المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌اللقاء السادس * حتمية الحصاد. * القتل إعلام بنهاية الأجل. وليس إنهاء للأجل. * - شريعة الله يا ولدي

[محمود محمد غريب]

الفصل: ‌ ‌اللقاء السادس * حتمية الحصاد. * القتل إعلام بنهاية الأجل. وليس إنهاء للأجل. *

‌اللقاء السادس

* حتمية الحصاد.

* القتل إعلام بنهاية الأجل.

وليس إنهاء للأجل.

* القاضي لم يهب القاتل الحياة، فلماذا يسلبها منه؟

* القصاص لا يعيد الحياة للمقتول.

ولكن.

* سأصبر

حتى يحكم الله.

* الشريعة تحكم الناس من داخلهم.

* آية الدين.

* عندما تعدل شهادة المرأة الواحدة شهادة رجلين.

ص: 163

مَن كان يصدق أن كل الأموال التي أرسلها (ضياءٌ) إلى أخيه ليستثمرها له، قد ضمها أخوه إلى تجارته، وأنكر كل شيء، وزاد من حيرة (ضياء) خلو يده تماماً من أي وثيقة تؤيد دعواه إذا لجأ إلى القضاء.

لقد ضاعت رحلة السنوات السبع، ضياع الحب الذي كان بينهما قبل (محنة الثراء) لقد توقف تفكيره عند العزم على قتل أخيه.

عارف: ما حدث ليس مستغرباً.

لقد تربى جيل كامل من الشباب بمعزل عن هدى الله.

فلابد من هذا الحصاد.

إن الله ثالث شريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خانه خرج الله من بينهما.

واليوم يصدق في كثير من الشركاء قوله تعالى {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [سورة ص 24] يا ضياء..

ص: 164

لقد كثرت الأموال، ولكنها مع كثرتها أصبحت كماء البحر، لا يزيد الشرب منها سوى الظمأُ.

هذا..فضلاً عن اعتقاد كثير من الناس أن الذين يعلمون بالخارج يغرفون من بحر لا قرار له.

مع أنهم لو جربوا الغُربة، والبعد عن الأهل، لأَيقنوا أنّ يوماً في السفر كألف يوم مما يعدون.

ضياء: لو وثقت الشركة للجأت إلى القضاء.

ولكن لولا تفيد لقد فُرض عليّ الاختيار الصعب.

عارف: عندما يصاب التفكير بالشلل يهذى الإنسان احذر يا ضياءُ من شلل التفكير.

الخطأُ لا يُعالج الخطأُ.

والدم لا يغسل الدم.

ثق في ربك {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} .

ص: 165

ضياء: لقد حكم الله بموته على يدي.

عارف: وإن لم تصبه،، ماذا تفعل؟ سوف تعاقب بتهمة القتل مع سبق الإصرار.

ضياء: سهمي لا يُخطئ.

عارف: حتى ولو أراد الله حياته؟!!

يا من تُدبّر في الليالي مصرعاً

هل أَنت ربٌ تقطع الآجالا؟

ضياء: سوف أُواجهه بإطلاق الرصاص.

ولن يخيب سهمي.

عارف: هذه حماقة

لأنك إن لم تقتله فإنه سيموت وحده بلا قتل.

القتل دليل على نهاية العمر، وليس إِنهاءً منك لعمره.

والقتل حماقة..

ثمنها غال علينا جميعاً.

ضياء: أَعرف أنَّ ثمنه الإعدام.

لقد أَعدمني وأنا حيٌّ.

ص: 166

والإعدام دليل على نهاية عمري، وليس إنهاءٌ منهم لعمري - كما قلت.

عارف: لو كان الإعدام وحده هو الثمن لاختلَّ ميزان العدل الإلهي.

لأنَّ المقتول يموت، والقاتل يموت.

والقرآن ينفي تساويهما.

قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم 35] .

إعدام القاتل بداية لعذاب طويل

لأنه هدم لبناء الله الذي بناه بيده، وأسكن فيه سره.

ضياء: سوف يستوي القاتل والسارق في النار.

ولا تنسى أن أخي سرقني.

عارف: كل خطأ يمكن للتوبة أن تُصلحه.

إلا القتل

فمهما تاب القاتل فلن يُحيى المقتول.

لذلك كان عذاب القاتل أكبر.

ص: 167

قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء 93] .

فالعذاب العظيم الذي أخبرت عنه الآية الكريمة يختلف تماماً عن الخلود في النار، وغضب الله عليه، ولعنته له.

إنه عذاب للقاتل فقط.

لأنَّ الآية الكريمة عطفته على الخلود في النار وعلى اللعنة.

القتل يا ضياءُ هدم لبناء الله.

لذلك استبعد القرآن أن يحدث القتل العمد بين المسلمين.

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء 92] .

ضياء: لكن القتل يقع بالفعل.

عارف: هذا أُسلوب قرآني بليغ.

فبدلاً من أن يقول لك: لا تقتل أخاك، يقول: مثلك لا يقتل فهذا أبلغ في النهي.

ص: 168

ضياء: بأي حق يحكم القاضي بالإعدام؟.

إنه لم يهب القاتل حق الحياة، فكيف يسلبها منه؟

عارف: وهل أنت واهب الحياة لأخيك؟ كيف تجرؤ على سلبها منه؟.

إنّ المسلم عندما يذبح دجاجة، يشعر أنه لم يهبها الحياة.

لذلك فهو يُعلن أنّ الله الذي وهبها الحياة، أذن له أن يذبحها.

لذلك يقول عند البذبح: باسم الله.

الله أكبر.

والقاضي يعلم إنه لم يهب القاتل حق الحياة، ولكن الله الذي وهبه الحياة أذن لنا بقتل القاتل.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة 178] .

فالله الذي وهب الحبياة كلفنا بسلبها من القاتل.

ضياء: إعدام القاتل لا يُعيد الحياة للمقتول.

ص: 169

عارف: ولكن يهب الحياة للأحياء.

والحي أولى من الميت.

فالقاتل عندما يثق من إعدامه، فإنّ غريزة حب الحياة الكامنة في كل حي، سوف تتحرك لمنعه من حماقته.

وعند ذلك يسلم القاتل والمقتول، والمجتمع كله.

وهذا بعض معنى قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة 79] .

ضياء: لله الأمر كنت أظن أن القتل هو العلاج الوحيد من منطلق: ضيعني فضيعته.

ولكنني آمنت بأن الصواب، هو تسليم الأمر لله.

ما أهون الدنيا، وأخلد الآخرة.

سوف أُسافر، ولن يُضيع الله سعيي إن سلطان القرآن الكريم لم يزل قادراً على توجيه سفينة الحياة.

ومنعنا من السقوط في الهاوية..

ص: 170

عارف: يا ضياء يا ولدي

إن الله يحكم الناس من داخلهم.

والشريعة حريصة على منع وقوع الجريمة عندما يأمن القاتل العقوبة.

فكيف إذا تيقنها؟ أستودعك الله.

وسوف أذهب إلى أخيك، لعلّ الله يُحدُث بعد ذلك أمراً.

سافر ضياء.

وانقطعت أخباره.

ووجد في إخوانه من أهل العراق قوماً يُحبون من هاجر إليهم.

عاش بينهم سنوات لم يشعر بالغربة، ولكن حنينه للوطن فرض عليه العودة.

عاد يخمل ثمن السنوات التي عاشها بين الآلة والجدران.

عاد فوجد الدنيا قد أدبرت عن أخيه.

وولت عنه المكاسب.

فالدنيا إنْ حَلَتْ أَوْحَلَتْ حتى ولده الوحيد الذي ارتكب كل حماقة من أجل أن يُؤمن مستقبله، قد فارق الحياة.

عانق أخاه

ص: 171

بكل شوق، متناسياً كل ما كان.

وعزاه بكلماته وماله.

وحضر الشيخ عارف ليشهد أسمى لقاءٍ.

ضياء: خير هدية أقدّمها لابن أخي في قبره أن أحج عنه.

عارف: أظتك حججت عن نفسك.

لأنّ ابن عباس رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: لبيك عن شُبرُمه.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كم شُبْرُمه؟ قال: أخي.

قال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل حججت عن نفسك؟.

قال: لا قال له النبي صلى الله عليه وسلم حج عن نفسك (أولاً) .

ثم حج عن شُبرُمة.

رواه ابن ماجة.

صفاء: ما أنفقته - بجهلي - في مراسيم العزاءِِ كان يكفي لأحج عن نفسي وعنه.

ولكن الجهل أضاع علينا الكثير.

ضياء: لقد عزمت على إقامة شركة بيني وبين أخي أنا بمالي، وأخي بجهوده وخبرته.

ص: 172

عارف: هذه مضاربة.

وهي حلال شرعاً.

فقد ضارب النبي صلى الله عليه وسلم في مال السيدة خديجة، قبل الإسلام، وشارك "السائب المخذمى" رضي الله عنه فلما لقيه يوم الفتح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: مرحباً بأخي وشريكي.

"رواه ابن ماجة".

كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: كان لا يُمارى ولا يُداري.

"رواه الحاكم" فالمصاربة مشروعة.

وربحها حلال مبارك، إذا قامت على أمانة الشريكين.

جاء في الحديث القدسي عن الله عز وجل: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا".

(رواه أبو داود. 2936)

ضياء: لقد أصلح أخي كل شيء.

فقد سجل باسمي المعرض والمخازن - وأنا غائب، إبراءً لذمته أمام الله.

ص: 173

صفاء: القبر ضيق يا شيخ عارف.

وموت ولدي نبهني لخير كثير.

عارف: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} .

ضياء: نريد أن تكتب لنا عقد الشركة.

عارف: الكتابة واجبة.

وأطول آية في القرآن توجب توثيق العقود.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}

وكررت الآية الكريمة الأمر بالكتابة

{وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}

[البقرة 282]

صفاء: نودُّ أن نعرف كل ما في الآية الكريمة من أحكام لنبني شركتنا على هدى الله.

عارف: ركزت الآية الكريمة على تنظيم جانب المعاملات بين الناس، صيانة لحقوقهم.

ضياء: مع أن الآية الكريمة نزلت على أُمة أُميّة.

ومع ذلك

ص: 174

أوجبت كتابة العقود.

لتفرض على الأُمة تعلم الكتابة.

عارف: ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.

أما عن الآية الكريمة.

فتضمنت عدة أحكام.

أولاً: أوجبت الآية الكريمة - أو على الأقل - ندبت إلى كتابة العقود؟

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوه}

ثانياً: جعلت حق إملاء العقد للجانب الضعيف ففي عقد الدين يُملى المدين صيغة العقد.

وفي عقد العمل، يُملى العامل صيغة العقد.

وفي التعاقد بين المنتج والمستهلك يُملي المستهلك.

وفي ذلك منفعة للطرفين.

أولاً: منفعة للمدين.

حتى لا تُلجئه الحاجة إلى قبول شروط مهينة يمليها عليه الدائن.

ص: 175

ثانياً: منفعة للدائن.

لأنّ المدين إن أملى العقد بنفسه أخذ العقد صيغة الالتزام.

والإقرار على النفس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:

" لا ضرر ولا ضرار ".

ثالثاً: طلب القرآن وساطة كاتب عدل.

ليس طرفاً في العقد.

قال تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}

وأوجبت على الكاتب أن يكتب شكراً لله الذي علمه

{وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} .

قال صلى الله عليه وسلم:

" وفضل علمك تجود به على من لا علم له صدقة ".

رابعاً: أوجب القرآن - أو ندب - إلى الإشهاد على العقد.

بل جعل بعض العقود لا تتم صفتها، ولا تأخذ حكمها الشرعي، إلا بالإشهاد عليها.

كعقد الزواج.

قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ

ص: 176

وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .

خامساً: أوجب على الشهود تحمل الشهادة.

قال تعالى:

{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}

أي لا يمتنعوا عن تحمل الشهادة عند كتابة العقد.

ضياء: الشهود يأبون التحمل خوفاً من

تكاليف الأداء في ساحة القضاء، إذا لزم الأمر.

عارف: ألزم الله المتعاقدين دفع أي ضرر يقع على الكاتب أو الشهود {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} .

فأي ضرر يقع عليهما بسبب تحمل الكتابو، أو تحمل الشهادة، يجب على المدعي أن يتحمله.

واعتبر القرآن الكريم وقوع الضرر بالكاتب أو الشهود لوناً من الفسوق قال تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} .

ص: 177

وقد دعا الإمام القرطبي إلى تعيين جماعة من المسلمين، يقومون بتحمل الشهادة في مثل هذه العقود.

ويرفعونها إلى القضاء عند الحاجة ويُصرف لهم راتب من بيت مال المسلمين.

وهذا هو المعمول به في (الشهر العقاري)(والكاتب العدل) الآن في بعض البلاد العربية.

سادساً: أوجب على المسلم أداء الشهادة أمام القضاء.

وتبليغها بأمانة.

لأن شهادة الزور هدم للعدل.

وضياع للحقوق.

قال تعالى: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُ}

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء 135] .

ص: 178

وقد مدح القرآن عباد الرحمن فقال: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان 72] .

ضياء: حكم القرآن كل شيء.

حتى لا يترك ثغرة للمتلاعبين.

ولكن البيع والشراء يصعب فيه كتابة العقود وتوثيقها.

عارف: استثنت الآية الكريمة ديون البيع والشراء من وجوب الأشهاد والتوثيق.

لأن البيع والشراء يقتضي السرعة، واشتراط التوثيق في كل مرة يُوقع التاجر في حرج، ربما يدفعه إلى منع البيع بأجل.

فيقع المستهلك في حرج.

قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} .

وقد أخذت القوانين الوضعية بهذا المبدأ.

واعتبرت "دفتر المبيعات" وثيقة قانونية يمكن للتاجر أن يثبت بها دعواه.

ص: 179

ضياء: مازال بعض الناس بخير يا شيخ عارف.

عارف: والقرآن لم ينف هذا.

فقد جعل التعامل مع الناس ثلاث درجات.

درجة أوجب فيها الكتابة.

سواءٌ في ذلك العقود الموثقة، أو الكتابة في مذكرة خاصة {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} فغن تعذرت الكتابة فقد شرع القرآن الرهن.

توثيقاً للدين قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وللرهن أحكام في كتب الفقه (1) .

الدرجة

(1) الرهن حبس عين ذات قيمة في مقابل دين.

ويجوز في السفر - كما نصت الآية الكريمة - لأنَّ الغالب في السفر عدم إمكان توثيق الدين.

ويجوز في الحضر أيضاً "روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهن درعه"

ص: 180

= وكان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.

ولا يجوز للمرتهن - صاحب الدين - أن ينتفع بالرهن.

لأن انتفاعه به استثمار لدينه.

وكل قرض جر نفعاً فهو رباً - كما قال علي بن أبي طالب.

أما إذا كان الرهن بحاجة إلى نفقات - كالحيوان المرهون مثلاً، فيجوز للمرتهن أن يشرب لبنه وأن يركبه في مقابل إطعامه وحفظه.

قال صلى الله عليه وسلم: الظهر يركب إذا كان مرهوناً، واللبن يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً.

وعلى الذي يركب ويشرب النفقة.

رواه البخاري.

وقد أخطأ كثير من الناس حكم الله في الرهن إذا حل أجل الدين وعجز المدين عن فك الدين.

فأباحوا لأنفسهم مصادرة الرهن.

وهذه عادة جاهلية، حرمها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه وأضاف سعيد بن المسيب في روايته: له غنمه وعليه غرمه.

رواه الشافعي والدارقطني.

ومعنى لا يغلق - أي لا يصادر، وعلى هذا فإذا مضى أجل الدين: وعجز المدين عن فك الرهن يجوز بيعه.

ويستوفى الدائن حقه، ويرد الزائد إلى الراهن، لأنَّ الاستيلاء على الرهن يجر منفعه محرمة للدائن.

(راجع سبل السلام جـ 3، فقه السنة جـ 3.

فتح الباري حـ 5) .

ص: 181

وتقوى الله حصن من الخيانة.

ضياء: الآية الكريمة رسمت منهجاً متكاملاً لصيانة الحقوق.

ولكن موضوع شهادة المرأة يحتاج إلى بعض التوضيح.

عارف: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}

تضل - هنا - بمعنى تنسى.

وقد حدث أن وقفت امرأة للإدلاء بشهادتها، ووقفت الأُخرى تلقنها ما تقول.

فاعترض القاضي وأمرها بالسكوت.

فقال له {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}

فسكت القاضي.

وللوقوف أمام القضاء رهبة.

فناسب أن تستعين المرأة بأُختها في مجلس القضاء.

يا ضياء

الإسلام يحترم التخصصات.

ففي الأُمور التي تخصص فيها الرجل.

شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين.

وفي الأمور التي

ص: 182

تخصصت فيها المرأة شهادة المرأة تعدل شهادة الرجل.

ففي سورة النور جاء حكم "اللعان" وفيه أن ارجل يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين.

{وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}

وفي مقام دفاع المرأة عن نفسها،

وردها لشهادة الزوج تقسم المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين.

{وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}

[النور 96] .

فالمرأة تقسم نفس العدد في هذا المقام.

بل إن شهادة المرأة قد تصل في تخصصها إلى أكثر من ذلك.

فقد تعدل شهادة رجلين ويأخذ القضاءُ بشهادتها وحدها وعلماءُ المذهب الحنفي يأخذون بشهادة القابلة وحدها إذا أخبرت بأن الجنين ولد حياً ثم مات ويرتبون على ذلك أحكاماً في الميراث.

ص: 183

ضياء: لم أفهم المسألة.

عارف: حدث في بغداد أن انقلبت سيارة.

مات فيها الزوج والزوجة قبل وصول عربة الإسعاف ولم ينج سوى الخادمة وعند توزيع التركة توقف الحكم على شهادة الخادمة وحدها.

فعندما شهدت أن الزوجة ماتت بعد زوجها بعدى دقائق.

حكم القضاءُ بأنّ الزوج قد مات، وترك زوجته على قيد الحياة.

لعدة دقائق.

فحكم للزوجة بنصيبها من زوجها، ثم ماتت بعده.

فورثت أُسرتها نصيبها.

صفاء: أخذ القضاء بشهادتها وحدها لعدم وجود غيرها.

عارف: وقد يحدث أن تتعارض شهادة المرأة مع شهادة الرجال.

فيأخذ القضاء بشهادة المرأة.

فلو شهد أربعة من الرجال على امرأة بكر بالزنا.

ثم قررت امرأة واحدة بأن الفتاة لم تزل بكراً، تقبل

ص: 184

شهادة المرأة الواحدة، وتسقط العقوبة عن المرأة المتهمة.

فلا التأْنيث في اسم الشمس عيب

ولا التذكير فخر للهلال

يا صفاء

إن الله سبحانه خلق الزوجين الذكر والأُنثى.

ولكل إنسان دوره في الحياة ورسالته.

ولم يختلف عاقلان في أنّ الرجل أقوى على التحمل والأداءِ من المرأة.

ضياء: يقولون: إن الرجل هو المسؤول عن ذلك، لأنّه حبس المرأة على طول العصور فضعفت.

عارف: "يضحك ويقول: إذن الديك هو المسؤول أيضاً عن ضعف الدجاجة".

يا ضياء: علماءُ الخلايا يقررون أنّ كلّ خلية في الرجل تختلف تماماً عن خلية المرأة.

والمرأة تتمتع بأُنوثتها أكثر مما

ص: 185

تتمتع بقوتها لو كانت بطلة في كمال الأجسام.

ضياء: أنساني الحديث أن أُبلغك تحيات صاحب (معمل الطحين) الذي كنت أعمل فيه ببغداد فهو يعرفك.

عارف: "يخفض رأسه، ويدور بها خواطر السنوات الطوال، ويسأل: "أكنت تعمل عند الحاج رشيد؟ الآن اطمأن قلبي عليك.

فهذا الرجل لا يضام من جاوره.

كنت دائماً أقول الأُمة العربية أُمة كريمة، وشعب العراق شعب أصيل.

والحاج رشيد وحده يكفي دليلاً على ذلك.

{اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} استودعكم الله.

ص: 186