الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الثانية: حصرهم عبادة غير الله في الأصنام دون الصالحين
…
فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناماً؟!.
فجاوِبه بما تقدم؛ فإنه إذا أقرَّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة ولكن أراد أن يفرِّق بين فعلهم وفعله بما ذكر.
ــ
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 1ِ ونظائرها من الآيات الدالة على أنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الجاهَ والشفاعة.
فحاصلُ جواب هذه الشبهة أنك ما زِدتَ على ما أقَرَّ به المشركون الأولون، ولا زاد فعلُك عن فعلهم بل أنت وهم سواء.
(فإن قال) المشبِّه (هؤلاء الآيات) يعني آية: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ونحوها (نزلت فيمن يعبد الأصنام) إن انتقل إلى هذه الشبهة وهي حصرُ عبادة غير الله في الأصنام، يعني وما سواه فليس بعبادة، فليس مثلهم، هو يدعو الصالحين وليس بمشرك! (كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟) حصر عبادة غير الله في الأصنام (أم كيف تجعلون الأنبياء أصناماً؟) من شأن أهل الباطل وأشباههم نسبتهم مَن نَزَّل الصالحين منازلَهم أن يقولوا: تنقصوهم وهضموهم. وفي الحقيقة هم الناقصون المنتقِّصون للرسل وأرادوا أن يُعطَوْا باطلاً. وأهل الحق نزلوهم منازلهم الحق اللائقة بهم وما جاءوا به، ولا زادوا ولا نقصوا؛ أعطوهم حقهم الواجب ونزَّهوهم عما لا يصلح
1 سورة الأنعام، الآية:94.
فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية، ويدعون عيسى ابن مريم وأمه وقد قال تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
ــ
لهم من الباطل.
(فجاوبه بما تقدم) وهو أن المشركين الأولين مقرون بالربوبية؛ أن الله تعالى الخالق وحده لا شريك له الرازق وإنما كانوا مشركين باتخاذهم الوسائط
…
إلخ. لكنهم ما أعطوا الربوبية حقها فإن توحيد الألوهية هو نتيجة توحيد الربوبية كما تقدم (فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة) والمشبِّه مقر بذلك (ولكن أراد) المشبه (أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر) وهو أن المشركين يعبدون أصناماً وهو لا يعبد صنماً.
(فاذكر له أن الكفار منهم من يعبد الأصنام) والأوثان كما ذكر الله عنهم {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 1، {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} 2، {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ
1 سورة الشعراء، الآية:71.
2 سورة العنكبوت، الآية:17.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لَهَا عَاكِفُونَ} 1.
(ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 2 الآية) فمعبوداتُهم متنوعة؛ ليست الأصنام وحدها، من دليل تنوعها هذه الآية فإنها نزلت في أناس يعبدون الجن فأسلم الجن وبقي الإنس على عبادتهم. وقيل نزلت فيمن يعبد العُزَير والمسيح كما هو قول أكثر المفسرين. ولا منافاة بين القولين فإنها نزلت فيمن يدعو مدعواً وذلك المدعو صالح في نفسه يرجو رحمة الرب ويخاف عقابه، فكأن الله سبحانه قال في الرد عليهم: إن من تدعونه عبيدي كما أنكم عبيدي، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، فينبغي أن تفعلوا مثل ما تفعل تلك الآلهة. فصاروا عبيده بثلاثة أشياء: بعبادته وحده، ورجائه وحده، وخوفه وحده. هذا هو الموصّل لهم والوسيلة والسبب الموصل لا عبادة سواه من الأولياء ونحوهم. فهذه الآية من جملة الأدلة على أن من معبوداتهم الأولياء.
(ويدعون عيسى ابن مريم وأمه) وهو صريح في شرك النصارى بالرسل؛ عيسى رسول (وقد قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} ) يعني عظيمة التصديق بالحق {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ
1 سورة الأنبياء، الآية:52.
2 سورة الإسراء، الآية:57.
ــ
لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1.
فهذا بعض أنواع شرك الأولين أهل الكتاب.
(واذكر له قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ) 2 هذه الآية دالة على أن من المشركين من يعبد الملائكة.
فعرفت من هذه الآيات أن من المشركين من يدعو الأولياء والصالحين، ومنهم من يدعو الأنبياء، ومنهم من يدعو الملائكة. وأن الآيات منها ما نزل فيمن يعبد الأولياء، وبعضها فيمن يعبد الأنبياء، وبعضها فيمن يعبد الملائكة، وأنها ليست منحصرة فيمن يعبد الأصنام فقط؛ فلا فرق بين المعبودات، بل الكلُّ تسويةُ المخلوق بالخالق، والكل عدل به تعالى سواه في العبادة، فالكل شرك والكل مشركون. فعرفت من الآيات أنه مثلُهم فبذلك انكشفت شبهتُه واندحضت حجته.
1 سورة المائدة، الآيتان: 75، 76.
2 سورة سبأ، الآيتان: 40، 41.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ} فقل له: عرفت أن الله كفَّر من قصد الأصنام وكفر أيضًا من قصد الصالحين، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بينهم.
ــ
(وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهو تعالى أعلم أن عيسى لم يقل ذلك، ولكن المراد نطقُه على رؤوس الأشهاد وبيانُ بطلانِ عبادتهم له، وأنه لم يرضَ بذلك. وهذا الخبر من الله ذمٌ وعيب لمن اتخذ المسيح وأمه إلهين من دون الله {قَالَ سُبْحَانَكَ} أي تنزيهاً لك عمَّا لا يليق بجلالك وعظمتك {مَا يَكُونُ لِي} يعني ما ينبغي لي {أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أن أجعل حق رب العالمين الذي لا يشركه فيه غيره لي {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وأنت أعلم أنه لم يصدر مني ذلك {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 1.
(فقل) للمشبِّهِ الشبهةَ السابقة (عرفت أن الله كفَّر من قصد الأصنام وكفر أيضًا من قصد الصالحين) 2 بل لابد أن ينضم إلى ذلك تكفيرُهم واعتقاد ذلك، فمن لم يكفرهم دليل على أنه لا يرى عملهم كفراً (وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بينهم) بل جعل
1 سورة المائدة، الآيتان: 116، 117.
2 يعني إذا سردت عليه الآيات التي فيها غير من عبد الأصنام فقل له: عرفت.. إلخ (عبارة أخرى) .