في الروح المسؤول عنها هنا، فقيل، المراد: أرواح بني آدم، قال العوفي: عن ابن عباس في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن الروح، وكيف تعذب الروح التي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ ولم يكن نزل فيه شيء فلم يحر إليهم جواباً، فأتاه جبريل، فقال له:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالوا: من جاءك بهذا؟ فقال: ((جاءني به جبريل من عند الله)) .
وقيل: المراد هنا: جبريل عليه السلام، قاله قتادة.
وقيل: المراد: ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها، قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس: قوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} يقول: الروح: ملك عظيم.
وقيل: المراد طائفة من الملائكة)) (1) .
(1)((تفسير ابن كثير)) (5/112-113) طبعة الشعب.
وقال الحافظ: ((قال الأكثر: سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد، وقال أهل النظر: سألوه عن كيفية مسلك الروح في البدن، وامتزاجه به، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه.
وقال القرطبي: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان؛ لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح.
وقال الرازي: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه.
وبيانه: أن السؤال عن الروح يحتمل أن يكون عن ماهيته، أو عن صفته، أو كيفية تعلقه بالبدن، أو غير ذلك، وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء)) (1) .
وقال ابن القيم: ((في المراد بالروح في هذه الآية خلاف بين السلف والخلف.
وأكثر السلف، بل كلهم، على أن الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم، بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة، وهو ملك عظيم)) (2) .
قال الحافظ: ((الراجح أنها روح الإنسان)) . وهذا هو الظاهر، أن المراد: الروح الذي تحصل به الحياة، وهو ما ذهب إليه أكثر المفسرين من المتأخرين وشراح الحديث.
وأما قول ابن القيم رحمه الله: ((ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف
(1)((الفتح)) (8/402) بتصرف.
(2)
((الروح)) (ص237) .
إلا بالوحي، وذلك هو الروح الذي عند الله، لا يعلمها الناس، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب، وقد تكلم فيها طوائف من الناس، من أهل الملل وغيرهم، فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة)) (1) .
فيقال: بل الروح من الغيب الذي لا يعلمه الناس، فإن هذه الروح التي في بني آدم وإن تكلم فيها طوائف من الناس فهي مجهولة الحقيقة، لا يعلمها إلا الله، والذين تكلموا فيها تكلموا بالظنون، ولم يصلوا إلى معرفة شيء من حقيقتها.
((قال بعض السلف في تفسيرها: جرى بأمر الله في أجساد الخلق، وبقدرته استقر، وهذا بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان)) (2) .
((قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} من المعلوم قطعاً أنه ليس المراد بالأمر ها هنا الطلب الذي هو أحد أنواع الكلام، فيكون المعنى: إن الروح كلامه الذي يأمر به، بل المراد بالأمر هنا: المأمور، وهو عرف مستعمل في لغة العرب، وفي القرآن منه كثير، كقوله تعالى: {أَتَى أَمرُ اللهِ فَلَا تَستَعجِلُوهُ} أي: مأموره الذين قدره وقضاه، وقال له: كن، فيكون، وقوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ} (3)، أي: مأموره الذي أمر به، من إهلاكهم)) (4) .
ومقصود البخاري من الحديث: قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يعني: أنها كانت ووجدت بأمر الله، فأمر الله ليس هو الروح، وإنما وجدت الروح
(1)((الروح)) (ص237) .
(2)
المرجع السابق.
(3)
الآية 101 من سورة هود.
(4)
المرجع المذكور.
بأمره، وهو سابق لما وجد به.
83 -
قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته، بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، مع ما نال من أجر أو غنيمة)) .
((تكفل)) معناه: ضمن له حصول ما ذكره، فلا يمكن فواته؛ لأن الله - تعالى - إذا ضمن شيئاً فلا بد من حصوله لمن ضمنه له.
وفي رواية: بدل ((تكفل)) : ((انتدب الله لمن خرج)) ومعناه: سارع بثوابه وحسن جزائه، وقيل: أجاب إلى المراد، ففي الصحاح: ندبت فلاناً فانتدب، أي: أجاب إليه، وقيل: معناه: تكفل بالمطلوب، ويدل عليه رواية ((تكفل)) (1) .
قلت: المعنى الأخير هو الصواب، والمعنيان الأولان يدخلان فيه، وقد جاء في رواية مسلم ((تضمن الله لمن خرج في سبيله)) ، والمعنى واحد.
وهذا من باب التأكيد، وإلا فوعد الله لابد من وقوعه، فإن الله لا يخلف وعده، والتكفل: وعد وزيادة تأكيد لوقوعه بالضمان.
قوله: ((لمن جاهد في سبيله)) الجهاد، والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، فهو بذل للجهد بالنفس والمال.
قال الراغب: ((الجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله - تعالى - {وَجَاهِدُوا
(1)((الفتح)) (1/93) .
فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (1){وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} (2) و {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} ِ (3) .
والمجاهدة تكون باليد، واللسان)) (4)
وقال الحافظ: ((الجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة، يقال: جهدت جهاداً: بلغت المشقة. وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس، والشيطان، والفساق.
فأما مجاهدة النفس؛ فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها.
وأما مجاهدة الشيطان؛ فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات.
وأما مجاهدة الكفار؛ فيقع باليد، والمال، واللسان، والقلب.
وأما مجاهدة الفساق؛ فباليد، ثم اللسان، ثم القلب)) (5) .
((سبيل الله)) : طريقه الذي شرعه لعباده المؤمنين، وهو دينه وشرعه.
قوله: ((لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته)) أي: ليس له أي دافع غير ذلك، بل الجهاد في سبيل الله، والإيمان بوعده للمجاهدين في سبيله هو الحامل له على الخروج، وهذا هو الإخلاص لله - تعالى - في الجهاد،
(1) الآية 78 من سورة الحج.
(2)
الآية 41 من سورة التوبة.
(3)
الآية 72 من سورة الأنفال.
(4)
((المفردات)) (ص101) .
(5)
((الفتح)) (6/3) .
والإخلاص هو الذي يجعل العمل القليل كثيراً عظيماً، مع أنه شرط في قبول العمل.
والتصديق بكلمات الله - تعالى - يشمل الإيمان بكلماته الأمرية الشرعية والعمل بها، والإيمان بكلماته الكونية القدرية، وهي التي سبقت بتقدير الأشياء كلها قبل وجودها.
وهذه الجملة هي المقصودة من الحديث هنا؛ لهذا المعنى المذكور.
قوله: ((بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة)) هذا هو الذي كفله الله لمن يخرج مجاهداً في سبيله.
وسبيل الله - تعالى - هو الجهاد لإعلاء كلمته التي هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أي: عبادة الله وحده، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يحكم إلا بشرعه، ولا يتعبد إلا بما جاء به رسوله.
فهذا هو غاية المجاهد في سبيل الله، فمن خرج مجاهداً لهذا الغرض، فإن قتل أو مات في مخرجه ذلك فهو في الجنة، وإن فاته ذلك فلا بد أن يصل إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من الأجر، والغنيمة، فهو متحصل على إحدى الحسنيين على كل تقدير، وهذا هو الربح.
****
84-
((حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي موسى، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟
قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) .
الحمية: مأخوذة من الحم: وهو الحرارة المتولدة من الجواهر المتوقدة، كالنار والشمس.
وعبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية.
وإذا كانت من أجل الباطل، ومدافعة الحق، فهي حمية الجاهلية.
والمقصود بالحمية هنا: القتال لأجل القومية، أو الدنيا من أرض أو ملك أو غير ذلك، لا لأجل إعلاء دين الله - تعالى -.
وأما الشجاعة: فهي الجرأة والإقدام على العدو بقوة، ودون تهيب، وهي من الصفات المحمودة، إذا كانت في الحق، وهي من المفاخر التي يفتخر بها الناس، فقد يقدم المرء على القتال لأجل إظهار شجاعته وحبه للقتال فقط.
وأما الرياء، فهو: مراءاة الناس للأعمال الحسنة، حتى يثنى عليه أو يحبوه ونحو ذلك، وهذا كله من الشرك، فقد يكون شركاً أكبر، وقد يكون أصغر، على حسب الدافع وما يقوم بالنفس.
وقوله: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) جواب جامع شامل لما ذكر في السؤال وغيره من الأغراض والدوافع التي قد تدفع الإنسان إلى القتال، فمن كان قصده في قتاله: رفع دين الله وإعزازه، وأن لا يعبد معه غيره، ولا يحكم إلا بشرعه، فهو في سبيل الله، وإلا فليس في سبيل الله.
والمقصود من الحديث قوله: ((لتكون كلمة الله هي العليا)) والذي يقاتل لذلك هو الذي سبقت له كلمة الله الكونية أنه من المنصورين؛ لأنه من أتباع المرسلين، فهو منهم في هذا الحكم، وهذا وجه الشاهد، والله أعلم.
****
قال: ((باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَولُنَا لِشَيءٍ} .
قال ابن كثير: ((أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء، وإنما إذا أمر به مرة واحدة كان من غير تأكيد فيما يأمر به، فإنه تعالى
لا يمانع ولا يخالف)) (1) .
قال ابن بطال: ((غرضه الرد على المعتزلة، في زعمهم أن أمر الله مخلوق، فبين أن الأمر هو قوله للشيء ((كن)) فيكون بأمره له، وأن أمره وقوله بمعنى واحد، وأنه يقول:((كن)) حقيقة، وأن الأمر غير الخلق، لعطفه عليه بالواو)) (2) .
وقال الحافظ: ((قال ابن أبي حاتم في كتاب ((الرد على الجهمية)) :
حدثنا أبي قال: قال أحمد بن حنبل: دل على أن القرآن غير مخلوق حديث عبادة ((أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب)) الحديث، وإنما نطق القلم بكلامه؛ لقوله:{إِنَّمَا قَولُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، فكلام الله سابق على أول خلقه، فهو غير مخلوق.
وعن الربيع بن سليمان، سمعت البويطي يقول: خلق الله الخلق بقوله: ((كن)) فلو كان ((كن)) مخلوقاً، لكان قد خلق الخلق بمخلوق، وليس كذلك)) (3) .
وقال البخاري: ((قال سفيان: إن كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق، وكلامه أعظم من خلقه؛ لأنه يقول للشيء: ((كن)) فيكون، فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق، والقرآن كلام الله)) (4) .
وقال: ((وقيل لأبي عبيد: إن المريسي سئل عن ابتداء خلق الأشياء، وعن قول الله عز وجل: {إِنَّمَا قَولُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن
(1)((تفسير ابن كثير)) ملخصاً (4/490-491) .
(2)
من ((الفتح)) (13/443) .
(3)
((الفتح)) (13/444) .
(4)
خلق أفعال العباد)) (ص34.)
(4)
وقال ابن عطية: ((من الدليل على أن القرآن غير مخلوق: أن الله - تعالى - ذكر القرآن في كتابه العزيز في أربعة وخمسين موضعاً، ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق، ولا أشار إليه، وذكر الإنسان على الثلث من ذلك، في ثمانية عشر موضعاً، كلها نصت على خلقه، وقد افترق ذكرهما على هذا النحو في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الإِنسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
فَيَكُونُ} فقال: كله صلة (1)، فمعنى قوله:{أَن نَّقُولَ} صلة، كقوله: قالت السماء فأمطرت، وكقوله: قال الجدار فمال، قال الله - تعالى -:{جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} (2) ، والجدار لا إرادة له، فمعنى قوله: إذا أردناه: كوناه، فكان.
لم يكن عند المريسي جواب أكثر من هذا، يعني: أن الله - تعالى - لا يتكلم.
قال أبو عبيد، القاسم بن سلام: أما تشبيه قول الله - تعالى -: {إِذَا أَرَدنَاهُ} ، بقوله: قالت السماء فأمطرت، أو: قال الجدار فمال.
فإنه لا يشبهه، وهذه أغلوطة أدخلها؛ لأنك إذا قلت: قالت السماء، ثم سكت، لم يدر ما معنى ((قالت)) ، حتى تقول: فأمطرت.
وكذلك إذا قلت: أراد الجدار، ثم لم تبين ما معنى: أراد، لم يدر ما معناه، وإذا قلت:((قال الله)) اكتفيت بقوله ((قال)) . فـ ((قال)) كافٍ، لا يحتاج إلى شيء يستدل به على ((قال)) ، كما احتجت، ((إذا قال الجدار فمال)) ، وإلا لم يكن لقال الجدار معنى.
ومن قال هذا فليس شيء من الكفر إلا وهو دونه.
ومن قال هذا، فقد قال على الله ما لم يقله اليهود، والنصارى، ومذهبه التعطيل للخالق)) (3) .
يعني: أن القول إذا أسند إلى ما لا يعقل فلا بد أن يقيد بالفعل الذي يصدر من ذلك المسند إليه؛ لأن القول عبارة عن ذلك الفعل.
(1) يعني: زائداً ليس له معنى.
(2)
الآية 77 من سورة الكهف.
(3)
((خلق أفعال العباد)) (ص35) .
فالمراد بقوله: قال الجدار فمال: الإخبار على ميل الجدار، وقوله حسب ما يليق به، أما إذا أسند القول إلى من يتكلم حقيقة فلا يحتاج إلى أي قيد، بل إذا قلت: قال أبو بكر، فهم السامع أنه نطق بكلام ينتظر أن نذكره له.
وأراد البخاري أن يبين أن القول غير الشيء الذي أراد الله إيجاده، فالقول صفة لله - تعالى -، وبه يوجد الأشياء التي يريد وجودها، فإذا قال لها:((كوني)) كانت بلا مهلة ولا امتناع، والقول والأمر سواء.
***
85 -
قال: ((حدثنا شهاب بن عباد، حدثنا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس، حتى يأتيهم أمر الله)) .
في رواية مسلم عن المغيرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)) (1) .
وفيه عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) (2) .
وفيه أيضاً من حديث جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة)) (3) .
قوله: ((لا يزال من أمتي قوم ظاهرين)) أي: يستمرون في الظهور على
(1)((صحيح مسلم)) (3/1523) رقم (1921) .
(2)
المرجع المذكور رقم (1920) .
(3)
((صحيح مسلم)) (3/1524) رقم (1923) .
الناس، يعني: أنهم يكونون على الحق منصورين ظاهرين على عدوهم.
قوله: ((حتى يأتيهم أمر الله)) أي: حكمه وقضاؤه، إما بقيام الساعة كما في حديث جابر:((إلى يوم القيامة)) ، أو بالريح التي يموتون منها، كما جاء في الحديث.
قال الحافظ: ((أي: غالبون من خالفهم، أو المراد بالظهور: أنهم غير مستترين، بل مشهورون، والأول أولى؛ لما في مسلم: ((لن يبرح هذا الدين قائماً تقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة)) ، وفيه أيضاً من حديث عقبة بن عامر:((لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة)) (1)، والمراد بالساعة: الريح التي تقبض روح كل مؤمن، وذلك قبيل الساعة، فلا يبقى إلا شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة، وهذا معنى الذي في مسلم:((لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)) .
وهذه الطائفة هم أتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه الله: ((هؤلاء هم أهل العلم)) (2) أي: العلم الشرعي، الذين علموا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وعملوا به.
وقال الترمذي بعد روايته لهذا الحديث: ((سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي بن المديني يقول: هم أصحاب الحديث)) (3) .
وقال الحاكم: سمعت أبا عبد الله، محمد بن علي بن عبد الحميد الأدمي بمكة يقول:
(1)((صحيح مسلم)) (3/1524 - 1525) رقم (1922، 1924) .
(2)
انظر ((الفتح)) (13/393) .
(3)
انظر ((سنن الترمذي)) (4/504 - 505) رقم (2229) .
سمعت موسى بن هارون، يقول: سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن معنى هذا الحديث، فقال:((إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم)) وهذا إسناد صحيح، قال الحاكم:((فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر، أن الطائفة المنصورة، التي يرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة، هم أصحاب الحديث)) (1) .
والمقصود من هذا الحديث قوله: ((حتى يأتيهم أمر الله)) وهو أمره الكوني القدري الذي قضاه، وكتبه قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فأوحاه الله إلى رسوله ليعلم أمته به فيؤمنوا به، ويصدقوه، فإذا وصل وقته قال الله - تعالى -: كن، فيكون كما أراد.
ومراد البخاري أن أمر الله من صفاته، فهو غير المخلوق، وغير المأمور، وهو مرادف للقول.
******
86 -
قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جابر، حدثني عمير بن هانئ، أنه سمع معاوية، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من كذبهم، ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) .
فقال مالك بن يخامر: سمعت معاذاً يقول: وهم بالشام، فقال معاوية:((هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول: وهم بالشام)) .
((الأمة)) تطلق على الجماعة من الناس، كما قال تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} (2)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا
(1)((علوم الحديث)) (ص3) .
(2)
الآية 23 من سورة القصص.
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً (1) } .
فالأمة: كل جماعة يجمعهم أمر من الأمور؛ إما دين، أو زمان، أو مكان.
ويراد بها الملة والدين، كما في قوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} (2) .
ويراد بها الطائفة من الزمان، كما في قوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعدَ أُمَّةٍ} (3)، أي: بعد حين.
ويراد بها: الإمام القدوة المتبع، كما في قوله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا} (4) . والمقصود أن جماعة من هذه الأمة تبقى ظاهرة على دين الله، منصورة إلى قيام الساعة، وهذا من فضل الله - تعالى - أن جعل الحق باقياً، لا يذهب ولا يضمحل وإن كثر محاربوه وأعداؤه، كما هو الواقع، والحمد لله على ذلك.
قوله: ((لا يضرهم من كذبهم، ولا من خذلهم)) هذا من نصر الله - تعالى -، وتأييده لهذا الدين، ومن آياته: بقاء هذه الأمة ظاهرة، منصورة على عدوها، مع كثرة الأعداء، ومحارتهم لها بأنواع الأسلحة المادية والمعنوية، ومع خذلان من هم على دينها من المسلمين.
فقوله: ((من كذبهم)) يقصد بهم: الكفار من جميع الأجناس، من ملاحدة، ويهود، ونصارى، ومشركين، ومرتدين، وغيرهم.
وقوله: ((ولا من خذلهم)) يقصد بهم: من قعد عن نصرتهم ممن هو على
(1) الآية 36 من سورة النحل.
(2)
الآية 23 من سورة الزخرف.
(3)
الآية 45 من سورة الزخرف.
(4)
الآية 120 من سورة النحل.
دينهم ممن آثر الحياة الدنيا، وركن إلى الدعة والراحة.
قال النووي: ((المراد بقوله: ((حتى يأتي أمر الله)) : الريح التي تأخذ كل مؤمن ومؤمنة، ورواية ((حتى تقوم الساعة)) أو ((إلى يوم القيامة)) ، يعني: قربها، وهو خروج تلك الريح.
وأما هذه الطائفة فقال البخاري: هم أهل العلم.
وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث، فلا أدري من هم.
وقال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السُّنَّة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث.
قلت: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف، وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض.
وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة، فإن هذا الوصف ما زال - بحمد الله تعالى - من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور، وفيه دليل لكون الإجماع حجة)) (1) .
وروى مسلم في ((الصحيح)) من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق، حتى تقوم الساعة)) (2) .
قال النووي: ((قال علي بن المديني: هم العرب، والمراد بالغرب: الدلو
(1)((شرح مسلم)) (13/66-67) .
(2)
((مسلم)) (3/1525) رقم (1925) .
الكبيرة، وهي خاصة بهم.
وقال آخرون: المراد الغرب من الأرض. وقال القاضي عياض: المراد بأهل الغرب: أهل الشدة والجلد)) (1) .
قال الحافظ: ((ذكر يعقوب بن شيبة، عن علي بن المديني، قال: المراد بالغرب: الدلو، أي: العرب؛ لأنهم أصحابها، لا يستقي بها أحد غيرهم.
لكن في حديث معاذ: ((وهم أهل الشام)) ، فالظاهر أن المراد بالغرب: البلد؛ لأن الشام غرب الحجاز، كذا قال، وليس بواضح (2) .
ووقع في بعض طرق الحديث ((المغرب)) وهو يرد التأويل، ولكن يحتمل أن يكون بعض الرواة نقله بالمعنى الذي فهمه.
وقيل: هم أهل القوة، والاجتهاد.
ووقع في حديث أبي أمامة، عند أحمد أنهم بيت المقدس (3) ، وعند الطبراني ونحوه، وله أيضاً في الأوسط، عن أبي هريرة:((يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس، وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين إلى يوم القيامة)) .
قلت: ويمكن الجمع بأن المراد: قوم يكونون ببيت المقدس، وهي: من الشام، ويسقون بالغرب، وتكون لهم قوة في جهاد العدو)) .
ثم ذكر كلام النووي المتقدم، ثم قال: ((ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل
(1)((الفتح)) (13/295) ملخصاً.
(2)
يعني: أن الشام ليست غرب الحجاز، وإنما هي شماله كما هو معلوم.
(3)
في ((المسند)) عن أبي أماةه، قال: لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((عليكم بالشام)) ((المسند)) (5/249) ، فلعل الحافظ لديه نسخة فيها ما ليس في المطبوعة، فإن فيها سقطاً.
يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم، أولا، فأولاً، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله)) (1) .
وقوله: ((فإذا انقرضوا جاء أمر الله)) هذا خلاف ظاهر الحديث، فإن أمر الله يأتي عليهم.
والمقصود من الحديث قوله: ((حتى يأتي أمر الله)) أي: الأمر الذي يكون بقوله: ((كن)) فأمره هنا مأموره، الصادر عن قوله، فقوله الذي هو ((كن)) يصدر عنه ذلك الأمر الآتي، والفرق بينهما واضح، فإن قوله صفة له لا يدخل في المخلوقات، وأما مأموره كالريح التي تقبض كل مؤمن ومؤمنة، والساعة التي هي النفخ في الصور، فإن ذلك مأموره، والله أعلم.
*****
87 -
قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن عبد الله بن أبي حسين، حدثنا نافع بن جبير، عن ابن عباس، قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على مسيلمة في أصحابه، فقال: ((لو
(1)((الفتح)) (13/295) .
سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله)) .
ذكر هذا الحديث في علامات النبوة، وفي المغازي، بأبسط مما ها هنا، ولفظه:((عن ابن عباس، قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته، وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: ((لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أُريت، وهذا ثابت يجيبك عني)) ثم انصرف عنه.
قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإني لأراك الذي أُريت فيه ما أُريت)) فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحى إليَّ في المنام أن أنفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، أحدهما العنسي، والآخر مسيلمة)) (1) .
وهذا كان في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في سنة عشر من الهجرة، وكان مسيلمة مع وفد قومه بني حنيفة.
قال الواقدي: كانوا بضعة عشر رجلاً، وكان معهم الرحال بن عنفوة، ومسيلمة بن حبيب الكذاب، وكان في رحالهم، فلما أسلموا وأعطاهم جائزتهم، ذكروا له أن مسيلمة في رحالهم، فقال:((أما إنه ليس بشَرَّكُمْ مكاناً)) يعني: لكونه بقي يرصد رحالهم، ويخدمهم في ذلك.
فأخبروه بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلق بهذه الكلمة، وقال: إنما قال ذلك؛ لأنه عرف أن الأمر لي من بعده. واشتدت فتنته لما شهد له الرحال، بأنه شريك في النبوة، وقد كان تعلم شيئاً من القرآن، فكان يلقي على مسيلمة مما يحفظه من القرآن، فيدعي مسيلمة أنه أوحي إليه، فعظمت بذلك فتنته)) (2) .
هذا خلاصة ما ذكره المؤرخون، عن ابن إسحاق وغيره.
قال الحافظ: ((وسياق ما ذكره البخاري يخالف ما ذكره ابن إسحاق:
(1)((البخاري)) (5/140) .
(2)
((البداية والنهاية)) (5/59) .
أنه قدم مع وفد قومه، وأنهم تركوه في رحالهم يحفظها لهم، وذكروه له إلى آخر ما ذكره، وهذا - مع شذوذه - ضعيف السند؛ لانقطاعه.
وأمر مسيلمة كان عند قومه أكبر من ذلك، فقد كان يقال له: رحمان اليمامة؛ لعظم قدره عندهم.
وكيف يلتئم هذا الخبر الضعيف مع قوله - في هذا الحديث الصحيح - إن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع به، وخاطبه، وصرح له بحضرة قومه أنه لو سأله قطعة الجريد التي كانت بيده ما أعطاه إياها؟
ويحتمل أن مسيلمة قدم مرتين، الأولى كان تابعاً، والرئيس غيره، ولهذا أقام في رحالهم يحفظها، ومرة متبوعاً، وفيها خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم، أو القصة واحدة، وكان تخلفه في رحلهم أنفةً منه واستكباراً)) (1) ، والظاهر أنها مرة واحدة، والمعتمد ما ثبت في ((الصحيحين)) ، كما ذكر في هذا الحديث.
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن قصده الرئاسة والعلو، وأنه ليس أهلاً لما يطمع فيه، وأن ذلك يخالف ما جاء به صلى الله عليه وسلم، فلم يأت لتأسيس حكم يورث من بعده، وإنما جاء بالنبوة، كما أخبر أن خلافة النبوة بعده تكون ثلاثون سنة ثم يكون ملكاً)) (2) .
ولهذا قال له: لو سألتني هذه القطعة من الجريد التي لا تساوي شيئاً لم أعطكها؛ لأنها خير منك، ولأنك ليس لك من الأمر شيء ولا تستحق، وما أنت بأهل لذلك.
قوله: (ولن تعدو أمر الله فيك)) يعني: حكمه وقضاءه، من شقاوتك التي حكم بها عليك قبل وجودك، وأمر الله هنا هو أمره الكوني القدري
(1)((الفتح)) (8/89-90) .
(2)
انظر ((المسند)) (5/44) ، و ((سنن أبي داود)) رقم (4635) .
وهذه الجملة هي المقصود من الحديث كما مر التنبيه على ذلك.
قوله: ((لئن أدبرت ليعقرنك الله)) أي: أعرضت عن الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك لا تعجز الله، فسوف يأخذك أخذ عزيز مقتدر، وقد فعل، فقتل شر قتلة، فقطع دابر القوم الذين لا يؤمنون، والحمد لله رب العالمين.
****
88 -
قال: ((حدثنا موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، عن ابن مسعود، قال: بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض حرث المدينة، وهو يتوكأ على عسيب معه، فمررنا على نفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه؛ أن يجيء فيه بشيء تكرهونه.
فقال بعضهم: لنسألنه، فقام إليه رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه يوحى إليه.
فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} قال الأعمش: ((هكذا في قراءتنا)) .
تقدم أن هذه الواقعة كانت في المدينة، وفي هذه الرواية نص على ذلك، وفي هذا دليل على أن اليهود يعلمون أنه نبي؛ لعلمهم أن الروح لا يعلم حقيقتها إلا الله، ولأنهم قالوا: لا تسألوه أن يجيء فيه بشيء تكرهونه، وهذا لا يأتي إلا بالوحي، والذي منعهم من متابعته: الحسد والبغي والكبر والعناد، وقد تقدم شرح هذا الحديث.
والمقصود هنا قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: مأموره الذي قال له: كن، فيكون، فهو تعالى أوجد الأرواح بقوله، فقوله غير الذي أوجده به، كما تقدم إيضاح ذلك.
*****
قال: ((باب قول الله - تعالى -: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1) .
هذه ثلاث آيات، أما الأولى والثانية فمعناهما واحد.
قال الحافظ: ((جاء في سبب نزولها ماأخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن ابن عباس، في قصة سؤال اليهود عن الروح، ونزول قوله تعالى -:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} . قالوا: كيف وقد أوتينا التوراة؟
فنزلت: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية.
وأخرج عبد الرزاق في تفسيره من طريق أبي الجوزاء، قال لو كان كل شجرة في الأرض أقلاماً، والبحر مداد، لنفد الماء، وتكسرت الأقلام قبل أن تنفد كلمات الله.
(1) الآية 109 من سورة الكهف.
(2)
الآية 27 من سورة لقمان.
(3)
الآية 54 من سورة الأعراف.
وعن معمر، عن قتادة، أن المشركين قالوا في القرآن: يوشك أن ينفد، فنزلت)) (1) .
وقال ابن جرير: ((يقول - عز ذكره - لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} للقلم الذي يكتب به كلمات ربي، لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً. يقول: ولو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء مدداً، من قولك: جئتك مدداً لك)) (2) .
وقال في تفسير آية لقمان: ((يقول تعالى ذكره: لو أن شجر الأرض كلها، بريت أقلاماً: والبحر يمده)) يقول: والبحر له مداد، والهاء في قوله ((يمده)) عائدة على البحر، وقوله:((من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله)) في هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة الظاهر عليه عنه، وهو يكتب كلامه بتلك الأقلام، وبذلك المداد، لتكسرت تلك الأقلام، ولنفد ذلك المداد، ولم تنفد كلمات الله)) (3) .
وقال ابن كثير: ((يقول تعالى - مخبراً عن عظمته، وكبريائه، وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد -:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} أي: ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً، وجعل البحر مداداً، ومده سبعة أبحر معه، فكتب بها كلمات الله، لتكسرت الأقلام، ونفد ماء البحر، ولو جاء أمثالها مدداً، وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر، ولا أن هناك سبعة أبحر تحيط بالأرض.
فليس المراد بقوله: ((بمثله)) آخر فقط، بل بمثله، ثم بمثله، ثم بمثله، ثم
(1)((الفتح)) (13/445) .
(2)
((تفسير الطبري)) (16/39) .
(3)
المصدر السابق (21/80-81) .
هلم جرّاً؛ لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته)) (1) .
ففي هاتين الآيتين أكبر دليل على أن كلام الله غير مخلوق، وأنه من صفاته، إذ المخلوق لا بد أن يكون له نهاية ونفاد، فإنه مسبوق بالعدم فلا بد أن يلحقه العدم.
أما كلام الله - تعالى - فلا نهاية له، ولا نفاد، وقد قرب تعالى إلى أفهام المخاطبين بما ضرب من المثل بما ذكر من كون البحار كلها ويزاد معها مثلها مرات كثيرة، وكون جميع ما وجد على وجه الأرض من عود أقلاماً يكتب بها كلامه تعالى لنفد البحر، وأمسحت الأقلام، وكلمات الله كما هي لم تنقص.
وليس معنى قوله: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} أن كلمات الله لها نهاية، وأنها يمكن أن تنفد، بل المعنى أنها لا نهاية لها أبداً؛ لأنها من صفاته تعالى.
وليس هذا وصف المخلوق، وهذا وجه استدلال البخاري بهاتين الآيتين. ومراده الرد على القائلين بخلق كلم الله - تعالى -.
كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} الآية. ففيها يعلم تعالى عن عباده بأنه ربهم ومالكهم، المتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يصلح لهم حياتهم ويربيهم بنعمه الظاهرة والباطنة. وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وقد جاء بيانها في السنة أن أولها الأحد وآخرها يوم الجمعة، وأنه بعد خلقه السماوات والأرض استوى على عرشه، وهو السرير العظيم، وهو سقف المخلوقات، وقد تقدم الكلام فيه.
(1)((تفسير ابن كثير)) (6/351) .
ويعلمهم - تعال - أنه يدخل الليل في النهار والنهار في الليل، أي يجعل أول هذا متصلاً بآخر هذا.
وأما قوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل ِ} (1) فكل واحد يطلب الثاني، أي: يتبعه ((حثيثاً)) أي: سريعاً.
ويعلمهم أن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، أي: منقادة طائعة لأمره، فجميع الكون بما فيه يسير حسب مشيئته، فالخلق والأمر له وحده.
وفسر البخاري كلمة ((مسخر)) بأنه مذلل، أي: هي خاضعة له منقادة لأمره، وهو تعالى لا يمتنع عليه شيء فكل شيء من حس وجامد في الأرض والسماوات وما بينهما مسخر لأمره الكوني القدري.
{تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ} أي: تعاظم وتقدس عن قول الظالمين الذين لم يقدروه حق قدره، و ((العالمين)) جميع الخلق، فكل ما سواه تعالى عالم، وهو ربهم الذي يتصرف فيهم كيف يشاء.
والمقصود من الآية قوله: ((ألا له الخلق والأمر)) فهو دليل على أن الخلق غير الأمر، لعطف الأمر على الخلق؛ لأن العطف كما هو معلوم يقتضي المغايرة، وبهذه الآية استدل الأئمة على أن الكلام غير الخلق، وبها وأمثالها ردوا على المعتزلة الذين قالوا بخلق الكلام.
قال البخاري: ((والقرآن كلام الله غير مخلوق؛ لقوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأّرضَ فيِ سِتَّةِ أَيّامِ ثُمَّ استَوَىَ عَلَى العَرشِ يُغشِى الَّليلَ النَّهَارَ يَطلُبُهُ حَثِيثَا وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مَسَخَّراتِ بأَمرِهِ} فبين أن الخلائق، والطلب الحثيث، والمسخرات، بأمره، ثم شرح فقال:{أَلَا لَهُ الخَلقُ وَالأمرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} .
(1) الآية 6 من سورة الحديد.
قال ابن عيينة: قد بين الله الخلق من الأمر بقوله: {أَلَا لَهُ الخَلقُ} . فالخلق بأمره، كقوله:{لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ (1) } ، وكقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2)، وكقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (3) ولم يقل: بخلقه.
حدثنا أصبغ، أخبرني عبد الله بن وهب، أخبرني يحيى بن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: قلت لعبد الله بن عباس: ما القدر؟ قال: يا مجاهد، أين قوله:{أَلَا لَهُ الخَلقُ وَالأمرُ} (4) .
****
89-
قال: ((حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته، أن يدخله الجنة، أو يرده إلى مسكنه، بما نال من أجر أو غنيمة)) .
تقدم هذا الحديث في باب قوله تعالى: {وَلَقَد سَبَقَت كَلمِتُنَا لِعِبَادِنَا المُرسَليِنَ} وتقدم شرحه هناك.
والمقصود منه هنا: قوله: ((وتصديق كلمته)) ، إذ هي غير الجهاد في سبيله، وغير التصديق، سواء قيل: هي كلمته الدينية الشرعية، أو الكونية القدرية، فكلمته من صفاته كما تقدم، وهي غير خلقه، هذا ما أراده البخاري رحمه الله من الحديث، والله أعلم.
(1) الآية 4 من سورة الروم.
(2)
الآية 82 من سورة يس.
(3)
الآية 25 من سورة الروم.
(4)
((خلق أفعال العباد)) (ص45) .
قال البخاري: قال سفيان في ((تفسيره)) : ((إن كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق، وكلامه أعظم من خلقه؛ لأنه إنما يقول للشيء: كن فيكون، فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق، والقرآن كلام الله)) (1) .
******
قال: ((باب في المشيئة والإرادة)) .
أي: مشيئة الله وإرادته، وهذا مما يتعلق بربوبيته - تعالى -، وهو رب كل شيء وخالقه ومالكه، يدخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها، مثل أفعال العباد، فإنه - تعالى - خالق العبد وفعله، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - بيان ذلك.
وهو سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، ولا يمتنع عليه شيء يريده، بل هو القادر على كل شيء.
كما أنه سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد ذكر الله - تعالى - مشيئته عامة في القرآن، في ما يقرب من أربع مِائةِ موضع.
كقوله تعالى - {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (2)، وقوله تعالى:{وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (3)، وقوله:{قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (4)
وقوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (5) .
وقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء
(1)((خلق أفعال العباد)) (34) تحقيق عميرة.
(2)
الآية 35 من سورة الأنعام.
(3)
الآية 48 من سورة المائدة.
(4)
الآية 149 من سورة الأنعام.
(5)
الآية 99 من سورة يونس.
وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} (1)، وقوله:{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2)، وقوله:{مَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (3)، وقوله:{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (4)، وقوله تعالى:{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} (5) ففي هذه الآيات ونحوها الرد على طائفتي الضلال، نفاة المشيئة بالكلية، ونفاة مشيئة الله لأفعال العباد وحركاتهم، وهداهم، وضلالهم، وهذا هو مراد البخاري من هذا الباب، وسيذكر تفصيلاً لهذا الباب في الأبواب الآتية.
والله – سبحانه وتعالى – علق وجود كل شيء وعدمه بمشيئته، فمرة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وأخرى يخبر أن ما لم يشأ لم يكن، ومرة يخبر أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء ما عصي، ولو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة.
فكل ما وجد من عين أو حركة، أو موت أو حياة، أو مصيبة، أو عز أو ذل، أو غير ذلك، فهو بمشيئته، وكل ما لم يوجد، ولم يقع، فهو لعدم مشيئته لوجوده، وهذا معنى كونه على كل شيء قدير، وهو حقيقة ربوبيته لكل شيء، ومعنى كونه القيوم بتدبير عباده، فلا خلق، ولا رزق، ولا عطاء، ولا منع، ولا قبض، ولا بسط، ولا ضلال، ولا هدى، ولا سعادة، ولا شقاء، إلا بمشيئته وتكوينه، إذ لا مالك غيره ولا رب سواه (6) .
(1) الآية 26 من سورة آل عمران.
(2)
الآية الأخيرة من سورة التكوير.
(3)
الآية 39 من سورة الأنعام.
(4)
الآية 13 من سورة السجدة.
(5)
لآية 133 من سورة النساء.
(6)
انظر ((شفاء العليل)) (ص44) .
فمشيئته تعالى تتعلق بخلقه، وأمره الكوني والشرعي بما يحب وما يكره، كل شيء داخل تحت مشيئته، فقد شاء وجود إبليس والشياطين، والكفار والفساق، وهو يكره ذلك ويبغضه.
وكذلك ما يحبه ويرضاه كوجود الرسل والصِّدِّيقين، والشهداء والصالحين والطاعات، وأمثال ذلك من امتثال أمره الديني الشرعي، فهو أيضاً بمشيئته.
وأما الإرادة فقد بين الله – تعالى – أنها نوعان:
أحدهما: الإرادة الكونية القدرية، وهي مرادفة للمشيئة، وهذه الإرادة تستلزم وقوع المراد ولا بد، ولا يلزم أن يكون مرادها محبوباً لله مرضياً له.
بل قد يكون مكروهاً مسخوطاً له، ككفر الكافرين، ومعاصي العاصين، ووجود المفسدين.
وقد يكون مرادها محبوباً مرضياً لله تعالى، كوجود إيمان المؤمنين، وطاعات الطائعين، ووجود رسل الله وعباده المخلصين، والصديقين والشهداء والصالحين.
وهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (1) .
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (2) .
وقوله تعالى: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} (3)، وقوله تعالى:
…
{ْ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ
(1) الآية 125 من سورة الأنعام.
(2)
الآية 253 من سورة البقرة.
(3)
الآية 34 من سورة هود.
مِنَ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} (1) ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على عموم إرادته لما يشاء، وأنه لا راد لمراده تعالى، ولهذا صارت هذه الإرادة مرادفة للمشيئة، فالإرادة الكونية القدرية هي المشيئة، ولهذا لا بد أن يقع مرادها.
والنوع الثاني: الإرادة الدينية الأمرية الشرعية، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى:{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2)، وقوله تعالى:{ُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه} ُ (3) .
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {26} وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا {27} يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} (4) ، وأمثال ذلك من الآيات، فهذه الإرادة يحب الله مرادها، ويأمر به ويرضاه، ولا يلزم أن يقع المراد بها إلا أن يتعلق به الإرادة الكونية.
وقد أشار البخاري – رحمه الله – إلى نوعي الإرادة بالمثال، فأشار إلى الإرادة الكونية بقوله تعالى:{تُؤتِي المُلكَ مَن تَشَاءُ} ، وقوله:{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَن يَشَاء اللَّهُ} ، وقوله:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاىءٍ إِنيِ فَاعِلٌ ذَلكَ غَدًا {23} إِلَا أَن يَشَاءَ اللهُ} ، وقوله:{إِنَّكَ لَا تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ} ؛ لأن الإرادة الكونية هي المشيئة العامة التي لا يخرج عنها شيء.
وأشار إلى النوع الثاني من الإرادة بقوله: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ
(1) الآية 41 من سورة المائدة.
(2)
الآية 185 من سورة البقرة.
(3)
الآية 6 من سورة المائدة.
(4)
الآيات 6-8 من سورة النساء.
بِكُمُ الْعُسْرَ} فهذه الإرادة الدينية الأمرية، التي تتضمن الأمر والمحبة والرضا، فهذا ما دلت عليه نصوص كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ومذهب أهل السُّنَّة، وبه تتفق الدلائل، وتنحل الإشكالات، وتفصيل ذلك أن يقال: الأشياء كلها لا تخرج عن أربعة أقسام:
((أحدها: ما تعلقت به الإرادتان، الكونية، والدينية، وهو ما يقع في الوجود من الأعمال الصالحة الموافقة لأمر الله وشرعه، فإن الله أرادها ديناً وشرعاً، فأمر بها، أرادها كوناً، وقدراً، فوجدت، ولولا إرادته إياها كوناً لم توجد؛ لأنه لا يوجد ما لا يريد وجوده، ولا يمتنع عليه ما يريد وجوده كما تقدم.
والثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فعصى أمره فيها الكفار، والفساق، فلم يفعلوها، فتلك الأعمال تعلقت بها الإرادة الدينية فقط؛ لأنه أمر ربها، وطلب فعلها، ولم يردها كوناً وقدراً، ولهذا تخلف وجودها، وإن كان يحب وجودها، ويرضاه، ولكن لا يلزم وجود ما يحب ويرضى.
ولا يقال: هذا يخالف كونه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ لأنه تعالى يريد قدراً وكوناً ما لا يحب ويرضى، كوجود إبليس، وجنوده المفسدين في الأرض بالمعاصي والكفر والفسوق، وذلك لحِكَمٍ عظيمة يعلمها تعالى، ويُطلع على ما يشاء منها من يشاء من عباده.
الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها، كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها، ولم يرضها ولم يحبها، إذ هو – تعالى – لا يأمر بالفحشاء والمنكر، ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا إرادته الكونية،
وقدرته، وخلقه لذلك، لما كان شيء منها، فإنه – تعالى – ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
الرابع: ما لم تتعلق به الإرادتان، فهذا ما لم يكن، ولن يكون، من الأفعال والأعيان)) (1) .
وبهذا البيان والتفصيل تزول الإشكالات التي يوردها أصحاب الشكوك والأهواء، الذين لم يستنيروا بنور كتاب الله – تعالى-.
قوله: {تُؤتِي المُلكَ مَن تَشَاءُ} يخبر تعالى أن الملك بيده، فيعطى ملك الدنيا من يشاء من عباده، وينزعه ممن يشاء، ولهذا قال تعالى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) فبين أن جميع التصرف في الكون ومن فيه بيده، وأنه على كل شيء قدير.
وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَن يَشَاء اللَّهُ} (3) في هذه الآية الكريمة الرد على طائفتي الضلال، القدرية، والجبرية، حيث أثبت – تعالى – للعباد مشيئة تتعلق بأفعالهم، وأخبر أن مشيئتهم وفعلهم موقوفان على مشيئته لهم، فلا تحصل لهم المشيئة ولا الفعل حتى يشاء تعالى ذلك، وسيأتي تفصيل ذلك، وبيان بطلان قول القدرية الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم ويوجدونها استقلالاً دون مشيئة الله، وقول الجبرية الذين يجعلون العبد بمنزلة الآلة التي لا تصرف لها ولا خيار.
قوله: {إِنَّكَ لَا تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ} (4) .
هذه الآية نزلت في عم النبي – صلى الله عليه وسلم – أبي طالب، ففي ((الصحيحين))
(1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (8/188-189) .
(2)
الآية 26 من سورة آل عمران.
(3)
الآية 30 من سورة الإنسان، الآية 29 من سورة التكوير.
(4)
الآية 56 من سورة القصص.
عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت الوفاة أبا طالب، جاءه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال:((أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب – آخر ما كلمهم -: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)) ، فأنزل الله:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ} (1) الآية، وأنزل الله في أبي طالب، وقال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ لَا تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ} (2)(3) .
قال ابن كثير: ((يقول تعالى لرسوله – صلى الله عليه وسلم: إنك يا محمد ((لا تهدي من أحببت)) أي: ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما قال تعالى:{ليْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (4) .
وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (5) .
وهذه الآية أخص من ذلك كله، فإنه قال:{إِنَّكَ لَا تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ} ، أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، وقد ثبت في ((الصحيحين)) أنها نزلت في أبي طالب)) (6) .
*****
(1) الآية 113 من سورة التوبة.
(2)
الآية 56 من سورة القصص.
(3)
انظر ((البخاري)) (6/65) و ((مسلم في الإيمان)) (1/24) .
(4)
الآية 272 من سورة البقرة.
(5)
الآية 103 من سورة يوسف.
(6)
((تفسير ابن كثير)) (6/257) .
90 – قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم: إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له)) .
الدعاء عبادة للمدعو بالرغبة والرهبة، والذل والاستكانة والافتقار، ولهذا صار صرفه لغير الله شركاً أكبر، لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
والله جل وعلا هو رب الخلق وإلههم، خلقهم وتعبدهم، وجعل مصيرهم إليه، وهو يملك كل شيء، حتى أفعالهم الاختيارية لا يمكن أن تقع إلا بمشيئته.
ويملك هداية قلوبهم وإزاغتها، وهو الذي يحبب الإيمان إلى من يشاء، ويكرهه إلى من يشاء، ويكره الكفر والفسوق والعصيان إلى من يشاء، ويحببه إلى من يشاء، وبهذا يعلم شدة حاجة الإنسان إلى دعاء الله – تعالى – بصدق وإلحاح، وعزم قوي، ورغبة شديدة؛ لأنه فقير فقراً ذاتياً لا ينفك عنه لحظة واحدة إلى ربه، ولا خلاص له من العذاب السرمدي إلا إذا منّ الله عليه وتفضل بهدايته، لذلك وجب أن لا يعلق الدعاء على مشيئته – تعالى -، فهذه علة النهي، والعلة الثانية ما ذكره – صلى الله عليه وسلم – بقوله:((فإنه لا مستكره له)) فإن تعليق الدعاء بالمشيئة يشعر بأن الله – تعالى – يعطي ما لا يريد، كما يحصل لابن آدم، وهذا لا يجوز اعتقاده في الله.
والمقصود أنه يحرم تعليق الدعاء بالمشيئة لعلتين:
إحداهما: إشعار ذلك باستغناء الداعي عما يدعو، وهو خلاف الواقع، وخلاف العبودية الواجبة على العبد.
والثانية: إشعار ذلك بأن الله قد يعطي ما يكره عطاءه، فيجب على العبد أن يدعو ربه بعزم لا تردد فيه، وبرغبة وإلحاح وإظهار الافتقار والفاقة.
وفي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي هريرة: ((لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم في الدعاء، فإن الله صانع ما يشاء، لا مُكْرِه له)) .
وفي رواية: ((ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) .
قال النووي: ((قال العلماء: عزم المسألة: الشدة في طلبها، والجزم من غير ضعف في الطلب، ولا تعليق على مشيئته ونحوها)) .
وقيل: هو حسن الظن بالله – تعالى – في الإجابة.
قال العلماء: سبب كراهته: أنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الإكراه، والله – تعالى – منزه عن ذلك، وقيل: لأن في هذا صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه)) (1) .
وكلا المعنيين مشعر به الحديث، والظاهر منه تحريم ذلك، فالحديث ظاهر فيه، ولا صارف له عنه، والله أعلم.
*****
91 – قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، ح.
وحدثنا إسماعيل، حدثني أخي عبد الحميد، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين أن حسين بن علي – عليهما السلام – أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طرقه وفاطمة بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة، فقال لهم:((ألا تصلون؟)) قال علي:
(1)((شرح النووي لمسلم)) (17/17) .
فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه، ويقول:{وَكَانَ الإِنَسَانُ أَكثَر شَيءٍ جَدَلَا} .
علي بن أبي طالب بن هاشم بن عبد مناف: ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم، رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، كان من السابقين إلى الإسلام، وعمره لم يجاوز العشر، وكان في بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم، شهد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سائر مشاهده مع الكفار ما عدا تبوك، خلفه ليقوم بمصالح أهله، ولما قال المنافقون: إنه استثقله لحق به، فقال له:((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلاّ أنه لا نبي بعدي)) .
هلك فيه طوائف من الرافضة؛ غلوّاً فيه، بين قائل بألوهيته، وقائل بأنه وصي معصوم.
قتل سنة أربعين في رمضان، رضي الله عنه وعن سائر صحابة النبي – صلى الله عليه وسلم (1) .
((طرقه)) : أتاه ليلاً، وكل آت ليلاً فهو طارق، وقد يطلق على من يأتي نهاراً، كما في قوله – صلى الله عليه وسلم:((وأعوذ بك من طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير)) (2)، ولهذا قال:((طرقه وفاطمة بنت رسول الله)) وهي زوجه؛ لأنهما كانا نائمين.
((فقال لهم: ألا تصلون؟)) الخطاب لعلي وفاطمة، وقد جمع الضمير العائد إليهما في قوله لهم:((ألا تصلون؟)) ، وهو سائغ في اللغة.
(1) انظر ((الرياض المستطابة)) (163) ، ((أسد الغابة)) (4/91) ، ((الإصابة)) (2/105) ، ((تاريخ بغداد)) (1/133) ، ((تاريخ الخلفاء)) (166) ، ((تذكرة الحفاظ)) (1/10) ، ((طبقات ابن سعد)) (3/11) .
(2)
((مجموع الفتاوى)) (8/244) .
((ألا تصلون)) عرض عليهما، يدل على أن الأمر غير واجب، وإنما هو التماس يدل على الاستحباب.
((فقلت: يا رسول الله إنما نفوسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا)) إلى آخره.
هذا هو محل الشاهد من الحديث، وأراد بيان أنه لا يجوز معارضة الأمر الشرعي بالقدر، كما صنع سلف القدرية المشركون في قوله:{لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (1) .
ففي هذا الحديث بيان أنه لا ينبغي معارضة الأمر بالقدر، فإن قوله:((إنما نفوسنا بيد الله)) إلى آخره، استناد إلى القدر في ترك امتثال الأمر، وهذا القول في نفسه حق، ولكن لا يصلح لمعارضة الأمر، بل معارضة الأمر بهذا من باب الجدل المذموم الذي قال الله فيه:{وَكَانَ الإِنَسَانُ أَكثَر شَيءٍ جَدَلَا} . (2)
ولهذا انصرف عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – كارهاً لمقالته، وتلا قوله تعالى:{وَكَانَ الإِنَسَانُ أَكثَر شَيءٍ جَدَلَا} وضربه فخذه يدل على كراهته لذلك أيضاً، وتعجبه من علي كيف يعارض قوله له:((ألا تصلون؟)) بتلك المقالة.
ومعلوم أن كل شيء بمشيئتة الله، فلو أن كل من أمر بأمر قال: إذا شاء الله فعلته، وإذا شاء لم أفعله، لتعطلت الأوامر كلها، وساد هوى النفوس، قال الحافظ:((فيه أن الإنسان طبع على الدفاع عن نفسه بالقول والفعل، وأنه ينبغي له أن يجاهد نفسه لقبوله النصيحة ولو كان في غير واجب)) (3)
****
(1) الآية 148 من سورة الأنعام.
(2)
انظر ((مجموع الفتاوى)) (8/244) .
(3)
انظر ((الفتح)) (13/314) .
92 – قال: ((حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء، ومثل الكافر، كمثل الأرزة، صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء)) .
قال في ((المصباح)) : ((الخامة الغضة من النبات، والجمع خام، وخامات، والخام من الثياب: الذي لم يقصر، وثوب خام، أي: غير مقصور)) (1) .
وقال الحافظ: ((هي الطاقة الطرية اللينة، أو الغضة، أو القضبة، قال الخليل: ((خامة الزرع: أول ما ينبت على ساق واحد)) (2) .
قلت: قول الخليل هو الصواب، فالزرع في أول أمره يكون على ساق واحد، ويكون ليناً طيعاً للريح ينثني معها حيث أتت، ولا تؤثر على صحته واعتداله، فإذا سكنت رجع على ساقه قائماً كأن لم يصبه شيء، بل ربما ازداد قوى ونضارة، وهذا هو المقصود من المثل، فإن المؤمن تأتيه المصائب من نواح شتى، ففي كل مرة يقال: هذه تهلكه، ثم تنجلي ويعود إلى صحة إيمانه قوياً سليماً، كأن لم يصب بأذى.
قال البكري: الخامة الغضة من الزرع: أول ما تستقل على ساق، وألفه منقلبة عن ياء، قال أبو عبيد: هي الغضة الرطبة، وأنشد:
إنما نحن مثل خامة زرع
…
فمتى يأن يأت محتصده (3)
(1)((المصباح)) (1/251) .
(2)
((الفتح)) (10/106) .
(3)
((فصل المقال)) (ص7، 8) .
ومعنى ((يفيء)) : يميل مع الريح ثم يرجع إلى اعتداله.
ومعنى ((تكفئها)) : تميل بشدة.
قوله: ((ومثل الكافر، كمثل الأرزة صماء معتدلة)) إلى آخره، في رواية:((ومثل المنافق)) ، وفي أخرى:((الفاجر)) والمثل يصدق على الكافر والمنافق، والفاجر هو الكافر، وكلهم أريد بالمثل.
والأرزة هي شجرة الصنوبر، وهو شجر قوي معتدل، ولا بد له من نهاية، فإذا شاء الله قصمه، وأهلكه، فإذا انثنى انكسر فلا يعود إلى اعتداله كخامة الزرع.
وكذلك الكافر والمنافق غالب حاله أنه معافى من المصائب، كالمرض وغيره من مصائب المال والولد؛ لأنه يعطى نصيبه من السعادة في الدنيا، ثم يوافى الآخرة مفلساً صفر اليدين، فتكون حسرته أشد، وهلاكه أنكى وأعظم، وقد يصاب أيضاً في الدنيا.
أما المؤمن: فمن رحمة الله – تعالى – به أن قدر عليه المصائب في الدنيا، حتى يكتسب بذلك الثواب، أو يكفر عنه به من ذنوبه، ليسلم له جزاء عمله في الآخرة.
قال البكري: ((الأرزة: شجرة معروفة، وهي من أصلب الخشب، قال أبو عبيد: وأهل العراق يسمونها الصنوبر، وإنما الصنوبر: ثمر الأرز.
ومعنى الحديث – والله أعلم -: أنه شبه المؤمن بالخامة التي تميلها الريح؛ لأنه مرزَّء في نفسه، وأهله، وماله، وولده، وأما الكافر، فمثل الأرزة التي لا تميلها الريح، والكافر لا يرزَّء شيئاً حتى يموت، وإن رزئ لم يؤجر عليه، فشبه موته بانجعاف تلك [الشجرة] حتى يلقى الله بذنوبه كملاً، والانجعاف: السقوط والانقلاب.
والشاهد قوله: ((حتى يقصمها الله إذا شاء)) فكل شيء ينتهي إلى مشيئة الله – تعالى – فلا يحدث حدث صغير أو كبير إلا إذا شاء الله، كما أن مشيئة الله عامة لكل شيء، وهو معنى أنه على كل شيء قدير.
*****
93 – قال: ((حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو قائم على المنبر، يقول: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أعطي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا حتى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطيتهم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، قال أهل التوراة: ربنا، هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا؟ قال: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، فقال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء)) .
قوله: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس)) أي: أن نسبة مدة هذه الأمة إلى مدة من تقدم من الأمم، كنسبة ما بعد العصر إلى غروب الشمس، إلى بقية النهار، و ((في)) في قوله:((فيما قبلكم)) بمعنى إلى.
قوله: ((أعطي أهل التوراة، التوراة)) إلى آخره، شرح وبيان لما تقدم من تقدير مدة بقاء هذه الأمة بالنسبة لبقاء الأمم قبلها.
قوله: ((قيراطاً قيراطاً)) كرره ليدل على تقسيم القراريط على العمال؛ لأن العرب إذا أرادت تقسيم الشيء على متعدد كررته، فيقولون: أقسم هذا المال
على بني فلان درهماً درهماً، أي: لكل واحد درهم (1) .
قوله: ((ثم عجزوا)) لا يلزم ما نقله الحافظ عن الداودي من الإشكال في أنه إذا كان المراد من مات مسلماً فلا يوصف بالعجز، وإن أريد من مات بعد التبديل والتغيير، فهو كافر لا يعطى أجراً. وهذا غير لازم ولا مراد، ولا داعي لتكلف الجواب عليه؛ لأن المقصود ضرب المثل لهذه الأمة مع أهل الكتاب مجموع هؤلاء مع أولئك، ولا يقصد كل فرد بعينه، وهذا واضح.
قال ابن العربي: ((المثل بفتح الميم والثاء: عبارة عن تشابه المعاني المعقولة.
والمثل بكسر الميم وإسكان الثاء: عبارة عن تشابه الأشخاص المحسوسة ويدخل أحدهما على الآخر)) (2) .
والقيراط: النصيب المقدر، وهو في الأصل: نصف دانق، والدانق: سدس درهم، وقد يقصد بالقيراط، الشيء الكثير، كما في الحديث:((من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان)) وقيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)) (3) .
قوله: ((ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس)) مثل انتهاء الدنيا باليوم الكامل، فجعل لليهود من أول النهار إلى صلاة الظهر، وللنصارى من صلاة الظهر إلى العصر، ولهذه الأمة من صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهو نهاية الدنيا، فكان نصيب هذه الأمة من الزمن أقل، ونصيبهم من الأجر أكثر وأوفر، وعندما اعترض أصحاب العمل الأكثر على ذلك قال لهم:((هل ظلمتكم من عملكم شيئاً؟ قالوا: لا، فذلك فضلي أوتيه من أشاء)) .
(1)((الفتح)) (2/39) .
(2)
((طرح التثريب)) (8/221) .
(3)
رواه البخاري (رقم 1325) ومسلم (2/652) رقم (945) ، والترمذي (2/358) رقم (1040) .
وهذا هو المقصود من الحديث، أن مشيئة الله نافذة، لا يحكمها عرف أو نظر أو غير ذلك، بل ما شاء فِعْلَهُ فَعَلَهُ، وما لم يشأ لا يقع.
وبهذا وأمثاله كثير يتبين ضلال المعتزلة، ومن سلك طريقهم، الذين يحكمون على الله بعقولهم القاصرة، بأنه يجب أن يفعل كذا، ويمتنع أن يفعل كذا، كقولهم: يجب أن يعذب العاصي، ويثيب المطيع، بحكم العقل قياساً منهم على المخلوق، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
****
94 – قال: ((حدثنا عبد الله المسندي، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة بن الصامت، قال: بايعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في رهط، فقال: ((أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً، فأخذ به في الدنيا فهو كفارة وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)) .
عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم، الأنصاري، الخزرجي: أحد النقباء، من أعيان البدريين، وسادة الصحابة وكبارهم، شهد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غزواته كلها، وكان من حفظة كتاب الله – تعالى -، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، رضي الله عنه وعن جميع صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم (1) .
المبايعة: عبارة عن المعاهدة على فعل شيء أو تركه، سميت بذلك تشبيهاً
(1) انظر ((سير أعلام النبلاء)) (2/5) ، ((الاستيعاب)) (2/807) ، ((أسد الغابة)) (3/16) ، ((تهذيب التهذيب)) (5/111) ، ((الإصابة)) (5/322) .
بالمعاوضة المالية، كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ اشتَرَىَ مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأموَالَهُم بِأَنَ لَهُمُ الجََنَّةَ} (1) .
بدأ بما هو أعظم المحرمات، وهو الشرك بالله بأن يجعل ما هو لله من العبادة لغيره، أو شيئاً منها، ولكونه أعظم المحرمات حرمت الجنة على المشرك، كما قال تعالى:{مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (2) ومنع صاحبه المغفرة إلا إذا تاب منه، لهذا وجب على العبد أن يهتم بمعرفته حتى لا يقع فيه وهو لا يشعر، كما هو حال كثير من الناس.
وقوله: ((شيئاً)) نكرة في سياق النهي، فيعم جميع أنواع الشرك، كبيره وصغيره، فعلاً كان أو قولاً.
والسرقة: هي أخذ مال غيره المحرز، على وجه الخفية، والخيانة فيه، وهي من الجرائم الكبيرة، فقد نفي الإيمان عن السارق.
وأما الزنا: فهي أيضاً جريمة شنيعة موجبة لسخط الله – تعالى – ومقته، كما قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} (3) .
وقوله: ((ولا تقتلوا أولادكم)) خص قتل الأولاد؛ لأنه أشنع قتل، وأعظمه ذنباً، ولأن بعض العرب كان يستسيغه، خوفاً من العار، أو الفقر؛ ولأن الأولاد ليس لهم من يدافع عنهم إذا كان والدهم هو الذي يقتلهم.
والمقصود جميع أنواع القتل بغير حق، فإنه من أكبر الكبائر، وفاعله متوعد بالخلود في النار، ولعنه الله وغضبه، قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
(1)((الفتح)) (1/16) .
(2)
الآية 72 من سورة المائدة.
(3)
الآية 32 من سورة الإسراء.
عَظِيمًا} (1) .
وقوله: ((وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ)) البهتان: الكذب الذي يبهت سامعه؛ لأنه خلاف الواقع.
قال الحافظ: ((وخص الأيدي والأرجل بالافتراء؛ لأن معظم الأفعال تقع بهما، إذ هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، ولذلك يسمون الصنائع: الأيادي.
وقد يعاقب الرجل بجناية قولية، فيقال: هذا بما كسبت يداك، ويحتمل أن يكون المراد: لا تبهتوا الناس كفاحاً، وبعضكم يشاهد بعضاً)) (2) والأول أولى.
قوله: ((ولا تعصوني في معروف)) المعروف: ما عرف حسنه. وما جاء به الرسول وأمر به فهو معروف، وحسن، والشرع لا يأتي مخالفاً للعقل والفطرة.
والرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يأمر إلا بالمعروف.
قال النووي: ((يحتمل أن يكون المعنى: ولا تعصوني، ولا أحداً ولِّيَ الأمر عليكم في المعروف، فيكون التقيد بالمعروف متعلقاً بشيء بعده.
وقال غيره: نبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية لله)) (3) ودخل في قوله: ((ولا تعصوني في معروف)) : فعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم.
(1) الآية 93 من سورة النساء.
(2)
((الفتح)) (1/65) .
(3)
الفتح (1/65) .
قوله: ((فمن وَفَّى منكم)) أي: ثبت على العهد الذي أخذ عليه، ووفى به، دون وقوع في مخالفة (وفى)) بالتخفيف، وفي رواية بالتشديد، وكلاهما بمعنى واحد.
وقوله: ((فأجره على الله)) أطلق الأجر، ولم يعينه، لتفخيمه، وجاء في رواية تعيينه بالجنة، وهي الغاية التي يتسابق إليها العاملون.
قوله: ((ومن أصاب من ذلك شيئاً فأخذ به في الدنيا، فهو كفارة له وطهور)) يعني: إذا وقع في معصية مما ذكر أنه لا يفعله، ثم أقيم عليه الحد في الدنيا، فإن إقامة الحد عليه تكون كفارة له، وطهوراً يطهره، وهذا كما قال النووي مخصوص بالشرك، فإنه لا كفارة له إلا بالتوبة منه.
قال النووي: ((فيه تحريم هذه المذكورات، وما في معناها، وفيه الدلالة لمذهب أهل الحق أن المعاصي غير الكفر، ولا يقطع لصاحبها بالنار، إذا مات ولم يتب منها، بل هو بمشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، خلافاً للخوارج والمعتزلة، فإن الخوارج يكفرون بالمعاصي، والمعتزلة يقولون: لا يكفر، ولكن يخلد في النار، وفيه أن إقامة الحد تكفر)) (1) .
قوله: ((ومن ستره الله، فذلك إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)) .
هذا هو محل الشاهد من الحديث، وهو أن الله يفعل ما يشاء، لا يحكمه شيء، ولا يمنعه عما يريد شيء، وهو حكيم عليم، فمن أصاب معصية مما ذكر أو غيره فاستتر، ولم يؤخذ بها في الدنيا ثم مات بدون توبة، فإن أمره إلى الله إن شاء أن يعذبه عذبه، وإن شاء أن يعفو عنه عفا عنه.
وقد تقدم التنبيه أن هذا فيه رد لمذهب المعتزلة، مشبهة الأفعال، نفاة
(1)((شرح مسلم)) (11/223-224) .
الصفات، الذين يحكمون على الله بمثل ما يحكمون به على الناس، تعالى الله عن قولهم، وفيه الرد على إخوانهم في الضلالة، الخوارج، الذين يكفرون المؤمنين بالمعاصي.
*****
95 – قال: ((حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، أن نبي الله سليمان – عليه السلام – كان له ستون امرأة، فقال: لأطوفن الليلة على نسائي فلتحملن كل امرأة، ولتلدن فارسا يقاتل في سبيل الله، فطاف على نسائه، فما ولدت منهن إلا امرأة، ولدت شق غلام. قال نبي الله – صلى الله عليه وسلم: ((لو كان سليمان استثنى لحملت كل امرأة منهن، فولدت فارسا يقاتل في سبيل الله)) .
قال في الجهاد: ((باب من طلب الولد للجهاد)) ، ثم ذكر هذا الحديث، يعني: أن الذي ينوي عند جماع زوجته حصول الولد؛ لأجل أن يجاهد في سبيل الله يحصل له بذلك أجر نيته، وإن لم يولد له، أو ولد له ولم يجاهد.
قوله: ((كان له ستون امرأة)) جاء في رواية: سبعون، وفي أخرى: تسعون، وفي أخرى تسع وتسعون، وفي أخرى مائة، وكلها صحيحة.
قال الحافظ: ((يجمع بينها بأن له ستين حرائر، والزائد سراري، أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون، والمائة، فما كان دون المائة وفوق التسعين، فمن قال: تسعون، ألغى الكسر، ومن قال: مائة، جبره)) (1) .
قوله: ((لأطوفن الليلة على نسائي)) يقصد وطأهن، وقد استدل ((المصنف))
(1)((الفتح)) (6/460) .
به على جواز مثل هذا الكلام أمام الناس.
وفيه: ما أُعطي سليمان عليه السلام من القوة.
قوله: ((فلتحملن كل امرأة، ولتلدن فارساً يقاتل في سبيل الله)) قال هذا على سبيل التمني للخير، وإنما جزم به؛ لأنه غلب عليه الرجاء؛ لكونه قصد الخير وأمر الآخرة، لا عرض الدنيا.
قال بعض السلف: ((نبه – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التفويض، ولذلك نُسِّي الاستثناء ليمضي فيه القدر)) (1) .
قلت: جاء في رواية ذكرها البخاري في الجهاد والأنبياء، أن سليمان عليه السلام لما قال ذلك قال له صاحبه: قل: إن شاء الله، وفي أخرى: قال له الملك، فلم يقل: إن شاء الله، وهذا يدل على أنه لم ينس، وأنه جزم بذلك لحسن قصده، وقيام السبب، فجوزي بعدم حصول المراد، وهذه الرواية أظهر في المقصود بهذا الباب. وجاء في رواية أخرى: ونسي أن يقول: إن شاء الله، فيحمل على أن معنى النسيان: تركه مع علمه، غير قاصد خروج ذلك عن مشيئة الله – تعالى -.
قوله: ((فما ولدت منهن إلا امرأة ولدت شق غلام)) الشق: النصف، أي: أنها جاءت بغلام ناقص، لا يستطيع أن يعمل شيئاً. وهذا يدل على أنه ليس لأحد مهما ملك من الأسباب أن يخرج عن مشيئة الله – تعالى -، سواء كان نبياً، أو ملكاً، أو غير ذلك، فمشيئة الله هي النافذة في كل شيء، ومشيئة الخلق مقيدة لها، لا يعملون شيئاً، ولا يتم لهم، إلا بعد أن يشاءه الله – تعالى -.
قوله: ((لو كان سليمان استثنى لحملت كل امرأة منهن، فولدت فارساً يقاتل في سبيل الله)) .
(1) المصدر المذكور (ص461) .
في رواية: لو قال: ((إن شاء الله)) فهذا هو الاستثناء المراد هنا.
وفي هذا قدرة الله – تعالى – على تغيير الواقع إلى ضده، وما علم تعالى أنه لا يكون، وما يمتنع صدوره عنه، فلعدم إرادته، لا لعدم قدرته عليه، كما قال تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (1)، وقال عز وجل:{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (2) ونحو ذلك مما يبين فيه أنه – تعالى – لو شاء أن يفعل أموراً لم تكن، بل كان خلافها، لفعل، فدل ذلك على أنه قادر على ما علم أنه لا يكون.
وإذا قيل: هذا ممتنع، قيل: امتناعه لعدم مشيئة الرب تعالى له، لا لكونه ممتنعاً في نفسه، ولا لكون الله تعالى غير قادر عليه. ووجه الاستدلال بالحديث ظاهر.
****
96 – قال: ((حدثنا محمد، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل على أعرابي يعوده، فقال: ((لا بأس عليك، طهور إن شاء الله)) قال: قال الأعرابي: طهور؟! بل هي حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، قال النبي – صلى الله عليه وسلم:((فنعم إذا)) .
كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعود المريض، ويتفقد أحوال المؤمنين، وهذا الأعرابي يجوز أنه مهاجر إلى المدينة فمرض، أو أنه جاء لحاجة.
والأعرابي: ساكن البراري، وأما العربي فهو أعم منه؛ لأنه من ينتسب إلى العرب، أو من يتكلم العربية.
(1) الآية 13 من سورة السجدة.
(2)
الآية 118 من سورة هود.
قوله: ((لا بأس عليك، طهور إن شاء الله)) أي: أن المرض يزول، ويكون ذلك مكفراً لخطاياك، أو: أنه لا بأس عليك في مستقبلك؛ لأن المرض يطهرك من ذنوبك، فإن حصلت العافية اكتسب فائدتين، وإلا حصل له التكفير، وهذا دعاء خرج مخرج الخبر، ولهذا علقه بالمشيئة؛ لأنه أمر مستقبل، وكل ما يأتي يقيد بمشيئة الله – تعالى -، أما ما وقع فقد علم أن الله شاءه.
وقول الأعرابي: ((طهور؟!)) ، كأنه رد لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستبعاد له، ولهذا قال:((بل هي حمى تفور)) أي: تغلى في جسمه ((على شيخ كبير)) والشيخ الكبير يكون ضعيفاً لا يتحمل ما يتحمله الشاب القوي ((تزيره القبور)) أي: يموت منها ويذهب به إلى المقبرة.
فلما رد ما قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يقبله، واختار ما ذكره هو، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ((فنعم إذاً)) أي: إذا لم تقبل ما قلت لك، فالأمر كما تقول أنت.
قال الحافظ: ((روى الطبراني أن الأعرابي أصبح ميتاً، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أما إذ أبيت فهي كما تقول، قضاء الله كائن)) فما أمسى من الغد إلا ميتاً)) (1) .
والمقصود من الحديث قوله: ((لا بأس عليك، طهور إن شاء الله)) وقد جاءت النصوص بأن المصائب كفارات للذنوب، كما جاء ترتيب الجزاء على أعمال معينة، فكل ذلك يكون مقيداً بمشيئة الله تعالى، فعلى العبد أن يضرع إلى الله تعالى بذل وافتقار، ويسأله من فضله أن يهديه لما يرضيه.
والأمور كلها بيده – تعالى – يتصرف فيها كيف يشاء، والخلق عبيده، وفقراء إليه، ولا يظلم ربك أحداً.
*****
(1)((الفتح)) (6/625) .
97 -
قال: ((حدثنا ابن سلام، أخبرنا هشيم، عن حصين، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، حين ناموا عن الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء)) فقضوا حوائجهم، وتوضؤوا إلى أن طلعت الشمس وابيضت، فقام فصلى)) .
هذا الحديث مختصر، وقد ذكره في مواقيت الصلاة، باب الأذان بعد ذهاب الوقت، وقد اختلف في أي مسير كان ذلك.
قال الحافظ: ((جزم بعض الشراح بأنه في رجوعه من خيبر، معتمداً على ما قع عند مسلم، وفيه نظر؛ لما بينته في باب الصعيد الطيب)) (1) .
وقال في باب الصعيد الطيب: اختلف في تعيين هذا السفر، ففي مسلم أنه وقع في رجوعهم من خيبر قريب من هذه القصة.
وفي أبي داود: ((أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلاً، فنزل، فقال: ((من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا)) الحديث (2) .
وفي ((الموطأ)) عن زيد بن أسلم مرسلاً: ((عَرَّسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بطريق مكة، ووكل بلالاً)) الحديث (3) .
وفي ((مصنف)) عبد الرزاق مرسلاً: أن ذلك بطريق تبوك، وفي ((الدلائل)) للبيهقي نحوه (4) ، وذكر أشياء غير ذلك، ومال إلى تعدد القصة كعادته في مثل هذا.
(1)((الفتح)) (2/67) .
(2)
((السنن)) (1/310) .
(3)
((الموطأ)) (1/14) .
(4)
((الفتح)) (1/488) .
ولم أجد في ((مصنف عبد الرزاق)) تعيين السفر، فإنه قال:((أخبرني عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو في بعض أسفاره)) فذكره (1) . وكذلك ما في ((الدلائل)) ليس فيه ذكر تبوك، وإنما ذكر ما في ((الموطأ)) ، وسنن أبي داود، ومسلم، والصحيح أن ذلك في مرجعه من خيبر، كما قال عبد الرزاق: عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال:((لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، أسرى ليله، حتى إذا كان آخر الليل عدل عن الطريق، ثم عَرَّسَ، وقال: من يحفط علينا الصلاة؟ فقال بلال: أنا)) وذكر الحديث (2) وهذا مرسل.
ورواه أبو داود موصولاً، عن سعيد، عن أبي هريرة (3) .
ورواه مسلم في ((صحيحه)) مطولاً (4) .
قوله: ((وإن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء)) أي: أن الله - تعالى - له ملك كل شيء، فروح الإنسان التي بها حياته وتصرفه، هي بيد الله، إذا شاء قَبضَها من بدنها، وأصبح الإنسان ميتاً لا يستطيع أي عمل، وإذا شاء رَدَّها إلى بدنها فاستطاع العمل والتصرف، وكذلك الإنسان لا يستطيع أن ينام متى شاء، ويستيقظ متى شاء، إلا بمشيئة الله - تعالى -، قال عز وجل:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (5) } .
(1) انظر ((المصنف)) (1/588) .
(2)
((المصنف)) (1/587) .
(3)
انظر ((السنن)) (1/302) .
(4)
انظر مسلم (1/471) رقم (680) .
(5)
الآية 42 من سورة الزمر.
قوله: ((فقضوا حوائجهم، وتوضؤوا إلى أن طلعت الشمس وابيضت فقام فصلى)) يعني: أنهم حين استيقظوا مع طلوع الشمس لم يستعجلوا بأداء الصلاة، بل قضوا حوائجهم مما يحتاجه عادة من يقوم من النوم من بول ونحوه، وتوضؤوا ثم انتظروا حتي ابيضت الشمس، ومعنى ابيضاضها ارتفاعها عن الأفق، ثم قام وصلى بهم، فهذا وقت صلاتهم، لأن النائم وقت صلاته إذا استيقظ، وكذلك الناسي، والله أعلم.
98 -
قال: ((حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا إبراهيم، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة والأعرج.
وحدثنا إسماعيل، حدثني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال:((استب رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين، في قسم يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري: أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله)) .
قال الحافظ: ((المسلم هو أبو بكر الصديق، جاء مصرحاً به فيما أخرجه سفيان ابن عيينة في ((جامعه)) ، وابن أبي الدنيا في ((كتاب البعث)) من طريقه، عن عمرو بن دينار، قال: هو أبو بكر الصديق)) (1) .
(1) انظر ((الفتح)) (6/450) .
ولكن يعارض ذلك ما في الأنبياء في هذا الحديث: ((قال اليهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار فقام فلطم وجهه)) (1) .
قوله: ((استب)) استب: افتعل، من السب، أي: كل واحد منهما سب الآخر، وهو الشتم وذكر العيوب والمثالب، أو الدعاء عليه.
وسبب ذلك قول اليهودي حينما كان يعرض سلعته، فأُعطي فيها ما لا يرضى، فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فغضب المسلم ولطمه؛ لأنه فهم من كلامه تفضيل موسى على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم؛ لأنه متقرر عند المسلمين أن محمداً أفضل البشر على الإطلاق.
وجاء في رواية أبي سعيد: أن المسلم لما دعاه النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال له: ((أضربته؟)) قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث، على محمد – صلى الله عليه وسلم؟ فأخذتني غضبة، ضربت وجهه)) (2) .
وفهم المسلم أن اليهودي بحلفه ذلك ينتقص محمداً – صلى الله عليه وسلم – فلهذا غضب، ولطمه، ولما ذكر قول اليهودي للنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يعاقبه، بل نهى عن تفضيل بعض النبيين على بعض، في مثل هذا المقام الذي يكون فيه الغضب والسب؛ لأن ذلك مدعاة إلى هضم حق بعضهم، أو التنقص لهم، أو الافتخار، وذلك من الكفر.
وأما ذكر الواقع للعلم به، واعتقاده، فلا يدخل في النهي، وقد قال الله – تعالى -:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ َ} (3)، وقال تعالى: {وَلَقَد
(1) انظر المصدر نفسه.
(2)
((الفتح)) (5/70) .
(3)
الآية 253 من سورة البقرة.
ْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا َ} (1) .
وصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)) (2) .
قال البيهقي عن الخطابي: معنى النهي عن التخيير بين الأنبياء: ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم، والإخلال بالواجب من حقوقهم والإيمان بهم.
وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم، فإن الله – عز وجل – قد أخبر أنه فاضل بينهم، فقال:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} .
وقوله: ((أنا سيد ولد آدم)) إنما هو إخبار عما أكرمه الله به من الفضل، والسؤدد، وتحدث بنعمة الله – تعالى – عليه، وإعلام لأمته بعلو مكانه عند ربه؛ ليكون إيمانهم بنبوته واعتقادهم لطاعته على حسب ذلك، وبيان هذا لأمته من اللازم له، والمفروض عليه)) (3) .
قوله: ((لا تخيروني على موسى)) أي: لا تقولوا: أنا خير من موسى، وجاء النهي عن التخيير بين الأنبياء عامة، وهذا خاص بموسى؛ لأن المقام يقتضي ذلك لأجل ما وقع بين اليهودي والمسلم، وسبق وجه النهي. ثم ذكر ما يقتضي تفضيل موسى في كونه يجده باطشاً بجانب العرش، فيكون قد أفاق قبله أو لم يصبه الصعق، كما سبق بيانه. والمقصود هنا قوله:((أو كان ممن استثنى الله)) أي: في قوله تعالى:: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلَاّ مَن شَاء اللَّهُ َ} (4) ، ففي هذه الآية أن الخلق لا ينجو أحد منهم
(1) الآية 55 من سورة الإسراء.
(2)
رواه مسلم (4/1782) رقم (2278) .
(3)
((دلائل النبوة)) (5/495-496) .
(4)
الآية 68 من سورة الزمر.
من صعق نفخة الصور، إلا من يشاء الله، فدل على أن مشيئة الله عامة شاملة لكل شيء، فلا يخرج عنها ما يعم الخلق كنفخ الصور، ولا ما يخص بعضهم، ومن أجل ذلك – والله أعلم – جاء قوله في أهل الجنة وأهل النار:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاء رَبُّكَ َ} (1) فما شاء الله كان كما يشاء، وما لم يشأ لم يكن.
واختلف في الذين استثناهم الله – تعالى – من صعقة الصور.
قال ابن جرير: ((قال بعضهم: عنى به جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت)) ، ثم روى ذلك عن السدي، وروى فيه حديثاً مرفوعاً بسند فيه يزيد الرقاشي، وهو ضعيف، عن أنس أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قرأ هذه الآية:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ} الآية، فقيل له: من هؤلاء الذين استثنى الله يا رسول الله؟ قال: جبريل وميكائيل وملك الموت)) وذكره بطوله، ثم قال:
((وقال آخرون: عنى بذلك: الشهداء)) ، وروى ذلك عن سعيد بن جبير، واختار أن المستثنى من الفزع الشهداء ومن الصعق: جبريل وملك الموت، وحملة العرش، واستدل لذلك بحديث الصور، وهو ضعيف، وبأن الصعق في هذا الموضع: الموت، والشهداء قد ماتوا، فلا يذوقون الموت مرة أخرى، وذكر أن بعض السلف توقف فيه)) (2) .
وقال ابن كثير: ((قال أبو يعلى: حدثنا يحيى بن معين، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: سألت جبريل عن هذه الآية: {وَنُفِخَ
(1) الآية 107 من سورة هود.
(2)
انظر ((تفسير ابن جرير)) (24/29-30) .
فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلَاّ مَن شَاء اللَّهُ َ} من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم الشهداء، مقلدون أسيافهم حول عرشه، تتلقاهم الملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت، نمارها ألين من الحرير، مد خطاها مد أبصار الرجال، يسيرون في الجنة، يقولون عند طول النزهة: انطلقوا بنا إلى ربنا – عز وجل – لننظر كيف يقضي بين خلقه، يضحك إليهم إلهي، وإذا ضحك إلى عبد في موطن، فلا حساب عليه)) قال ابن كثير:((رجاله كلهم ثقات إلا شيخ إسماعيل بن عياش فهو غير معروف)) (1) .
******
99 – قال: ((حدثنا إسحاق بن أبي عيسى، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال، ولا الطاعون، إن شاء الله)) .
تقدم وجه تسمية الدجال.
قال الحافظ: ((ومما يحتاج إليه في أمر الدجال: أصله، وهل هو ابن صياد، أو غيره؟ وإذا كان غيره: فهل كان موجوداً في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – أو لا؟ وما الذي يدعيه؟ وما الذي يظهر عند خروجه؟ ومتى يخرج؟ وما سبب خروجه؟ ومن أين يخرج؟ وما صفته؟ وما هي الخوارق التي تظهر على يديه، حتى يكثر أتباعه؟ ومتى يهلك؟ ومن يقتله؟)) (2) .
وقد تبين أنه ليس ابن صياد؛ لأن ابن صياد قد مات في المدينة، وقد دخل مكة وولد له، والدجال لا يولد له، ولا يدخل مكة ولا المدينة، ويقتله
(1) انظر تفسير ابن كثير (7/108) .
(2)
انظر ((فتح الباري)) (13/91) .
عيسى ابن مريم عليه السلام، ويكون رئيساً لليهود، وله خوارق عظيمة، وفتنة هائلة، ولم يحصل لابن صياد من ذلك شيء.
وحديث الجساسة في ((صحيح مسلم)) يدل على ذلك، وليس الأمر فيه مشكلاً كما قاله النووي – رحمه الله؛ لأن ابن صياد أول الدجاجلة الذين يتقدمون الدجال الأكبر، وأما كونه موجوداً في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم، فخبر تميم الداري في قصة الجساسة يدل على وجوده.
وأما سبب خروجه، فجاء في ((صحيح مسلم)) ما يدل على أن سبب خروجه غضبة يغضبها، وسأذكر ذلك إن شاء الله – تعالى -.
وخروجه في آخر الزمان، إذ خروجه من علامات الساعة الكبار.
وهو خارج من المشرق، كما سيأتي.
وأما صفته فقد أوضحها رسول الله – صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم أنه أعور العين اليمنى، وأنه مكتوب بين عينيه: كافر.
وإذا خرج ادعى أنه مصلح، ويريد القضاء على الفساد، كما هي عادة كل دجال وطاغوت من طواغيت العالم ودجاجلته الموجودين اليوم وقبله، ثم يدعي الولاية، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي أنه رب الخلق المتصرف فيهم.
قال الحافظ: ((وأخرج الطبراني من طريق سليمان بن شهاب، قال: نزل عليَّ عبد الله بن المعتمر، وكان صحابيَّا، فحدثني عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((الدجال ليس به خفاء، يجيء من قبل المشرق، فيدعو إلى الدين، فيتبع، ويظهر فلا يزال حتى يقدم الكوفة، فيظهر الدين ويعمل به، فيتبع ويحث على ذلك، ثم يدعي أنه نبي، فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه، فيمكث بعد ذلك، فيقول: أنا الله، فتغشى عينه، وتقطع أذنه، ويكتب بين عينيه: كافر، فلا يخفى على كل مسلم، فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبة من خردل
من إيمان)) قال: ((وسنده ضعيف)) (1) .
وأما ما ثبت في ((الصحيحين)) عن محمد بن المنكدر قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد الدجال، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فلم ينكره النبي – صلى الله عليه وسلم (2) .
وفي ((صحيح مسلم)) عن ابن عمر قال: لقيته مرتين، قال: فلقيته فقلت لبعضهم: هل تحدثون أنه هو؟ قال: لا والله، قال: قلت: كذبتني، والله لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالاً وولداً، فكذلك هو – زعموا – اليوم، قال: فتحدثنا، ثم فارقته، قال: فلقيته لقية أخرى، وقد نفرت عينه، قال: فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري، قال: قلت: لا تدري وهي في رأسك؟ قال: إن شاء الله خلقها في عصاك هذه، فنخر كأشد نخير حمار سمعت: قال: فزعم بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت، وأما أنا فوالله ما شعرت.
قال: وجاء حتى دخل على أم المؤمنين، فحدثها، فقالت: ما تريد إليه؟ ألم تعلم أنه قد قال: إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه)) (3) .
قال النووي: ((قال العلماء: قصته مشكلة، وأمره مشتبه في أنه هو الدجال المشهور، أو غيره، ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة.
وظاهر الأحاديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يُوحَ إليه بأنه الدجال،، ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يقطع بأنه الدجال، ولا غيره)) (4) .
(1)((الفتح)) (13/91) .
(2)
البخاري (9، 88) ، ومسلم (4/2243) رقم (2929) .
(3)
مسلم (4/2246) .
(4)
((شرح النووي)) (18/46) .
قلت: ابن صياد فيه كلام كثير للعلماء، وفيه أحاديث بعضها في مسلم.
وليس هو الدجال المشهور، وإنما هو من جملة الدجالين كما سبق. والله أعلم.
قوله: ((المدينة يأتيها الدجال، فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال)) .
قد أثبت إتيانه إليها، ولكن لا يستطيع دخولها؛ لأن الملائكة تصده عنها، وذلك لأن سلطان المسلمين قد ضعف عن مقاومة الكفر وأهله، فلهذا جعل الله – تعالى – الملائكة هي التي تصد الدجال عن مدينة رسوله وعن مكة.
وفي مسند الإمام أحمد عن محجن بن الأدرع أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطب الناس فقال: ((يوم الخلاص، وما يوم الخلاص، يوم الخلاص وما يوم الخلاص)) ثلاثاً، فقيل له: وما يوم الخلاص؟ قال: ((يجيء الدجال، فيصعد أحداً، فينظر المدينة فيقول لأصحابه: أترون هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة فيجد بكل نقب منها ملكاً مصلتاً، فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق، ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة، إلا خرج إليه، فذلك يوم الخلاص)) (1) .
قوله: ((ولا الطاعون إن شاء الله)) الطاعون: من الطعن والوخز، وهو الوباء، وهذا من تكريم الله – تعالى – لرسوله، حيث منع الوباء من مدينته، وجاء في بعض الروايات أن مكة كذلك لا يدخلها الطاعون.
والشاهد قوله: ((إن شاء الله)) يعني: أن ذلك معلق بمشيئة الله، فلو شاء لم يحصل المنع.
(1) انظر ((المسند)) (4/338) و (5/31) .
وذكر البخاري هذا الحديث في فضائل المدينة بأبسط مما ها هنا، ولفظه:
((ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج الله كل كافر ومنافق)) (1) .
قال الحافظ: ((هذا الخبر على ظاهره وعمومه عند الجمهور، وشذ ابن حزم فقال: لا يدخل وجنوده، وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد؛ لقصر مدته، وغفل عما في ((صحيح مسلم)) أن بعض أيامه كسنة)) (2) .
وقوله: ثم ترجف المدينة، أي: يحصل لها زلزلة بعد أخرى، حتى يخرج منها من ليس مؤمناً، ويبقى المؤمنون الصادقون، فلا يسلط عليهم ولا ينالهم شره وفتنته.
ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكرة: ((لا يدخل المدينة رعب الدجال)) ؛ لأن المراد برعبه: ما يحدث من الفزع من فعله وعتوه، لا الرجفة التي تقع لإخراج المنافقين والكافرين، وحمل بعض العلماء حديث ((إنها تنفي الخبث)) على هذا، والصحيح أنه خاص بناس، وبزمان، فلا مانع أن يكون هذا الزمان هو المراد، ولا يلزم من كونه مراداً، نفي غيره)) .
****
100 – قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، حدثني أبو سلمة ابن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((لكل نبي دعوة فأريد – إن شاء الله – أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) .
(1) انظر ((الفتح)) (4/95) .
(2)
المصدر السابق (ص96) .
أي: لكل نبي من أنبياء الله دعوة مستجابة، كدعوة نوح – عليه السلام – على قومه: بقوله: {ربِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (1) فاستجاب الله دعوته فأغرق أهل الأرض عموماً، وكدعوة صالح، وشعيب، ولوط، وغيرهم مما ذكره الله – تعالى – في كتابه.
والصحيح أن لكل نبي دعوة عامة مستجابة في أمته، وأما الدعوات غير العامة فكثيرة، منها ما يستجاب، ومنها ما لا يستجاب.
قال النووي: ((معناه أن لكل نبي دعوة متيقنة الإجابة، وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم، فهم على طمع من إجابتها، وبعضها يجاب، وبعضها لا يجاب)) (2) .
قوله: ((فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) .
هذا من رحمة الله – تعالى – بهذه الأمة، حيث ألهم رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يجعل دعوته العامة المستجابة في أمته، شفاعة له فيهم.
وقد بين أنها للموحدين، فلا نصيب لمشرك في هذه الدعوة العامة، كما في رواية مسلم ((فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)) (3) .
قال النووي: ((في هذا الحديث كمال شفقة النبي – صلى الله عليه وسلم – على أمته ورأفته بهم، واعتناؤه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخر – صلى الله عليه وسلم – دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم)) (4) .
(1) الآية 26 من سورة نوح.
(2)
((شرح مسلم)) (3/75) .
(3)
انظر: مسلم (1/189) رقم (199) .
(4)
المصدر السابق (3/76) .
وقال في قوله: ((إن شاء الله - تعالى -)) : هو على جهة التبرك والامتثال لقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (1)(2) .
قلت: ليس كما قال رحمه الله إن التعليق للتبرك وامتثال الأمر، ولكنه تعليق حقيقة، إذ لو شاء الله لم يقع ذلك، غير أنه تعالى شاء وقوعه فأخبر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وخبره حق، والمقصود أن كل شيء بمشيئة الله.
*****
101 -
قال: ((حدثنا يسرة بن صفوان بن جميل اللخمي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم رأيتني على قليب فنزعت ما شاء الله أن أنزع، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم أخذها عمر، فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه، حتى ضرب الناس حوله بعطن)) .
هذه رؤيا منام، ورؤيا الأنبياء نوع من أنواع الوحي، كما في حديث عائشة:((إن أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة)) .
والرؤيا: هي ما يراه الإنسان في نومه.
قوله: ((بينا)) هي ((بين)) الظرفية الزمانية، والألف للإشباع.
((رأيتني على قليب)) أي: رأيت نفسي على قليب وهي البئر المحفورة لاستخراج الماء منها، وقال النووي:((هي البئر غير المطوية)) (3) .
(1) الآية 23 من سورة الكهف.
(2)
المصدر السابق.
(3)
((شرح مسلم)) (15/159) .
قوله: ((فنزعت ما شاء الله أن أنزع)) النزع هو: استخراج الماء من البئر بالدلو، وهذا محل الشاهد من الحديث حيث أسند كمية النزع إلى مشيئة الله – تعالى -، وقد سبق أن مشيئة الله عامة لا يخرج عنها شيء، والإنسان وإن كان له مشيئة، فهي داخلة تحت مشيئة الله تعالى -، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَن يَشَاء اللَّهُ} (1) .
قوله: ((ثم أخذها ابن أبي قحافة)) أبو قحافة هو: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، والد أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما.
((فنزع ذنوباً أو ذنوبين)) الذنوب: الدلو المملوء ماء.
((وفي نزعه ضعف، والله يغفر له)) ، في رواية مسلم:((وفي نزعه – والله يغفر له – ضعيف)) (2) .
وفي رواية له: ((بينا أنا نائم رأيت أني أنزع على حوضي أسقي الناس، فجاء أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليروحني، فنزع دلوين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، فجاء ابن الخطاب، فأخذ منه، فلم أر نزع رجل قط أقوى منه، حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر)) وهذا يفسر الرواية المذكورة هنا.
والضعف المذكور إشارة إلى قلة المال من المغانم ونحوها في وقته، بالنسبة إلى زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وزمن عمر، وذلك لما حصل من انتكاسة الناس وارتداد أكثر العرب عن الإسلام، فانشغل في قتالهم، وإدخالهم في الإسلام مرة أخرى، وهذا العمل أفضل مما حصل في وقت عمر – ومن بعده من الخلفاء – من الفتوح.
(1) الآية 30 من سورة الإنسان، الآية 29 من سورة التكوير.
(2)
انظر: مسلم (4/1860) .
وقوله: ((والله يغفر له)) إشارة إلى أن ما يقع في الأمة من صدود عن الله أو انحراف، فإن الإمام قد يكون مسؤولاً عن ذلك، إذ هو القائد الذي يجب أن يقودهم إلى الصلاح والخير، ويحملهم على طاعة الله وطاعة رسوله، ولذلك أخبر أن هذه المسؤولية مغفورة لأبي بكر؛ لأنه بذل جهده في ردهم إلى الإسلام حتى استقاموا على الحق، والعلم عند الله.
قوله: ((ثم أخذها عمر، فاستحالت غرباً)) أي: الدلو، تحولت إلى غرب، والغرب – بفتح الغين المنقوطة وإسكان الراء – هي: الدلو العظيمة المتخذة من جلود الإبل أو البقر، والمعنى: أن الدلو التي كنت أنزع بها وأخذها مني أبو بكر، لما أخذها عمر بعد أبي بكر، صارت غرباً كبيراً يتسع لماء كثير.
((فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريَّه)) العبقري: الكامل من كل شيء.
قال في ((القاموس)) : العبقري: الكامل من كل شيء، والسيد من الرجال، قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء، عن العبقري؟ قال: يقال: هذا عبقري قوم، كقولك: هذا سيد قوم، وكبيرهم، وشديدهم، وقويهم، ونحو ذلك.
وقيل: العبقري: الذي ليس فوقه شيء، يعني: من جنسه.
قال أبو عبيد: وأصل هذا فيما يقال إنه نسب إلى ((عبقر)) وهي أرض يسكنها الجن، فصارت مثلاً لكل منسوب إلى شيء رفيع)) (1)
وقال الراغب: (عبقر: قيل: هو موضع للجن، ينسب إليه كل نادر من إنسان، وحيوان، وثوب، ولهذا قيل في عمر: لم أر عبقرياً مثله، {وَعَبقَرِيٍ حِسَانِ} هو ضرب من الفرش – فيما قيل – جعله الله – تعالى – مثلاً
(1)((تاج العروس)) (12/514) .
لفرش الجنة)) (1) .
((يَفْري فَرِيَّهُ)) بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الراء، وفتح الفاء الثانية وكسر الراء وفتح الياء المشددة، قال ابن الأثير:((أي: يعمل عمله، ويقطع قطعه، ويُروي: ((يفري فريه)) بسكون الراء الثانية والتخفيف، وحكي عن الخليل أنه أنكر التثقيل، وغلط قائله.
وأصل الفري: القطع، يقال: فريت الشيء أفريه فرياً: إذا شققته وقطعته للإصلاح، فهو مفري)) (2) .
وقال النووي: ((أما يفري، بفتح الياء، وإسكان الفاء، وكسر الراء، وأما فريه، فروى بوجهين: أحدهما: فريه بإسكان الراء وتخفيف الياء، والثانية بكسر الراء وتشديد الياء، وهما لغتان صحيحتان، وأنكر الخليل التشديد، وقال: هو غلط. واتفقوا على أن معناه: لم أر سيداً يعمل عمله، ويقطع قطعه، ثم ذكر ما ذكره ابن الأثير)) (3) .
والمعنى: فلم أر رجلاً كاملاً، قوياً، يستخرج الدلاء من البئر مثله، حتى كثر الماء وشرب الناس، وجلسوا حول الحوض الذي يصب فيه الماء لا حاجة لهم فيه، وهذا معنى قوله:((حتى ضرب الناس حوله بعطن)) كما في رواية مسلم.
((فلم أر نزع رجل قط أقوى منه، حتى تولى الناس، والحوض ملآن يتفجر)) (4) .
(1)((المفردات)) (ص320) .
(2)
((النهاية)) (3/442) ، وانظر ((الفتح)) (7/46) ، و ((مشارق الأنوار)) (2/64) .
(3)
((شرح مسلم)) (15/162) .
(4)
تقدم تخريجه.
قال النووي: ((قال القاضي عياض: ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة، وقيل: يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جيمعاً؛ لأن ذلك تم بنظرهما، وتدبيرهما، وقيامهما بمصالح المسلمين، وضرب الناس بعطن؛ لأن أبا بكر قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين، وألَّف بينهم، وابتدأ الفتوح، ومهد الأمور، وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما)(1) .
وقال أيضاً: ((قال العلماء: هذا المنام مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – في خلافتهما، وحسن سيرتهما، وظهور آثارهما، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي – صلى الله عليه وسلم، ومن بركته، وآثار صحبته، فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – هو صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام، ومهد أموره، وأوضح أصوله وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأنزل الله – تعالى: {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم} ، ثم توفي صلى الله عليه وسلم فخلفه أبو بكر – رضي الله عنه – سنتين وأشهراً، وهو المراد بقوله: ((ذنوباً أو ذنوبين)) وهذا شك من الراوي، بل هما ذنوبان، كما صرح به في الرواية الأخرى.
وحصل في خلافته قتال أهل الردة، وقطع دابرهم، واتساع الإسلام، وعودة قوة المسلمين وهيبتهم.
ثم توفي، فخلفه عمر – رضي الله عنه – فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله، فعبّر بالقليب عن أمر المسلمين؛ لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم، وشبه أميرهم بالمستقي لهم، وسقيه هو قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر – رضي الله عنه: ((وفي نزعه ضعف)) .
(1)((شرح مسلم)) (15/162) .
فليس فيه حط من فضيلته، ولا إثبات لفضل عمر عليه، وإنما هو إخبار عن مدة ولايتهما، وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها، ولاتساع الإسلام وبلاده وكثرة الأموال، وغيرها من الغنائم والفتوح، وتمصير الأمصار، وتدوين الدواوين.
أما قوله: ((والله يغفر له)) فليس فيه تنقيص له، ولا إشارة إلى ذنب، وإنما هي كلمة كان المسلمون يقولونها: افعل كذا، والله يغفر لك.
قال العلماء: وفي كل هذا إعلام بخلافة أبي بكر وعمر، وصحة ولايتهما، وبيان صفتها، وانتفاع المسلمين بها)) (1) .
أما ما ذكره من أنه إعلام بصحة ولايتهما، فهو أمر متفق عليه عند أتباع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين آمنوا به، ولم يخالف فيه إلا الذين دخلوا الإسلام تستراً لأجل هدمه ومحاربته، أمثال الرافضة والإسماعيلية والنصيرية، وهم ليسوا من المسلمين في شيء، ومن نظر في كتبهم تيقن أنهم من أبعد الناس عن الإسلام.
وأما ما ذكر من أن قوة نزع عمر لطول مدته، وضعف نزع أبي بكر لقصر مدته، فهو خلاف ظاهر الحديث، وإنما قوة نزع عمر كناية عن قوته في الحق وصلابته وقوة عزيمته، وضعف نزع أبي بكر كناية عن لينه ورقته، ولا يلزم من ذلك أن عمر أفضل من أبي بكر إذا فضله في خصلة من الخصال.
وأما المدة، فعبر عنها بالدلاء، فأبو بكر لم ينزع إلا ذنوبين، بينما عمر نزع حتى روى الناس، وتركوا الحوض ملآن.
******
102 – قال: ((حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أتاه
(1)((شرح النووي على مسلم)) () 15/161.
السائل - وربما قال: جاءه السائل أو صاحب الحاجة - قال: ((اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء)) .
الرسول صلى الله عليه وسلم معلم الخير والداعي إليه، فلم يترك طريقاً يوصل الخلق إلى اكتساب الخير إلا دلهم عليه، وحضهم على سلوكه، حتى الأمور التي قد يظن بعض الناس أنها أمور عادية لا تدخل في العبادة، مثل ما في هذا الحديث، وخصوصا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يتصور مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يمنع أحداً ما يستحقه، أو يبخسه شيئاً من ذلك، ومع ذلك أمر بالشفاعة عنده، وأخبر أن شفاعتهم لا تأثير لها في مشيئة الله - تعالى -، بل المقصود حصول الثواب للشافع.
وأما ما يقع للمشفوع له فهو ما يقضيه الله - تعالى - ويشاؤه، ولهذا قال:((اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء)) .
والشاهد فيه: أن مشيئة الله - تعالى - لا تؤثر فيها شفاعة ولا غيرها، بل ما شاء فِعْلَهُ فَعَلَهُ، وما شاء تَرْكَهُ تَرَكَهُ، لا راد لما أراد، ولا يمنع ذلك فعل الأسباب، ولا كون المسببات مرتبة على أسبابها، فكلها بمشيئة الله.
******
103 -
قال: ((حدثنا يحيى، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، سمع أبا هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء، لا مكره له)) .
تقدم هذا الحديث من رواية أنس، وبينا الحكمة في النهي عن ذلك.
قال النووي: ((قال العلماء: عزم المسالة: الشدة في طلبها، والجزم من غير ضعف في الطلب، ولا تعليق على المشيئة ونحوها.
وقيل: هو حسن الظن بالله - تعالى - في الإجابة. ومعنى الحديث: استحباب
الجزم في الطلب، وكراهة التعليق على المشيئة.
قال العلماء: كراهة ذلك أنه لا يتحقق استعماله المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الإكراه، والله - تعالى - منزه عن ذلك، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث:((فإنه لا مكره له)) .
وقيل: سبب الكراهة أن في هذا اللفظ صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه)) (1) .
وقال الحافظ: ((النهي لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء، فيخفف الأمر عليه، ويعلمه بأنه لا يطلب منه الشيء إلا برضاه، والله - تعالى - منزه عن ذلك، فلا فائدة لتعليق. وقيل: لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب، والمطلوب منه، والأول أولى)) (2) .
قلت: كلا الأمرين دل عليهما النهي، ويدخلان فيه، كما تقدم.
وكلام النووي رحمه الله ظاهره أن النهي للكراهة، وليس للتحريم، ومثله كلامه في الأذكار، فإنه قال:((ويكره أن يقول في الدعاء: اللهم اغفر لي إن شئت، أو إن أردت، بل يجزم بالمسألة)) (3) .
وهذا خلاف ظاهر الحديث، ولا أدري ما دليله على ذلك؟ وقد جاء في رواية في ((الصحيحين)) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم في الدعاء، فإن الله صانع ما شاء)) (4) ، وهذا ظاهر في التحريم، والقاعدة: أن النهي يحمل على التحريم، ما لم يدل دليل على أنه لكراهة التنزيه.
(1)((شرح مسلم)) (17/7) .
(2)
((الفتح)) (1/140) .
(3)
(ص496) .
(4)
انظر ((الفتح)) (11/139) ، و ((مسلم)) (4/2063) رقم (2679) .
قال ابن عبد البر: ((لا يجوز لأحد أن يقول: اللهم أعطني إن شئت، [سواء] من أمور الدين أو الدنيا؛ لأنه كلام مستحيل لا وجه له، إذ لا يفعل إلا ما يشاء)) .
قال الحافظ: ((وظاهره أنه حمل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحمله النووي على كراهة التنزيه، وهو أولى)) (1) .
قلت: بل الأولى ما دل ظاهر النص عليه، وهو التحريم.
والمقصود من الحديث هنا قوله: ((إنه يفعل ما يشاء لا مكره له)) أي: أنه تعالى لا يحمله دعاء ولا غيره على فعل ما لا يريد، فلا يمكن أن يقع في الوجود إلا ما شاء، أما المخلوق فإنه قد يكره على فعل ما لا يريد.
******
104 -
قال: ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو حفص عمرو، حدثنا الأوزاعي، حدثني ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري، في صاحب موسى، أهو خضر، فمر بهما أبي بن كعب الأنصاري، فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا، في صاحب موسى، الذي سأل السبيل إلى لقيه، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: نعم. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول: بينا موسى في ملأ بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال موسى: لا، فأوحي إلى موسى: بلى، عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت
(1) انظر ((الفتح)) (1/144) .
فارجع، فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن ذكره، قال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، فوجدا خضراً، وكان من شأنهما ما قص الله)) .
المراء: المجادلة، يقال: ماريته، أماريه مماراة ومراء، ولا يكون المراء إلا اعتراضاً بخلاف الجدال، فإنه يكون ابتداء، واعتراضاً، فهو أعم)) (1) .
فقوله: ((تماريت)) أي: جادلت معترضاً عليه، وهو كذلك، في أن صاحب موسى هو الخضر، وكان الحر بن قيس يرى أنه غيره.
قال الحافظ: ((لم يذكر ما قال الحر بن قيس، ولا وقفت على ذلك في شيء من طرق الحديث، والخضر: بفتح أوله، وكسر ثانيه، أو بكسر أوله، وإسكان ثانيه)) (2) .
وفي ذلك جواز المجادلة في العلم، إذا كان بغير تعنت وازدراء لغيره.
وفيه إنصاف الصحابة وأدبهم في طلب العلم.
وقد جاء في بعض طرق الحديث في الصحيح، أن ابن عباس لما رأى أُبيّاً قام إليه وسأله.
وفيه الرجوع إلى العلماء عند التنازع وقبول الحق ممن قاله، وقبول خبر الواحد الصدوق، وفضل العلم وأهله.
قوله: ((بينا موسى في ملأ بني إسرائيل)) أي: في أشرافهم، ورؤسائهم.
(1)((المصباح)) (2/782) .
(2)
((الفتح)) (1/169) .
قال في ((المصباح)) : ((الملأ - مهموز -: أشراف القوم، سموا بذلك لملاءتهم بما يلتمس عندهم من المعروف، وجودة الرأي؛ لأنهم يملؤون العيون أبهة، والصدور هيبة)) (1) .
وقال الراغب: ((الملأ: جماعة يجتمعون على رأي، يملؤون العيون، رواءً ومنظراً، والنفوس بهاء وجلالاً)) (2) .
وجاء هذا اللفظ في كتاب الله - تعالى - كثيراً.
((إذ جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك)) كأن هذا الرجل أعجبه ما سمعه من موسى عليه السلام من العلم، فدعاه ذلك إلى هذا السؤال، ويدل لذلك ما ذكره في ((التفسير:((أن موسى ذكر الناس يوماً، حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب ولَّى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله، هل في الأرض أحد أعلم منك؟)) (3) .
وفي ((صحيح مسلم)) : ((بينما موسى عليه السلام _ في قومه، يذكرهم بأيام الله - وأيام الله: نعماؤه - إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلاً خيراً، أو أعلم، مني)) (4) .
((فأوحى إلى موسى: بلى، عبدنا خضر)) قال الحافظ: ((ظاهر هذا أن الخضر نبي، بل نبي مرسل، إذ لو لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى، وهو باطل)) .
(1)(2/797-798) .
(2)
((المفردات)) (ص473) .
(3)
انظر ((الفتح)) (8/441) .
(4)
((مسلم)) (4/1850) .
ثم قال: ((والحق أن المراد بهذا الإطلاق تقييد الأعلمية بأمر مخصوص؛ لقوله بعد ذلك: ((إني على علم من علم الله علمنية، لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله، لا أعلمه)) ، والمراد بكون النبي أعلم أهل زمانه: أي: ممن أرسل إليهم، ولم يكن موسى مرسلاً إلى الخضر، فلا نقص على موسى إذا كان الخضر أعلم منه.
ومن أوضح ما يستدل به على نبوة الخضر: قوله تعالى: {وَمَا فَعَلتُهُ عَن أَمرِي} وينبغي اعتقاد كونه نبياً؛ لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي)) (1)
وهذا لا يكفي لاعتقاد كونه نبياً، بل يجب الاعتماد على الأدلة الشرعية، وقوله:{وَمَا فَعَلتُهُ عَن أَمرِي} دليل على أنه فعله عن أمر الله بالوحي إليه، ومن يوحى إليه فهو نبي.
((فسأل موسى السبيل إلى لقيه)) أي: سأل ربه أن يدله على الطريق إليه، ويهيئ له أسباب ذلك.
((فجعل له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه)) .
جاء بيان ذلك في الرواية الأخرى، أنه حمل حوتاً بمكتل، ووكل موسى عليه السلام ذلك إلى غلامه، وقال له: إذا فقدته فأخبرني، فنزلا مكاناً فيه صخرة على سيف البحر، فاضطرب الحوت ودخل البحر، ونسي الغلام أن يخبر موسى، حتى تعبا، وقبل ذلك لم ينلهما تعب، عند ذلك ((قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، قال: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً)) يعني: الحوت كان طريقه يقف الماء عنه فيبقى لا ماء فيه.
(1)((الفتح)) (1/219-220) .
((قال موسى: ذلك ما كنا نبغي)) أي: هو الذي نريد، حيث جعل فقد الحوت علامة لنا على وجود الخضر.
((فارتدا على آثارهما قصصاً)) أي: رجعا يتبعان آثارهما ويقصانها، فلما وصلا الموضع الذي فقدا فيه الحوت وجدا خضراً، وكان من شأنهما ما قص الله)) .
يعني: من خرق السفينة، وإقامة الجدار بدون أجر، وقتل الغلام.
وقد اختصر البخاري الحديث، ولم يذكر محل الشاهد منه، وهو قوله:((ستجدني إن شاء الله صابراً)) فوعد بأنه يصبر على ما يراه منه، وأن يطيع أمره، وعلق ذلك بمشيئة الله - تعالى - وهو عازم على ذلك، ولكن الله - تعالى - لم يشأ لموسى الصبر على ما يراه من الخضر، فلم يصبر.
فمهما كان عند المخلوق من القوة والعزم، فإنه لا يستطيع فعل شيء إلا أن يشاء الله - تعالى -.
*****
105 -
قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري.
وقال أحمد بن صالح: حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ننزل غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر - يريد المحصب -)) .
ذكر هذا الحديث في كتاب الحج بلفظ يوضح ما هنا، حيث قال: ((قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر - وهو بمنى -: نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر - يعني بذلك المحصب - وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو تقاسمهم على الكفر، وفي هذا أن هذا القول وهو بمنى في اليوم
الثاني عشر، وذلك في حجة الوداع. ويخالفه ما في الفضائل:((قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين أراد حنيناً: ((منزلنا غداً – إن شاء الله – بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر)) (1) .
وفي أخرى: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله، الخيف، حيث تقاسموا على الكفر)) فهذه والتي قبلها صريحتان في أن ذلك في فتح مكة، ولهذا قال بعض العلماء بتعدد هذا القول منه – صلى الله عليه وسلم – في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع، فإنه صلى الله عليه وسلم نزل هناك بعد ما خرج من منى)) (2) .
((وكان تقاسمهم على الكفر في أول يوم من محرم السَّنة السابعة من البعثة كما ذكر ذلك أصحاب المغازي والسيرة، وذلك لما رأت قريش أن الصحابة الذين هاجروا قد وجدوا أرضاً أمنوا فيها الافتتان والأذية، وأن أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقوي ويزداد ظهوراً، فقد دخل في الإسلام عمر بن الخطاب، وفشا الإسلام في القبائل، لذلك اجتمع رأيهم على أن يقتلوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم، وبني عبد المطلب، فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، ومنعوه ممن أراد قتله. لذلك كتبت قريش عهداً بينهم بمقاطعة بني هاشم، وبني عبد المطلب، بأن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يتعاملوا معهم، وكتبوا ذلك في صحيفة، وعلقوها بالكعبة.
قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك ثلاث سنين، حتى اشتد الأمر عليهم، فسعى في نقض هذا العهد بعض رجالات قريش، فهذا هو تقاسمهم على
(1) انظر ((الفتح)) (7/192) .
(2)
انظر ((الفتح)) (8/14) .
الكفر)) (1) .
قال الحافظ: ((ويختلج في خاطري أن ما بعد قوله: ((يعني: المحصب)) مدرج من كلام الزهري)) .
والخيف بسكون الياء: ما ارتفع من الوادي قليلاً من مسيل الماء، ولا يكون إلا بين جبلين، ومنه مسجد الخيف بمنى؛ لأنه في خيف الجبل، والأصل: مسجد خيف منى، فخفف (2) .
وكنانة: هو ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو الجد الرابع عشر للنبي – صلى الله عليه وسلم، وأولاد كنانة أربعة: النضر، ومالك، وعبد مناف، وملكان.
والنضر: هو قريش، فما كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي، ولذلك قال في الحديث:((إن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبن عبد المطلب)) .
وقيل: قريش هو: فهر بن مالك بن الضر بن كنانة، فمن كان من ولد فهر فهو قرشي، وإلا فليس بقرشي، والله أعلم (3)
والمقصود من الحديث قوله: ((ننزل غداً إن شاء الله)) حيث علق ما هو عازم على فعله، وقد توافرت أسباب ذلك لديه على مشيئة الله – تعالى – فإنه لو شاء لجعل الممكن الميسور عسيراً ممتنعاً، وليس قول ذلك لمجرد التبرك، بل لأن حصول ذلك مشروط بمشيئة الله – تعالى -.
*****
(1) المصدر السابق (7/192) .
(2)
انظر ((المصباح)) (1/254) .
(3)
انظر ((مختصر السيرة)) لابن هاشم (1/96) .
106 – ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمر قال: حاصر النبي – صلى الله عليه وسلم – أهل الطائف فلم يفتحها، فقال: ((إنا قافلون غداً إن شاء الله)) ، فقال المسلمون: نقفل ولم نفتح؟ قال: ((فاغدوا على القتال)) ، فغدوا، فأصابتهم جراحات، قال النبي – صلى الله عليه وسلم:((إنا قافلون غدا إن شاء الله)) فكأن ذلك أعجبهم، فتبسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم)) .
الحصار: هو المنع أن يخرج أحد منهم، أو يدخل إليهم شيء، والتضييق عليهم. وكان ذلك بعد فراغه صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين، وتحصن الكفار بالطائف، فرأى صلى الله عليه وسلم أنهم يحتاجون إلى مطاولة، وهم أهل رماية، فقد ينالون من المسلمين ما لا يناله المسلمون منهم، ورجاء أن تفتح عليه بأقل من ذلك العناء، وأشفق على أصحابه، فقال:((إنا قافلون غداً إن شاء الله)) وهذا عرض عليهم من باب المشاورة وإشراكهم في الرأي، كما هي عادته صلى الله عليه وسلم. ولهذا لم يلزمهم، ولما قالوا: نقفل ولم نفتح؟ قال: ((اغدوا على القتال)) ثم أعاد هذا القول من الغد بعد ما أمضوا يومهم ذلك في القتال، ولم يتحصلوا على طائل، وقد أصابتهم جراحات، ففرحوا بما قال رسولهم – صلى الله عليه وسلم – وعلموا أن الخير والبركة في رأيه، عند ذلك تبسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما رأى فرحهم، وقد كانوا بالأمس قد كرهوا ذلك، تعجباً من سرعة تغير رأيهم، ولإجماعهم على تصويب ما رآه صلى الله عليه وسلم أولاً.
والمقصود منه قوله: ((إن شاء الله)) فقد أخبر أولاً بأنهم قافلون، معلقاً ذلك بمشيئة الله، فلم يحصل؛ لأن الله لم يشأ ذلك.
وفي المرة الثانية شاءه، فحصل بإيجاد الله له الأسباب التي جعلتهم يفرحون بذلك، وهكذا كل ما لا يريد الله – تعالى – حصوله، لا بد أن يوجد له من الأسباب ما يمنع وجوده، وبالعكس.
*****
قال: ((باب قول الله - تعالى -: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) ولم يقل: ماذا خلق ربكم)) .
أخبر تعالى أنه المالك لكل شيء، وأنه لا يقع لأي فرد من خلقه ضر أو نفع إلا بإرادته وتدبيره، فهو المالك للشفاعة وغيرها، فلا تقع الشفاعة لديه إلا بإذنه، ولا تنفع إلا لمن رضي عمله وقوله، فهو - تعالى - لا يأذن في الشفاعة إلا فيمن رضي عمله، وهو لا يرضى إلا بعبادته الخالصة.
قال النووي: ((أهل السُّنَّة متفقون على وقوع الشفاعة، ودل عليه العقل والسمع، فقد ثبت ذلك في كتاب الله وسنة رسوله، كما في هذه وغيرها، والأحاديث فيها بلغت حد التواتر، وأجمعوا على وقوعها للمذنبين من أهل التوحيد، وإنما خالف
فيها أهل البدع، الذين سلكوا غير سبيل المؤمنين)) (2) .
قال في ((اللسان)) : ((فزع عنه)) أي: كشف عنه الخوف (3) .
وقال الأزهري: ((اتفق أهل التفسير، وأهل اللغة، أن معنى قوله:{فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} : كشف الفزع عن قلوبهم، وتأويل الآية: أن ملائكة سماء الدنيا كان عهدهم قد طال بنزول الوحي من السماوات، فلما نزل جبريل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بعث نبياً، ظنت الملائكة الذين في السماء الدنيا أن جبريل نزل لقيام الساعة، ففزعوا له، فلما تقرر عندهم أنه نزل لغير ذلك، كشف الفزع عن قلوبهم، فأقبلوا على جبريل ومن معه من
(1) الآية 23 من سورة سبأ.
(2)
انظر ((شرح مسلم)) للنووي (3/35) .
(3)
(8/253) .
الملائكة، وقالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} والذين فزع عن قلوبهم ها هنا ملائكة السماء الدنيا.
وقيل: إن ملائكة كل سماء، فزعوا لنزول جبريل، ومن معه من الملائكة، فقال كل فريق منهم لهم:((ماذا أنزل ربكم؟)) (1) .
وهذه الآية لها تعلق بما قبلها، وهي قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ {22} وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ} (2) .
قال ابن كثير: ((بين تعالى أنه الإله الواحد الأحد الذي لا نظير له، ولا شريك له، بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك، ولا منازع، ولا معارض، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ} أي: من الآلهة التي عبدت من دونه، {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} كما في الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} (3) .
وقوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي: لا يملكون شيئاً استقلالاً، ولا على سبيل الشركة:{وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} أي: ليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه)) (4) .
والمقصود: أن الملائكة الذين سمعوا كلام الله يفزعون له خوفاً، ولم يفهموا كلامه من شدة فزعهم، فإذا ذهب فزعهم، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ماذا قال ربكم؟ فيجيب المسؤولون، بأنه تعالى: قال الحق، فيقولون كلهم: قال الحق، وهو العلي الكبير. كما وضح ذلك في الأحاديث التي ذكر هنا بعضها.
(1) تهذيب اللغة (2/145-146) .
(2)
الآيتان 22، 23 من سورة سبأ.
(3)
الآية 13 من سورة فاطر.
(4)
((تفسير ابن كثير)) (6/501) طبعة الشعب.
ومراد البخاري – رحمه الله – من الآية: أنها تدل على أن لله كلاماً يتكلم به ويقوله بصوته، وأنه يسمع منه كما هو ظاهر الآية:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} ، وأن قوله صفة له تعالى، لا يكون مخلوقاً، كما زعم الضالون، ولهذا ذكر الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله ينادي بصوت، كما يأتي، وفي ذلك أبلغ دليل على بطلان قول المعتزلة، ومن تابعهم، على أن الله لا يتكلم بكلام يسمع منه، وإنما كلامه ما يخلقه في غيره، أو هو المعنى القائم في نفسه – تعالى الله عن قولهم – وأنه لا يكون بحرف وصوت يسمع، ((وكل ذي لب صحيح يعرف بالحس، والمشاهدة قبل الاستدلال أن القرآن العربي، حروف، ولا فرق بين منكر ذلك ومنكر الحواس، وأنها من مبادئ العلم وأسبابه المدارك)) (1) .
وما نقله الحافظ عن ابن بطال: من أن مراد البخاري: أن قول الله قديم لذاته قائم بصفاته، لم يزل موجودا ً به (2) ، ولا يزال كلامه لا يشبه [كلام] المخلوقين)) (3) إلى آخره.
فهو بعيد كل البعد عن مراد البخاري، بل هذا القول يدخل في قول من قصد البخاري الرد عليهم، ولكن ابن بطال يريد من البخاري أن يكون متفقاً معه في العقيدة، وبينهما مثل ما بين المشرق والمغرب.
قوله: ((ولم يقل ماذا خلق ربكم)) يشير بذلك إلى الرد على القائلين بخلق القرآن وغيره من كلام الله – تعالى – فالآية صريحة في إبطال قولهم.
قال الحافظ: ((هذا أول باب تكلم فيه البخاري على مسألة الكلام، وهي
(1)((درء تعارض العقل والنقل)) (2/92) ، نقله عن أبي نصر السجزي.
(2)
هكذا في النسخة التي عندي، وأظن الصواب:((موصوفاً به)) .
(3)
((الفتح)) (13/453) .
طويلة الذيول)) (1) .
قال: ((وقال جل ذكره: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (2) .
وهذا استفهام إنكار، ينكر تعالى على من يزعم أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه، كما هو المعهود في الدنيا لدى العظماء، فإن الشفاعة عندهم تحصل بدون إذنهم.
أما رب العالمين فلعظمته وتمام ملكه، لا يستطيع أحد أن يقدم على الشفاعة عنده، مهما كان مقامه، حتى يأذن له، كما تقدم في حديث الشفاعة قوله صلى الله عليه وسلم:((فأستأذن على ربي، فإذا رأيته خررت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي من المحامد والثناء، ثم يقول: ارفع رأسك وقل يسمع، واشفع تشفع)) وفيه: ((فيحد لي حداً، فيقول: هؤلاء اشفع فيهم)) فعاد الأمر كله لله وحده، كما قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا (3) } .
والشاهد من الآية للباب قوله: {إِلَاّ بِإِذْنِهِ} فإن الإذن يكون بالقول المسموع، الذي يسمعه المأذون له على الأقل.
وأما قول الحافظ فيما ظنه: ((أن البخاري أشار بهذه الآية إلى ترجيح أن الضمير في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} للملائكة)) (4) إلى آخره، وأن فاعل الشفاعة في قوله:((ولا تنفع الشفاعة عنده)) هم الملائكة، فهو بعيد عن مراد البخاري، وإن كان هذا الذي ذكره هو الصواب في كون الضمير للملائكة، وفاعل الشفاعة هم.
(1)((الفتح)) (13/454) .
(2)
الآية 255 من سورة البقرة.
(3)
الآيتان 43، 44 من سورة الزمر.
(4)
انظر ((الفتح)) (13/456) .
((وقال مسروق: عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئاً، فإذا فزع عن قلوبهم، وسكن الصوت، عرفوا أنه الحق، ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق)) .
قال الحافظ: رواه أحمد موصولاً، ولفظه:((أن الله – عز وجل – إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسة على الصفاء، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل، فزع عن قلوبهم، قال: ويقولون: يا جبريل، ماذا قال ربكم؟ قال: فيقول: الحق، قال: فينادون: الحق، الحق)) (1) .
ورواه البخاري موصولاً في ((خلق أفعال العباد)) (2) .
وقال أبو داود: ((حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي، وعلي بن الحسين بن إبراهيم، وعلي بن مسلم، قالوا: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل، ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحق، الحق)) (3) .
وقال ابن جرير: ((حدثني زكريا بن أبان المصري، قال: حدثنا نعيم، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي زكريا، عن جابر بن حيوة، عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله
(1)((الفتح)) (13/456) .
(2)
انظر (193)((مجموع عقائد السلف)) .
(3)
((سنن أبي داود)) (5/106) كتاب السّنَّة.
– صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله أن يوحي بالأمر، تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة، خوف أمر الله، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا، وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير، قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله)) (1) .
وبهذه الأحاديث يتبين معنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أن هذا الفزع الذي يصيبهم من شدة خوفهم من الله – تعالى -، عندما يسمعون صوت السماء، ويعملون أن ذلك الصوت الذي هو كجر السلسلة على الصفاء هو رعدة السماوات، وخوفها من الله لما سمعت كلامه بالوحي، فعند ذلك تصعق الملائكة خوفاً أن يكون الله – تعالى- أمر بقيام الساعة التي يجازي عز وجل فيها كل عامل بعمله، هذا مع قيامهم بأمر الله وطاعته، وعظيم عبادتهم له، يخافون هذا الخوف الشديد، فكيف بمن يبارز الله – تعالى – بالمعاصي؟
وفي هذه الأحاديث ونحوها الدلالة الواضحة بأن الله يتكلم بكلام تسمعه السماوات ومن فيهن، من الملائكة، وأن كلامه لا يشبه كلام خلقه، وأن من أنكر كلام الله، فليس معه إلا مجرد الوهم وشُبَه الشيطان الباطلة.
وفيها إثبات الصوت لله – تعالى – وأن صوته لا يشبه صوت العباد كما سيأتي.
*****
107 – قال: ((ويذكر عن جابر، عن عبد الله بن أنيس، قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: ((أنا الملك، أنا الديان)) .
(1)((تفسير الطبري)) (12/91) . وقال ابن كثير: رواه ابن أبي حاتم وابن خزيمة، انظر ((تفسير ابن كثير)) (6/504) .
هذا الحديث ذكره في مواضع من ((صحيحه)) ، مرة بصيغة الجزم، ومرة بصيغة التمريض، وقد رواه في ((الأدب المفرد)) مسنداً مرفوعاً، حيث قال: ((حدثنا موسى، قال: حدثنا همام، عن القاسم بن عبد الواحد، عن ابن عقيل، أن جابر بن عبد الله حدثه، أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فابتعت بعيراً، فشددت إليه رحلي شهراً، حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه، أن جابراً بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم، فخرج فاعتنقني. قلت: حديث بلغني لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت.
قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يحشر الله العباد - أو الناس - عراة، غرلاً، بهما. قلنا: ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد - أحسبه قال: كما يسمعه من قرب -: أنا الملك، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قلت: وكيف، وإنما نأتي الله عراة بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات)) (1) .
قوله: ((يحشر الله العباد)) الحشر: الإخراج والجمع. قال الراغب: ((الحشر: إخراج الجماعة عن مقرهم، وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها، وروي ((النساء لا يحشرن)) أي: لا يخرجن إلى الغزو، ويقال ذلك في الإنسان وغيره، ولا يقال: الحشر، إلا في الجماعة، قال تعالى:{فَأرسَلَ فِرعَوَنُ فيِ المَدَائِنِ حَاشِرِينَ} .
(1) انظر ((الأدب المفرد)(ص337) ، ورواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/438) و (4/574-575)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي، ورواه أحمد في ((المسند)) (3/495) ، والخطيب في ((الرحلة)) (109-117)، قال الحافظ: وأخرجه الطبراني وأبو يعلى. انظر ((الفتح)) (13/457) ، وأخرجه غيرهم، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.
وقال تعالى: {وَالطَّيرَ مَحشُوَرَةً كُلُ لَّهُ أَوَّابُُ} ، {وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ} ، {وَإِذَا حُشِرَ النَاسُ} ، {فَسَيَحَشُرُهُم إِلَيهِ جَمِيعًا} وسمي يوم القيامة: يوم الحشر، كما سمي يوم البعث، ويوم النشر)) (1) .
لأن الله – تعالى – يحيي كل من مات من خلقه، فيجمعهم في مكان واحد ليحاسبهم، فيجزيهم بعملهم.
قوله: ((فيناديهم بصوت)) النداء لا يكون إلا بصوت، ولا يعرف الناس نداء بدون صوت، فذكر الصوت هنا لتأكيد النداء، وهذا في غاية الصراحة والوضوح في أن الله يتكلم بكلام يسمع منه تعالى، وأن له صوتاً، ولكن صوته لا يشبه أصوات خلقه، ولهذا قال:
((يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)) فهذه الصفة تختص بصوته تعالى، وأما أصوات خلقه فيسمعها القريب منها فقط، حسب قوة الصوت وضعفه، وقد كثرت النصوص المثبتة لذلك، منها ما ذكره البخاري – رحمه الله – في هذا الباب، ومنها ما ذكره الله – تعالى – في كتابه في أكثر من عشرة مواضع، بلفظ النداء الذي لا يكون إلا بصوت.
منها قوله تعالى: {ِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا} (2) .
وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (3) .
وقوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (4) .
وقوله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ
(1)((المفردات)) (119-120) .
(2)
الآية 22 من سورة الأعراف.
(3)
الآية 52 من سورة مريم.
(4)
الآية 10 من سورة الشعراء.
حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {8} يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) } يعني: أن المنادي هو الله العزيز الحكيم.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) أي: ناداه تعالى بهذا القول: ((يا موسى إني أنا الله رب العالمين)) .
ومنها: قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (3) .
وقوله في السورة أيضاً {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (4) }
وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (5) .
وقوله: {َ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} (6) .
وقوله: {َ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى {15} إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (7) }
فهذه عشرة مواضع كلها صريحة في أن الله ينادي، منها ما وقع في الدنيا، ومنها ما سيقع يوم القيامة.
وليس مع من ينكر نداء الله، وأنه تعالى يسمع من يشاء من خلقه نداءه،
(1) الآيتان 8، 9 من سورة النمل.
(2)
الآية 30 من سورة القصص.
(3)
الآية 62 من سورة القصص.
(4)
الآية 74 من سورة القصص.
(5)
الآية 65 من سورة القصص.
(6)
الآية 47 من سورة فصلت.
(7)
الآيتان 15، 16 من سورة النازعات.
إلا مجرد الوهم والقياس الفاسد، الناتج عن الأفكار المضللة.
قال البخاري – رحمه الله: ((ويذكر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون رفيع الصوت، وأن الله – عز وجل – ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب.
فليس هذا لغير الله – جل ذكره – وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق؛ لأن صوت الله – جل ذكره – يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا. وقال – عز وجل:
{فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} (1) فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين)) (2) .
((قال الخلال: وأخبرنا المروذي: سمعت أبا عبد الله، وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله، وعدو للإسلام: فتبسم أبو عبد الله، وقال: ما أحسن هذا، عافاه الله)) (3) .
و ((قال الخلال في ((السُّنَّة)) : أخبرنا علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم، قال: إن أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى، فقد كفر بالله، وكذب القرآن ورد على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمره، يستتاب من هذه المقالة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
قال: وسمعت أبا عبد الله قال: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكلِيماً} فأثبت الكلام لموسى كرامة منه لموسى، ثم قال يؤكد كلامه:{تَكلِيماً} .
(1) الآية 22 من سورة البقرة.
(2)
((خلق أفعال العباد)) (ص1992) ، ((مجموع عقائد السلف)) .
(3)
((شرح الأصفهانية)) ، رسالة دكتوراه (ص193) .
قلت لأبي عبد الله: الله – عز وجل – يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلائق إلا الله – عز وجل؟ يكلم عبده، ويسأله.
الله متكلم لم يزل يأمر بما يشاء، ويحكم، وليس له عدل ولا مثيل، كيف شاء، وأنى شاء. أخبرنا محمد بن علي بن بحر، أن يعقوب بن بختان حدثهم، أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لم يتكلم بصوت، فقال: بلى، تكلم بصوت، وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها، لكل حديث وجه، يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر.
قال شيخ الإسلام: ((قلت: وهذا الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من العبد، بل ذلك صوت العبد كما هو معلوم لعامة الناس.
وقد نص على ذلك الأئمة، أحمد وغيره، فالكلام المسموع من العبد حال تلاوته القرآن هو كلام الله، لا كلام غيره، كما قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} (1) .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم: ((ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلا م ربي، فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي)) رواه أبو داود وغيره (2) .
وقال: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) (3)، وقال:((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) (4) .
(1) الآية 6 من سورة التوبة.
(2)
انظر ((السنن)) (4/324) .
(3)
انظر ((سنن أبي داود)) (2/99) ، والنسائي (2/139) ، وابن ماجه (2/246) ، والدرامي (2/474) ، وأحمد في ((المسند)) (4/283، 285) .
(4)
((درء تعارض العقل والنقل)) (2/38-40) .
((وقال أبو نصر السجزي: ((فأما الله – تعالى – فإنه متكلم فيما لم يزل، ولا يزال، إذا شاء ذلك، ويكلم من يشاء تكليمه بما يعرفه [المخاطب] ولا يجهله، وكلامه أحسن الكلام، وفيه سور، وآي، وكلمات، وكل ذلك حروف، وهو المسموع منه على الحقيقة سماعاً يعقله الخلق، وجائز وجود أعداد من المكلمين يكلمهم في حال واحدة، يما يريده من كل واحد منهم، من غير أن يشغله تكليم هذا عن تكليم هذا)) (1) .
وقال أيضا: ((لما وجدنا أحكام الشريعة المتعلقة بالكلام منوطة بالنطق الذي هو حرف وصوت، دون ما في النفس، علمنا أن حقيقة الكلام هو الحرف والصوت.
فلو حلف امرؤ أنه لا يتكلم ساعة من النهار، فأقام في تلك الساعة يحدث نفسه بأشياء، ولا ينطق بها، كان باراً، غير حانث.
ولو كان الكلام هو ما في النفس، حنث في أول ما يحدث به نفسه)) (2) .
وقال أيضا: (فالله – تعالى – قد بين في كتابه ما كلامه، وبين ذلك الرسول – صلى الله عليه وسلم – واعترف به الصدر الأول والسلف الصالح، فقال الله - تعالى-: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} (3)، وقال:{فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن} ِ (4) ، والمستجير لا يسمع إلا كلاماً ذا حروف، والقارئ لا يقرأ إلا كلاماً ذا حروف.
ولما سمى تعالى هذا القرآن كلامه، علم أن كلامه حروف، وقد أكد ذلك بذكر الحروف المقطعة في أوائل السور
…
{كَهيعص} ونحوها.
(1) المصدر السابق (ص88) ملخصاً.
(2)
((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) لأبي نصر، رسالة ماجستير (ص176) .
(3)
الآية 6 من سورة التوبة.
(4)
الآية 20 من سورة المزمل.
فمن زعم أن هذه الحروف ليست من القرآن فهو كافر، ومن قال: إنها من القرآن، والقرآن ليس كلام الله، فهو كافر، ومن زعم أنها عبارة عن الكلام الذي لا حروف فيه، فهو جهل وغباء؛ لأن ذلك لا يعرف، والنبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((من قرأ القرآن، فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول: ((الم)) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، وبهذا يتبين أن القرآن سور، وآيات، وحروف، وهكذا كلام الله)) (1) .
وقال أيضاً: ((الأصل الذي يجب أن يعلم: أن اتفاق التسميات لا يوجب اتفاق المسمَّيْن بها، فنحن إذا قلنا: إن الله موجود، رؤوف، واحد، حي، عليم، سميع، بصير، متكلم، وقلنا: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان موجوداً، حيا، عالماً، سميعاً، بصيراً، متكلماً، لم يكن ذلك تشبيهاً، ولا خالفنا به أحداً من السلف، والأئمة.
بل الله موجود لم يزل، واحد، حي، قديم، قيوم، عالم، سميع، بصير، متكلم فيما لم يزل، ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات.
والموجود منا إنما وجد من عدم، وحين ينقضي أجله ثم يصير ميتاً يزول ذلك المعنى، وعلم بعد أن لم يعلم، وقد ينسى ما علم وسمع وأبصر وتكلم بحوارح تلحقها الآفات.
فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق – سبحانه وتعالى – وإن اتفقت مسميات هذه الصفات)) (2) .
((وقد بين الله في كتابه أن الكلام لا يكون إلا بصوت وحروف، قال تعالى:{وَإِذ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} والعرب لا تعرف نداء إلا صوتاً.
(1)((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص186) ، رسالة ماجستير.
(2)
((درء تعارض العقل والنقل)) (2/89-90) .
وقد جاء عن موسى تحقيق ذلك، فإن أنكروا الظاهر كفروا، وإن قالوا إن النداء غير صوت خالفوا لغات العرب.
وإن قالوا: نادى الأمير إذا أمر بالنداء، دفعوا فضيلة موسى – صلى الله عليه وسلم – المختصة به من تكليم الله إياه بذاته، من غير واسطة، ولا ترجمان.
وليس في وجود الصوت من الله – تعالى – تشبيه بمن يوجد الصوت منه من الخلق، كما لم يكن في إثبات الكلام له تشبيه بمن له كلام من خلقه، وكلام الله حروف، وأصوات بحكم النص)) (1) .
((والله – تعالى – لم يزل متكلماً إذا شاء، وإذا شاء تكلم بصوت يسمع، وبحروف، وكل ما قام بذات الله – تعالى – فليس بمخلوق، سواء كان قديما أو حادثاً، وكلامه – تعالى – وفعله متعلق بمشيئته وإرادته، هذا قول أهل السُّنَّة والجماعة.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد: ((سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى، لم يتكلم بصوت؟ فقال أبي: بلى تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت.
وقال أبي: حديث ابن مسعود: ((إذا تكلم الله سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان)) .
قال أبي: وهذا الجهمية تنكره، قال أبي: وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر)) (2) .
وقال أيضا: ((حدثني أبي: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن
(1)((درء تعارض العقل والنقل)) (2/93) .
(2)
((كتاب السُّنَّة)) (ص70) .
الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله:((إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجداً، حتى إذا فزع عن قلوبهم، قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء، ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا وكذا)) (1) .
وقال أبو يعلى بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره: ((اعلم أن هذه الأخبار تدل على أن كلام الله – تعالى – بحرف وصوت، لا كحروف الآدميين وأصواتهم، كما أن له علماً وقدرة لا تشبه صفات الآدميين، وقد نص أحمد في رواية الجماعة على إثبات الصوت)) (2) ، وكلام أهل العلم من السلف وأتباعهم في هذا كثير.
قوله: ((أنا الملك أنا الديان)) يعني: أن النداء الذي يسمعه أهل الموقف كلهم يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، هو بهاتين الكلمتين:((أنا الملك أنا الديان)) ، فهو تعالى الملك الذي بيده ملك السماوات والأرض، ومن فيهن، وهو الديان الذي يجازي عباده بعملهم، من عمل خيراً جازاه بأفضل مما عمل، ومن عمل شراً جازاه بما يستحق.
وفي هذا الحديث دليل على أن بعض أهل الموقف أقرب إلى الله من بعض.
ودل على هذا المفهوم آيات من كتاب الله، وأحاديث ثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذيِنَ عِندَ رَبّكَ لَا يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ} ، وقوله تعالى:{الَّذِينَ يَحْملُونَ العَرشَ وَمَن حَولَهُ} ، ونحو ذلك، وعند الذين ضلوا في هذا الباب، الخلق بالنسبة إلى الله سواء بالقرب والبعد، وكفى بذلك ضلالاً أنه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله، وللفطر والعقول.
*****
(1) المصدر المذكور (71) ، رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص194) ، مجموع عقائد السلف.
(2)
((إبطال التأويل)) ، مخطوط (ص304) .
108 – قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة يبلغ به النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على الصفوان)) .
قال علي: وقال غيره: ((صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير)) .
قوله: ((إذا قضى)) المراد بالقضاء هنا: الأمر بالشيء، والحكم، بأن يتكلم آمراً ملائكته، كما في حديث ابن مسعود المتقدم، وحديث النواس بن سمعان: إذا تكلم الله بالوحي.
قوله: ((ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله)) صريح بأن الملائكة تسمع قوله: ولا يعقل شيء يدركه السمع إلا ما كان بصوت وحروف.
هذا هو مراد البخاري – رحمه الله – أن كلام الله يسمع منه؛ لأنه يتكلم حقيقة، والكلام الحقيقي الذي يسمع لا بد أن يكون بصوت وحروف، وهذا الذي فهمه صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منه، وهو الذي أراد منهم فهمه، وكذا فهمه أتباعه إلى اليوم.
((خضعاناً)) مصدر لخضع، كغفران مصدر لغفر، والمعنى: أن الملائكة تخضع لله عند سماع كلامه، وتستكين، فتضرب بأجنحتها من الخضوع.
والصفوان هي الحجارة الكبيرة الصلبة.
قوله: ((ينفذهم ذلك)) يعني: أن الصوت المذكور يبلغهم كلهم ويسمعونه.
قوله: ((قال سفيان: قال عمرو: سمعت عكرمة، حدثنا أبو هريرة بهذا، قلت لسفيان: قال: سمعت عكرمة
…
)) إلى آخره. يقصد بيان أن عكرمة قد صرح بالتحديث، فينتفي احتمال التدليس.
قوله: ((فزع)) قال سفيان: هكذا قرأ عمرو، فلا أدري سمعه هكذا أم لا. قال سفيان:((وهي قراءتنا)) .
هذه القراءة بضم الفاء وبالراء المهملة المشددة، وبالغين المعجمة، قال في إتحاف فضلاء البشر:((قي قراءة الحسن)) (1) .
وعمرو المذكور هو ابن دينار.
قوله: ((فلا أدري سمعه هكذا أم لا)) أي: سمعه من عكرمة، أو قرأها كذلك من قبل نفسه بناء على أنها قراءته.
وقول سفيان: هي قراءتنا، يريد نفسه، ومن تابعه (2) .
قال الحافظ بعد أن ذكر عدة روايات تتعلق بهذا الحديث، سجود الملائكة عند سماعهم صوت الوحي من الله، قال:((فهذه الأحاديث ظاهرة جداً في أن ذلك وقع في الدنيا، بخلاف قول بعض المفسرين الذين أقدموا على الجزم بأن الضمير في قوله: ((عن قلوبهم)) للكفار، وأن ذلك يقع يوم القيامة، مخالفين لما صح من الحديث النبوي، من أجل خفاء معنى الغاية في قوله:((حتى إذا فزع عن قلوبهم)) .
وما قاله هو الذي يجب أن يعتمد، ولا يلتفت إلى غيره؛ لأن الأحاديث أوضحته غاية الإيضاح.
****
109 -
قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي يتغنى بالقرآن)) وقال صاحب له: يريد: يجهر به)) .
(1) انظر (ص360) ، والحسن هو البصري.
(2)
انظر ((الفتح)) (3/459) .
قال ابن كثير: ((معناه: أن الله – تعالى – ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها، وذلك أنه يجمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت؛ لكمال خلقهم، وتمام الخشية، وذلك هو الغاية في ذلك.
وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم، برهم فاجرهم، كما قالت عائشة – رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات)) .
ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم، كما قال:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (1) ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ، كما دل عليه هذا الحديث العظيم.
ومنهم من فسر الإذن ها هنا بالأمر، والأول أولى؛ لقوله:((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن)) أي: يجهر به، فالأذن: الاستماع؛ لدلالة السياق عليه، وكما قال تعالى:{إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ {1} وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} فالإذن هنا الاستماع، ولهذا جاء في حديث رواه ابن ماجه بسند جيد، عن فضالة بن عبيد، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد أذناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن، من صاحب القينة إلى قينته)) .
وقول سفيان بن عيينة: إن المراد بالتغني: يستغني به، فإن أراد أنه يستغني به عن الدنيا – وهو الظاهر من كلامه – فخلاف الظاهر من مراد الحديث؛ لأنه فسره بعض رواته بالجهر، وهو تحسين القراءة، والتحزين بها)) (2) .
ثم قال: ((والمراد من تحسين الصوت بالقرآن: تطريبه، وتحزينه، والتخشع به، كما رواه بقي بن مخلد، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله
(1) الآية 61 من سورة يونس.
(2)
((فضائل القرآن)) لابن كثير (ص116) .
– صلى الله عليه وسلم – ذات يوم: ((يا أبا موسى، لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة)) قلت: أما – والله – لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبرتها لك تحبيراً)) (1) .
ومن تأمل الأحاديث الواردة في ذلك تبين له أن معنى قوله: ((يتغنى بالقرآن)) : تحسين الصوت وتزيينه بما يستطيع القارئ، والتغني لا يكون إلا بالكلام ذي الحروف، كما أن الاستماع لا يكون إلا للكلام المصوت به، وهذا هو وجه استدلال البخاري بهذا الحديث.
فالقرآن الذي يحب الله من عبده أن يتغنى به، ويحب استماعه إليه في ذلك، ينطق به بالحروف ويصوت به.
والله – تعالى – قد تكلم به بصوت نفسه، وبهذه الحروف المكتوب بها.
((وذكر الطبري)) عن الشافعي، أنه سئل عن تأويل ابن عيينة:((التغني بالاستغناء)) فلم يرتضه، وقال:((لو أراد الاستغناء، لقال: يستغني وإنما أراد تحسين الصوت)) ويؤيده ما في رواية الطبري: ((ما أذن لنبي في الترنم في القرآن)) .
وفي رواية عبد الرزاق: ((ما أذن لنبي حسن الصوت)) ، وهو عند مسلم.
وفي رواية للطحاوي: ((حسن الترنم بالقرآن)) .
قال الطبري: الترنم لا يكون إلا بالصوت، إذا أحسنه القارئ، وطرب به، ولو كان معناه: الاستغناء، لما كان لذكر الصوت والجهر معنى)) .
ولا نعلم في كلام العرب ((تغنى بمعنى استغنى، ولا في أشعارهم)) .
(1) المصدر السابق (ص122) .
ومثل ذلك قال الإسماعيلي، وقال: الاستغناء لا يحتاج إلى استماع؛ لأن الاستماع أمر خاص، زائد على الاكتفاء به، والاكتفاء به عن غيره أمر واجب على الجميع، ومن لم يفعل ذلك خرج عن الطاعة.
وقال عمر بن شبة: ذكرت لأبي عاصم النبيل: تفسير ابن عيينة – يعني: يستغني به – فقال: لم يصنع شيئاً، حدثني ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، قال: كان داود – عليه السلام – يتغنى – يعني: حين يقرأ – ويَبكي ويُبكي.
وظواهر الأخبار ترجح أن المراد: تحسين الصوت بالقراءة، ويؤيده قوله:((يجهر به)) فإن كان ذلك مرفوعاً قامت الحجة، وإن كان غير مرفوع، فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره، ولا سيما إذا كان فقيهاً.
وقد جزم الحليمي بأن ذلك من قول أبي هريرة، والعرب تقول: سمعت فلاناً يتغنى بكذا، أي: يجهر به، قال ذو الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني به أتغنى باسمها غير معجم
يعني: أجهر بذكر اسم حبيبتي من غير تورية.
والحاصل: أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة.
وهو أنه يحسن به صوته، جاهراً به، مترنماً، على طريق التحزن، مستغنياً به عن غيره من الأخبار، طالباً به غنى النفس، راجياً به غنى اليد)) (1) .
قلت: في هذا الجمع نظر، فإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أراد بذلك معنى معيناً، وظواهر أقواله في ذلك أنه أراد تحسين الصوت، وكذا التحزن الذي يستجلب به الخشوع ومحبة القرآن والإقبال إلى استماعه.
(1)((فتح الباري)) (9/72) .
ولا يلزم الجمع بين التأويلات، بل كل تأويل خالف النص يجب رده على من قاله.
قال الحافظ: ((ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم؛ لأن للتطريب تأثيراً في رقة القلب، وإجراء الدمع. ولا خلاف بين السلف في استحباب تحسين الصوت بالقراءة، وتقديم حسن الصوت على غيره.
وإنما اختلفوا في التلحين، بين مانع ومجيز.
والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقراءة مطلوب، فإن لم يكن حسناً فليحسنه ما استطاع، كما قال ابن أبي مليكة، أحد رواة الحديث، أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح.
ومن جملة تحسينه: أن يراعي فيه قوانين النغم، فإن الحسن الصوت يزداد بذلك حسناً، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه.
وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها، ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يفِ تحسين الصوت بقبح الأداء.
ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام؛ لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وجد من يراعيهما معاً، فلا شك أنه أرجح من غيره، لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت، ويتجنب الممنوع من حرمة الأداء. والله أعلم)) (1) .
******
110 – قال: ((حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال:
(1)((الفتح)) (9/72) .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله - تعالى -: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار)) .
قال محب الدين الطبري: ((لبيك: مصدر مثنى، للتكثير والمبالغة، ومعناه: إجابة بعد إجابة، ولزوماً لطاعتك.
وتثنيته للتوكيد، لا تثنية حقيقة، قال ابن الأنباري: ثنوا لبيك، كما ثنوا حنانيك، أي: تحنناً بعد تحنن)) (1) .
وقال ابن الأنباري: ((سمعت أبا العباس يقول: معنى قولهم: لبيك: أنا مقيم على طاعتك، وإجابتك، من قولهم: قد لبَّ الرجل في المكان وألبَّ، إذا أقام فيه، قال الشاعر:
محل الجهر أنت به مقيم ملب ما يزول ولا يريم
وقال الفراء: معنى لبيك: إجابتي لك يا رب، ونصب على المصدر، وثني؛ لأنه أراد إجابة بعد إجابة.
وقال آخرون: معناه: اتجاهي إليك، مأخوذ من قولهم: داري تلبُّ دارك، أي: تواجهها.
وقال آخرون: معناه: محبتي لك، من قولهم: امرأة لبَّة، إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه)) (2) ، ويذكر مثل ذلك الجوهري (3) .
(1)((القري)) (ص145) .
(2)
((الزاهر)) (1/197-198) ملخصاً.
(3)
انظر ((الصحاح)) (15/336) .
وقال الزمخشري: ((معنى لبيك: دواماً على طاعتك، وإقامة عليها مرة بعد أخرى، من ألب بالمكان: إذا أقام به، وألب على كذا: إذا لم يفارقه، ولم يستعمل إلا على لفظ التثنية في معنى التكرير، ولا يكون عامله إلا مضمراً، كأنه قال: ألب إلباباً بعد إلباب.
والتلبية من لبيك، بمنزلة التهليل من لا إله إلا الله)) (1) .
((وقال الخليل: هي من قولهم: دار فلان تلب داري، أي: تواجهها.
فيكون معناه: اتجاهي وقصدي إليك يا رب، مرة بعد أخرى.
وقيل: هي من قولهم: حب لباب، إذا كان خالصاً محضاً، ومنه: لب الطعام ولبابه، فعل هذا معناه: إخلاصي لك يا رب، مرة بعد أخرى.
وقيل: هو من الإلباب، أي: القرب: أي: قربي منك، وقيل: من قولهم: أنا ملب بين يديك، أي: خاضع)) (2) .
قوله: ((فينادي بصوت)) قال الحافظ: ((أكثر الرواة، رووه بكسر الدال - يعني رواة صحيح البخاري - قال: وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور، فإن قرينة قوله: ((إن الله يأمرك)) تدل ظاهراً على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك)) (3) .
قلت: هذا مجانب للإنصاف، وبعيد عن ظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بل الظاهر أن المنادي هو الله - تعالى -.
والنداء صفة كمال، لا محذور فيه كما توهمه أهل التأويل الباطل.
(1)((الفائق)) (3/295) .
(2)
((القرى)) (ص145) .
(3)
((الفتح)) (13/460) .
وقد ثبت بالنصوص الكثيرة اتصاف الله - تعالى - بالكلام، والنداء منه.
وأي محذور يخشاه هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم لتحريف كلام الله وكلام رسوله، وصرفه عن الظاهر المراد منه، حتى عطلوه - تعالى-، حتى جعلوا المخلوق أكمل منه، ولذلك قالوا: المنادي ملك يأمره الله أن ينادي آدم، هذا مع وضوح الكلام وكونه يأبى هذا التحريف، فإنه قال:((يقول الله: يا آدم، فينادي بصوت)) فقوله: ((فينادي بصوت)) تفسير لقوله: ((يقول الله: يا آدم)) ، وبيان له، ولكن الذين تأثروا بأصول الجهمية ظنوا أن اتصاف الله - تعالى - بالكلام حقيقة والنداء من التشبيه، فنفوا ذلك عن الله - تعالى - ظانين أن هذا قول أهل السُّنَّة فصار الأخذ بظاهر هذا النص ونحوه لا يجوز؛ لأنه عندهم على خلاف أصولهم، التي منها: نفي حقيقة الكلام عن الله - تعالى -، فوجب تأويله - كما زعموا -، والحق خلاف ظنهم.
ثم نقول: إذا كان الله - تعالى - ليس هو المنادي، وإنما يأمر ملكاً ينادي، نقول: بأي شيء يأمر الملك، وأنتم تقولون: لا يتكلم بكلام يسمع منه؟ أيكون أمره بالإشارة؟ وبذلك يكون الملك أكمل من رب العالمين.
أم يكون الأمر بأن يخلقه بقلبه؟ فإن قالوا ذلك فيلزم أن يكون الأمر صفة للملك؛ لأن ما كان مخلوقاً فيه فهو صفة له.
فالحق أن الله يتكلم بصوت مسموع يسمعه من شاء من عباده، وليس الصوت الذي يتكلم الله به قديماً كما يقوله بعض أهل البدع، بل لم يزل يتكلم متى شاء، وسيكلم عباده يوم القيامة ويحاسبهم، كما في حديث عدي بن حاتم:((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)) .
ولما علم أئمة الأشعرية القدماء أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة العين، لم يمكنهم أن يقولوا: القديم هو الحروف، والأصوات؛ لأنها لا تكون إلا متعاقبة.
والصوت عرض، لا يبقى زمانين إلا بواسطة ما يمسكه كشريط التسجيل ونحوه، فلذلك قالوا: القديم معنى واحد، لامتناع معانٍ لا نهاية لها عندهم، وهذا هو أصلهم الذي بنوا عليه مذهبهم الباطل.
((والاختلاف في القرآن والكلام، هل هو حرف وصوت أو غير ذلك؟ محدث حدث في حدود المائة الثالثة، وانتشر في المائة الرابعة.
فإن ابن كلاب والأشعري ونحوهما لما ناظروا المعتزلة في إثبات الصفات، وأن القرآن ليس مخلوقاً، وأنه لا يمكن أن يكون قديماً إلا أن يكون معنى قائماً بنفس الله، كعلمه.
وزادوا: إن الله لا يتكلم بصوت، ولا لغة، ولا قديم ولا غير قديم، لما رأوا امتناع قيام أمر حادث به، وخالفوا في ذلك جمهور المسلمين.
والآثار شاهدة بأن الله يتكلم بصوت، ولهذا جعل الإمام أحمد من أنكر ذلك: جهمياً.
قال عبد الله: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إن الله لا يتكلم بصوت؟ فقال: هؤلاء جهمية، إنما يدورون على التعطيل)) (1)
قال شيخ الإسلام: ((السلف والأئمة يقولون: إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه تعالى قديم النوع، بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء، فإن الكلام صفة الكمال، ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته، ومن لا يزال متكلماً بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام ممكناً له بعد أن يكون ممتنعاً)) (2) .
(1)((مجموع الفتاوى)) (12/579) .
(2)
المصدر السابق (12/372) .
وقال أيضاً: ((والصواب أن الله - تعالى - لم يزل متكلماً إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حتى أتى، لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما
أن علمه لا يماثل علمهم)) (1) .
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: ((حدثنا أبي، حدثنا جرير، عن منصور، عن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن فروة بن نوفل الأشجعي، قال: كنت جاراً لخباب، فخرجنا يوماً من المسجد، وهو آخذ بيدي فقال: يا هناه، تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه)) يعني: القرآن.
وروي بسند حسن، عن جبير بن نفير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه)) يعني: القرآن.
وقال: ((حدثني أبو معمر، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: ((كأن الناس إذا سمعوا القرآن من في الرحمن يوم القيامة فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك.
وحدثني أبي، سمعت عبد الرحمن بن مهدي، يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت؟ فقال أبي: بلى، تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت)) (2) .
يعني: أنها لا تؤول، بل يجب الإيمان بها على ما يدل عليه ظاهرها، من أن الله يتكلم، وأن كلامه بصوت.
(1) المصدر السابق (12/598) .
(2)
((كتاب السُّنَّة)) (ص26-71) .
ولو كان ما يفهم من ظاهرها باطل، لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله - تعالى - كلفه ببيان ما نزل إليه.
ثم قال: ((سمعت أبا معمر الهذلي يقول: من زعم أن الله لا يتكلم، ولا يسمع ولا يبصر، ولا يغضب، ولا يرضى - وذكر أشياء من هذه الصفات - فهو كافر بالله)) .
حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، فيخرون سجداً، حتى إذا فرغ عن قلوبهم، قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال كذا وكذا، ورواه مرفوعاً)) (1) .
وفي الترمذي، عن عمران بن حصين، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فتفاوت بين أصحابه في السير، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بهاتين الآيتين:{يَأيُّها النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُم إِنَ زَلزَلَةَ السَاعِة شَيءُ عَظِيمُ} إلى قوله: {عَذَابَ اللهِ شَدِيدُ} ، فلما سمع ذلك أصحابه حثوا المطى، وعرفوا أنه عنده قول يقوله، فقال:((هل تدرون أي يوم ذلك؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:((ذاك يوم ينادي الله فيه آدم، فيناديه ربه، فيقول: يا آدم، ابعث بعث النار)) إلى آخر الحديث، وقال الترمذي:((هذا حديث حسن صحيح)) (2) .
فهذا ظاهر جداً في أن المنادي هو الله - تعالى -، والنداء لا يكون إلا بصوت يسمع من بعدٍ عن المنادي، فللَّه - تعالى - صوت يليق به، فصوته لا يشبه أصوات خلقه، كصفاته.
(1)((كتاب السُّنَّة)) (ص70-71) .
(2)
((جامع الترمذي)) (5/324) .
ولثبوت ذلك بالأدلة التي ذكر شيء منها في هذا يتعين على المؤمن الإيمان بأن الله - تعالى - يتكلم بكلام يُسْمِعُه من يشاء من خلقه، وأنه بصوت، إذا شاء صوت به.
فتبين أن قول الحافظ: ((إن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك)) باطل، إذ هو خلاف الحق، وأن المنادي هو الله.
وإذا كان الله - تعالى - لا يتكلم بكلام مسموع منه، فكيف يأمر الملك؟ وكيف يرسل الرسل؟ أو ليس الكلام صفة كمال، ومن يتكلم وينادي أكمل ممن لا يقدر على ذلك؟ فما هو المسوغ لتحريف كلام الله وكلام رسوله؟ مع أن السلف وأهل السُّنَّة مجمعون على وصف الله بالكلام، وأن من نفى ذلك ضال سالك غير سبيل المؤمنين.
قال الألوسي: ((الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي، والأشعري، وغيرهما من المحققين، أن موسى عليه السلام سمع كلام الله - تعالى - بحرف وصوت، كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغاً لا ينبغي معه تأويل، ولا يناسب في مقابلته قال وقيل، بل قد ورد في إثبات الصوت لله - تعالى - أحاديث لا تحصى)) (1) .
*****
111-
قال: ((حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة)) .
تقدم هذا الحديث في الفضائل، والنكاح، والأدب، وفي ألفاظ متنه وفي
(1) روح المعاني (ج 1) .
إسناده اختلاف عما هنا، وقد بينت عائشة رضي الله عنها سبب غيرتها: أنه كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها، وثناؤه عليها، وجاء في رواية ((لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره ربه أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن)) (1) .
والغيرة عند النساء جبلة لا يستطعن التخلي عنها، ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة، وفي هذا الحديث فضل خديجة رضي الله عنها.
والمقصود من الحديث هنا قوله: ((ولقد أمره ربه أن يبشرها)) ؛ لأن الأمر عند الإطلاق لا يكون إلا بالكلام، فلذلك قال العلماء: إن من نفي الكلام عن الله - تعالى - فقد نفى الرسالة، والشرائع كلها؛ لأنها أمر ونهي.
((قال الخلال في ((السُّنَّة)) : أخبرني علي بن عيسى، أن حنبلاً حدثهم، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى، فقد كفر بالله، وكذب بالقرآن، ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، يستتاب من هذه المقالة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه)) .
قال: وسمعت أبا عبد الله: قال الله - تعالى-: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكلِيماً} فأثبت الكلام لموسى كرامة منه لموسى، ثم قال -تعالى - يؤكد كلامه:{تَكلِيماً} .
قلت لأبي عبد الله: الله - تعالى - يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل؟ يكلم الله عبده ويسأله، لم يزل الله يأمر بما يشاء ويحكم، وليس له عدل ومثل، كيف شاء، وأنى شاء)) (2) .
********
(1) انظر ((الفتح)) (9/336) و (7/113) و (10/435) .
(2)
((درء تعارض العقل والنقل)) (2/37-38) .
قال: ((باب كلام الرب مع جبريل، ونداء الله الملائكة)) .
يريد بهذا تنويع الأدلة، وأن الله يتكلم متى شاء، ويكلم من يشاء من ملائكته في أي وقت أراد، وسبق الكلام في النداء.
((وقال معمر:: {وَإِنّكَ لَتُلَقَّى القُرآنَ} أي: يلقى عليك، وتلقاه أنت - أي: وتأخذه عنهم - ومثله: {فَتَلَقَّىَ آدَمُ مِن رَّبّهِ كَلِمَاتٍ}
قال الحافظ: ((معمر هذا يتبادر أنه ابن راشد، شيخ عبد الرازق، وليس كذلك، بل هو أبو عبيدة، معمر بن المثنى اللغوي.
قال أبو ذر الهروي: وجدت ذلك في كتاب المجاز له، فقال في تفسير سورة النمل في قوله عز وجل:{وَإِنّكَ لَتُلَقَّى القُرآنَ} أي: تأخذه عنه، ويلقى عليك.
وقال في سورة البقرة: {فَتَلَقَّىَ آدَمُ مِن رَّبّهِ كَلِمَاتٍ} أي: قبلها، وأخذها عنه، قال أبو عبيدة: وتلا علينا أبو مهدي آية، فقال: تلقيتها من عمي، تلقاها عن أبي هريرة، تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال في قوله تعالى: {وَلَا يُلَقَّاهَا إِلا الصَابِروُنَ} أي: لا يوافق لها، ولا يرزقها ولا يلقنها.
وحاصله: أنها تأتي بالمعاني الثلاثة، وأنها هنا صالحة لكل منها.
وأصله: اللقاء، وهو: استقبال الشيء ومصادفته)) (1) .
(1)((الفتح)) (13/461) ، وانظر ((مجاز القرآن)) (1/38) و (2/92، 111) .
ومقصوده بالمعاني الثلاثة: تأخذها، وتقبلها، وتوفق لها وترزقها. وبعضها قريب من بعض.
وقال ابن جرير: ((وإنك يا محمد لتحفظ القرآن، وتعلمه)) (1) .
وقال: {فَتَلَقَّىَ آدَمُ مِن رَّبّهِ كَلِمَاتٍ} قيل: إنه أخذ وقبل، وأصله: التفعل من اللقاء، كما يتلقى الرجل مستقبله عند قدومه من غيبته، أو سفره. فكأنه استقبله، فتلقاه بالقبول حين أوحى إليه، أو أخبره، ومعناه: فلقَّى الله آدم كلمات توبة، فتلقاها آدم من ربه، وأخذها عنه تائباً)) (2) .
****
112 -
قال: ((حدثني إسحاق، حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن - هو ابن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض)) .
قال الحافظ: ((وقع في بعض طرقه بيان سبب هذه المحبة والمراد بها، ففي حديث ثوبان: أن العبد يلتمس مرضاة الله - تعالى - فلا يزال كذلك حتى يقول: يا جبريل، إن عبدي فلانا يلتمس أن يرضينى، ألا وإن رحمتي غلبت عليه)) (3) .
يعني: أن المراد بالمحبة هي الرحمة، كما يقوله الأشاعرة، وليس كذلك،
(1)((تفسير الطبري)) (19/132) .
(2)
((تفسير الطبري)) (1/541) تحقيق محمود شاكر.
(3)
((الفتح)) (10/462)، وقال: أخرجه أحمد والطبراني في ((الأوسط)) .
بل المحبة صفة الله - تعالى - غير صفة الرحمة، ورحمة الله - تعالى - لعبده من لوازم محبته له، وقد تقدم تقرير ذلك، والرد على المحرفين من الأشاعرة وغيرهم (1) .
وأسباب محبة الله - تعالى - لعبده متعددة، حسب ما دلت عليه النصوص في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، منها: التوبة، فالله - تعالى - يحب التوابين، ومنها: التطهير من الأنجاس الحسية والمعنوية: {إِنَّ اللهَ يُحِبُ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُ المُتَطَهِرِينَ} ومنها: الثبات أمام العدو صفوفاً كالبنيان المرصوص: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} .
وفي الحديث الصحيح: ((لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)) الحديث.
قوله: ((إن الله تبارك وتعالى) قال ابن عباس: تبارك: تفاعل من البركة، وهو كقول القائل: تقدس ربنا)) (2) .
وقال الأزهري: ((أخبرني المنذري عن أبي العباس، أنه سئل عن تفسير ((تبارك الله)) فقال: ارتفع، والمتبارك: المرتفع، ومعنى البركة: الكثرة في كل خير، وتبارك: تعالى وتعاظم، وقال ابن الأنباري: تبارك الله: أي: يتبرك باسمه في كل أمر، وقال الليث: تبارك الله: تمجيد وتعظيم، وقال أبو بكر: تبارك: تقدس، أي: تطهر، والمقدس: المطهر)) (3) .
وقال: ((عن الليث: ((تعالى)) هو: العلي المتعالي، العالي الأعلى، ذو العلاء والعُلا والمعالي، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهو الأعلى - سبحانه -
(1) انظر (ص59) من الجزء الأول من هذا الشرح.
(2)
انظر ((تفسير الطبري)) (18/179) .
(3)
((تهذيب اللغة)) (10/230) ملخصاً.
بمعنى العالي، وتفسيره ((تعالى)) : جل عن كل ثناء، فهو أعظم وأجل وأعلى مما يثنى عليه، لا إله إلا الله وحده لا شريك له)) (1) .
يعني: أن ثناء الخلق عليه - تعالى - لا يبلغ ما يستحقه من الثناء، ولا قريباً من ذلك، بل هو كما أثنى على نفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا أحصي ثناء عليك، بل أنت كما أثنيت على نفسك)) (2) .
قال الأزهري: ((وتفسير هذه الصفات لله - تعالى - يقرب بعضها من بعض، فالعلي: الشريف، فعيل من علا يعلو، وهو بمعنى العالي، وهو الذي ليس فوقه شيء، ويقال: هو الذي علا الخلق فقهرهم بقدرته.
وأما المتعالي: فهو الذي جل عن إفك المفترين، وتنزه عن وساوس المتحيرين، وقد يكون المتعالي بمعنى العالي.
والأعلى هو الله الذي أعلى من كل عال، واسمه الأعلى، أي: صفته أعلى الصفات)) (3) .
وقال ابن القيم: ((الرب تعالى يقال في حقه: تبارك، ولا يقال: مبارك.
ثم قالت طائفة - منهم الجوهري -: إن تبارك بمعنى: بارك، مثل قاتل وتقاتل، إلا أن فاعل يتعدى، وتفاعل لا يتعدى. وهذا غلط عند المحققين، وإنما تبارك: تفاعل من البركة، وهذا الثناء في حقه - تعالى - إنما هو لوصف رجع إليه، كتعالى، فإنه تفاعل من العلو، ولهذا يقرن بين هذين اللفظين فيقال: تبارك وتعالى، وهو سبحانه أحق بذلك وأولى من كل أحد، فإن الخير كله بيده،
(1) المرجع المذكور (3/186) .
(2)
رواه أبو داود في ((السنن)) (2/134) ، والترمذي رقم (3561) ، والنسائي (1748) ، وابن ماجه رقم (1179) .
(3)
((تهذيب اللغة)) (3/186) .
وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة، وخيرات لا شرور فيها.
وهذا ثناء يشعر بالعظمة والرفعة والسعة، كما يقال: تعاظم، وتعالى ونحوه، فهو دليل على عظمته، وكثرة خيره، ودوامه، واجتماع صفات الكمال فيه، وأن كل نفع في العالم كان ويكون، فمن نفعه - سبحانه - وإحسانه.
ويدل هذا الفعل أيضاً في حقه على العظمة، والجلال وعلو الشأن)) (1) .
قوله: ((إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل)) .
صريح في أن الله - تعالى - يحب من يشاء من عباده من أهل الطاعة له والتقوى، كما هو صريح أيضاً في أنه - تعالى - يتكلم وينادي متى يشاء لمن يشاء، وفي هذا الحديث النداء لجبريل خاصة، وتقدم أن النداء لا يكون إلا بصوت مرتفع، وأن مثل هذه النصوص من أبلغ الأدلة على إثبات صفة الكلام لله - تعالى -، وهذا القدر من الحديث هو المقصود، إذ هو محل الشاهد، وفيه: أن جبريل عليه السلام بمجرد إخبار الله له بأنه تعالى يحب العبد يحبه، وأنه هو سفير الله - تعالى - إلى الملائكة، كما أنه سفيره إلى الرسل من البشر، ولهذا قال:((ثم ينادي جبريل في السماء)) ، مما يعجب له العاقل أن جميع شراح الحديث الذين اطلعت على أقوالهم يقولون: إن هذا النداء من جبريل نداء حقيقي يسمع منه بصوته، تسمعه ملائكة السماء، وأكثرهم يقول: إن النداء المسند إلى الله - تعالى ليس حقيقياً، وإنما معناه: أمره لمن ينادي، أو إعلام جبريل بما يفهم منه أن الله يحب ذلك العبد.
(1)((جلاء الأفهام)) (ص206-207) . وانظر بقية الكلام فيه.
وهكذا يتلاعبون بكلام الله كلام رسوله، مما سبَّب ضلال كثير من الخلق.
والله - جل وعلا - سوف يسألهم عن ذلك، وسوف يعلمون حين يقفون بين يديه أي جناية جنوها عليه وعلى أنبيائه، وعلى شرعه، وعلى عباده.
والمراد بالسماء هنا: الجنس، أي: السماوات، ونداؤه فيهم يقول:((إن الله قد أحب فلاناً، فأحبوه)) .
((فيحبه أهل السماء)) أي: أن ملائكة السماوات بمجرد إخبار جبريل وأمره يحبونه؛ لأنهم يحبون الله ويحبون ما يحبه، ومن ثمرات ذلك: استغفارهم لهذا العبد، وموالاتهم له، وهذا في الحقيقة هو الشرف والرفعة، وبه تحصل السعادة بمشيئة الله - تعالى -.
((فيوضع له القبول في أهل الأرض)) أي: تقبله قلوبهم وتحبه؛ لأن الله - تعالى - يحبه، ومن أحبه الله - تعالى - حببه إلى عباده في السماوات والأرض.
فشهدوا له بالخير ورجوا له الفلاح؛ لما وقع في قلوبهم له.
*******
113 -
قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟
فيقولون: تركناهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) .
تقدم هذا الحديث وشرح في باب قوله تعالى: {تَعرُجُ المَلَائِكَةُ وَالُّروحُ إِليهِ} ، والمقصود منه في هذا الباب قوله: ((فيسألهم - وهو أعلم
بهم - كيف تركتم عبادي؟)) ؛ لأن الظاهر من السؤال أنه بالكلام وسماع صوت السائل.
وملائكة الله لكل منهم مقام معلوم لا يتجاوزه، وأعلاهم مقاماً جبريل عليه السلام، وقد سبق أنه تعالى يناديه، فهؤلاء أولى بالمناداة؛ لأنهم أنزل مقاماً منه.
وفي الأنبياء: ((الملائكة يتعاقبون، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار)) فعلى هذه لا يكون فيه شاهد لما يسمى بلغة (أكلوني البراغيث)) .
وفي سؤال الله - تعالى - عن عباده، مباهاة بهم، وإظهار لفضلهم عند الملائكة، وبيان لشيء من عظيم كرم الله - تعالى - وإحسانه.
******
114 -
قال: ((حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن واصل، عن المعرور، قال: سمعت أبا ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)) قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: ((وإن سرق، وإن زنى)) .
قوله: ((أتاني جبريل)) يعني: بالوحي من الله، فهو لا يأتي إلا بأمر الله - تعالى - له.
((فبشرني)) ، البشرى: هي الإخبار بما يسر؛ لأن ذلك يغير بشرة الوجه؛ لأن النفس إذا سرت انتشر الدم في الجسم كانتشار الماء في عروق الشجرة، فيظهر ذلك على وجه المبشر.
وقد تستعمل البشارة فيما يسوء، من باب النكاية والتهكم والإياس من الخير (1) .
(1) انظر ((المفردات)) للراغب (ص48) .
((من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)) يعني: وإن حصل منه تقصير بالواجبات، وفعل لبعض المحرمات غير الشرك، فإن من مات على ذلك دخل الجنة، ولا ينافي هذا حصول العذاب له، بل قد يعذب في قبره، وبعد ما يبعث، وقد يدخل النار، ثم يخرج منها بعدما يطهر من الخطايا التي تلطخ بها في الدنيا، وقد يعفو الله عنه فيدخله الجنة بلا عذاب، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جداً.
فكل عاص لله - تعالى - من الموحدين لا بد من دخوله الجنة، وإن أصابه ما أصابه، وإنما الشأن في اجتناب الشرك، فهو أمر صعب إلا على من هدى الله قلبه، وهو أنواع، منها الجلي والخفي.
فقوله: ((لا يشرك بالله شيئاً)) يعم أنواع الشرك كلها؛ لأنه نكرة بعد النفي، فيدخل فيه الأصغر، والقليل، والله المستعان.
((قلت: وإن سرق، وإن زنى)) كأنه فهم من هذا الإطلاق أن ما عدا الشرك من الذنوب يحصل دخوله مع وجوده، فأراد أن يتثبت عن هذا المفهوم، فأخبره أن ذلك صحيح، وأن من اجتنب الشرك دخل الجنة، وإن تفاوت دخول العصاة غير المشركين الجنة في الوقت والمكان، أعني تقدم الدخول والمنزلة.
والشاهد منه: قوله: ((فبشرني أنه من مات)) إلى آخره؛ لأن هذه البشارة لا بد أن تكون من الله، أرسل جبريل بها إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والرسالة لا تكون إلا بالكلام، والنداء داخل فيه، فالله - تعالى - قد نادى جبريل أن يذهب بهذا الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
*****
قال: باب قول الله - تعالى -: {أَنَزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلَائِكَةُ يَشهَدُونَ} .
الضمير في (أنزله)) يعود إلى القرآن، كما هو واضح من الآية، وهي قوله تعالى:{لَكِن اللهُ يَشهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِليكَ أَنَزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلَائِكَةُ يَشهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} . {لَكِن} للاستدراك مما سأله اليهود فيما ذكره الله عنهم بقوله: {يَسأَلُكَ أَهلُ الكِتابِ أَن تُنَزِلَ عَلَيهِم كِتَاباً مِنَ السَمَاءِ} ، فهم يرون أن مجيء الوحي إليه بواسطة جبريل غير كافٍ في الدلالة على نُبُوَّته، وأنه إذا كان صادقاً فليأت بكتاب من السماء، كما جاء موسى عليه السلام بالتوراة مكتوبة.
ثم ذكر تعالى أنهم سألوا موسى ما هو أكبر من ذلك، سألوه أن يُرِيَهم الله جهرة، وعدَّد تعالى ما فعلوه من الظلم، والتعنت، والبهتان العظيم، والكفر، ورميهم مريم بالزنا، ومحاولتهم قتل رسول الله عيسى، وأكلهم الربا، وذكر ما أصابهم بسبب ذلك، ثم ذكر تعالى أن منهم راسخين في العلم، ومؤمنين بما أنزل الله من كتاب، ثم أخبر تعالى أنه أوحى إلى محمد كما أوحى إلى النبيين من قبله، وعدد بعضهم، وبعضاً منهم لم يذكره، وأنه تعالى خص موسى بتكليمه، ثم ذكر الحكمة من إرسال الرسل؛ لئلا يكون للناس على الله حجة، ثم قال تعالى:{لَكِن اللهُ يَشهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِليكَ} الآية.
قال ابن جرير: ((يعني بذلك - جل ثناؤه - إن يكفر بالذي أوحينا إليك يا محمد اليهود الذين سألوك أن تُنزِّل عليهم كتاباً من السماء، وقالوا لك: ما أنزل الله على بشر من شيء، فكذبوك، وليس الأمر كما قالوا، ((لكن الله يشهد)) بتنزيله إليك من الكتاب، والوحي، أنزل ذلك إليك، بعلم منه بأنك خِيرَته من خلقه، وصَفيَّه من عباده، ويشهد لك بذلك الملائكة، فلا يَحزُنك تكذيب من كذبك، وخلاف من خالفك، وحسبك بالله شاهداً على
صدقك، فإنه لا يضرك مع ذلك تكذيب من كذبك)) (1) .
ومراد البخاري بهذه الترجمة أن يبين أن القرآن من علم الله - تعالى - وصفة له، فليس مخلوقاً، فكأنه يقول: أنزله فيه علمه، أي: هو من علمه، وقد احتج الإمام أحمد على كفر من قال: القرآن مخلوق، بأن القرآن من عِلْم الله، فمن زعم أن عِلْم الله مخلوق فهو كافر، واستدل على ذلك بنحو قوله تعالى:{فَمَن حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ مَا جَاءَكَ مِن العِلمِ} وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} (2) .
وتقدم الكلام على هذه الآية وذكر أقوال المفسرين فيها (3)
قوله: ((قال مجاهد: {يَتَنَزَّلُ الأَمرُ بَيَنهُنَّ} بين السماء السابعة، والأرض السابعة)) .
مقصوده أن الله - تعالى - أخبر بأنه خلق السماوات السبع ومن الأرض مثلهن، ثم ذكر أن الأمر يتنزل بينهن، أي: بين السماوات وبين الأرضين، فالأمر غير الخلق، ثم قال تعالى:{لِتَعلمُواْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَد أَحَاطَ بِكُلِ شَيءٍ عِلمَا} فأمره تعالى الذي يتنزل بين السماوات والأرض بعلمه، وأمره، وعلمه من صفاته.
فأمر الله - تعالى -، وعلمه، وحكمه، وتصرفه، ينفذ في السماوات السبع والأرضين السبع، لا يمتنع عليه شيء، ولا يخفى عليه فيهن شيء فالكل في قبضته وتحت تصرفه، وفي علمه واطلاعه جل وعز.
وما يذكره كثير من المفسرين عند هذه الآية من أن الأرضين سبع طبقات
(1)((تفسير الطبري)) (9/409) تحقيق محمود شاكر.
(2)
انظر ((السُّنَّة)) لعبد الله بن الإمام أحمد (ص9-10) .
(3)
انظر الجزء الأول من هذا الشرح من (93) .
منفصل بعضها عن بعض، وبين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمِئَة عام، وبعضهم يذكر أن في كل أرض أنبياء مثل الذين ذُكِروا في القرآن وعلى أسمائهم، إلى آخر ما ذكروه مما يشبه هذيان المجانين، كل ذلك خرافات مصدره زنادقة اليهود وإخوانهم من كل شيطان رجيم.
قال القرطبي: {وَمِنَ الأَرضِ مِثلَهُنَّ} أي: سبعاً، واختلفوا فيهن على قولين: أحدهما: قول الجمهور، أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء، وفي كل أرض سكان من خلق الله.
وقال الضحاك: ((ومن الأرض مثلهن)) أي: سبعاً من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق، بخلاف السماوات.
والأول أصح؛ لأن الأخبار دالة عليه)) (1) .
قلت: بل قول الضحاك هو الصواب، والأول باطل قطعاً بدون شك، وما زعمه من أنه قول الجمهور، وأن الأخبار دالة عليه، ليس كما زعم.
نعم، قد روي عن ابن عباس، فإن صح فهو مما تلقاه من أهل الكتاب ممن هو متهم بالكذب منهم، وأما دلالة الأخبار عليه فليس فيه أخبار صحيحة صريحة في الدلالة عليه، بل نقطع أن الأخبار عن الله ورسوله لم تدل عليه؛ لأن كلام الله وكلام رسوله حق، لا يؤيد الباطل ولا يدل عليه، بل الأخبار دلت على أن الأرضين سبع فقط، بدون فتوق، كما في ((الصحيحين)) ((من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين)) ونحوه من الأحاديث.
فيتعين حملها على أنها طبقات غير مفتوقة كما قاله الضحاك.
(1)((تفسير القرطبي)) (18/174-175) .
وفي هذا الوقت أمكن الدوران على الأرض في وقت وجيز جداً مما يبين بالحس والمشاهدة بطلان ما رجحه القرطبي.
*****
115 – قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا أبو الأحوص، حدثنا أبو إسحاق الهمداني، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((يا فلان، إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإنك إن مت في ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيراً)) .
البراء بن عازب بن الحارث بن عدي الأنصاري، الأوسي، استصغره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم بدر هو وابن عمر، فردَّهما، وشهد أُحداً وما بعدها من الغزوات، وروي عنه أنه غزا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – أربع عشرة غزوة، وفي رواية: خمس عشرة، قال الحافظ: إسناده صحيح.
وقال: سافرت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثمانية عشر سفراً. أخرجه أبو ذر الهروي (1) .
وكان يقول: أنا الذي أرسل معه النبي – صلى الله عليه وسلم – السهم إلى قليب الحديبية فجاش بالري.
قال الذهبي فيه: ((الفقيه الكبير، من أعيان الصحابة، نزل الكوفة، توفي سنة اثنتين وسبعين، أو إحدى وسبعين، عن بضع وثمانين سنة)) (2) .
(1)((الإصابة)) (1/278) ، وانظر ((أسد الغابة)) (1/205) .
(2)
((سير أعلام النبلاء)) (3/194) .
قوله: ((يا فلان)) جاء في الروايات الأخرى أن المُخاطَب هو البراء بن عازب، ففي الدعوات عند المؤلف:((عن عبيدة قال: حدثني البراء بن عازب، قال: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم....)) وذكر الحديث (1)، وفيه:((إذا أتيت إلى مضجعك فتوضأ وضوءَك للصلاة)) . قال الحافظ: ظاهره استحباب تجديد الوضوء لكل من أراد النوم، ولو كان على طهارة.
ويحتمل أن يكون مخصوصاً بمن كان محدثاً)) (2) .
((إذا أويت إلى فراشك)) أوى إلى مكان: إذا أقام فيه، ورجع إليه، والمعنى: إذا جئت إلى فراشك تريد النوم.
((فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك)) قال الحافظ: ((على رواية ((فتوضأ)) الأمر فيه للندب، وله فوائد، منها: أن يبيت على طهارة؛ لئلا يبغته الموت، فيكون على هيئة كاملة، ويؤخذ منه الندب إلى الاستعداد للموت بطهارة القلب؛ لأنه أولى من طهارة البدن.
وقد أخرج عبد الرازق، عن مجاهد قال: قال لي ابن عباس: ((لا تنامن إلا على وضوء، فإن الأرواح تُبعث على ما قبضت عليه)) .
وروي عن أبي مرثد العجلي، قال:((من أوى إلى فراشه طاهراً، ونام ذاكراً، كان فراشه مسجداً، وكان في صلاة وذِكْر حتى يستيقظ، ومن أوى إلى فراشه غير طاهر، ونام غير ذاكر، كان فراشه قبراً، وكان جيفة حتى يستيقظ)) (3) .
ويتأكد ذلك في حق الجنب، وإن اغتسل قبل نومه فهو أفضل.
(1) انظر ((الفتح)) (11/109) .
(2)
((الفتح)) (1/358) .
(3)
((المصنف)) (11/37، 79) .
ومنها: أن يكون ذلك أبعد عن تلاعب الشيطان، وأصدق للرؤيا)) (1) .
وقوله: ((اللهم أسلمت نفسي إليك)) أي: استسلمت لك، نفسي منقادة مذعنة لك، راضية بك رباً، وبدينك شرعاً، وبنبيك رسولاً، ومنقادة لحكمك وقضائك، لا إله إلا أنت.
((ووجهت وجهي إليك)) أي: جعلت قصدي ومرادي إليك، راجياً ثوابك، خائفاً من عقابك.
((وفوضت أمري إليك)) أي: توكلت عليك مستكفياً بك، فأمري كلَّه إليك تتصرف فيَّ كيف تشاء، ورغبتي في جودك وفضلك.
((وألجأت ظهري إليك)) أي: أنت عمادي، وعليك استنادي، فأعتمد عليك بأن تكفيني كل ما أهمني، وتحميني من كل ما يؤذيني.
((رغبة ورهبة إليك)) أي: أفعل ذلك راغباً في فضلك وإحسانك، وراهباً من عقابك وعذابك بسبب ذنوبي.
((لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك)) أي: لا مهرب ينجي من هرب منك، ولا نجاة لمن أردته بعذابك، إلا بالرجوع إليك، والاستسلام لك، والإنابة إليك.
((آمنت بكتابك الذي أنزلت)) أي: أتوسل إليك بأني أصدِّق وأوقن بأن الكتب التي أنزلتها على رسلك هي قولك حقاً، وفيها الهدى والنور، الذي هو شرعك، ولمن اتبعها السعادة، ومن أعظمها القرآن الذي أنزلته على عبدك ورسولك محمد خاتم الرسل – صلى الله عليه وسلم فأنا أؤمن بذلك، وأرغب إليك بأن تستجيب دعائي لذلك.
(1)((الفتح)) (11/110) .
وهذا القدر من الحديث هو محل الشاهد، فإن كتاب الله هو كلامه وفيه عِلْمه، كما قال الزَّجَّاج:{أَنزَلهُ بِعِلمِهِ} أي: أنزل القرآن الذي فيه علمه)) (1) .
فمن زعم أن القرآن مخلوق، لزمه أن يكون عِلْم الله مخلوقاً، وهذا كفر، كما قال الأئمة أحمد وغيره.
((ونبيك الذي أرسلت)) أي: أتوسل إليك بإيماني واتباعي لنبيك محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي أرسلته إلينا ليبلغنا كلامك، وأمرك ونهيك، كما أؤمن بكل نبي لك أوحيت إليه وأرسلته إلى عبادك.
((فإنك إن مت في ليلتك مت على الفطرة)) يعني: إن كانت نومتك تلك فيها قبض روحك، وفراقها لبدنك، فإنك تموت على السُّنَّة التي جاء بها نبيك، ومن مات عليها فهو السعيد.
((وإن أصبحت أصبت خيراً)) أي: إن رُدَّت روحك بعد النوم إلى جسمك وأصبحت حياً، نلت بهذا الدعاء أجراً عند الله.
*****
116 – قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الأحزاب: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، وزلزلهم.
زاد الحميدي: حدثنا سفيان حدثنا ابن أبي خالد، سمعت عبد الله، سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر ((معاني القرآن وإعرابه)) (2/147) .
عبد الله بن أبي أوفى – واسم أبي أوفى: علقمة بن خالد الأسلمي – هو وأبوه صحابيان، شهد الحديبية، وبايع بيعة الرضوان، وقال: غزوت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ست غزوات نأكل الجراد (1) .
لما قبض النبي – صلى الله عليه وسلم – ذهب عبد الله إلى الكوفة، وهو آخر من توفي فيها من الصحابة، ثبت أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:((اللهم صل على آل أبي أوفى)) توفي رضي الله عنه سنة ست وثمانين، أو ثمان وثمانين (2) .
قوله: ((يوم الأحزاب)) يدل على أن هذا الدعاء كان في غزوة الأحزاب، وجاء في روايات:((أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بعض أيامه التي لقي العدو، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: ((لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) ثم قال: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) .
وهو يدل على أنه يدعو بذلك عند لقاء العدو.
((اللهم منزل الكتاب)) هذا توسل إلى الله – تعالى – بفضله على عباده من إنزاله الكتاب الذي فيه حياة القلوب، والاعتصام من الضلال، وفيه وعده الكريم لعباده بالنصر والتأييد، كقوله تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} (3) .
((سريع الحساب)) قال ابن جرير: ((إنما وصف – جل ثناؤه – نفسه بسرعة الحساب؛ لأنه – جل ذكره – يحصي ما يحصي من أعمال عباده بغير عقد أصابع،
(1) انظر ((تحفة الأحوذي)) (5/547، 548) .
(2)
انظر ((الإصابة)) (4/18) ، و ((أسد الغابة)) (3/182) ، ((سير أعلام النبلاء)) (3/428) .
(3)
الآية 14 من سورة التوبة.
ولا فكر، ولا روية – فعل العجزة الضعفة من الخلق – ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما.
ثم هو تعالى مجاز عباده على كل ذلك، فلذلك امتدح نفسه – جل ذكره – بسرعة الحساب، وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمثيل، فيحتاج في حسابه إلى عقد كف أو وعي صدر)) (1) .
وقال على قوله: {وَهُوَ أَسرَعُ الحَسِبِينَ} أي: أسرع من حسب عددكم، وأعمالكم وآجالكم، وغير ذلك من أموركم – أيها الناس -، وأحصاها، وعرف مقاديرها ومبالغها؛ لأنه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية، {لَا يَعزُبُ عَنهُ مِثقَالُ ذَرَّةٍ فيِ السَّمَاوَاتِ وَلا فيِ الأَرضِ وَلَا أصغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكبَرُ إِلا فيِ كِتَابِ مُّبِينٍ} )) (2) .
وهو – جل ذكره – سريع محاسبة عباده يوم القيامة، حيث لا يشغله محاسبة واحد عن الآخر.
((اهزم الأحزاب وزلزلهم)) الهزيمة هي: القهر والإذلال، والزلزلة: الاضطراب، وعدم الثبات، فهو يدعو عليهم بأن يقهرهم، ويذلهم بأيدي المسلمين، وأن ينزل عليهم الرعب والخوف الذي يزلزل قلوبهم وأجسامهم.
قوله: ((زاد الحميدي)) إلى آخره: مراده به: التصريح بالسماع، بخلاف قتيبة بن سعيد فإنه عنعن السند.
والمقصود من الحديث قوله: ((اللهم منزل الكتاب)) فإنه تعالى أنزله منه، فهو قوله ووصفه، ولو كان مخلوقاً كما يقوله الضالون، ما احتاج إلى إنزال بل يخلقه في أي مكان، فهو تعالى أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله
(1)((تفسير الطبري)) (4/207-208) بتحقيق محمود شاكر.
(2)
المصدر السابق (11/413) .
شهيداً، ونحن نشهد بذلك، ونرجو من منزل الكتاب، وسريع الحساب وهازم الأحزاب ومزلزهم، أن يثبتنا على هذه الشهادة ويثيبنا عليها خير ثواب.
117 – قال: ((حدثنا مسدد، عن هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَلَا تَجهَر بِصَلاتِكَ وَلَا تُخِافِت بِهَا} قال: أنزلت ورسول الله – صلى الله عليه وسلم متوار بمكة، فكان إذا رفع صوته سمع المشركون فسبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، وقال الله – تعالى -: {وَلَا تَجهَر بِصَلاتِكَ وَلَا تُخِافِت بِهَا} لا تجهر بصلاتك حتى يسمع المشركون، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم {وَابتَغِ بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أسمعهم ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن)) .
المراد بالصلاة في الآية: القراءة، وقد قال ابن جرير – رحمه الله ((لولا أننا لا نستجيز مخالفة أهل التفسير فيما جاء عنهم، لاحتمل أن يكون المراد: {وَلَا تَجهَر بِصَلاتِكَ} أي: بقراءتك نهاراً، {وَلَا تُخِافِت بِهَا} أي: ليلاً، وكان ذلك وجهاً لا يبعد في الصحة)) (1) .
وقد جاء ذلك مفسراً كما في هذا الحديث أن المراد: القراءة وهو يصلي، فكان صلوات الله وسلامه عليه يرفع صوته في القراءة، رجاء أن يؤثر فيمن يسمعه من كفار قومه فيسلموا، ويسمعه من معه من المسلمين فيحفظوا، وكان للقرآن وقع عظيم في قلوبهم وأثر بالغ في نفوسهم، ولذلك منعه الملأ من الكفار؛ خوفاً أن يتأثر به بعضهم فيسلموا، كما جربوا ذلك وقالوا: إن رفعت صوتك به هجوناك، وهجونا من قاله، ومن جاء به، فأمره الله – تعالى – أن لا يرفع
(1) انظر ((تفسير الطبري)) (15/188) .
صوته، وألا يخافت به بحيث لا يسمعه من عنده من المسلمين، بل يبتغي بين الجهر والإخفات سبيلاً، فيكون وسطاً بين الجهر والإخفات.
والمقصود قوله: ((أُنْزِلَت ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – متوار بمكة)) والإنزال غير الخلق، بل هو كلامه، نزل بعلمه – تعالى – فهو صفته.
فلا يجوز أن يعطى حكم المخلوق المفعول، كما أن المخلوق لا يجهر به ولا يخافت، وكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – وغيره ممن يقرؤه، يرفع صوته به أو يخفضه، لا يخرجه من كونه كلام، بل هو دليل على أنه كلام الله – تعالى – قرأه عبده، فرفع به صوته أو خفضه؛ لأن الكلام لمن قاله مبتدئاً، لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً، كما سيأتي بيان ذلك.
قال: ((باب قول الله – تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ، {إِنَّهُ لَقَولُ فَصلُ} حق. {وَمَا هُوَ بِالهزلِ} باللعب.
قال ابن جرير: ((يقول – تعالى ذكره – لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم: سيقول لك المخلفون في أهليهم عن صحبتك – إذا سرت معتمراً، تريد بيت الله الحرام، إذا انطلقت أنت ومن صحبك في سفرك ذلك إلى ما أفاء الله عليك وعليهم من الغنيمة {لِتَأخُذُوهَا} ، وذلك ما كان الله وعد أهل الحديبية من مغانم خيبر -:{ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبر، فنشهد معكم قتال أهلها:{يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ، يقول: أن يغيروا وعد الله لأهل الحديبية،
(1) الآية 15 من سورة الفتح.
وذلك أن الله – تعالى – جعل مغانم خيبر لهم، ووعدهم ذلك، عوضاً من غنائم أهل مكة، إذ انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئاً)) (1) . ثم روى ذلك عن مجاهد، وقتادة، ومقسم.
قال الحافظ: ((قال ابن بطال: أراد بهذه الترجمة، وأحاديثها، ما أراد في الأبواب قبلها – أن كلام الله تعالى – صفة قائمة به، وأنه لم يزل متكلماً ولا يزال.
والذي يظهر أن غرضه أن كلام الله، لا يختص بالقرآن، فإنه ليس نوعاً واحداً، وأنه وإن كان غير مخلوق، وهو صفة قائمة به، فإنه يلقيه على من يشاء من عباده بحسب حاجتهم في الأحكام الشرعية وغيرها من مصالحهم، وأحاديث الباب كالمصرحة بهذا المراد)) (2) .
قال في: ((خلق أفعال العباد)) : ((باب: ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يذكر ويروي عن ربه – عز وجل)) ثم ذكر نحو ما ذكره هنا من الأحاديث.
ويمكن أنه أراد بيان أن كلام الله يكون بأمره وشرعه، ووعده وجزائه، بخلاف خلقه، فإنه الصادر عن قوله:((كن)) ، وخلق الله لا يبدل، كما قال – تعالى -:{لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ} أما قوله: فيمكن أن يبدل، أو يحرف. وهذه الآية من الأدلة على أن هذا القرآن كلام الله – تعالى -، وأن ما يقوله الأشاعرة أن كلام الله: ما قام في نفسه، باطل، إذ لا يمكن أن يبدل ما في نفسه تعالى.
وقد تبين بما ذكره ابن جرير – رحمه الله – أن معنى قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} هو خروج المتخلفين عن الحديبية إلى خيبر؛ لأن الله – تعالى – وعدهم مغانم خيبر خاصة بهم.
والقول الثاني في الآية: أن المراد تبديله هو قوله تعالى: {فَقُل لَّن تَخرُجُواْ مَعِيَ أَبَدَاً} . غير أن ابن جرير رد هذا القول.
(1)((تفسير الطبري)) (26/79-80) .
(2)
((الفتح)) (13/467) .
وسياق الآية يؤيد هذا القول، فإنه تعالى قال:{قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُم قَالَ اللهُ مِن قَبلُ} . والله أعلم.
قال البغوي: {إِنَّهُ} يعني: القرآن {لَقَولٌ فَصلٌ} حق وجد، يفصل بين الحق والباطل.
{وَمَا هُوَ بِالهزلِ} باللعب، والباطل)) (1) .
*****
118 -
قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قال الله - تعالى - يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل، والنهار)) .
قال ابن كثير: ((معناه أنهم يقولون: يا خيبة الدهر، فعل كذا وكذا. فيسندون أفعال الله - تعالى - إلى الدهر، ويسبونه، وإنما الفاعل هو الله عز وجل، فنهى عن ذلك، هكذا قرره الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من العلماء)) (2) .
وقال شيخ الإسلام: ((للناس في هذا الحديث قولان:
أحدهما: قول أبي عبيد وأكثر العلماء: إنه خرج الكلام فيه لرد ما يقوله أهل الجاهلية، ومن أشبههم: فإنهم إذا أصابتهم مصيبة، أو منعوا أغراضهم، أخذوا يسبون الدهر، والزمان، يقول أحدهم: قبح الله الدهر الذي شتت شملنا، ولعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا، وما يقع كثيرا من الشعراء، وأمثالهم، كقولهم: يا دهر، فعلت كذا، وهم يقصدون سب من فعل تلك الأمور ويضيفونها إلى الدهر، فيقع السب على الله لانه هو الذي
(1) تفسير البغوي على هامش الخازن (7/234) .
(2)
((تفسير ابن كثير)) (3/517) .
فعل تلك الأمور، وأحدثها، والدهر مخلوق له، هو الذي يصرفه، ويقلبه.
والتقدير: أن ابن آدم يسب من فعل هذه الأمور، وأنا فعلتها، فإذا سب الدهر فمقصوده سب الفاعل، وإن أضاف الفعل إلى الدهر، فالدهر لا فعل له، وإنما الفاعل هو الله وحده.
وهذا كرجل قضى عليه قاض بحق، أو أفتاه مفت بحق، فجعل يقول: لعن الله من قضى بهذا، أو أفتى بهذا، ويكون ذلك من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وفتياه، فيقع السب عليه، وإن كان الساب لجهله أضاف الأمر إلى المبلغ، وهو ليس له إلا فعل التبليغ.
وأما الزمان، فلا فعل له، وإنما الله هو الذي يقلبه ويصرفه.
والقول الثاني: قول نعيم بن حماد، وطائفة معه: أن الدهر من أسماء الله، ومعناه: القديم الأزلي.
وهذا المعنى صحيح؛ لأن الله - تعالى - هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، ولكن لا يسمى بالدهر، الذي هو الزمان، أو ما يجري مجرى الزمان)) (1) .
وقال ابن قتيبة: ((معناه: أن العرب في الجاهلية يقولون: أصابني الدهر في مالي، ونالتني قوارع الدهر، وبوائقه، ويقول الهرم: حناني الدهر. فينسبون كل شيء تجري به أقدار الله عز وجل عليهم من موت، أو سقم، أو ثكل، أو هرم إلى الدهر، ويلعنونه، ويسمونه: المنون، كما ذكر الله عنهم:{أَم يَقُولُونَ شَاعِرُ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيبَ المَنُونِ} والمنون: المنية، قال أبو ذؤيب:
(1)((مجموع الفتاوى)) (2/493-494) .
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الدهر، إذا أصابتكم المصائب ولا تنسبوها إليه، فإن الله عز وجل هو الذي أصابكم بذلك، لا الدهر)) (1) .
وهذا هو ما ذكره شيخ الإسلام عن جمهور العلماء.
وكثير من الناس واقعون في هذا المنكر. وتقدم الكلام فيه.
والمقصود هنا: قوله: ((قال الله: يؤذيني ابن آدم)) . وهذا خبر يتضمن النهي، والله - تعالى - يتأذى من فعل بني آدم، ولكن لا يضره شيء تعالى وتقدس، ووجه الشاهد منه أن هذا القول صدر من الله فيه إخباره - تعالى - عما يقع له من بني آدم، وهو بمعنى النهي والزجر، ومعلوم أنه لا يقع شيء إلا بإذنه وإرادته، ومن يسب الدهر كأنه يريد تبديل حكم الله وأمره الذي وجدت به الكائنات.
وقوله: ((وأنا الدهر)) لا يدل على أنه تعالى اسمه الدهر؛ لأنه فسره بقوله: ((بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)) فكونه تعالى بيده الأمر يقلب الليل والنهار، هو معنى قوله:((أنا الدهر)) .
****
119 -
قال: ((حدثنا أبو نعيم، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله عز وجل الصوم لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته، وأكله وشربه من أجلي، الصوم جنة، وللصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) .
(1)((تأويل مختلف الحديث)) (ص151) .
((الصوم لي)) يعني: أن الصوم غالباً يكون خالصاً لله - تعالى - سالماً من شوائب الشرك، من إرادة غير الله - تعالى -؛ لأنه أمانة بين العبد وربه لا يطَّلع عليه إلا الله - تعالى - فإنه يجوز أن يظهر للناس أنه صائم، وهو في حقيقة الأمر غير صائم.
فإذا امتنع من شهوته وأكله وشربه، دل ذلك على أنه أراد ما عند الله - تعالى - وقد فسره بقوله:((يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي)) .
قوله: ((وأنا أجزي به)) يعني: أن جزاء الأعمال قد أخبر الله - تعالى - عباده بها، أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمِائَة ضعف، أما الصوم فالله يجزي به بدون تقدير؛ لعظيم جزائه، وهذا يدل على فضل الصوم إذا كان خالصاً لله - تعالى -.
((يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي)) هذا هو السبب في كونه لله، وأنه يتولى جزاءه بغير تقدير، وفسرت الشهوة بالجماع، والأولى أن تكون عامة في كل ما يشتهي، ويكون عطف الأكل والشرب من عطف الخاص على العام.
((الصوم جنة)) في رواية سعيد بن منصور: ((جنة من النار)) ، ومثله عند النسائي.
وفي رواية له من حديث عثمان بن أبي العاص: ((الصيام جنة كجنة أحدكم من القتال)) .
والجنة: بضم الجيم: الوقاية، والستر، وهذا أولى ما فسر به متعلق الجنة. واختار النووي: أنه جنة من جميع الشرور.
وفي رواية لأحمد: ((الصيام جنة ما لم يخرقها)) ، زاد الدارمي:((بالغيبة)) (1) .
(1) انظر ((الفتح)) (4/104) .
((وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه)) يعني: أنه يفرح إذا كمل يومه صائماً، فيؤمل ثواب ذلك عند الله، ويتناول طعامه وشرابه الذي أحله الله له بعد ما منعه منه لأجل صومه.
ويفرح إذا لقي ربه عندما يجزيه أعظم جزاء، وهذه أعظم فرحة وأحلى.
((ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) الخلوف هو: تغير الفم من أثر خلو المعدة من الطعام، فيتصاعد منها أبخرة تغير رائحة الفم.
ولما كان ذلك بسبب الطاعة كان عند الله طيباً، كدم الشهيد، فإنه يأتي يوم القيامة لونه لون الدم، ورائحته رائحة المسك)) .
والمقصود من الحديث قوله: ((يقول الله - تعالى - الصوم لي)) إلى آخره، كالذي قبله. ووجه الشاهد منه: أن الله يقول هذا القول الذي فيه حث العباد وترغيبهم في الصوم، فهو مما شرعه الله - تعالى - لعباده، ورضيه لهم بقوله وأمره، وهو قول أنزله على رسوله ليبلغه.
*****
120 -
قال: ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما أيوب يغتسل عرياناً، خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فنادى ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك)) .
((بينما أيوب يغتسل عرياناً)) يعني: وهو خال: استدل به البخاري على جواز الغسل عرياناً في الخلوة، فقال: باب من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة، ومن تستر فالستر أفضل)) (1) .
(1) انظر ((الصحيح)) (1/53) الباب رقم (20) .
((خر عليه رجل جراد من ذهب)) رجل الجراد: القطعة من الجراد، كما قال الأزهري:((الرجل: القطعة من الجراد)) (1) .
وهذا جراد على خلاف المعهود، وإنما هو ذهب أنزله الله على نبيه أيوب، على صور الجراد، وذلك من جزاء صبره على البلاء، ورضاه بما قدره الله.
((فجعل يحثي في ثوبه)) أي: يجمع من ذلك الذهب بيديه جميعاً، ويضعه في ثوبه.
((فنادى ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك؟)) هذا النداء يجوز أن يكون بواسطة، ويجوز أن يكون بدون واسطة على ظاهره؛ لأنه تجرد عن قرينة تعين ذلك. وقوله:((ألم أكن أغنيتك؟)) يدل على أن الله - تعالى - قد أعطاه من المال قبل هذا ما فيه غناه، ولهذا قال:((بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك)) سمي هذا الذهب بركة؛ لأنه أرسل عليه بدون صنع آدمي أو كده، بل هو من عند الله - تعالى -، ففي ذلك طلب الزيادة من الخير. وفيه ما جبل عليه الإنسان من حب المال.
والمقصود منه قوله: ((فنادى ربه: ألم أكن أغنيتك عما ترى؟)) إذ هو من كلام الله - تعالى - لنبيه أيوب، المتضمن إفضاله عليه، وتكريمه له بما أعطاه بدون حساب.
****
121-
قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني، فأستجيب له، من يسألني،
(1)((تهذيب اللغة)) (11/30) .
فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) .
هذا الحديث له طرق متعددة ومستفيضة، قال ابن عبد البر:((هذا الحديث منقول من طرق متواترة، ووجوه كثيرة، من أخبار العدول، عن النبي صلى الله عليه وسلم)) (1) .
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها، في كل زمان، على الإيمان بهذا الحديث وتلقيه بالقبول، كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قاله علانية.
وبلغه الأمة تبليغاً عاما، لم يخص به واحداً دون الآخرين.
وكان الصحابة وأتباعهم يذكرونه، ويروونه، ويبلغونه تبليغاً عاماً.
ولهذا ثبت في عامة كتب الإسلام، فمن أنكره، أو زعم أنه لا يجوز ذكره عند عامة الناس، أو تأوله على غير ظاهره، فهو ضال، سالك غير سبيل المؤمنين في ذلك.
ومن زعم أنه يدل على ما يجب أن ينزه الله عنه، من النقص المنافي لكماله، فقد أُتي من فهمه الخاطئ، وسوء ظنه بالله العظيم.
فإن وصف الله - تعالى - بالنزول كوصفه بغيره من الصفات، مثل الاستواء والفوقية والمجيء، والرضا والغضب، وغير ذلك مما وصف تعالى به نفسه ووصفته به رسله، يجب أن يؤمن به كله على وتيرة واحدة، إيماناً بلا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تأويل.
ولا يجوز للإنسان مهما كان من العلم أن ينصب نفسه مستدركاً على الله ورسوله: {قُل أأنتٌم أَعلَمُ أَمِ اللهُ} {وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثَا} .
(1) انظر ((التمهيد)) (7/128) .
قال ابن عبد البر: ((إن من نظر إلى إسلام أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن، وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجا، علم أن الله – عز وجل – لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة، ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة، ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون.
ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجباً، [أو النظر] في الجسم ونفيه، والتشبيه ونفيه، لازماً ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم.
ولو كان ذلك من عملهم مشهوراً، أو من أخلاقهم معروفاً، لاستفاض عنهم، ولشهروا به، كما شهروا بالقرآن.
وقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) عندهم مثل قول الله – عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ} ، ومثل قوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} كلهم يقول: ينزل، ويتجلى، ويجيء، بلا كيف، ولا يقولون: كيف يجيء؟ وكيف يتجلى؟ وكيف ينزل؟ ولا من أين جاء، ولا من أين يتجلى؟ ولا من أين ينزل؟؛ لأنه ليس كشيء من خلقه، تعالى عن الأشياء، لا شريك له.
وفي قول الله – عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ} دلالة واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجلياً للجبل، وفي ذلك ما يفسر معنى حديث النزول، ومن أراد أن يقف على أقاويل العلماء في قوله – عز وجل {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ} فلينظر في تفسير بقي بن مخلد، ومحمد بن جرير، وليقف على ما ذكرا، ففيما ذكرا منه كفاية، وبالله العصمة والتوفيق)) (1) .
(1)((التمهيد)) (7/152-153) .
وما ذكره الحافظ في شرح هذا الحديث من كلام أهل التأويل فإن كل من آمن بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بلغ ما أرسل به البلاغ المبين وآمن بأنه صلى الله عليه وسلم أفصح الناس، وأقدرهم على البيان، وأنصحهم للخلق، من آمن بهذا علم أن ما ذكره كله باطل، وتغبير في وجه الحق، وزبد يذهب جفاء أمام نور النبوة.
فقوله: إن الذين حملوه على ظاهره وحقيقته هم المشبهة.
يقال له: بل الذين حملوه على ظاهره وحقيقته هم الصحابة عموماً وأتباعهم إلى يوم الدين، ولا تستطيع أن تأتي بكلمة واحدة عن الرسول، أو عن أصحابه، تؤيد قول أهل التحريف الذين يسمون أنفسهم أهل السُّنَّة.
قال شيخ الإسلام: ((والصواب أن جميع هذه التأويلات مبتدعة، لم يقل أحد من الصحابة شيئاً منها، ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السُّنَّة والحديث أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السُّنَّة، ولكن بعض الخائضين بالتأويلات الفاسدة، يتشبث بألفاظ تنقل عن بعض الأئمة، وتكون إما غلطاً، أو محرفة، كقول الأوزاعي في النزول: ((يفعل الله ما يشاء)) فسره بعضهم بأن النزول مفعول مخلوق، وليس الأمر كذلك)) (1) .
وقال أبو عثمان الأنصاري: ((ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب – سبحانه وتعالى – كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله، وكذلك يثبتون ما أنزله الله – عز اسمه – في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين
(1)((مجموع الفتاوى)) (5/409) .
في قوله – عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (1) } .
وقوله – تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} نؤمن بذلك كله على ما جاء بلا كيف، فلو شاء أن يبين لنا كيفية ذلك لفعل، فانتهينا إلى ما أحكمه، وكففنا عن الذي يتشابه.
ثم روى بسنده عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: قال لي الأمير عبد الله ابن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا الحديث الذي تروونه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا)) كيف ينزل؟ قال: قلت أعز الله الأمير: لا يقال لأمر الرب: كيف، إنما ينزل بلا كيف.
ثم روى عن أحمد بن سعيد الرياطي، قال: حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر، ذات يوم، وحضر إسحاق بن راهويه، فسئل عن حديث النزول، أصحيح هو؟ قال: نعم. فقال له بعض قواد عبد الله: يا أبا يعقوب، أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم. قال: كيف ينزل؟ فقال له إسحاق: أثبته فوق، حتى أصف لك النزول، فقال الرجل: أثبته فوق؟!
فقال إسحاق: قال الله – عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} ، فقال الأمير عبد الله: يا أبا يعقوب، هذا يوم القيامة، فقال إسحاق: أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ (2) .
وقوله: ((ويكلون علمه إلى الله)) يعني: علم الكيفية، لا يبحث فيها؛ لأن الكيفية تتوقف على المشاهدة، والله تعالى لا يُرى في الدنيا، وكذا قول إسحاق بن راهويه:((إنما ينزل بلا كيف)) ، يعني: بلا كيف يعلمه العباد، وإلا ففي
(1) الآية 210 من سورة البقرة.
(2)
((عقيدة أصحاب الحديث)) ، ((مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/112) ملخصاً.
حقيقة الأمر له كيف يعلمه الله – تعالى -.
قال أبو سعيد الدارمي – رحمه الله: ((فمن ما يعتبر به من كتاب الله – عز وجل – في النزول، ويحتج به على من أنكره: قوله – تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (1) } ، وقوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} ، وهذا يوم القيامة، فالذي يقدر على النزول يوم القيامة من السماوات كلها، للفصل بين عباده، قادر أن ينزل كل ليلة من سماء إلى سماء.
فإن ردوا قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في النزول، فماذا يصنعون بقول الله – عز وجل؟)) (2) .
ثم ذكر بعض أحاديث النزول، ثم قال: ((فهذه الأحاديث قد جاءت كلها – وأكثر منها – في نزول الرب – تبارك وتعالى – وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا، لا ينكرها منهم أحد، ولا يمتنع من روايتها، حتى ظهرت هذه العصابة، فعارضت آثار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بردها، وتشمروا لدفعها بجد، فقالوا: كيف نزوله؟ قلنا: لم نكلف كيفية نزوله في ديننا، ولا تعقله قلوبنا، وليس كمثله شيء من خلقه فنشبه منه فعلاً أو صفة بفعالهم وصفتهم، ولكن ينزل بقدرته، ولطف ربوبيته، كيف يشاء.
فالكيف منه غير معقول، والإيمان بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نزوله واجب، ولا يُسأل الرب عما يفعل، وكيف يفعل، وهم يُسألون؛ لأنه القادر على ما يشاء، وإنما يقال لفعل المخلوق الضعيف، الذي لا قدرة له إلا ما أقدره الله – تعالى – عليه: كيف يصنع، وكيف قدر.
(1) الآية 210 من سورة البقرة.
(2)
((رد عثمان بن سعيد على الجهمية)) (ص63) .
ولو قد آمنتم باستواء الرب على عرشه، وارتفاعه فوق السماء السابعة بدءاً إذ خلقها، كإيمان المؤمنين به، لقلنا لكم: ليس نزوله من سماء إلى سماء بأشد عليه ولا أعجب من استوائه عليها إذ خلقها بدءاً، فكما قدر على الأولى كيف يشاء يقدر على الأخرى كيف يشاء.
وليس قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نزوله بأعجب من قول الله – تبارك وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (1) } .
وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} (2) فلما قدر على هذا يقدر على ذاك، فهذا الناطق من قول الله – عز وجل، وذاك المحفوظ من قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأخبار ليس عليها غبار.
فإن كنتم من عباد الله المؤمنين لزمكم الإيمان بها كما آمن بها المؤمنون، وإلا فصرحوا بما تضمرون، ودعوا هذه الأغلوطات، التي تلوون بها ألسنتكم، فلئن كان أهل الجهل في شك من أمركم، فإن أهل العلم من أمركم لعلى يقين)) (3) .
وقال أبو عمرو الطلمنكي: ((أجمعوا – يعني: أهل السُّنَّة والجماعة – على أن الله يأتي يوم القيامة، والملائكة صفاً صفاً؛ لحساب الأمم وعرضها، كما يشاء وكيف يشاء، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (4) } ، وقال تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} (5) وأجمعوا على أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، على ما أتت
(1) الآية 210 من سورة البقرة.
(2)
الآية 22 من سورة الفجر.
(3)
((الرد على الجهمية)) لعثمان بن سعيد الدارمي (ص79-80) .
(4)
الآية 210 من سورة البقرة.
(5)
الآية 22 من سورة الفجر.
به الآثار، كيف يشاء لا يجدون في ذا شيئاً)) (1) .
ولا يعرف عن السلف وأهل العلم المقتدى بهم من أنكر النزول، أو تأوله، فإنه مثل صفات الله الأخرى، كالاستواء والمجيء، والرضا، والغضب، بل والخلق، والرزق، والإحياء والإماتة، فمن آمن بشيء من ذلك لزمه الإيمان بالباقي؛ لأن الباب واحد، ولا يجوز فيه قياس أو تمثيل، تعالى الله عن قول أهل الباطل من المحرفين بالتأويلات الفاسدة، والمعطلين.
وما ذكره الحافظ في شرحه لهذا الحديث عن البيضاوي من قوله:
((لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية، والتحيز، امتنع عليه النزول، على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه.
فالمراد: نور رحمته، أي: ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام، إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة)) (2) .
فهذا من كلام أهل البدع الذين اعتاضوا عن كلام الله ورسوله بنحاتة أفكار أهل الاعتزال، والتجهم، الذين لم يعرفوا من أوصاف الله – تعالى – إلا ما يعرفونه من أنفسهم، فقاسوا نزول الله، واستواءه على عرشه، ومجيئه يوم القيامة، على نزولهم من أعلى إلى أسفل، واستوائهم على ما هو مرتفع، ومجيئهم من مكان إلى آخر.
ولهذا قال: منزه عن الجسمية، والتحيز؛ لأنه اعتقد أن هذه الصفات لا تثبت إلا للجسم، والمتحيز، مع أن الجسمية والتحيز من الألفاظ المجملة
(1)((مجموع الفتاوى)) (5/578) .
(2)
((الفتح)) (3/31) .
التي تحتمل حقاً وباطلاً.
فإن كان يريد بالجسمية: القائم بنفسه البائن عن غيره، فالله – تعالى – قائم بنفسه، وبائن من خلقه، وإن كان يريد بالجسمية: الذي تصح الإشارة إليه، ويكون في مكان، فالله – تعالى – يشار إليه وتتوجه قلوب عباده إليه من فوقهم، وهو فوق عرشه مستوٍ عليه، كما علم المؤمنون.
وإن كان يريد بالجسمية البدن، والجسد المركب من الأعضاء واللحم والدم ونحو ذلك، فالله – تعالى – ليس كمثله شيء، وهو منزه عن ذلك، ولم تدل النصوص على هذا.
وإن كان يريد بالمتحيز: الذي تحوزه الأشياء وتحيط به، فالله – تعالى – أجلُّ وأعظم من أن يحيط به شيء مخلوق.
وإن كان يريد أنه تعالى منحاز عن خلقه فلا يحيطون به، وليس حالاً فيهم، ولا شيء من مخلوقاته فيه – تعالى وتقدس، فالله – تعالى – كذلك، وقد علم أن مراد هؤلاء تعطيل الله – تعالى – عما وصف به نفسه وعما وصفه به رسوله، ولكنهم لم يجرؤوا على رد ذلك صراحة، فجاؤوا بمثل هذه الألفاظ المجملة، التي يظنها من لا يعرف مرادهم مراداً بها التنزيه، وهم يريدون تعطيل الله من أوصافه.
ولا يجوز أن يرد كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمثل هذه الأغلوطات، التي يزعم البيضاوي وفريقه أنها أدلة قطعية، والحقيقة أنها شبهات تقطع المفتون بها عن سبيل الهدى.
ثم نقول لهؤلاء: أأنتم أعلم بالله من الله؟ أم أنتم أعلم بالله من رسوله؟ أم أنتم أعظم تنزيهاً لله من رسوله؟ أم أنتم أقدر على البيان من رسوله؟ أم أنتم أحرص على هداية الأمة، وسلامة عقيدتها من رسول الله – صلى الله عليه وسلم؟ أم أنتم أشد غيرة على الله من رسول الله؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
قال شيخ الإسلام: ((إذا قال [أهل التأويل] : النزول، والاستواء، ونحو ذلك من صفات الأجسام، فإنه لا يعقل النزول، والاستواء، إلا لجسم مركب، والله منزه عن هذه اللوازم، فيلزم تنزيهه من ذلك.
أو قالوا: هذه حادثة، والحوادث لا تقوم إلا بجسم مركب.
وكذلك إذا قالوا: الرضا والغضب، والفرح، والمحبة، ونحو ذلك هو من صفات الأجسام.
فيقال لهم: وكذلك الإرادة، والسمع والبصر، والعلم، والقدرة، من صفات الأجسام، فكما لا يعقل ما يسمع، ويبصر، ويريد، ويعلم، ويقدر، إلا جسم.
وإن قالوا: سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته وعلمه وقدرته.
قيل: وكذلك نزوله، واستواؤه، ورضاه، وغضبه، وفرحه، ليس كنزولنا واستوائنا، ورضانا وغضبنا وفرحنا.
فإن قالوا: لا يعقل في الشاهد نزول إلا انتقال، فيقتضى تفريغ مكان، وشغل آخر.
قيل: كذلك لا يعقل في الشاهد إرادة إلا ميل القلب إلى جلب ما يحتاج إليه المريد وينفعه، وفي ذلك فقره إلى ما سواه، ودفع ما يضره.
والله أخبرنا كما في الحديث الإلهي بقوله: ((إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)) . فهو منزه عن الإرادة التي لا يعقل في الشاهد إلا هي، وكذا السمع لا يعقل إلا بدخول صوت في الصماخ، وذلك لا يكون إلا في جوف، والله منزه عن ذلك، فهو أحد صمد، كما قال ابن مسعود، وابن عباس، وغيرهما من السلف: ((الصمد: الذي لا جوف
له)) (1) .
والمقصود أن هؤلاء المؤولة، أهل التحريف، يلزمهم على أصلهم أن لا يثبتوا لله صفة، وكفى بذلك ضلالاً وكفراً.
أو أن يؤمنوا بصفات الله – تعالى – كلها، على ما جاءت بها النصوص، بلا تحريف، ولا تمثيل، على ما يليق بعظمة الله وجلاله، كما أخبر تعالى بأنه لا سمي له، ولا ند له، ولا مثيل له، فإن الباب واحد.
ويجب أن يؤمن بصفات الله – تعالى – على وتيرة واحدة، وأن يطرح القياس وتوهم التمثيل، ويسلم للنص.
وما ذكره الحافظ، عن ابن العربي، أنه اختار التأويل، وأن النزول راجع إلى أفعاله، لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه
…
إلى آخر كلامه المتهافت.
فيقال أولا: بئسما اخترت، فإنك اخترت الباطل.
ثم يقال له أيضاً: أخبرنا من أين ينزل أمره ونهيه، وأنت وقبيلك تنكرون أن يكون الله فوق مخلوقاته؟ أينزل أمره ونهيه من العدم؟ ويلزمكم أن يكون الملك الذي ينزل بأمره ونهيه – كما يزعمون – أكمل من رب العالمين؛ لأنه كان عالياً، ومن يكون أعلى فهو أكمل ممن هو أسفل منه.
ثم يقال له أيضاً: الملائكة لا تزال تنزل إلى الأرض، وإلى السماء الدنيا وغيرها بأمر الله، بالليل والنهار، فما بال هذا النزول يتحدد له ثلث الليل الآخر؟
(1)((مجموع الفتاوى)) (5/352) ملخصاً.
ويقال له أيضاً: إن في الحديث قوله – تعالى -: ((من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له)) وهذا لا يجوز أن يقوله إلا رب العالمين، وهل يجوز أن الملك يقول: من يستغفرني؟ وهذا كافٍ في إبطال قول المتأولين، كما يبطل قول الحافظ:((مما يقوي التأويل ما رواه النسائي في بعض طرق الحديث: ((ينادي مناد: هل من داع فيستجاب له)) الحديث، وزعم القرطبي أن هذا يزيل الإشكال.
ونحن نقول لهؤلاء: إن الإشكال لازم لمذهبكم ولن ينفك عنه، ولن تجدوا ما يؤيده وإن أجهدتم أنفسكم، فهذه الرواية لا تخالف اللفظ الصريح الواضح الذي ضيق خناقكم، وقد جاء في بعض طرقه عند النسائي وابن ماجه قوله:((لا أسأل عن عبادي غيري)) .
مع أنه يجوز أن الله – تعالى – مع قوله ذلك – يأمر من ينادي، ولكن المنادي لا يقول:((من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) .
ومن زعم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: إن الله يأمر منادياً يقول ذلك، فهو كاذب؛ لأنه خلاف المستفيض المتواتر عنه أن المنادي هو رب العالمين.
وأما قول البيضاوي: ((إن ذلك عبارة عن نور رحمته)) إلى آخر ما قال.
فيقال: رحمة الله – تعالى – تنزل كل وقت وآن، لا يختص نزولها بوقت معين، ونور الرحمة لا يقول: من يسألني فأعطيه
…
إلى آخره.
((والأمر والرحمة إما أن يراد بهما أعيان قائمة بنفسها كالملائكة، أو يراد بها صفات، وأعراض.
فإن أريد الأول، فالملائكة تنزل كل وقت، والنزول المذكور في الحديث خص بجوف الليل، وجعل منتهاه السماء الدنيا، ومعلوم أن الملائكة نزولهم لا يختص لا بهذا الزمن، ولا بذاك المكان.
وإن أريد صفات، وأعراض، مثل ما يحصل في قلوب العابدين في وقت السحر من الرقة، والتضرع، وحلاوة العبادة، ونحو ذلك، فهذا حاصل في الأرض ليس منتهاه السماء الدنيا.
ونزول أمره ورحمته لا يكون إلا منه، وحينئذ فهذا يقتضي أنه فوق العالم، فنفس تأويلهم يبطل مذهبهم.
وكذلك يبطله ما جاء من ألفاظ الحديث، مثل قوله:((ثم يعرج)) وفي لفظ: ((ثم يصعد)) .
يضاف إليه قوله: ((ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر)) .
ومعلوم أنه لا يجيب الدعاء، ويغفر الذنوب، ويعطي كل سائل سؤاله، إلا الله، وأمره ورحمته لا تفعل شيئاً من ذلك)) (1)
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي لما أوَّل بشر الحديث بمثل ما ذكره الحافظ: ((فيقال: هذا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان؛ لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة، ووقت، وأوان، فما بال النبي – صلى الله عليه وسلم – يحد لنزوله الليل دون النهار، ويوقت من الليل شطره، أو الأسحار، أفأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار؟ أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه، فيقولان: هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟
فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان
(1)((مجموع الفتاوى)) (5/415-416) .
إلى الإجابة والاستغفار، بكلامهما، وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟
وقد علمتم ذلك ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينزلان عند شطر الليل ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر ثم يرفعان؟)) (1) .
وليس نزوله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلثه الآخر كنزول المخلوق الذي يتخيله الجهال، حتى يلزم منه أنه دائم النزول، وأنه تحت السماوات، وفوق السماء الدنيا مقدار ثلث الليل على كل بلد، ولو كان كما يتخيله الجهال لكان النزول ممتنعاً؛ وذلك لوجوه:
أحدها: أنه لا يكون فوق العرش أبداً، بل لا يزال نازلاً.
الثاني: أنه على هذا التقدير يلزم أن يكون الزمان بقدر ما هو عليه مرات كثيرة، ليقع النزول في ثلث ليل كل بلد، مع أن الليل يختلف طوله وقصره باختلاف عرض البلاد، واختلاف الأوقات.
الثالث: أنه لو كان كما تخيله الجاهل، فكيف يبقى عند هؤلاء إلى طلوع فجرهم، ويكون نازلاً عند من هم غربهم ولم يطلع فجرهم؟ وهلم جراً.
والحق أن نزول الله – تعالى – الذي أخبر به الصادق المصدوق ليس كنزول المخلوق كما يتخيله الجهال بالله – تعالى – وأوصافه، بل يمكن أن يكون نزوله في وقت واحد لخلق كثير، ويمكن أن يكون قدره لبعض الناس أكثر، ولا يمتنع على الله – تعالى – أن يقرب إلى بعض عباده دون بعض، فيقرب إلى داعيه دون من لم يدعه.
وهذا كما أنه تعالى يحاسب عباده يوم القيامة كلهم في ساعة واحدة، وكل واحد منهم يخلو به، فيقرره بذنوبه، وذلك المحاسب لا يرى أنه يحاسب غيره.
(1) رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي (ص378) ، مجموع عقائد السلف.
وكما أنه سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} ، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
والمقصود من الحديث قوله: ((فيقول: من يدعوني فأستجيب له)) إلى آخره؛ لأن هذا من كلام الله الذي يحض به عباده المؤمنين بنزوله إلى التعرض إلى فضله وكرمه، فيستجيب للداعي، ويعطي السائل سؤله، ويغفر للمستغفر ذنبه، فما أكرم هذا الرب، وأقربه ممن يؤمن بقربه، وما أوسع عطاءه، ولكن أهل التعطيل والتحريف من أبعد الناس عنه، تعالى وتقدس عما تتصوره أفكارهم المنحرفة.
وقوله وكلامه – تعالى – غير خلقه، فأهل التأويل والتعطيل يريدون أن يبدلوا كلامه ذلك وقوله، وأما خلقه فإنه لا يبدل، {لَا تَبدِيلَ لِخلقِ اللهِ} .
*****
122 – قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، أن الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)) وبهذا الإسناد: ((قال الله: أنفق أنفق عليك)) .
قوله: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)) يعني: أن هذه الأمة آخر الأمم في الدنيا وعليها تقوم الساعة، وهم أول الأمم دخولاً الجنة، ويحاسبون قبل الناس كلهم.
والمقصود قوله: ((قال الله: أنفق أنفق عليك)) إذ هو قول الله، رواه رسوله عن ربه – تبارك وتعالى – وفي هذا القول أمره لنبيه بالإنفاق في سبيل الله، والدعوة إلى دينه، ووعده – تعالى – أن ينفق عليه – أي: يعطيه ما يحتاجه لذلك وغيره.
وهذا القول يضاف إلى الله - تعالى - قولاً له حقيقة، وليس هو من القرآن، وقول الله - تعالى - غير خلقه، وتقدم هذا الحديث.
****
123 -
قال: ((حدثنا زهير بن حرب، حدثنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة - فقال: ((هذه خديجة أتتك بإناء فيه طعام، أو إناء فيه شراب، فأقرئها من ربها السلام، وبشرها ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)) .
قوله: ((فقال: هذه خديجة)) القائل هو جبرائيل، كما صرح به في باب تزويج خديجة.
قوله: ((أتتك)) في رواية: ((تأتيك)) .
قوله: ((بإناء فيه طعام، أو إناء فيه شراب)) شك من أحد الرواة، وفي بعض نسخ البخاري حذفت ((فيه)) الثانية.
قوله: ((فأقرئها من ربها السلام)) أي: أخبرها. قال الحافظ: ((زاد الطبراني في الرواية المذكورة: فقالت: هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبرائيل السلام.
قال العلماء: في هذه القصة دليل على وفور فقهها، لأنها لم تقل: وعليه السلام، عرفت أن الله لا يرد عليه السلام، كما يرد على المخلوقين؛ لأن السلام اسم من أسمائه - تعالى -، وهو دعاء بالسلامة، وذلك لا يصلح أن يرد به على الله. ويستفاد منه رد السلام على من أرسل السلام، وعلى من بلغه.
واستدل بهذه القصة على أن خديجة أفضل من عائشة؛ لأن الله أرسل إليها السلام، وأما عائشة فأرسل إليها السلام جبرائيل)) (1) .
(1)((الفتح)) ملخصاً (7/139) .
قوله: ((وبشرها ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)) تقدم معنى البشارة، والقصب هو قصب اللؤلؤ كما جاء مفسراً في الحديث)) .
قال الحافظ: ((عند الطبراني في ((الأوسط)) ، عن ابن أبي أوفي:((يعني: قصب اللؤلؤ)) ، وفي ((الكبير)) من حديث أبي هريرة:((ببيت من لؤلؤة مجوفة)) وأصله في مسلم.
وفي ((الأوسط)) من حديث فاطمة: قلت: يا رسول الله، أين أمي خديجة؟ قال: في بيت من قصب، قلت: أمن هذا القصب؟ قال: لا، من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت)) (1) .
والصخب: الصياح والمنازعة برفع الصوت. والنصب: التعب.
قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين: أنها أجابت النبي – صلى الله عليه وسلم – طوعاً، ولم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة، ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون بيتها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها)) (2) .
والمقصد من الحديث قوله: ((فأقرئها من ربها السلام)) إلى آخره؛ لأن الله – تعالى – خاطب جبريل بذلك حينما أرسل معه السلام إليها، والبشارة، فهذا من كلام الله المتضمن الإكرام والإفضال على زوج سيد المرسلين – صلى الله عليه وسلم – ورضي الله عنها وعن سائر أزواجه وأصحابه أجمعين، وهذا من كلام الله المتعلق بمشيئته الذي أكرم به من شاء من خلقه، وهو غير القرآن وغير خلقه، فإن الخلق لا يرسل به.
******
124 – قال: ((حدثنا معاذ بن أسد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا
(1) المصدر السابق من (138) ملخصاً.
(2)
((الفتح)) (7/138) .
معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: قال الله: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) .
قال: قال الله تعالى: ((فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ)) (1) .
فلا يعلم بما أعد الله لهم من الكرامة والنعيم إلا الله – تعالى – الذي خلقه، ولذلك قال:((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) فلا أحد يستطيع وصفه؛ لأنه لم يره، ولم يسمع بمثله، ولا يتصوره أحد، وإنما يعلمه الله وحده.
روى مسلم في ((صحيحه)) ، من حديث المغيرة بن شعبة، يرفعه، قال: ((سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: هذا لك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت يا رب.
قال: رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر. قال: ومصداقه في كتاب الله – تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (2)
قال القرطبي: ((وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلاً، كما بينه
(1) الآية 17 من سورة السجدة.
(2)
الآية 17 من سورة السجدة.
هذا الحديث)) (1) .
والمقصود قوله: ((أعددت لعبادي الصالحين)) إلى آخره، فهو من قول الله – تعالى – الذي خاطب به عباده، مخبراً إياهم بما أعده – تعالى – لعباده الصالحين.
والصالح: هو الذي يفعل ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه عنه، وإن فرط منه معصية، بادر بالتوبة والإنابة إلى ربه.
وقول الله وكلامه لا يختص بالكتب المنزلة على رسله كهذه الأحاديث، فهي من كلام الله، وكلامه غير خلقه.
**********
125-
قال: ((حدثنا محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني سليمان الأحول، أن طاوساً أخبره، أنه سمع ابن عباس يقول: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا تهجد من الليل قال: ((اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت)) .
تقدم شرح هذا الحديث في باب قول الله – تعالى -: {خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِ} ، وبعض ألفاظه تختلف عما سبق، كما هي عادته إذا أعاد الحديث،
(1)((تفسير القرطبي)) (14/104) .
وسبق التنبيه عليه.
وفي هذا الحديث ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – من المداومة على قيام الليل؛ لأن لفظه ((كان)) تدل على ذلك غالباً.
وفيه إخباته صلى الله عليه وسلم في قيامه، واجتهاده في الدعاء والتضرع، والإخلاص، والثناء على الله – تعالى – والتوسل إليه تعالى بالإيمان بوعده ووعيده، وقوله، والتسليم له.
والإنابة: الرجوع إلى الخير خاصة. أما الرجوع إلى الشر فلا يكون إنابة، قال تعالى:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (1) أي: عودوا إلى ما يرضى به عنكم من التوبة والانقياد لأوامره، والانتهاء عن زواجره.
والمراد من الحديث قوله: ((وقولك الحق)) أي: الثابت الذي فيه الهدى والعدل، فمحاولة المنافقين والكافرين والمفسدين تبديله، عدول منهم عن الحق، ولا يضرون بذلك إلا أنفسهم، كما أن من زعم أن الله لا يقول ولا يتكلم قد جانب الحق واستبدل به الباطل، وكلام الله – تعالى – لا نفاد له، وهو غير خلقه.
******
126-
قال: ((حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا عبد الله بن عمر النميري، حدثنا يونس بن يزيد الأيلي، قال: سمعت الزهري، قال: سمعت عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله، عن حديث عائشة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا. وكل حدثني طائفة من الحديث الذي حدثني، عن عائشة، قالت: ولكن والله
(1) الآية 54 من سورة الزمر.
ما كنت أظن أن الله ينزل في براءتي وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فأنزل الله - تعالى - {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفكِ} العشر الآيات)) .
((الإفك)) : أبلغ ما يكون من الكذب، والافتراء، وقيل: هو البهتان، لا تشعر به حتى يفجأك، وأصله: الإفك، وهو القلب؛ لأنه قول مأفوك عن وجهه.
فبرَّأها الله مما قالوا، أي: بيَّن براءتها من ذلك الإفك، الذي قاله المنافقون وروجوه في مجتمع المدينة، فآذوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأصحابه.
ولا يزال إلى اليوم فريق ممن يتستر بالإسلام - وهو يحاربه - ينمّي ذلك الإفك، ويشيعه، ويلفق الكذب والزور، ويحاول أن يلبِّس على السذج والمغفلين.
ولا شك أن من يفعل ذلك أنه معاند لله ورسوله، وسالك غير سبيل المؤمنين، ومؤذن لله ورسوله والمؤمنين بالحرب، وليس هو من الإسلام في شيء، بل هذا من أعظم الكفر والتكذيب لله ولرسوله.
قال الزمخشري: ((نزلت فيه ثماني عشرة آية، كل واحد منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها، وتطهير لأهل البيت، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية، وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها)) (1) .
(1)((الكشاف)) (3/53) .
وقال أيضاً: ((ولو قلبت القرآن كله، وفتشت عما أوعد به العصاة، لم تر الله - تعالى - قد أغلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة - رضوان الله عليها - ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه، على طرق مختلفة، وأساليب مفننة، كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى، حيث جعل القَذفَةَ ملعونين في الدارين جميعاً، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب (1) الذي هم أهله)) (2) .
وقال ابن القيم: ((فإن قيل: فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها، وسأل وهو أعلم بالله، وبمنزلته عنده؟ هلاّ قال: سبحانك هذا بهتان عظيم)) .
فالجواب: أن هذا من تمام الحِكَم التي جعل الله هذه القصة سبباً لها، وابتلاءً لرسوله، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بها أقواماً، ويضع آخرين.
ومن تمام الابتلاء أن تأخر الوحي، ليزداد المؤمنون إيماناً، والمنافقون إفكاً، ونفاقاً، وليظهر لرسوله والمؤمنين من سرائرهم، وتتم العبودية والمنة على الصدّيقة وأبويها.
(1) قوله: ((الواجب)) إشارة إلى أن نفاذ الوعيد واجب، كما هو مذهب المعتزلة، وهو غير مسلم، فإن الله - تعالى - أخبر أنه يغفر الذنوب ما عدا الشرك لمن يشاء، فلا يجوز الحكم على الله - تعالى - بأنه يجب أن يعذب العصاة.
(2)
((الكشاف)) (3/56-57) .
والرسول صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذي، فلذلك تولى الله - تعالى - الدفاع عنه، والرد على أعدائه، وذمهم، وتوعدهم بالعذاب العظيم)) (1) .
قولها: ((ولكن والله - الله - ما كنت أظن أن الله ينزل في براءتي وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم فيّ بأمر يتلى)) كانت رضي الله عنها في نفسها صغيرة، ولكنها عند الله، وعند المؤمنين، عظيمة كبيرة؛ لأنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبته، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه، حينما سئل: أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة، فقال السائل: ومن الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر)) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) أخرجاه في ((الصحيحين)) (3) .
وهكذا أهل الفضل يحتقرون أنفسهم، ويزدرونها في حق الله - تعالى -، وذاك مما يعلي منازلهم عند الله - تعالى -.
وفيه التصريح بأن الله يتكلم بما يوحيه إلى نبيه، وكلامه - تعالى - منه ما يتعبد بتلاوته كالقرآن، وغيره كهذه الأحاديث التي ذكر البخاري شيئاً منها، وفيه أن كلامه ينزل من الله، فالله فوق خلقه، وكلامه غير مخلوق، وغير محصور في الكتب المنزلة، وهذا هو وجه الدليل منه.
وقولها: ((ولكني كنت أرجو أن يرى رسوله الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها)) وذلك ليقينها ببراءتها، وثقتها بأن ذلك سوف يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تطمع
(1)((زاد المعاد)) (3/261-263) ملخصاً.
(2)
رواه مسلم (7/109) .
(3)
البخاري (5/36) ومسلم (7/138) .
وترجو الله - تعالى - أن يرى نبيه في المنام ما يكون فيه براءتها، ولكن الله بر كريم، وعدل حكم، له فيما يشرعه من الحكم والمنن على خلقه ما لا يحاط به، ومن ذلك ما أنزله على نبيه ببراءة زوجه أم المؤمنين، مما رماها به أهل النفاق والبهت، فحصل بذلك سروره، وسرور زوجه ووالديها والمؤمنين إلى يوم القيامة.
كما حصل بذلك فضيحة المنافقين وخزيهم وبيان كذبهم، وظهور نياتهم الخبيثة، وانكشاف شيء من مؤامراتهم ضد نبي الله، وما جاء به من هذا الدين العظيم، وغير ذلك من الحكم.
قوله: ((فأنزل الله - تعالى - {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفكِ} العشر الآيات، الذي نزل في هذه الواقعة ثماني عشرة أية، كما سبق في كلام الزمخشري رحمه الله.
والمقصود من الحديث - كما سبق قريباً - قولها: ((ما كنت أظن أن الله ينزل براءتي وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى)) ؛ لأن فيه التصريح بأن الله يتكلم بأمره، وما يشرعه لعباده، وما يحكم به بينهم، وما يعدهم، أو يتوعدهم به، على أعمالهم، وينزل ذلك منه على نبيه، الذي يبلغ عنه.
ولا يمكن أن يأمر وينهى ويحكم، ويعد ويتوعد، ويجزي، إلا بقوله الذي يتكلم به، وليس قوله محصوراً في كتبه التي تَعَبَّدَ عباده بتلاوتها، في الصلاة وغيرها، ولكن كل ما يحكم به بين خلقه، وما يشرعه لعباده، وعده ووعيده كله بكلامه.
والمنافقون والكفار يريدون أن يبدلوا كلام الله الذي هو شرعه ودينه فيخالفونه، أو لا يمتثلونه، والله يجزيهم بما يستحقون ولا يظلمهم.
ولا أحد يستطيع تغيير خلق الله - تعالى -.
وبهذا وأمثاله يتضح أن قول أهل الاعتزال ومقلديهم من الروافض وغيرهم ممن يزعم أن قول الله - تعالى - مخلوق قول خطل، بعيد عن الصواب كل البعد.
******
127 -
قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعلمها، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها، إلى سبعمائة)) .
الإرادة: هي العزم على الشيء، وقد جاء في رواية ابن عباس بلفظ ((الهم)) وهو: ترجيح قصد الفعل على الترك، تقول: هممت بكذا، أي: قصدته بهمتي، وهو فوق خطور الشيء في القلب.
وقد يطلق الهم على الإرادة.
وهذا الخطاب من الله - تعالى - للملائكة الموكلين بحفظ عمل الإنسان وكتابته، وهو يدل على فضل الله على الإنسان، وتجاوزه عنه.
قوله: ((إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة، فلا تكتبوها عليه حتى يعلمها)) .
قد تكون الإضافة في قوله: ((عبدي)) بمعنى العابد المطيع، أي: عابدي، وقد تكون بمعنى المعبد المذلل، والظاهر أنه مقيد بالمؤمن.
والعمل قد يراد به عمل القلب والجوارح، وهو الظاهر؛ لأنه قد جاء ما يدل على أن عمل القلب يؤاخذ به، ويجزي عليه، قال الله - تعالى -:{وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1)
(1) الآية 25 من سورة الحج.
وفي الحديث الصحيح: ((إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في المنار)) ، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:((إنه كان حريصاً على قتل أخيه)) (1) .
وقد جاء قيد الهم بالعزم الجازم، ففي المسند من حديث خريم بن فاتك:((من هم بحسنة يعلم الله أنه قد أشعر بها قلبه، وحرص عليها، كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة، لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة، ولم تضاعف عليه)) (2) .
فهذه النصوص تصلح لتخصيص عموم قوله: ((إذا أراد أن يعمل سيئة فلا تكتبوها حتى يعملها)) وهذا لا يخالف قوله في السيئة: ((لم تكتب عليه)) ؛ لأن عزم القلب وتصميمه عمل. قوله: ((فإن علمها فاكتبوها بمثلها)) ، يعني: سيئة واحدة، قال الله – تعالى -:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (3) .
قوله: ((فإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة)) قيد تركها بأنه من أجل الله – تعالى – أي: خوفاً منه، وحياءً، أما إذا تركها عاجزاً، أو خوفاً من الخلق، أو لعارض آخر، فإنها لا تكتب له حسنة، بل ربما كتبت عليه سيئة.
(1) رواه البخاري في الإيمان وغيره، انظر ((الفتح)) (1/84) ، ومسلم رقم (2888)(4/2213) .
(2)
((المسند)) (4/345، 346، 322) .
(3)
الآية 160 من سورة الأنعام.
(4)
الآية 40 من سورة غافر.
وفي حديث ابن عباس: ((ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة)) (1)، فأكدها بقوله:
…
((عنده)) ، وبقوله:((كاملة)) ، وهو مقيد بما في هذا الحديث، يعني: أن يكون عدم عملها من أجل الله - تعالى -.
قوله: ((وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة)) إلى آخره.
وجاء وصفها في حديث ابن عباس المشار إليه، بأنها كاملة، وهذا تفضل من الله - تعالى - الكريم المنان على عباده، فله الحمد والمنة، فأي كرم أعظم من هذا، الهم بالحسنة يكتب الله به حسنة كاملة، وعمل الحسنة يكتب به عشر حسنات إلى سبعمائة حسنة، وفي حديث ابن عباس المشار إليه:((إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة)) يعني: أكثر من سبعمائة، فالحمد لله ذي الطول والكرم، فلن يهلك على الله إلا من لا يصلح للتفضل، وليس هو أهل لذلك.
والمقصود من الحديث كما تقدم في نظائره السابقة، قوله:((يقول الله: إذا أراد عبدي)) فأسند القول إلى الله، واصفاً له بذلك، وهذا القول من شرعه الذي فيه وعده لعباده، وتفضله عليهم، وهو غير القرآن، وليس مخلوقاً، فقوله تعالى غير خلقه.
*****
128 -
قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني سليمان بن بلال، عن معاوية ابن أبي مزرد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة.
(1) رواه البخاري في ((الرقاق)) ، الباب 31، وانظر ((الفتح)) (11/323) ، ومسلم رقم (131)(1/118) .