الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللقاء الخامس
في هذا اللقاء
* الثوب صدقه عليه يا رسول الله.
* التكافل أولاً.
* السفينة قرارترنتى اصدق دلالة.
* بين العقاد وابن الأزرق.
* يد عاملة.
ويد عاطلة.
ويد عاجزة.
ويد عابثة.
* رقبة مانع الزكاة، قبل يد السارق.
* حروب الردة لماذا؟
عجر المهندس نبيل عن إتمام بيت الشيخ في الموعد المحدد، وجاءه يعتذر عن هذا التأخير، معللاً ذلك بقلة الأيدي العاملة وتفضل الشيخ بقبول الاعتذار.
نبيل: نعاني كثيراً من نقصان الأيدي العاملة يا شيخ عارف للاتجاه الجماعي للتعليم، وسفر الفنيين للبلاد العربية الشقيقة، وتكاسل بعض العمال عن العمل، لمجرد أن الله يسر له الرزق، كل هذا أوقعنا في حرج.
"وابتسم نبيل وقال": أنا على ثقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان بيننا الآن حياً لأوقف (قطع يد السارق) ليوفر الأيدي العاملة.
عارف: الإسلام لا يقطع اليد العاملة يا نبيل.
نبيل: إذا سرقت يقطعها.
عارف: ولماذا تسرق؟
نبيل: متطلبات الحباة لا نهاية لها.
والنفس لا تشبع، وأنت تعرف لوازم الأولاد، والبحث عن المظاهر.
وغير ذلك من الأسباب ربما يدفع صاحب اليد العاملة إلى السرقة.
عارف: ربما تقصد السهرات، ولوازم العشيقات، ومحاولة إشباع غريزة جمع المال بدون تعب، والرغبة في الاستخفاف بالمجتمع وأمنه.
هذه هي الأسباب الحقيقة للسرقة. يا نبيل.
نبيل: الأسباب التي تكرمت بذكرها صحيحة.
ولكن هذا لا يمنع وقوع السرقة من أجل إطعام الأولاد، أو علاج مريض، أو سد ضرورة.
عارف: يا أُستاذ نبيل: الإسلام أخذ في اعتباره الظروف العامة للمجتمع، والظروف الخاصة بالسارق.
ففي أعوام المجاعة يوقف الإسلام قطع اليد.
وفي الفتن العامة، والحروب الداخلية، يوقف الإسلام القصاص بين المتقاتلين، سعياً للصلح بين الطائفتين المتنازعتين.
نبيل: هذا صحيح بالنسبة للظروف العامة، وموقف كريم من الشريعة الإسلامية، أما ظروف السارق الخاصة، فلا أظن أن الشريعة تُوقف الحد من أجل حُجَّة يسوقها السارق.
يتنصل بها من جريمته.
عارف: الشريعة أعظم وأرحم، مما تتصور يا نبيل، فالله سبحانه - أرحم بعباده من أُمهاتهم.
لقد فسرت الشريعة الإسلامية كل شبهة لصالح المتهم، وجعلت الحدود ترفع بالشبهات، وجعلت خطأ القاضي قي براءة المتهم، خير من خطئه في قطع يده.
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمجتمع الحق في
علاج هذه القضايا قبل أن يرفعها للقضاء.
أما إذا رفع الأمر للقضاء.
فلا شفاعة في حد من حدود الله.
نبيل: أنا أعرف أنّ أُسامة بن زيد رضي الله عنهما عندما أراد أن يفع لامرأة سرقت، غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها.
فالإسلام لا يقبل الشفاعة في الحدود فكيف يعالج المجتمع القضية يا شيخ عارف؟.
عارف: قلت لك يا سيد نبيل: إن المجتمع إذا رأى أنَّ السارق ناشئ، ويمكن إصلاحه، وتوجيهه إلى عمل مثمر، فيمكنه أن يذهب إلى صاحب المال (المسروق) ويعوضه، ويطلب منه عدم رفع القضية للقضاء، والإسلام لا يُحرم هذا العمل، فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن عفا، عفا الله عنه.
وهذا العمل لا يُضيع الحق على صاحب المال، ويُعطي السارق فرصة للتوبة، أما إذا وصل الأمر إلى القضاء، فلا شفاعة في حدّ من حدود الله.
جاء في موطأ الإمام مالك: أنّ صفوان بن أُمية عندما سُرِق ثوبه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يد السارق.
قال صفوان إني لم أُرد هذا يا رسول الله.
هو عليه صدقة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (فهلا قبل أن تأتني) ؟ ومعنى هذا أن صاحب الحق إذا تنازل قبل أن يرفع الأمر للقضاء، فلا محاكمة ولا قطع.
نبيل: ربما لا يقبل صاحب المال أن يتنازل.
لشدةّ غضبه.
عارف: يمكن للسارق أن يشتري منه الشيء المسروق، ولو بأضعاف ثمنه حتى يُنقذ يده.
ويمكن للمجتمع أن يتدخل في حل المشكلة - قبل رفعها للقضاء -.
ويشتري الشيء المسروق من صاحبه، وبذلك تنتهي المشكلة.
كل هذه أمور شرعها الإسلام، حتى يعطي للسارق الفرصة في استئناف حياة كريمة شريفة.
بشرط عدم رفع الأمر للقضاء.
نبيل: هذا الكلام أسمعه لأول مرة.
الذي سمعناه في أوربا - وأنا أدرس الهندسة هناك - غير هذا بكثير.
عارف: أرجو أن تأخذ الحق من أهله، وأن تفكر بعقلك المستقل.
فالغرب الذي يئن الآن، ويتباكى على لص قُطعت يده.
(هذا الغرب) لا يتحرك وجدانه على آلاف الأبرياء الذين يتعرضون للموت الجماعي بالقنابل النووية، والأسلحة الحديثة.
ولا يتألم لآلاف الأشخاص الذين يُقتلون بسبب مخالفة سياسية، أو
اختلاف في الرأي.
يا نبيل: أحضر مجلة (الوطن العربي) العدد 211 لعام 1981، واقرأ خبر السفينة قراترنتى التي تحمل 182 طن من (نفايات المواد النووية) القاتلة، المجلة أمامك يا نبيل.
نبيل: ما شأن هذه السفينة؟
عارف: لقد حاول الغرب أن يتخلص من هذه النفايات المشعة فأرسلها إلى باكستان، ومنها إلى الشارقة، ورأس الخيمة ثم عادت إلى الشارقة في 2 - 2 - 1982 وهناك افتعل طاقم الباخرة حريقاً فيها، فأحرقوا المستندات وأجهزة الحركة - حتى يصبح حكام الشارقة أمام الأمر الواقع، فيقبلوا دفن هذه "النفايات النووية" في مياهم، أو صحرائهم.
وأنت تعرف خطورة هذه النفايات على سكان
المنطقة.
وبعد ذلك فرَّ طاقم الباخرة، وتركوها.
وأَسأَلك يا سيد نبيل: لماذا حاول الغرب إحراق السفينة، ودفن ما فيها من مواد قاتلة، في باكستان، أو البلاد العربية بالذات؟!
نبيل: لأنَّ سكان هذه البلاد مسلمون.
عارف: يا نبيل: إن الغرب - الذي يتباكى - بكاء التمساح على قطع يد السارق، لم يكلف نفسه أن ينشر خبر هذه السفينة المشئومة، في أي جهة من جهات الإعلام الغربي، كأن هذا الخبر لا يستحق أن ينشر.
نبيل: جهلنا بالشريعة السمحة، جعلنا نصدق كل ما قاله الغرب من حقائق وأكاذيب.
عارف: أقول لك كلمة واحدة يا سيد نبيل: إن الله شرع قطع السارق لئلا يُنَفَّذَ: "يضحك نبيل ويقول"
نبيل: فلماذا شرعه الله يا شيخ عارف؟!
عارف: عندما يعلم السارق أن يده - التي يعمل بها، والتي يسرق بها أيضاً - ستقطع، فإن ذلك سيمنعه من السرقة.
فإذا امتنع عن السرقة، سلمت يده.
وبذلك فلا قطع، ولا سرقة.
إن الله شرع قدع اليد زجراً، وتطبيقه يمنع من تنفيذه.
نبيل: هذا الكلام مقبول جداً من الناحية النظرية.
ولكن الواقع أن السرقة حدثت بالفعل، وأيادٍ كثيرة قُطعت.
عارف: وقعت سرقات
…
هذا صحيح.
ولكن عدد الأيدي التي قطعت في أربعين سنة، تكاد تُعد على الأصابع، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضى الله عنهم لأنَّ قطع اليد
شرع في مجتمع إسلامي، له خصائصه في التكافل الاجتماعي، والإيثار، ولم تشرع في مجتمع - كمجتمع أوربا - الذي لا يتحمل الأب نفقات ابنته إذا بلغت سناً مُعيناً.
ومن حق مجتمع ساد فيه التكافل الاجتماعي، وفرضت فيه الزكاة، وتربى أبناؤه على خُلق الإيثار من حق هذا المجتمع أن يستأصل العضو الشاذ الذي يتيقن أن بقاءه يفسد صفاء المجتمع - ويخلّ بأمنه.
فأي لوم على الطبيب إذا استأصل رئة مريضه، أو أي عضو آخر تأكد أنّ بقاءه - سيصيب الجسد بالسرطان.
يا نبيل
…
لابد من عنصر القوة حتى يحدث الترابط الاجتماعي، فالنفوس شاردة وراء تحقيق مطامعها، ولابد من قوة تجمعها وتربط بينها.
وأن لا يقل دور القوة عن دور الرحمة والعدل، في صيانة المجتمع.
قم يا نبيل وأحضر كتاب "بدائع السلك في طبائع المُلك لابن الأزرق.
فأنا لا أقوى على الوقوف بسهولة.
نبيل: أي جزء يا شيخ عارف؟.
عارف: الجزُء الأَول وافتح ص 51.
فقد كتب ابن الأزرق بحثاً فيما حلل فيه النفس الإنسانية تحليلاً رائعاً، وتكلم عن وجوب الوازع القانوني أي الرادع القانوني للمنحرفين، وذلك حتى تسلم قوة الترابط الاجتماعي من خطر الجذب المضاد.
إن الرادع القانوني - في تصور ابن الأزرق - هو سرّ بقاءِ العمران، وسلامة الناس.
اقرأ يا أستاذ نبيل: "يقرأُ قول ابن الأزرق" إن الظلم واقع في نفوس الناس بالطبع.
إلا أن يصد عنه وازع.
لأن كل إنسان يريد لنفسه ما يمكن أن تمتد إليه يده ومن هنا نشأ التضارب والنزاع بين إرادات الأفراد وأهوائهم، مما يمكن أن يتخذ شكل المقابلة الدموية، ويهدد النوع الإنساني بالانقراض "ثم يغلق الكتاب".
نبيل: هذه نظرية قديمة.
والنظريات القانونية الآن أخذت في اعتبارها قضايا كثيرة.
عارف: إذا كان ابن الأزرق من الفلاسفة السياسيين القدماء، فإن عباس محمود العقاد - عالم معاصر - جمع بين ثقافة شرقية واسعة، وثقافة غربية.
نبيل: هذا صحيح، فقد وجدوا في مكتبته اثنين وعشرين ألف مجلد، علق على أكثرها.
عارف: قال رحمه الله: من المبادئ المتفق عليها في عصرنا أن الجريمة فساد في نفس المجرم، وأن العقوبة
إصلاح له، أو وقاية للمجتمع من فساده.
وأن مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد.
ولكن لا نغفل مصلحة الآخرين (الفلسفة القرآنية ص 103) .
نبيل: آمنت بالله وبشريعته.
إن حديثي كان من وحي مشكلة الأيدي العاملة.
ما تعانيه من نقصها فقط، ولكنني أؤمن بعدالة شرع الله.
عارف: مشكلة توفير الأيدي العاملة، لا يحلها اللصوص.
لقد وضع الإسلام لها حلاً متكاملاً، أحب أن تعرف شيئاً عنه.
نبيل: إذا تكرمت يا شيخ عارف، فهذه الليلة فرصة.
(يدخل هشام ويطلب من الضيف ومن الوالد أن يحضر مأدبة العشاء، وبعد العشاء تمم الشيخ الحديث) .
عارف: الإسلام يهتم بالإنسان، ويكرمه مهماً كان دينه.
واليد هي العضو المنتج في الإنسان.
لذلك جعل الإسلام الاعتداء عليها اعتداء على المجتمع، فمن قطع يد أخيه ظلماً قطع الإسلام يده قصاصاً، ومن قطعها خطأ، دفع نصف الدية التي يدفعها القاتل خطأ، فاليد في الإسلام مُصانة ومحترمة، لأنها أداة الإنتاج، ولكم اليد في نظر الإسلام أربعة أنواع.
- يد عاملة.
- يد عاطلة.
- يد عاجزة.
- يد عابثة.
وكل نوع من هذه الأنواع تنظر إليه الشريعة نظرة خاصة.
اليد العاملة:
يكرمها الإسلام، ويعتبر عملها شرفاً، وكفارة للذنوب.
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ قَالَ عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ".
(رواه أحمد. 16628) وهي امتداد لأيدي الأنبياء.
فكل نبي بعثه الله كان يأكل من عمل يده.
حتى نبي الله داود - الذي آتاه الله الملك والنبوة - كان يأكل من عمل يده.
فكان يعمل حداداً يصنع الدروع الحربية قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ 11] .
يا أستاذ نبيل: إن اليد العاملة تحقق سبب الخلافة في الأرض، هذا الشرف الذي تمنته الملائكة يوم سجودها لآدم.
وقد عمل
الإسلام على تكريمها ومكافأتها ليضمن بقاءها منتجة.
قال صلى الله عليه وسلم:
"أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ".
(رواه ابن ماجة. 2434)
وضمن الإسلام صيانة حقها من الضياع،
فمن الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم،
آكل حق الآجير.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ اللَّهُ ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ".
(رواه البخاري. 2075)
"من أمسى كالًّا مِن عمل يديه أمسى مغفورًا له".
رواه الطبراني في الأوسط. 7733) .
هذه هي اليد العالمة - يا أُستاذ نبيل - والتي جئت تجادل عنها.
اليد العاطلة:
مع قدرة بعض الناس على العمل فإنهم يتكاسلون وأسباب ترك العمل - مهما كانت - يكرهها
الإسلام، حتى ولو كان ترك العمل من أجل العبادة.
فقد أفتى فقهاءُ المسلمين: بأن من أصابه الفقر بسبب التفرغ للعبادة مع القدرة على العمل لا يعطي من مال الزكاة.
أما من أصابه الفقر بسبب تفرغه لطلب العلم فيعطى من مال الزكاة ما يسد حاجته.
لأن دراسته تنفع الجميع ومساعدته مادياً تدفعه إلى التعمق العلمي.
بخلاف من يتفرغ للعبادة، فعبادته لنفسه.
وأسباب البطالة متعددة.
وقد حاول الإسلام علاج كل سبب.
فمن الناس من يترفع عن العمل بدعوى (عراقة الأُسرة) التي انحدر منها، وهؤلاء ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم المثل الأعلى بعمله بيده، وعمل الراشدين من بعده.
نبيل: كلامك هذا يذكّرني بقول أبي العتاهية:
إنما يعرف الفضل من الناس ذووه
…
لو رأى الناس نبياً عاطلاً ما وصلوه
عارف: أجل يا نبيل: لو رأى الناس نبياً عاطلاً ما وصلوه.
فترك العمل، بدعوى شرف الأُسرة، لون من البطالة السقيمة.
ومن الناس من يترك العمل زهداً في الدنيا.
وهؤلاء أَخطأُوا فهم الإسلام.
فالمسلم يجب أن يعمل من أجل قوته وقوت أهله، ولأن يذر المسلم ورثته أغنياء خير من أن يذرهم فقراء عالة يتكففون الناس.
والزهد يا سيد نبيل: أن تكون الدنيا في أيدينا، لا في قلوبنا.
ومن يدع الهروب من فساد المجتمعات لا يستحق الحياة، لأنَّ المسلم يعمل على حل مشاكل مجتمعه، لا على الهروب منها.
نبيل: بعض الشباب لديه القدرة على العمل، ولكنه
يحتاج إلى مال كثير ليحقق أهدافه.
من أجل ذلك نراه عاطلاً.
عارف: الإسلام وسع هذا الصنف من الشباب وأوجد حلاً لمشكلته، عندما شرع أنواعاً من الشركات يساهم فيها صاحب رأس المال بجزءٍ من ماله، ويساهك فيها صاحب الخبرة بخبرته وعمله، والأرباح تقسم بينهما.
وهذا النوع من الشركات أطلق عليه العلماءُ اسم المضاربة.
لأن أحدهما يضرب في الأرض ابتغاء فضل الله.
نبيل: وهذا النوع من الكسب حلال لا شبهة فيه؟
عارف: لقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم في مال السيدة خديجة - قبل البعثة - على هذا النحو - وبعد البعثة أقرّ هذا النظام من التعامل.
فالعامل يجد فرصة لتنمية مواهبه، وصاحب المال يستثمر ماله.
وهذا النظام
قد فتح أبواب الحياة أمام كثير من أبناء الأمة الذين تخصصوا في الزراعة، والتجارة، ولكنهم لم يجدوا من المال ما يبرزون به مواهبهم (التكافل الاجتماعي في السنة) .
نبيل: أرجو ألا أكون خرجت من موضوع قطع اليد الذي بدأنا به الحديث.
عارف: إن حديثنا عن قطع اليد يُلزمنا بالحديث عن المجتمع الذي شُرع فيه قطع اليد، وطبيعة الشريعة التي حكمت بقطع يد السارق.
ومن ناحية أخرى - يا أستاذ نبيل تكره الشريعة الإسلامية المال الجامد.
لأن سيولة النقد تؤدي حق الجماعة في المال، لذلك فرض الإسلام في المال الجامد الزكاة، ليدفع صاحبه إلى استثماره حتى لا تأكله الزكاة.
يا أستاذ نبيل.
في ظل هذا المجتمع تعتبر السرقة شذوذاً.
نبيل: هناك مشكلة يا شيخ عارف.
ربما لا يقتنع أصحاب الأموال بنظام الشركة، ليريحوا أنفسهم من المراجعات، والالتزامات التجارية.
عارف: وفي هذه الحالة أيضاً شرع الإسلام نظام القرض الحسن.
نبيل: وماذا يستفيد صاحب المال من القرض الحسن؟
عارف: المسلم يحرص على أجر الآخرة أكثر من حرصه على تنمية ماله في الدنيا، وقد قرر الإسلام أن القرض الحسن يعدل على أجر الآخرة، أو يزيد عليها.
قال صلى الله عليه وسلم: رأيت ليلة أن أُسرى بي على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر.
فقلت يا أخي يا جبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟
قال: لأنَّ السائل يسأل وعنده ما يغنيه، والمستقرض
لا يستقرض إلا من حاجة.
(رواه ابن ماجة) وقد بلغ من حبّ المسلمين لإقراض إخوانهم، وتفريج كرباتهم، أنّ رجلاً جاء إلى شريح يسأله أن يقرضه بعض المال.
فقال شريح: حاجتك عندنا ميسرة، فارجع إلى بيتك، فسيأتيك ما تريد، فإني أخاف أن يمسك ذلّ السؤال (عيون الأخبار)
نبيل: ليس كل الناس يكتفي بأجر الآخرة، فأنت تعرف طباع الناس، يا شيخ عارف.
عارف: الله أعلم بطباع الناس مني ومنك، لذلك شرع الإسلام لمن يُقرض إخوانه مكافأة مادية يجب أن أذكرها لك.
قرّر الفقهاءُ أن من أقرض أخاه المسلم مبلغاً من المال لعدة سنوات فعليه زكاة سنة واحدة، وهذا رأي السيدة عائشة وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما.
(فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي) .
نبيل: هذا نظام بديع للقضاء على الربا في المجتمع المسلم.
عارف: أكرمك الله يا نبيل، وأَسأَلك بعد ذلك هل بقى عذر لليد العاطلة.
اليد العاجزة:
وهناك يد عاجزة لمرض أو لصغر أو لشيخوخة.
قد رعاها الإسلام وسد حاجتها، مهما كانت عقيدتها.
مر عمر بن الخطاب - وهو في طريقه إلى الشام - على بعض النصارى المصابين بالجذام، فأمر لهم براتب من بيت مال المسلمين، ورفع عنهم الجزية.
وأمر ليهودي يتسول لكبر سنه، ما يغنيه عن التسول من بيت مال المسلمين وجاء خامس الراشدين عمر بن العزيز - وأرسل إلى عامله بالبصرة - عدى بن أرطاة - أرسل إليه: أُنظر من حولك من أهل الذمة، قد
كبر سنّه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فاجعل له راتباً من بيت مال المسلمين، بمقدار ما يصلحه.
(الأموال لأبي عبيدة. ص 45) .
نبيل: رضى الله عن عمر بن عبد العزيز في قوله: بمقدار ما يصلحه، لأنَّ سد حاجته لا يأتي إلا بهذه العبارة.
عارف: والإسلام يا أُستاذ نبيل يذهب إلى أبعد من هذا في مساعدة اليد العاجزة، فهو يفرض على المجتمع أن يتاجر في مال اليتيم، حتى ينميه له، ولا تأكله الصدقة والنفقات اليومية.
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ".
(رواه الترمذي. 580) .
فإذا كان العجز بسبب كبر أو مرض، فإليك ما فعله عمرو بن العاص، كنموذج لحاكم مسلم
فقد وزَّع الأراضي الزراعية على القادرين على زراعتها، ومن يعجز أو يموت يتكفل القادرون زرعة أرضه له أو لورثته.
(الوحدة الإسلامية ص 120) .
فهل بعد هذه الرعاية يتصور العقل أن الغرب هو
الذي ابتدع نظام التكافل؟!
يا أُستاذ نبيل اليد العاملة يُكرمها الإسلام، واليد العاجزة يُطعمها الإسلام، واليد العاطلة يفتح أمامها كل أبواب الحياة.
اليد العابثة:
وهي اليد التي يستهين صاحبها بالمجتمع، ويعبث بأمنه، من أجل سهرة حمراءِ، أو شربة صفراء.
تلك اليد - أنت معي يا أستاذ نبيل - إنها شذَّت في مجتمع آمن متكافل.
وللإسلام معها موقف الطبيب المعالج، فإن لم ينجح العلاج، فموقف الطبيب الجراح.
نبيل: ما هو العلاج: وما هي الجراحة؟
عارف: ربط الإسلام المسلمين بالمبادئ السامية، وعودهم على العطاء، وفرض عليهم الزكاة، لأنَّ اليد التي تعودت على العطاء، وتقديم الصدقة إرضاء الله، لا تطاوع صاحبها على سرقة، أو أخذ أي مال يجلب عليها غضب الله.
فالزكاة حماية من السرقة.
ومن العلاج - يا أًُستاذ نبيل - أن الإسلام رسخ في أذهان المسلمين الاعتقاد بان أي نفس لن تموت حتى تستوفى رزقها وأجلها.
فمن تعفَّف عن الحرام جاءه رزقه في الحلال لا محالة.
ومن العلاج أيضاً إيمان المؤمن بأن أي لحم نبت من حرام فالنار أولى به، ومن يفلت من عقاب الدنيا فلن يفلت من نكال الله.
هذا هو العلاج.
أما الجراحة فالذي لم يرتدع
خوَّفه الإسلام من قطع يده، لأنَّ عارها سيلازمه في كل حياته فمن أصرَّ بعد كل هذا على السرقة فمشرط الجراح حماية للمجتمع، وصيانة لأمنه بل حماية للسارق يحيمه من شر نفسه.
فيمنعه من الفعل.
كما قلت لك - إن الله شرع قطع اليد لئلا يُنَفَّذ.
نبيل: ولكن هل كل سرقة يعاقب عليها الإسلام بالقطع ولو كانت صغيرة؟
عارف: لا يا أُستاذ نبيل.
فمن سرق من مكان عام - كالمسجد المفتوح، أو الفندق، أو المحلات العامة - يعاقب بالسجن، ولا تقطع يده، لأنَّ شرط الجريمة أن يسرق (من حرز) أي مكان يمنع دخوله كالمسجد المغلق مثلاً، أو المخازن والبيوت.
ولو سرق من مال له فيه شبهة الملكية العامة أو الخاصة - كمن يسرق من شريكه لا تُقطع يده.
لأن له شبهة، والشبهة تُفسر لصالح المتهم دائماً، ومن سرق كتب علم وادَّعى إنه يريد قراءتها، أو أدوات لهو وادَّعى إنه يريد تكسيرها، أو سرق مالاً لم يبلغ النصاب، يعاقب بالسجن ولا تقطع يده.
نبيل: ماذا تقصد بكلمة النصاب؟
وأنا أعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم
"لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ".
(البخاري. 6285)
والآية الكريمة {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} آية عامة لأيّ سارق.
عارف: ألم أقل لك يا نبيل إن السنوات التي قضيتها في أوربا شغلتك عن دراسة الإسلام.
إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم
"لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ".
معناه أنه يتدرج في السرقة من البيضة والحبل إلى
سرقة ما يستحق عليه قطع اليد.
والإسلام وضع حداً للمبلغ الذي لو قلت السرقة عنه لا تقطع اليد.
نبيل: ما قيمة هذا المبلغ؟.
عارف: المسألة اجتهادية، اختلف فيها الفقهاءُ.
فبعضهم تشدد وجعلها أربعة دراهم من الفضة، وبعضهم جعلها عشرة دراهم من الفضة، أو ديناراً من الذهب.
والمسألة كما قلت لك اجتهادية، تختلف من عصر إلى عصر، ومن بلد إلى بلد، حسب ظروف المعاش.
والذي أفهمه من كلام العلامة السرخسى أن العشرة دراهم من الفضة في عصره تعتبر مالاً كثيراً، حتى عبر عنها بقوله:(وهذا مال خطير، وهو مصون من الابتذال) .
(المبسوط جـ 9 ص 138)
فليس كل مال تقطع فيه اليد.
وليس كل من سرق يقطع الإسلام يده.
نبيل: أرحت صدري يا شيخ عارف.
أكرمك الله.
عارف: ثق يا نبيل أن الإسلام قبل أن يقطع يد السارق حكم بقطع رقبة مانع الزكاة كفراً بها.
وإنكاراً لفرضيتها.
نبيل: ماذا حدث يا شيخ عارف؟.
المناقشة من أول الليل كانت هادفة وهادئة، ومسألة الزكاة شخصية لا دخل لها بالموضوع.
عارف: لا يا نبيل الشريعة الإسلامية كل لا يتجزأ وأنا لم أبالغ عندما قلت.
إن الإسلام قبل أن يقطع يد السارق، حكم بقطع رقبة مانع الزكاة، إنكاراً لفرضيتها، واستخفافاً بدورها، وأكثر من هذا يا نبيل أن من تأول الآيات التي توجب دفع الزكاة يُقتل ويعتبر هو القاتل لنفسه، كما أن قطع يد السارق المستهتر بحرمة المجتمع، يعتبر
هو القاطع ليده.
فعندما تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة.
تمردت جماعة من الأعراب على دفع الزكاة.
وتأولوا الآيات، فحاربهم أبو بكر، كما حارب المرتدين سواء بسواء.
ويعتبر قتال أبي بكر لهم هو أعظم عمل قام به أبو بكر، حيث أمَّن الدولة الإسلامية، وثبت نظامها.
نبيل: أنا أعرف أن بعض الذين تباطؤا عن مبايعة الخليفة في الأيام الأُولى سارعوا للمبايعة، ودخلوا في الجيش الإسلامي المتوجه لقتال المرتدين ومانعي الزكاة.
عارف: يا أستاذ نبيل: الشريعة الإسلامية شرعت قطع اليد في مجتمع فرضت فيه الزكاة، وأوجبت فيه التكافل، وربت الناس على خلق الإيثار،
فمن شذ بعد ذلك شذَ إلى النار.
بقى سؤال واحد أنا أَسأَلك إياه يا نبيل.
متى نستلم البيت الجديد؟
نبيل: (يضحك ويقول: إن شاء الله ستؤدي فيه أيام العيد هذا العام) يخرج المهندس نبيل عازماً على مراجعة كل شيء سمعه عن الإسلام في أوربا.