الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللقاء الأول
في هذا الفصل
* طوبى للغرباء.
* لماذا الإسلام وحده؟
* لماذا غشاء البكارة؟
* الجانب الإلهي والجانب الاجتهادي.
* المساواة أهم منه.
* خيال المآتة.
في غرفة المدرسين جلس الشيخ (عارف) مع زملائه يهنّئهم بالقرن الخامس عشر الهجري، ويشيد بالدور العظم الذي قدّمته الشريعة الإسلامية للعالم طوال هذه المدة.
فقد حافظت الشريعة على دولة الإسلام أكثر من ألف عام.
واعتنقتها شعوب ذات حضارات واسعة، وفلسفات متعددة، فوسعتهم، وحدّت مشاكلهم، فلم يشعروا في ظلَّها بغُربة.
وسبقت الغرب والشرق، في تأسيس قواعد دستوريّة وقضائية، لم يهتد العالم إليها إلا بعد ألف عام من الشريعة الإسلامية.
وحسب الشريعة فخراً أنها أقامت أول نظام قضائي - العالم حَاكَمَ رئيس الدولة الأعلى، أمام المحاكم
العادية، وجعل سلطة القضاء فوق الجميع.
هذا في الوقت الذي كان العالم يؤمن بأنّ المَلكَ هو ظلّ الله في الأرض، فلا يسأل عمّا يفعل.
والناس أمامه يسألون.
لقد استطاعت الشريعة الإسلامية أَن تربي النفوس وأَن تُحكم السفينة، وأن تمنع المسلم من الجريمة، حتى مع أمنه من العقاب.
حوار بين منصف وعارف عن شريعة الإسلام
منصف: حديثك عن الشريعة الإسلامية، حديث المحامي المؤمن عن القضية العادلة.
عارف: الإسلام أعمق مما نعلم.
يا أُستاذ منصف.
منصف: لكنك تحدّثت عن الشريعة وهي شباب وسُنّة الحياة
…
كل قوي يضعف، وكل حي يموت، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأَ.
فطوبى للغرباء".
"رواه مسلم وأحمد"
عارف: هذا الحديث صحيح السند.
ولكنه لا يؤخذ على ظاهره (يا منصف) .
فهناك حديث آخر
صحيح أيضاً لابد أن يُدرس هنا ليتم المعنى.
قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا".
(رواه أبو داوود.
3740)
فالإسلام بدأ غريباً.
نم قوي فحكم العالم.
ثم عاد غريباً.
ثم بعث الله بعد مائة عام من يُجدّد شبابه فأصبح قوياً.
ثم عاد غريباً ثم بعث الله له من يُجدّد شبابه، وهكذا.
فالحديثان يرسمان خطاً بيانياً لنبضات قلب الإسلام، قوة وغربة، ولكن الإسلام لن يموت.
كرم: أربعة عشر قرناً ليس بالعمر القصير.
ولا بالأمر السهل.
والزمن يُغير كل شيء.
عارف: لماذا يُوجّه هذا الكلام للإسلام وحده؟ لماذا لا يوجه للنصرانية - التي بلغت حوالي عشرين قرناً؟
واليهودية التي بلغت أكثر من ذلك بكثير لماذا
…
الإسلام وحده؟!
كرم: قانون التطور كحجر الرحى
…
يطحن كل شيء.
عارف: هل يمكن لمرور الزمن أن يجعل العلم رذيلة؟ أو العدل ظلماً؟ أو الفضيلة عاراً؟ يا أستاذ كرم.
الوسائل هي التي تخضع لقانون التطور.
فالقاضي يذهب اليوم إلى دار القضاء بالسيارة المريحة ويحافظ على الحقوق بأساليب علمية متطورة.
ويستفيد من الطب الشرعي "العدلي" في معرفة ظروف الجريمة وسلاحها.
ولكنّ التطور لا يجعل الظلم عدلاً.
ولا سلب حقوق الناس فضلية.
يا أُستاذ كرم.
إنّ الشريعة الإسلامية ثابتة ثبوت القوانين الكونية.
فقانون الجاذبية.
وقانون المدّ والجزر.
وقانون تمدّد المعادن بالحرارة.
كلها قوانين ثابتة
والشريعة كذلك.
لأن الذي قنَّن الشريعة، هو الذي قنّن القوانين الكونية.
والقرآن يُؤكد هذا المعنى فيقول.
{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم 30] فقوانين الكون ثابتة.
ويقول أيضاً: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس 64] .
فقوانين الشريعة ثابتة أيضاً.
منصف: ثبوت القوانين الكونية لا نناقش فيه.
لأنّه أمر مشاهد.
ولكننا نناقش ثبوت القوانين الشرعية فقط.
عارف: من الصعب أن نُفرق بين قوانين الخَلْق، وقوانين الأًَخْلَاق.
لأنّ الله سبحانه - راعي الجانب الأخلاقي في تكوين الإنسان.
فالمهندس المدني عندما يضع رسماً لإنشاء مصنع، فإنه يضع في اعتباره نوع الأغراض التي سينتجها هذا المصنع.
وضمانات السلامة له.
والله سبحانه وتعالى وله المثل
الأعلى لما خلق الإنسان جعله مخلوقاً أخلاقياً، ووضع فيه ما يؤهله لمهمته.
كرم: طبعاً هذا الكلام من الناحية النفسية فقط.
عارف: ومن الناحية العضوية كذلك.!! وقد قمت بدراسة لهذا الموضوع، عندما كنت شاباً، وخرجت بنتيجة إيجابية.
منصف: أنت لم تزل في شبابك يا شيخ عارف.
ولكن ما الدراسة التي قمت بها؟.
عارف: عملية الحمل والوضع والإرضاع - عند المرأة - عملية صعبة.
قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف 15] وهذه المتاعب كفيلة أن تمنع المرأة من تكرار الحمل.
من أجل لك جعل الله سبحانه - الغريزة الجنسية عند المرأة أضعاف مثلها عند الرجل.
كما جعل عاطفة الأُمومة (عند المرأة) ، أقوى بكثير من عاطفة الأُبوة
(عند الرجل) .
وذلك حتى تتهيّأ المرأة لحمل جديد.
كلما استعدّت لذلك.
متناسية آلام الحمل والوضع.
ولكن ثورة الجنس، ونداء العاطفة المُلح، قد يدفع المرأة للانحراف المبكر قبل الزواج.
لذلك نرى عظمة الله في خلق صمام الشرف (غشاءِ البكارة) حتى يمنع المرأة من تلبية كثير من الرغبات المنحرفة قبل الزواج.
فعملية التكوين العضوي للجسد، تؤكد مراعاة الجانب الأخلاقي في تكوين الإنسان فالإنسان كائن أخلاقي بتركيبه النفسي والعضوي كذلك {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} في تحريم الزنا مثلاً.
و {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} في جعل الإنسان كائناً أخلاقياً.
كرم: غشاء البكارة مسألة عضوية، تخضع لنظرية التطور - التي قال بها دارون.
عارف: لا يا أستاذ كرم.
لقد درست هذا الجانب.
وثبت لي غير هذا الرأي لو كانت المسألة كما تقول، لوجد غشاءُ البكارة في الحيوان أيضاً.
ولكنني اتصلت بكلية (الطب البيطري) وسألت أساتذتها في هذا الموضوع.
وقام صديقنا الدكتور عبد المنعم صالح - أستاذ التشريح بالكلية وأعد لي دراسة وافية، في هذا الموضوع، أكدت أن (غشاء البكارة) بصورته الكاملة الناضجة، من خصائص المرأة فقط، ولا يوجد بصفة كاملة في أنثى الحيوان.
وقد ترجم لي الدكتور عبد المنعم صالح - مشكوراً - ما كتبه الدكتور (هيكل) في كتابه "الأحشاء للحيوانات الألفية"(طبعة برلين 1973 فأكد ما قلته) .
أنّ غشاء البكارة - يا أستاذ كرم - شارة أخلاقية، انفردت بها المرأة تأكيداً للرباط النفسي والعضوي بين المرأة والأخلاق.
{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لأنَّ قوانين الكون ثابتة.
{لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} لأنَّ قوانين الشريعة، وما تهدي إليه من فضيلة، ثابتة أيضاً.
منصف: هذه دراسة جديدة.
أظنك لم تُسبق إليها يا شيخ عارف.
ويعجبني دائماً اهتمامك بالحقائق العلمية والبحث عنها.
عارف: الحقائق العلمية، والآيات القرآنية، كلاهما دليل على عظمة الله.
كرم: لكن عصرنا هذا جدت فيه أمور كثيرة.
ومشاكل متعددة، لم تكن في عهد التشريع.
فكيف نحتكم إلى الشريعة فيما جدّ من أُمور؟.
عارف: ربما يوجه هذا السؤال إلى التشريح الوضعي لأنَّ واضعي القانون يعرفون بعض الماضي والحاضر - الذي يحيط بهم - ولا يعرفون المستقبل.
ولكن الشريعة الإسلامية شرعها الله سبحانه وهو يعلم السر وأخفى.
يعلم الغيب، علمه للحاضر {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} .
لذلك جعل الله سبحانه نصوص الشريعة من المرونة بحيث تتسع لكل زمان ومكان.
وقد أثبتت التجربة التاريخية، أن التشريع الإسلامي - الذي نزل في مكة والمدينة قد وسع الأُمم ذات الحضارات القديمة، والفلسفات المختلفة، ولم يشعر أهالي هذه البلاد بغُربة في ظل الإسلام.
ولا بحيرة في حل مشاكلهم.
وأُلفت نظرك يا أستاذ كرم، إلى قضية خفي سرُّها على كثير من الناس، فأخطأُوا فهمها.
كرم: نعم يا شيخ عارف.
عارف: كثير من الناس خلط بين الجانب الإلهي، والجانب الاجتهادي، في الشريعة الإسلامية فضاق تصورهم للشريعة الإسلامية بسبب هذا الخطأ.
كرم: ماذا تعني؟
عارف: الشريعة الإسلامية فيها جانب إلهي ثابت، لا يقبل التطور ولا التبديل، وهو ما ثبت من الأحكام الشرعية بالنص القرآني.
أو الحديث النبوي الصحيح.
نصاً لا يحتمل التأويل.
وهذا الجانب يأخذ حكم العقدة.
ويكفر جاحدة (منكره) .
قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة 275]{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة 38]{لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء 33]
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور 2]{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء 23]{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء 11]{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة 178] وهذه الأحكام تمثل الجانب الإلهي في الشريعة الإسلامية.
وهي لا تحتمل التأويل، ولا يجوز فيها العدول ولا التعديل، وحكمها حكم العقيدة، لذلك يكفر جاحدها.
أما القسم الثاني من الشريعة فهو اجتهاد الأئمة في فهم النصوص الشرعية.
والأحكام التي تنشأ عن هذا الاجتهاد - وإن كان أصلها الكتاب والسنة - إلا أنها تتسع لعلاج - المشاكل المعاصرة.
لأن تجربة الماضي أثبتت أن سلف الأمة من العلماء المجتهدين قد استنبطوا أحكاماً للتجارة البحرية.
والمجتمعات الزراعية
والصناعية والمصارف الإسلامية - البنوك وغيرها مما استجدّ من النظم الحضارية.
استنبطوا هذه الأحكام من الأُصول العامة للشريعة.
كقوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [275 البقرة]{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر 7]{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة 179] وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار".
استبط العلماء أحكاماً سّدت حاجة الدولة الكبيرة، وعالجت مشاكل الدولتين الحضاريتين (الفرس والروم) عندما دخل في الإسلام.
والأحكام الاجتهادية، يؤخذ منها، ويرد عليها، بدليل شرعي، لأنَّ اجتهاد إمام ليس حجة على إمام آخر.
وباب الاجتهاد مفتوح لمن استكمل شروط الاجتهاد.
فالشريعة الإسلامية مرنة النصوص مما يؤهلها لإصلاح كل زمان ومكان، وذلك لأن
كلمات القرآن وإن كانت محدودة العدد.
إلا أنها لا نهائية العطاء.
وسوف أسوق لك يا أستاذ منصف، مثالاً واحداً، يغنينا عن كثير من الأمثلة لضيق الوقت.
في القانون الوضعي تختلف الدية والتعويضات، التي تُدفع لأُسرة الرجل الغني أو صاحب المنصب الكبير، عن الدية والتعويضات التي تُدفع لأُسرة الرجل الفقير.
فإذا أُصيب أو قتل في حادث واحد، عامل ومدير، فإن الدية أو التعويضات تختلف بحسب راتب كل منهما ومنصبه، مع أن أسرة الفقير غالباً ما تكون أحوج إلى الدية والتعويضات.
ولكن الشريعة الإسلامية سبقت العالم، وسبقت الثورة الفرنسية، عندما نظرت للإنسان من خلال بشريته المجردة.
فالغني والفقير والرجل والمرأة، والمسلم والكتابي، يستوون جميعاً في البشرية، وفي حرمة الدم، لذلك -
يستوون في الدية.
فالدية في حكم الإسلام مائة من الإبل، أو ألف دينار من الذهب، أو اثنا عشر ألف درهم من الفضة (المغني لابن قدامه جـ 7 - ص 758) .
فالناس سواءٌ في التعويضات والديات بمقدار استوائهم في البشرية.
(1)
كرم: مسألة الإبل مسألة بدوية.
تصلح لمجتمعات الصحراء.
عارف: لو أدركت يا كرم حكمة الشريعة الإسلامية، عندما جعلت الدية مائة من الإبل، أو ألف دينار
(1) الرأي الذي اخترناه في مساواة الرجل والمرأة هو الذي اختاره أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة.
أما مساواة المسلم والكتابي فهو رأي لأبي حنيفة.
وقال الشيخ محمد أبو زهرة في تعليله رأي أبي حنيفة: لأنَّ دم غير المسلم كدم المسلم.
لأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
فنحن ملزمون في التعويض بمثل ما نلزم به في قتلانا (راجع العقوبات ص 573 للشيخ محمد أبو زهرة) .
من الذهب.
لو أدركت حكمة الشريعة لعرفت أنها تصلح للمجتمع في أعظم بلاد العالم حضارة.
كرم: كيف ذلك يا شيخ عارف؟
عارف: نحن نلاحظ اختلاف العملات المحلية في البلاد ونلاحظ انخفاض (القوة الشرائية) للعملات.
ولكن ربط الدية - في الشريعة الإسلامية - بالإبل أو بالذهب أو بالفضة، يجعل دية الإنسان ترتفع، كلما انخفضت القوة الشرائية للعملات المحلية.
منصف: ماذا تعني يا شيخ عارف؟
عارف: ثمن الجمل مثلاً منذ عشر سنوات مائة جنية، الآن ارتفع ثمن الجمل حوالي ثلاث أضعاف ثمنه السابق.
فكلما قلت القوة الشرائية للعملة، زادت قيمة الدية.
والذهب كذلك.
فقد ارتفه ثمن الذهب في السنوات العشر الأخيرة حوالي عشرة
أضعاف.
ومعنى ذلك أن الدية تضاعفت عشر مرات في زمن قليل بما يسد حاجة الأسر المصابة، وما يتمشى مع الحالة الاقتصادية.
مع أن النصوص الشرعية ثابتة.
فالفروع تتطور ثابتة.
منصف: هذه فكرة جيدة يا شيخ عارف؟!
عارف: الشريعة الإسلامية كلها أسرار، فمع أن نصوصها ثابتة، ومر عليها أكثر من ألف عام، إلا أنها تسد حاجات الناس، وتعالج قضاياهم.
من أجل ذلك نرى التشريع الذي نزل في مكة والمدينة، وسع الأمم ذات الحضارات القديمة والفلسفات المختلفة، كدولتى الفرس والروم - ولم يشعر أهالي الدولتين بغربة في ظل شريعة الإسلام.
كرم: كنت أعتقد أن المساواة في القضاء لم يعرفها
العالم إلا بعد الثورة الفرنسة.
لأن قبلها كان للأشراف محكمة.
ولرجال الدين محكمة، وللرجل العادي محكمة.
وكان الحكم يختلف من رجل إلى آخر في أوربا.
عارف: الإسلان لم يُسوِّ بين الناس في الديات والتعويضات فقط ولكنه ساوى بين كل الناس حتى رئيس الدولة الأعلى في الحقوق والتقاضي.
وهذا موضوع واسع، سأحدثك عنه بعد أن نشرب الشاي "شرب الجميع الشاي وعادوا لحديثهم" الإسلام يا أستاذ كرم هو أول نظام دولي، وضع دستور للأمة، يجعل رئيس الدولة الأعلى يحكتم إلى القضاء في شئونه الخاصة والعامة.
فعل الإسلام ذلك قبل الغرب بألف عام.
كرم: المهم أن الناس جميعاً - بعد الثورة الفرنسية -
أصبحوا سواسية أمام القانون - وقد ألغيت - المحاكم المختلفة من أوربا.
عارف: هل تحققت المساواة الكاملة الآن يا أستاذ كرم؟
كرم: أجل.
عارف: هل تعني أن (الدبلوماسيين) ، وكبار ضيوف - الدولة والموظفين الدوليين، يستوون في القضاء، مع سائر الناس؟.
كرم: هناك نظم دولية تنظم تقتضي (الدبلوماسيين) وكبار الضيوف. (1)
عارف: الفقير إذا عجز عن دفع (الكفالة المادية) للنيابة يستكر حبسه على ذمة التحقيق، حتى جلسة القضاء
كرم: والغني كذلك.
إذا لم يدفع الكفالة المادية يستمر حبسه.
(1) راجع التنظيم الدولي العالمي للدكتورة منى محمود مصطفى ص 98.
عارف: وهل يعجز الغني عن دفع الكفالة المادية، ليدفع عن نفسه الحبس؟
كرم: (يسكت)
عارف: إذن ربما يحبس الفقير على ذمة التحقيق، ثم يبرئه القضاء، فمعنى ذلك أنه حبس لعدم استطاعته دفع الكفالة، يعني حبس لأنه فقير.
كرم: هذا صحيح، وقد حدث لي وأنا طالب مثل هذا.
عارف: الشريعة الإسلامية كما ساوت بين الناس في التعويضات، والديات، ساوت بين الناس كذلك في كل جوانب القانون الشرعي (1) حتى رئيس الدولة الأعلى أمام عدالة القانون الشرعي يؤخذ منه
(1) ساوت الشريعة بين جميع الناس في الحلال والحرام.
فكل ما هو حلال للأمير، فهو حلال للخفير.
وكل ما هو محرم على رجل الشارع، فهو محرم على أمير المؤمنين والفرائض والسنن كذلك.
كم يؤخذ له.
لأن مقياس نظرة الإسلام هي الإنسانية نفسها، وأمام هذه النظرة تسقط كل الاعتبارات حتى الاختلافات العقائدية.
فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم لجنازة، فقيل له أنها جنازة يهودي.
فقال: أليست نفساً.
(رواه البخاري) وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعاني من مرضه الأخير - متكئاً على الفضل بن العباس، وعلي بن أبي طالب، حتى يجلس على المنبر، ثم قال: أيها الناس، من كنت جلدت له ظهراً، فهذا ظهري فليستقد منه (أي يقتص منه) ومن كنت شتمت له عرضاً، فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت منه مالاً، فهذا مالي فليأخذ منه - ولا يخشى الشحناء من قبلي، فإنها ليست من شأني.
ألا - أحبكم إلي، من أخذ مني حقاً إن كان له، أو
حللني، فلقيت ربي وأن طيب النفس.
ثم نزل فصلى الظهر.
(تاريخ ابن الأثير جـ 2 ص 154) وجاء أبو بكر ليعلن للناس في خطبة توليه الولاية أيها الناس أني وليت عليمن ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني.
وأكثر من هذا يطلب منهم: أن يعزلوه إن قصر في رسالته، أو خالف دستور الشريعة.
أطيعوني - ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم.
كرم: من الناحية النظرية هذا نظام بديع، سبق به الإسلام كل النظم الدولية فعلاً.
عارف: الإسلام لا يعرف الفصل بين النظريات والتطبيق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} .
[الصف 2، 3]
وشواهد التاريخ الإسلامي تؤكد هذا الجانب ففي عهد أبي بكر، طلق عمر زوجته، وله منها ولد صغير.
فرآه يوماً يلعب مع الصبيان، فحمله بين يديه، فأدركته جدته (الشموس بنت أبي عامر) وجعلته تنازعه إياه.
حتى أنتهيا إلى أبي بكر، فقال أبو بكر: خل بينه وبينها، فهي حاضنته.
فلم يستطع عمر، وهو يومها وزير الدولة - إلا أن يُسلم الطفل لجدته (عبقرية عمر ص 296) وفي عهد عمر، أقام عمر الحدّ على ولده عبد الرحمن بن عمر، عندما شرب الخمر (عبقرية عمر ص 33) .
كرم: منتهى العدل أن يقيم الحد على ولده.
عارف: إن ابن عمر أمام الشريعة كابن راعي الغنم.
التفاضل بين الناس بالتقوى.
ولا تفاضل بينهم
في مجال المعصية.
وفي عهد علي بن أبي طالب، تخاصم أمير المؤمنين مع يهودي على درع.
ولم يستطع أمير المؤمنين - في مجلس القضاء - أن يقيم الأدلة على ملكية الدرع، فحكم القاضي بالدرع لليهودي.
منصف: تاريخ الخلفاء زاجر بمثل هذه الأمثلة.
عارف: لم تكن المسألة مجرد سلوك شخصي من بعض الحكام، ولكنها القاعدة الشرعية للإسلام، - وبنفس الميزان القضائي، الذي يحتكم غليه الناس، ساوت الشريعة الإسلامية بين أبناء البلاد وبين (الدبلوماسيين) وكبار الضيوف، الذين يحضرون إلى البلاد الإسلامية من بلاد أخرى، اقرأ يا أستاذ كرم (التشريع الجنائي في الإسلام) ص 330.
ولعلك تذكر قصة جبلة بن الأيهم - الأمير
الغساني - مع الأعرابي الذي اشتكي إلى أمير المؤمنين عمر، كيف أن الأمير لطمه بغير حق فلم يسع عمر إلا أن يحضر جبلة ويطلب منه أن يمكن الأعرابي ليقتص منه، لطمة بلطمة، إلا أن يعفو الأعرابي، ويصفح.
وعزّ ذلك على الأمير الغساني، وقال لعمر بصراحة:
كيف تقتص مني وأنا ملك وهو سوقه؟!
وهرب الملك ليلاً، وارتد عن الإسلام.
(عبقرية عمر) .
كرم: ألم يكن في وسع عمر أن يحفظ هذه القضية، بدلاً من ارتداد الملك؟
عارف: إن خسارة ملك، لا تعدل عند عمر هدم مبدأ من أعظم مبادئ الإسلام وهو مبدأ المساواة فالمبادئ أغلى من الرجال.
منصف: العجيب يا شيخ عارف أن القانون الوضعي في العالم لم يصل إلى هذه الدرجة المشرقة من المساواة
حتى الآن.
ونحن نقارن بين الشريعة الإسلامية الثابتة منذ أربعة عشر قرناً، وبين القانون الوضعي بعد أن حدث فيه ألف تغيير وتعديل.
عارف: الله يكرمك يا أستاذ منصف.
المسألة في تصوري: أنا القانون مهما تقدم فهو كتمثال من ذهب - هذا إن أحسنا به الظن، فالبشر يستطيع أن يصنع تماثيل من ذهب.
ولكن الله - سبحانه - ينفخ في الطين، فيصبح بشراً سوياً.
فالقانون تمثال من الذهب.
والشريعة كائن حي {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى 52]
منصف: أسمح لي يا شيخ عارف.
القانون الوضعي - في تصوري - يشبه (خيال المآتة) الذي يضعه الفلاح في الحقل، لتخاف منه الطيور فتهرب، مع أنه لا يرى ولا يسمع.
إنه مجرد نصب لو
علم الطير حقيقته ما فر منه.
فالقانون لا يعاقب الذين يعبثون في الظلام.
أما الشريعة، فهي رقابة حية على سلوك الناس، لأنها رقابة الله.
(ينظر الشيخ في الساعة ويقول: ما أرسع الوقت، لقد آن موعد المحاضرة) .