الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كشف الشبهات
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله..
ــ
ابتدأ المصنف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز وتأسَّياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكاتباته ومراسلاته؛ فإنه كان يبدأها بالبسملة، وعملاً بحديث "كل أمر ذي بال" أي حال وشأن يُهتم به شرعاً:"لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع".
مقدمة المؤلف
قدَّم المؤلف رحمه الله بعد البسملة مقدمة نافعة في بيان حقيقة دين المرسلين وما دعَوا إليه، وحقيقة دين المشركين وما كانوا عليه؛ ليعلم الإنسان حقيقة دينهم عند ورود الشبهات، ويعلم من هو أولى بدين المرسلين من دين المشركين1 ثم ذكر شبهاتهم التي أوردوها عليه، وأجاب عنها حيث قال: وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جواباً لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا
…
إلخ. وهي موضوع الكتاب.
(اعلم) هذه الكلمة يُؤتَى بها عند ذكر الشيء الذي له أهمية وينبغي
1 تبتدي هذه المقدمة من قوله: "اعلم رحمك الله
…
" وتنتهي عند قوله: "وأنا اذكر لك أشياء" (ص 32) .
أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة
ــ
أن يصغي إليه المتعلم، ويتفهَّم ما يُلفى إليه، وما قرَّره المصنف في هذا الكتاب حَقِيقٌ بأن يصغى إليه غاية الإصغاء.
(اعلم) هذا الكلمة يأتي بها المتكلم لقصد التفهم لما بعدها؛ أي: اجمع قُوَاك وحواسك وكن متفهماً لما يلقى إليك بعدها. ولا شيء أعظم من أن يُعتنى به ويُلقى له السمع والقلب أعظم من كلمة التوحيد (عبارة أخرى) .
(رحمك الله) كثيراً ما يجمع المصنف رحمه الله بين الدعاء للطالب مع ما قرره ووضحه وهذا من حسن مسلكه ومحبته ورحمته بالمسلمين.
"رحمك الله" أي: غفر لك فيما مضى ووفقك فيما يستقبل.
(أن التوحيد) الذي بعثت به الرسل وأول واجب على المكلَّف علماً وعملاً.
(هو إفراد الله بالعبادة) فأل فيه للعهد. والمصنف كثيراً ما يعتمد هذه العبارة، وهي أحسن التعاريف وأخصرها.
نعرف أن التوحيد ثلاثة أقسام:
الأول: توحيد الألولهية والعبادة؛ وهو المَعنِيّ هنا.
الثاني: توحيد الربوبية؛ وهو العلم والإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المدبر وحده.
الثالث: توحيد الأسماء والصفات؛ وهو أن يوصف الله بما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في السنة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
والقسم الأول هو مدلول كلمة لا إله إلا الله مطابقة1 وإن كانت قد دلت على القسمين الأولين بطريق التضمّن2.
"والعبادة" مشتقة من التعبد وهو التذلل والخضوع. يقال: طريق مُعَّبد؛ أي: مذلل قد وطئته الأقدام. وسميت وظائف الشرع على المكلَّفين عبادات لأنهم يفعلونها خاضعين ذليلين.
وفي الشرع لها تعاريف عند العلماء. أحدها ما عرَّفها به شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
ومنها ما عرفه الفقهاء بقولهم: العبادة ما أُمر به شرعاً من غير
1 دلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على تمام ما وُضع له؛ كدلالة لفظ البيت على معنى البيت (السقف والجدران) . ودلالة التضمن كون الجزء في ضمن المعنى الموضوع له؛ كدلالة لفظ البيت على (السقف) لأن لفظ البيت عبارة عن السقف والجدران. ودلالة الالتزام كون الخارج لازماً للمعنى الموضوع له؛ كدلالة لفظ السقف (على الحائط) لأن السقف غير موضوع للحائط حتى يكون مطابقاً له، ولا يتضمن إذ ليس الحائط جزءاً من السقف كما كان السقف جزءاً من نفس البيت وكما كان الحائط جزءاً من نفسه أيضاً؛ ولكنه كالرفيق الملازم الخارج من ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه. (اهـ. روضة الناظر وشرحها، ص 50، 51) .
2 فدلالتها على القسمين باعتبار كونه المستحق أن يُعَبد هو بما اتصف به من صفات الكمال ن الربوببة وسائر الصفات العليا.
وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده
ــ
اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي.
ومنها ما عرفها به ابن القيم رحمه الله بقوله:
وعبادةُ الرحمن غاية حبه
…
مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائرٌ
…
ما دار حتى قامت القطبان
وداره بالأمر أمر رسوله
…
لا بالهوى والنفس والشيطان
(وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده) عرفه بأنه دين جميع المرسلين من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1 وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2 وإن تفرقت شرائعهم كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} 3 وقال صلى الله عليه وسلم: "ألأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد"4 فدين جميع لرسل واحد والذي بعثوا به هو عبادة الله، والذي بُعثوا به هو الذي من أجله خُلِق الخلق، وهو الذي من أجله أُرسِلت الرسل وأنزلت الكتب.
1 سورة الأنبياء، الآية:25.
2 سورة النحل، الآية:36.
3 سورة المائدة، الآية:48.
4 أخرجه البخاري (ك. 6ب48) ومسلم (ص 1837) أولاد العلات هم الإخوة لأب. فأصلُ دين الرسل واحد وشرائعهم مختلفة.
فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين
ــ
(فأولهم نوح عليه السلام نوح هو أول رسول بعث إلى أهل الأرض كما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} الآية.
وكان بنو آدم قبله عشرة قرون كلهم على دين الإسلام1.
(أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين) فأول ما حدث الشرك في قوم نوح بسبب الغلو؛ وهو مجاوزة الحد في محبة الصالحين وتعظيمهم فوق ما شرعه الله؛ عظموهم تعظيماً غير سائغ لهم بأن عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، وإن كانوا ما عبدوهم وإنما عبدوا الصور لأنهم لم يأمروهم بعبادتهم، وإن كانوا أيضاً لم يعبدوا الصور إنما عبدوا الشيطان في الحقيقة لأنه الذي أمرهم. وبه تُعرَف مضرة الغلو في الصالحين فإنه الهلاك كل الهلاك، فإن الشرك بهم أقرب إلى النفوس من الشرك بالأشجار والأحجار، وإذا وقع في القلوب صعب إخراجه منها؛ ولهذا أتت الشريعة بقطع وسائله وذرائعه الموصلة إليه والمقربة منه.
والوسائل إما قولية أو فعلية، وهؤلاء غَلَوا فعلاً؛ غلوا بكثرة التردد إلى قبورهم وهذا فيه مشروع لكن زادوا فيه، وغلوا بالعكوف
1 قال قتادة: ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله نوحاً عليه السلام وكان أول رسول إلى أهل الأرض (مختصر السيرة ص 47) .
ودّ وسُوَاع ويغوث ويعوق ونَسْر
ــ
وهو نسفه عبادة ووسيلة إلى عبادة أربابها؛ فلما رأى منهم الشيطان ذلك زين لهم تصويرهم. وهاتان الذريعتان -التصوير والعكوف- من أعظم الوسائل الموصلة إلى الشرك كما تقدم ويأتي.
ثم ذكر المغلوّ فيهم:
(ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر) وكانوا أهل خير وعلم وصلاح، فماتوا في زمن متقارب، فأسفوا عليهم وفقدوا ما معهم من العلم، فزيَّن لهم الشيطان التردد إلى قبورهم واللبث عندها، ثم أوقعهم فيما هو أعظم من ذلك فقال ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه صار أهون عليكم من التردد إلى قبورهم واللبث عندها؛ فدلهم على تصوير تماثيلهم وقال إذا فعلتم ذلك كان أشوق لكم إلى الإكثار. من العبادة فكأنكم تشاهدونهم في مجالسهم وعلى حالتهم ولم يكن مفقوداً منهم إلا الأجسام فقط؛ ففعلوا. ثم انقرض ذلك الجيل وأتى جيل آخر لم يدروا لما صُوِّرت تلك الصور، فقال إن مَن كان قبلكم كانوا يستسقون بهم المطر، يعني يسألونهم ويزعمون أنهم يسألون الله لهم. فوقع الشرك في بني آدم بسبب الغلو في الصالحين، فهو الباب الأعظم المفضي إلى الشرك بالله.
ولما أرسله الله إلى قومه فدعاهم إلى عبادة الله وحده ولم يحبه إلا القليل أمره الله بصنع السفينة فصنعها، وأرسل الله على أهل الأرض الطوفان وأغرق جميع من عَصَوه.
ورُوي أن السيل ألقى هذه الأصنام في جدة لما أغرق قوم نوح.
وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين.
ــ
ثم بعد مضي سنتين أتى إبليس إلى عمرو بن لحي الخزاعي -وكان رئيس قومه تلك المدة- فقال له: إئت جده، تجد بها أصناماً مُعدَّه، فَرِّقها في العرب، وادعُ إليها تجب، فإنك إذا فعلت ذلك لم تختلف عليك منهم اثنان؛ ففعل -لعنه الله- فعُبِدت.
(وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين كما قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1 وقال صلى الله عليه وسلم: "وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي"2.
(وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين) المعبودة على عهد نوح عليه السلام؛ صور ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر. فانظر إلى آثار الشرك وعروقه إذا علقت متى تزول وتنمحي؟! فإن هذه الأصنام بقيت من يوم عُبِدت من دون الله حتى بعث محمد صلى الله عليه وسلم وكسرها3،
1 سورة الأحزاب، الآية:40.
2 أخرجه مسلم (ص 2286) .
3 قال ابن عباس في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال: على الإسلام كلهم، وكان أول ما كادهم به الشيطان هو تعظيم الصالحين، وذكر الله ذلك في كتابه في قوله:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} قال ابن عباس: كان هؤلاء قوماً صالحين، فلما ماتوا في شهر جزع عليهم أقاربهم فصوَّروا صورهم.
وفي غير حديثه قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة.
قال: فكان الرجل يأتي أخاه وابن عمه فيعظمه حتى ذهب ذلك القرن، ثم جاء قرن فعظموهم أشد من الأول، ثم جاء القرن الثالث فقالوا ما عظَّم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله فعبدوهم! فلما بعث الله إليهم نوحاً وغرق من غرق=
أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله؛ يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده: مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين.
ــ
فالشرك إذا وقع عظيم رفعه وشديد؛ فإن نوحاً مع كمال بيانه ونصحه ودعوته إياهم ليلاً ونهاراً وجهاراً أخذ ألف سنة إلا خمسين عاماً ما أجابه إلا قليل، ومع ذلك أغرق الله أهل الأرض كلهم من أجله، ومع ذلك تلك الأصنام الخمسة مازالت حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم وكسرها.
فيفيدك عظم الشرك إذا خالط القلوب صعب زواله كيف أن أصناماً عُبِدت على وقت أول الرسل وما كسرها إلا آخرهم.
(أرسله الله إلى) قومه قريش ومن يلحق بهم وإلا فهو بعث إلى الناس كافة أحمرهم وأسودهم {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (أناسٍ يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً) ويصلون الرحم ويكرمون الضيف 1. ويعرفون أن الله
= أهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جده، فلما نضب الماء بقيت على الشط فسفت الريح عليها حتى وارتها، وكان عمرو بن لحي كاهناً وله رِئيٌّ من الجن، فأتاه فقال: عجل السبر والظعن من تمامه، بالسعد والسلامه، ائت جده، تجد أصناماً معدة، فأوردها تهامه ولا تَهب، واعُ العرب إلى عبادتها تُجَب؛ فأتى جدة فاستثارها، ثم حملها حتى أوردها تهامة، وحضر الحج ودعا إلى عبادتها (مختصر السيرة ص 48) .
1 فيهم بقايا من دين إبراهيم مثل تعظيم البيت والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف بعرفة ومزدلفة، وإهداء البدن (مختصر السيرة) .
فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يُجدِّد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لا لملَكٍ مقرَّب ولا نبي مُرسَل فضلاً عن غيرهما؛ وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا الله،
ــ
وحده هو المتفرد بالخلق والتدبير ويخلصون في الرخاء1، (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله؛ يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده. مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين) . هذه آفتهم، وهي اتخاذهم وسائط بينهم وبين الله. فعبادتهم لا تنفعهم إذ جعلوا لله شريكاً في العبادة؛ فهذا أفسدَ جميع ما هم عليه من هذه العبادات وصاروا بذلك كفاراً مرتدين حلال الدم والمال. فهذه هي عقيدة المشركين الأولين وهذا دينهم.
فأهم شيء معرفة دين المسلمين فيُتَّبع، ومعرفة دين المشركين والشياطين فيُجتَنَب؛ فإن من لا يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام. وللشيخ رحمه الله مؤلَّفٌ في مسائل الجاهلية. فاعرف حقيقة دين المشركين كلمة كلمة وفقرة فقرة واعرف تفاصيلها، ويأتي بعضها وبعض تفاصيلها بأدلة معروفة.
(فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهم على تلك الحالة (يجدِّد لهم) ما اندرس
1 كما تقدم في الآيات.
ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره.
ــ
واخلولق من (دين أبيهم إبراهيم عليه السلام فإن قريشاً ومَن يليهم ذريتُه وورثته، وكانوا على هذا الدين الحنيف ولكنه اندرس واخلولق فيهم بسبب عمرو بن لحي بعد أن استخرج الأصنام وفرقها في العرب وغيَّر عليهم التلبية فتغير بسبب ذلك1.
(ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد) الذي يباشرون به الآلهة (محض حق الله) خالص حق الله من العبادة (لا يصلح منه شيء لا لملكٍ مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهما) وإذا كان لا يصلح لأهل الدين والفضل فمَن دونهم بطريق أولى، فلا يُعتَقد ولا يُطلب ولا يُقصَد إلا الله تعالى، ولا يوسَّط من الخلق أحدٌ بينه وبينهم ولا يُتقَرَّب به، ولا يصلُح ولا يدنو من أن يصلح لبشر من حق رب العالمين شيء. وبهذا تعرف دين قريش ودين محمد صلى الله عليه وسلم.
(وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره)
1 روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار أول من سيَّب السوائب" وفي لفظ: "وغيَّر دين إبراهيم" وفي لفظ عن ابن إسحاق: "فكان أول من غير دين إبراهيم، ونصب الأوثان –إلى أن قال: وكانت نزار تقول في إهلالها: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"(مختصر السيرة ص 48) .
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ
ــ
فهم مُقرُّون مذعنون بتوحيد الربوبية، لم ينازعوا فيه، ولا جاءهم الخللُ من ذلك؛ فهم يعرفون الله ويفعلون أنواعاً من العبادات، إنما نازعوا في توحيد العبادة، وجاءهم الخلل بجعل الوسائط شركاء مع الله في العبادة زعماً منهم أنهم أقرب منهم إلى الله وسيلة. هذا هو شركهم الذي صاروا به كفاراً مرتدين.
فحقيقة دين قريش قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يتخذون شفعاء؛ يدعونهم ويذبحون لهم ويهتفون بأسمائهم، يقولون لسنا أهلاً لسؤال الله، فيتخذون وسائط أقرب منهم إلى الله ليشفعوا لهم ويسألوا الله لهم! فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا محض حق الله لا يصلح منه شيء لغير الله. أما توحيد الربوبية فهم معترفون به.
(فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
َلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وغير ذلك من الآيات.
ــ
وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} سيجيبونك إذا سألتهم أن الذي يفعل ذلك هو الله {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1 الشرك به في ألوهيته وعبادته، وقوله تعالى:{قُلْ} يا محمد {لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} ملك له {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} المالك لها وحده هو الله {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وتستدلون بها على أنه المستحق أن يُعبَد إذا كانت ملكه وليس لهم فيها شركة، فتفردونه بالعبادة وتتركون مَن سواه من العباد الذين ليس لهم من الملك في الأرض ومن فيها {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} يعني وحده فإنهم ما أشركوا في الربوبية إنما أشركوا في الألوهية بجعلهم الوسائط {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 2 أي كيف تُخدَعون وتُصرفون عن طاعته وتوحيده مع اعترافكم وعلمكم بأنه وحده الخالق المتصرف.
(وغير ذلك من الآيات) الدالة على إقرار المشركين بالربوبية كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3، وقوله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
1 سورة يونس، الآية:31.
2 سورة المؤمنون، الآيات: 84-89.
3 سورة لقمان، الآية:25.
فإذا تحقَّقت أنهم مقرون بهذا ولم يُدخِلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد، كما كانوا يدعون الله ليلاً ونهاراً؛ ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل اللات، أو نبياً مثل عيسى.
ــ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1.
وهذا مما احتج به تعالى عليهم؛ احتج عليهم بما أقروا به من ربوبيته على ما جحدوه من توحيد العبادة؛ فإن توحيد الربوبية هو الأصل وهو الدليل على توحيد الألوهية، فإذا كان الله تعالى هو المتفرِّد بخلق السماوات والأرض لم يشرك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل. فكونه هو الخالق وحده يقتضي أن يكون هو المعبود وحده؛ فإنه من أبعد شيء أن يكون المخلوق مساوياً للخالق أو مستحقاً لما يستحقه الخالق، فلا يُسوَّى ولا يُجعل مَن لا شركة له في شيء شريكاً لمن هو مالك كل شيء، فإقرارُهم بالربوبية ناقص، لو كان حقيقة لعملوا بمقتضاه، لو تمَّموا أنه الخالق وحده الرازق وحده لما جعلوا له نداً من خلقه؛ لكنه مع ذلك فيه ضعف؛ لو أنه تام لما تخلَّف عنه إفراده بالعبادة.
(فإذا تحقَّقت أنهم مقرون بهذا) إذا تحققت مما تقدم أنهم مقرون بتوحيد الربوبية وأنه لم يدخلهم في الإسلام لم يكونوا مُوحِّدين بل
1 سورة العنكبوت، الآية:61.
وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال الله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وكما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} .
ــ
كانوا مشركين، دليل ذلك الآيات المتقدم ذكرها.
(وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه) وصاروا بجحده كفارا حلال الدم والمال (هو توحيد العبادة) .
إذا تأمَّلت ما مرَّ من إذا تحققت وما عطف عليها أنه ليس توحيد الربوبية كافياً في الدخول في الإسلام، وأنه لابد من ثمرته وهو توحيد الألوهية، وأن التوحيد الذي أشركوا فيه ولم يخلصوا فيه هو توحيد العبادة (الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) فيقولون: فلان فيه عقيدة، يعني الصلح أن يعتقد فيه أنه ينفع؛ إذا ادَّعوا في شخص الاعتقاد، يعني الادعاء فيه الألوهية (كما كانوا يدعون الله ليلاً ونهاراً) يعني المشركين الأولين يدعون الله ليلاً ونهاراً.
(ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل اللات، أو نبياً مثل عيسى) من الأولين في بعض الأحيان من يدعو الملائكة
…
إلخ. هذا هو حقيقة شركهم فقط؛ فحقيقة دينهم أمران:
الأول: أنهم يزعمون أن هذا شيء يحبه الله.
الثاني: أنها تقربهم إلى الله زلفى؛ فتقرَّبوا إلى الله بما يبعدهم منه.
(وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إخلاص العبادة لله وحده، كما قال الله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} 1) قيل: المراد بالمساجد أعضاء السجود، وقيل: المراد بها المبنية للصلوات. والكل حق؛ فالمساجد بُنِيت ليوحَّد اللهُ فيها ولا يُعبَد فيها سواه، والأعضاء خلقت ليُعبد بها ولا يعبد بها سواه {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} هذا عمومٌ داخلٌ فيه جميع المخاطبين من الأنبياء وسائر المكلَّفين. و (أحداً) نكرة؛ لا حجر ولا شجر، ولا نبي ولا ولي.
(وكما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} ) فهو الحق، ودعوته وحده هي الحق، وهو المستجيب لداعيه كما قال تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
( {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 2) وهذه من صيغ العموم؛ تشمل الأنبياء والأولياء والصالحين. (شيء) نكرة؛ فشملت أي نوع وجنس؛ فعمَّت المدعو وعمت المطلوب؛ فأي مدعو لا يستجيب من أي شيء كان، وأي مطلوب لا يحصل من أي شيء كان، فما سواه باطل ودعوتهم باطلة؛ فإنهم ما بين ميت وغائب وحاضر لا يقدر قال تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ
1 سورة الجن، الآية:18.
2 سورة الرعد، الآية:14.
وتحقَّقت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاءُ كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله. وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يُدخِلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعَتهم والتقرُّبَ إلى الله بذلك هو الذي أحلَّ دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذٍ التوحيدَ الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإِقرار به المشركون.
ــ
فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} الآية.
فدعاؤهم كما أنه شركٌ فهو ذاهبٌ ضيَاع وخَسار، فالمشركُ أضل الناس وأغبنُهم صفقةً في الدنيا والآخرة.
(وتحققت) مما تقدم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله. وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخِلهم في الإسلام وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء
وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله.
فإن الإله عندهم هو الذي يُقصَد لأجل هذه الأمور؛ سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو شجرة أو قبراً أو جنياً، لم يريدوا أن
ــ
يريدون شفاعَتهم والتقرُّبَ إلى الله بذلك هو الذي أحلَّ دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذٍ التوحيدَ الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإِقرار به المشركون) إذا تأملت ما مرَّ من قوله (إذا تحققت) وما عُطِف عليها، تبيَّن لك التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون، وعرفت حقيقته؛ أنه توحيد الألوهية والعبادة.
عبارة أخرى: فإذا عرفت إقرارهم بالربوبية هان عليك ما عليه المتأخرون واتضح لك دين المرسلين من دين المشركين.
(وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله) لم يكتفِ بذكر التوحيد بل صرَّح لك بكلمته فقال: (هذا التوحيد) هو مدلول هذه الكلمة لا إله إلا الله؛ يعني أن يكون الإله المعبود هو الله وحده دون كل ما سواه، هذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله مطابقة1 وهي التي وُضعت له، واشتملت على ركنين: النفي، والإثبات؛ نفي الألوهية عن كل ما سوى الله، وإثباتها لله وحده. ومعناها لا معبودَ حق إلا الله وحده؛ كلُ معبود سوى الله فعبادتُه وتألُّهه أبطل الباطل وأضلُّ الضلال.
(فإن الإله عندهم) أي عند أهل اللسان من قريش وغيرهم
1 وتقدم تعريف دلالة المطابقة
…
إلخ.
الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد.
فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، والكفار الجهال
ــ
الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وخاطبهم بقوله: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"(هو الذي يقصد) بالذبح والنذر والدعاء ونحو ذلك (لأجل هذه الأمور) وهي طلب الشفاعة والتقريب إلى الله (لم يريدوا أن الإله) إذا قالوا إله أنه –يرزق حقيقة؟ لا. هذا يكذبه القرآن، بل جاء القرآن بأنهم يقولون يصلحون وينفع إذا اعتقد فيه وأنه يتصرف بالشفاعة عند رب الجميع. نعم في آخر الزمان يعتقدون أنه يفيض عليه من بركته- هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده) كما تقدم ذلك بأدلته من الكتاب كقوله:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية ونحوها (وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد) إذا قالوا هذا سيد، يعني إله، وإن لم يستشعروا هذا اللفظ، لكن المعنى أنه يصلح لأن يوسّط بين أحد من الخلق وبين الله، وأن الاعتقاد فيه ينفع إذا تُشُبَّث به وطُلب منه أن يطلب لهم من الله حوائجهم. يعنون أن هذا ولي وهذا معتقد لنا، بمعنى أن المعتقَد فيه ينفعه ويجيبه، وأنه يصلح للالتجاء إليه، فيتقربون إليه ليقربهم إلى الله؛ يعني أنهم وسائط.
(فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله) التي فيها إبطال جميع ما يتعلقون به على غير الله بشيء من أنواع
يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلُّق، والكفر بما يُعَبد من دونه والبراءة منه; فإنه لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله، قالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .
ــ
العبادة المفرِدة ربَ العالمين بالألوهية استحقاقاً وعملاً وفهماً لذلك (والمراد من هذه الكلمة) كلمة لا إله إلا الله (معناها لا مجرد لفظها) فإنه لا يكفي فيها أريد بها، وإن كان لابد من النطق بها عند إسلام العبد، لكن هي مقصودة لغيرها وهو العمل بما دلت عليه، هي من الوسائل لا من الغايات، فلا يكفي اللفظ بدون المعنى، ولا يكفي المعنى بدون اللفظ. (والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلُّق والكفر بـ) جميع (ما يُعَبد من دونه) كَهُبَل ونحوه، وهذا فهم صحيح (والبراءة منه) وأن يتبرأ منه، ودليل ذلك وبرهانه (فإنه لما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله) فرُّوا واستنكروا من إفراد الله بالعبادة و (قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1) أي: أَجَعَل المعبودات معبوداً واحدا؟! فدلَّ على أنهم عرفوا معناها، وقالوا فيما حكاه الله عنهم {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 2. فالتوحيد هو الحق وهو النور لكن عقولهم فسدت وأفسد مزاجَها الشركُ؛ لأنها نشأت عليه وألفته، فصارت لا تستنكره. فصاروا كالمريض الذي إذا أُتي بالشيء الحلو قال هذا مُرّ لفساد مزاجه، ولم تنشأ على الوحيد فاستنكرته.
1 سورة ص، الآية:5.
2 سورة الصافات، الآيتان: 35، 36.
فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار.
بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني. والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله. فلا خير في رجلٍٍ جُهَّالُ الكفار أعلمُ منه بمعنى لا إله إلا الله.
ــ
(فإذا عرفت أن جهال الكفار) كأبي جهل فرعون هذه الأمة وأَضْرابِه (يعرفون ذلك) يعني معنى لا إله إلا الله كما تقدم (فالعجب ممن يدعي الإسلام) بل يدعي العلم؛ بل يدعي الإمامة في الدين (وهو لا يعرف من هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار) فإن هذا –ادعاؤه الإسلام- فضلاً عن العلم فضلاً عن الإمامة، ويخفى عليه ذلك الذي بان وظهر لجهال الكفار، هذا في الحقيقة من أعجب العجب؛ بل من أعظم الجهل وأفحش الخطأ.
(بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني) فإن أبا جهل وأضرابه لو يعلمون أن هذا هو المراد لما تلعثموا في قولها ولا نازعوا، وكذلك لو فهموا أن المراد الربوبية لسارعوا إلى ذلك ولم ينازعوا، لكن علموا أن معناها أن يكون الإله المعبود هو الله وحده دون كل ما سواه والتبرِّي مما سواه، وأنه لابد من اعتقاد ذلك ووجود في العمل، وأنها تُبطِل جميع ما هم عليه من دين آبائهم وأجدادهم (والحاذق منهم) الذي يرى أن المراد شيء آخر غير اللفظ يخطئ المعنى المراد ولا يعرفه (يظن أن معناها
إذا عرفتَ ما قلتُ لك معرفةَ قلب، وعرفتَ الشرك بالله الذي قال الله فيه:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية، وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد سواه، وعرفت ما أصبح غالبُ الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين:
ــ
لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله) يعني أنها دلّت على توحيد الربوبية، ومعلوم أن لا إله إلا الله دلت على توحيد الربوبية بالتضمُّن1 لكن معناها الذي وُضعت له مطابقة أن يكون الله وحده هو المعبود دون كل من سواه.
(فلا خير في رجل جهال الكفار أعلمُ منه بمعنى لا إله إلا الله) هذا رجلُ سُوءٍ لا خير فيه، هذا أقل ما يُقال فيه؛ فالمصنف اقتصر واقتصد على أدنى ما يقال فيه وإلا فهو يستحق أعظم، بل لا خير فيه بحال. إذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة وأضرابه أعلم منه بمعناها فلا جهلَ معنى هذه الكلمة التي هي أصل دين الإسلام وقاعدته وأساسه.
(إذا عرفتَ ما قلتُ لك معرفةَ قلب) يعني معرفة حقيقية واصلة إلى سويداء القلب ليست مجرد دعوى باللسان؛ فإن مجرد دعوى اللسان من غير معرفة القلب ليست معرفة (وعرفت الشرك بالله) وهذا من عطف العام على الخاص، وإلا فما تقدم وافٍ في بيان
1 كما تقدم معناه.
الأولى: الفرحُ بفضل الله وبرحمته كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وأفادك أيضاً الخوف العظيم.
ــ
حقيقة دين المرسلين وحقيقة دين المشركين (الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية1) ، وتصوَّرته ما هو، وقد قدم لك المصنف ما يُعرِّفك به فيما قرَّره من معرفة التوحيد؛ فإن التوحيد يتبين ضده الشرك (وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد سواه) يعني الذي هو التوحيد. وتقدَّم هذان الأمران مُقَرَّرَين لك في صدر هذا الكتاب: دين المرسلين ودين المشركين. (وعرفت ما أصبح غالبُ الناس فيه من الجهل بهذا) بالتوحيد والشرك؛ فإن أكثرهم ما عرف دين الله هذا، بل عادَوا أهل التوحيد وعابوهم وحاربوهم، واتبعوا دين المشركين كله بسبب عدم الفرق بين هذا وهذا، إذا عرفت هذه الأمور الأربعة معرفة قلب (أفادك فائدتين) عظيمتين.
(الأولى الفرح بفضل الله وبرحمته) إحداهما معرفتك دين المرسلين واعتقاده والعمل به، ومعرفتك دين المشركين ومجانبته والكفر به، كونُ الله علَّمك دين المرسلين ودلَّك سبيلَهم وعرفك طريقهم. وتعظم النعمة أن الأكثر صاروا من أهل الجهل به؛ فإن النعمة تزداد إذا كانت مختصة بالقليل دون الكثير كما قال تعالى: {قُلْ
1 سورة النساء، الآية:48.
فإنك إذا عرفتَ أن الإنسان يكفر بكلمة يُخرجِها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يُعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تُقرِّبه إلى الله كما ظن المشركون، خصوصاً إن ألهمك الله ما قصَّ عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يُخلِّصُك من هذا وأمثاله.
ــ
بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1 الفرح المذموم كما في آية {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} 2، لكنه في الدين ممدوح ومحبوب وواجب كما دلت عليه هذه الآية؛ هو خير مما فرح الناس به وهو الدنيا؛ لو اجتمعت لأحد، مع أنها لا تجتمع لأحد، ولو اجتمعت فهي للزوال والاضمحلال. وما كان لله مقصودٌ به وجهَ الله فهو باقٍ لا يزول. فأفاد أن الفرح بفضل الله وبرحمته واجب. (وأفادك أيضاً الخوف العظيم) هذه هي الفائدة الثانية؛ يفيدك مع ما تقدم من الفرح العظيم الخوفَ على نفسك ودينك، فتفرح بالدين والعمل به، وتخاف على نفسك من زوال هذه النعمة وذهاب هذا النور؛ وهي معرفتك دين المرسلين واتباعه ومعرفتك دين المشركين واجتنابه، مع أن أكثر الناس في غاية الجهل به.
(فإنك إذا عرفتَ أن الإنسان يكفر بكلمة) واحدة (يخرجِها من لسانه) دون قلبه (وقد يقولها وهو جاهل) لا يدري ما تبلغ به من
1 سورة يونس، الآية:58.
2 سورة القصص، الآية:76.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المبلغ (فلا يعذر بالجهل) . وقد يقولها وهو مجتهد (يظن أنها تقربه إلى الله) زُلفَى (كما ظن المشركون) يعني في جنس شركهم وتوسلهم إلى غير الله، قصدُهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، فيصرِفون لهم خالص العبادة من أجل جهلهم، يقولون إنهم يسألون لنا من الله وأنهم أقرب منا إليه، ولكن هذا هو عين الشرك الأكبر (خصوصاً إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم) لما مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم (أنهم أتوه قائلين:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فقال منكراً عليهم {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1 (فحينئذ) إذا عرفت أن الرجل يكفر بكلمة
…
إلخ. (يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله) ومن أسبا الخلوص من هذا الداء العضال التفتيشُ عن مبادئه ووسائله وذرائعه خشية أن تقع فيه وأنت لا تشعر، وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"2. ومن أسباب التخلص من هذا صدقُ الابتهال إلى الله وسؤاله التثبيت، وكثيراً ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: "اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك"3، كما ابتهل الخليل عليه السلام إلى الله فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ
1 سورة الأعراف، الآية:138.
2 البخاري في علامات النبوة وأبو داود في الفتن "كان الناس
…
إلخ".
3 أخرجه الترمذي "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} .
ــ
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1 وفي الحديث: "من أَمِن الله على دينه طرفةَ عين سلبه إياه".
(واعلم) أيها الطالب (أن الله سبحانه من حكمته) البالغة (لم يبعث نبياً) من الأنبياء (بهذا التوحيد) من لَدُن نوح إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم (إلا جعل له أعداء) إلا قَيَّض له أعداء قصدُهم الإغواء والصَّدْف عن دين الله؛ هذا الصراط المستقيم. وهذه حكمة بالغة؛ ابتلاء الأخيار بالأشرار ليكمل للأخيار مراتب الجهاد، وإلا لو شاء لما جعل للأشرار شيئاً من السلطة {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} الآية، سنته البالغة أن يسلِّط الأشرار على الأخيار؛ سلط الأشرار على الرسل فما دونهم، وليس هواناً بالأنبياء عليهم السلام وأتباعهم، ولكن ليقوم الأخيار بالجهاد فتعظم الدرجة ويعظم الأجر وينالوا المراتب العالية؛ لأن الجنة غالية لا تُنال إلا بالصبر على المصاعب والمشاق. واعلم أن أتباعهم كذلك من صدق الله في اتباعه للرسل كانوا أعظم أعدائه (كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} يشمل جميع الأنبياء، ثم بيَّن العدو فقال:{شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ} يعني من هؤلاء وهؤلاء.
1 سورة إبراهيم، الآيتين: 35، 36.
وقد يكون لأعداء التوحيد علومٌ كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} .
ــ
والشياطين هم الذين فيهم تمرُّد وعلو، قال بعضهم إنه بدأ بشياطين الإنس لأنهم أعظم في هذا المقام من شياطين الجن؛ لأن شيطان الإنس يأتي في صورة ناصح مُحب لَيِّن الجانب واللسان، ثم بيَّن الذي به يصدفون عن الحق فقال:{يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} فتبين لك أن تزييف القول بالعبارة له تأثير، وأن الحق قد يعرض له من يجعله في صورة الباطل كما قال الشاعر:
في زخرف القول تحسينٌ لباطله
…
والحق قد يعتريه سوءُ تعبير
تقول هذا مجاج النحل تمدحه
…
وإن شئت قلت هذا قيء الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما
…
والحق قد يعتريه سوء تعبير1
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} لكنه جعلهم ابتلاء وامتحاناً ليتبين المجاهد من القاعد والصابر من غير الصابر والمجد من المخلد {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 2، وهذا وعيد شديد وتهديد وتغليظ.
(وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة) لُغوية (وكتب)
1 قال ابن القيم رحمه الله: والزخرف الكلام المزيَّن كما يزين الشيء بالزخرف وهو الذهب، وهو الغرور لأنه يغر المستمع. والشبهاتُ المعارضة للوحي هي كلام زخرف يغر المستمع {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الآية. فانظر إلى إصغاء المستجيبين لهؤلاء ورضاهم بذلك واقترافهم المترتب عليه (اهـ. الصواعق ص 1041) .
2 سورة الأنعام، الآية:112.
إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير سلاحاً لك تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} .
ــ
يرجعون إليها (وحجج) لكنها عند التحقيق مثل السراب عند المناظرة تبين أنها لا شيء {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} عند الحاجة إليه. ومن تلك الحجج ما تقدم ومنها ما يأتي الجواب عنه. والعلم: هو الموروث عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وأما علمهم فهو إما منامات –أحلام- أو تُرهَات باطلة لا أصل لها، ومنها شيء صحيح في نفسه لكن لا يفهمونه وهو في الحقيقة لا يدل على باطلهم بل هو رد عليهم، والدليل أن عندهم علوماً كثيرة وكتباً وحججاً قوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 1.
(إذا عرفت ذلك) يعني ما قرَّره وقدمه المصنف (وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه) ملازمين له لا ينفكُّون عنه ولا يرجعون عنه أبداً، قصدُهم الإغواء والصدف عن هذا الصراط المستقيم (أهل فصاحة) وبلاغة في المنطق (وعلم وحجج) على باطلهم؛ ولكنها ليست من الحجج الموروثة عن الأنبياء صلوات
1 سورة غافر، الآية:83.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الله وسلامه عليهم إنما هي منامات وأكاذيب إذا جاء عند التحصيل فإذا هي تخونهم أحوجَ ما يكونون إليها.
(فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله) الذي أنزله (ما يصير سلاحاً لك) تذبُّ به عن نفسك ودينك وتدافع به و (تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين) هم بهذا المقام أعظم ضرراً من شياطين الجن، وهم نواب إبليس الذي (قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} ) أي: لا أترك أحداً يمر إلا تشبَّثت به وأغويته. لشدة عداوته لهذا النوع الإنساني جَدّ كل الجد واجتهد كل الاجتهاد في إغوائه وصدفه وإضلاله؛ أخبر هذا الخبر عما هو مُريد وجازِم وعازِم عليه؛ ثم أكده بهذه التأكيدات {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} 1.
فإذا كان الطريق الذي هذه صفتُه عليه مرصودٌ عليه بأنواع الصدوف، وأنواع القيود، وأنواع السلاح، وأنواع الحجج والبينات، وأنواع الكيد والمكر والخداع، فكيف يأمن الإنسان ولا يخاف؟!
ومما تقدم تعرف البُعد عن صفة التعب والهُوينا، بل الأمر جد كل الجد. فمعلوم أن المقيَّض له أعداء، لا يكون في غفلة عنهم وليس مقصودهم سفك الدم فقط، لا بل الدين. وكم أهلك في الطريق الذي عليه شياطين الإنس والجن مراصدين مع ما جعل
1 سورة الأعراف، الآيتان: 16، 17.
ولكن إذا أقبلتَ على الله وأصغيت إلى حجج الله وبيناته فلا تخف ولا تحزن {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} .
ــ
لهم من السلطة على القلب ونحو ذلك يحسبون أنه آمن ولا خافوا من مخاوفه ولا علموا من الشرع طرقه ومخاوفه.
بعد ذكر المصنف ما ذكر من عداوة الشيطان ونوابه وحرصهم على اهلاك هذا الجنس الإنساني قال:
(ولكن إذا أقبلت على الله) بقلبك وقالبك، وعلم منك اللجأ إليه والتبرِّي والتخلّي من الحول والقوة إلا به (وأصغيتَ) كل الإصغاء (إلى حجج الله وبيناته) من الكتاب والسنة (فلا تخف ولا تحزن) من الأعداء القاعدين لك على الصراط المستقيم؛ فعندك ما يحصنك من هذا؛ فالخوف عليك عندما تُعرِض عن حجج الله وبيناته، الخوف والحزن عليك من جهة نفسك أن لا تُقبِل ولا تصغي؛ وأما إن لجأت إليه فَلَا {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} 1. وإن كان قسمُه وحظه من الألف تسعمائة وتسعة وتسعين فليس كثرةُ حزبِه من قوة كيده، بل كيدُه ضعيف، ولكن أكثر الخلق أطاعوه وتولَّوه ومكَّنوه من أنفسهم، فلما جعلوا له سلطاناً كان له عليهم سلطان، وإلا كل عباد الله ليس له عليهم سلطان، ولو أنهم لم يجعلوا له عليهم سلطانا لما كان له عليهم سلطان، فهم الذين أعطوه القياد لأجل الشهوات وإيثار العاجل على الآجل؛ أعطوه ذلك فصاروا إلى حيِّزه من جانب فصارت قوته نسبية، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ
1 سورة النساء، الآية:76.
والعامِّي من الموحِّدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} فجندُ الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح وقد مَنَّ الله علينا بكتابه الذي جعله تبياناً لكل شيء وهدى وبشرى للمسلمين.
ــ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} 1. فمن استولى عليه الشيطان في شيء فهو الذي ولاه على نفسه، وإذا أطاعه في شيء انتظر منه شيئاً آخر، وهكذا حتى يوصله إلى الهلاك والعياذ بالله.
(والعامي من الموحدين) الذي عرف أدلة دينه وإن كان ليس بفقيه ولا عالم، ليس المراد العامي الجاهل اللهم إلا أن يوفق العامي الذي لا يعرف –لحجةٍ عقلية وهو نادر (يغلب الألف) بل الألوف (من علماء هؤلاء المشركين)، لأن حجج المشركين ترهات وأباطيل ومنامات كاذبة وما كان معهم من الحق فهو رد في الحقيقة عليهم (كما قال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ) 2 فهذه الآيات أفادت حصر الغلبة في جند الله وهو يقتضي بعمومه الغلب في جميع النواحي: الحجة واللسان والسيف والسنان ويغلبون قبيلهم3 ولا تظن أنه
1 سورة النحل، الآيتان: 99، 100.
2 سورة الصافات، الآية:173.
3 لأنه لا حجة لهم على باطلهم فلا شيء من الحق يدل على باطلهم فلو قُدِّر أنهم أستدلوا بآية فليس لهم في الحقيقة دليل فيها والأدلة على توحيد رب العالمين أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. وما يتشبثون به ويزعمون أنه دليل ليس بدليل، ويأتيك بعض ذلك والجواب عنه (عبارة أخرى) .
فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِير} قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
ــ
يرد عليه تسليط أهل الشر في هذه الأزمان، فإنه بسبب إضاعته، وإلا دينُ رب العالمين محفوظٌ مؤمِّنٌ بحفظ من يقوم به. ولا تظن أنه يرد عليه إدالة أهل الباطل بعض الأحيان فإنه تمحيصٌ ورفعة وغرور لأهل الباطل. (وإنما الخوف على الموحد) العابد لله المستقيم على الوحيد (الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح) يذب به عن دينه وهو الحجة والسلاح لم يتعلم أدلة دينه، فهذا مخوفٌ عليه أن يُقتَل أو يُسلَب أو يبقى أسيراً في يد عدوه الشيطان وجنوده فيستزلونه عن الطريق السوي (وقد مَنَّ الله علينا بكتابه) الذي هو السلاح كل السلاح الأعظم. (الذي جعله تبياناً لكل شيء وهدى وبشرى للمسلمين) .
(فلا يأتي صاحب باطل بحجة) كائنةٍ ما كانت إلى يوم القيامة (إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها) يعرف ذلك من يعرفه، ويوفَّق له من يوفق، ويجهل ذلك من يجهله (كما قال تعالى:{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} ) أي بحجة أو شبهة، وهذه نكرة في سياق النفي، فشمل جميع ما يؤتى به {إِلَاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِير} 1.2
1 سورة الفرقان، الآية:33.
2 قال ابن القيم رحمه الله: فالحق هو المعنى المدلول الذي تضمَّنه الكتاب، والتفسير الأحسن هو الألفاظ الدالة على ذلك الحق؛ فهي تفسيره وبيانه (الصواعق المرسلة) .