الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرَّم الشرك أعظم من تحريم الزنا، وتقر أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري، فقل له: كيف تبرِّيء نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟! أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا.
فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام، فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك
ــ
يعني: فسِّر لي حقيقة الشرك بالله، يعني وما معنى عبادة الله (فإنه لا يدري) عن الشرك ولا عن التوحيد إذا طلبت منه بيان هذا وهذا، وَقف فأين هذا من التوحيد؟ (فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟) فإن الحكم على الشيء نفياً وإثباتاً لابد أن يكون بعد العلم والتصور؛ فلا عرفت الشرك حتى تنفيه ولا عرفت التوحيد حتى تثبته (كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟) عدم معرفتك له وعدم مبالاتك به يدل على أنك لا تعرف دينك وأنك لست من التدين في شيء، صادٌ غافل مُعرِض عن الدين ومعرفته، فحقُّك السكوت، ولأي شيء تتكلم (أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا) فإن ظن ذلك فقد ضل ضلالا أعظم من ضلاله الأول وأضاف إلى ذلك كفراً آخر. وإنما صدر منه ذلك لأنه كان فيه، وغمره واستحكم عليه ولا درى أنه في الشرك؛ فإن الله قد بيَّن لنا الدقيق والجليل وأكمل لنا الدين.
(فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام)
الشبهة الثامنة: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام
…
فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام، فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك
الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمرَ من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن. وإن قال: هو من قصد خشبة أو حجراً أو بنية على قبر أو غيره؛ يدعون ذلك ويذبحون له، ويقولون إنه يُقرِّبنا إلى الله زُلْفَى ويدفع الله عنا ببركته، أو يعطينا ببركته. فقل: صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها. فهذا أقرَّ أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام، فهو المطلوب.
ــ
انتقل إلى هذه الشبهة؛ زعم أن الشرك عبادة الأصنام بخصوصه، وهو في زعمه أنه لا يعبد الأصنام بل ولي، فجاوبه بالاستفسار والتحدي فبه يندحض وتنكشف شبهته، ويظهر جهله وضلاله، وأنه أجنبي مما عليه المرسلون وما هو دين المشركين (فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟) التي حصرت الشرك فيها (أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟) فإن قال نعم (فهذا يكذبه القرآن) ويرده؛ فإن القرآن دال على أنهم لا يعتقدون فيها ذلك أصلاً (وإن قال هو من قصد خشبة أو حجراً أو بنية على قبر أو غيره، يدعون ذلك ويذبحون له، ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع الله عنا ببركته أو يعطينا ببركته) فهذا تفسيرٌ لعبادة الأصنام صحيح (فقل صدقت) لكن (وهذا هو) بعينه (فعلكم) الذي وقعتم فيه (عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها) وهذا المطابق هو حقيقة تفسيرها (فهذا أقرَّ أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام، فهو المطلوب) المطلوب إقرارُه بالحق وكشف شبهته، وقد انكشفت شبهته واندحضت حجته، وتبين جهالته وضلالته.
ويقال له أيضاً: قولك: الشرك عبادة الأصنام. هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يرده ما ذكره الله في كتابه مِن كُفر مَن تعلَّق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين. فلابد أن يقرَّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحداً من الصالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.
ــ
وحاصله أنك تقول: هل هم يعتقدون أنها تخلق؟ فإن قال نعم فبيِّن لهم الآيات الواردة.. إلخ، وإن قال هو مَن قصد.. إلخ. فقل. نعم، وهذا هم فعلُكم، فهو إما أن يفسّره بباطل فيبيِّن له باطله، وإما أن يقر أن فعلهم موافق له.
(ويقال له أيضاً) هذا جواب ثانٍ له (قولك: الشرك عبادة الأصنام، هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا؟) محصورٌ دون عبادة من سواهم (وأن الاعتماد على الصالحين) والأنبياء والأولياء والملائكة (ودعاءهم لا يدخل في ذلك) لا يكون شركاً (فهذا) أمر باطل (يرده ما ذكره الله في كتابه) ويبطله (من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين) فإن القرآن العزيز بيَّن كفر من تعلق على هؤلاء، وكفر من تعلق على هؤلاء، كما تقدم، وأن عبادة الأصنام قسم من أقسام الشرك (فلابد) حينئذٍ (أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحداً من الصالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب) وتبين أن من عيد صنماً أو وثناً أو غير ذلك فهو مشرك، وبهذا تنكشف شبهته وتندحض حجته.
وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله، فقل له: وما الشرك بالله؟ فسِّره لي. فإن قال: هو عبادة الأصنام، فقل: وما معنى عبادة الأصنام؟ فسِّرها لي. فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده، فقل: ما معنى عبادة الله وحده؟ فسرها لي. فإن فسرها بما بينه ــ
(وسر المسألة) يعني خالص وحاصل الأجوبة عن الشبه الثلاث. ذكر المصنف رحمه الله أولاً جواب المشبه؛ خَصَّ كل شبهة بجواب وبعضها بجوابين، ثم ذكر جوابها هنا على سبيل اللف بعد النشر.
(أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله، فقل له: ما معنى الشرك بالله؟ فسره لي: فإن قال: هو عبادة الأصنام، فقل: وما معنى عبادة الأصنام، فسرها لي. فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده، فقل: ما معنى عبادة الله وحده؟ فسرها لي. فإن فسرها بما بينه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدعي شيئاً وهو لا يعرفه وإن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان أنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه) .
يعني: وحاصلُ الجواب عن الشبه الثلاث أنك تتحدَّاه؛ فله ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يتوقَّف، فقل له: أنت لا تعرف الحق من الباطل، فإذا حَادَ ولا درى ووقف فهو كافٍ في ردِّ شُبَهه، وحينئذ كفانا مؤنَة جوابه؛ فإنَّ هذا حال كثير ممن يعبد الأصنام؛ لا يدري عن الشرك ولا أهله ولا درى عن عبادة الأصنام ولا ميَّز عبادة الأصنام من غيرها، وإن فسرها بما فسره القرآن، فهذا أيضاً كفانا مؤنته وهدم أصله الذي بنى عليه، وإن فسره بالباطل
القرآن فهو المطلوب وإن لم يعرفه فكيف يدَّعي شيئاً وهو لا يعرفه، وإن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان أنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرون علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .
ــ
المخالف لتفسير القرآن بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان. فالحاصلُ أنه يتحصَّل منه تسعُ صور من ضرب ثلاث الشبه في جوابه.
(وأن عبادة الله وحده لا شريك له) وهو توحيده (هي التي ينكرون علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا) في إنكارهم التوحيد على الرسول لما دعوهم: ( {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1) استنكروا أن يجعل الآلهة إلهاً واحداً.
وبه تعرف أن كثيراً ممن ينتسب إلى الإسلام من هذه الأمة ليسوا على الدين، إنما معهم اسمُه فقط ولا يعرفون ما هو شرك الأوَّلين، فلو عرف أحدهم شركَ الأولين وشرك أهل هذا الزمان لوجده هو هو؛ بل مشركو هذه الأزمنة أعظم من شرك أولئك بكثير؛ لما يأتيك من كلام المصنف. شرك الأولين ليس أكثر من اعتقادهم أن أحدهم يطلب ممن يعتقد فيه أن يطلب له من الله، وأنه باب وسائطهم
1 سورة ص، الآية:5.
فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقادَ هو الشرك الذي نزل فيه القرآن وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ عليه؛ فاعلم أن شركَ الأولين أخفُّ من شرك أهل زماننا بأمرين.
أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدعاء كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} .
ــ
وحوائجهم إلى الله كما قال عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .
(فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) وقد يسمونه التوسُّل (هو الشرك) الأكبر الذي كان عليه قريش وأضرابهم (الذي نزل فيه القرآن وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ عليه) وتحقَّقت ما قدمته لك من كشف الشبه المتقدمة (فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين) فشركُ أهل زماننا أعظم وأكبر. وكونُ شرك أهل زماننا أغلظ وأكبر بهذين الأمرين ليس دليلاً على أنه لا يتغلظ إلا بهذين الأمرين، بل يريد أنه تغلظ بهذين الأمرين (أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدعاء) وإنما كان هذا حال المشركين الأولين؛ لأنهم أصح عقولاً وأفهم في هذه الأمور؛ لعلمهم أنه لا ينجي في المضايق والكروب إلا الله فيخلصون لله الدين، ولهذا لما سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} . وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً} إلى قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} وقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .
ــ
حصيَن: "كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعةٌ، ستة في الأرض وواحدٌ في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء"(كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} ) يعني ذهب عنكم من تدعون سواه ( {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} ) عن إفراده بالعبادة واللجاء إليه ( {وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُوراً} )1.
(وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 2. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً} إلى قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 3 وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4) هذه الآيات ونظائرها دالة على أنهم
1 سورة الإسراء، الآية:67.
2 سورة الأنعام، الآية: 40، 41.
3 سورة الزمر، الآية:8.
4 سورة لقمان، الآية:32.
فمَن فهِم هذه المسألة التي وضَّحها الله في كتابه؛ وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون سادتهم، تبيَّن له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين.
ولكن أين من يفهم قلبُه هذه المسألة فهماً جيداً راسخاً، والله المستعان.
ــ
في الرخاء يشركون وفي الشدة يخلصون؛ في الشدة لا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وأما في زماننا فشركُهم في الحالتين جميعاً، بل إذا كانوا في الشدة نسوا الله بالكلية ولهجوا بمعبوداتهم من دون الله، والعياذ بالله. فأهلُ زماننا إذا ركبوا في البحر وتلاطمت عليهم الأمواج لهجوا بمن يدعونه من دون الله؛ سواء كان من الأموات أو غيرهم، هذا يقول: يا متبولي، يا عيدروس، يا بدوي، يا عبد القادر، يا علي، يا حسين، يا فلان، أين شرك هؤلاء من شرك الأولين؟ بين الشركين فرقٌ بعيد، بل مشركو زماننا زادوا في شركهم بفنونٍ زادوها وضُرُوبٍ جدَّدها.
ثم قال المصنف: (فمن فهم هذه المسألة التي وضَّحها الله في كتابه) حقيقة الفهم، وفَهِم عن الله ورسوله، وسَلِمَ من التعصب والهوى، وسلم من الجهل (وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك، له وينسون سادتهم،
الأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع اللهِ أُنَاساً مقرَّبين عند الله؛ إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، أو يدعون أحجاراً أو أشجاراً مطيعةً لله ليست عاصية، وأهلُ زماننا يدعون مع اللهِ أُناساً من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك؛ والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يُشاهد فسقه وفساده ويشهد به.
ــ
تبيَّن له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين) يعني أن شرك أهل زماننا أعظم وأكبر وأَطَم، وإنما ضلوا بتركهم القرآن والإعراض عنه والتفهم والتدبر (ولكن أين من يفهم قلبُه هذه المسألة فهماً جيداً راسخاً؟!) لينجو من الجهل، ولا يظن أن المراد أنهم قوم كانوا فبانوا. وفي الحقيقة إن كانوا وبانوا فقد أعقبوا من هو شرٌّ منهم بكثير (والله المستعان) .
(الأمر الثاني) تقدم الأمر الأول الذي صار به المشركون الأولون أعظم شركاً من أهل زماننا (أن) المشركين (الأولين يدعون مع الله أُنَاساً مقربين عند الله: إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة) أو صالحين (أو يدعون أحجاراً أو أشجاراً مطيعة لله ليست عاصية) الكائنات كلها مطيعة لله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (وأهل زماننا يدعون مع اللهِ أناساً من أفسق الناس) بل منهم من يدعو أُناساً من أكفر الناس، بل بعضهم أكفر من اليهود والنصارى؛ كالذين
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يدعون إمام أهل وحدة الوجود ابن عربي؛ فإن عليه الآن قبة في الشام (والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك؛ والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به) فإنه معلوم أن من دعا مع الله غيره من أي شيء كان فهو كافر، وصَارفٌ حقَّ رب العالمين لغيره؛ وكون ذلك المصروف لنبي أو غيره لا ينجيه من الشرك، ولكنه أهون من الثاني؛ فإن عظَّم من لا يُعظَّم بوجه، وهو كالمعاند أيضًا. النصوص الشرعية دلت على نقص هذا وأنه مرذول ومَهِين وهذا عاكسَ الشرعَ وجعله معظماً، فصار شركه أعظم، وإن كان الكل شرك وكفر وضلال.
فظهر بذلك صحة ما قاله المصنف وأن شرك مشركي زماننا أعظم وأغلظ من شرك المشركين الأولين؛ لكن الأولين عندهم شبهة أهل الجاهلية وهو أنه معظم في الجملة. والذي يدعو فاسقاً أو كافراً يطلب ممن كان ممقوتاً مذموماً في الشرع ويعبده فكان معانداً للشرع، فاستَويَا في أن الكل شرك، وافترقا فيمن هو معظم في الجملة. والثاني عظم من ليس معظماً بحال فصار أعظم شركاً؛ فإن الأولين لو عظموهم بغير الشرك لكان سائغاً، والفاسق ونحوه لو عظم بدون عبادة له لكان المعظم له عاصياً إذا كان معبودهُ تقام عليه الحدود أو فاسق.