الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الحادي عشر
الكفر والكافرون
اقتباساً من المفاهيم الدينية، ودلالات النصوص القرآنية كتبت هذا الفصل عن الكفر والكافرين لأكشف به حقيقة الكفر، وواقع حال الكافرين، وأسباب كفرهم ودواعيه، ومناخ نمائه ونشاطه، وموقف المؤمنين منهم، وموقفهم من المؤمنين، وجدلياتهم، وأنواع عقوباتهم العاجلة والآجلة التي حذرهم الله منها إذا استمروا على كفرهم.
(1)
ما هو الكفر؟
أصل معنى الكفر في اللغة التغطية الكاملة والستر التام، يقال للابس السلاح الذي غطاه السلاح تغطية كاملة: كافر، لأنه ستر جسمه به ستراً كاملاً، ويقال للزارع: كافر، لأنه يدفن الحب في الأرض فيغطيه بالتراب تغطيه كاملة، ومنه قول الله تعالى في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول) :
{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ..} .
ويقال لليل المظلم: كافر، لأنه يستر بظلمته كل شيء، ويقال: كفر الليل الشيء وكفر عليه إذا غطَّاه، ويقال للبحر: كافر، لأنه يستر ما فيه، وهكذا تدور الكلمة في اللغة حول الستر والتغطية.
واستعملت هذه الكلمة في الاصطلاح الديني للدلالة على ما يقابل الإيمان، والداعي إلى تسمية إنكار الحق الديني كفراً، أنه قائم على ستر أدلة الإيمان العقلية والفطرية الوجدانية.
فالإيمان هو التصديق، والكفر عدم التصديق، وكل إيمان بشيء يستلزم كفراً بنقيضه، لذلك فكل مؤمن بالعقيدة الإسلامية الصحيحة كافر بنقيضها وبكل
مستلزمات هذا النقيض، ولذلك كان الإيمان بالله يقتضي الكفر بالطاغوت اقتضاءً حتمياً. وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
فلا يتم إيمان المؤمن حتى يكفر بكل الطواغيت ويؤمن بالله، ولذلك اشتملت عبارة التوحيد على السلب والإيجاب (لا إله إلا الله) ، فهي تشتمل على الكفر بكل إله سوى الله وعلى الإيمان بالله وحده لا شريك له.
أما غير المؤمنين بالعقيدة الإسلامية إيماناً صحيحاً فقد عكسوا القضية، فآمنوا بالباطل وكفروا بالحق، سواء أكان ذلك بصفة كلية لجميع أركان العقيدة الإسلامية، أو بصفة جزئية، وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :
ويقول الله تعالى في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول) :
وحين تطلق كلمة الكفر ومشتقاتها في الاصطلاح الديني فالمراد منها الكفر بما يجب الإيمان به، أو يجب الإذعان والخضوع له، إلا أن توجد قرينة تصرف إلى معانٍ أخرى تتصل بالمعنى اللغوي ككفر النعمة، وكفر العشير، ونحو ذلك.
فمن أنكر الإسلام ولم يقبل ما جاء فيه من حق فهو كافر، ومن أنكر أي شيء ثابت في الإسلام بصفة قطعية فهو كافر، لأنه جاحد دين الله مكذِّب لرسوله فيما جاء عن ربه.
فجحود بعض اليقينيات الدينية يكفي للحكم بالكفر، ولا يتوقف الحكم بالكفر على إنكار الدين كله، لأن العقيدة الإسلامية متماسكة الأركان، متماسكة العناصر تماسكاً كاملاً من جميع الأطراف، وهي كلٌّ لا يقبل التجزئة، فمن أنكر بعضها مما هو ثابت بيقين فهو بها كافر، ومن كذَّب الرسول بشيء قد ثبت عنه يقيناً فقد كفر بنبوته، ومن كفر بنبوة الرسول فقد كذب شهادة من أرسله، وهكذا تتسلسل نواقض عناصر الإيمان، حتى تصل إلى الجذر الأساسي فتنقضه وهذا هو الكفر الأكبر.
والكفر دركات بعضه أشد من بعض، وبعضه أقبح من بعض، والإلحاد القائم على إنكار الخالق إنكاراً كلياً أشد وأقبح أنواع الكفر.
* أصناف الكافرين:
إذا أحصينا أحوال الكافرين وجدناهم أصنافاً لا صنفاً واحداً.
الصنف الأول: الضالون فكرياً، وهم الذين ضلوا سبيل المعرفة الإيمانية الحقة، وأعماهم التعصب عن رؤية الحق وإن بُيِّن لهم، فهم لا يستجيبون لداعي الحق مهما لفت أنظارهم إليه، لأنهم غير مستعدين نفسياً لتغيير عقائدهم الضالة، ويظلون يؤمنون بالباطل ويزعمونه حقاً.
فهؤلاء هم الكافرون الضالون، وهم على مستويات بعضها أخس من بعض.
الصنف الثاني: المنحرفون نفسياً والجانحون جنوحاً أخلاقياً، وهم الذين يعرفون الحق، ولكنهم يصرون على مخالفته بدافع من الكبر أو الهوى أو التعصب أو بدافع من ضغط البيئة الاجتماعية وخوف انتقادها ولومها أو ضغط القادة المضلين أو خوف فوات منافع جارية ومصالح قائمة، أو نحو ذلك فهم من أجل ذلك يصرون على الكفر أو يسيرون في ركب الكافرين.
وهؤلاء هم الكافرون المغضوب عليهم، وهم شر مكاناً وأقبح كفراً، لأنهم يعرفون وينحرفون فلا يعترفون، وهم على مستويات بعضها أخس وأقبح من بعض.
الصنف الثالث: منافقون من فئة الضالين فكرياً.
الصنف الرابع: منافقون من فئة المنحرفين نفسياً الجانحين جنوحاً أخلاقياً.
والمنافقون مخادعون جبناء يتظاهرون بالإسلام نفاقاً، ويبطنون كفرهم القائم على الضلال، أو القائم على الانحراف والإصرار على الباطل، وهؤلاء في الدرك الأسفل من دركات الكفر، لأنهم قد جمعوا قبح الكفر وقبح النفاق وما يلازمه من صفات الكذب والخداع والاستهزاء وغير ذلك من صفات المنافقين.
والنصوص القرآنية قد أوضحت أصناف الكافرين، واشتملت فاتحة الكتاب على ذكر المضلين والمغضوب عليهم، وهو يعم منافقي هذين الصنفين، وبسط القرآن أحوال أصناف الكافرين في مواضع كثيرة، وكشف صفاتهم وأعمالهم ببيانات مستفيضة.
* من يُحكم عليهم بالكفر؟
تطبيقاً للمفاهيم الإسلامية التي تحدِّد مواقع الكفر نستطيع أن نحكم بالكفر حكماً إسلامياً على من جحد بذات الله أو بصفات الثابتة بيقين، أو جعل مع الله إلهاً آخر، أو أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو جحد بآيات الله وكتابه أو بشيء منه ثابت فيه بيقين، أو كذَّب الرسول بشيء مما بلَّغه عن ربه وثبتت نسبته إليه بيقين ثبوتاً قطعياً، أو أنكر شيئاً من أركان الإيمان، أو أركان الإسلام، أو جحد بحقيقة ثابتة في الإسلام ثبوتاً قطعياً.
لذلك حكم الله بالكفر على الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، فقال تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :
أي فالذي لا يستطيع دفع الهلاك عن نفسه إذا أراد الله أن يهلكه كيف تدَّعي له الإلهية، والإلهية هي للرب الخالق لا للعبد المخلوق.
والمسيح عيسى عليه السلام أمر قومه في دعوته لهم بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأوضح لهم أن الله ربه وربهم، خلقه كما خلقهم، وأوضح لهم أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه جهنم بسبب كفره وظلمه الكبير، قال الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :
وحكم الله بالكفر على الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة لأنهم جحدوا إحدى الحقائق الكبرى من حقائق الإيمان، وهي حقيقة أن الله واحد وليس مركباً من ثلاثة، فقال تبارك وتعالى عقب الآية السابقة:
وناقش الله أصحاب عقيدة التثليث بقوله بعد ذلك:
وهذه المناقشة تقوم على إثبات البشرية للمسيح وأمه، استناداً إلى بعض أوصافهما البشرية المعروفة فيهما، إذ كانا يأكلان الطعام، ومن يأكل الطعام لا يمكن عقلاً أن يكون إلها ً، ومن كان بشراً مخلوقاً فإنه لا يملك لمن يعبده ضراً ولا نفعاً، ومن لا يملك نفعاً ولا ضراً فإنه لا يستحق أن يتقرب إليه بالعبادة.
وحكم الله بالكفر على الذين كذَّبوا بالقرآن، فقال تعالى في سورة (فصِّلت/41 مصحف/61 نزول) :
فجعل سبحانه تكذيبهم بالقرآن كفراً، وناقشهم في السورة نفسها بقوله تعالى:
وحكم الله بالكفر على من كذب الرسول محمداً أو غيره من رسل الله صلوات الله عليهم أجمعين، ففي شأن المنافقين قال الله لرسوله في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :
فجعل تكذيبهم للرسول، كفراً لأنه في حقيقته تكذيب لله وكفر به وكفر بآياته.
وحكم الله بالكفر على من كذَّب بيوم الدين، فقال تعالى في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول) :
فالعقيدة الإسلامية لا تقبل التفريق في الإيمان بين أركان الإيمان، أو بين عناصر الركن الواحد، والإيمان غير قابل للتجزئة والتفريق، بأن يؤمن الإنسان ببعض العناصر ويكفر ببعضها؛ ومن فعل ذلك كان كافراً غير مؤمن، وهذا ما أعلنه القرآن بقول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
ففي هذا دليل واضح على أن الإيمان لا يقبل التفريق بين أركانه.
وخاطب الله بني إسرائيل بقوله في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
{
…
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
وفي هذا النص دليل واضح أيضاً على أن عناصر الإيمان لا تقبل التفريق.
فالإيمان وحدة متماسكة متى انفكت عروة من عراها انحلت سائرها وانفرط عقدها.
(2)
حرص الإسلام على إيمان الناس
وإنقاذهم من الكفر وشروره
من روائع مضمون رسالة الإسلام أنها تحرص أشد الحرص على إيمان الناس وهدايتهم، رغبة بإنقاذهم ونجاتهم وسلامتهم وسعادتهم.
وقد حث الإسلام المؤمنين به على إرشاد الناس ودعوتهم إلى الإيمان والعلم الصالح، وسلوك سبيل الحق والخير والفضيلة، وعلى قتالهم في بعض الأحوال لإزالة الموانع من نفوسهم، أو لإزالة الموانع من طريق إيمانهم، لإنقاذ من يمكن إنقاذه من صفوفهم، حتى يكونوا مع المؤمنين من أهل دار النعيم سعداء راضين مرضيين، لا من أهل نار الجحيم أشقياء مطرودين من رحمة الله.
فالدوافع لهداية الناس إلى الإيمان وفعل الصالحات تنبع من منابع الحب وإرادة الخير للناس أجمعين.
ولو أن الناس كلهم كفروا بالله وعصوه لما كانوا يضرون الله شيئاً، ولو أنهم جميعاً آمنوا به وأطاعوه لما نفعوا الله شيئا ً، ولما زادوا في ملكه شيئاً، ولكن الله يحب لعباده أن يؤمنوا ويصلحوا حتى يسعدوا، ويكره لهم أن يكفروا ويفسدوا حتى لا يكونوا من أهل الشقاوة والعذاب.
وقد جاء في الحديث القدسي الثابت في الصحيح، أن الله تعالى قال:"يا عبادي: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخيَط إذا أدخل البحر. يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه".
وما تضمنه هذا الحديث القدس نجده في نصوص عدة من القرآن الكريم.
فمنها قول الله تعالى لرسوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
فالله تبارك وتعالى يخفف عن رسوله صلوات الله عليه حالة الحزن التي كانت تعتريه، حين يشاهد بعض قومه يسارعون في الكفر، ويبين له أن وظيفته في الناس التبليغ والدعوة إلى الله، وليست وظيفته تحويل الناس إلى الهداية، فإنهم هم المسؤولون عن أنفسهم وعن سلوك سبيل الهداية، ويبيِّن له أيضاً أن الذين يسارعون
في الكفر والذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً.
أي: فالحرص على إيمانهم خدمةٌ لهم وغيرَةٌ عليهم ورغبةٌ في نجاتهم وسعادتهم.
ومنها قول الله تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول) :
فهؤلاء الذين اختاروا الكفر، وأضافوا إليه الصد عن سبيل الله. ومعاداة الرسول، من بعد ما تبين لهم الهدى، إنهم في أعمالهم هذه كلها لن يضروا الله شيئاً، وما يعملونه من أعمال للصد عن سبيل الله ومناهضة الرسول ومقاومة الإسلام والمسلمين فسيحبطها الله وسينصر أولياءه.
فلن يضروا الله شيئاً، ولن يضروا أولياه وحملة رسالته إذا صدق هؤلاء مع الله، ولن ينالوا منهم إلا أذى قد يصيبهم في الدنيا في أنفسهم أو أموالهم أو أرضهم، وعاقبة الظفر والنصر ستكون لهم بتأييد الله ونصره المبين، وهذا ما بينه الله بقوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) خطاباً للمؤمنين في معرض الحديث عن اليهود:
{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَاّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ}
وأوضح الله تبارك وتعالى أنه غني عن عباده، ولكن لا يرضى لعباده رجس الكفر ورذائل الفسق والعصيان، بل يحب لهم طهارة الإيمان، وفضائل الاستقامة والطاعة، ثم يجازيهم على أعمالهم بالعدل. فقال الله تعالى في سورة (الزمر/39 مصحف/59 نزول) :
ومن كفر فعليه كفره، ولا يزيده كفره عند ربه إلا مقتاً وخساراً، وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول) :
ويقابل هذا أن من آمن وعمل صالحاً فلنفسه يقدم الخير، وهذا ما بيَّنه الله تعالى بقوله في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) :
من كل ذلك تتضح لنا الحقائق التالية:
1-
أن الله غني عن إيمان عباده وطاعتهم.
2-
أن الكافرين لا يضرون الله شيئاً.
3-
أن أعمال الكافرين لن تضر المؤمنين الصادقين مع الله إلا أذى.
4-
أن من كفر فعليه كفره.
5-
أن من آمن وعمل صالحاً فله عمله.
(3)
أسباب الكفر والضلال
يتبين لنا بالتأمل وبالتتبع العلمي في تقصي الواقع الإنساني طائفة من أسباب الكفر والضلال في الناس، ونذكر فيما يلي أسباباً وعوامل رئيسية تتضمن أسباباً وعوامل فرعية كثيرة.
* السبب الأول - الانحراف الفكري عن منهج التفكير السديد:
وفي تتبع هذا السبب وظواهره نلاحظ أن كثيراً من الناس يقبلون في حياتهم الفكرية أن تتحوَّل أوهامهم وتخيلاتهم أو ظنونهم إلى حقائق علمية وعقائد ثابتة،
دون أن يكون لها نصيب من الحقيقة، ودون أن تمر في مراحل الطريق المنطقي السليم للمعرفة، وبذلك يقعون في ضلالات فكرية ذات نتائج خطيرة.
وزاوية الانطلاف في هذا السبب تبدأ من اتباع الظن الضعيف الذي هو دون مستوى الرجحان، لافتقاره إلى دليل عقلي أو علمي يقوّيه ويرجحه، وهذا الظن التوهمي الكاذب هو الذي اتبعه من جعلوا لله شركاء بغير حق، وفيهم قال الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) :
أي: ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء حقيقيين، لأن الله واحد لا شريك له، إن يتبعون إلا الظن التوهمي الكذاب، وإن هم إلا يخرصون، أي: وإن هم إلا يكذبون على الحقيقة بالتوهم الكاذب والظن الضعيف الذي لا قيمة له في تحصيل المعارف.
وقد يكون الباعث على قبول الظن الذي لا قيمة له في مجال اكتساب المعرفة كونه موافقاً لهوى النفس، وهذا الهوى يزيِّن ضعيف الظنون ويحسنه لدى النفوس ويكبره ويجسمه بالوهم وبالتخيل الكاذب، ولا يزل ينفخ فيه حتى يسيطر على المشاعر، ويستحوذ على الفكر أخيراً، وعندئذٍ يتبع صاحب هذا الظن الضعيف ظنه معتقداً أنه حقيقة، وهو في أصله خرص من نسيج الخيال وحياكة الوهم الكاذب، وهذا الرديف من الهوى هو الذي ساعد على دفع المشركين الوثنيين إلى ضلالاتهم، ولذلك خاطبهم الله بقوله عن معقتداتهم في سورة (النجم/53 مصحف/23 نزول) :
ولما كان أكثر الناس تسيطر الظنون الضعيفة والأوهام السخيفة على أفكارهم
ونفوسهم فيتبعونها ويعتقدونها، حذَّر الله من اتباع أكثر من في الأرض، فقال تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
أي: يرجمون بالخرص التخيلي أو التوهمي، ويقررون ما يقع عليه خرصهم على أنه حقيقة، ويبنون على ذلك عقائدهم وأعمالهم.
ولهذا السبب الرئيسي عوامل فرعية متعددة داخل النفوس الإنسانية منها العوامل التالية:
1-
الغرور بالنفس والإعجاب بالرأي:
فقد تلمع في نفس الإنسان بارقة من فكرة تمر في خياله أو توهمه، فيأتي الغرور بالنفس فيلبسها ثوباً لماعاً مزركشاً، فتحلو في نفسه وتزدان، ثم يتجسم توهمه بها حتى تصبح لديه فكرة ثابتة أو عقيدة راسخة دون أن يعالجها بالحجة والبرهان، والمناقشة المنطقية السليمة.
وقد يسعى مبشراً بها بين السذج وضعفاء التكفير والجاهلين، مزيناً حجته بزخرف من القول، أو مستخدماً قوة شخصيته أو قوة نفوذه، ثم يكون له مؤيدون وأنصار يتابعونه على ضلالته التي انخدع هو بها بعامل الغرور بالنفس والإعجاب بالرأي.
وقد نشأ في التاريخ فرق متعددة تحمل مذاهب فكرية باطلة، وذلك بسبب إصابة واحد من الناس أو مجموعة منهم بمرض الغرور بالنفس والإعجاب بالرأي، ثم كان منه ومن عوامل أخرى ضلالات موروثة، استمسكت بها أجيال متلاحقة، بات من العسير التخلص منها إلا في ظروف معالجات فكرية ونفسية مؤثرة.
2-
الجهل العام الذي يسمح بتقبل كثير من المفاهيم الباطلة:
وهنا نلاحظ أنه قد تشيع في مجتمع متخلف فكرياً أو ثقافياً أفكار باطلة محرفة عن منهج التفكير السليم، وتجد هذه الأفكار الباطلة قبولاً في هذا
المجتمع، وذلك بسبب تخلفه العلمي، ثم يتطاول الأمد فتمسي هذه الأفكار عقائد قومية متوارثة، وتقاليد متَّبعة ثابتة، كأنها من الحقائق البدهية التي لا تقبل أية مناقشة فكرية أو أي تغيير.
ومن هذه المفاهيم الباطلة مفاهيم يلقيها بين المجتمع الجاهل ماكرون مضللون من شياطين الإنس، لهم مصالح وأغراض وشهوات خاصة من بث هذه الأفكار الباطلة، والخرافات والأوهام وتزيينها في نفوس القوم، وذلك ليكون لهذه الانحرافات والخرافات ثمرات ممتعة لأولئك الشياطين يستغلونها، ويستثمرونها، ويقضون شهواتهم وملذاتهم على مصائب القوم من مفاهيمهم الباطلة.
3-
التقليد الأعمى:
من الملاحظ أن الإنسان ينشأ في بيئة من البيئات الاجتماعية فيكتسب منها معارف ومهارات وعادات وأخلاقاً كثيرة، ومن هذه المكتسبات ما هو حق، ومنها ما هو باطل، ومنها أيضاً ما هو صالح، ومنها ما هو فاسد، وبمقتضى نشوئه في هذه البيئة الاجتماعية يتكون لديه بدافع الأنانية خلق التعصب لأهله وعشيرته وقومه، والتعصب لجميع ما هو في بيئته من مفاهيم وعادات وأخلاق، لأنه يتصور أنه بتعصبه هذا يدافع عن كيانه الذاتي، ولكنه دفاع ليس في محله، إذ هو دفاع عن الانحراف. ولو أنه سمح لقواه العقلية المتجردة عن مؤثرات البيئة أن تبحث وتناقش وتميز بين الحق والباطل والخير والشر والصالح والفاسد، لوجد أن دفاعه عن ذاتيته إنما يكون بتقويمها وإصلاح عوجها، وهجر الموروثات الباطلة، والاستمساك بالحق منها.
وبالتتبع نلاحظ أن كثيراً من الناس ليس لهم فيما يستمسكون به من مفاهيم وعادات باطلة أية حجة، إلا أنها أشياء ورثوها عن أسلافهم من قومهم، فاقتدوا بهم وتعصبوا لهم وساروا على آثارهم دون بصر فيها أو نظر.
4-
المبالغة في تعظيم بعض العظماء من الناس:
نظرة تأمل في التاريخ الإنساني تكشف لنا أنه قد يظهر بين حين وآخر في كل أمة من الأمم أفذاذ منها، يبلغون درجة عالية في سُلَّم الكمال التي تعتبره تلك
الأمة كالتقوى والاستقامة أو العلم والعبقرية، أو الإخلاص لأمتهم وبلادهم، وقد يكتب الله على أيديهم بعض الظفر والازدهار والنجاح الباهر، والتوفيق العظيم، وما إلى ذلك من رغائب فيعظِّمهم الناس، ويمجدونهم ويلبسونهم ثوباً من الكمال ليسوا أهلاً له، حتى يعتبروا كل عمل من أعمالهم، وكل خلق من أخلاقهم حسناً وإن كان قبيحاً، وخيراً وإن كان شراً، وحتى يعتبروا كل قول من أقوالهم حقاً وإن كان باطلاً، ويبالغ بعضهم في ذلك حتى يخلع عليهم صفة التنزيه عن النقص والخطأ، والعصمة من كل إثم.
ويسري هذا الداء إلى نفوس الرعاع السذج أو الجهلاء أو ناقصي التفكير، فيبلغون في تقديسهم إلى حد توهم الألوهية أو جزء منها فيهم، وينحرفون بذلك عن منهج التفكير السليم، ويتجاوزون كل حد مقبول في العقول الصحيحة، وقد يشجعهم على ذلك بعض الأذكياء الذين يستطيعون استغلالهم واستثمارهم من خلال حماقاتهم وانحرافاتهم في الأفكار والعادات، أو من خلال تخلفهم عن مواكبة ركب العلم الصحيح والحضارة النافعة.
ومن المنغمسين في هذه الضلالة وثنيو القرن العشرين الذين يلحدون بالله، ويتخذون لعظمائهم أوثاناً يقدسونها، ويفدون إلى زيارتها، ويمنحونها الأكاليل، ويهدونها طاقات الورود، ويعتبرون مخالف تعاليمهم من أكبر الكبائر التي توجب الإعدام أو السجن المؤبد، أو الإبعاد والطرد، أو توجب حروباً طاحنة تهلك الحرث والنسل.
5-
فلسفات ناقصة أو أصول فكرية فاسدة:
من الملاحظ أن العامل في كثير من ألوان الضلالات الفكرية فلسفات ناقصة أو أصول فكرية فاسدة، وفي المجتمعات الإنسانية مظاهر متعددة لهذه الفلسفات الناقصة والأصول الفكرية الفاسدة.
ومن مظاهرها الفلسفات التي تؤدي على تعطيل دلائل الاستنتاج العقلي القاطع، وتؤدي إلى الوقوف عند حدود المادة المدركة بالحس المباشر أو عن طريق الأجهزة، وتؤدي إلى إنكار الوحي، وإنكار أية حقيقة من حقائق الغي التي تأتي
بها النبوات، بدعوى أنها غير مدركة بالحس فلا يصح في نظرهم القاصر التسليم بها.
وهذه النظرة القاصرة إلى الوجود والتي يشهد ببطلانها كل عقل واعٍ مدرك هي مصدر شر كبير أفضى ببعض الناس إلى اعتناق فكرة المادية الملحدة، التي لا تعترف بشيء إلا باللذة والغريزة وحدود الظواهر المادية.
* السبب الثاني - الانحراف النفسي عن منهج الخُلُق القويم:
نلاحظ لدى دراسة أحوال الناس أن فريقاً كبيراً من ذوي الضلالة في الأرض لم يضلوا لجهلهم بالحقيقة بسبب عامل من عوامل الانحراف الفكري عن منهج التفكير السليم، وإنما ضلوا أو أجرموا بسبب هروبهم من وجه الحقيقة إرضاء لشهوة من شهوات نفوسهم، ورغبة من رغائبها.
ومتى هرب الإنسان من وجه الحقيقة سعى ينتحل لنفسه مبادئ أخرى باطلة ليحلها في محلها، ثم يكدح كدحاً شديداً ليقنع نفسه وغيره بصحتها وسلامتها، وضرورة الأخذ بها.
وذلك لأن الفكر السوي يصعب عليه أن يسلم بالمفاهيم الباطلة مهما أغرت الأهواء والشهوات بزخرفها، ولكن سلطان الأهواء والشهوات يأسر النفوس فيجعل بينها وبين العقل السليم غشاوة، ومتى طال أمد الغشاوة الحاجبة للعقل عن عمله السديد تبلد الفكر، وفسدت طريقة البحث لديه.
وزاوية الانطلاق في هذا السبب تبدأ من اتباع الأهواء والشهوات.
إن الأهواء والشهوات في الأنفس تميل في أغلب أحيانها إلى اغتنام اللذات العاجلة، ولو كان من ورائها مشار وآلام كثيرة آجلة، وتميل إلى زخرف الحياة الدنيا وزينتها وتفاخرها ولو كان في ذلك شقاء أبدي بسخط الله.
فمن طبع أهواء النفوس وشهواتها أنها تؤثر العاجلة، وتذر الآخرة، ما لم يضبطها ضابط من العقل الصحيح الراجح، المقرون بالإرادة الحازمة، أو ضابط من الإيمان الراسخ والدين المهيمن على النفس والمتغلغل في أعماق القلب والوجدان والمقرون بتقوى الله جل جلاله.
لذلك كان اتباع الأهواء والشهوات من الأسباب المضلة المبعدة عن صراط الله المستقيم، والمفضية بالإنسان إلى مواقع تهلكته.
ولذلك كانت الأهواء والشهوات من الوسائل التي تستغلها الشياطين للإغواء، فتدغدغها وتثيرها وتوجهها للانحراف عن صراط الله، ولا تزال تسيطر عليها شيئاً فشيئاً، حتى تكون أسلحة فتاكة في أيديها، وقد تستدرج الإنسان عن طريق أهوائه وشهواته حتى تصل به إلى مواقع الكفر بالله وبكل فضيلة إنسانية.
ولذلك حذرنا الله تبارك وتعالى من اتباع الأهواء والشهوات على غير هدى من الله.
فقال الله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) :
ففي هذه الآية يبين الله أن من الأسباب الموصلة إلى الظلم والموقعة فيه اتباع الأهواء، وقد ضل الظالمون بسبب اتباعهم أهواء نفوسهم فحكم الله عليهم بالضلالة حكماً عادلاً، فمن يهدي من أضل الله؟ أي: حكم عليه بالضلالة ، ومن ينصره من عقاب الله؟ إنه لا أحد يحكم له بالهداية بعد أن حكم الله عليه بالضلالة، ولا أحد ينصهر من عقاب الله.
وخاطب الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله في سورة (القصص/28 مصحف/49 نزول) :
وقال تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول) :
وهكذا وصف الله الكافرين والمنافقين في مواضع عديدة من كتابه بأنهم اتبعوا أهواءهم، إشارة إلى أن سبب ضلالهم هو اتباعهم أهواءهم.
ومن فروع اتباع الأهواء اتباع الشهوات بإفراط وتجاوز لمنهج الاعتدال والحق.
وقد أوضح الله أن اتباع الشهوات كان سبباً في ضلال ذرية الصالحين، فقال تعالى في سورة (مريم/19 مصحف/44 نزول) :
أي: فسوف يلقون جزاء غيِّهم.
وحذرنا الله من مكائد الذين يتبعون الشهوات ومن تضليلاتهم، فقال تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
أي: يريدون أن تنغمسوا معهم في تناول الشهوات بانحراف مسرف، ويتخذون ما لديهم من وسائل لتحقيق مرادهم هذا.
ومن اتباع الأهواء والشهوات اتباع وسائل الترف بإفراط مُطغٍ وسرف مفسد للنفوس، وباعث على الكبر والعجب، ومسبب للغفلة عن الحق والخير، ونسيان العواقب وعدم النظر إليها.
قال الله تعالى في سورة (هود/11 مصحف/52 نزول) :
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}
ولهذا السبب الرئيسي (وهو الانحراف النفسي عن منهج الخلق القويم) عوامل فرعية متعددة داخل النفوس الإنسانية، نذكر منها العوامل التالية:
1-
الحسد القبيح:
إن الحسد القبيح مرض خبيث من أمراض النفوس، يغري صاحبه أن يغمط الحق وينكره ويجحد به، مهما كان ظاهراً مؤيداً بالحجج والبراهين.
وإذا تصفحنا التاريخ القديم والحديث وجدنا أمثلة كثيرة على ذلك من الواقع الإنساني، ومن أمثلته حسد اليهود للعرب إذ جاء الرسول المنتظر منهملا من بني إسرائيل كما كانوا يودون ويهوون.
2-
الأنانية الضيقة:
والأنانية حب الإنسان لنفسه فقط أو لمحيطه الضيق، مع قصر نظر عن العواقب، وهي تولد في المجتمعات الإنسانية حب الإثرة، واحتكار كل خير ومتعة، وادعاء كل فضيلة وشرف، وذلك يؤدي إلى التنازع والتشاحن والبغضاء، وتبديد طاقات الجماعة تبديداً داخلياً بدل تجميعها ضد عدوها وعدو الحق والخير والفضيلة والجمال.
وكم كان لهذه الأنانية الضيقة من نتائج سيئة شنيعة، قوضت كثيراً من أبنية حضارية شامخة ورمت بأمم كثيرة من قمم المجد إلى حضيض المذلة والمهانة، وورثتها مفاهيم فاسدة. وجعلتها تتخلف أجيالاً وقروناً عن مواكب ركب الحضارة والتقدم، ونور العلم والخير والفضيلة.
3-
النوازغ النفسية الرامية إلى تحقيق مطالبها بشذوذ:
في ظل تهاون تربوي وبعد عن منهج الإسلام القويم قد تنمو في الإنسان بعض دوافعه النفسية نمواً غير طبيعي، شبيهاً بنمو الأورام الخبيثة في الجسد، حتى تكون لهذه الدوافع صفة السيادة العامة على كل مقومات الإنسان، وعند ذلك يفقد هذا الفرد توازنه الإنساني السوي، ومتى بلغت في الإنسان دوافعه النفسية إلى هذا الحد من الشذوذ غير الطبيعي أمست نوازغ شر وضر وفساد.
وعندئذٍ تنطلق هذه النوازغ في كيان الإنسان محاولة أن تستبد به استبداداً خطيرا ً، فإذا تخاذلت إرادة الإنسان أمام نازغ من نوازغ الشر فيه تبلَّد فهمه العميق للأمور، وانحجب عقله الواعي الذي يعقله عن الشر، وأخذ ذكاؤه يتشاغل بظواهر
الأمور وسطوحها القريبة، ويتعامى عن بواطنها وعواقبها، ثم يحاول هذا الذكاء الغبي السطحي أن ينسج الحيل بمكر ودهاء ليقدم لنازغة الشر مطالبها الدنيئة الحقيرة، ولو عن طريق الإفساد والجريمة وإنكار الحق.
عندئذٍ تبدأ صور الفساد والجريمة تظهر في سلوكه الشاذ المنحرف، كما تبدأ صور تبرير هذا الانحراف تظهر في المفاهيم والآراء التي يبثها، ويحاول إقناع الناس بها بغية المحافظة على مركزه الاجتماعي، وحماية نفسه من غضب الجماهير الذين ينالهم شره وضره.
فهو -مثلاً- يذبح الفضيلة مرتدياً مسوح التقوى، ويمارس الجريمة حاملاً شعار الإنسانية، ويقوض دعائم الحق والهدى باسم محاربة الباطل والضلال، ويهدم أبنية الخير الفاضلة باسم التخلص من الفساد، ويحاول محو شرائع الله الحقة التي تحمل للناس السعادة والمجد باسم الإصلاح الديني أو الإصلاح الاجتماعي.
فإذا وقفت في سبيله نصوص الشريعة الثابتة أنكرها وأوَّلها، وإذا أرهبته في طريق جريمته معتقداته عن وجود الله وعدله وجزائه يوم الدين ألحد بالله وأنكر العدل والجزاء، وسعى يقتنص لإلحاده أدلة واهية ليخدع بها نفسه ومن لديه نفسٌ شاذة مثل نفسه، وليخدع بها الدهماء من الناس. لئلا يثوروا عليه، فإذا انطلت حيلته على جمهور من الناس انطلق داخلاً في كل نفق شيطاني خبيث، خشية أن تنكشف خبيئة نفسه المجرمة، وفراراً من النور إلى الظلمات، وهروباً من وجه الحق المبين، والعلم المنير، والخير والفضيلة، إلى معاقل شياطين الباطل والشر والرذيلة.
ومن هذه النوازغ الشاذة ما يسمى بجنون العظمة، والرغبة بالسلطان، ومنها الإفراط الشديد بحب المال والفتنة الشديدة بجمعه ومنعه، ومنها شهوة الظلم والقتل والاعتداء على الآخرين، ومنها الدوافع الجنسية الشاذة المفرطة، إلى غير ذلك من نوازغ.
4-
الكبر:
وكثيراً ما يكون الكبر عاملاً ذا أهمية من العوامل الصارفة عن الاستجابة للحق، والباعثة إلى التمرد عليه، والخروج عن دائرة الطاعة للخالق جلَّ وعلا، وعاملاً أيضاً في تكوين معتقدات ومفاهيم باطلة وتقاليد وعادات فاسدة، ومتى نفخ الكبر في أنف صاحبه واستولى على إرادته غشَّى على عقله وساقه بعنف إلى غمط الحق وطمس معالمه، وانتحال صور من الباطل على تزيينها وتحسينها بالحجج التافهة التي لا تقوى على النهوض أمام قوة الحق لدى ذوي العقول السليمة.
وقديماً كان الكبر هو الصارف لإبليس عن طاعة الله، كما كان الصارف لبعض زعماء العرب عن الدخول في الإسلام أيام نزول الرسالة، والكبر هو الصارف لكثير من المترفين عن الانخراط مع جماعة المسلمين، حتى يظلوا مترفعين في أبراجهم الذهبية، فهم لا يشعرون بمشاعر العامة، ولا يشاركون في مختلف مظاهر وحدتها وتكاتف صفها.
5-
الأحقاد السوداء:
من العوامل ذات الأهمية الكبرى التي تصرف عن الحق، وتدفع صاحبها لإعلان الحرب عليه الأحقاد السوداء التي تغلي نيرانها في قلوب الذين انحرفت نفوسهم عن منهج الخلق القويم.
لقد امتدت دولة الإسلام بقوة الحق والعدل والجهاد، واكتسحت عقائد بالية، وصهرت شعوباً كبرى، وقوضت إلى الأبد دولاً ذات شأن قديم، فألقى كل ذلك أحقاداً سوداء على الإسلام والمسلمين في قلوب بعض المتعصبين لقومياتهم ومعتقداتهم ودولهم التي جرفها الإسلام بنوره المبين فيما جرف، أو نال منها نيلاً، فأفقدهم بذلك زعاماتهم الدينية والسياسية في الأرض، ونشأ من جراء هذه الأحقاد السوداء مؤتمرات عديدة مقنعة وسافرة على الإسلام والمسلمين، في أحقاب التاريخ الإسلامي المتتابعة، وما زال العالم الإسلامي يكتوي بنيران هذه المؤامرات المختلفة في أشكالها وألوانها وأساليبها، فمنها ما يحمل حرباً فكرية مسلحة بألوان شتى
من المكر والخديعة ومنها ما يحمل حرباً مادية مسلحة بكل قوة مادية مريعة، بغية تهديم الحق الذي جاء به الإسلام، فكان به مجد العرب وسائر الشعوب التي استجابت لدعوته، وبغية تفتيت وحدة المسلمين المتماسكة التي كان فيها سر قوتهم العظمى التي أذهبت الأمم والشعوب حقبة من الدهر، فهم ما يفتأون يخشون أن تعود هذه القوة الكبرى للمسلمين، وأن يعود ذلك الإيمان الصادق إلى قلوبهم.
وفي طليعة هذه المؤامرات المستمرة على الإسلام والمسلمين المؤامرة اليهودية العالمية الكبرى التي استطاعت أن تسخر الأحزاب السرية، وكلا من المذاهب الفكرية والاجتماعية والاقتصادية المتصارعة في العالم، واستطاعت أن تسخر لتحقيق أغراضها الاستعمار والصليبية وأركانها السياسية والتبشيرية والاستشراقية، وأن تسخِّر الإلحاد والشيوعية الدولية العالمية.
وتوجد عوامل أخرى لكل من السببين السابقين وهما: الانحراف الفكري عن منهج التفكير السديد، والانحراف النفسي عن منهج الخلق القويم.
ومن هذه العوامل ما يلي:
1-
الافتتان بمظاهر التقدم المادي والانسياق مع ألوانه الخادعة للنظر، وتقبل ما يرافقه من منحرفات فكرية وخلقية وسلوكية.
وقد استخدم أعداء الإسلام في العصور الحديثة هذه الوسيلة من وسائل التضليل على أوسع نطاق، وأثمرت لهم في المجتمعات الإسلامية ثمرات جمة، وكان ذلك عن طريق دمج الوافدات الوبائية الخطيرة على العقائد والأخلاق والنظم الإسلامية في صادرات منجزات بلادهم المادية المرضية بتقدمها المادي، وبهذا الدمج الماكر عسُر على الجماهير التمييز بين الغث والثمين، والنافع والضار.
2-
طاعة القادة المضلين واتِّباعهم:
فكثير من الانحراف الفكري والانحراف النفسي يأتي عن طريق اتباع القادة المضلين، ذوي السلطان والجبروت في الأرض.
ويكون هذا الاتباع لهم إما فتنة بهم، أو طمعاً باسترضائهم لتحيل المنافع عن طريقهم، وإما خوفاً من عقوباتهم.
والقادة المضلون إما مستكبرون، أو أصحاب أهواء، أو متبعون للشهوات، بجنوح وطغيان، أو مقلدون متبعون لأسلافهم أو مقلدون مفاخرون متبعون لنظرائهم من ذوي السلطان في الأرض.
وقد حذر الله من اتباع القادة المضلين بأسلوب بيان واقع حال بعض الظالمين الذين عصوا رسل ربهم. فمن ذلك ما ذكره الله تعالى في شأن عاد قوم هود من أن سبب ضلالهم أنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد، فعصوا رسل ربهم وجحدوا بآياته، فقال تعالى في سورة (هود/11 مصحف/52 نزول) :
ومن ذلك أيضاً ما ذكره الله في شأن اتباع فرعون الذين كانوا ملأه ومنفذي أمره وأكابر قومه، إذ اتبعوا أمره فجحدوا بربهم وبرسله، وبالآيات التي جاءهم بها موسى عليه السلام، قال الله تعالى في سورة (هود/11 مصحف/52 نزول) :
وقال تعالى في شأن فرعون في سورة ِ (الزخرف/43 مصحف/63 نزول) :
(4)
مناخ نماء الكفر ونشاطه
قد يبدو لكل عاقل بعد أن يرى الحق في جانب الإيمان، ويأتيه خبر الوعد بالسعادة الخالدة للمؤمنين، وخبر الوعيد بالشقاء الدائم والعذاب الأليم في نار
جهنم للكافرين، أنه لا يوجد أي داع للإنسان حتى يختار لنفسه سبيل الكفر على سبيل الإيمان، لا سيما حين يلاحظ أنه لا توجد في مواقع الكفر مزايا من متاع الدنيا يصيبها الكافر ولا يستطيع أن يصيبها المؤمن، علماً بأن مقدروه أن يصيب ما يريد من شهوات محرمة عن طريق المعصية، لا عن طريق الكفر بالجحود أو يرفض الإذعان للطاعة، فطريق المعاصي ليس فيه خلود في العذاب والشقاء، أما طريق الكفر فهو طريق الخلود في العذاب والشقاء الأبدي.
والتساؤل الوارد في هذا المجال قد أجاب القرآن عنه، فبين أن الكافرين واقعون في الكفر بسبب مؤثرات نفسية شتى جانحة خلقياً، إلا أن الذي غشَّى على منطقهم في الحياة أمران: زينة وغرور، وهذان الأمران هما المناخ الذي تنشط فيه بواعث الكفر ودواعيه.
فالزينة: حسنت للكافرين الحياة الدنيا، وحسنت لهم سوء عملهم، وصبغته بالأصباغ الخادعة، وجعلت له المبررات المزوَّرة.
والغرور في أنفسهم ساقهم عمياناً لا يبصرون إلا الزينة وما فيها من بهارج، فأعينهم مثبتة في أشكالها وألوانها، وآذانهم لا تسمع إلا رنات أوتارها وأصوات أجراسها، وشهواتهم مشدودة إليها، وقلوبهم معلقة بطلبها والسعي وراءها، وهم يتخبطون في اتباعها، لا يدرون أين تقع أقدامهم، ولا يعرفون إلى أي مصير هم صائرون، وأما أفكارهم وعقولهم فقد ألقيت عليها الغشاوة، فهم لا يفكرون إلا في حدود منطقة الزينة.
والزينة هي المجال الذي يفتتن به الإنسان فيغتر به، وهي تكون فتنة للعين أو فتنة للأذن، أو فتنة للفكر، أو فتنة للنفس، أو فتنة لما سوى ذلك من داخل الإنسان وخارجه.
والزينة طلاءات وزخارف خادعة في مظهرها، ولا دلالة لها على الحقيقة الجوهرية، إنما تخدع بحلاوة مظهرها، فيتصور الجاهل المتسرع أن ما ظهر له عنوان ما بطن وخفي عليه، فيعطي للباطن حكم ما بدا له في الظاهر، لذلك نلاحظ أن القرآن حين يلفت أنظارنا إلى حقيقة ما في الحياة الدنيا يبين لنا أنها من قبيل
الزينة فقط، فهي لا تحتوي على جوهر حقيقي ثابت وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
فهم مع أنهم مخدوعون بزينة الحياة الدنيا وساقطون في الغرور يتصورون المؤمنين مضيِّعين لذات حياتهم، ومتعلقين بالأوهام وبرؤيا خيالية عن الدار الآخرة، فيسخرون منهم، وكان الحق يقضي بأن يسخروا من أنفسهم إن عفَّ عن السخرية منهم الذين آمنوا.
ولكن ينعكس الأمر يوم القيامة فيقتص منهم الذين آمنوا سخرية بسخرية.
والغرض من جعل الحياة الدنيا هكذا زينة تفتتن النفوس بها توافر ظروف الابتلاء الأمثل، وهذا ما بينه الله بقوله في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) :
أي: سيأتيهم يوم تفقد فيه زينتها فيغدو سطحها صلداً يابساً لا نبات فيه ولا زرع، قد احترق كل ما عليها من خضرة ونضرة، وتهدَّم كل ما عليها من قصر مشيد.
وأخطر ما في الأمر أن يغتر الإنسان بزينة الأقوال والأفكار الباطلة، وبزينة الأعمال السيئة، فيرى الباطل حقاً، ويرى السيء حسناً، فيندفع وراء الباطل مؤيداً له وناصراً، ويعمل الأعمال السيئة متعاظماً بها ومفاخراً، زاعماً أنه من المحسنين، وهنا تكون المحنة الكبرى، والفتنة العظمى.
ونقيض هذا من كان على بينة من ربه، يرى الحق حقاً فيتبعه ويعمل بموجبه، ويرى الباطل باطلاً فيجتنبه ويحذر من العمل بما يفضي إليه.
وإلى هذين الموقفين المتناقضين جاءت الإشارة في قول الله تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول) :
فمن كان على بيِّنة من ربه فإنه يكون صحيح التصور للأمور، مستقيم العمل غالباً انسجاماً مع تصوراته الصحيحة، ومن زيِّن له سوء عمله فلا بد أن يكون فاسد التصور فاسد العمل متبعاً أهواءه المنحرفة الجانحة، متخبطاً في ظلمات البغي والفساد، والظلم طغيان.
ولذلك تكرر في القرآن التحذير من السقوط في الهاوية التي يُزيَّن فيها المسيء سوء عمله، وتكرر فيه توبيخ الذي زين لهم سوء أعمالهم.
ففي سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) أثبت الله تبارك وتعالى أن الكافرين قد زين لهم سوء عملهم، ذكر هذا بعد مثل ضربه للمؤمنين والكافرين فقال تعالى:
فالكافرون مثلهم كمثل من هو في الظلمات ليس بخارج منها، فلا يعرف شيئاً عن النور، لذلك فهو يستحسن الظلمة التي هو فيها، كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون فيهم يستحسنون أعمالهم السيئة، فيفعلونها بقوة وجرأة ومفاخرة.
ويوبخ الله الذين زين لهم سوء عملهم، فكفروا بربهم فأضلهم الله بذلك قال تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول) :
ففي هذا النص تلاحظ أن الله يخاطب رسوله بقوله: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} أي: فلا تهلك نفسك حزناً على الكافرين الذين زين لهم سوء عملهم، فهم قد اختاروا بأنفسهم سبيل الكفر على سبيل الإيمان، فحق عليهم عذاب شديد من الله، وكان بمقدورهم أن يختاروا سبيل الإيمان والهداية، فقد بين الله لهم الحق في كتبه وعلى ألسنة رسله، فلا عذر لهم بجهل وعدم بيان.
وقال الله تعالى في وصف الإنسان في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) :
فمن خلائق الإنسان أنه إذا مسه الضر رجع إلى ربه، فالتجأ إليه داعياً أن يكشف عنه ضره، على أية حالة كان مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً. إنه في حالة ضره تتيقظ فطرة الإيمان في داخله، فيرجع إلى ربه مستغيثاً، ولكنه حينما يكشف الله عنه الضر ويعود إلى ما كان فيه من متاع الحياة الدنيا وزينتها ينسى ربه، ويمر في حياته غير معترف بخالقه، كأنه لم يرجع إلى ربه في ساعة ضره، فيدعوه ويلتجئ إليه، وهكذا حال المسرفين يعملون الأعمال السيئة القبيحة ويرونها حسنة، اغتراراً بزينتها في نفوسهم وأهوائهم.
ومن أمثلة الأفكار الفاسدة التي زُيِّنت في قلوب المنافقين ظنهم أن الرسول والمؤمنين في أيام صلح الحديبية سيهلكون، ولن يعودوا إلى أهليهم أبداً، وظنوا بالله ظن السوء، ولكن الله فتح على رسوله والمؤمنين فتحاً مبيناً، وخيب ظن المنافقين، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (الفتح/48 مصحف/111 نزول) :
أي: وكنت قوماً هلكى بنفاقكم.
ومن أمثلة الأحكام الباطلة التي زينت لدى الكافرين تلاعبهم في الأشهر الحرم بالتقديم والتأخير، ليبيحوا لأنفسهم في الأشهر الحرم ما هو محرم عليهم، وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :
وهكذا تفعل الزينة فتسقط الظالمين والمسرفين والكافرين في الغرور.
فالكافرون في غرور بما زين لهم في الحياة الدنيا.
ولذلك قال الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول) :
{
…
إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَاّ فِي غُرُورٍ} .
أي: ما الكافرون إلا ساقطون في غرور، فهم مخدوعون بما خدعوا به أنفسهم، من أفكار مزينة، وأهواء مزينة، وشهوات مزينة وأمان مزيَّنة، وأقوال مزخرفة مزينة، إلى غير ذلك مما في الحياة الدنيا من زينة.
أما جوهر الحقيقة فهم عنه معرضون، وبينهم وبينه غشاوات على قلوبهم وأفكارهم وأسماعهم وأبصارهم، فالغرور متى استولى على إنسان أعماه وأصمه عن كل بيان يكشف له زيف ما هو مغرور به.
أما الأشياء التي زينت لهم فاغتروا بها، فإنها تأتي في نطاق العناصر التالية:
1-
أول ما زين لهم فغرَّهم وجذبهم إليه متاع الحياة الدنيا، وما فيها من شهوات وأهواء وجاه ومال وسلطان ولهو ولعب.
2-
ثم غرتهم الأماني.
3-
ثم غرتهم زخارف الأقوال المزورة التي توحي بها شياطين الجن والإنس.
4-
ثم غرتهم مفترياتهم وأكاذبيهم التي كانوا قد افتروها، لستر انحرافاتهم، فمر عليها فصدقوها، وحسبوها أموراً صحيحة، ونسوا أنهم هم الذين اختلقوها.
5-
ثم انغمسوا في الغشوات الكثيرة، وحجبوا أنفسهم عن الحقيقة، ونسوا الله وعميت أبصارهم وبصائرهم عن آياته.
* الغرور بمتاع الحياة الدنيا وزينتها:
نلاحظ أن الله تبارك وتعالى قد بين للناس أن الحياة الدنيا متاع الغرور، فأوضح لهم أنها متاع يغتر به الجاهلون قصيرو النظر، فقال في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
وقال تعالى في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول) :
فعلى الإنسان أن يعقل أمره ولا يغتر بزخرف الحياة الدنيا وزينتها. ولذلك حذر الله الناس جميعاً من الاغترار بذلك فقال تعالى في سورة (لقمان/31 مصحف/57 نزول) :
والغرور: هو الشيطان.
وقال تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول) :
ثم بين الله تبارك وتعالى أن الكافرين مغرورون بالحياة الدنيا، فقال لرسوله في سورة (النعام/6 مصحف/55 نزول) :
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}
وفي موقف الحساب يوم القيامة يخاطب الله الظالمين الكافرين من الجن والإنس، فيقول لهم كما جاء في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
وبعد أن يدخلهم الله دار العذاب يخاطبهم بمثل ذلك ما جاء في قوله تعالى في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول) :
ولا هم يستعتبون، أي: لا يقبل منهم توبة ولا استغفار ولا استقالة من
ذنوبهم، فقد مضى زمن التوبة والاستغفار، وأصل الاستعتاب طلب رفع العتب وطلب حصول الرضا.
وبعد أن يذوقوا عذاب جهنم وتشتد عليهم الآلام فيها، ينادون أصحاب الجنة يرجونهم أن يفيضوا عليهم من الماء أو مما رزقهم الله، فيقولون لهم: إن الله حرم الجنة وما فيها على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، وغرتهم الحياة الدنيا، ويصف الله هذا المشهد من مشاهد الآخرة فيقول تعالى في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) :
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُو?اْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
…
} .
وهكذا ظهر لنا أثر الغرور بالحياة الدنيا وزينتها وزخرفها، وظهرت لنا نتائجه الوخيمة.
* الغرور بالأماني:
لكل فئة من فئات الكافرين مجموعة من الأماني الكاذبات الضائعات، تناسب حالة كفرهم، فهم ينخدعون بها، وينجذبون إليها، ويسعون وراءها.
فالمشركون تتعلق أمانيهم بالآلهة التي يعبدونها من دون الله، فتخيب أمانيهم التي تعلقت بهذه الآلهة، لأنها تعلقت بأوهام لا حقيقة لها، يدعونهم فلا يستجيبون لهم.
وأهل الكتاب الكافرون بالإسلام تتعلق أمانيهم بتصوراتهم باطلة وعقائد فاسدة.
والملحدون الدهريون تتعلق أمانيهم بحدود الحياة الدنيا، فيسعون وراءها، ويكدون لاهثين، ثم لا تتحقق أمانيهم.
ففي الحديث عن أهل الكتاب قال الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
وخاطب الله المشركين بقوله في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
ويوم القيامة يخاطب المؤمنون المنافقين والمنافقات فيقولون لهم ضمن حوار طويل: {وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور} ، أي الشيطان.
ويصور الله لنا هذا الحوار بقوله في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول) :
* الغرور بوساوس شياطين الجن والإنس:
ووساوس شياطين الإنس والجن تدغدغ في الكافرين ما لديهم من الأماني الكاذبة، وتثيرها وتغذيها، وتعد وتمني، ولكنها ما تعد ولا تمني إلا غرورا ً، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
إنها الخطة التضليلية التي رسمها إبليس لإغواء بني آدم، والتي بينها الله لنا بقوله في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :
لأحتنكن ذريته، أي: لأستأصلن بالإغواء ذريته، وأصل المادة مشتقة من الحنك، يقال لغة: احتنك الجراد الزرع إذا أكله، والجراد يأكل بحنكة أكلاً متسأصلاً فلا يبقي ولا يذر. أو لأقودن ذريته كيف شئت، يقال لغة: حنك الرجل دابته إذا شد حبلاً في حنكها الأسفل ليقودها كيف شاء، فهو شبيه باللجام الذي يجبر الدابة على طاعة من يقودها، ولعل هذا المعنى هو الأقرب للمراد والله أعلم.
وقد امتحن إبليس التغرير بآدم وزوجه، وحلف لهما أنه من الناصحين، فأوقعهما بمخالفة الله، وتسببلهم بالخروج من الجنة، وكانت وسيلته التغريرية تشتمل على تدرج ماكر، وقد عبر الله عنه بقوله تعالى:{فدلاهما بغرور} ، أي: أنزلهما في هوة المعصية كمن يدلي إنساناً في بئر ليشرب من مائها، ولكن هذه البئر لا ماء فيها، التدلية مشتقة من إنزال الدلو في البئر، ومعلوم أن هذا الإنزال يكون شيئاً فشيئاً، فالتدلية تتضمن معنى التغرير بتدرج.
وقد أوضح الله قصة هذه التدلية الشيطانية في سورة [الأعراف، الآيات: 19-23] .
وخطة شياطين الإنس في التغرير بالمواعيد الكاذبة ودغدغة الأماني أخطر وأفعل خطة شياطين الجن، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً،
ويتولى شياطين الإنس إغواء الناس وتغريرهم بأقوالهم المزخرفة وأباطيلهم المنمقة، فيوقعون من يستجيب لهم بالغرور، قال الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
فيتعاون شياطين الإنس والجن على وضع الضلالات المغررة التي يغتر بها من يستجيب لهم، ممن تميل أفئدتهم إلى ضلالاتهم، إذ أنهم لا يؤمنون بالآخرة، ثم إنهم حين يغترون بهذه الضلالات يرضونها، ويقترفون ما يقترفون من آثام، ويقترفون ما يقترفون من شرور.
ويعد الظالمون بعضهم بعضاً مواعيد لا تخرج عن دائرة الغرور، وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول) :
{بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَاّ غُرُوراً}
* غرور الكافرين بمفتريات أنفسهم:
قد يبدو غرور الإنسان بما يفتريه هو نفسه غروراً عجيباً، ولكن قد يحصل بمؤثرات عدة، منها الهوى الطاغي، والغضب المفقد للصواب، والخوف المضيِّع للرشد، والطمع الذي يغشي على البصيرة.
وهذا يذكِّرنا بطمع أشعب واغتراره بما كان يفتريه هو للصبيان من ولائم ليصرفهم عنه، حتى إذا انصرفوا عنه إلى جهة الوليمة التي اختلقتها لهم لحقهم طمعاً بأن يجد تلك الوليمة فعلاً، وينسيه طمعه أنه هو صانع الأكذوبة.
مثل هذا من أشعب وأضرابه قد يكون طريفاً مضحكاً، أما أن يوجد نظيره في قضايا الإنسان الكبرى، لا سيما ما يتعلق بالعقائد الكبرى وأمور الدين فهو العجب العجاب، إنه لعب بالمصير، وتورط خطير في شر مستطير.
وقد تمثل قصة اللصين والشيخ زنكي اغترار الإنسان بمفتريات نفسه.
يُحكى أن لصين تعاونا على اللصوصية وقطع طريق الناس حقبة من الزمن، ولكن جلب لهما هذا العمل تشرداً في الأرض ومتاعب كثيرة، فأوحى لهما الشيطان أن يقيما ضريحاً كاذباً بالقرب من بلدة يعتقد أهلها بالخرافات، وأن يكونا قيمين على هذا الضريح، ويفتريا له عند الناس الكرامات، حتى يفد إليه الجهلة والوثنيون ويقدموا له القرابين والأموال تقرباً إليه وتبركاً به، وفعلاً ذلك بعد أن دفنا في القبر كلباً ميتا ً، وأطلقا على صاحب الضريح اسم الشيخ زنكي.
كان لصين فقط، فصارا لصين مضللين شيطانين.
وبدأ ناقصو العقول من الرجال والنساء يفدون إلى هذا الضريح للتبرك، ويبذلون له القرابين والأموال، ويستولي عليها هذا اللصان، ثم طمع أحدهما بما جمعه قرينه من مال فسرقه منه، فاختصما، فأنكر السارق، فاستحلفه خصمه، فحلف له بالشيخ زنكي أنه لم يسرق منه شيئاً، فقال له قرينه: ما هذا القسم؟ كلب دفناه معاً، أفصدقت الفرية التي افتريناها معاً؟ أم تريد أن تحتال علي وتخدعني، واقتتلا فقتل كل منهما صاحبه.
وكثيراً ما يفتري الناس الفِرى، ثم ينخدعون بها هم أنفسهم، ويتصرفون تصرف الساقط المغرور، لا سيما إذا وجدوا من يصدقهم بها، وطال عليهم الأمد، ومرت بهم مصادفات تدعم ما افتروه في ظنِّ الجاهلين.
إن القبيح شديد القبح إذا زعم أنه جميل واستطاع بحيلته أن يخدع فئة من الأغبياء، فأخذ هؤلاء يثنون على جماله، فإنه كثيراً ما يسقط في الغرور فيعتقد نفسه جميلاً جداً، مع أنه في نظر غير هؤلاء الأغبياء قبيح جداً.
وكثير من المذاهب المصنوعة للتضليل يصدرها أصحابها افتراء ويزينوها بالأقوال المزخرفة، ثم إذا طال الأمد وصدقها فريق من الناس اغتر بها مصدروها أنفسهم، فاعتقدوها إيماناً بعد أن كانوا قد أطلقوها افتراء.
فالكافرون قد يقعون فريسة الغرور بما كانوا قد افتروه هم، وقد أشار القرآن
إلى هذا النوع من الغرور فقال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
فهؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب قد افتروا على ربهم فقالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، ثم صدقوا فرية أنفسهم، واتخذوها عقيدة من عقائدهم، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون من أكاذيب على ربهم.
وما أكثر الأكاذيب التي يفتريها الناس في العقائد، ثم تتحول هذه الأكاذيب بتطاول الزمن واستجابة الجهلة لها وبعض المصادفات المؤيدة، إلى عقائد راسخة في الدين، حتى في نفوس واضعيها ومختلقيها، وهذا أقبح الغرور أن يغتر الإنسان بما افتراه هو.
(5)
الطبع على قلوب الكافرين
من فطرة الإنسان إذا هو عاند وأصر على الباطل بعد معرفة الحق المبين، وأعلن تكذيبه وكفره بالحق، أن يصاب قلبه بالصمم، وأن يتبلد حسه تجاه الحق والخير، فإذا ألقي عليه الهدى أعرض عنه ولم يستمع إليه، ولم يدرك جوانب الحق فيه، ولم يتحرك وجدانه وضميره بعاطفة إيجابية نحو الخير، ويكون كالصخر الأصم الذي لا يقبل ندى معرفة، ولا يندى بعاطفة، فإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من القسوة وجفاف عواطف الخير، فإنه يكون مغلف القلب مسدود المنافذ محجوباً بحجاب غليظ، حتى يكون بمثابة البيت الذي أغلق بابه، وضرب عليه بالأقفال، ثم ختمت الأقفال بطابع الطين أو الشمع، إشعاراً بوصولها إلى غاية إقفالها، أو بمثابة المعدن الذي يعلوه الصدأ حتى يغشيه تغشية تامة، ويحجبه حجباً كاملاً،
وهذا هو الران الذي يغشِّي قلوب الكافرين المكذبين، وهو ما ورد في قول الله تعالى في شأنهم في سورة (المطففين/83 مصحف/86 نزول) :
فالطبع على القلوب كناية عن بلوغها مستوى من القسوة وجفاف عواطف الخير. فهي لا تتأثر ببيان، ولا تستجيب لموعظة. فكأنها بيوت مقفلة مطبوع عليها. أو قطعة من المعدن قد علاها الصدأ فغشاها.
دل على هذا جملة من النصوص القرآنية، ويظهر لنا أيضاً من واقع حال الكافرين المعاندين المكذبين، إذ تكون قلوبهم في حجاب كامل عن قبول أية معرفة تتصل بالحق الذي كذبوا به وجحدوه، وتكون ضمائرهم ميتة لا تحس بمشاعر الخير الذي يدعوهم الحق إليه.
وسبب هذا الطبع الذي تصاب به قلوبهم كفرهم وتماديهم في الغي، واستغراقهم في معاصيهم وذنوبهم. وهذه النتيجة هي من السنن الكونية التي حذَّر الله أهل القرى منها، فقال - تعالى - في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) :
فأوضح الله تعالى في هذا النص أن من سنن كونه الطبع على قلوب الكافرين، فهو نتيجة تحصل بسبب ما يكسب الكافرون بكفرهم وجحودهم من ذنوب، وبسبب طول الأمل عليهم وهم مكذِّبون.
وفي نص آخر بيَّن الله تبارك وتعالى أن سبب الطبع على قلوب اليهود إنما هو كفرهم، فقال تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
فالطبع على قلوبهم قد كان بسبب كفرهم وكان نتيجة له، ولكن النتائج الطبيعية السببية والسنن الكونية إنما تتم بخلق الله، ولذلك تنسب إلى الله تبارك وتعالى خلقاً وتقديراً، مع أنها نتائج طبيعية لأعمال يكسبها الناس.
وتحدث الله عن المنافقين فبيَّن أن تحولهم من الإيمان إلى الكفر قد كان سبباً في الطبع على قلوبهم، فقال تعالى في سورة (المنافقون/63 مصحف/104 نزول) :
{
…
إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}
ففي هذه الآية دلالة على أن الطبع على قلوبهم قد جعلها محجوبة عن تقبل المعارف الربانية، فهم لا يفقهون منها ما يهديهم.
وقد تكرر في القرآن بيان الطبع على قلوب المنافقين، وأنهم بذلك لا يفقهون ما يلقى إليهم من هداية، ولا يعلمون ما يضرهم وينفعهم في عاقبة أمرهم، فقال تبارك وتعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :
{
…
وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}
وقال تعالى فيها أيضاً:
{
…
رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}
أي: تخلفوا عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، أي: مع النساء، وطبع على قلوبهم بسبب نفاقهم ومعاصيهم، فهم لا يفقهون ولا يعلمون.
وأكد الله هذه الحقيقة عن المنافقين، وذكر أنهم يتبعون أهواءهم، وطبيعي أن من لا يفقه الحقيقة ولا يعلم العاقبة فلا بد أن يتبع هواه، قال تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول) :
وخصَّ المنافقين بهذا الاهتمام في موضوع الطبع على قلوبهم لأنهم مخالطون للمؤمنين، يستمعون أقوال الهداية باستمرار.
والطبع على القلوب يقترن به الطبع على الأسماع والأبصار، لأنها أهم منافذ القلوب إلى مواد المعارف التي تأتي من خارج كيان الإنسان، ولذلك قال الله تعالى في شأن من شرح بالكفر صدراً في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :
* الأسباب المؤدية إلى الكفر فالطبع على القلوب:
وقد أشار القرآن إلى الأسباب الباعثة على كفر الكافرين والتي يتولدَّ عنها الطبع على قلوبهم ضمن سنن الله الثابتة، وهي ثلاثة أسباب:
السبب الأول: النفسية العدوانية، وفي الإشارة إلى هذا السبب يقول الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) :
{
…
كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ}
السبب الثاني: النفسية الجاهلة المنساقة مع الهوى، والتي لا تريد أن تعلم الحق خشية أن تنغص عليها المعرفة ما هي فيه من استغراق في الفجور، وفي
الإشارة إلى هذا السبب يقول الله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) :
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}
السبب الثالث: النفسية المستكبرة الجبارة، وهذا أخطر الأسباب، ولذلك يكون الطبع بسببه عل كل قلب متكبِّرٍ جبار، وفي الإشارة إلى هذا السبب يقول الله تعالى في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول) :
{....كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}
أي: لا يقتصر على الطبع على بعض قلبه، بل يكون عليه جميعاً.
* تنوع التعبيرات القرآنية للدلالة على حقيقة الطبع على القلوب ومنافذها:
لقد جاء التعبير في القرآن عن هذه الحقيقة التي شرحناها بعبارات مختلفة، فكما رأينا جاء التعبير عنها بلفظ الطبع، ثم جاء التعبير عنها بالأقفال على القلوب، وجاء التعبير عنها بالختم إلى غير ذلك من ألوان في التعبير وكلها تحمل دلالات متقاربة لمدلول عليه واحد أو متقارب.
(أ) فالتعبير بالأقفال على القلوب قد جاء في معرض الحديث عن المنافقين في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول) :
ففي هذا النص تعبيران:
تعبير مباشر بأن نفاقهم قد سبَّب لهم الصمم عن قبول أقوال الهداية، والعمى عن رؤية آيات الله البينات في أنفسهم وفي الكون من حولهم.
وتعبير غير مباشر، وذلك بالنسبة إلى قلوبهم، فقال تعالى:{أم على قلوب أقفالها} ، وهذا كناية عن الحجب التي تحجب بها قلوبهم بسبب كفرهم ونفاقهم.
(ب) والتعبير بالختم نجده في قول الله تعالى في أوائل سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
فهؤلاء الذين كفروا بعد بيان الحق لهم وأصروا على كفرهم وعنادهم قد وصلوا إلى حالة من انطماس البصيرة وتبلُّد الحس لا ينفع معها الإنذار بسوء المصير، لأنهم جحدوا اليوم الآخر وما فيه من جزاء، فالإنذار وعدمه بالنسبة إليهم سواء {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} ، وظاهر أن السبب في ذلك هو ما وصلوا إليه من الختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وما جلَّل أبصارهم من غشاوة حجبتها عن رؤية آيات الله ودلائل وجوده، وحكمته وعدله. وهذا الختم وهذه الغشاوة هما من النتائج الطبيعية لما هم فيه من الكفر المعاند، بعد بيان الحق لهم بمختلف الوسائل.
ونجد التعبير بالختم في قول الله تعالى في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول) :
فهذا فريق من الناس قد اتخذ إلهه هواه، فهو يعبد أهواء نفسه، فيطيعها في أوامرها ونواهيها، ويسارع في تحقيق مطالبها وشهواتها، ولو كان في ذلك أذاه وضره وهلاكه، ومن اتخذ إلهه هواه فقد ضل سواء السبيل، ومن ضل بجنوحه واتباعه أهواء نفسه أضلَّه الله، فحكم عليه بالضلال حكماً مبيناً على علم بواقع حالة الضال، وإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من الضلال واتباع الهوى قسا قلبه، وران عليه ما كسب من إثم، فحُجِب عن إدراك الحقائق الدينية الربانية، غلِّف بغلاف شامل، وختم على هذا الغلاف، وكان شأن أدوات المعرفة لديه كشأن قلبه، فيختم على سمعه أيضاً، فلا يستمع إلى نصيحة، ولا يتقبل موعظمة من مواعظ
الهداية الربانية، ويُجعل على بصره غشاوة، فلا يرى آيات علم الله وحكمته وعدله المنبثة في الوجود.
ولهذا نِسَب تصيب صغراها العصاة من المؤمنين، ونصيب كبراها الكافرين والمنافقين.
وقد يصغي المختوم على قلبه وسمعه إلى المواعظ إصغاءً صورياً، إلا أن هذا الإصغاء الصوري ليس له أثر في النفس، فوجود كعَدمه، ويبقى بعده الإصرار والاستكبار، كأن السامع لم يسمع من الهداية شيئاً، وهذا المعنى قد بيَّنه الله تعالى بقوله في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول) :
فهذا الأفاك الأثيم يسمع آيات الله تتلى، ويظل مصراً على كفره، مستكبراً في نفسه، فكأنه لم يسمع شيئاً، إن بينه وبين الاستماع الحقيقي المؤثر حجاباً من كبر نفسه واتباعه الهوى، فهو مختوم على قلبه وسمعه.
فالتعبيرات قد جاءت في هذا المجال بالأقفال وبالختم وبالطبع، ولعلها مستويات ثلاثة، تبدأ بالأقفال، كأقفال الأبواب، ثم يكون الختم كالختم بالطين أو الشمع بالخاتم المنقوش بصورة متميزة، وهذا الطبع يكون في آخر عمليات أحكام الغلق وتثبيته، وهو كناية عن الانحجاب الكامل الذي تصل إليه قلوب الكافرين والمنافقين، بعد مراحل من العناد والاستكبار.
وقبل الأقفال تتوارد النكت السوداء على القلوب نكتة فنكتة (1) بسبب
(1) النكتة: النقطة السوداء.
المعاصي القلبية حتى يجللها الران، وهذا قد تتعرض له قلوب المؤمنين ولكن في مستوى ما دون الران.
(6)
وصف الكافرين بأنهم كالأنعام بل هم أضل
لقد عطل الكافرون بالله ما وهبهم الله من عقل، وما منحهم من وسائل استنباط واستنتاج، فوقفوا بها عند حدود ظواهر المادة وأسبابها القريبة ولم يؤمنوا بالحقيقة الكبرى التي تدل هذه الظواهر عليها، كما أنهم لم يتسجيبوا لمشاعرهم الفطرية نحو هذه الحقيقة الكبرى.
وبما أنهم عطلوا ما وهبهم الله عما يجب عليهم أن يستعملوه فيه، كانوا هم وفاقد هذه المواهب سواء بحكم النتيجة.
لقد خلق الله فيهم عقولهم ووسائل إدراكهم لينظروا في الكون ويدرسوا خصائصه، وليستدلوا منه على خالقه ومبدعه ومدبر أمره، لكنهم نظروا في الكون فوقفوا عند حدود الظواهر وأسبابها القريبة التي لهم بها مصلحة في حياتهم الدنيا، ثم أنكروا خالقه ومبدعه ومدبر أمره، فكانوا بالنسبة لهذا القطاع الفكري كالأنعام، بل هم لدى التحقيق أسوأ حالاً وأضل سبيلاً، لأن فاقد الشيء أصلاً وهو لا يملك وسيلة لتحصيله واكتسابه معذور بفطرته. فالحيوان الذي لا عقل عنده ولا بصيرة تهديه معذور بضلالته إذا ضل، وربما تضل غريزته عن الإمعان في الضلال. بخلاف الإنسان الذي يعطل عقله عما خلق من أجله فهو غير معذور، والمسؤولية تلاحقه على مقدار ما وهبه الله من قوة إدراك معطلة، ومؤاخذاته تكون أشد، ومسؤولياته تكون أعظم حينما يسخِّر عقله ومواهب فهمه وإدراكه في خدمة أهواء نفسه الجانحة الجامحة، وعندئذٍ ينطلق في ميادين الشر والفساد بذكاء وحيلة، ولا يقف عند حدود محدودة، فلا لجام من غريزته، ولا ضابط من عقله، ومواهبه الذهنية مسخرة لأهواء نفسه في الضلال والفساد والشر، فهو بذلك أضل سبيلاً من الأنعام، ويصح أن يحكم عليه بأنه شر الدواب عند الله.
فإذا ذكِّر بالله والخير وفعل الصالحات لم يسمع من ذلك شيئاً، لأن قلبه مقفل بأقفال الأهواء والشهوات، مطبوع عليه ولو سمع بأذنيه الكلام المذكِّر بالله فإن قلبه وفكره في حجاب غليظ عن سماع مضمونه.
وإذا عرضت عليه آيات الله البينات في نفسه وفي الكون من حوله لم يرَ منها شيئاً، لأن بصيرته محجوبة بحجب الأهواء والشهوات ومصالح الدنيا ولذاتها، فلا يرى من الآيات إلا ظواهرها الدنيوية، أما دلالاتها الحقيقية الربانية فلا يرى منها شيئاً، وتظل بصيرته في عمى عنها، بسبب كفره بربه وبجزائه واليوم الآخر، وبسبب انحصار كل تصوراته في حدود الحياة الدنيا ومتعها وزينتها وهمومها وأحزانها.
فمن أجل ذلك صحَّ وصف هذا الفريق من الناس بأنه أصم أبكم أعمى، وبأنه لا يعقل.
فما قيمة سمع لا يؤدي وظيفته الأساسية؟ وما قيمة بصر لا يؤدي وظيفته الأساسية؟ وما قيمة فكر لا يهدي صاحبه إلى رشده وسعادته؟ إن وجودها وعدمها سواء في حكم النتيجة العاجلة، ووجودها شر وبلاء على صاحبها في حكم النتيجة الآجلة والعاقبة الوخيمة يوم الجزاء الأكبر.
وقد تظاهرت النصوص القرآنية في الدلالة على هذه الحقيقة، منها قول الله تعالى في سورة (الفرقان/25 مصحف/42 نزول) :
فالكافرون بالله الذين اتخذوا أهواءهم آلهتهم لا يسمعون إلى نصائح الهداية، ولا يعقلون نفوسهم عن مواقع الضلالة، وما هم في حياتهم إلا كالأنعام يأكلون كما تأكل الأنعام، ويتمتعون كما تتمتع الأنعام، بل هم أضل منها في الحياة سبيلاً، لأن الأنعام تلجمها غرائزها، أما الكافرون من الناس فليس لديهم ما يلجمهم عن الشر الكبير والفساد العريض.
ومنها قول الله تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول) :
ومنها قوله تعالى في سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول) :
فهم في تمتعهم في الحياة كما تتمتع الأنعام تلهيهم آمالهم، حتى إذا جاءت آجالهم قطعت كل آمالهم.
ومن البديع أن الله تبارك وتعالى قد أثبت لهم قلوباً وأعيناً وآذاناً، ولكنه أثبت أيضاً أنهم لا يفقهون الحق بقلوبهم، ولا يبصرون آيات الله بأعينهم، ولا يسمعون أقوال الهدى بآذانهم، لذلك فهم كالأنعام بل هم أضل وهذه الغشاوات على مداركهم إنما تراكبت عليهم بسبب غفلتهم وانشغالهم بمتاع الحياة الدنيا، قال الله تعالى في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) :
ومن أجل ذلك كانوا شر الدواب عند الله، وهذا ما أعلنه الله بقوله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
فبين الله أن سبب كونهم شر الدواب عند الله أنهم صم عن سماع الهدى، بكم عن قول الخير والاعتراف بالحق، لا يعقلون نفوسهم عن أهوائها الجانحة، وبذلك كانوا كافرين بالله واليوم الآخر، ولو علم الله فيهم خيراً من إيمان أو إرادة للخير لأزال الغشاوات التي تراكبت عليهم فأسمعهم، ولكن لو أسمعهم لتولوا وهم معرضون، فلم ينتفعوا لأنهم هم السبب في هذه الغشاوات الحاجبة لهم.
وأوضح الله في آية أخرى أن شر الدواب عند الله الذين كفروا، فدل ذلك على أنهم هم الصم البكم الذين لا يعقلون، فقال تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
ووصف الله الكافرين في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) بأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون، فقال تعالى:
ووصف المنافقين بمثل ذلك فقال فيها أيضاً:
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}
(7)
موقف الكافرين من المؤمنين
عرفنا أن موقف المؤمنين من الكافرين هو موقف الرغبة بهدايتهم وإرادة الخير لهم، ليظفروا بالحياة الطيبة في الدنيا والسعادة الخالدة يوم الدين.
أما موقف الكافرين من المؤمنين فهو موقف كراهية وعداء، وإرادة تكفير ومحاولات تضليل، ويرافق ذلك حقد وتغيظ كلما رأوا خيراً أصاب المؤمنين، ومع
الكراهية والعداء والحقد والتغيظ تأتي مكايدهم الظاهرة والخفية، وألوان حروبهم الساخنة والباردة، المادية والمعنوية.
وقد تعرضت البيانات القرآنية إلى كل ذلك، وحذرتنا من الركون إليهم، ومن الانزلاق في مزالقهم، والوقوع في حبائلهم، والاستجابة لوساوسهم ودسائسهم التي يقدمونها لنا على صفة نصائح، لنعرف خصومنا وأعداءنا، فنكون على حذر من مكائدهم ودسائسهم، ونستطيع أن نواجه كل مكيدة بما يفعلها، ونملأ الثغور التي يمكن أن ينفذوا منها بالحراس الأسود اليقظين.
* البيانات القرآنية:
أما البيانات القرآنية في هذا المجال فمتعددة، منها البيانات التالية:
(أ) يقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
فهذا النص يكشف موقفاً من مواقف الكافرين تجاه المؤمنين، فهم ما يودون (أي فهم يكرهون) أن يصيب المؤمنون خيراً، سواء أكان خيراً مادياً أو خيراً معنوياً، وذلك لأن كفرهم قائم على الأنانية والحسد، وكراهية الحق والتعصب الأعمى للعقائد الموروثة. وهذه العوامل تجعلهم يكرهون الخير للمؤمنين الذين يخالفونهم في عقيدتهم وفي منهج حياتهم.
إن الكافرين في كل هذا على عكس المؤمنين، وذلك أن المؤمنين يحبون الخير للناس أجمعين، وأول ما يحبون للناس النجاة والسعادة بالإيمان الإسلام وطاعة الله والرسول، وقيادة الخلق إلى الحق، ثم يحبون انتشار السلم والأمن والسعادة في الناس أجمعين، ومشاركة الناس لهم فيما هم فيه من سعادة ومجد وخير عظيم.
(ب) ويقول الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ
مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَآأَنْتُمْ أُوْلا?ءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُو?اْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
ففي هذا النص يكشف الله عدداً من العناصر التي يشتمل عليها موقف الكافرين من المؤمنين، بعد أن ينهى المؤمنين عن أن يتخذوا بطانة من دونهم.
1-
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} ، أي: لا تتخذوا أقواماً من غيركم من الكفار والمنافقين بطانة يداخلونكم ويخالطونكم، ويطلعون على أسراركم، ويقدمون إليكم نصائحهم ومشوراتهم.
وبطانة الرجل أهل سره ممن يسكن إليهم ويثق بهم، والكلمة مستعارة من بطانة الثوب التي تكون مداخلة مخالطة، وتكون أقرب إلى ملامسة الجسد.
2-
{لا يألونكم خبالاً} ، أي: لا يقصرون في إفسادكم وتدبير المكايد ضدكم.
3-
{ودوا ما عنتم} ، أي: ودوا عنتكم، والعنت المشقة والشدة والضيق والضرر الشديد، فهم يتمنون كل ذلك لكم، وهذا غاية العداء.
4-
لذلك فلا بد أن تبدو البغضاء من أفواههم فيما يقذفون عليكم من أقوال، رغم تكتمهم، ورغم تصنعهم {قد بدت البغضاء من أفواههم} .
5-
وهذا يدلنا على أن ما يخفون في صدروهم أكبر بكثير مما يظهر على ألسنتهم، أو يبدو في أعمالهم {وما تخفي صدورهم أكبر} ، فهم في الظاهر قد ينافقون ويداهنون، ولكنهم إذا خلوا كشفوا ما في صدورهم من غيظ {وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل: موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور} .
6-
هذا الموقف العدائي من الكافرين للمؤمنين يلازمه طبعاً أن يسوأهم
ما يسركم وأن يسرهم ما يسوؤكم، فإن تمسسكم حسنة من خير الدنيا ولو مساً خفيفاً ساءهم ذلك، وإن تصبكم سيئة إصابة بالغة سرهم ذلك ففرحوا بها {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} .
7-
{ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم} ، أي: فلا تكونوا مغفلين بعد أن عرفتم موقفهم العدائي منكم أيها المؤمنون.
(ج) ويقول الله تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول) :
طبيعي أن من كان بهذه النسبة من العداوة المبينة في النص السابق أن يكون على نار من الغيظ، فمتى سنحت له الفرصة ليسطو بعدوه سطا بعنف وقسوة، فحاله حال قابع منتظر يتربص الدوائر، حتى إن أمارات الرغبة بالسطو تظهر على وجوههم، فيقرأ المتفرس الخبير هذه الرغبة المنكرة في وجوههم.
فالحذر منهم يجب أن يكون حذراً بالغاً، حتى لا يسقط المؤمنون في مكيدة من مكائدهم، وحتى لا يقعوا فريسة سطو مفاجئ منهم، إن هذا أقل ما يجب بالنسبة لأعداء مبغضين لا يألون جهداً في ضر المسلمين.
(د) ويقول تعالى في سورة (الممتحنة/60 مصحف/91 نزول) :
نزل هذا النص لتربية المؤمنين بمناسبة ما فعل حاطب بن أبي بلتعة، إذ حاول أن يرسل إلى مشركي مكة خبر عزم الرسول على التوجه إليهم، وكان ذلك قبيل فتح مكة.
وقد اشتمل هذا النص على بيان موقف الكافرين من المؤمنين، ليقف المؤمنون منهم موقف الحذر وعدم الموالاة.
1-
فالكافرون يعادون الله ويعادون المؤمنين، فهل يليق بالمؤمنين العقلاء أن يتخذوا من الكافرين أولياء يلقون إليهم بالمودة؟ {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} .
2-
وسبب عدائهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحق فهم مخالفون لكم في أصل العقيدة والخلاف في العقيدة يمثل تبايناً جذرياً بين المتخالفين {وقد كفروا بما جاءكم من الحق} .
3-
ومن مظاهر عدائهم لكم أنهم قد أخرجوا الرسول وأخرجوكم فعلاً من دياركم وأموالكم في مكة، ويخرجون كل مؤمن، لأنهم وجدوكم قد آمنتم بالله ربكم، فنقموا عليكم ذلك، واعتبروكم أعداء للخلاف الاعتقادي الذي خالفتموهم فيه منذ آمنتم بالله ربكم وكفرتم بآلهتهم وعقائدهم الباطلة.
4-
وقلوبهم مملوءة بالغيظ والحنق عليكم {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} .
إن رغبتهم ببسط الأيدي والألسن بالسوء إليكم رغبة متربصة، تنتظر فرصة سانحة حتى تتحول إلى تنفيذ مادي وتطبيق عملي.
وبسط الأيدي بالسوء يكون بالحرب والقتال، وبسط الألسنة بالسوء يكون بالطعن والتجريح والهزء والسخرية والسباب والشتائم ونحو ذلك.
5-
{وودوا لو تكفرون} ، وهذه هي الرغبة الأساسية التي تحل مشكلة نفوسهم ضدكم، فهم ما نقموا منكم إلا أن تؤمنوا بالله العزيز الحميد.
(هـ) ويقول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
فالكافرون يحرصون أشد الحرص على تحويل المؤمنين من الإيمان إلى الكفر، ويبدو أن رغبتهم هذه تعبر عن نفسها بمحاولات كثيرة يتخذونها لإفساد أحوال المسلمين، وإخراجهم من الإيمان إلى الكفر.
(و) ويقول الله تعالى في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول) :
فالكافرون لا يقفون عند حدود الرغبة بتكفير المؤمنين، بل يدعونهم لاتباع سبيلهم، ويزينون لهم هذه الدعوة، ويزعمون لهم أنهم يحملون عنهم آثامهم، إن كان في الكفر وفي اتباع سبيلهم آثام.
(ز) ويقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
فهم لا يكتفون بالتبشير اللساني من أجل تكفير المؤمنين، بل يقاتلونهم حتى يردوهم عن دينهم ويعيدوهم كفاراً.
وبين الدعوة اللسانية التبشيرية والقتال من أجل التكفير، تأتي مختلف الوسائل التي تزيد على التبشير اللساني وتقل عن القتال.
(ح) من أجل كل ذلك حذر الله الذين آمنوا من طاعة الذين كفروا، فقال تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
وقال فيها أيضاً:
* خلاصة ما اشتملت عليه هذه البيانات القرآنية:
باستطاعتنا أن نلخص موقف الكافرين من المؤمنين اقتباساً من البيانات القرآنية بالعناصر التالية.
1-
ما يود الذين كفروا أن ينزل على المؤمنين أي خير من ربهم، وهذا العداء يعود إلى جذور نفسية قائمة على الأنانية والحسد والتعصب الأعمى.
2-
لا يألوا الكافرون في إفساد أحوال المؤمنين وتدبير المكايد ضدهم.
3-
يود الكافرون للمؤمنين كل عنت ومشقة وشدة وضيق وضرر.
4-
الكافرون يبغضون المؤمنين بغضاً شديداً يطفح على تصرفاتهم، حتى تبدو البغضاء من أفواههم، وطبيعي أن ما تخفي صدورهم أكبر.
5-
قد يداهن الكافرون في الظاهر بمقتضى نفاقهم، ولكنهم إذا خلوا عضوا على المؤمنين الأنامل من الغيظ.
6-
من سمات الكافرين أنهم يستاؤون إذا مست المؤمنين حسنة، ويفرحون إذا أصابت المؤمنين سيئة.
7-
ملامح إرادة الشر بالمؤمنين تظهر على وجوه الكافرين، فيعرف أهل الفراسة في وجوه الذين كفروا المنكر، ويقرؤون فيها رغبة السطو والاعتداء، كلما ظهر الذين آمنوا بإيمانهم وبالدعوة إلى ربهم.
8-
الكافرون يعادون الله ويعادون المؤمنين.
9-
سبب عدائهم للمؤمنين أنهم مخالفون لهم في أصل العقيدة.
10-
لعدائهم للمؤمنين مظاهر شتى، منها إخراجهم من ديارهم وأموالهم.
11-
إن يثقفوا المؤمنين يبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء.
12-
يودون لو يكفر المؤمنون فيكونون سواء معهم عقيدة وسلوكاً.
13-
يتخذون وسائل شتى لتحقيق رغبتهم بتكفير المؤمنين، أدناها الدعوة اللسانية التبشيرية، وأعلاها الحرب بكل صورها وأشكالها.
*
…
*
…
*
لكل ذلك حذر الله المؤمنين مما يلي:
1-
حذرهم من أن يتخذوا الكافرين أولياء.
2-
حذرهم من أن يتخذوا بطانة من دونهم (كافرين أو منافقين) .
3-
حذرهم من أن يلقوا إليهم بالمودة على حساب العقيدة أو على حساب مصلحة المسلمين.
4-
حذرهم من أن يغفلوا عنهم، وأمرهم بأن يكونوا على يقظة تامة، حتى لا تدخل عليهم مكايد الكافرين من حيث لا يشعرون.
5-
حذرهم من طاعة الكافرين، لأنهم إذا أطاعوهم ردوهم عن إيمانهم فانقلبوا كافرين خاسرين.
(8)
جدليات الكافرين
(أ) الجدال بالباطل إحدى صفات الكافرين الكبرى:
وقد وصف الله الكافرين بأنهم يجادلون بالباطل ليُدحضوا به الحق، أي: ليزيلوا به الحق من مواقع ثباته واستقراره في العقول والنفوس، كما هو مستقر وثابت في الواقع والحقيقة، فقال تعالى في سورة (الكهف/18 مصحف/96 نزول) :
إنهم لا يقتصرون على الجدال بالباطل، بل يضيفون إليه عمليات الهزء والسخرية لتغطية فساد أسلحتهم التي يستعملونها في الجدال.
والجدال بالباطل صفة ملازمة للكافرين في كل عصر، قال الله تعالى في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول) :
فالذين كفروا من قوم نوح والذين كفروا من بعد قوم نوح إلى مشركي قريش وكفار أهل الكتاب إلى غيرهم كل أولئك قد جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولذلك أعطى الله الكافرين هذا الوصف، وجعله وصفاً مستمراً في كل الكافرين، ومتجدداً ما تجدد في الناس كفر.
وهذا شيء طبيعي فيهم ما داموا ملتزمين جانب الباطل، إنهم يريدون أن يبرروا سلوكهم، ويدعموا آراءهم ومذاهبهم بأية وسيلة، لكن شيئاً من الحق لا ينصرهم ولا يدعم ما هم فيه، ولا يبرر سلوكهم، فاقتضى واقع حالهم أن يزينوا الباطل ويزخرفوه ويجادلوا به، ليدحضوا به الحق القوي الثابت.
ومرض نفوسهم آتٍ من قبل داء الكبر، إنهم يستكبرون عن أن يعترفوا بالحق، وهم ملتزمون جانب الباطل بتأثير أهوائهم، ويجادلون بالباطل المزخرف، ليعطوا أنفهسم صورة الكمال بين الناس، وليُغَشُّوا على بصائرهم حتى لا تنزل مكانتهم في نفوسهم، وهذا ما نبه الله عليه بقوله تعالى في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول) :
فهؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، أي: بغير حق
ولا حجة منه، هم من المتكبرين الجبابرة، الذين طبع الله على قلوبهم، إذ حجبوها عن رؤية الخير والهدى، بما جمعوا في نفوسهم من كبر متجبر.
ولما أكثر الكافرون على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من جدلياتهم الباطلة كشف الله له داء نفوسهم هذا، وأمره بأن يستعيذ به، ليقوى على الصبر عليهم، وليفتح الله له من الحجج ما يدمغهم، فقال الله له في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول) :
أي: ما في صدورهم من كبر ناشئ عن أوهامهم حول أنفسهم لم يكونوا ليبلغوه في واقع حالهم، فهم يجادلون بغيرسلطان أتاهم، والأمر الخطير أنهم يجادلون في آيات الله.
وحينما يجادل الكافرون يذهبون مذاهب متهافتة شتى، ويخبطون بغير علم خبط عشواء، ويقررون أموراً باطلة، ويلجؤون إلى الكذب تارة، وإلى المراوغة تارة أخرى، ويغالطون في الحقائق بالتعميم أو بالتخصيص أو بالحذف أو بالإضافة أو بالتمويه والإيهام، أو بنحو ذلك، ونجد الإشارة إلى ذلك في قول الله تعالى في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول) :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي? آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ}
أي: فهم يصرفون إلى سبل شتى من سبل الباطل والزيغ، ويتعلقون في جدالهم بما ليس فيه حجة مقبولة.
والعجيب في الأمر أن الكافرين يجادلون في الله وفي آيات الله دون أن يكون لهم سند من علم صحيح، أو من عقل منطقي سليم.
وهم قسمان: أتباع وقادة.
أما الأتباع فقد ذكرهم الله بقوله في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول) :
فهؤلاء يجادلون في الله بغير علم، ويتبعون في جدالهم القادة الشياطين المردة، الذين يضلونهم ويسوقونهم إلى عذاب النار.
وأما القادة فقد ذكرهم الله بقوله في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول) :
فهؤلاء يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وهم يستكبرون بين الناس متعالين بموقفهم القيادي، ويعرضون إعراض كبر وترفع، ليحافظوا على منزلتهم في نفوس أتباعهم وفي نفوس الآخرين، ويزيد ذلك حينما تنكشف أو تبدأ تنكشف ثغرات الضعف في حججهم التي يسوقونها، فيلاحظ أن أحدهم كلما شعر بضعف موقفه في النقاش ثنى عطفه استكباراً ليضل عن سبيل الله، ومن أجل ذلك كان له عند الله عقابان، فله في الدنيا خزي، وله في الآخرة عذاب الحريق.
أمام هذا الواقع الذي عليه الكافرون اقتضت ضرورة حماية الدعوة وتثبيتها وتأييدها مقارعة السلاح بنظيره. فكان على المؤمنين أن يقاوموا الجدال بالجدال، ويقارعوا الحجة بالحجة، ويدحضوا الباطل بالحق، ولكن جدال المؤمنين يجب أن يكون جدالاً بالتي هي أحسن، وهذا ما أمر الله به رسوله إذ قال له في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :
وما خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خطاب عام لكل المؤمنين ما لم يكن من خصوصيات الرسول بدليل خاص.
(ب) أصول جدليات الكافرين حول الحقائق الدينية:
لقد جادل الكافرون في قضية الإيمان الكبرى: في قضية التوحيد، في قضية الرسول والرسالة، في قضية الإيمان باليوم الآخر، في قضية الكتاب المنزل من عند الله، في قضية القضاء والقدر، إلى غير ذلك.
وكانت جدلياتهم في كل ذلك تعتمد على ما يلي:
1-
الاحتجاج بما كان عليه آباؤهم، وظاهر أن هذا ليس بحجة مقبولة عند العقلاء، لأنه تعبير عن التقليد الأعمى.
2-
جحود الحقائق والأدلة الظاهرة بالمكابرة، والإصرار على اعتبارها من قبيل السحر أو الكذب أو الباطل، أو أساطير الأولين، وظاهر أن مثل هذا ليس بحجة، وإنما هو فرار من الإذعان إلى إطلاق الشتائم وتكذيب للحقائق بالأوهام.
3-
الاحتجاج بالاستغراب والاستبعاد، دون سند من العقل الصحيح، والاستغراب والاستبعاد حجة مرفوضة، لأنها تعتمد على عدم الألف للموضوع، أو أنه لم تسبق فيه مشاهدة حسية، وليس شيء من ذلك بمقبول منطقياً، فما كل حقيقة يجب أن تكون مألوفة، أو يجب أن تسبق فيها مشاهدة حسية للناس، كلهم أو بعضهم.
4-
الاحتجاج بامتياز الكافرين على المؤمنين بوسائل الرفاهية والترف في الحياة، واعتبار ذلك دليلاً على فساد عقيدة المؤمنين ومنهجهم، لأنهم لو كانوا على حق لأغناهم الله وزادهم رفاهية وترفاً، وهذه حجة ساقطة، لأن أي عاقل يدرك أسس الإيمان وأهداف الحياة الدنيا، يعلم أن الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء، وأن إحدى مواد الامتحان في هذه الحياة الابتلاء بالغنى أو بالفقر، بحسب حالة كل إنسان، وأن الابتلاء بالغنى ليس تكريماً، وأن الابتلاء بالفقر ليس بإهانة، حتى إذا انتهت فترة الامتحان وجاء دور الجزاء الأكبر في الأخوة،
ظهر تمييز المؤمنين على الكافرين، فللمؤمنين دار النعيم الخالد، وللكافرين دار الشقاء الأبدي.
5-
الاحتجاج بتعللات القضاء والقدر، وفق المفاهيم الجبرية المرفوضة في الدين، وظاهر أن مثل هذا ليس بحجة أصلاً، ما دام الدين - الذي هو مصدره الوحيد -يرفضه ولا يقبله، وذلك لأن مفاهيم القضاء والقدر الصحيحة إنما نأخذها على الدين، فمن تعلل بعلة دينية يرفضه الدين نفسه، فقد كذَّب على الدين ليحتج عليه بما ليس فيه ولا منه.
6-
جدال لا أساس له إلا الكبر الطبقي، كقول الكافرين عن فقراء المؤمنين:"لو كان خيراً ما سبقونا إليه" وهذه حجة مضحكة للعقلاء، وقد زينها في أذهانهم اغترارهم بأنفسهم واستكبارها بما لديهم من متاع الحياة الدنيا.
7-
اللجوء إلى عمليات الصد عن استماع الحق، والشتائم الهزء والسخرية ونحو ذلك، مما يفعله المبطلون حينما تتهاوى حججهم، وتتساقط أدلتهم، وينقطعون فلا يستطيعون مجاراة الفكر بالفكر، والحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان.
(ج) نظرات تفصيلية حول جدلياتهم:
ونلقي في هذه الفقرة نظرات تفصيلية حول طائفة من جدليات الكافرين في قضايا الإيمان الكبرى، لنتبين مدى ما هم فيه من سقوط فكري فاضح حينما يعالجون قضايا تتعلق بعقائدهم ومناهجهم في الحياة، مخالفين فيها حقائق الدين وشرائعه.
* جدالهم حول قضية التوحيد:
لقد جادلت عاد قوم هود رسولهم هوداً عليه السلام في آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، مع أن معبوداتهم هذه لا تزيد في واقع حالها على أنها أسماء سموها هم وآباؤهم، لا يؤيد استحقاقها للعبادة سند من علم أو عقل، ولا سلطان من دين صحيح، وقد حكى الهل جدالهم لهود عليه السلام في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) :
فهم قد اخترعوا من عند أنفسهم أسماء وجعلوها آلهة يعبدونها، وجادلوا فيها بغير قاعدة علمية، واكتفوا بحجة التقليد الأعمى.
وجادل كفار قريش رسول الله محمداً صلوات الله عليه في قضية التوحيد، ولم يكن لهم حجة إلا التعجب من جعل الآلهة إلهاً واحداً، واتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالاختلاف والافتراء على الله، وقد وصف الله حالهم ومقالتهم في سورة (ص/38 مصحف/38 نزول) فقال تعالى:
وليس في تعجبهم ولا في اتهام الرسول بالاختلاق حجة مقبولة عند العقلاء، فالتعجب لا ترفض به الحقائق، والاتهام بالكذب والاختلاق لا يمثل حجة ذات وزن مطلقاً لدى العقول السليمة، باستطاعة أي إنسان أن يتهم كل الناس بالكذب والاختلاق، وأن يطلق كلمة الباطل على أية حقيقة، ولكن هذا شأن الذين لا يحترمون نفوسهم وعقولهم.
* جدالهم في قضية الرسول والرسالة:
جادل الملأ من قوم نوح لرفض رسالته التي أرسله الله بها، وإثبات أنه مفترٍ كذاب، ولكنهم لم يأتوا بأية حجة منطقية مقبولة لدى العقلاء، وكانت حجتهم مجرد توجيه التعجب والاستغراب والاستبعاد، إذ تعجبوا أن يكون الرسول بشراً مثلهم، وافترضوا أن الواجب يقتضي بأن يكون ملكاً من الملائكة لو أن الله شاء أن يرسل رسولاً.
هذه كانت حجتهم مع أن الحكمة تقتضي بأن يكون الرسول إلى البشر من البشر أنفسهم لا من الملائكة.
ويحكي الله لنا مقالة الملأ من قوم نوح في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول) :
فهؤلاء بعد أن قدموا التعجب كحجة لهم انتقلوا إلى الاحتجاج بأنهم ما سمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وفي هذا تبرر للتعجب من جهة، واحتجاج بالتقليد الأعمى من جهة أخرى، ثم انتقلوا إلى إطلاق الشتائم، وكل هذا ليس له في مجال الاحتجاج المنطقي نصيب، ولكن دافع الكبر كان حجاباً لهم على الاستجابة له، أومأ إلى ذلك قولهم "يريد أن يتفضل عليكم".
ومثلما قال قوم نوح قال أيضاً من بعدهم قوم هود، يقول الله تعالى حكاية لقولهم في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول) :
وهكذا نلاحظ أنهم لم يقدموا دليلاً في جدالهم حول قضية الرسول وقضية الآخرة غير مجرد الاستغراب والاستبعاد، وإيراد عبارات التعجب، وأنت خبير بأنه ليس في التعجب شيء يصح أن يحتج به أصلاً، ولكنها تعلات الكافرين.
ودرج مشركو قريش وسائر كفار العرب على طريقة أسلافهم في الاحتجاج لرفض رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ويقص علينا أنباء جدلياتهم فيقول جلَّ وعلا في سورة (الفرقان/25 مصحف/42 نزول) :
هذه مقالات قالوها رداً على دعوة الرسول لهم، وهي كما رأينا تشبه مقالات الأمم قبلها، وهي تمثل صورة الجدال المتعنت، الذي اشتط في مطالبه، زاعماً أنه يريد أن يستوثق من صحة رسالة الرسول وصدق نبوته.
لقد تعجبوا من أن يكون الرسول بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، زاعمين كما زعم الذين كفروا من قبلهم أن الرسول الذي يتلقى عن الله ويبلِّغ الناس ينبغي أن يكون ملكاً، حتى يصلح لاستقبال الرسالة الربانية وتلقي الوحي الإلهي، أو يكون هذا الملك مرافقاً للرسول من البشر.
هكذا طرحوا مقالاتهم على هذا الأساس الضعيف الذي لا يشتمل على حجة صحيحة.
وقد جاء الرد القرآني على مقالتهم هذه في قول الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
وفي قول الله تعالى في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُو?اْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلَاّ أَن قَالُو?اْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً * قُل
لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلا?ئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}
فإذا أردنا أن نحلل هذا الرد القرآني إلى عناصره وجدنا فيه بياناً كافياً مفحماً.
إن يتضمن بيان فساد ما زعموه من ضرورة كون الرسول ملكاً، وبيان أن الحكمة تقتضي أن يكون الرسول إلى البشر من البشر لا من الملائكة، فلو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزَّل الله عليهم ملكاً رسولاً، لكنهم بشر، فالحكمة تقتضي أن يكون الرسول إليهم من جنسهم، لأن الرسول مبلغ رسالة ربه، وقائد أمته، وأسوة لهم في كل الشؤون التي يعظهم بها، فلو كان الرسول إلى البشر من الملائكة لا من الناس لكانت حجة الناس عليه أنه لا يشعر بمثل مشاعرهم، وليس له من الغرائز والشهوات والأهواء مثل ما لهم، لذلك فهو لا يصلح أن يكون أسوة لهم، ثم لا يكون حجة عليهم في استقامته والتزام شريعة ربه، ولو كان ملكاً لكان أبسط جواب يردون عليه أن يقولوا له: لو كان لك مثل غرائزنا وأهوائنا وشهواتنا لعصيت مثلنا، ولما استقمت على صراط الله، ولكنه لما كان كامل البشرية مستجمعاً لكل عناصرها وخصائصها كان حجة عليهم في سلوكه، وأسوة لهم في جميع الأمور.
وكان للكافرين مطلب آخر أخلف من مطلب كون الرسول ملكاً، فقد طالبوا أن يكون مع الرسول شاهد من الملائكة يراه الناس ويبلِّغ عن الله، ثم يقوم الرسول من البشر بوظائف الرسالة.
وقد جاء الرد القرآني على هذا في قوله تعالى: {ولو أنزلنا مَلَكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون} .
وهذا الرد يتضمن بيان طبيعة الملائكة، وأنهم إذا نزلوا وظهروا للناس بيهئتهم الحقيقة فإن أمراً خطيراً من أمور الغيب ينكشف عندئذٍ للناس، وعندئذٍ لا يبقى للكافرين أي عذر يعتذرون به، ولا يبقى للإمهال أي معنى، فإذا أصروا على الكفر بعد ذلك فإن أمر إهلاكهم لا بد أن يقضى في الحال، وعندئذٍ فهم لا ينظرون،
فليس بعد كشف الغيب مجال للإمهال، كما أنه ليس بعد انكشاف الغيب عند الموت مجال للتوبة، وليس بعد ظهور الآيات الكبرى كطلوع الشمس من مغربها مجال للتوبة أيضاً، فمن رحمة الله بهم أن لا ينزل إليهم الملائكة بصورهم وهيئاتهم الحقيقية، ليترك لهم مجالاً للتوبة والإيمان بعد روية وأناة وتبصر بالحقائق الكبرى.
وجاء في الرد القرآني أيضاً قوله تعالى {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً، وللبسنا عليهم ما يلبِسون} .
ويتضمن هذا الرد أن الله لو استجاب لهم فأرسل لهم رسولاً ملكاً في حقيقته لكان مقتضى الحكمة يُلزم بأ، لا ينزل إليهم بصورته وهيئته الملائكية، وعندئذٍ فإن أفضل صورة ملائمة يحسن أن يتمثل بها هي صورة رجل من الناس، ولو أنزل الله ملكاً على صورة رجل من الناس لالتبس عليهم الأمر، ولما علموا هل هو بشر أو ملك؟ ولانتهى بهم الأمر إلى مثل ما هم فيه من لبس، إذ يلبسون على أنفسهم الحقائق، فيكفرون بالرسالة.
إنهم كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أمانته وصدقه، ويشاهدون الآيات التي آتاه الله إياها، فكيف يكون حالهم مع ملك يأتيهم على صورة رجل وهم لا يعرفون شيئاً عنه؟! إن التباس الأمر عليهم سيكون أشد وأبلغ.
من كل ذلك يتضح أن الحكمة تقتضي من كل الوجوه أن يكون الرسول المرسل إليهم بشراً لا ملكاً.
ولكن من حقه أن يطالبوا بآيات صدق نبوته ورسالته، وقد آتى الله كل رسول من الآيات ما يكفي لإثبات أنه رسول الله حقاً، وهنا تنقطع حجة الكافرين، وتدمغهم حجة الحق، ولا يبقى لهم إلا العناد.
أما اقتراحهم أن يُلقى إلى الرسول كنز أو أن تكون له جنة يأكل منها فهو اقتراح تعنتي عنادي ليس له قيمة جدلية ولا منطقية، على أنهم لم يقتصروا على المطالبة بأن يلقى إليه كنز أو تكون له جنة، بل أضافوا إلى ذلك مقترحات أخرى مشابهة، منها ما تضمنه قول الله تعالى في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :
باستطاعتنا أن نحصي من النصوص السابقة مطالبهم ومقترحاتهم التعنتية التي علقوا إيمانهم بالرسول على وجود بعضها بما يلي:
الاقتراح الأول: أن يكون الرسول ملكاً لا بشراً، وهذا هو المطلب الأساسي الذي ينم عن كبر نفوسهم عن اتباع بشر مثله، ولو اصطفاه الله عليهم واختاره لحمل رسالته.
الاقتراح الثاني: أن ينزل إلى الرسول ملك يؤيده ويشهد له ويدعو إلى الله معه، يراه الناس ويخاطبونه.
الاقتراح الثالث: أن يلقي إليه كنز عظيم فيكون أغنى قومه.
الاقتراح الرابع: أن تكون له في الدنيا جنة كبيرة من نخيل وعنب تتفجر الأنهار خلالها تفجيراً، فإذا اكتسب مجد الثراء والغنى والرفاهية مثل عظماء الأرض اتبعوه.
الاقتراح الخامس: أن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً يجري في مكة أو ما حولها كأنهار الشام ومصر والعراق.
الاقتراح السادس: أن يكون له بيت عظيم من زخرف (أي: من ذهب) يرتفع به ارتفاع الملوك العظماء.
الاقتراح السابع: أن ينزل عليهم العذاب الذي أنذرهم به، فيسقط السماء
عليهم كسفاً (أي قطعاً تهلكهم) وهذا إمعان منهم بتكذيبه، وليس طلباً حقيقياً للعذاب.
الاقتراح الثامن: أن يأتي بالله وملائكته قبيلاً (أي: طرفاً سماوياً) يحاربهم وينصر الرسول إن كان صادقاً، وهذا أيضاً إمعان منهم بتكذيب رسالته.
الاقتراح التاسع: أن يرقى في السماء، ومع ذلك فلن يؤمنوا به لمجرد رقيه، بل لا بد من أن ينزَّل عليهم من السماء كتاباً مسطوراً يقرؤونه.
ولدى التحقيق نجد أن الباعث لكل هذه المطالب المتعنتة كبر في صدورهم وهوى في نفوسهم. لقد رفضوا اتباع بشر منهم، واستكبروا أن يكون الرسول إنساناً ليس له ملك ولا ثراء، وليس له جاه عريض عند الناس، وقد صرحوا بكبرهم هذا، وقص الله علينا تصريحهم بقوله في سورة (الزخرف/43 مصحف/63 نزول) :
{وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ
…
} .
على أن الله تعالى لو استجاب لهم فأنزل عليهم كتاباً من السماء فلمسوه بأيديهم لما آمنوا به، لأنهم متعنتون، وقد بين الله واقعهم هذا بقوله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
وأما مطالبهم التي تستند إلى عنصر الكبر الطبقي فهي مطالب لا تستحق الإجابة أصلاً، لأنها فاسدة في قواعدها الكفرية والأخلاقية والدينية، وما كان الامتياز بالمال والثراء وامتلاك الجنات ليؤهل للتكريم عند الله ولا عند العقلاء من الناس، فليس من شأن دين رباني ولا من شأن أي مبدأ صحيح أن يعترف بمثل هذا الامتياز الذي ليس له أساس مقبول، ولا أن يستجيب للمطالب التي تتعلق به، فالاستجابة توحي بالاعتراف، وهذا يخالف أصل المبدأ، وقد اختار الله لخاتم أنبيائه أن
لا يكون من أهل الغنى والثراء الكبير، وأن لا يكون ملكاً من الملوك، لتصحيح مفاهيم الناس عن عناصر التفاضل الصحيح، لذلك فلا ينقض الله حكمته هذه، وقضية الرسالة تحتاج إلى خصائص لا يدخل المال والثراء وامتلاك الجنات فيها، والاصطفاء بالرسالة فضل من الله ورحمة، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء.
بقي ما طلبوه من الآيات المادية كتفجير الأنهار في مكة وما حولها، وإزاحة جبالها وتوسيع أراضيها، وغير ذلك من آيات تشبه الآيات المادية التي أجراها الله على أيدي موسى وعيسى وصالح وغيرهم من النبيين، وهذا المطلب قد أكدوه وألحوا عليه، وذكره الله في مناسبات متعددة، منها قوله تعالى في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول) :
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ..} .
وقد يبدو للنظر الأول تساؤل يتضمن الميل إلى تلبية طلبهم الآيات، إلا أن واقع حالهم ما كان ليفتقر إلى إقامة الأدلة للاقتناع بصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أنزل الله من الآيات ما فيه الكفاية لمن أراد أن يقتنع بالحق، وفي مقدمة هذه الآيات معجزة القرآن، وإنما كانوا يطالبون بالآيات المادية على سبيل التشهي والتعنت، والله تبارك وتعالى لا يتخذ خرق سننه الدائمة ألعوبة في أيدي المتعنتين أو المتفكهين المتشهين، إنما يخرقها بمقدار حاجة الناس إلى إقامة الدليل الذي يدلهم على صدق رسالة الرسول، على أن الله لو أنزل هذه الآية التي طلبوها لكذبوا بها، فقد كذب بها من قبلهم من الأمم، وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :
وبعد أنواع ذات مراحل من جدال الذين كفروا حول رسالة الرسول وإقامة الحجة عليهم بأدلة مختلفة، لم يكن من فريق منهم إلا الإصرار على موقف الإنكار، ولم تُجدِ فيهم حجج ولا براهين، وموقفهم هذا قد أعلنه الله في آخر سورة
(الرعد/13 مصحف/96 نزول) :
ولما لم تنفع فيهم ألوان المعالجة بالحجة المقنعة، ولم تُجد فيهم البراهين، كان من الخير حسم الأمر معهم، وقطع أطراف الجدال، وإعلان الاستغناء عنهم فقال الله لرسوله:{قل: كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} ، وفي هذا إشعار بنفض اليد من رجاء إصلاحهم، وبإنهاء معالجتهم والصبر على مجادلتهم، وفيه أيضاً إعلان أن الرسول ليس بحاجة إلى شهادة منهم على أنه رسول الله، وإنما غرضه هدايتهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، والأخذ بأيديهم إلى السعادة الخالدة، أما الشهادة له بأنه رسول الله حقاً فيكفيه منها شهادتان:
الأولى: شهادة الله له بها، وذلك فيما أتاه من آيات عظيمة، وفي مقدمتها القرآن المعجز في لفظه ومعناه.
الثانية: شهادة من عنده علم الكتاب، وهم الذين عرفوا من كتبهم صفاته فآمنوا به، وشهدوا له بأنه رسول الله حقاً، والذين رأوا في معجزة القرآن ما يثبت لهم أنه رسول الله فشهدوا له بذلك.
وبهذا يحسم الأمر وينقطع الجدال، ويصبح الموقف موقف انتظار حكم الله في أهل الكفر.
ومن قبل محمد صلى الله عليه وسلم جاء عيسى عليه السلام قومه بطائفة من الآيات البينات والمعجزات الباهرات، فقال الذين كفروا من قومه {إن هذا إلا سحر مبين} وأخذوا يجادلون في آيات الله على هذا الأساس الفاسد، وهذا ما بيَّنه الله بقوله في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :
{إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي? إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}
هذا مع أن الآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام آيات عظيمة، وهي حق وليست بسحر، ولكن المصرين على الكفر بالمكابرة لا يجدون سبيلاً إلا أن يجادلوا بالباطل، فيجعلوا ما هو حق واضح مشاهد ملموس سحراً من السحر.
وهذا اللون من ألوان جدال الكافرين لون يعتمد على جحود الواقع الملموس واعتباره وهماً من الأوهام، وسحراً من السحر الذي تنخدع به الأبصار، دون أن يكون له في الواقع حقيقة تطابق ما أدركه الحس بالتوهم أو بالتخيل، وما دام الكافرون مصرين على موقف الجحود والإنكار مهما ظهر لهم وجه الحق، فليس لهم حجة أمام البينات المادية المدركة بالحس إلا أن يقولوا ك {إن هذا إلا سحر مبين} .
وقد أوضح الله هذه الحيلة الجدلية من حيل الكافرين بقوله لرسوله في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
* جدالهم في قضية الآخرة:
وجادل الكافرون في قضية الآخرة والبعث بعد الموت، وكان أهم ما اعتمدوا عليه من حجة إظهار التعجب، والإنكار على أساس الاستغراب والاستبعاد، وظاهر أن مثل هذا لا يمثل حجة مقبولة عند العقلاء.
لقد عرض القرآن جدلياتهم في هذا الموضوع، فمنها قول الله تعالى في سورة (النمل/27 مصحف/48 نزول) :
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُو?اْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا
نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَآ إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ}
فقد اشتملت مقالة الكافرين الجدلية لإنكار الآخرة والبعث بعد الموت للجزاء يوم الدين - كما جاء في هذا النص - على عنصرين:
العنصر الأول: الإنكار القائم على الاستغراب والاستبعاد.
العنصر الثاني: الإنكار القائم على بعد أجل يوم الدين ومرور أجيال من الآباء والأجداد دون أن يأتي وقت تحقيق الموعود به، وهذا ما جعلهم يتوهمون أن قضية الآخرة أسطورة لا تتحقق.
وظاهر أن هذا التصور فاسد من أساسه، لأن نظام هذه الحياة الدنيا لا يكفي له عشرات الألوف من السنين، حتى إذا طال أمد بقائه كان ذلك دليلاً على استمراره بلا نهاية، وأنه ليس وراءه نظام آخر أو حياة أخرى.
إن هذا النظام الكبير الذي تقوم عليه الحياة الدنيا، وما رتب له من خلائق، وما جعل فيه من ظروف امتحان لذوي الإرادات الحرة، ومن قُضي لهم أن يمروا في هذا الامتحان، كل ذلك لا يكفيه ألوف مؤلَّفة من القرون، ولا يستكثر عليه طول زمن مهما طال، فالآخرة حياة خلود وبقاء دائم، ومهما طال عمر الدنيا فإنه بالنسبة إلى الآخرة يسير جداً، ولكن الإنسان قصير النظر يقيس الأمور على نفسه وحدود أجله، ولا يتصور الأبد الخالد تصوراً صحيحاً، حتى يتضاءل في نظره عمر الدنيا مهما طال، وآجال الحادثات تقاس بواقع نظام تكوينها، وبمقادير وظائفها في الوجود ِ، ولذلك نشاهد أن عمر بعض الجراثيم قصير جداً يناسب مقدار وظيفته في الحياة، بينما يطول نسبياً عمر بعض الحشرات ذات الوظيفة السنوية، ثم يطول عمر بعض الحيوانات الأخرى، وهكذا ضمن سلم تصاعدي، ويزيد طولاً عمر بعض حيتان البحر، والنظام العام الذي يحوي كل ذلك لا بد أن يستوعب كل ما ربت له أن يمر فيه.
أما الحياة الأخرى فهي دار الخلود، والدنيا بالنسبة إلهيا كلمحات عابرة من دهر مديد.
فما قدمه الكافرون لإنكار الآخرة لا يصح أن يعتبر حجة صحيحة مقبولة عند العقلاء، وإنما هو تكذيب بالآخرة من غير دليل، والباعث عليه الإخلاد إلى الأرض والاغترار بزينة الحياة الدنيا، وأما استطالة أمد ظروف هذه الحياة الدنيا فتعلَّة جدلية ليس لها أساس منطقي.
وكانت طريقة القرآن في الرد عليهم تشتمل على لفت نظرهم إلى مظاهر عدل الله في الذين كذبوا بيوم الدين من أهل القرون الأولى، وكيف أ، زل الله بهم معجَّلاً من عقابه في الحياة الدنيا قبل يوم الحساب ليقيم البرهان بتنفيذ معجل الجزاء على صدق مؤجله، وأحالهم على دليل المشاهدة في واقع الأرض، وما جرى فيها من أحداث عقاب مدمر على الذين كفروا وكذبوا بيوم الدين، فقال الله تعالى:{قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} ، ثم قال لرسوله:{ولا تحزن عليهم، ولا تكُن في ضيق مما يمكرون} ، وذلك لأنهم لا يستحقون أن تحزن من أجلهم، إذ اختاروا لأنفسهم سبيل الجحود والتكذيب بالحق، ورضوا لأنفسهم مصير هذا التكذيب، وأما مكرهم بك وبدعوتك فلا تكن في ضيق منه لأن الله ناصرك.
ثم إنهم في جدلهم يتساءلون عن الزمن الذي يتحقق فيه الوعد، فيقولون للرسل:(متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟) .
وبما أن الله قد أخفى عن عباده أجل قيام الساعة كما بيَّن لهم ذلك في نصوص متعددة، فإن أحسن جواب لهم على سؤالهم تهديدهم بأنهم سيأتيهم بعض الجزاء الذي وعدوا به، فيلنتظروه معجلاً في ظروف هذه الحياة الدنيا، إذا أصروا على كفرهم وعنادهم وتكذيبهم، فقال تعالى لرسوله: {قل: عسى أن يكون
رَدِف لكم بعض الذي تستعجلون} .
ففي هذا تلويح تهديدي بقرب أجل عقابهم المعجل في الدنيا، إنهم يستعجلون الآخرة، وهذا يعني أنهم يستعجلون عقابهم، فقل لهم:(عسى أن يكون رَدف لكم بعض الذين تستعجلون)، ومعنى رَدِف لكم: تبعكم (1) ، واستعمال الفعل الماضي في (رَدِفَ) يدل على أن الشيء قد صار قريب الحصول جداً، حتى كأنه قد وقع فعلاً، فهو نظير قول المؤذن قد قامت الصلاة، مع أن المباشرة بها لم تحدث فعلاً، ولكن الاستعداد التام للمباشرة بها والاتجاه للتنفيذ يجعل الصلاة كأنها قد قامت فعلاً، فيصبح بهذا الاعتبار الفعل الماضي الموضوع أصلاً للدلالة على أمر قد وقع فعلاً، دالاً على أن الأمر قد صار قريب الوقوع.
وربما يكون تعبيراً عن أن أمر عقابهم قد قضي في السماء كما تطلق القذيفة، فهي في طريقها لتصل إلى هدفها.
ثم بيَّن سبحانه وتعالى أن تأخير عقابه فضل منه على عباده، ليترك لهم فرصة للتوبة، لكن أكثر الناس لا يشكرون، فقال تعالى:{وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون} .
ومما عرَض القرآن من جدلياتهم في موضوع الآخرة والبعث بعد الموت للحساب والجزاء، قول الله تعالى في سورة (ق/50 مصحف/34 نزول) :
فالأمر الذي صدهم عن الإيمان واحتجوا به تعجبهم من أن يأتيهم رسول منهم، وتعجبهم من خبر الرجوع إلى الحياة بعد الموت للحساب والجزاء، مع أن مجرد التعجب من الأمر دون أساس عقلي أو علمي لا يصلح دليلاً للنفي ولا يصح الاحتجاج به لإنكار الحق.
ولما أنكروا الآخرة بحجة الاستغراب والاستبعاد وإطلاق عبارات التعجب تصوروا أنهم قد ملكوا حجة مقنعة، فأخذوا يتساءلون عن حال الرسول فيقولون:
(1) يقال لغة: ردف له وردفه إذا اتّبعه فكان رديفاً له، أي: تابعاً مباشراً له في اللحوق، فهذا التعبير يلوح لهم بأن عقابهم المعجل سيأتيهم سريعاً لأنه سيردفهم.
هل هو يفتري على الله كذباً؟ أم به جنة؟ نسُوا خلقهم الأول، وعمُوا عن الحقيقة الظاهرة التي تشهد بأن من بدأ الخلق قادر على إعادته.
وقد ذكر الله تساؤلهم هذا بقوله في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) :
ففي هذا تنبيه قوي على الدليل الكبير الدال على أن الله قادر على أن يخلقهم خلقاً جديداً، فالذي خلق السماوات والأرض قادر على إعادة خلقهم بعد فناء أجسادهم، فلا مجال لاستغرابهم واستبعادهم.
وبعد أنواع ذات مراحل من جدال الذين كفروا حول الآخرة والبعث بعد الموت للحساب والجزاء، وبعد إقامة الحجة عليهم بأدلة مختلفة، لم يكن من فريق منهم إلا الإصرار على موقف الإ، كار، ولم تجد فيهم حجج واضحة ولا براهين دامغة، وقد عرض الله موقفهم المتنعت هذا في أوائل سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) :
وموقف الرسول هنا موقف إصرار على الإيمان في مقابل إصرار الكافرين على الكفر.
ولما كان الموضوع هنا يتعلق بعقيدة الآخرة ولا يتعلق بشخص الرسول كان موقف الرسول متسماً بعنف الإصرار المقرون بالقسم {بلى وربي لتأتينكم} .
ولما كان موقفهم في موضوع الرسالة يتعلق بشخصه صلوات الله عليه إذ قالوا له: {لست مرسلاً} كان موقفه هناك يتسم بلين المتبرئ من المصلحة الشخصية، إذ عمله الله أن يجيبهم بقوله:{كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} .
* جدالهم في قضية الكتاب المنزل من عند الله:
وجادل الكافرون في القرآن، فأنكروا نسبته إلى الله، واتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بافترائه على الله، ولم يكن لهم من حجة إلا الرفض، وادعاء أنه أساطير الأولين، اكتتبها الرسول عن الكتب السابقة، أو هو من قبيل السحر، وليس شيء من ذلك بحجة مقبولة عند العقلاء.
من الطبيعي أن الكافرين ليس لهم ما يقولونه عن القرآن بعد أن كذبوا به إلا أنه أساطير الأولين، أو أن الرسول وضعه من عنده وافتراه على ربه، وأن يتهموا قوة تأثيره على العقول والنفوس بأنها من قبيل السحر، وقد ذكر الله مقالاتهم هذه في عدة مواضع من القرآن، منها قول الله تعالى في سورة (الفرقان/25 مصحف/42 نزول) :
ومنها قول الله تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) :
ومنها قول الله تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول) :
وهكذا كان جدلهم حول القرآن متردداً بين ثلاث حجج باطلة، هي في حقيقتها دعاوَى وليست بحجج.
الأولى: ادعاؤهم أن الرسول قد افتراه، وهو ادعاء مرفوض لما فيه من ظلم وزور، والواقع القرآني يكذبه، وذلك أن إعجاز القرآن دليل كافٍ على أنه ليس عملاً إنسانياً، وإنما هو تنزيل من عند الله، وقد تحدّى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله فما استطاعوا، وبذلك سقط ادعاء افترائه على الله.
الثانية: ادعاؤهم أنه أساطير الأولين اكتتبها الرسول عن الكتب السابقة، وهذا ادعاء مرفوض بداهة بشهادة واقع حال الرسول المعروف في تاريخ حياته، وبشهادة الواقع القرآني العربي المعجز بعربيته، والمعجز بكل مضامينه.
وقد أطلق المشركون إشاعات زعموا فهيا أن محمداً يتلقى القرآن عن رجل أعجمي كان في مكة له علم بكتب أهل الكتاب، فرد الله عليهم بقوله في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :
إن البديهة تقضي برفض ادعائهم الذي يحمل تكذيب نفسه بنفسه، إن هذا القرآن كلام عربي معجز ببيانه العربي وأساليبه العربية، فكيف يزعمون أنه يعلمه إياه رجل أعجمي، وهم العرب بفصاحتهم وبلاغتهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل سورة منه.
الثالثة: ادعاؤهم أن القرآن هو من قبيل السحر، أي: إن قوة تأثيره على
القلوب والنفوس مستمدة من قوة سحرية، وهذا ادعاء يمثل الهروب من وجه الحقيقة الناصعة، ذات التأثير المستمر.
وليس من شأن مثل هذه الدعوى أن يكون لها نصيب من الثبات حينما تستمر قوة تأثير القرآن. إن السحر وفق مفاهيم مدعيه عمل عارض يخدع ولا حقيقة له، وواقع القرآن حقيقة مستمرة باقية، لذلك فليس من شأن مثل هذه الدعوى الباطلة أن تنفع في جدال نظري، ما دامت ساقطة سقوطاً ذاتياً بشهادة الواقع.
والكافرون الذين كفروا بالقرآن لم يكفروا به إلا تعنتاً وعناداً، وما كانت تنقصهم الأدلة التي يرون فيها أن هذا القرآن من عند الله، والمتعنت لا سبيل إلى إقناعه، وهذا ما كشفه الله من حالهم في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
فهم يفرون من التصديق به إلى باطل جدلي لا أساس له من علم ولا من عقل، لأن واقع حال القرآن يكذب ما فروا إليه، فهو حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إنهم ما داموا مصرين مكابرين فإنهم لن يؤمنوا ولو رأوا كل آية، ويفرّون إلى إطلاق الأباطيل الجدلية، وهذا ما بيَّنه الله بقوله في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
وبعد أنواع ذات مراحل من جدال الذين كفروا حول القرآن، وسقوط أدلتهم وحججهم ودعاويهم الباطلة، لم يكن من فريق منهم إلا الإصرار على موقف الجحود والإنكار، فوقفوا أخيراً منه موقف المتعنت، فأعلنوا رفضهم الإيمان به،
رغم كل البراهين التي اقترنت بالقرآن والدالة على أنه كلام الله حقاً، وقد بين الله موقفهم هذا بقوله في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) :
فهؤلاء الذين كفروا قد انتهوا بعد الجدال الطويل حول القرآن، ودمغهم بالحجج القواطع إلى الإصرار على عدم الإيمان، فقالوا:{لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} ، فانتقلوا من الكفر بالقرآن إلى الكفر بالذي سبقه من الكتب الربانية.
وموقف الرسالة تجاه هذا الإصرار المتعنت هو موقف المعرف الذي يتحول من موقف المجابهة بالجدال إلى موقف الإعراض، مع بيان عاقبة الإنكار بغير حق، وبيان مصير المنكرين أتباعاً ومتبوعين، وإثارة مشاعر الخوف من هذا المصير الوخيم، وهذا هو الموقف الذي لا سبيل سواه.
ومن البديع في النص القرآني هذه النقلة التي نقلهم بها إلى مشهد من مشاهد يوم الدين، إذ يتجادل الكافرون يومئذٍ، فيلقي الأتباع مسؤولية التضليل على قادتهم في الحياة الدنيا، ويتبرأ القادة منهم، ويجعلونهم مسؤولين عن أنفسهم وعن جرائمهم، والصورة الجدلية تكون بينهم على الوجه التالي:
المستضعفون: لولا أنتم لكنا مؤمنين.
المستكبرون: أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين؟!
المستضعفون: (بل مكرُ الليلِ والنهارِ) أي: مكرم لنا في الليل والنهار (إذْ) كنتم (تأمرونَنَا أن نَكفُر باللهِ ونَجعل له أنداداً) هو الذي جعَلَنا نكفر.
الحكم العادل: يحمِّل كلا الفريقين المسؤولية على مقدار كسبه، ويجازي كل واحد بعمله، وتجعل الأغلال في أعناق الذين كفروا.
المستكبرون والمستضعفون: يسرّون الندامة حين يرون العذاب.
* جدالهم بالسباب والشتائم والمشاغبات والصد عن الحق ونحو ذلك:
حجج الكافرين التي قد يتصنعون فيها الهدوء، وقد يحاولون إبرازها بصورة منطقية في أول الأمر، حين تنقطع بهم وتتخاذل وتبدأ بالتصاغر والانهزام تثور ثائرتهم، ويطيش صوابهم، ويلجؤون إلى خطة السباب والشتائم والمشاغبات، وصرف أتباعهم عن سماع الهدى، وصدّهم عن مجالسه، حتى لا يتأثروا به فيتبعوه.
والدفع بالسباب والشتائم لا يدخل في نظام جدال العقلاء المتناظرين لبلوغ الحق، وإنما هو خطة السفهاء، للتغلب بأية وسيلة، ولإثبات المذهب والرأي ولو عن طريق الإكراه بالقوة، فإذا لم توجد القوة، فبالمشاغبة والشتيمة وتقطيع الناس عن داعي الحق، وهذه هي خطة الكافرين وسائر المبطلين.
* أسلوب الشتائم:
ومن الشتائم اتهام داعي الحق بأنه مبطل، واتهام الحق بأنه باطل أو سحر أو كذب أو نحو ذلك.
وقد بيَّن الله لرسوله هذا الأسلوب السفيه من أساليب دفع الكافرين للآيات البينات التي سيأتيهم بها، ليهيئه نفسياً لتحمل الصدمات القاسيات التي يوجهونها له، وتحمل أنواع المكابرات والافتراءات التي يفترونها عليه.
إنه سيأتيهم بالحق المبين فيقولون له: إن أنت إلا مبطل من المبطلين، فما عليه إلا أن يصير عليهم، ويلازم نشر دين الله والدعوة إليه، فحجتهم الجدلية في هذا إنما هي مقابلة الحق باتهام صاحبه بأنه مبطل، وليس هذا في الحقيقة حجة، إنما هو دافع بالسباب، ومقابلة للحق بالشتائم.
هذا الإعداد النفسي من الله لرسوله، ولكل داعٍ إلى الحق من بعد الرسول، نجده في قول الله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) :
فمن الملاحظ أن الله يوصي رسوله في هذا النص بالصبر على شتائم الكافرين، حين يتهمونه بأنه مبطل، وهو يأتيهم بالآيات البينات والحجج الظاهرات، ويوصيه أيضاً بالرزانة والرصانة ورجاحة النفس حتى لا يستخفه الذين لا يوقنون بمثيراتهم وجدلياتهم الباطلة، وشتائمهم المنكرة، فالرزانة والرصانة ورجاحة العقل والنفس من سمات كبار الدعاة إلى الحق، مهما استثيروا واستغضبوا، إن أوزانهم الراجحة لا تستخفها المثيرات من رياح الشتائم أو أعاصير السباب المنكر.
وظاهر أن هذه الوصية التي أوصى الله بها رسوله وصية يطالب بها كل داعٍ إلى الله، فالجدال متى بلغ حد الغضب تحول عن مقصده، وارتدى رداء التعصب والانتصار للنفس، وسلك مسالك الهوى، وأدخل فيه الشيطان وساوسه ودسائسه، وربما انحرف المحقون بسبب ذلك عن منهج الاستقامة.
وقد لجأ الكافرون فعلاً إلى خطة الشتائم، فأخذوا يتهمون الرسول صلوات الله عليه بأقوال شتى، منها المقالات التالية:
ساحر كذاب - إنه لمجنون - شاعر مجنون - قد افترى على الله كذباً - بل افتراه، بل هو شاعر -.
وقالوا عن القرآن: سحر - أساطير الأولين - شعر - مفترى - أضغاث أحلام - إلى غير ذلك من عبارات.
وهكذا نوَّع الكافرون عبارات الشتائم لما عجزوا عن متابعة الجدال المنطقي، ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل.
وقد ذكر الله في القرآن أقوالهم التي أطلقوها وفيما يلي طائفة من النصوص القرآنية التي حكت أقوالهم:
(أ) فمنها قول الله تعالى في سورة (ص/38 مصحف/38 نزول) :
ففي هذا النص يحكي الله لنا مقالة الكافرين عن الرسول صلوات الله عليه، إذ قالوا: هذا ساحر كذاب، وإذ قالوا عن القرآن: إن هذا إلا اختلاق، وأمام هذا التهجم بالسباب لم يبقَ من معالجتهم إلا الإنذار بالعذاب القريب، وذلك في قوله تعالى:{بل لما يذوقوا عذاب} .
(ب) ومنها قول الله تعالى في سورة (الصافات/37 مصحف/56 نزول) :
{وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُو?اْ إِن هَاذَآ إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}
فهم يتكلفون إعلان السخرية من الآيات الربانية، لتغطية موقفهم الذي أصابتهم فيه الدهشة من الآيات، ثم يوجهون اتهامهم الذي يشتمون به من جهة، ويحاولون به تفسير ظاهرة الآيات من جهة أخرى تفسيراً يصرفها عن حقيقتها.
(ج) وقد بلغت بهم الوقاحة مداها فواجهوا الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم له: إنك لمجنون، وقد قص الله علينا ذلك بقوله في سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول) :
وهذه الوقاحة مقرونة بالسخرية، إذ كان بدء كلامهم يصفه بأنه قد نزَّل عليه الذكر، فلما أتبعوه بقولهم له: إنك لمجنون دلَّ على أنهم مستهزئون بما قالوا أولاً.
إنهم لم تنقصهم الأدلة، ولكنهم متعنِّتون معاندون، ولو رأوا أقوى الآيات لتعللوا في رفضها بأوهى التعلات، وقد بين الله هذا من واقعهم بقوله في السورة نفسها سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول) :
(د) ومنها ما قصه الله عنهم بقوله في سورة (الصافات/37 مصحف/56 نزول) :
{وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو? آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}
وما قصه بقوله في سورة (الدخان/44 مصحف/64 نزول) :
وكذلك قال فرعون عن موسى، وقد حكى الله لنا مقالة فرعون في سورة (الذاريات/51 مصحف/67 نزول) :
وما من رسول إلا قال عنه قومه مثل ذلك، قال الله تعالى في سورة (الذرايات/51 مصحف/67 نزول) :
{كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلَاّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}
وهذه هي التعلة التي يفر إليها المكذبون بالحق، لشتيمة داعيه، وصرف الجماهير من الناس عن اتباعه.
* أسلوب المشاغبة:
ومن غريب ما لجأ الكافرون إليه في جدالهم أسلوب المشاغبة، رجاء أن يغلبوا الحق به.
لما انقطعت حجتهم حول القرآن، ورأوا أن له تأثيراً عجيباً على قلوب الناس، وأن تأثيره هذا قد أخذ يجلبهم إلى الإسلام، ويفتح بصائرهم على الحق، فتستنير بنور المعرفة الربانية، قال بعضهم لبعض: لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون.
فنهى القادة أتباعهم عن الاستماع للقرآن ليصرفوهم عنه حتى لا يؤثر في قلوبهم ونفوسهم، وليقفوا قلوبهم عن مشاهدة نوره، وأمروهم باللغو فيه، مشاغبة وتشويشاً، لملء فراغ السمع، حتى لا يلتقط منه أتباعهم شيئاً، وحتى لا يلتقطوا هم أنفسهم منه شيئاً فيؤثر على قلوبهم، كما حصل لكثير من الذين أسلموا بقوة تأثير القرآن، وعللوا نهيهم وأمرهم هذين برجاء الغلبة، فقالوا:"لعلكم تغلبون".
وخطة المشاغبة هذه غوغائية أتقنتها تماماً أحزاب الهدم والتخريب التي ظهرت في القرن العشرين.
وخطة المشاغبة خطة تقدم الدليل ضد المشاغبين بأنهم قد غدوا خائبين مغلوبين، منهزمين من معركة البيان والبرهان، ومتحولين إلى معركة الشغب واللغط والضجيج والغوغائية.
وفي بيان مقالة الكافرين هذه قال الله تعالى في سورة (فصلت/41 مصحف/61 نزول) :
ولما لم يكن من شأن الحق أن يقابل الجنوح بالجنوح، أو يعارض الفساد بالفساد، أو يتحول من المناظرة بالحق إلى اللغط والمشاغبة، باعتبار أن ذلك من خطط الجاهلين الذين لا يملكون حجة ولا يحيرون جواباً، أعرض القرآن عن مقالتهم هذه، ولجأ إلى بيان سوء المصير الذي سوف يلاقونه يوم الدين، باعتبار أنه
جزء من أصل بيانات الرسالة، فقال الله تعالى عقب الآية السابقة:
إنه لا سبيل بعد موقفهم العدائي الذي سدوا فيه كل مسلك من مسالك البحث والمناقشة والإقناع والاقتناع إلا سبيل التهديد والوعيد بسوء المصير، وعليهم بعد ذلك أن يتحملوا عاقبة كفرهم بالحق، وإنكارهم لما جاء به الرسل من لدن عزيز حكيم، لا يضره كفرهم شيئاً، وهو غني عن إيمانهم وعن طاعتهم، ولكن يهديهم بما أنزل في الدين إلى طريق نجاتهم وسعادتهم الخالدة.
* جدالهم المستند إلى واقع امتيازهم بمتاع الحياة الدنيا زينتها:
بمنطق الكبر الطبقي أورد الكافرون طائفة من جدلياتهم الباطلة، فمن ذلك ما قصه الله علينا بقوله في سورة (مريم/19 مصحف/44 نزول) :
فالكافرون يحتجون على سلامة مذهبهم بواقعهم المتميز بالرفاهية، وكثرة ما بين أيديهم من متاع الحياة الدينا وزينتها، وبارتفاع المكانة الاجتماعية على الطلائع الأولى من المؤمنين، ويتصورون أن منطقهم السليم في الحياة هو الذي جلب لهم هذا الامتياز، لذلك فلا يمكن أن يكون المؤمنون الذين هم دونهم في الثراء والرفاهية والمكانة الاجتماعية أعقل منهم وأعرف بالحق، وقد اعتبروا هذا حجة كافية لتفضيل مذهبهم على ما ذهب إليه المؤمنون فقالوا للذين آمنوا:"أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً"، أي: بما لدينا من فهم للأمور استطعنا أن نكون خيراً مقاماً في الحياة، مالاً وثراءً وأثاثاً ورياشاً ورفاهية عيش، واستطعنا أن نكون أحسن ندياً، أي: أعظم جاهاً في المجالس، وأحسن ترتيباً لها، فكيف نتَّبع طريقتكم وأنتم دوننا مقاماً ومجلساً.
ومع أن هذا دليل ساقط لا قيمة له إلا أن أصحاب الامتياز الطبقي، يريدون أن يجعلوه دليلاً، لقد نفخ الكبر نفوسهم، فتوهموا أن ما هم عليه هو الصواب، وأن كل ما سواه خطأ، وهكذا يفعل الكبر في النفوس.
ومقالتهم هذه نظير مقالتهم الأخرى التي ذكرها الله بقوله في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول) :
فهم بدافع الكبر الطبقي يرون أنفسهم أحق بأن يسبقوا إلى كل خير، وإذا لم يسبقوا إلى الإيمان بل سبقهم إليه الذين هم دونهم في الطبقة الاجتماعية، فهو إذن ليس بخير.
وهذا غاية الغرور بالنفس، إذ يجعل صاحبه يتصور لنفسه العصمة عن الخطأ، لذلك فهو غير مستعد لأن يغير موقفه، أو يغير مذهبه، أو يتنازل عن كفره أو شركه أو سلوكه.
وإذْ لم يهتدِ هؤلاء الكافرون بهدى الله، ولم يؤمنوا بدينه، فلا بد أن يقولوا عن الدين: هذا إفك قديم، وظاهر أن هذا جدل كلامي لا أساس له حتى يكون حجة تطرح بين العقلاء، وهو لا يعدو أن يكون لوناً من ألوان السباب والشتائم التي لا تصدر إلا عن الجاهلين.
وقد كانت طريقة القرآن في الرد على احتجاجهم بالتفوق الطبقي في متاع الحياة الدنيا وزينتها وجاهها بتقديم براهين من الواقع، تثبت أن التفوق الطبقي لم يكلن ليحمي أصحابه الكافرين بالله من سخط الله ونقمته وشديد عقابه، وهذا ما رد الله به على مقالتهم الواردة في سورة (مريم/19 مصحف/44 نزول) :
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً}
أي: فلم يحمِ هؤلاء من نزول عذاب الله فيهم علو طبقتهم الاجتماعية التي
يدل عليها حسن أثاثهم، وحسن مظهرهم وشارتهم وهيئتهم، ولم تغن عنهم مكانتهم الاجتماعية شيئاً عند الله، لقد أهلكهم الله بكفرهم ودمر عليهم تدميراً.
وهذا البرهان الواقعي من أقوى البراهين الدالة على فساد حجتهم التي احتجوا بها، إذ زعموا أن امتياز طبقتهم الاجتماعية يلازمه صحة رأيهم، إذ اختاروا لأنفسهم سبيل الكفر بالله على الإيمان به.
وما أكثر ما يفتتن الناس بزخرف هذا الدليل، فيتبعون آراء أصحاب المكانات الاجتماعية القائمة على الامتياز بمتاع الحياة الدنيا وزينتها وجاهها، معطلين أفكارهم وعقولهم عن البحث والتتبع للحقائق ببصر نافذ ومنطق سديد.
* جدالهم القائم على التعلل بالقضاء والقدر:
من جدليات الكافرين الفاسدة احتجاجهم بالقضاء والقدر لتبرير ما هو من كسبهم، ولرفض أوامر التكليف الرباني ونواهيه.
سبق معنا بيان تعللهم بالقضاء والقدر وفق المذهب الجبري الفاسد، الذي كذبهم الله به، إذ ادعوا فيه على الله ما ليس من مقاديره الجبرية، فقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، أي: إنهم أشركوا بحكم كونهم مجبرين بالقضاء والقدر على الشرك. وقالوا: لو شاء الله ما حرمنا من شيء، أي: إنهم حرموا أشياء مما أباح الله في شريعته لعباده بحكم كونهم خاضعين لسلطان القضاء والقدر ليس لهم في أعمالهم كسب اختياري. وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم، أي: إنهم عبدوا آلهتهم من دون الله بمقتضى سلطان القضاء والقدر وليس لهم في ذلك كسب إرادي، أو على معنى أن هذه الأشياء قد أذن الله بها، فلو لم يأذن بها لما مكَّنَنَا منها، ولاستخدم قدرته في جبرنا على ما يحبّ، وتجاهلوا أنهم موضوعون موضع الامتحان في الحياة.
وقد كذبهم الله بكل ذلك وأبان أنهم يخرصون على الله، فما لهم بما زعموا من علم عقلي أو نقلي يعتمدون عليه.
فقال تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ
كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلَاّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}
أي: فلو شاء أن يسلبكم ما منحكم من حرية الاختيار في الحياة ويجبركم على نجد واحد من نجديها لهداكم أجمعين.
وقال الله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :
ففي هذه الآية بيان أنهم قالوا هذه المقالة فعلاً، وأنها مقالة كان مشركو الأمم السابقة يتعللون بها.
وقال الله تعالى في سورة (الزخرف/43 مصحف/63 نزول) :
فهم يتعللون بالمذهب الجبري الفاسد في القضاء والقدر، وقد كذبهم الله به، ويستمسكون بحجة التقليد الأعمى لآبائهم، وبأنهم مستمسكون بالسير على آثارهم.
ومن منطقهم الفاسد في هذا المجال رفضهم الإنفاق على الفقراء والمساكين وذوي الحاجات، بحجة أن الله قد أراد لهم أن يبقوا فقراء محتاجين لا يجدون من يساعدهم، إهانة لهم وإذلالاً، ولو شاء الله لهم غير ذلك لأغناهم فأطعمهم، فإذ قد
جعلهم فقراء فهم لا يستحون المعونة والمساعدة، وقد ذكر الله مقالتهم الفاسدة هذه بقوله في سورة (يس/36 مصحف/41 نزول) :
وهنا نلاحظ أنهم لما تصوروا أنهم ملكوا بمقالتهم ناصية حجة مفحمة، قالوا للذين آمنوا: إن أنتم إلا في ضلال مبين، أي: إذ تدعوننا إلى الإنفاق من أموالنا للفقراء والمساكين ذوي الحاجات، وإذ تنفقون أنتم عليهم من أموالكم.
وحين ندرك فلسفة الحياة وحكمة الخالق يظهر لنا فساد هذه الحجة التي ساقوها، وذلك لأنه لا يلزم من الإفقار في الحياة الدنيا أن يكون الغرض منه الإهانة، كا لا يلزم من الإغناء أن يكون للتكريم، لاحتمال أن الغرض من كل منهما الابتلاء.
وقد رفض القرآن فهمهم هذا رفضاً كلياً وأبان أن الغرض الأساسي من الإغناء والإفقار هو امتحان الإنسان في أي من هذين الأمرين، فليس الإغناء للتكريم، وليس الإفقار للإهانة، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (الفجر/89 مصحف/10 نزول) :
فالأمران كلاهما للابتلاء، إذ يبتلي الله الغني بالغنى ويأمره بالإنفاق ليبلوه هل يشكر نعمة الله أو يكفرها، ويبتلي الفقير بالفقر ويأمره بالرضا والصبر والمشي في مناكب الأرض بحثاً عن الرزق، ليبلوه هل يرضى ويصبر أو يسخط ويضجر.
ولما أورد الكافرون حجتهم: "أنطعم من لو يشاء الله أطعمه"، قصدوا منها أن الله أراد فعلاً أن لا يطعم هذا الفقير، وهذا كذب على الله، بل أراد أن يمتحن
الغني بإطعامه، فالله قد أطعمه بالأمر التكليفي، إذ أمر الأغنياء بسد حاجات الفقراء، وأطعم الآخرين بتيسير سبل الرزق لهم. وذلك زجرهم عن مقالتهم الكاذبة فقال تعالى في النص:"كلا"، ثم أبان تعالى أن علتهم الحقيقية هي داء الشح في نفوسهم، فقال لهم:"بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام"، أي: مع أن الله قد أمركم بذلك، فأنتم تعصون الأمر الإلهي وتتعللون بالقدر، تعللاً تكذبون به على الله، فتضيفون إلى معصية أمر التكليف الذي أمركم به جريمة الكذب عليه جلَّ وعلا.
(9)
عقوبات الكافرين المعجلة والمؤجلة
للكافرين عقوبات ربانية يعاقبهم الله بها جزاء كفرهم، قسم منها معجل يجري ضمن ظروف هذه الحياة الدنيا، وضمن سننها ومقاديرها، وقسم آخر مؤجل إلى مابعد ظروف هذه الحياة الدنيا.
(أ) العقوبات المعجلة:
أول ما يخسره الكافر بكفره معونة الله التي يمد بها أولياءه، ثم يصيبه مقت من الله يضيق به صدره، وتتكدر به نفسه، فلا يكون في داخل نفسه منشرحاً ولا مسروراً، لأنه يكون محروماً من الرضا بالمقادير، وهذا يجعله فريسة للحزن والهم، فهو دائماً حزين على ما فاته من خير، مهموم لما يطمع بالحصول عليه، وفي ذلك عذاب له يُقضُّ مضجعه وينغص عليه حياته، ويحرِمه من التمتع الصحيح بما يصيب من لذَّات، حتى إذا ضاقت به الحياة، وقلت عليه نسمات آمالها، وكثرت عليه خوانق أكدارها وآلامها، وصار صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، أو كأنما يهوي منها فيتمزق فتخطفه الطير من كل جانب، عندئذٍ يحاول أن يفر من الحياة، بالخمر والقمار، أو بالمخدرات أو بالانتحار.
يضاف إلى ذلك أنواع الخيبة التي تُمنى بها أعمالهم وتدبيراتهم التي يواجهون بها أولياء الله الصادقين العاملين بما أمرهم الله، وصور الخذلان والهزيمة
إذ ينصر الله المؤمنين الصادقين عليهم، وأنواع العقوبات المادية والمهلكات الجسدية والنفسية التي ينزلها الله بهم، ثم ما ينال بعضهم من تدمير شامل، كما حصل لبعض الأمم التي كفرت برسل ربها وكتبه واليوم الآخر وأكثرت في الأرض الفساد.
والنصوص القرآني التي بينت عقوباتهم المعجلة كثيرة. فمنها ما يبيِّن واقع حالهم النفسي القلق المضطرب المتمزق، المشحون بالهموم والأكدار. ومنها ما يشتمل على وعيد الكافرين بأنواع العقوبات المعجلة، وهذا الوعيد قد يكون وعيداً جازماً مقطوعاً به، وقد يكون تهديداً صريحاً، وقد يكون تلويحاً وتعريضاً بالتهديد، وألوان التربية القرآنية في هذا كثيرة ومتنوعة. ومنها ما يشتمل على وعد المؤمنين الصادقين بالظفر والنصر والتأييد ضد أعدائهم، وهذا يتضمن وعيداً للكافرين بأن الله سيخذلهم ويذلهم وينصر المؤمنين عليهم. ومنها ما يشتمل على بيان قصص ووقائع تاريخية أنزل الله فيها بالكافرين عقوباتهم المعجلة في الدنيا، وفي عرض هذه القصص بيان لسنة الله في عباده حتى يعتبر بها الذين كفروا إن كانوا من الذين يعتبرون ويتعِّظون.
والعنوان الشامل لعقوبات الكافرين معلن في قول الله تعالى: {فمن كفر فعليه كفره} ، أي: فكفره يكون عليه ضرراً وأذى، ولا يكون لمصلحته بحال من الأحوال، لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة، وحينما يتصور أن كفره سيجلب له فائدة أو مصلحة أو خيراً عاجلاً فإن كفره لا يزيده إلا خساراً، كل هذا نجده موضحاً في قول الله تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول) :
والمقت الذي ينزل عليهم يملأ صدورهم ضيقاً وحرجاً، وهماً وحزناً، والخسارة يلاحقهم حيثما توجهوا، كل ذلك بسبب كفرهم بما يجب أن يؤمنوا به مما أنزل الله على عباده.
* العقوبة بالضيق والحرج في صدورهم:
جاء في البيانات القرآنية أن الله يعاقب الكافرين ضمن سننه في الحياة الدنيا بضيق وحرج وصدورهم، فقال تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
فالذين لا يؤمنون يعاقبهم الله بهذا الرجس النفسي، وهو ضيق وحرج في صدورهم، وهذه نتيجة طبيعة لكفرهم، وهذه العقوبة تأتيهم ضمن سنن الله الكونية؟ فمن يرد الله أن يضله (أي: أن يحكم عليه بالضلال) بسبب كفره وعناده يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعَّد في السماء.
وبمقدار ضعف التصورات الإيمانية لدى المؤمنين ضعفاء الإيمان يأتيهم نصيب من هذا الضيق والحرج في الصدور.
* العقوبة بالتمزق النفسي والقلق:
وجاء في البيانات القرآنية أن حالة من التمزق النفسي تصيب الكافرين بسبب كفرهم وإشراكهم بالله ما لم ينزِّل به سلطاناً. فقال الله تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول) :
فحالة التمزق والضياع والانهيار والقلق التي تصيب الإنسان في كيانه الداخلي هي من العقوبات النفسية التي يعاقب الله بها الكافرين ضمن سننه الكونية، لأن الكفر بالله أو الإشراك به مما يسبب هذه النتائج في داخل النفس ضمن قوانين الأسباب والمسببات.
* العقوبة بالخذلان والهزيمة أمام جند الله:
ومن العقوبات المعجلة للكافرين خذلانهم وهزيمتهم أمام جند الله المؤمنين الصادقين القائمين بما أوجب الله عليهم، ولو كانوا أقل منهم عدة وعدداً، وإفساد تدبيراتهم ومخططاته ومكايدهم التي يدبرونها لمحاربة جند الله وإطفاء نور الله، وبذلك تتحقق حكمة الله ووعه في نصر أوليائه وخذل أعدائه.
قال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
ففي هذا النص نلاحظ أن الغاية من خذلهم ونصر المؤمنين عليهم إضعاف قوتهم في الأرض بقطع طرف منهم، أو كبتهم، أي: إغاظتهم وإحزانهم، ليكون ذلك برهاناً على أن الله ولي الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم. والعاقل متى أدرك دلالة هذا البرهان كان ذلك محرضاً له على الإيمان.
ولذلك قال الله لرسوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
{قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}
ووسائل خذلهم ونصر المؤمنين الصادقين عليهم كثيرة مختلفة، منها إلقاء الرعب في قلوبهم. ومنها توهين كيدهم ورد مكايدهم إليهم وجعلها في نحورهم. ومنها إمداد المؤمنين ضدهم بالقوة المعنوية العالية، وبالملائكة وبالأحداث الطبيعية، كالرياح والأمطار ومواقع الأرض وغير ذلك.
أما إلقاء الرعب في قلوبهم فيدل عليه قول الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
فإلقاء الرعب في قلوبهم قد كان بسبب كفرهم وإشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً.
وأما توهين كيدهم فيدل عليه قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
{ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}
وطبيعي أن يولي الكافرون الأدبار حينما يقذف الله في قلوبهم الرعب ويوهن كيدهم، ولذلك خاطب الله الذين آمنوا بقوله في سورة (الفتح/48 مصحف/111 نزول) :
وقد حذر الله الكافرين من عقوبة خذلهم ونصر المؤمنين عليهم، بالتلويح مرة، وبالتصريح أخرى، وبالتطبيق العملي في معاركهم ضد المؤمنين الصادقين.
فمن صور التلويح بالتهديد قول الله تعالى في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) :
فهم مهما بلغت قوتهم في الأرض لا يعجزن المؤمنين الصادقين القائمين بما أوجب عليهم، لأن الله يمد أولياءه بمعونته ونصره، ويخذل أعداءه وما النصر إلا من عند الله، أما في الآخرة فمأوى الكافرين النارُ دار العذاب، ولبئس هذا المصير مصيرهم.
وقد جاءت هذه الآية طمأنةً للرسول والمؤمنين بوجهها الصريح، واشتملت أيضاً على تلويح تهديدي للكافرين بموجب دلالتها المتعلقة بهم، ولو لم يكن الخطاب فيها موجهاً بصراحة لهم، لكن آية أخرى قد جاء فيها توجيه الخطاب للكافرين بأنهم غير معجزي الله، فقال تعالى يخاطب المشركين في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :
{وَاعْلَمُو?اْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}
وقال لهم أيضاً:
وتحدث الله عن الكافرين عامة بمثل ذلك، فقال تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُو?اْ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}
أي: لا يظنوا أنفسهم قد سبقوا المؤمنين بعددهم وعدتهم، فإنهم لا يعجزون المؤمنين الصادقين، لأن الله مع المؤمنين بمعونته وتأييده ونصره، ولكن على المؤمنين أن يقوموا بما أوجب الله عليهم، وأن يحققوا في أنفسهم الشروط التي يستحقون بها تأييد الله لهم، ونصرهم على عدوهم، ومن ذلك أن يعدّوا لأعدائهم ما يستطيعون من قوة، ومن أجل ذلك أتبع الله الآية السابقة بقوله:
ومهما تكن مكايد الكافرين كثيرة وخطيرة وذكية فإن الله قد ضمن للمؤمنين توهين هذه المكايد، وردها عليهم، متى صدق المؤمنون وأخلصوا لله في جهادهم، وبذلوا ما في وسعهم في سبيل الله وهذا الضمان نلاحظه في قول الله الذي ذكرناه قريباً من سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
{ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}
وفي قول الله تعالى في سورة (الطور/52 مصحف/76 نزول) :
{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ}
أي: فمكايدهم تعود عليهم، ولا ينال المؤمنين الصادقين ضرها البالغ، ولذلك خاطب الله المؤمنين بقوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَاّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ}
فقد جاءت هذه الآية في معرض الحديث عن اليهود، وهم أكثر الناس مكايد للمؤمنين ولسائر الناس.
فما على المؤمنين الصادقين الملتزمين بأوامر الله إلا أن يواجهوا أعداء الله بثبات وصبر، بعد أن يعدوا لهم ما يستطيعون من قوة، وتكون نسبة عدوهم لا تزيد على ضعفهم.
لقد كان التكليف أول الأمر يلزم المؤمنين بأن يقابلوا عشرة أضعافهم، ثم خفف الله هذه النسبة إلى ضعف واحد، نظراً إلى حالة الضعف النفسي الذي عليه الناس مهما بلغ إيمانهم، إذ لا يرتقي شعورهم الجماعي العام إلى مستوى النسبة العظمى، ولو بلغ شعورهم الجماعي إلى هذا المستوى لكتب الله لهم النصر على عدوهم، وإن كانت قوته عشرة أضعاف قوتهم أو أكثر، وهذا ما بينه الله بقوله في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
أي: ليس لهم غاية يفقهونها فترفع قواهم المعنوية على القتال، ولا أمل لهم فيما بعد الحياة الدنيا، لذلك فهم شديدو الحرص على الحياة، وهذا هو مولد الجبن في قلوبهم.
وعقب ذلك جاء التخفيف في هذا المستوى من التكليف الإلزامي، فقال تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
ففي هذا وعد من الله بأن ينصر المؤمنين الصادقين الصابرين على عدوهم، ولو كان عدده ضعف عددهم، على أنهم لو وثقوا بالله حق الثقة، وصبروا وصدقوا لنصرهم على عدوهم ولو كان عدده ضعف عددهم عشر مرات، فالوعد الأول لم ينقطع، ولكن التكليف بالمواجهة هو الذي جاء فيه التخفيف، ولذلك جاءت الآية مصدرة بقول الله تعالى:{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً} .
والوقائع والأحداث التاريخية قد أيدت هذه الحقيقة، فالله قد نصر ر سله بالحق على الذين كفروا وظلموا من أقوامهم، ونصر الذين آمنوا وصبروا وصدقوا واستقاموا في كل وقائعهم ضد الذين كفروا، ولم تتحول رياح النصر عن المؤمنين إلا بذنوب قد ارتكبوها، وقد حقق الله بنصره لرسله وللمؤمنين الصابرين الصادقين سننه التي وضعها، وحقق وعده الذي وعد به أولياءه، والذي أعلنه بقوله تعالى في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول) :
وبنظرة تفصيلية نلاحظ أن الله تبارك وتعالى قد نصر نوحاً على قومه فأغرقهم وأنجاه والذين آمنوا معه، ونصر هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً على أقوامهم، ونصر موسى على فرعون وملئه وجنوده، ونصر داود وسليمان، ونصر عيسى فأنجاه من قومه، ونصر محمداً والمؤمنين معه وتوج لهم جهادهم بالفتح المبين، ونصر المجاهدين المسلمين من بعده، ففتح لهم أبواب ممالك الأرض، وما توقف عنهم النصر إلا حينما عصوا في الواجبات والشروط التي فرضها الله عليهم، والتي كانوا يستحقون بها إمداد الله لهم بمعونته ونصره.
ولنأخذ حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لنرى كيف نصره الله في كل مواقفه على أعدائه، وكيف خذل الكافرين.
لقد نصره الله يوم هاجر من مكة إلى المدينة، بوسائل خفية غيبية، وأخرى مشهودة ما كان الكافرون ليحسبوا حسابها، وقد تحدث الله عن هذا النصر بقوله لأصحاب الرسول في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :
وتحدث الله عن هذا النصر أيضاً بقوله لرسوله في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
ثم نصر الله الرسول والمؤمنين في غزوة بدر الكبرى على الكافرين أعدائهم وأعداء الله، وسورة الأنفال تدور حول أحداث هذه الموقعة العظيمة وما أظهر الله فيها من آيات نصرة لرسوله والمؤمنين معه، رغم أنهم كانوا أقلة أذلة، وقد امتنَّ الله عليهم بهذا النصر، فقال تبارك وتعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
أي فبعزته ينصر، وبحكمته يقضي بنصره للمؤمنين الصابرين الصادقين على الكافرين المصرين المعاندين الصادين عن سبيل الله.
وفي غزوة أحد نصر الله المؤمنين في أوائل الأمر، ثم حول الله عنهم رياح النصر بسبب معصيتهم أوامر الرسول صلوات الله عليه.
وفي غزوة حنين حين تحولت أول الأمر رياح النصر عن المسلمين بسبب اغترارهم بكثرتهم واعتمادهم على أنفسهم، ثم نصرهم الله وأيد رسوله والمؤمنين الصادقين، وأنزل جنوداً من عنده، وخذل الذين كفروا، وبين الله هذا بقوله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :
فأصاب الله المؤمنين يوم حنين بما أصابهم به أولاً ليؤدبهم ويربيهم حتى لا يغتروا بأنفسهم، وحتى لا ينقطعوا عن الاعتماد على الله والثقة به والتوكل عليه، ثم تدارك القلة الباقية منهم بنصره المبين، ليثبت للمؤمنين أن النصر من عنده سبحانه، يرفعه متى شاء، ويضعه حيث شاء.
وفي غزوة الخندق كان نصر الله للمؤنين برد الكافرين عن حصار المدينة، وهم يعانون آلام غيظهم، إذ لم ينالوا خيراً من حملتهم الظالمة الآثمة، وقد بين الله ذلك بقوله تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/99 نزول) :
وفي غزوة بني قريظة كان نصر الله للمؤمنين بقذف الرعب في قلوب اليهود وإنزالهم من حصونهم، واستسلامهم للقتل والأسر، وقد بين الله هذا النصر بقوله تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول) :
وفي غزوة بني النضير كان نصر الله للمؤمنين بأن قذف الرعب في قلوب بني النضير من اليهود، وتم إجلاؤهم عن المدينة، ونصر الله رسوله والمؤمنين معه، ونزل في أحداث هذه الواقعة التي تمت بنصر المؤمنين وخذل الكافرين سورة (الحشر/59 مصحف/101 نزول)، وفي هذه السورة يقول الله تعالى:
وهكذا وضح لنا بالشواهد الواقعية كيف يعاقب الله الكفارين بأنواع من العقاب المعجل في الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر وأشق، وهذا العقاب المعجل للكافرين ليس عقاباً كاملاً، وإنما هو عقاب جزئي للتذكير والتربية والاعتبار، وهو أيضاً بشرى للمؤمنين ومثوبة لهم.
* العقوبة بالقوارع الجزئية:
ومن العقوبات المادية المعجلة التي ينزلها الله بالذين كفروا وأصروا على كفرهم وعنادهم أنواع القوارع والمصائب التي تحل بهم، وقد بين الله ذلك بقوله تعالى في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول) :
ويدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى في سورة (السجدة/32 مصحف/75 نزول) :
والعذاب الأدنى هو العذاب المعجل في الدنيا والغرض منه رجاء إصلاحهم أو الاتعاظ بهم، وقد يدخل في العذاب الأدنى عذاب ما بين الموت والبعث.
* العقوبة بالإهلاك العام والتدمير الشامل:
ويأتي في قمة أنواع العذاب المعجل للكافرين عقابهم بالإهلاك العام والتدمير الشامل، لقمع بؤرة الشر التي لم تُجدِ فيها كل وسائل الإصلاح، وليكون هذا العقاب عبرة لغيرهم، حتى يرتدعوا عن كفرهم وطغيانهم وتماديهم في الفساد، ولينصر الله بذلك رسله والمؤمنين.
لما اشتد استهزاء الكافرين برسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبه الله مطمئناً ومسلياً له بقوله في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول) :
فكان عقاب الله لهم بالإهلاك العام، والعذاب الشامل.
وقص الله علينا في القرآن طائفة من قصص إهلاك الأولين، ليكون ذلك عبرة لأولي الأبصار، وأوضح لنا أن إهلاكهم كان جزاء لهم بسبب كفرهم وتماديهم في الغي والفساد، وانتصاراً لرسله الذين كذبوهم وسخروا منهم وكادوهم كيداً كبيراً.
فمن أمثلة ذلك إهلاك الله أهل سبأ، لقد كان إهلاكهم جزاء لهم بسبب
كفرهم وبغيهم، قال الله تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) :
فهؤلاء السبئيون في القديم قد عاقبهم الله بالسيل العرم، وجازاهم بسبب كفرهم العنيد الظالم، بعد أن وسع عليهم في الرزق، وعاملهم بعفوه وغفرانه (بلدة طيبة ورب غفور) لكنهم ما رعوا نعمة الله حق رعايتها، فبدلهم الله بجنتيهم الطيبتين جنتين ذواتي أكل خمط، ثم أهلكهم ومزقهم كل ممزق.
وأوضح القرآن أن عقاب الكافرين يحمل غايتين:
الغاية الأولى: الجزاء بالعقاب للكافرين.
الغاية الثانية: الجزاء بالثواب للمؤمنين الصادقين.
فمن ذلك ما قصه الله تعالى من قصة قوم نوح وإهلاكهم وإنقاذ نوح ومن آمن معه، ليتعظ بها قوم محمد صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى في سورة (القمر/54 مصحف/37 نزول) :
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ
قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}
فعقاب قوم نوح وإنقاذ نوح بالمعجزة الربانية كان ذلك جزاء لنوح الذي كُفِر - أي: كفر به قومه وكذبوه - وهذا جزاء بالثواب، وكان أيضاً جزاء بالعقاب للكافرين المكذبين، إذ كانوا هم الطرف المعاقب المهلَك.
ومن الملاحظ بوضوح أن ما عرضه الله في كتابه من قصص الأولين، قد كان الغرض منه إيقاظ مشاعر الاعتبار والاتعاظ، ولم يكن الغرض منه مجرد عرض قصص من القصص التاريخية، مهما كانت المواقف الفنية المثيرة ظاهرة فيها، ولذلك تبرز في القصة القرآنية الأحداث المشتملة على مواطن العظة والاعتبار، ويأتي فيها لفت النظر إلى الاتعاظ والاعتبار، في آخر عرض القصة أو في أوله أو في أثنائه.
ففي النص السابق نلاحظ في آخره قول الله تعالى: {فهل من مدَّكر؟ فكيف كان عذابي ونذر؟} .
ونلاحظ في القرآن تنبيهاً عاماً على الاعتبار بجميع ما أجراه الله في الأمم السابقة، فمن ذلك قول الله تعالى يخاطب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول) :
ففي قوله تعالى: {فكيف كان نكير؟} توجيه ظاهر للاتعاظ والاعتبار بكل ما جرى للأمم السابقة من عقاب لهم على كفرهم وتكذيبهم.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة (يوسف/12 مصحف/53 نزول) :
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي? إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّو?اْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا
فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
ففي هذا النص تصريح بأن الغرض من عرض قصص الأولين أن تكون عبرة لأولي الألباب، وهم أصحاب القلوب الواعية والأبصار المدركة.
ومن هذا نلاحظ أن القرآن يعتمد - في ضمن ما يعتمد - على التربية بالقصة، لما للقصة الواقعية من تأثير قوي في النفوس، وتنبيه قوي على الاعتبار والادِّكار، ومعلوم في الظواهر التاريخية أن تكرر النتائج للمقدمات دليل على ثبات السنةَّ الكونية، فهي تدل عند ذوي العقول على أن للمستقبل حكم ما جرى في الماضي، لذلك كان من الطبيعي الاستشهاد بأحداث الماضي دليلاً على ما يجري في المستقبل، وباعتبار أن ذلك من سنن الله الثابتة.
وذلك جعل الله أنبياء الأولين أدلة لأولي الألباب، يحاسبون عليها، ويلامون على الاستهانة بها، وعدم الاعتبار والاتعاظ بما اشتملت عليه من مواطن عظة واعتبار، وهذا ما نلاحظه في قول الله الموجه للذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم في سورة (التغابن/64 مصحف/108 نزول) :
ففي هذا النص نلاحظ توجيه اللوم والتوبيخ لهم إذ لم يتعظوا ولم يعتبروا بأنباء الذين كفروا من قبل.
وعلى هذا الأساس التوجيهي التربوي جاءت قصص القرآن.
(ب) العقوبات المؤجلة:
الجزاء المؤجل إلى ما وراء ظروف هذه الحياة الدنيا هو الجزاء الأكبر، وربما يدخر الله لبعض الناس كل جزائهم فينالون كل نصيبهم من هذا الجزاء الأكبر.
ولما كان البحث عن واقع هذا الجزاء المؤجَل من أمور الغيب التي لا يستطيع العقل المجرد أن يتحكم في صورها وأشكالها أو يحكم على مراحلها، لأن بينها وبين العقل حجاب الزمان والمكان، كان المرجع فيها النصوص الدينية الصحيحة ومفاهيمها المقبولة.
وقد دلت النصوص الدينية الصحيحة على أن أنواع العقاب المؤجل تبدأ منذ فترة الموت فما بعد الموت، ثم يكون عقاب أشد في يوم الحساب، وهي المدة التي تكون بعد البعث إلى الحياة الجسدية مرة أخرى، وتستمر حتى إصدار الأحكام النهائية، ثم يكون العقاب الأشد الأكبر في دار العذاب التي أعدها الله للمجرمين.
فهي مراحل ثلاث:
أولاها: مرحلة البرزخ، وهي المدة الفاصلة بين الحياتين الماديتين.
ثانيتها: مرحلة يوم الحساب، وهي تكون بعد البعث وقبل دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
ثالثها: مرحلة دار الجزاء الأكبر.
وفي هذه المراحل الثلاث أيضاً يتلقى المؤمنون المتقون أنواعاً من ثوابهم، وثوابهم الأكبر يكون في المرحلة الأخيرة، إذ يدخلهم الله جنته.
* عقاب الكافرين في المرحلة الأولى:
لقد دلت النصوص الإسلامية دلالة صريحة على وجود عقاب للكافرين في المرحلة البرزخية التي تبدأ بالموت، وتستمر حتى يبعثهم الله إلى الحياة الجسدية مرة أخرى.
والموت إنما هو انفصال الروح عن الجسد، ومفارقتها له، كما يخلع لابس الثوب ثوبه.
لقد قص الله علينا طرفاً من قصة موسى مع فرعون وآل فرون ومن آمن من آل فرعون، ثم ختم ذلك بقوله في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول) :
الضمير في {فوقاه الله سيئات ما مكروا} يعود على الرجل الذي آمن من آل فرعون، فوقى الله مؤمن آل فرعون سيئات ما مكر آل فرعون، ونزل بفرعون وآله سوء العذاب من الله، وجاء تفسير سوء العذاب هذا بيان عرضهم على النار غدواً وعشياً، وهذا العرض على النار واضح أنه يكون في مدة البرزخ بين الموت والبعث بدليل قول الله تعالى عقب ذلك {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} .
فدل هذا على أن عرضهم على النار غدواً وعشياً يكون قبل قيام الساعة، أي: قبل البعث. ثم بعد البعث يحاسبون ويقال لملائكة العذاب: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.
وفي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة تثبت ما في هذه المرحلة من نعيم وعذاب.
أما كون عذاب الروح أو نعيمها في هذه المدة ذا صلة بالأجساد الميتة أو البالية أو غير ذي صلة بها فلا شأن لنا به، وقدرة الله لا يُعجزها شيء تتعلق به مشيئته سبحانه، على أنه يكفي لتحقيق ما دلت عليه النصوص بالنسبة إلى هذه المرحلة أن يكون العذاب والنعيم للروح ولو لم يكن للروح أية صلة بأبدانها.
* عقاب الكافرين في المرحلة الثانية:
علمنا أن هذه المرحلة تبدأ بالبعث إلى الحياة بعد الموت للحساب والجزاء الأكبر.
وقد دلت النصوص الإسلامية على أن هذه المرحلة تشتمل على عذاب الموقف الطويل، في حر شمس دانية من رؤوس الخلائف، ولا ينجو منه إلا
المؤمنون الذين أكرمهم الله بأن يستظلوا في ظل عرش الرحمن يومئذٍ، يوم لا ظل إلا ظله، وتكون درجة عذاب هذا الموقف مناسبة لحال الواقف وكفره وكثرة معاصيه شدة وضعفاً، ويستمر هذا الموقف زمناً يعلمه الله، حتى يتمنى الكافرون أن يقضى عليه بعذاب جهمنم، لينصرفوا إليها وينتهوا من موقف الحساب.
وفي هذا الموقف أو في مرحلة من مراحله يعرض الذين كفروا على النار دار عذابهم، ويقال لهم مع هذا العرض: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها؟! فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون، وفي بيان هذا يقول الله تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول) :
ويقال لهم بعد عرضهم على النار: أليس هذا بالحق؟ فيقولون: بلى وربنا. ولكن هذا الاعتراف يومئذٍ لا ينفعهم، لأنهم يعترفون بما يشهدون، وهم عليه معروضون وإليه واردون، ولذلك يقال لهم: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وهذا ما بينه الله بقوله في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول) :
وحين يرون العذاب قريباً منهم تكون حالتهم حالة من علم مصيره المحتوم، فغلى فؤاده بالألم، وظهرت المساءة على وجهه، وفي بيان هذا يقول الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول) :
أي: هذا الذي كنتم به تكذِّبون، إذ كنتم بسببه أو في موضوعه تدعون الأباطيل والأكاذيب.
وحين يعرضون على النار يساقون إليها زمراً بحسب أنواع كفرهم وظلمهم، أو بحسب كتلهم وزمرهم في الدنيا، وفي بيان هذا بقول الله تعالى في سورة (الزمر/39 مصحف/59 نزول) :
إنهم يؤمرون بالدخول، وليس الدخول أمراً سهلاً، فمن الطبيعي أن يحجموا، لذلك فهم يدعون دعَّاً فيُدفعون بشدة، مهانين مُذَلِّين، قال الله تعالى في سورة (الطور/52 مصحف/76 نزول) :
وهذا الدَّع إلى جهنم لا بد أن ينتهي إلى كبكتهم فيها على وجوههم كالركام الذي يقذف بعضه على بعض، قال الله تعالى في سورة (النمل/27 مصحف/48 نزول) :
وقال تعالى في سورة (الشعراء/26 مصحف/47 نزول) :
وبعد هذا الدعِّ وبعد الكبكبة في النار لا بد أن يباغتوا بمس النار فتبهتهم فلا يستطيعون ردها، قال الله تعالى في سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول) :
فمسُّ النار يأتي مباغتاً، والدفع يأتي بعد إحجام، والأمر بالدخول يأتي قبل ذلك والله أعلم.
* عقاب الكافرين في المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة دخولهم دار العذاب، وقد جاء في نصوص القرآن لمحات تفصيلية لألوان العذاب في جهنم، إلا أن معظم النصوص تحدثت عن عذاب جهنم وشدته وشدة إيلامه بشكل عام.
* وفيما يلي طائفة من النصوص التي تتحدث عن عذاب الكافرين في النار بشكل عام:
1-
فمنها قول الله تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول) :
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}
فوصف العذاب هنا بأنه مهين، أي فيه إهانة شديدة لهم وإذلال بالغ جزاء كبرهم واستعلائهم.
2-
ومنها قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
{وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
فهم أصحاب النار، وهم خالدون فيها لا يخرجون منها.
3-
ومنها قول الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}
فجاء وصف العذاب هنا بأنه عذاب شديد.
4-
ومنها قول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
ففي هذه الآية بيان أن جلود الكافرين المعذبين في نار جهنم كلما نضجت واحترقت وانقطع إحساسها خلق الله لهم جلوداً غيرها، ليذوقوا العذاب المتجدد.
5-
ومنها قول الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـ?ئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
فقد جاء وصف النار هنا بأنها جحيم، أي مؤججة مضرمة شديدة الحرارة.
6-
ومنها قول الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :
فجاء وصف العذاب هنا بأنه عذاب أليم.
7-
ومنها قول الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول) :
وفي هذا النص وصف شهيق جهنم وفورانها من شدة حرها كأنها تتميز من الغيظ، وفيه بيان أن أصحاب النار يلقَون فيها أفواجاً أفواجاً، ولا يقذفون فيها دفعة واحدة، وفيه بيان أن كل فوج يسأله خزنة جهنم من الملائكة فيقولون له: ألم يأتكم نذير؟ فيقولون: بلى، ويعترفون بذنبهم ويتحسَّرون على أنفسهم. وهذا تطبيق
ما جاء في قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} ، فما من فوج كافر يدخل النار إلا يُسأل هذا السؤال: ألم يأتكم نذير؟ فيقولون: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما أنزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير.
* أما النصوص التي جاء فيها مزيد من تفصيل عقاب الكافرين في هذه المرحلة الثالثة الأخيرة فكثيرة، ونستعرض فيما يلي طائفة منها مقتبسين ما فيها من تفصيلات:
1-
لقد جاء في القرآن بيان شراب الكافرين في جهنم فقال الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) :
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}
فلهم شراب من حميم، أي: شراب من ماء حار يغلي.
2-
وجاء في القرآن بيان طعامهم وشرابهم فيها، فقال الله تعالى في سورة (الدخان/44 مصحف/64 نزول) :
وقال تعالى في سورة (الواقعة/56 مصحف/46 نزول) :
وقال تعالى في سورة (الصافات/37 مصحف/56 نزول) :
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً للظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي? أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا
الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ * إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ}
فمن هذه النصوص يتبين لنا أن طعامهم في دار العذاب من شجر فيها من زقوم، وأن شرابهم على هذا الطعام من الحميم.
والزقوم شجر منتن الراحئة مرُّ الطعم كالمهل (1) ، ينبته الله في أصل الجحيم / وإذا أكله آكله غلى في بطنه كغلي الحميم، وطَلع (2) هذا الشجر كأنه رؤوس الشياطين، ولكن الكافرين يجدون أنفسهم في دار عذابهم مضطرين لأن يأكلوا من شجر الزقوم، فيملؤوا بطونهم منه، ثم بعد ذلك يسرعون فيشربون وهم ظامئون من الحميم، لكن الحميم لا يطفئ شدة ظمئهم، وما يغلي في بطونهم، فيستزيدون ويستزيدون ويشربون شرب الهيم، والهيم هي الإبل التي يصيبها د اء يقال له: داء الهُيَام، فهي تشرب ولا تروى.
ثم يُعتَل الكافر ويؤخذ إلى سواء الجحيم، ثم يصب فوق رأسه من عذاب الحميم، ويقال له على سبيل الإهانة والإذلال: ذق إنك أنت العزيز الكريم.
ولهم أيضاً طعام آخر من غسلين، وهو في كلام العرب ما يخرج من الأشياء المستقذرة كالجراحة ونحوها عند غسلها، قال الله تعالى في سورة (الحاقة/69 مصحف/78 نزول) :
3-
وجاء في القرآن بيان لباسهم في دار عذابهم، إن لهم ثياباً خاصة من نار، تُقطَّع لهم على مقادير أجسادهم، قال الله تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول) :
{هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ
(1) المهل: المعدن المذاب، أو دردري الزيت، أو القيح والصديد.
(2)
الطلع:: نور النخلة، وهو أول ما يطلع من ثمرها.
مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَآ أَرَادُو?اْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}
فللكافرين ثياب من نار مقطعة مفصلة على مقادير أجسامهم، ويعذبون بسائل يغلي من شدة حرارته، يصب من فوق رؤوسهم فيصهر به ما في بطونهم، وتصهر به جلودهم، ويحاولون الخروج من عذابهم وغمهم، فتلاحقهم ملائكة العذاب بمقامع (1) من حديد، فيضربونهم، ويعيدونهم في العذاب، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق.
4-
وجاء في القرآن بيان ما يوضح في أعناق الكافرين من أغلال حامية يعذبون بها في دار عذابهم، فقال الله تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) :
{
…
وَجَعَلْنَا الأَغْلَالَ فِي? أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
وقال تعالى في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول) :
5-
ويعذب الكافرون في النار بسلاسل محمية يسلكون فيها، طول كل واحدة منها سبعون ذراعاً، قال الله تعالى في سورة (الحاقة/69 مصحف/78 نزول) :
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَآ أَغْنَى عَني مَالِيَهْ * هَّلَكَ عَني سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا
(1) المقامع: قضبان يضرب بها للقمع.
يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَاّ مِنْ غِسْلِينٍ * لَاّ يَأْكُلُهُ إِلَاّ الْخَاطِئُونَ}
6-
وجاء في البيانات القرآنية أن عذاب الكافرين في نار جهنم عذاب دائم لا نهاية له، وأنهم لا يقضى عليهم فيموتوا، بل حياتهم فيها مستمرة، وعذابهم فيها لا ينقطع، كما أنه لا يخفف عنهم من عذابها، قال الله تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول) :
فهم يدعون ربهم وهم في نار جهنم أن يعيدهم الله إلى دار الابتلاء ليؤمنوا ويعملوا صالحاً، ولكن الله لا يستجيب إلى طلبهم هذا، ويقول لهم:"أولَم نعمركم؟ " أي: أولَم نجعل لكم في دار الابتلاء عمراً كافياً لاختباركم وامتحانكم، فأصررتم على كفركم وعنادكم، ويقول لهم أيضاً:"وجاءكم النذير"، أي: وقد جاءكم رسول فأنذركم عاقبة كفركم فكذبتم وعصيتم.
على أنهم لو ردوا إلى دار الابتلاء لعادوا لما نُهوا عنه، ألمح إلى هذه الحقيقة قول الله تعالى في النص:{إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور} ، فهو يعلم ما تنطوي عليه صدورهم من كبر وعناد، فلو أعيدوا إلى دار الابتلاء لعادوا إلى اختيار الكفر على الإيمان، لأن إعادتهم حينئذٍ سيرافقها محو ذكريات العذاب في نار جهنم، فترجع إليهم حينئذٍ نفسيتهم الأولى المستكبرة المعاندة، ويعودون سيرتهم الأولى، وليست المقادير ألعوبة في أيدي المتشهِّين المتلاعبين، وصرَّح بهذه الحقيقة أيضاً قول الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
ففي هذا النص تصريح بأنهم لو ردوا إلى دار الابتلاء لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر والتكذيب، إلا أن تمنيهم العودة إلى دار الابتلاء هنا يكون حينما يوقفون على النار، ويشاهدون دار عذابهم، بينما نجد في النص السابق أن طلبهم العودة إلى دار الابتلاء يكون بعد دخولهم النار، وتقلبهم في ألوان عذابها.
ويطلب الكافر مثل هذا الطلب أيضاً إذا جاءه الموت وعلم منزله من العذاب، عندئذٍ يسأل ربه أن يرجعه إلى الحياة ليؤمن ويعمل صالحاً، ولكن طلبه يرفض لانتهاء زمن امتحانه، وفي بيان ذلك يقول الله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول) :
ففي هذا النص بيان طلبهم الرجعة إلى الحياة الدنيا عند موتهم، رجاء أن يعملوا صالحاً، فيرفض طلبهم.
وفيه أيضاً بيان أنهم يطلبون هذا الطلب حينما تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، إذ يقولون: ربنا أخرجنا منها، فإن عدنا إلى ما كنا عليه من الكفر والتكذيب فإنا ظالمون، فيقول الله لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون، أي: ابتعدوا مطرودين مُذَلِّين مهانين.
ويطلب الكافر مثل هذا الطلب أيضاً وهو في موقف الحساب، وقد دلَّ على ذلك قول الله تعالى في سورة (السجدة/32 مصحف/75 نزول) :
ومن جملة هذه النصوص يتضح لنا أن الكافرين يطلبون الرجعة إلى دار الابتلاء أربع مرات.
الأولى: عند موتهم ومشاهدتهم منازلهم في دار العذاب.
الثانية: في موقف الحساب إذ يقفون عند ربهم ناكسي رؤوسهم.
الثالثة: عندما يعرضون على النار بعد الحساب، ويرون ما في النار من عذاب.
الرابعة: حينما يكونون في نار جهنم وهم يذوقون ألوان عذابها الأليم.
وفي كل هذه المرات يُرفض طلبهم، وترد عليهم تمنياتهم.
7-
وجاء في القرآن بيان أن الكافرين الذين ماتوا وهم كفار لا يغفر الله لهم، ولا يقبل منهم فدية، إنهم قد ختموا حياتهم في دار الابتلاء بالكفر والعناد وتحدي الحقيقة الإلهية الكبرى، وقضي الأمر، فلا رجعة ولا استئناف ولا غفران ولا فدية.
إن عفو الله وغفرانه يوم القيامة من المنح التي يختص الله بها عصاة المؤمنين، فلا يكون للكافرين منها نصيب.
أما في الدنيا فباب العفو والغفران مفتوح لهم إن آمنوا، فإذا ماتوا مصرين معاندين فقد قطعوا بأيديهم عن أنفسهم حبل الرجاء، وقد أعلن الله
لهم وهم في الحياة الدنيا أنه لن يغفر لهم إذا ماتوا وهم كفار، ولن يقبل منهم أية فدية، على أنهم يومئذٍ لا يملكون فدية يقدمونها.
دلَّ على ذلك قول الله تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول) :
وقول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
وقول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
فمن هذه النصوص القرآنية تتضح لنا القاعدة الإلهية العامة في الغفران، وهي أن الله لا يغفر ذنب الكافر به أو الإشراك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فالأمر بالنسبة إلى الذنوب الواقعة في مجال احتمال الغفران منوط بمشيئة الله تبارك وتعالى.
ولا طريق للكافرين والمشركين الذين ماتوا من قبل أن يتوبوا إلا طريق جهنم خالدين فيها، قال الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
أما عدم قبول الفدية منهم فقد دل عليه قول الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ
افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ}
وقول الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) :
ويظل الكبر ملازماً لهم حتى رؤية العذاب، لذلك فهم يخفون ندامتهم.
وقول الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :
وهكذا تؤكد النصوص أن الكافرين في الآخرة محرومون من فضل المغفرة بسبب كفرهم، وأنهم لا سبيل إليهم إلى فداء يفتدون به، وأنهم لا نصير لهم، وأنهم لا مخرج لهم من العذاب.
*
…
*
…
*
ألا فليعلم الذين اختاروا لأنفسهم سبيل الكفر بالله عن طريق الشرك به، أو عن طريق الجحود والإلحاد هذه الحقائق، فهي نُذُر لهم، ولا يلوموا بعد ذلك إلا أنفسهم.
ما على الرسول إلا البلاغ.
وما على مبلِّغ رسالة الرسول إلا البلاغ.
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
إن الله بصير بالعباد، يقيم فيهم عدله، ويمنح محسنيهم فضله.
ولا يظلم ربك أحداً.
*
…
*
…
*
كان الفراغ منه في ليلة الاثنين 20 من جمادى الأولى سنة 1394 هـ الموافق لـ 1 من حزيران (يونيه) لسنة 1974 م بمكة المكرمة.
والله أسأل أن ينفع به ويهدي، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها.
عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني