المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشبهة التاسعة: قولهم: إنكم تكفرون المسلمين - شرح كشف الشبهات لمحمد بن إبراهيم آل الشيخ

[محمد بن إبراهيم آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌احتجاج المشركين في زماننا بالمتشابه

- ‌الشبهة الأولى: أن من أقر بتوحيد الربوبية ولم يقصد من الصالحين إلا الجاه والشفاعة فليس بمشرك

- ‌الشبهة الثانية: حصرهم عبادة غير الله في الأصنام دون الصالحين

- ‌الشبهة الثالثة: أن طلب الشفاعة منهم ليس بشرك

- ‌الشبهة الرابعة: نفيهم عبادة الصالحين مع أنهم يدعونهم أو يذبحون لهم

- ‌الشبهة الخامسة: أن من أنكر الشرك فقد أنكر شفاعة الرسول

- ‌الشبهة السادسة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة وأنها تطلب منه

- ‌الشبهة السابعة: أن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك فليس مشركا بذلك

- ‌الشبهة الثامنة: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام

- ‌الشبهة التاسعة: قولهم: إنكم تكفِّرون المسلمين

- ‌الشبهة العاشرة: من قال لاإله إلا الله يكفر ولايقتل ولو فعل ما فعل واستدلوا بأحاديث

- ‌الشبهة الحادية عشرة: قولهم إن الاستغاثة بالأنبياء ليست شركا لجواز الاستغاثة بالأنبياء في الآخرة

- ‌الشبهة الثانية عشرة: استدلالهم على أن الاستغاثة بالأموات والغائبين ليست شركا بعرضها على إبراهيم من جبريل

- ‌خاتمة: التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فإن اختل واحد منها انتفى الإسلام

الفصل: ‌الشبهة التاسعة: قولهم: إنكم تكفرون المسلمين

‌الشبهة التاسعة: قولهم: إنكم تكفِّرون المسلمين

إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً وأخف شركا من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهةً يُورِدونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم، فأصغ سمعك لجوابها، وهي أنهم يقولون إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً. ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟.

ــ

(إذا تحققت) مما تقدم (أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء) يعني من شرك مشركي زماننا (فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا) يدلي بها بعض مَن في زمن المؤلف مِن كون ما عليه مشركو زماننا من الشرك كشرك الأولين؛ بل يقولون إنكم ما اقتصرتم على أن جعلتمونا مثلهم بل زدتم –يريد صاحب هذه الشبهة مما اعترض به من الفروق نفي ما قرره المصنف في هذه الترجمة (وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها) وقد أجاب عنها المصنف رحمه الله بتسعة أجوبة، كل واحد منها كافٍ شافٍ في ردها لكن كثّ رها لمزيد كشف وإيضاح (وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله) يعني لا ينطقون بالشهادتين (ويكذبون الرسول) ويمتنعون عن طاعته (وينكرون البعث) ولا يصدقون به (ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً) ولا يصلون ولا يصومون (ونحن نشهد أن لا إله

ص: 88

فالجواب أن لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذَّبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة أو أقر بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بهذا كله وجحد الحج.

ــ

إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟) فكيف تسوُّون مَن يقر بهذه الأمور العظيمة وبين من يجهلها؛ يعني وأنكم سويتم بين المتفارقين وجمعتم بين المختلفين؛ بل ما اقتصرتم، بل جعلتمونا أعظم جهلاً وضلالاً منهم.

فعرفت أنهم يعارضون ما قرره المصنف ويقولن لسنا منهم، وأنتم جعلتمونا أعظم منهم، كيف تجعلون من كانت فيه هذه الخصال والفروق كمن ليس فيه منها شيء؟

ويأتيك جواب المؤلف لهم وأن هذه الفروق غير مؤثرة بالكتاب والسنة والإجماع؛ بل هذه الفروق مما يتغلظ كفرُهم بها؛ فإن الكافر الأصلي الذي ما أقر بشيء من ذلك أهون كفراً ممن أقر بالحق وجحده، ولذلك المرتد أعظم كفراً ن الكافر الأصلي في أحكامه.

(فالجواب) عما اعترضوا به من هذه الفروق التي زعموا أنها تؤثر؛ أن الفروق منقسمة إلى قسمين: فرق يؤثر، وفرق لا يؤثر. فإنه إجماع أن هذه الفروق لا تؤثر (أن) مخففة (لا خلاف بين العلماء

ص: 89

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام) بالإجماع، يعني أنه ليس بمسلم ولا عنده من الإسلام شعرة؛ فإذا كذبه في واحد وصدقه في الألوف من الصلاة والصدقة ونحو ذلك فهو قاضٍ على تلك الألوف، فإذا كان مَن صدقه في شيء وكذبه في شيء فهو كافر فكيف بالتوحيد الذي هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، عمد إلى زبدة الرسالة، وجعل لفاطر الأرض والسماوات شريكاً في العبادة فصرفه له الدعاء الذي هو مخ العبادة وخالصها، إما أن يدعو غيره وحده أو يجعله شريكاً له.

فإذا كانت تلك الفروق لا تؤثر فكيف بالتوحيد؟ لكن والعياذ بالله طمس على قلوبهم الشركُ، وامتزجت به؛ فإن أهل هذه الشبهة من أهل الجهالات والضلالات؛ فإن صاحب النظر المنصف إذا نظر في أهل هذه الشبه لقِيَهم مفاليس من العلم بالمرة (وكذلك إذا آمن بالقرآن وجحد بعضه) ولو حرف حرف واحد، أنكره وجحده، أو جحد شيئاً مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كفر ظاهر؛ أي كفرٌ فوق كفرِ تكذيبِ الله ورسوله (كمن أقر بالتوحيد) لفظاً ومعنى (وجحد) فرعاً من فروع الشريعة معلوم أن الرسول جاء به (وجوب الصلاة) الذي يجحد الصلوات الخمس كافر بالإجماع، ولو أنه يفعلها، وجاء بالتوحيد (أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة) ولو كان يؤديها، فهو كافر بإجماع الأمة (أو أقر بهذا كله وجحد الصوم) ولو أنه يفعله، فإنه كافر بإجماع الأمة لتكذيبه الله ورسوله (أو أقر

ص: 90

ولما لم يَنْقَد أناسٌ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج أنزل الله في حقهم {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع وحل دمُه ومالُه كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} الآية.

ــ

بهذا كله وجحد الحج) إلى البيت، وإن كان يحج، فهو كافر بالإجماع لتكذيبه الله ورسوله وردِّه إجماع الأمة.

(ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج) إلى البيت (أنزل الله في حقهم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ) يعني واجبٌ لله على المستطيع من الناس أن يحج {وَمَنْ كَفَرَ} يعني ترك ذلك {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 1 فدل على أن ترك ذلك كفر؛ فمن جحد ذلك فقد كفر؛ فدلَّ على فريضة حج البيت؛ فدل على أن الذي لا يعتقد ذلك كافر وهذا بخلاف العاجز.

وكذلك منع الزكاة بخلاً بخلاف الجاحد. فأما ترك الصلاة تهاونا فاختيار أحمد وحكى إسحاق بن راهويه كفرَه بالإجماع.

(ومن أقر بهذا كله وجحد البعث) أي جحد بعث هذه الأجسام بعد بلائها وإعادة أرواحها إليها يوم القيامة (كفر بالإجماع) بإجماع

1 سورة آل عمران، الآية:97.

ص: 91

فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن مَن آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً زالت هذه الشبهة، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا.

ــ

أهل العلم (وحل دمه وماله) ولم ينفعه الإقرار بما أقر به كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} الآية1 فصرح الله تعالى في هذه الآية أنه الكافر حقاً؛ فدل على أنه لا يشترط أن لا يكون كفراً إلا إذا كفر بجميع ذلك كله؛ بل هذا كفر نوعي؛ فإن الكفر كفران: كفر كلي، وكفر نوعي. ولا فرق بينهما؛ من كفر ببعض فكمن كفر بالكل لا فرق.

(فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً زالت هذه الشبهة، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا) وبهذا ظهر واتضح أنه يوجد فروق ولكن لا تؤثر؛ فإن الردة ردتان: ردة مطلقة وهي الرجوع كما جاء به الرسول جملة، والثاني أن يكفر ببعض ما جاء به؛ فإنه إجماعٌ بين أهل العلم أن الذي يرتد عن بعض الدين كافر؛ بل يرون أن الاعتقاد الواحد والكلمة الواحدة قد تُخرِج صاحبها عن جملة الدين.

وبهاذ انكشفت الشبهة وعرف أن التفريق بالفروق التي ذكرت من الفروق التي هي غير مؤثرة.

1 سورة النساء، الآيتان: 150، 151.

ص: 92

ويقال أيضاً: إن كنت تُقّرّ أن من صدق الرسول في كل شيء وجحد وجوب الصلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله لا يجحد هذا ولا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا.

فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج.

ــ

(ويقال أيضاً) هذا جواب ثانٍ للشبهة السابقة (إن كنت تقر أن من صدق الرسول في كل شيء وجحد وجوب الصلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله لا يجحد) الخصم (هذا) لا ينكر ما قرر من وجوب هذه المذكورات ولا يستقيم الإسلام، بل ينتقل الإسلام كله ويزول من أساسه1 (ولا تختلف المذاهب فيه) لا تختلف المذاهب في أن جَحْدَ وجوبِ واحدٍ منها كافٍ في انتكاس العبد وأنه كافر بالإجماع (وقد نطق به القرآن كما قدمنا) أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً (فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم) من فريضة (من الصلاة والزكاة والصوم والحج) وتصديقه بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفعه ولا يجدي عليه.

1 إذا جحد واحداً منها.

ص: 93

فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كَفَر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله، ما أعجب هذا الجهل!

ــ

(فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر) ؟! فإذا كان هذا فيمن جحد واحداً من أركان الإسلام فكيف بمن جحد التوحيد الذي هو أساس الملة والدين؟ فإنه أعظم، فلا ينفعه تصديقه بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جحد الأصل، إذا صار حَجْدُ فرعٍ من فروع الدين كفراً فكيف بجحد الأصل وهو التوحيد؟ فلو قدر –وهو لا يكون- أن هذه الفروع كلها من الصلاة وما بعدها مهوب معصية ولا عظيمة لكان جحد التوحيد كفراً برأسه. فكيف وهو الأصل؟ فإن هذا الجهل بمكان1 لا يجحد هذا الخصم أنه يُخرج من الإسلام بمفرده؛ يجعلون من يهدم أساسَ الدين صباحاً ومساءً أنه مسلم لكونه يدعي الإسلام؛ والذي يجحد وجوب الزكاة ولو كان يؤديها كافر بالإجماع! (سبحان الله، ما أعجب هذا الجهل!) فإن جهل هؤلاء من أعجب الجهل، كونُ الواحدِ منهم يقر أن جحد الصلاة كفر بالإجماع أو جحد غيرها من أركان الإسلام كفر وجحد التوحيد ليس بكفر؟! فلو قدِّر أنها لا تكفِّر –وهو لا يقدر- فالتوحيد وحده يكفر؛ والدليل أن الأصل لا يزول بزوال الفرع بخلاف الفرع فإنه يزول بزوال أصله؛ كالحائط والشجرة إذا زال أصله زال فرعه.

1 والكفر بالله لا يتبعض فمن كفر بالألوهيته فقد كفر به (تقرير أيضاً) .

ص: 94

ويقال أيضاً: هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤذِّنون ويصلون. فإن قال إنهم يقولون إن مسيلمة نبي، قلنا: هذا هو المطلوب؛ إذا كان مَن رفعَ رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السماوات والأرض، سبحان الله، ما أعظم شأنه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .

ــ

فالحاصل أنه لو قدر أن التوحيد بعض المذكورات لكان جحده كفراً، فكيف وهو أساس ذلك كله؟! بل التوحيد قد يكفي وحده في إسلام العبد ودخوله الجنة؛ فإنه إذا تكلم بكلمة التوحيد ثم توفى قبل وجوب شيء من الفروع عليه كفى التوحيد وحده؛ فالتوحيد ليس فقيراً إليها بل هي الفقيرة إليه في صحتها.

فلا أعجب ولا أقبح ولا أعظم ممن جهل هذا، فإذا كان مقراً أن من جحد شيئاً من هذه الفروع فهو كافر، وهو لا يجحد هذا، وإذا جحد التوحيد الذي هو الأصل وما بعده فرع عنه لا يكفر، فلا أعجب مِن جَهْلِ مَن جَهلَ هذا.

(ويقال أيضاً) هذا جوابٌ ثالث (هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً

ص: 95

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

رسول الله ويؤذنون ويصلون1 فإن قال) المشبه (إنهم يقولون إن مسيلمة نبي) يعني كفَّرهم لقولهم مسيلمة نبي (قلنا) نعم (هذا هو المطلوب) هذا هو مطلوبنا، فهؤلاء ما صدر منهم إلا أنهم قالوا إنه نبي، فجنوا على الرسالة وصار مبطلاً توحيدهم ودينهم (إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة) ولا الصيام ولا الأذان؛ وأنت تقر بهذا، وهذه جريمةٌ: رفعُ مخلوقٍ إلى رتبة مخلوق (فكيف بمن) جنى على الرسالة فكيف بمن جنى على الألوهية؟ فالذي يعبد مع الله غيره قد جنى، بل لا أعظم من جنايته (رفع شمسان2 أو يوسف

1 ولم يرتدوا بجحد الشهادتين وترك قولهما ولا الصلاة ولا غير ذلك، بل دانوا بما دان به غيرهم من جزيرة العرب (عبارة أخرى تكميل وتوضيح) .

2 شمسان وتاج وناس معرفون وأبو حديدة في نجد وغير نجد وغيرهم من مسميات عديدة تعبد من دون الله.

سئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن يوسف وشمسان وتاج فأجاب: يوسف وشمسان وتاج أسماء الناس كفرة طواغيت؛ فأما تاج فهو من أهل الخرج، تُصَرف إليه النذور، ويُدعى ويُعتقَد فيه النفع والضر، وكان يأتي إلى أهل الدرعية من بلده الخرج لتحصيل ما له من النذور، وقد كان يخافه كثير من الناس الذين يعتقدون فيه، وله أعوان وحاشية لا يُتعَرَّض لهم بمكروه، بل يُدَّعى فيهم الدعاوى الكاذبة وتنسب إليهم الحكايات القبيحة؛ ومما ينسب إلى تاج أنه أعمى ويأتي من بلده الخرج من غير قائد يقوده.

وأما شمسان فالذي يظهر من رسائل إمام الدعوة رحمه الله أنه لا يعبد عن العارض، وله أولاد يعُتقَد فيهم.

وأما يوسف فقد كان على قبره وثن يُعتَقد فيه، ويظهر أن قبره في الكويت أو =

ص: 96

ويقال أيضاً: الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار كلُّهم يدّعون الإسلام، وهم من أصحاب علي رضي الله عنه، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما. فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟! أتظنون أن الصحابة يكفِّرون المسلمين؟ أتظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يُكَفِّر؟

ــ

أو صحابياً أو نبياً في رتبة جبار السماوات والأرض) يعني هذا أولى بالكفر والضلال لأنه صرف للمخلوق من أنواع العبادة ما لا يستحقه إلا الخالق. وهذا من قياس الأولى يعني إذا كان جنس ما احتجوا به كفر فبطريق الأولى هذا. فهذا رد عليهم من نفس ما احتجوا به، وإلا فالأدلة في ذلك معلومة (سبحان الله ما أعظم شأنه كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) كهذا الطبع على قلب هذا الجاهل كيف يتصور أن من رفع رجلاً إلى رتبة رجل فهو كافر وإذا رفع رجلاً في رتبة جبار السماوات والأرض لا يكفر؟!

(ويقال أيضاً) هذا جوابٌ رابع للشبهة السابقة في قوله: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله

إلخ. (الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار) وهم من الشيعة

ص: 97

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الغالية من أصحاب علي، زادوا في محبته وتعدَّو الحد، وذلك بدسيسة ناس من أصحابه منافقين دسُّوها ليفسدوا على الناس دينهم أتباع عبد الله بن سبأ؛ ادعى الإسلام وأراد أن يفتكِ بأهل الإسلام ويُدخلهم في الشرك –تعدَّوا الحد في محبة علي وتعظيمه حتى ادعوا فيه الإلهية (كلهم يدعون الإسلام) ويعلمون أعمال الإسلام (وهم من أصحاب علي رضي الله عنه، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن) ظهرت منهم المقالة الردية (اعتقدوا في علي) الإِعتقاد الباطل؛ اعتقدوا فيه السرِّ- يعني الألوهية (مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما) كعبد القادر والعيدروس؛ كاعتقاد أهل زماننا في غيرهم. فلما رأى ذلك منهم عليٌ رضي الله عنه خَدَّ لهم أخاديد عند باب كِندة، واضرم فيها النيران وقذفهم فيها من أجل مقالتهم فيه، وقال:

لما رأيتُ الأمرَ أمراً منكراً

أجَّجت ناري ودعوتُ قنبراً

فهذا الأمر من علي رضي الله عنه وافقه عليه جميع الصحابة، ورأوا أنهم مرتدون وأن قتلهم حق، وابن عباس كغيره في ذلك إلا أنه قال: لو قتلتم بالسيف. وقال: يعذَّب بالنار إلا ربُّ النار. وعلي رضي الله عنه فعلُه مزيدُ اجتهادٍ منه؛ رأى تحريقَهم لغلظ كفرهم كما حرَّق أبو بكر بعض المرتدين.

(فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أتظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر؟) فحينئذٍ إذا تحققت وعلمت أن هذا صدر

ص: 98

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

من علي على وقت الصحابة فيلزم أهل هذه الشبهة أحد ثلاثة أمور:

إما أن يقولوا إن الصحابة غلطوا وأخطؤوا وكفَّروا المسلمين، وقتلوا من لا يستحق الكفر والقتل وهم على ضلالة. وهم لا يقولون ذلك لوضوحه في السير والتأريخ. وإن قالوه في الصحابة فهو كافٍ في الرد عليهم؛ لأنهم صاروا من الخوارج الذين يكفِّرون الصحابة ويسبوهم، أو يقولن حاشاهم من تكفير المسلمين ومن قصد ظلمهم أو الاجتماع على غلط.

وإما أن يقولوا إن الاعتقاد في تاج وأمثاله والتوسُّل بالصالحين وسؤالهم قضاءَ الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفَّر، وهم لا يقولون ذلك، فإن قالوا إنه لا يكفر كفى أنه كفر وشرك، وظهر عظيم جهلهم لفضل علي على هؤلاء بما لا نسبة فيه. فلو كان مسامحة في دعوة غير الله أو يكون أسهل لكانت دعوة علي.

فحينئذٍ يلزم الأمر الثالث، وهو أن يذعنوا ويسلمون أن مَن تعلَّق على غير الله بأي نوع من أنواع العبادة فهو كافر خارج من الملة مرتد، أغلظُ كفراً ممن ليس معه هذه الأعمال، وأن إقراره بالشهادتين والصلاة والزكاة ونحو ذلك فرق غير مؤثر وغير نافع، فظهر بذلك أنهم ضُلَاّل في تشبيههم وترويجهم؛ فإن الغالية في علي ما اعتقدوا فيه إلا مثل الاعتقاد في تاج وأمثاله من هذه الأصنام. وإن قالوا: ليس من الغلو ففي باب أول الكتاب ما يبين أنه

ص: 99

ويقال أيضاً: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.

ــ

من الغلو بعبادة المخلوق مع الله.

(ويقال أيضاً) هذا جواب خامس للشبهة السابقة (بنو عبيد القداح) الذين ادَّعَوا أنهم فاطميون وساعدهم على ذلك من ساعدهم وهم أدعياء ليسوا بفاطميين –أبوهم وقصة تزوّجه المرأة وتأريخهم معروف1 (الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس) وطالت لهم يَدٌ أيضاً على الحرمين؛ ملوكهم يُسمًّون الحاكميين؛ الحاكم فلان والحاكم فلان (كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويدعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة) وينصبون القضاة والمفتين (فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه) كاستحلال بعض المحرمات مثل تجويزهم الجمع بين الأختين (أجمع العلماء) في وقتهم (على كفرهم وقتالهم) ولا جعلوا الشهادتين والصلاة والزكاة والجمعة والجماعة فرقاً مؤثراً، بل رأوه لاغي

1 وهؤلاء بنو عبيد القداح ما زالت علماء الأمة المأمونون علماً وديناً يقدحون في نسبهم ودينهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود (مجموع الفتاوى ج35 ص 131، 128- 135) .

ص: 100

ويقال أيضاً: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (باب حكم المرتد) وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه؟ ثم ذكروا أنواعاً كثيرة، كلُّ نوع منها يكفِّر ويُحِلّ دم الرجل وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند مَن فعلها مثل كلمة يقولها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.

ــ

وذلك أنه وُجِدُ مُكفِّر فلم ينفعهم ما هم فيه (و) أجمعوا في وقتهم على (أن بلادهم بلاد حرب) وأن جهادهم أفضل جهاد.

(وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين) وصنف ابن الجوزي كتاباً سمَّاه: النصر على مصر. فكيف بما نحن فيه من التظاهر بدين الإسلام مع نقض أساس الملة بعبادة غير الله؟

ولا فرق بين من يكون كفره عناداً أو جهلاً؛ الكفر منه عناد ومنه جهل. وليس من شرط قيام الحجة على الكافر أن يفهمها، بل من أقيمت عليه الحجة مثل ما يفهمها مثله فهو كافر سواء فهمها أو لم يفهمها، ولو كان فهمُها شرطاً لما كان الكفر إلا قسماً واحداً وهو كفر الجحود؛ بل الكفر أنواع، منها الجهل وغيره، المقصود أن العلماء أجمعوا على قتالهم وكفرهم والأمة لا تجتمع على ضلالة.

وبذلك عرفت انكشاف هذه الشبهة؛ وهو أن النطق بالشهادتين لا يكفي مع ما انظمَّ إليه من فعل الطاعات إذا وُجِد أحد المكفِّرات.

(ويقال أيضاً) هذا جواب سادس على الشبهة السابقة (إذا كان

ص: 101

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن) يعني وتكذيبه (وإنكار البعث وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب) المذاهب الأربعة وغيرها (باب حكم المرتد) وعرَّفوه بتعاريف (وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه) فهذا المذكور في هذا الباب إجماعٌ منهم أنه يخرج من الملة، ولو معه الشهادتان، لأجل اعتقادٍ واحد أو عمل واحد أو قول واحد يكفي بإجماع أهل العلم لا يختلفون فيه، وأنه ليس المرتد الذي يخرج عن الإسلام بالمرة، بل هو قسم والقسم الآخر هو ما تقدم (ثم ذكروا أنواعاً كثيرة) ومثَّلوا له أمثلة (كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله) وقالوا: من قال كذا أو اعتقد كذا فهو كافر، وأنه لا ينفعه جميع ما عمل به (حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يقولها بلسانه دون قلبه أو كلمة يقولها على وجه المزح واللعب) حتى إن بعض أهل المذاهب يكفرون من صغَّر اسم المسجد أو المصحف.

وما ذكروه وعرفوه هو في الجملة: يُوجد أشياء يكون بها الإنسان مرتداً ولو نطق بالشهادتين وصلى، بل ولو أضاف إلى ذلك ترك المحرمات وأتى بمكفِّرٍ هدم جميع ما معه الإسلام؛ فإن وجود المكفرات التي يصير بها الرجل مرتداً كثيرة لا تحصر.

والواحد من أسباب الردة كونه يجعل له واحداً من حق رب

ص: 102

ويقال أيضاً: الذين قال الله فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون؟

وكذلك الذين قال الله فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .

ــ

العالمين كافٍ في كفره، وكونه اتخذ إلهاً ولو ليس من كل وجه، بل يكفي كونه جعله يصلح لحق رب العالمين؛ فلهوب من شرط المرتد أن يجمع بين أطراف الردة، أو يجمع الشركيات، أو أن رب العالمين ومعبوده واحد في جميع ما يستحق.

وبهذا تنكشف شبهته؛ وهو أنه ولو نطق بالشهادتين وصلى وصام فإنه يصير به مرتداً ويصير أسوأ حالاً ممن لم يكن معه أصل الإسلام عند جميع العلماء.

والصحيح من قولي العلماء أن كفار هذه الأزمان مرتدون؛ فكونهم ينطقون بلا إله إلا الله صباحاً ومساءً وينقضونها صباحاً ومساءً، فلا إله إلا الله يدخل بها في الإسلام في الجملة. والقول الثاني أنهم كفار أصليون؛ فإنهم لم يوحِّدوا في يوم من الأيام حتى يُحكَم بإسلامهم.

(ويقال أيضاً) هذا جواب سابع عن شبهتهم السابقة. والأجوبة السابقة ظاهرة لك في كشف تلك الشبهة (الذين قال الله فيهم:

ص: 103

فهؤلاء الذين صرَّح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح.

فتأمَّل هذه الشبهة، وهي قولهم: تكفِّرون من المسلمين أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون؛ ويصومون ثم تأمل جوابها؛ فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.

ــ

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} 1 أما سمعت الله كفَّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون) وينطقون بالشهادتين، ويدينون دين المسلمين في الظاهر، فكيف بمن جعل الأنداد مُعاذَه وملاذه وملجأه في الرغبات، كما هو الوقع من القبوريين والعياذ بالله، فلسانه يقول لا إله إلا الله وعمله يقول لا إله إلا فلان (وكذلك الذين قال الله فيهم:{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2 فهؤلاء الذين صرح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح) كفروا بسبب كلمة واحدة، وهم يعملون الأعمال الشرعية ويعملون أعمال المسلمين، فصاروا بها كفاراً بعد إيمانهم؛ لمَّا صدر منهم شيء واحد صاروا كفار مرتدين. فبهذا تنكشف شبهة

1سورة التوبة، الآية:74.

2 سورة التوبة، الآيتان: 65، 66.

ص: 104

ومن الدليل على ذلك أيضاً ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وقول أناس من الصحابة: "اجعل لنا ذات أنواط" فحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا مثل قول بني إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} .

ــ

المشبِّه بهذه الشبهة.

(فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم: تكفِّرون من المسلمين أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون، ثم تأمل جوابها) يعني ما ذكره المصنف عليها من الأجوبة (فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق) فإنه من أنفع ما ذكره المصنف في هذا المؤلف؛ وذلك لأنها شبهة قد تروج على مَن لا يعرف ولا يفهم فيظن أن ما ذكره المشبه فروقاً مؤثرة؛ وبما ذكره المؤلف رحمه الله يتبين لك أنها فروق غير مؤثرة فإن أهل العلم مجمعون على أن هذه فروق لا تؤثر.

(ومن الدليل على ذلك أيضاً) هذا زيادة على الأجوبة السبعة السابقة في كشف شبهته وهي قوله: (تكفرون من المسلمين أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله

إلخ) (ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم) والمراد بعلمهم بالنسبة إلى غيرهم في زمنهم؛ يعني أتباع موسى ويقتبسون من علمه ومما جاء به، ولا ينافي ذلك قوله:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فإنه دالٌ على أن صدورَ ذلك منهم عن جهل أنهم قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} كأنه أعجب مَن أعجبه منهم واستحسنوه فقال

ص: 105

ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا.

فالجواب أن نقول إن بني إسرائيل لم يفعلوا وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا، ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا. وهذا هو المطلوب.

ــ

موسى مُنكِراً عليهم {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1.

(وقول أناس من الصحابة) لما مروا بقوم يعلِّقون أسلحتهم على شجرة ويسمونها بهذا الاسم (اجعل لنا ذات أنواط) 2فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وغلظ هذا الإنكار بأنواع التغليظ (فحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا مثل قول بني إسرائيل {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} ) الآيات.

(ولكن للمشركين) عند كشف شبهتهم السابقة (شبهة يدلون بها عند هذه القصة) يشبِّهون ويمانعون في كون ذلك دليلاً، قالوا:

(وهي أنهم يقولون إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا.

1 سورة الأعراف، الآية:138.

2 ولفظه: عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حُدثاءُ عهدٍ بكفر، وللمشركين سِدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فقال: إنكم قوم تجهلون. لتركَبُنَّ سنن من كان قبلكم" رواه الترمذي وصححه. =

ص: 106

ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها؛ فتفيد التعلُّم والتحرُّز، ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيد فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان.

وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فَنُبِّه على ذلك وتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم.

وتفيد أيضاً أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاًَ شديداً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ــ

فلا يصلح احتجاجكم بالقصتين علينا فإنكم احتججتم بقصتين على تكفيرنا وهم لم يكفروا بذلك.

(فالجواب أن نقول إن بني إسرائيل لم يفعلوا) فعدمُ كفرهم لا من قصور أن يكون كفراً (وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا) بل استحسنوا شيئاً وطلبوه؛ لو عكفوا على القبور وكذلك لو اتخذوا إلهاً لكفوا؛ هذا لا ينازع فيه أحد ولا ينفع اتباع الرسول والأعمال الأُخَر. فعدم كفرهم ليس من قصور العمل عن أن يصل إلى التكفير. يعني أن وجه أحتجاجنا هو بتقدير الفعل؛ لو صدر لكان كفراً، فكان احتجاجاً في محله ولكنهم لم يفعلوا وإلا لو فعلوه لكان كفراً. فسلم لنا الاحتجاج بالقصتين عليكم.

(ولكن هذه القصة) قصة بني إسرائيل وقصة الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم (تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري

ص: 107

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عنها) إذا كان السائل في القصة مع نبي وهو موسى وهم أوسع علماً منه، والسائل في القصة الثانية مع نبي وهم أعلم وأقدم فضيلة، استحسنوا ذلك ظناً منهم أن الله يحبه وأنه من العبادات التي يُتقرَّب بها إلى الله، فكيف بمن دونهم؟ (فتفيد التعلم) تعلم أسباب النجاة فإنه لا نجاة إلا بالعلم ومعرفة الضد والشر لغيره؛ يعرف الشرك وأقسامه ووسائله وذرائعه ليسلم من الوقوع فيه كما قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال حذيفة رضي الله عنه: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني".

تعلمنا الشرَّ لا للشرِّ لكن لتوقِّيه

من لا يعرف الشر يقع فيه

(والتحرز) يعني اتهام العمل أن يكون داخله شيء من الشرك؛ بل يجعل على باله هل أخلص قبل دخوله فيه، وتفقد النفس ولحظاتك فيمن هي (ومعرفة أن قول الجاهل التوحيد فهمناه أن هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان) وهذه الكلمة قد صدرت من بعض الطلبة لما كثر التدريس في التوحيد متنه أو كتب نحوه سئموا وأرادوا القراءة في كتب أخرى. وقيل إنه من المرسلين؛ فنقم عليه المصنف في هذا القول؛ يعني أنك ما فهمته حتى الآن؛ فقال الشيخ رحمه الله ذلك لينبههم. ففي هذه القصة الرد عليهم فإن هؤلاء أهل علم وصدر منهم ما صدر. فلا يزهد في التوحيد فإن بالزهد فيه يقع في ضده، وما هلك من هلك ممن يدعي الإسلام إلا بعدم إعطائه

ص: 108

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

حقه ومعرفته حق المعرفة وظنوا أنه يكفي الاسم والشهادتان ولم ينظروا ما ينافيه وما ينافي كماله هل هو موجود أو مفقود؟ وهذا كله من عدم التحرز والمعرفة ألفاظ التوحيد لفظة لفظة. من الذي عرف التوحيد كل المعرفة؟ أصله ولله الحمد معروف لكنْ له أقسامٌ وفروع وشعب، وضده الشرك له فروع.

ومما يذكر عن المؤلف أنه يوماً قال: يذكر البارحة أنه وُجِد رجل على أمه يجامعها، فاستعظم المحضر ذلك وضجوا منه، رأوا أنه منكر كبير، وهو كبير. ثم قال مرة أخرى إن واحداً أصيب بمرض شديد فقيل له: اذبح "دييك" لفلان –وليّ- فلم يستعظموه. ثم بين لهم أن الأول فاحشة يبقى معها التوحيد والآخر ينافي التوحيد كله، وهذا لم يستعظموه مثل هذا! وهذا هو الواقع من أكثر الناس فإن النفوس تستبشع أشياء أعظم من استبشاعها ما هو أمر التوحيد.

(وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبه على ذلك وتاب من ساعته أنه لا يكفر) فإن من الأشياء ما قد يخفى ويكون مجتهداً وبعد ما يُبيَّن له يرجع كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم.

(وتفيد أيضاً أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاًَ شديداً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنكاره على أولئك في قولهم اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط كما تقدم.

ص: 109