الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللقاء السابع
في هذا اللقاء
* منفعة بين إثمين.
* سر الإنسان كعِرضه.
* الهضم شيء آخر.
* دلالة الاجتناب أوسع.
* اجلدوا الصائم أولاً.
* ما ذنب هؤلاء؟.
* هل تضر مع الإيمان معصية؟.
* نحو منهج للعلاج.
لم يستطع مكارم أن يعيش في الجامعة منطوياً على نفسه كما كان في القرية ، فالعاصمة
…
والاختلاط
…
وصعوبة السكن
…
فرضت عليه الانطلاق
…
وحتى يجاري من حوله، بدأ الطريق طريقاً شائكاً
…
أوله زجاجات "البيرة" وآخره الخمر وأقراص المخدرات.
سار في الطريق المنحدرة تشده جاذبية الخطيئة.
وعلى الأرض بدأ يجني الحصاد.
مكارم: قلَّ مالي.
وانصرف الأخيار من حولي.
وتراكمت علي الديون.
لولا راتب زوجتي، وبقية من الحياء تمنعني من أخذه، لتعسرت في ثمن الطعام.
لعل هذا أمر سهل.
ولكن الطامة الكبرى هي عجزي عن حفظ سر نفسي، فضلاً عن أسرار
الآخرين.
أصبحت أجود بأخص أسراري بلا ثمن والسر كالعرض تماماً.
إذا لم يحفظه صاحبه يعبث به الآخرون.
وكلما حاصرتني المشكلة، زاد تناولي للأقراص.
أبحث عن النسيان، وغيري يعتبر النسيان مشكلة.
عارف: النسيان نعمة من الله.
لولاه لتزاحمت المشكلات في أذهاننا فنصاب بالجنون.
ولكنك يا مكارم أخطأت الطريق، وعالجت الداء بالداءِ.
الهروب من المشكلة لا يعني حلها.
ولا يعين عليه.
لماذا لم تكن جاداً، وتحاول حل المشكلة بنفسك.
يا مكارم
…
إن تخدير العقل انتحار لشخصية الإنسان الداخلية.
والإنسان بعقله وقلبه.
أما الجسد فمجرد صندوق لحفظ الجوهرة.
مكارم: جئت أبحث عن الحل.
وأطلب العلاج.
عارف: رغبتك في العلاج هي أول الطريق.
ومنهج الشريعة الإسلامية هو العلاج الوحيد.
لقد نجح في علاج أُمة مخمورة.
بكلمات من هدي الله.
والناس بحاجة إلى هدي الله كحاجتهم إلى رزقه.
يا مكارم
…
إن الشريعة الإسلامية حرمت الخمر على مراحل.
تدريباً للناس على الامتناع.
وأول هذه المراحل هي ترسيخ العقيدة في قلوبهم.
مما أكسب الأوامر والنواهي الشرعية قداسة في النفوس، جعلتها تلتزم بأوامر الله.
وتجتنب نواهيه.
مكارم: هذا هو السبب في الحقيقة.
لقد خسر العالم كثيراً عندما عاش بمعزل عن هدي الله.
ذكر اللواء محمود شيت خطاب: أنّ خسائر الولايات المتحدة على المدنين بلغتْ ستة وخمسين ألف مليون دولار عام 1978
ومع ذلك تضاعف عدد المدمنين عشرين مرة عن عددهم عام 1964.
عارف: أحسنت يا مكارم.
بعد أن استقرت العقيدة، بدأ القرآن رحلة التشريع.
وقد جاء التحريم للخمر على مراحل - كما قلت لك - فمنذ العهد المكي قابل القرآن بين السَكَر وبين الرزق الحسن.
والمقابلة تقتضي المغايرة.
فالسَكَر ليس رزقاً حسناً.
قال تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل 67] .
كان هذا في مكة..
وبدأت النفوس تتعفف عنها.
مع أنها لم تُحرم بعدُ.
وفي المدينة نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة 219] .
وأدرك الصحابة أن
القرآن الكريم وضع منافع الخمر المادية بين إثمين.
{فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِير} {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}
ولا خير في منفعة مادية محاطة بإثمين.
فالدنيا لا تُغني عن الآخرة.
ومرت الأيام..
وبدأت النفوس مرحلة الشك في منفعة الخمر.
وشاء الله أن يصلي أحد الصحابة ويقرأ في صلاته: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}
[أول الكافرون] .
قرأها بدون (لا) قرأها أعبد ما تعبدون "فنزل تحريم الصلاة وهم سكارى.
القرآن ينهاهم عن الصلاة وهم سكارى.
ولم ينههم عن السكر.
فدفعهم الحرص على الصلاة إلى ترك السكر
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}
[العنكبوت 45]
مكارم: امتنعوا عن الشرب، مع أن الآية الكريمة لم تنههم عنه -
هذا والله هو سلطان العقيدة في النفوس.
عارف: الصلاة - كما تعرف - موزعة من الفجر إلى العشاء فلا وقت للسكر سوى الليل.
وبعضهم {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}
لأنهم كانوا {قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
وهؤلاء امتنعوا عن الخمر قبل تحريمها.
لقد هيأهم القرآن نفسياً قبل أن يحرمها عليهم.
فلما تنازع صحابيان في مجلس سمر، وقد لعبت الخمر برؤوسهم فتسابا.
تضرع عمر إلى ربه أن يُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم
بياناً شافياً في الخمر.
فنزلت كلمة الله الخاتمة بالتحريم المطلق.
لما سألهم القرآن {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}
قالوا انتهينا يا رب.
هذه كلمة الله الأخيرة في موضوع الخمر.
مكارم: لماذا لم يُصرح القرآن بلفظ التحريم؟
عارف: كلمة {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}
أليست تصريحاً بالتحريم؟.
مكارم: أعني كلمة {فَاجْتَنِبُوهُ} .
عارف: الأمر بالاجتناب لا يستعمله القرآن إلا في النهي عن الأُمور الكبيرة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى}
[الزمر 17]
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى 37]
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
[النحل 36]
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
[الحج 30]
فكلمة {اجْتَنِبُوا} ومشتقاتها لا يستعملها القرآن إلا
في النهي عن الأُمور الكبيرة.
لأنّ الاجتنباب يفيد التحريم وزيادة.
فلة قلت لزوجتك لا تكلمي أخاك.
ثم دخلت عليها فوجدتها تجلس معه ولا تكلمه.
فقد استجابت لأمرك.
أما لو طلبت منها اجتنابه فليس من حقها أن تجلس معه فضلاً عن مكالمته
…
بدون تشيبه ولله المثل الأعلى - الأمر باجتنباب الخمر يعني
عدم شربها وبيعها والجلوس مع شاربها.
عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقْعُدَنَّ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا بِالْخَمْرِ.
(رواه أحمد. 120)
وروى أن عمر بن عبد العزيز أمر بجلد جماعة شربوا الخمر.
فقيل له: إن فيهم فلاناً، وقد كان صائماً ، فقال عمر ابدؤوا به الجلد.
[النساء 140] .
فالأمر بالاجتناب.
يتسع ليشمل شربها والجلوس مع شاربها.
وعصرها، وبيعها، وأكل ثمنها، وغير ذلك مما لا تتسع له كلمة التحريم.
مكارم: أعتقد أنَّ رسوخ العقيدة في قلوب المؤمنين هو الذي هيأهم للالتزام.
فاستطاعت كلمات القرآن أن تفعل ما عجز الغرب وأمريكا عن فعله.
عارف: رسوخ العقيدة.
وسلامة منهج التشريع أمران لا يمكن الفصل بينهما.
وقد قمت بدراسة علمية حاولت فيها أن أتعرف
على الحكمة من التدرج في تحريم الخمر.
وخرجت من دراستي بنتيجة إيجابية أرجو أن يستفيد منها من يأتي بعدي.
وحسبي أنني دللته على الطريق؟
في عام 1964 اكتشف بعض العلماء أن المخ مزود بخلايا قابلة لاستقبال المواد المُخدرة كالمورفين.
وأثار هذا الاكتشاف تساؤلات كثيرة في ذهن العلماء.
من هذه التساؤلات: لماذا خلقت هذه الخلايا في مخ الحيوان؟
وما دور هذه الخلايا عند المدمنين للمخدرات؟
وهل يمكن أن تكون هذه الخلايا معطلة عند غير المدمنين؟
تساؤلات كثيرة.
دفعت العلماء إلى الدراسة المعملية الجادة،
التي أوصلتهم إلى اكتشاف سر عجيب.
فبعد أعوام من الدراسة المتواصلة اكتشفوا أن المخ به
خلايا تفرز مادة مهدئة تعمل على تسكين آلام الجسم الداخلية.
فالمخ ينتج مادة مهدئة للآلام.
وتقوم خلاياه باستقبال هذه المادة والإفادة منها.
توازن داخلي عجيب.
جعل العلماء يقولون: سيأتي اليوم الذي لا يُسمح فيه ببيع المخ من رأس الذبيحة لأنَّ شركات الأدوية ستحصل على المخ الحيواني لاستخراج هذه المادة منه.
كما تقوم الغدة النخامية بفرز مثل هذه المادة لتسكين الآلام.
معامل تخدير بداخل الجسد.
لأنّ الحيوان لا يجد من يشكو له آلامه.
مكارم: أي مادة هذه يا شيخ عارف؟
عارف: أطلق عليها العلماءُ اسم "بيتا أندورفين".
مكارم: يعني - مسكن داخلي.
عارف: سبحان الله - الجسم عالم متكامل.
وتوازن عجيب.
مكارم: ما دام الأمر هكذا.
فالمخدرات تقلل من إنتاج الجسم الداخلي لهذه المادة.
عارف: كلما زادت الجرعة الخارجية قبل إنتاج الجسم الداخلي، حتى تتوقف الغدد تماماً عن إنتاج "البيتا أندورفين" في حالة الإدمان.
مكارم: لعل هذا هو السبب في الانهيار الذي يصيب المدمن إذا امتنع عن التعاطي مرة واحدة؟.
عارف: لست طبيباً حتى أقطع في هذه الأمور.
ولكنني أتتبع كل ما ينشر في هذه المجالات.
وأُناقش الأطباء المتخصصين.
وأعرف أن الطب الآن
يمكنه أن يثير خلايا الفصِّ الأمامي في المخ (بمرور تيار كهربائي مستمر ضعيف) فيقوم المخ بفرز مادة "الأندورفين" أو المسكن الداخلي - كما قلت لك - المهم لأنَّ تعاطي المخدرات يقلل نم إنتاج الجسم لمادة "البيتا أندورفين" حتى يتوقف الإنتاج الداخلي تماماً في حالات الإدمان.
فإذا رغب المدمن في العلاج فعليه أن ينقص من كل قرص (ربع قرص) مثلاً - فسوف تبدأ خلايا المخ في الإنتاج لتعوض النقص.
وبعد أُسبوع أو شهر ينقص الكمية (ربع قرص آخر) وهكذا فإن لاجسم سيقوم بتعويض النقص الخارجي، حتى تستعيد الخلايا نشاطها.
ويستغنى الجسم عن المخدر كيوم خلقه الله.
ولعل هذا هو السبب في تحريم الخمر على مراحل.
يا مكارم..
لقد عالج القرآن أُمة
مدمنة بكلمات من وحي الله.
مازالت تُقرأ على أسماعنا.
بينما فشل العالم (في عصر الفضاء* في وضع علاج للمشكلة.
أحد الغربيين دخل مصحة لعلاج المدمنيين.
وقضى بها عدة أشهر، ويوم خروجه منها أقام أصدقاؤه حفلاً بمناسبة شفائه من الإدمان، وقام هذا الرجل بشرب الخمر معهم ابتهاجاً بهذه المناسبة.
أما عن سلفنا فقد اشترى أحد الصحابة قافلة من خمر الشام، ولما وصل بها إلى المدينة لبيعها، علم أن الله حرم الخمر.
فأناخ الجمال وسكب ما عليها من خمور.
"تدخل شيماءُ وتخبر والداها بأن جهاز التليفزيون تعطل وهي تريد مشاهدة أفلام كرتون" فسأل عارف ضيفه: هل تعرف أحداً يجيد إصلاح هذا الجهاز؟
مكارم: توكيل الشركة المنتجة للجهاز أفضل.
عارف: أحسنت..
منتج الجهاز أعلم بسره، وأقدر على إصلاحه.
والله سبحانه أقدر على هداية خلقه - ولله المثل الأعلى - يا مكارم
…
الإسلام هو التوكيل الوحيد في الأرض القادر على إصلاح الناس {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}
[الكهف 17]
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}
[آل عمران 85] .
مكارم: إن العالم جرب كل وسيلة فلم يخفف من شقائه
لماذا لا يُجرب الإسلام؟!
عارف: لأنَّ واقع الأُمة الإسلامية اليوم لا يجلي عظمة الإسلام للجاهلين به.
بل ربما يسيء واقعهم إلى الإسلام نفسه.
وأذكر أن أحد علماء الغرب أسلم وهو في بلده.
ثم زار بعض بلاد المسلمين
فقال: الحمد لله الذي هداني للإسلام قبل أن أرى المسلمين.
مكارم: الإسلام نور، ومن يغمض عينيه دون النور يُضير بعينيه،
ولا يضير النور.
بقى عندي كثير من التساؤلات التي يثيرها من كنت أجلس معهم من السكارى.
يقولون: إن المشروبات التي يشربونها اليوم تختلف عن الخمر الذي حرمه القرآن.
عارف: الخمر كل ما خامر العقل وغيبه.
وكل ما أسكر كثيره فقليله حرام.
يذكرني كلامهم هذا بما رواه عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال:
"يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ بِاسْمٍ يُسَمُّونَهَا إِيَّاهُ".
(رواه ابن ماجة. 3376)
وفي رواية أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لَا تَذْهَبُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ حَتَّى تَشْرَبَ فِيهَا طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا".
(رواه ابن ماجة. 3375)
فتغيير الأسماء لا يعني تغيير الحكم.
فكل مسكر خمر.
روت عائشة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ مَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ".
(رواه الترمذي. 1789) .
والْفَرَقُ كيل معروف بالمدينة.
والإمام الشوكاني يقول: المراد بالفَرَق وملء الكف التمثيل،
فالتحريم يشمل مقدار القطرة الواحدة ونحوها..
مكارم: بعضهم لا يسكر حتى شرب قنطاراً.
عارف: هؤلاء تسممت أجسامهم.
والأصل في السكر وعدمه الرجل العادي.
مكارم: بعضهم يتداوى بها.
أو على الأقل يدعي هذا.
عارف: الشفاءُ بما مظنون.
والتحريم متيقن.
والمظنون لا يدفع المتيقن.
فتاوى الإمام عبد الحليم محمود يا مكارم
…
إن الخمر لم يتعين للتداوي.
فالعلم كل يوم يكشف جديداً في علم الدواء.
وما سمعنا عن طبيب وصف الخمر لمريضه أبداً.
ولكن السكارى من الناس يصفونها للمرضى.
ويقولون: اسألْ مُجرب.
ولا تسأل طبيباً.
{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}
[النساء 27] .
الخمر داءٌ
…
فكيف تتصور أنه دواءٌ؟!
مكارم: الخمر يساعد على الهضم مثلاً
…
ومع هذا فهناك أدوية بديلة تساعد على الهضم.
عارف: لماذا لا تأكل المقدار الذي تطيقه المعدة فقط؟
الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينصح دائماً:
بقوله ثلث لطعامك.
وثلث لشرابك.
وثلث لنَفَسك.
وشعور شارب الخمر بسرعة الهضم خداع.
الذي يحدث أن الخمر يسبب احتقاناً في جدار المعدة،
فيقوم جدار المعدة بفرز مقدار من المخاط ليحمي نفسه من القرحة.
وتحاول المعدة طرد كل ما فيها من طعام في أسرع وقت.
بدون أن يستفيد منه الجسم.
وهذا الطرد السريع هو الذي يتوهمه شارب الخمر سرعة هضم.
"راجع اليد الطبي للدكتور كيلوج" فالشعور بالهضم خداع.
وخطورتها على جدار المعدة حقيقة ثابتة.
مكارم: والشعور بالدفء خداع أيضاً؟.
عارف: يا مكارم حرارة الجسم ثابتة - كما تعلم - فإذا تعرض الإنسان للبرد الشديد فإن أعضاء الجسم الظاهرة كالأطراف مثلاً يمكن أن نجلب لها الدفء أما الأعضاء الداخلية فلا نستطيع إدفاءها.
لذلك
…
يقوم الجسم بتضييق الأوردة التي تحمل الدم إلى الأطراف.
وتوسيع الأوردة التي تحمل الدم داخل الجسم، ليضمن تدفئة.
الأعضاء الداخلية.
والخمر يُحدث عكس ما يريده الله.
فهو يوسع الأوردة المتجهة بالدم إلى الأطراف.
فتشعر بالدفء بينما يقل الدفء الداخلي بدون أن تشعر فالله يريد إدفاء المخ.
والخمر تدفئ الأطراف على حساب المخ وبقية الأعضاء الداخلية الأُخرى.
مكارم: أنا أتألم من البرد إذا أصاب يدي.
عارف: كل عضو يمكن أن ندفئه بلبس الصوف مثلاً ومع ذلك يؤدي وظيفته.
إلا العين لو حاولنا إدفاءها فسوف تتعطل وظيفتها.
من أجل ذلك جعل الله جلد العين لا يحس البرد، ولا يتأثر به.
مكارم: إن الله نظم جسم الإنسان تنظيماً عجيباً.
عارف: والخمر تهدم نظام الله في جسم الإنسان.
مكارم: إن بعض المرضى يشربونها لتسكين آلامهم فقط مدة العلاج.
عارف: مشكلة هؤلاء أن آلام تبرأ بالعلاج، ويظل الجسم يطلب بعد ذلك يتطلب الخمر أو المخدر، لأنها خالطت الدم.
مكارم:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ
…
وداوني بالتي كانت هي الداءُ
عارف: أجل.. هي الداءُ. وليست الدواء.
وهذا ما قاله المعصوم صلى الله عليه وسلم عندما سأله طارق بن سويد عن الخمر يصنعها للدواء.
عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ طَارِقُ بْنُ سُوَيْدٍ أَوْ سُوَيْدُ بْنُ طَارِقٍ
سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَنَهَاهُ فَقَالَ لَهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهَا دَوَاءٌ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا وَلَكِنَّهَا دَاءٌ"
(رواه أبو داوود. 3375) .
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: نَبَذْتُ نَبِيذًا فِى كُوزٍ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْلِى فَقَالَ مَا هَذَا قُلْتُ اشْتَكَتِ ابْنَةٌ لِى فَنَعَتُّ لَهَا هَذَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
(رواه البيهقي. 20171)
مكارم: الحمد لله - قد امتنعت عن الخمر فلن أشربها إلا في المناسبات فقط.
عارف: أبو النواس تاب على يد أحد الصالحين.
وعاهده ألا يشرب الخمر إلا في حالتين فقط.
إذا كان مسروراً، أو كان حزيناً ، فكانت النتجة أنه شربها يوماً لأنه مكروب.
وشربها في اليوم الثاني لأنَّ الله قد فرج كربه، وهكذا لا تخلو حياة الناس من الفرح والحزن.
مكارم: لعل الأقراص المخدرة أقل حرمة وضرراً.
عارف: "يهزُّ رأسه ويقرأ: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} ؟
مكارم: يبتسم ويقول: لا خير فيهم ولا في قوم تُبع.
عارف: لا خير في الخمر ولا في المخدر.
احضر كتاب
"سبل السلام للصنعاني" يفتح الجزءُ الرابع ص 1321
ويقرأُ: كل ما أسكر من أي شيء، وإن لم يكن مشروباً، فهو حرام.
كالحشيش والأفيون، لأنها تُحدث في الجسم ما يُحدثه الخمر من الطرب والنشوة.
وإذا سلمنا بعدم حدوث السكر فهي مُفترة.
وقد روى أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتٍّر.
وقال العلامة العراقي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخور في الأعضاء.
والإمام ابن تيمية قال عن المخدر: إنه شر من الخمر من بعض الوجوه، لأنه يصعب الفطام عنه، أي التخلص منه.
مكارم: كنت أسأل من أجل الذين تجمعني بهم مجالس الشراب أُريد إقناعهم.
عارف: لا أمل في العلاج ما دمت تجلس معهم.
فتأثيرهم عليك أخطر من دعوتك لإصلاحهم.
جدد حياتك.
وحاول أن تُنقض الكمية التي تتعاطاها بالتدريج، ليقوم الجسم بفرز "بيتا أندورفين" - كما قلت لك - وكلما مرَّ أُسبوع أنقصت الكمية، حتى تنشط الغدد الداخلية، وتستغنى عن هذا البلاء - إن شاء الله.
لقد عالجت قبلك بهذا المنهج ثلاثة من الشباب.
عادوا اليوم إلى رشدهم والحمد لله.
مكارم: اطمئن. {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}
[الكهف 22] .
عارف: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}
[الإسراء 70] .
مكارم: كرمهم بالعقل الذي نحاول قتله.
عارف: كلّ خلية في جسم الإنسان تموت وينشأ غيرها،
حتى قال العلماءُ: إن الجسم يتغير بكامله كل ست سنوات تقريباً.
إلا خلايا الأعصاب والمخ، فهي وحدها التي يولد بها الإنسان وتموت بموته.
خلايا الأعصاب والمخ لا تتغير أبداً.
مكارم: جهاز الأعصاب يحكم تصرفات الإنسان.
وندرك به السعادة والآلام.
إن هدأ هان كل شيء.
وإن ثار فعلى الدنيا السلام.
ومع ذلك فنحن نتلفه بأيدينا.
ثم يضحك ويقول -: إذا صحا ضميري لحظة من الوقت، واستنكر علي سلوكي.
فإنني أحاول خداع نفسي.
أخدعها بقولي: ما دمت أُؤمن بالله.
فلا يضر مع الإيمان معصية.
عارف: المعصية تضر بالإيمان نفسه.
فكيف لا تضر المؤمن؟.
وقولك "لا يضر مع الإيمان معصية"
يهدم كل القيم التي دعا إليها الإيمان.
فالإيمان النظري لا وزن له عند الله.
وكل آيات القرآن تربط بين الإيمان والعمل الصالح.
إن عشق الإيمان - بدون عمل - ينتهي بحسن الكلام عنه فقط.
ثم يطوى الأمر دون نتيجة.
وهذا لون الادعاء
[الصف 2 - 3] .
ويعجبني كلمة للأُستاذ الإمام محمد الغزالي:
إن الدين منهج كامل للرقي والتهذيب، ولكن الإفادة منه لا تتم بإدارة معلومات دينية بين الألسنة والأسماع، ولا باستيعاب أحكامه في الذاكرة.
فهذا التناول للدين قليل النفع، بل عديم الجدوى.
وقد جاء عن أحد التابعين: كنا نستعين على حفظ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمل بها.
فالمعصية تضر المؤمن ما لم يتب منها.
مكارم: أكثرُ من هذا يا شيخ عارف أنني كنت أقرأ قوله تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}
[المائدة 93] ..
فأقول: ما دمت مؤمناً بالله.
فلا يضرني طعام.
عارف: لو صح فهمك للآية الكريمة لأصبح كل محظورٍ حلالاً على المؤمن.
وهذا باطل.
هذه الآية الكريمة لا نستطيع فهمها إلا إذا عرفنا سبب نزولها.
وهو أن بعض الصحابة استشهد في سبيل الله وفي بطنه خمر - كان قتل قبل تحريمها - فسأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخوانهم: هل سينال أجر الشهداء، أم ستحول الخمر بينهم وبين الجنة؟ فنزلت الآية الكريمة تطمئنهم أن سبحانه لا يحاسب عباده على ذنب قبل أن يحرمه بالنص الصريح.
لأنه لا جريمة ولا عقوبة بلا نص.
مكارم: أعترف أنها أوهام عشت فيها.
وخدعت بها نفسي.
خدعت نفسي عندما تصورت أن الخمر وسيلة للنسيان.
وخدعت نفسي عندما اعتقدت أن الإيمان وحده يكفي بدون عمل أو التزام.
وخدعت نفسي من قبل عندما اعتقدت أنّ (العصرية) تعني أُن أَجاري السفهاءَ.
حتى لا يصفونني بالتخلف.
أسأل الله أن يتوب عليّ فلا أموت وفي بطني شيء منها.
عارف: قرأت في كتاب "موارد الظمآن" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد يشربها فلا تقبل صلاته أربعين يوماً.
ولا يموت وفي مثانته منها شيء إلا حرمت عليه الجنة.
فمن شرب خمر الدنيا حرمها في الآخرة.
ومع عذاب الآخرة فإن الشارب لا يفلت من التأديب في الدنيا.
فالنبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر تأدبياً له.
جلده أربعين جلدة.
وجلده أكثر.
جلد كل إنسان بما يؤدبه.
فمعادن الناس تختلف.
والقرآن الكريم يحدد عدد الجلدات كما فعل في حد الزنا وحدّ القذف.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل شرب الخمر فجلده النبي صلى الله عليه وسلم بجريدتين نحو أربعين جلدة.
وفعله أبو بكر أي جلد أربعين.
فلما كان عهد عمر بن الخطاب استشار الناس.
فقال عبد الرحمن بن عوف أخفُّ الحدود في الحدود ثمانون.
فأمر به عمر "متفق عليه"
مكارم: لماذا اقترح عبد الرحمن رضي الله عنه ثمانين؟
عارف: لأنه إن شرب سكر.
وإن سكر هذى.
وإن هذى افترى، وإن افترى وقع في أعراض الناس فجلده عمر حد القذف.
مكارم: هل من حق الحاكم أن يزيد أو ينقص في الحدود.
عارف: الإمام الشافعي رضي الله عنه اعتبر الأربعين هي الحد.
وما زاد عليها "تعذيراً" للقاضي أن يعاقب به، أو ببعضه، حسب حالة الشارب النفسية.
كما أن له أن يجلد الأربعين فقط.
ونحن قد أمرنا باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده.
جاء في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
أُتِيَ بِالْوَلِيدِ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ أَزِيدُكُمْ فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ فَقَالَ عُثْمَانُ إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا فَقَالَ يَا عَلِيُّ قُمْ فَاجْلِدْهُ فَقَالَ عَلِيٌّ قُمْ يَا حَسَنُ فَاجْلِدْهُ فَقَالَ الْحَسَنُ وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قُمْ فَاجْلِدْهُ فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ أَمْسِكْ ثُمَّ
قَالَ جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ
وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ".
(رواه مسلم. 3220) .
فالأربعون سُنّة. والثمانون سُنّة.
والقاضي بالخيار.
المهم حدوث التأديب.
والناس يختلفون في الحساسية والكرامة.
فمنهم من تؤدبه الكلمة ومنهم ما لا يهذبه ضرب الحمير.
مكارم: الجلد عملية بدائية.
تهين كرامة الإنسان.
عارف: ما هو البديل في تصورك؟.
مكارم: السجن.
عارف: قانون العقوبات في الإسلام مبني على المسؤولية الفردية.
فلا تتحمل نفسي أخطاء نفس أُخرى.
قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
[الإسراء 15]
وهذا هو العدل المطلق.
فعندما جلد الإسلام الجاني، تحمل الجاني وحده العقوبة.
أما عندما يودع في السجن فسوف يتحمل الأبرياء كثيراً من المتاعب بدون مشاركة منهم في الجريمة.
مكارم: السجن له وحده.
عارف: وزوجته
…
ماذا جنت حتى تعيش السنوات الطوال بلا زوج.
مكارم: من حقها أن تطلب الطلاق.
والقاضي يطلقها.
عارف: طلاق زوجته يضيف إليه عقوبة لم ينص عليها "قانون العقوبات"
ولم حكموا بالسجن، وخراب البيت، وضياع الأولاد.
ولكن كل هذا يحدث بالفعل.
فماذا جنى كل هؤلاء؟.
وما ذنب الدولة التي حكمت بسجنه؟
وكم تتحمل من نفقات على السجون؟
وكم تتحمل من خسائر نظير تعطيل الطاقات المنتجة داخل السجن.
مكارم: كما تتحمل نفقات التربية والتعليم في أيِّ مرحلة وهذا واجبها.
عارف: لا أنكر محاولة الدولة توجيه السجناء وإصلاحهم.
ولكنني لا أجهل الآثار السيئة لاجتماع السجين بمحترفي الإجرام داخل السجن.
فكثيراً ما يكون السجن مدرسة للانحراف.
وأسألك: لماذا يعمل بعض السجناء على العودة للسجن؟.
مكارم: لأنَّ الحياة تُغلق أبوابها في وجوههم.
عارف: تطاردهم لعنة الجريمة - حتى بعد توبتهم!!.
وُتغلق الحياة أبوابها في وجوههم.
فيرون السجن أرحم.
أما العقوبة في الإسلام فعقوبة تأديب، لا يتبعها مطاردة ولا لعنة.
لقد جلد النبي صلى الله عليه وسلم شارباً للخمر فلما سبَّه الناس ولعنوه، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا.
ولكن قولوا اللهم اغفر له. اللهم ارحمه.
"سبل السلام جـ 4 ص 28" وفي حادثة أُخرى قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:
" لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله ".
(مسند أبي يعلى. 164) .
فالعقوبة في الإسلام (فردية) .
لا يتحمل فيها الأبرياء شيئاً من العقاب، كما أنها (وقتية) لا يتبعها لعنة المجتمع، ولا تُغلق أبواب الحياة في وجهه.
بالله عليك السجن أم الجلد؟.
مكارم: أمران أحلاهما مرٌّ.
عارف: يا مكارم يا ولدي.
كنت أدرس التعويضات التي تجب في حالة الاعتداء على النفس.
فوقفت طويلاً عندما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزام من قوله صلى الله عليه وسلم: "في العقل الدية" أي الدية كاملة.
فمن اعتدى على رجل فضربه فأذهب عقله فعليه دية كاملة.
لأنَّ العقل يساوي النفس.
وما بقى من الإنسان بعد فقْدِ عقله فالقبر أستر له.
وأرحم به من عبث السفهاء.
ويحضرني أن قوماً من العرب استضافوا
امرأة، وسقوها خمراً، فلما عبثت الخمر بها سألتهم: أتشرب نساؤكم من هذه؟ قالوا: نعم.
قالت: والله إن أحدكم لا يدري من أبوه.
مكارم: الحمد لله أُمي لم تشرب خمراً.
"يضحكان
…
وينتهي المجلس".
الحل الأخير
* جاءت متأخرة
…
ولكنها جاءت.
* ما مصير المذنب بعد تعطيل الحدود.
* حيرتني يا شيخ عارف.
* (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) .
جاءت متأخرة
…
ولكنها جاءت تبحث عن نفسها
…
أين هي؟ وكيف الخلاص؟ ..
وماذا يمكن أن يقدم لها الشيخ؟
إن الإسلام لا يعرف (كرسي الاعتراف) .
وغير الله لا يهب المغفرة للمخطئين.
فكيف السبيل إلى الله؟
هي: ما جئت لأروي ذكريات الماضي.
ولكن جئت ألتمس الطريق.
لو كنت في بلد تقيم حدود الله لكنت (الغامدية الثانية)
فآلام الجسد سعادة إذا كانت لخلاص الروح.
ولو صعدت روحي إلى بارئها عند إقامة الحد لشعرت أنني شهيدة المتاب.
عارف: تعطيل الحدود لا يعني تعطيل المغفرة.
إن الله لا يحكم عباده بالسياط.
والشريعة الإسلامية تهتم بتوبة المسلم أكثر مما تهتم بعقوبته.
{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} ؟
[النساء 147] .
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألم عندما يقيم الحد على مسلم.
لكنه لا يملك بعد رفع الأمر إليه، أن يُعطل حدود الله.
خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ".
(الموطأ. 1299) .
بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحاول أن يدفع الحد عن المعترف بالزنا بإسكاته عند الاعتراف الأول، لأنّه لو اعترف أربع مرات فلابد من إقامة الحد عليه.
رُوي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وهو على وشك أن يصلي بالناس.
فقال له: أصبتُ حدًّا يا رسول الله.
فأشاح النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه.
ثم صلى بالناس.
فعاد الرجل إلى رسول الله بعد الصلاة فقال له: أصبت حدًّا يا رسول الله.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ألست صليت معنا؟ قال بلى يا رسول الله.
قال فإنّ الله قد غفر لك.
"المحلى لابن حزم.
وإعلام الموقعين.
فالشريعة الإسلامية فرضت العقوبات لتأديب الخارجين
على الجماعة العابثين بأمنها.
فإن تابوا فقد اهتدوا.
لقد اختلف العلماء في مغفرة ذنب من أُقيم عليه الحد.
هل عقوبة الدنيا تُسقط عنه عقوبة الآخرة أم لا؟.
ولكنهم لم يختلفوا في شأن التائب.
يقينا منهم أن التوبة تُسقط عقوبة الآخرة.
وهي التي جئت لتسألين عنها.
وإذا كان الزنا جريمة، والسرقة جريمة،
فإن استعمال القوة في الزنا والسرقة ينقلهما إلى
باب آخر في العقوبات.
ينقلهما إلى باب (الحِرَابة)(1) ويوقع الإسلام أقصى العقوبات على الفاعل.
[المائدة 33] .
(1) الحرابة: هي استعمال القوة في الاعتداء على أصحاب الحقوق كالسرقة بالقوة، والاعتداء على الأعراض بالقوة.
وقطع الطريق.
سواء حدث منه اعتداء على المارة أم لا.
مادام قد خرج بقصد إخافة الناس.
ومن الحرابة أيضاً - من خرج مسلحاً لاغتصاب أعراض الناس أو لاعتداء عليهم: ويعتبر الإمام مالك أخذ المال بالخداع - كأن يسقى صاحب المال شراباً مخدراً، أو يحقنه بمخدر، ثم يسلبه ماله أو عرضه يعتبرها حرابة يستحق عليها أحد العقوبات الأربع - التي نص عليها القرآن الكريم.
وقد اختلف الأئمة في توزيع العقوبات على الجرائم.
وسبب هذا الاختلاف هو اختلافهم في فهم كلمة "أو" في الآية الكريمة: هل هي للخير فللإمام الحق أن يختار العقوبة المناسبة للجريمة.
وهذا مذهب الظاهرية.
أم هي للتوزيع فلكل جريمة عقابها - كمت هو مذهب الأئمة الأربعة.
وتفصل الخلافات في كتب الفقه.
فاستعمال القوة في الجرائم يضاعف العقوبة.
ومع ذلك فالقرآن الكريم لم يُغلق باب التوبة في وجه المذنبين.
[المائدة 34] .
ولكن شرط التوبة الوحيد أن يتوبوا قبل أن تصل يد الحاكم (1)
جاء في حديث
(1) ذكر المرحوم عبد القادر عودة: أن علة قبول التوبة قبل القدرة عليه أنها توبة إخلاص غالباً - أما بعد القدرة عليه فهي توبة تقية - أي للهروب من العقاب.
وقبول التوبة قبل القدرة عليهم يرغب المحارب في التوبة والرجوع عن الإفساد فيجمي المجتمع من شره.
ويعتبر المحارب تائباً إذا أتى الإمام طائعاً قبل القدرة عليه.
ملقياً سلاحهز أو ترك تخويف الناس وإن لم يأت الحاكم.
الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ عاملة بالبصرة كتب إليه أن حارثة بن زيد حارب الله ورسوله.
فكتب إليه الإمام: أن حارثة بن زيد قد تاب.
قبل أن تقدر عليه.
فلا تتعرض له إلا بخير.
(بدائع الصنائع جـ 7 ص 96) .
فإذا كان القرآن الكريم يُصرِّح بقبول توبة قاطع الطريق.
فكيف لا يقبل الله توبتك!!.
إن التوبة تجبُّ ما قبلها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ".
(رواه مسلم. 4936) .
هي: الأمل في الله كبير.
ولكنني جئت متأخِّرة.
عارف: ولكنك جئت والعبرة بالخواتيم.
هي: كنت أتمنى التوبة من قريب
[النساء 17]
وأنا لم أكن جاهلة بحكم ما أفعل.
ولم أَتب من قريب.
عارف: (الجهالة) في الآية الكريمة معناها الضلالة.
وسواءٌ طال الوقت أم قصر تعتبر من قريب ما لم تبلغ الروح الحلقوم.
قال صلى الله عليه وسلم
"إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَيَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ".
(رواه ابن ماجة. 4243) .
فكل من تاب قبل الدخول في سكرات الموت
{فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}
[النساء 17]
هي: أراك تُيسِّر لي الطريق.
مع أنك إن أغلقت بابك - كما فعل غيرك - فلن أرجع للمعصية حسبي الندم الذي أعيش فيه.
عارف: (النَّدَمُ تَوْبَةٌ)
رواه ابن ماجة. 4242 -) .
"ما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر له قبل أن يستغفره منه"
(رواه الحاكم. 7754) عن عائشة رضي الله عنها.
هي: كلّ مكانٍ في المدينة التي عشت فيها شهد استهتاري ومعصيتي.
ليتني أملك أن أدخل كلّ بيت من هذه البيوت وأسجد لله تائبة.
لعلّ رحمة ربِّي حين يقسمها
تأْتي على حسب العصيان في القسم
عارف: لا داعي للطواف في البيوت.
فإذا تاب العبد أنسى الله عز وجل حفظته ذنبه، وأنسى جوارحه، وأنسى البقاع التي عصى الله عليها حتى يلقي الله وليس عليه شاهد.
(رواه الأصفهاني) .
هي: والله يا شيخ عارف.
كانت هذه الفرصة ستضيع مني، فأخسر بضياعها الدنيا والآخرة.
لقد نجوت من حادث سيارة مات فيها صاحبها قبل أن يغتسل من الجنابة.
وشعرت أن الله أعطاني فرصة للمتاب لن أَضيِّعها.
عارف: "إن من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة"
رواه الحاكم. 7710) . عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هي: فرحت بنجاتي كثيراً.
وبتوبتي أكثر.
عارف: الله أشد فرحاً منك بتوبتك.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ".
(رواه مسلم. 4932) .
هي: لماذا لا نسعى إلى الله بمثل هذا الشوق!!
أُعاهد الله على توبة لو رجعت بعدها للمعاصي أُحرم الجنة
عارف: لا تضيقي رحمة الله الواسعة.
فالله لا يملُّ المغفرة.
حسبك - اليوم - صدق العزم.
لأَنَّ التائب من الذنب وهو مُصرّ عليه كالمستهزئ بربه.
واتركي غداً لله.
فالله - سبحانه - لا يُغلق بابه أمام تائب.
عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ وَرُبَّمَا قَالَ أَصَبْتُ فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ أَوْ أَصَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا قَالَ قَالَ رَبِّ أَصَبْتُ أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلَاثًا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ ".
(رواه البخاري. 6953) .
إن الله لا يملُّ الرحمة.
مادام العبد صادق العزم عند توبته.
[النجم 32] .
فالله سبحانه علّل سعة مغفرته تجذبنا، والمادة تحبسنا عن إدراك الكمال.
والله سبحانه يمد يده إلينا لينقذنا.
[الزمر 53] .
إنّ الطين يغالبنا لولا أن الله سبحانه يمد إلينا يد الخير دائماً.
"إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"
"رواه مسلم. 4954) .
"وخطؤنا أننا نعلق التوبة على أُمنية يلدها الغيب
وتأجيل التوبة طريق إلى انحدار شديد"
"جدد حياتك للإمام محمد الغزالي".
هي: والأموال التي جمعتها.
عارف: كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به.
هي: سألت أحد الصالحين فقال: أحرقيها.
عارف: إجابة لا تتفق مع واقعية الشريعة
"إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ".
(رواه البخاري. 2231) .
هي: أَتصدقّ بها؟.
عارف: إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وحدث أن سرق رجل تفاحة ثم تصدق بها.
فقال له أحد العلماء: لماذا فعلت هذا؟
فقال: سرقتها فكتبت عليَّ معصية.
وتصدقت بها فكتب لي عشر حسنات.
فاستفدت تسع حسنات فقال له: سرقتها
فكتبت عليك معصية.
وتصدقت بها فلم يقبلها الله منك.
لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
هي: أتركه للبنك.
عارف: أَعَنْتي بذلك جهة أعلن الله الحرب عليها.
لأن هذه البنوك ربوية والله سبحانه قد أعلن الحرب على المرابين.
[البقرة 278 - 279] .
ومن أعان عدوك فقد حاربك.
هي: حيرتني يا شيخ عارف.
إن أكلتها.. فلحمي ينبت من حرام.
إن أحرقتها.. فالله كره إضاعة المال.
إن تصدقت بها.. فالله طيب لا يقبل إلا طيباً.
إن تركتها للبنك.. أعنت جهة أعلن الله الحرب عليها.
فما الحل؟!!
عارف: ما ذكرته لك هو ما أجمع عليه سلف الأمة،
ولكن العلماء في عصرنا أفتوا في مثل هذه الأموال، وفي فوائد البنوك الربويَّة، بجواز أن يفعل بها صاحبها فعلاً يفيد الإسلام، وينفع المسلمين، ولا يملكه شخص بعينه.
كبناء دار للعجزة والأيتام، أو مستشفى، أو دفعها للمجاهدين.
لا أقول لك إنَّها صدقة جارية.
ولكن أقول: هذا هو الحلُّ الوحيد.
فإن عرفتي غيره أهدى منه فافعلي.
هي: قال لي بعض الصالحين: يحرم دخولها والصلاة فيها مردودة.
عارف: سندخل مرة ثانية في الطريق المسدود.
نفذي هذا المشروع.
فالمال الذي تملكينه سيئة.
وتوجيهه إلى الخير يجعلك ممن قال الله فيهم:
[الفرقان 68]
فأموالك سيئات.
والبناء الخيريُّ عملٌ صالحٌ.
فلا حرج على فضل الله أن يحوِّل سيئاتِك إلى حسناتٍ.
هذا هو الحلُّ الأخيرُ.
تَمَّ الكتابُ، وللهِ الحمدُ والمِنَّةُ.