المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثامنصراع لنفي فرية النزاع بين الإسلام والعلم - صراع مع الملاحدة حتى العظم

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

الفصل: ‌الفصل الثامنصراع لنفي فرية النزاع بين الإسلام والعلم

‌الفصل الثامن

صراع لنفي فرية النزاع بين الإسلام والعلم

ص: 233

(1)

أثار الناقد (د. العظم) ما أسماه مشكلة النزاع بين العلم والدين، وفسر الدين بقوله:"أي: الإسلام بصورة رئيسية بالنسبة لنا".

ثم أعلن أنه يريد أن يسترسل في شرح وجهة النظر التي ترى أن الدين كما يدخل في صميم حياتنا، وكما يؤثر في تكويننا الفكري والنفسي، يتعارض مع العلم ومع المعرفة العلمية قلباً وقالباً روحاً ونصاً.

ثم لوَّح بأن هذا الخط المحارب للدين الإسلامي سينتصر كما انتصر على العقلية الدينية التي كانت سائدة في أوروبا. بعد مرور قرنين ونصف من الحرب الطويلة بين العلم والدين هناك، فقال في الصفحة (21) من كتابه:

"يجب أن لا يغيب عن بالنا أنه مرت على أوروبا فترة تتجاوز القرنين ونصف القرن، قبل أن يتمكن العلم من الانتصار انتصاراً حاسماً في حربه الطويلة ضد العقلية الدينية الي كانت سائدة في تلك القارة، وقبل أن يثبت نفسه تثبيتاً نهائياً في تراثها الحضاري، ولا يزال العلم يحارب معركة مماثلة في معظم البلدان النامية، بما فيها الوطن العربي، علماً بأنها معركة تدور رحاها في الخفاء، ولا تظهر معالمها للجميع إلا بين الفينة والأخرى".

هذا ما قاله (د. العظم) بلسانه عن نفسه، وعن سائر كتائب ملحدي هذا العصر، ونحن نقول: لا ضير ولا خوف على الدين الإسلامي من هذه الحرب الشعواء التي يشنها الملاحدة المتسترون بالعلمانية، فالدين الإسلامي بمفاهيمه الصحيحة الثابتة، وأصوله الفكرية الراسخة لا يخشى العلم الصحيح الذي يستطيع أن يثبت نفسه بالأدلة الصحيحة عبر الزمان، وستسفر المعركة إن وجدت بين الإسلام والعلم عن التقاء تام على خط واحد بين الصحيح مما نسب إلى الدين،

ص: 235

والصحيح مما نسب إلى العلم، وانتصار الإسلام والمفاهيم الإسلامي على النظريات والفرضيات الباطلة المنسوبة إلى العلم، ولا ضير من تصحيح المفاهيم الاجتهادية التي فهمها بعض العلماء المسلمين في عصور مختلفة، إذا استطاع العلم أن يثبت صحة نظرياته المخالفة لهذه المفاهيم.

وليس هذا تراجعاً في الدين، وإنما هو تصحيح لأخطاء المجتهدين في تحديد بعض مفاهيمه، بما يتوصل إليه العلم من حقائق، ويظل الإسلام هو الدين الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو لا يتحمل بحال من الأحوال جريرة أخطاء المفسرين لنصوصه، والمجتهدين في استخراج مفاهيمه.

ومما لا شك فيه أن المسلمين يتعرضون في هذا لأخطر حرب تعرضوا لها في تاريخهم الطويل، إنها حرب قائمة على التضليل الفكري الذي يلبس أثواب العلمانية، وتقودها أجهزة شديدة الحذق في صناعة المكايد، وفي تزوير الحقائق العلمية، وتزييف مستنداتها، وفي يدها المال الكثير، والأجهزة العسكرية العظيمة، والمراكز التعليمية الكبرى في العالم، والتنظيمات الحزبية المنبثة في كل قطر، وهي لا تهدف إلى مجرد الاحتلال العسكري في خطة غزوها، ولكن تهدف أيضاً إلى احتلال الأفكار ومراكز العقائد، واحتلال النفوس ومراكز العواطف، وتشتري من داخل كل أمة صنائع وأجراء لها، ببذل المال، والوعود والإغراءات ومرضيات الشهوات الفاجرة.

ومع كل هذه الأثقال العتادية التي تحملها هذه الحرب ضد الإسلام والمسلمين فإننا واثقون من أن العقيدة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية الصحيحة ستنتصر أخيراً، على كل الحملات الغازية، لأن الحق مؤهل بطبيعته لأن يكون هو المنتصر في آخر الأمر، وإن أصابته أثناء معاركه مع الباطل متاعب ومشقات، وإن سقط من جنوده شهداء كثيرون، ومهما بدا في أول الأمر ظهور مزيف للباطل، إن هذا الظهور زَبَدٌ لا قيمة له، وسيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض مع مكث الحقائق واستقرارها.

والتاريخ يشهد لهذه الحقيقة، فقد جاءت من قبل جيوش غازية إلى بلاد

ص: 236

المسلمين، ففتكت فتكاً ذريعاً، ودمرت تدميراً منكراً، ولكنها رجعت في آخر الأمر تحمل الإسلام في قلوبهم وفي سلوكها وأعمالها، لقد غزا الحق الرباني قلوبها ونفوسها وأفكارها، بعد أن دخلت غازية له تريد تحطيمه وتدمير كل ما يتصل به.

وكم من رجال مفكرين كانوا ملحدين بالله، تأثراً في مطلع حياتهم بأفكار الإلحاد، وبتضليلات المؤسسات الإلحادية في العالم، التي تلبس العلمانية، وتحمل أسلحة التقدم العلمي والصناعي، وشعارات الثورية والتغيير الاقتصادي والاجتماعي، ثم اتجه هؤلاء المفكرون نحو الإسلام لنقده واقتلاعه من جذوره، لكنهم كانوا في الواقع طلاب حقيقة، خدعوا بتزييفات المضللين، فلما درسوا الإسلام، وأمعنوا النظر في كتاب الله القرآن، ليستخرجوا منه ما يحاربونه به، إذا بهم يشهدون الحق فيخشعون لله وإذا بهم يجندون أنفسهم وعلومهم وفلسفاتهم للدفاع عن الإسلام، ولإعلاء كلمة الله بين الناس، وإذا بهم يتحولون إلى دعاة هدى وإيمان، بعد أن كانوا قد تجندوا فعلاً في جيش دعاة الضلالة والإلحاد.

وأما تلويح (د. العظم) بانتصار الإلحاد تحت ستار العلم، وقياسه الدين الإسلامي على غيره، وقياسه المسلمين على الشعوب الأوروبية، فهو تنبؤٌ منه يحمل تفاؤلاً مفرطاً لقضية الإلحاد ونشره في الأرض، واكتساحه للعقائد الإيمانية، وهذا الإفراط في التفاؤل يطمعه به بعض الانتصارات الزمنية التي حققها اليهود على الجيوش العربية، إذ استطاعت دسائسهم أن تعزل الإسلام والمسلمين الواعين عن المعركة.

وأما ما يسمى بالنظريات العلمية التي وضعت خصيصاً لدعم قضية الإلحاد في الأرض فهي نظريات زمنية، لا تلبث طويلاً حتى تأتي كشوفات علمية جديدة، ترافقها أوراق نظريات جديدة تلغيها إلغاءً تاماً، وتقترب النظريات الجديدة من مواقع الإيمان خطوات علمية سليمة، وتخسر قضية الإلحاد كثيراً من أسلحتها التي تلبس رداء التقدم العلمي والصناعي زوراً وبهتاناً، كما قال الله تعالى سورة (الصف/61 مصحف/109 نزول) :

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}

ص: 237

وأما انتصار قضية الإلحاد في أوروبا فقد شرح أسبابه (وولتر أوسكار لندبرج) عميد معهد هورمل منذ سنة (1919م)، وخص بالذكر سببين:

الأول: ما تتبعه بعض الجماعات أو المنظمات الإلحادية، أو الدولة، من سياسة معينة ترمي إلى شيوع الإلحاد.

الثاني: المعتقدات الفاسدة التي تجعل الناس منذ الطفولة يعتقدون بإله على صورة الإنسان.

وطبيعي أن هذا السبب الثاني غير موجود في العقائد الإسلامية، لأنها قائمة على الحق الموافق للبراهين العقلية والأدلة العلمية.

ألا فليخفف (د. العظم) وسائر الملحدين من تفاؤلاتهم بانتصار قضية الإلحاد في دنيا المسلمين، فالله من ورائهم محيط، وليمت الملحدون بغيظهم إن شاؤوا، فالله متمٌّ ولو كرهوا.

(2)

بكل مجازفة مشحونة بالمغالطة زعم الناقد (د. العظم) - لسان طائفة من ملحدي هذا العصر - أن الإسلام والعلم يختلفان ويتنازعان في المنهج الذي يجب اعتماده في الوصول إلى المعارف والعلوم، وفي البحث عن الحقائق.

وقد غدا واضحاً أن سبيله وسبيل سائر الملحدين في مغالطاتهم، أن يقرروا من عندهم أموراً ينسبونها إلى الإسلام، وما هي بالمفهوم الصحيح له، ليغالطوا الناس بها.

وقد أحصيت في الفصل الأول من هذا الكتاب أصول مغالطاتهم، وهي ترجع إلى تعميم أمر خاص، أو تخصيص أمر عام، أو ضم زيادات وإضافات ليست في الأصل، أو حذف قيود وشروط لازمة، أو التلاعب في معاني النصوص، أو طرح فكرة مختلقة من أساسها، أو تصيد بعض الاجتهادات الضعيفة لبعض العلماء وجعلها هي الإسلام، أو التقاط مفاهيم شاذة موجودة عند بعض الفرق التي تنتسب إلى الإسلام، أو نسبة أقوال إلى غير قائليها أو إلى غير رواتها، أو كتمان أقوال

ص: 238

صحيحة وعدم التعرض إليها مع العلم بها وشهرتها، أو نحو ذلك مما يتصل بهذا التضليل القائم على التلاعب بالحقائق، بغية تهديم الإسلام وعقيدة الإيمان بالله، ودعم قضية الإلحاد ونشر الكفر والفساد في الأرض، وهم يخدمون في كل ذلك مصالح شياطين الإنس، مقابل أجر يدفع لهم من دمائهم ودماء أمتهم، كالهر الذي يلعق المبرد ليجزيه المبرد من قطرات الدم، وليست هذه القطرات إلا من دماء اللاعق، والتخدير الذي يحقن العدو به أعصابهم كفيل بأن يلغي الإحساس بالأمل، ريثما تتم عملية الاستنزاف.

ولبيان فساد فرية النزاع بين الإسلام والعلم نذكر القارئ بما جاء في الفصل الثاني من هذا الكتاب "الحقيقة بين الدين والعلم" ونزيده هنا بعض تفصيلات تستدعيها طبيعة الجدال والمناظرة.

لقد وضح لدينا بالبيان التحليلي التفصيلي أن الإسلام والعلم لا يختلفان ولا يتنازعان في المنهج الذي يجب اعتماده في الوصول إلى المعارف والعلوم، وفي البحث عن الحقائق، على خلاف ما افتراه الناقد (د. العظم) .

إن الإسلام والعلم الصحيح يسيران على منهج واحد في الوصول إلى المعارف والبحث عن الحقائق، حتى يصل البحث إلى منطقة عالم الغيب، فإذا وصل البحث إلى هذه المنطقة توقفت الوسائل الحسية وبقي المنهج الاستدلالي، وضمن المنهج الاستدلالي يبحثان وفق منهج واحد، وعند الخلاف المحتمل يبدو الفكر الإسلامي هو المرجح بأدلته الاستدلالية، وبمفاهيم نصوصه الآتية من عالم الغيب نفسه، ولا بد من مراعاة الأصول المنطقية العامة لدى فهم دلالات هذه النصوص.

ويظل حال التوافق بين الإسلام والعلم على المنهج الاستدلالي في مسيرة البحث عما في عالم الغيب من حقائق، حتى تنقطع الوسائل الاستدلالية، عندئذٍ يقول العلم: لقد انتهت رسائلي، ولكني لا أمانع احتمال وجود وسائل أخرى قد يأتي عن طريقها معارف وحقائق داخلة في عالم الغيب، وقد عجزت وسائلي الحسية والاستدلالية عن إدراكها، والحكم عليها بإثبات أو نفي.

ص: 239

وهنا يأتي الدين فيقدم ماعني بالإرشاد إليه والتعريف به. مما هو داخل في عالم الغيب، ولا تملك الوسائل الحسية والاستدلالية إدراكه ولا الحكم عليه بإثبات أو نفي، ولا يملك العلم الإنساني هنا إلا أن يذعن للدين، أو يقول: لا أدري، لكني علمت أن ما جاء به الدين مما علمته بوسائلي قد كان حقا ً.

أما منطقة التكاليف الدينية والتعاليم الشرعية فهي أوامر قيادة، يقصد منها بالدرجة الأولى امتحان الإرادة في مجال الطاعة والمعصية، ويكفي فيها باعتبار الأصل أن تكون كيفية تتبع ما تراه القيادة دون مناقشة، إلا أن الإسلام كان في أوامره القيادية حكيماً، إذ راعى فيها مصالح الأفراد والجماعات، وما يحقق لهم سعادة الحياة الدنيا، إضافة إلى ما وعدهم به من أجر عظيم ينالونه في الآخرة، إذا هم رعوها حق رعايتها. وامتثلوا ما جاء فيها.

لكن الناقد (د. العظم) يقول لنا: هذا كلام تقريري منكم، ولا ينفع في إثبات الحقائق مجرد إيراد أقوال تقريرية خطابية عامة، غير مؤيدة بدلائل واقعية، وإذ يقول هذا الكلام يصر على طرح دعوى التناقض بين الإسلام والعلم في المنهج الذي يجب اعتماده في الوصول إلى القناعات والمعارف والعلوم.

وحين نتابع كلامه نجده يفتري على الإسلام بمجرد الدعوى فقط، ولا يقدم غير كلام تقريري غير مدعم بأي دليل واقعي، وحينما يأتي بكلام يراه دليلاً نجده في الحقيقة تقريراً جديداً كذباً، أو مغلفاً بمغالطة من مغالطاته.

هذه هي خطته العامة كما رأينا، ولكن سنكشف كذبه وافتراءه في قوله لنا: هذا كلام تقريري منكم للتوفيق بين الإسلام والعلم، وفي دعواه وجود التناقض بين الإسلام والعلم في المنهج الذي يجب اعتماده في الوصول إلى القناعات والمعارف والعلوم.

يقول في الصفحة (22) من كتابه:

"فبالنسبة للدين الإسلامي، إن المنهج القويم للوصول إلى مثل هذه المعارف والقناعات هو الرجوع إلى نصوص معينة تعتبر مقدسة أو منزلة، أو الرجوع إلى كتابات الحكماء والعلماء الذين درسوا وشرحوا هذه النصوص، أما تبرير العلمية

ص: 240

بأسرها فيستند إلى الإيمان، أو الثقة العمياء بحكمة مصدر هذه النصوص، وعصمته عن الخطأ، ومن نافل القول أن نردد أن الطريقة العلمية في الوصول إلى معارفنا وقناعاتنا عن طبيعة الكون ونشأته، وعن الإنسان وتاريخه، تتنافى تماماً مع هذا المنهج الاتباعي السائد في الدين، لأن المنهج العلمي قائم على الملاحظة والاستدلال، ولأن التبرير الوحيد لصحة النتائج التي يصل إليها هذا المنهج هو مدى اتساقها مع بعضها، ومدى انطباقها على الواقع".

كلام (د. العظم) هذا مشحون بالمغالطات والأكاذيب.

لقد بدأ كلامه عن المنهج العلمي للوصول إلى قناعات ومعارف عن نشوء الكون وتركيبه وطبيعته، وعن تاريخ الإنسان وأصله وحياته خلال العصور، ثم ادعى أن منهج الإسلام القويم في كل هذه المواضيع هو الرجوع فقط إلى نصوص معينة تعتبر مقدَّسة أو منزَّلة، وأوهم في سرد كلامه بعد ذلك أنه لم يكن لعلماء المسلمين في هذا المجالات عمل علمي إلا درس النصوص الدينية وشرحها.

فهل هذه الدعوى تنطبق على الواقع؟ أم هي فرية ومغالطة قائمة على التعميم؟

لو كان هذا الكلام صحيحاً بالنسبة إلى تركيب الكون وطبيعته، وتاريخ الإنسان وحياته خلال العصور، فمن أين نشأت الثروة العلمية العظيمة في هذه المجالات عند المسلمين، والتي كانت مصدر انطلاق الحضارة الحديثة في علومها وبحوثها وكشوفها ومنهجها، باعتراف كبار علماء هذه الحضارة نفسها، وباعتراف كبار مؤرخيها.

هل كانت كل ثروات المسلمين العلمية في هذه المجالات تفسيراً لنصوص دينية؟

إن أصغر دارس لعلوم المسلمين يكذب هذه الفرية، قد نجد في مقدمة كل علم شواهد دينية تحث على دراسة الكون، واكتشاف صفاته وخصائصه وسُننه، وقد نجد في ثناياه نصوصاً دينية تشير إلى بعض المعارف التي اشتمل عليها، باعتبارها

ص: 241

أحد وسائل المعرفة، ولكن ليس معنى هذا انحصار منهج المعرفة عند المسلمين بتفسير النصوص الدينية وشرحها.

هل علم الكيمياء الذي شق المسلمون طريقه قد كان تفسيراً لنصوص قرآنية أو نبوية؟ ومعلوم أن هذا العلم من دراسة طبيعة الكون.

هل علم الفيزياء الذي صحح المسلمون كثيراً من نظريات الفلاسفة فيه قد كان تفسيراً لنصوص دينية؟ وعلم الفيزياء من دراسة طبيعة الكون.

هل علم الفلك الذي برز فيه المسلمون قد كان مجرد تفسير لنصوص دينية؟ وهذا العلم من دراسة طبيعة الكون.

هل علم التاريخ والجغرافيا لم يكونا غير تفسير لنصوص دينية؟ وهما من دراسة طبيعة الأرض وتاريخ الإنسان.

هل علما الطب الذي أبدع فيه المسلمون قد كان مجرد تفسيرات لنصوص دينية؟ وهو من دراسة طبيعة الإنسان وحياته.

هل علم الرياضيات العقلية (الحساب - الجبر - الهندسة) وغيره من العلوم التجريبية والاستدلالية والخبرية والعقلية البحتة قد كانت عند المسلمين مجرد تفسيرات لنصوص دينية واردة في مجالاتها؟

لو أن المسلمين اقتصروا في كل هذه العلوم على مجرد تفسير النصوص الدينية - كما زعم الناقد في فريته - لما تجاوزت معارفهم فيها بعض القواعد الكلية العامة جداً، ولا شك أن ما تدل عليه النصوص الدينية يمثل لدى المسلمين مصدراً من مصادر المعرفة، ولكنه ليس كل مصادر المعرفة، لأن النصوص الدينية في هذه المجالات قد أرشدت ووجهت للبحث، وقدمت بعض قواعد هذه المعرفة، لكنها لم تتبنَّ التعريف المباشر بكل قواعد هذه العلوم، أما المهمة الأولى والأساسية للنصوص الدينية فهي التعريف بالدين، مبادئه وعقائده وتشريعاته للسلوك الإنساني الفردي والجماعي.

ولما وجد المسلمون الدفع الإسلامي إلى دراسة الكون، واستنباط المعارف

ص: 242

والعلوم عن طريق الملاحظة والتجربة والاستدلال، انطلقوا باحثين في شتى مجالات المعرفة التي تيسرت لهم إبان نهضتهم، قبل أن تثبطهم فترة الركود التي أصابتهم بهجرهم لتعاليم الإسلام، وإخلادهم إلى الراحة والكسل، والاستغراق في الشهوات ، ورضاهم بأمجاد الماضي، إضافة إلى عوامل أخرى خارجية عنهم، أوقفت عجلة تقدمهم.

فما افتراه (د. العظم) على المنهج الإسلامي هراء ظاهر صنعته المغالطة التعميمية، ولكشف زيفه وافتراءاته نفصل منهج الإسلام للوصول إلى المعرفة.

(3)

منهج الإسلام للوصول إلى المعرفة

إن المنهج الذي رسمه الإسلام للوصول إلى معرفة حقائق الأمور هو المنهج الأمثل في تاريخ الفكر الإنساني، بتحديد أصوله وقواعده العامة.

وقد كانت أسس النهضة العلمية عند المسلمين هي المرشد والباعث للنهضة العلمية الأوروبية الحديثة، لسنا نقول هذا على سبيل التفاخر، وإنما نقوله تبياناً للحق الذي اعترف به وأعلنه مؤرخو الحضارات الإنسانية من غير المسلمين، لا سيما بعد أن وجد من أبناء جلدتنا أجراءُ لأعداء الإسلام، يحاولون بالمغالطة والتزوير طمس الحقائق، والقيام في العالم العربي بعملية زلزال فكري، يقصد منه خلط المعارف الثابتة، وتشويه صُورها، وتقويض أبينتها، وإقامة أبنية جديدة مكانها، ولكنها في هذه المرة لن تكون صالحة لأهلها، وإنما تكون للشياطين ومعهم القردة والخنازير.

يقوم الفكر الإسلامي أساساً على أن المعرفة الصحيحة هي ما كان مطابقاً للواقع والحقيقة، فما كان مطابقاً للواقع والحقيقة فهو حق، وما لم يكن مطابقاً للواقع والحقيقة فهو باطل. وقد تكون الصورة الفكرية أو القولية مطابقة للواقع والحقيقة من بعض الوجوه، ومخالفة لها من بعض الوجوه، فيكون فيها من الحق على مقدار المطابقة ومن الباطل على مقدار المخالفة.

ص: 243

هذا هو الأساس الأول للمعرفة في الفكر الإسلامي.

وبعد هذا الأساس الأول تأتي قاعدة كلية وراءه، وهي أن كل وسيلة صحيحة تعطينا صورة صادقة عن الواقع والحقيقة هي وسيلة يجب الاعتماد عليها، والثقة بها في تحصيل المعرفة، وإذا لم تستطع الوسائل أن تعطينا صورة صادقة عن الواقع والحقيقة بشكل قطعي، فإن الضرورة تدعونا في الواقع الإنساني إلى قبول الصور التي ترجح مطابقتها للواقع بصورة ظنية، وذلك ريثما يأتي ما هو أقوى، أو تأتي الصورة المطابقة للواقع بيقين. والمرجح الأول والأخير دائماً هو الواقع والحقيقة، وبهما تقاس النتائج.

ونجد هذا في أوائل متون العلوم التي كتبها المسلمون، إذ يقررون أن العلم هو الصورة الذهنية المطابقة للواقع، أو هو الإدراك المطابق للواقع، وإذ يقررون أن الصدق هو الكلام المطابق للواقع، وإذ يقرون جواز العلم بالاحتمال الراجح إذا لم يتوافر لنا اليقين.

ومن هذا يتبين لنا أن الواقع على ما هو عليه في حقيقة أمره هو المرجع الأول والأخير للمعرفة في الفكر الإسلامي، وما عدا ذلك مما له صلة باكتساب المعرفة فلا يعدو أنه من قبيل الوسائل التي قد توصل إليها.

وهذا من الأوليات المنطقية في الفكر الإسلامي، المبينة في متون العلوم الإسلامية، والمنصوص عليها في مصادر الشريعة الإسلامية، والمهتدى بهديها فيما استخرجه المسلمون من معارف، وفيما كتبوا فيه من علوم.

* وسائل المعرفة:

أما وسائل التي وضعها الإسلام في منهجه للوصول إلى المعارف فبيانها فيما يلي:

الوسيلة الأولى: هي وسيلة الإدراك الحسي المباشر أو عن طريق الأجهزة، وذلك متى شهد العقل بصحة هذا الإدراك وسلامته من الخلل، فحينما تشهد الحواس الإنسانية ظاهرة كونية وتتوافق الحواس السليمة في إدراكها، تغدو الصورة

ص: 244

التي قدمتها صورة علمية مقبولة ضمن الحدود التي قدمتها، وضمن الصورة التي نقلتها.

وباستخدام هذه الوسيلة قرر المسلمون في علومهم حقائق كثيرة لم تأتِ بها نصوص شرعية، ولا رجعوا فيها إلى تفسيرات نصوص شرعية وشروح لدلالتها، كما زعم الناقد (د. العظم) في نقده القائم على المغالطات والأكاذيب.

وهل الملاحظة التي يُعتمد عليها في مناهج البحث العلمي إلا تتبع الظواهر بالإدراك الحسي، ورصدها ومحاولة تفسيرها؟

أفلا يحق لنا أن نقول: إن مناهج العلوم الحديثة قد اقتبسها من مناهج البحث عن المسلمين، الذين أخذوا بها إذ حثهم الإسلام على استخدامها، للتعرف على الظواهر الكونية، وما في عالم الحس من حقائق، ولتكون مادة يستدل منها على قوانين الكون وسننه وخفاياه؟

ولئن أنكر (د. العظم) هذه الحقيقة فقد اعترف بها كتّاب كبار من مؤرِّخي الحضارة الأوروبية الحديثة وعلمائها، وأعلنوا فضل حضارة المسلمين على الحضارة الحديثة، في مناهجها وفي نتائجها (1) .

الوسيلة الثانية: هي وسيلة الاستدلال العقلي، وللاستدلال العقلي أصول وضوابط معروفة مدروسة في الفكر الإسلامي، ومعطيات هذا الاستدلال لا تكون علوماً مقطوعاً بها ما لم تكن يقينية غير قابلة لاحتمال النقض، وإلا كانت درجة قبولها مناسبة لدرجة قوة الاحتمال الذي رجحه الاستدلال.

ويعتمد الاستدلال العقلي على التجربة والاستقرار والتأمل العقلي المجرد، الذي يعطي أحكاماً منطقية جازمة، أو أحكاماً منطقية راجحة.

وإذا لم نقل: إن هذه الوسيلة قد اقتبسها علماء النهضة الحضارية الحديثة من المسلمين، فلا أقل من أن نقول بالاتفاق في المنهج، ومعلوم أن المسلمين كانوا هم الأسبق في الواقع التاريخي.

(1) انظر كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها"، للمؤلف.

ص: 245

وكان لاستخدام هاتين الوسيلتين: (الإدراك الحسي، والاستدلال العقلي) في الفكر الإسلامي معطيات علمية واسعة، في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية، فالإدراك الحسي يحدد الملاحظة ومع الملاحظة أو بعدها أو قبلها أحياناً تستخدم التجربة، ومن ورائهما ينشط الاستدلال العقلي.

وبذلك دوَّن علماء المسلمين في علوم الكيمياء، والفيزياء والطب والفلك والرياضيات (الحساب والجبر والهندسة) والجغرافيا، والتاريخ مدونات كبيرة وكثيرة، أثبتوا فيها معطيات منهجهم العلمي، إضافة إلى ما نقلوه عن غيرهم من منجزات الحضارات السابقة في هذه المجالات.

إن عرض هذه الحقيقة وحدها عن الفكر الإسلامي كافٍ لكشف التزييف الحقير الذي صنعه الناقد (د. العظم) العميل لمنظمات عالمية تخدم الصهيونية في الوطن العربي، إذ زعم أن منهج الفكر الإسلامي للوصول إلى القناعات والمعارف عن طبيعة الكون وتركيبه ونشوئه، وعن تاريخ الإنسان وأصله وحياته خلال العصور، هو الرجوع فقط إلى نصوص معينة تعتبر مقدسة أو منزَّلة، أو الرجوع إلى كتابات الحكماء والعلماء الذين درسوا وشرحوا هذه النصوص.

والغريب في أمره - وهو لسان من ألسنة كتائب الملحدين - أنه يصنع التزييف، ويغالط به، ثم يقرره حقيقة واقعة، ثم يوجه الإدانة على أساسه، ثم يُصدر حكمه القاطع الذي لا استئناف فيه، وينهي المحاكمة هكذا بكل بساطة.

وطبيعي أن يتخذ الملحدون هذه الخطة، إذ لا دين يردعهم، ولا أخلاق تضبطهم، وخطتهم هذه ينطبق عليها المثل "زنَّاه فحدَّه" أي: اتهمه بالزنى كذباً وزوراً، فأقام عليه الحد مباشرة دون بيِّنات.

فلما قرر (د. العظم) فريته عن الفكر الإسلامي وعن منهجه في تحصيل المعارف، وصنع المغالطة كما راق له، قال في الصفحة (22) وما بعدها من كتابه:

"لذلك نجد أنظار المؤمنين دائماً موجهة إلى الوراء، إلى تلك الفترة التي يعتقدون أنه تم فيها كشف هذه الحقائق والمعارف من قبل الله، عن طريق الملائكة والرسل، وينتج عن ذلك أن وظيفة المؤمن والحكيم والفيلسوف والعالم ليست

ص: 246

اكتشاف حقائق جوهرية جديدة، أو اكتشاف معارف هامة لم تكن معروفة من قبل، وإنما العمل للوصول إلى نظرة أعمق، وفهم أشمل للنصوص المنزلة، والعمل للربط بين أجزاء هذه النصوص وتأويلها، ومن ثم تأويل التأولايات، حتى تستنبط معانيها الدفينة، ويتوصل إلى الحقائق والمعارف الكامنة فيها منذ الأزل، وهذا العمل ضروري وجوهري استناداً إلى الآية القرآنية:{وما فرطنا في الكتاب من شيء} ، فلا عجب إذن إذا وجدنا التاريخ الفكري للدين يتألف دائماً من تفاسير وشروح، وشروح لشروح الشروح".

هذا ما قاله حرفياً، فهل ينطبق على واقع العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية التي دوَّنها المسلمون، واكتشفوا فيها وأبدعوا. وكانوا رادَة الفكر الأوروبي الحديث في هذا المضمار؟!

إنه كلام لا يقبله أصغر طلبة العلوم الإسلامية، أما أن يعرض على العالم الإسلامي في كتاب مطبوع فذلك هو البهتان المبين، والاستهانة بعلماء المسلمين، والاستخفاف بالأجيال الحديثة التي يتصور الناقد أنها غدت تتقبل كل زيف وكذب ومغالطات، دون تحرير ولا تمحيص، ألا فليعلم أن في الأجيال المسلمة الحديثة مؤمنين مفكرين، قادرين على أن يكشفوا الزيف المقنع بالأقنعة الكثيرة، فضلاً عن الزيف المكشوف.

الوسيلة الثالثة: هي وسيلة الأخبار الصادقة، وهذه الوسيلة ركن من أركان وسائل اكتساب المعارف الإنسانية، ومعلوم أن الإنسان ملجأ بالضرورة إلى الاعتماد على الوسيلة الإخبارية، في كل أمر لا يستطيع أن يصل إلى معرفته بنفسه عن طريق الإدراك الحسي أو الاستدلال العقلي، إن العلوم التاريخية تعتمد على المستندات الإخبارية، بوصفها وسيلتها الكبرى، وكل تدوين لأية حقيقة علمية توصل إليها الإنسان إنا هو حكاية خبرية لما توصل إليه، ورواد الفضاء حينما وصلوا إلى القمر وعادوا نقلوا إلينا مشاهداتهم وملاحظاتهم نقلاً خبرياً، وقد يدعمون أخبارهم بالمصورات، وقد لا يدعمون، والمدرس حينما يلقي على طلابه في معاهد العلم سلسلة المعارف، إنما ينقلها إليهم نقلاً خبرياً، وكل الناس يتعاملون فيما بينهم ويكون العنصر الإخباري أهم عنصر في تعاملهم.

ص: 247

وهذه الوسيلة الإخبارية هي الوسيلة التي اعتمد عليها الدين، في نقل الشرائع الربانية للناس، وفي نقل سائر التعاليم والبيانات الدينية، والمعارف الغيبية، عن طريق الرسل والأنبياء المؤيدين بالمعجزات وخوارق العادات، شهادة من الله لهم بأنهم صادقون فيما يبلغون ربهم، وكذلك وجه الإسلام للاعتماد عليها في تحصيل كثير من المعار التي توصل إليها العلماء بمسالكهم، وأمر بسؤال أهل الذكر.

ولما كانت الوسيلة الإخبارية وسيلة قد يدخلها الكذب (1) أو الوهم في نقل الخبر، إذا كان المخبر إنساناً عادياً غير مؤيد بالمعجزة، أي: غير معصوم عن الكذب أو الخطأ، وضع الإسلام منهجاً دقيقاً جداً في تحري الأخبار، وفي تمييز مستوياتها - ثقة وضبطاً وفي اتخاذ ما يجب اتخاذه من احتياطات وتحفظات-، ونهض علماء المسلمين بالتحرير والتمحيص، وكان لهم في هذا المجال أدق الضوابط، وأكثرها سلامة وإتقاناً، لا سيما ما يتعلق منها بنقل النصوص الدينية، وأعرض فيما يلي فكرة وجيزة عن منهج الإسلام بالنسبة إلى المستندات الإخبارية. ليكشف القارئ مدى مغالطات الناقد (د. العظم) حول منهج الإسلام.

يتلخص المنهج الإسلامي بالنسبة إلى المستندات الإخبارية بتقسيم الخبر إلى خمسة أقسام رئيسية:

* القسم الأول: الخبر المقطوع بصدقه.

* القسم الثاني: الخبر الذي يترجح جانب احتمال الصدق فيه على جانب احتمال الكذب.

* القسم الثالث: الخبر الذي يترجح جانب احتمال الكذب فيه على جانب احتمال الصدق.

* القسم الرابع: الخبر المقطوع بكذبه.

* القسم الخامس: الخبر المشكوك فيه.

(1) كما يصنع (العظم) فيما ينقل من أخبار.

ص: 248

أما القسم الأول وهو الخبر المقطوع بصدقه فيجب قبوله عقلاً وشرعاً، لأنه خبر لا يخالطه احتمال الخطأ أو الكذب عقلاً، وقد أوضح الإسلام أنه لا بد أن يأتي عن أحد مسلكين:

الأول: أن يخبر بالخبر جمع من الناس يستحيل في مقياس العقل السليم اتفاقهم على الكذب فيه، ويكون ذلك حينما يروي الخبر جمع غفير من الناس تباينت أغراضهم، وافترقت مصالحهم وكانوا بحالة لا يجمعهم فيها على الكذب جامع.

ويحلق به ما تواردت عليه مجموعة من شواهد النقول الإخبارية، ودلائل الآثار الأرضية والكتابية، والمصورات والتسجيلات الصوتية، وبعض الاستدلالات والاستنتاجات العقلية، حتى يصبح التسليم بمضمون الخبر أمراً حتمياً لا شك فيه لدى العقلاء المنصفين، وحتى يصل في نفوسهم إلى درجة اليقين.

والاعتماد على مجموعة الدلائل المختلفة يجب أن يكون مصحوباً بالتبصر العقلي، وبالتمحيص الكامل والاحتياط التام، حتى يشهد العقل بنفي احتمال التزوير في الوثائق، أو الخطأ أو الكذب في الإخبار.

وبهذا المسلك المقطوع به شرعاً وعقلاً حفظ الله القرآن الكريم من التحريف والتبديل، إذ تكفل بحفظه فأعلن في سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول) : قوله:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

الثاني: أن يرد الخبر على لسان نبي من أنبياء الله تعالى أو رسوله من رسله، وقد أحاط الله الأنبياء والرسل الذين يبلغون عنه بوضع يجعل التسليم بنقولهم وأخبارهم عن الله قضية مقطوعاً بها عند كل المنصفين من العقلاء، ذلك بسبب ما صانهم به من العصمة عن الكذب وسائر المعاصي، وبسبب ما أيدهم به من المعجزات الباهرات التي لا يأتي بها أو بمثلها إلا رسول مؤيد من عند الله، ومصدق من قبله بلسان حال المعجزات، فالمعجزات التي يجريها الله على أيدي رسله وأنبيائه دليل قاطع على صدق رسالاتهم، وصدق أخبارهم التي يخبرون بها عن ربهم.

ص: 249

فمتى ورد الخبر عن طريق أحد هذين المسلكين كان مقطوعاً به ووجب تصديقه.

ولكن لا بد من التمييز بين لفظ الخبر وبين مضمون الخبر، فإذا أثبت المستند الخبري قطعية الصدق في لفظ الخبر فليس معنى ذلك أن تحديد معنى اللفظ أمر مقطوع به أيضاً، إن تحديد المعنى قضية ثانية، لا بد لها من مستند آخر يحدد المعنى بصفة قطعية غير قابلة لاحتمال التأويل، فإذا تم تحديد المعنى بصفة قطعية وجب حينئذٍ التسليم به عقلاً، كما وجب التسليم بصحة نقل لفظ الخبر قطعاً، وهذا ما يطلق عليه علماء أصول الفقه الإسلامي عبارتي:"قطعي الثبوت، قطعي الدلالة".

أما إذا كان تحديد المعنى غير مقطوع به فإنهم يطلقون عبارتي "قطعي الثبوت، ظني الدلالة"، وفي هذه الحالة يجب التسليم عقلاً وشرعاً بصحة نقل لفظ الخبر، وتبقى الدلالة في مستوى الرجحان، أو قيد الدراسة والبحث لتحديد المعنى.

وقد تكون دلالة النص المقطوع بثبوته مبهمة غير واضحة أصلاً.

فلا تلازم بين كون النص قطعياً وكون معناه قطعياً أيضاً، بل لا بد في ذلك من اتباع منهج علمي دقيق أوضحه علماء المسلمين في علم أصول الفقه الإسلامي.

من أجل ذلك ليس لأحد أن يغالط في دلالات النصوص القاطعة، اعتماداً على ثبوت لفظها ثبوتاً قطعياً، إن لفهم النصوص منهجاً دقيقاً وضع له علماء المسلمين علماً قائماً بذاته، إنه علم أصول الفقه.

وتظل المفاهيم الاجتهادية المأخوذة من دلالات النصوص مفاهيم احتمالية راجحة، قابلة للنقض أو التعديل بأدلة أقوى من أدلتها، حتى تتوافر الأدلة التي تفيد القطع بصحة هذه المفاهيم، وعدم قابليتها للنقض أو التعديل بحال من الأحوال، عندئذٍ يغدو معنى النص قطعياً، وعندئذٍ يصح أن يوصف بأنه قطعي الثبوت قطعي الدلالة، أو قطعي اللفظ قطعي المعنى.

ص: 250

وربما يتوافر المستند الإخباري القاطع بتحديد فكرة من الأفكار، أو معنى من المعاني، دون أن تأتي هذه الفكرة أو المعنى بلفظ واحد قطعي الثبوت، وعندئذٍ تكون القطعية للمعنى أو للفكرة لا للنص اللفظي، وهذا ما يسمونه المتواتر بالمعنى، إذ يرد الخبر بعد ألفاظ كل واحد منها خبر راجح لا قطعي، إلا أن معناها بالمعنى، إذ يرد الخبر بعدة ألفاظ كل واحد منها خبر راجح لا قطعي، إلا أن معناها جميعاً واحداً، فإذا كانت عدة هذه الأخبار من قبيل المتواتر الذي يستحيل اتفاق المخبرين فيها على الكذب كان المعنى الذي دلت عليه مقطوعاً به، لأنه خبر متواتر بالمعنى.

وأما القسم الثاني وهو الخبر الذي يترجح صدقه على كذبه فهو خبر يوثق به في منهج الإسلام وثوقاً ترجيحياً، قابلاً لاحتمال النقض أو التعديل بدليل أقوى منه، ولا يوثق به وثوقاً إلزامياً قاطعاً، لاحتمال الخطأ أو الكذب فيه، وإن كان بحسب الظاهر احتمالاً ضعيفاً.

وأما القسم الثالث: وهو الخبر الذي يترجح احتمال كذبه على احتمال صدقه، فهو خبر معزول عن الثقة به عزلاً ترجيحياً قابلاً لاحتمال التوثيق بمعاضدة أدلة أخرى، ولا يرفض رفضاً نهائياً مبتوتاً به، لاحتمال براءته من الكذب أو الخطأ، وإن كان بحسب الظاهر احتمالاً ضعيفاً.

وهذا القسم يقابل تماماً القسم الثاني في كل أحكامه.

وأما القسم الرابع وهو الخبر المقطوع بكذبه حساً أو عقلاً فهو خبر مرفوض بصفة قطعية.

ولكن قد يكون الكذب في رواية اللفظ فقط، مع صحة المعنى، وفي هذه الحالة لا نرفض المعنى من أجل ثبوت الكذب في اللفظ، بل نقتصر على رفض اللفظ فقط، وننظر إلى المعنى من خلال أدلة أخرى خبرية أو حسية أو استدلالية.

وأما القسم الخامس وهو الخبر المشكوك فيه، أي: ما استوى فيه طرفا التصديق والتكذيب من غير رجحان لأحدهما على الآخر، فهو خبر لا يحكم عليه بإثبات ولا بنفي ويوضع قيد الدراسة والبحث، حتى يرد ما يرجح تصديقه أو تكذيبه.

ص: 251

ومنهج الإسلام في الاعتماد على المستندات الإخبارية يبتدئ بما يمكن أن نسميه بالوحدة الإخبارية.

والوحدة الإخبارية هي الراوي الواحد حينما ينقل لنا خبراً من الأخبار. ولهذه الوحدة الإخبارية في منهج الإسلام شروط لا بد من توافرها حتى تكون أنباؤها مؤهلة لتجريح صدق الخبر، وحتى تكون مائلة إلى جانب القبول، وهي ثلاثة شروط:

1-

العدالة، وهي أن لا يعهد على الراوي الكذب أو المعصية الظاهرة.

2-

الأهلية الفكرية لتحمل الأخبار ونقلها كما حُملت، دون نسيان أو اضطراب، أو زيادة أو نقص.

3-

اتصال الراوي بمصدر الخبر أو بمن وراه له.

وهذه الشروط تستدعي الملاحظة الدقيقة لرواة الأخبار، والنظر في أحوالهم الفكرية والخلقية والسلوكية، للتأكد من أن أخبارهم صالحة للقبول، وتستدعي أيضاً النظر في صلتهم بمصدر الخبر، أو بمن رواه لهم، وهنا تتسع مشكلة البحث العلمي في تراجم الرجال، وتتبُّع أحوالهم، وتمحيصهم، لكشف الموثوقين الذين تقبل أخبارهم، وتمييز الضعفاء والوضاعين، وتحديد درجة كل منهم في القبول أو الرفض، ونحو ذلك من البحوث.

وهذا عمل يحتاج إلى جهود مضنية وتحريات واسعة، وقد تضافرت فعلاً جهود علماء المسلمين المضنية، للاضطلاع بهذه المهمة الكبيرة على أحسن وجه عرفه التاريخ، فحرروا ما نقل عن الرسول صلوات الله عليه تحريراً لم يسبقوا إلى مثله، وتفوقوا في أعمالهم من أجل تحرير الأخبار وتنقيحها وتصنيفها على كل أمة نقلت أخبارها، واعتنت بتحريرها، لذلك فلا نجد لدى أية أمة من الأمم ولا شعب من الشعوب ذخائر علمية منقولة بالأخبار الصحيحة الموثوقة مثلما نجد لدى علماء المسلمين، وذلك بسبب وضوح المنهج الذي اتبعوه في التثبت من صحة الأخبار، أو الحكم بأرجحية صدقها.

وقد تكفل علم مصطلح الحديث بتحديد هذا المنهج وتحريره وبيانه،

ص: 252

وتفصيل مسالكه على أحسن وجه، كما تكفَّلت كتب تراجم الرجال ببيان أحوالهم وأوضاعهم، ودرجة الثقة برواية كل منهم، والعصر الذي عاش فيه، إلى غير ذلك مما تستدعيه أصول البحث السليم.

ومما هو طريق في هذا الموضوع أن العلماء الغربيين في هذا العصر قد وجدوا أنفسهم مضطرين للاهتداء بهدي المنهج الإسلامي في تحرير الأخبار وتنقيحها، واتباع الأصول الإسلامية المقررة فيه، إلا أنهم لا يستطيعون استيفاء الشروط الإسلامية في بحث عدالة الرواة لدى التطبيق العملي، لأنه ليس لديهم أي مستند يكشف لهم أحوال رجالهم الغابرين، حتى يرجعوا إليه في تمحيص صادق الأخبار من كاذبها، وصادقي الرجال من كاذبيهم.

والمنهج الإسلامي لا يكتفي في كل الموضوعات بالوحدة الإخبارية الواحدة المقبولة للحكم برجحان صدق الخبر والعمل بموجبه، ولكن القضية في منهج الإسلام تتبع الموضوع الذي يتناوله الخبر، فما كل خبر يترجح صدقه يصلح لأن يعتمد عليه وحده في كل موضوع من موضوعات العلم أو موضوعات الحياة، بل لا بد من نسب في الأرجحية تتفاوت بحسب أهمية الموضوعات، وبحسب النتائج التي تترتب على قبول الأخبار فيها.

فما يقبل في رواية خبر تاريخي عادي لا يقبل في إثبات حق أو إدانة بجريمة، وما يقبل في إثبات حق مالي لا يقبل في الاتهام بالزنى، وما يقبل في رواية حديث نبوي وتصحيحه لا يقبل في إثبات آية قرآنية.

فالموضوعات تختلف فيما بينها، وتتفاوت في نسبة ما تحتاجه من قوة الترجيح التي يقدمها المستند الخبري.

إن بعض الموضوعات تحتاج إلى قوة في المستند الخبري ترتقي إلى مرتبة اليقين الذي لا يقبل احتمال الخطأ، وبعضها يكفي فيه دون ذلك.

1-

فالنقل المباشر عن الوحي شرطه النبوة المستجمعة لصفتي العصمة والتأييد بالمعجزة.

ص: 253

2-

والمستند الإخباري الذي ينقل لنا نص آية قرآنية، أو يثبت لنا عقيدة من عقائد الدين، أو أصلاً من أصوله الأولى مما يكفر جاحده يشترط فيه التواتر، أي يشترط فيه القطعية التي لا تتعرض لاحتمال الخطأ أو الكذب.

فإذا لم ينقل النص القرآني بمستند إخباري قطعي لم يثبت قرآناً، وإذا لم تنقل عقائد الدين وأصوله بمستند إخباري قطعي لم يكفر جاحدها، ما لم يكن لها دليل قاطع آخر.

3-

وإثبات الاتهام بالزنى يحتاج في أدنى الحدود إلى قوة ترجيح في المستند الإخباري تتألف من أربع وحدات إخبارية صحيحة.

4-

وإثبات الحقوق بين الناس يحتاج إلى قوة ترجيح في المستند الإخباري تتألف من وحدتين إخباريتين صحيحتين.

5-

والأخبار العادية التي تتضمن أخباراً علمية أو تاريخية أو تتضمن رواية لحديث نبوي تحتاج إلى قوة ترجيح في المستند الإخباري قوامها وحدة إخبارية صحيحة.

6-

والأخبار التي تتضمن مصلحة الشخص الذي يرد إليه الخبر في أمر من أموره الخاصة في حياته، دون أن تتضمن هضماً لحق آخر، أو اتهاماً له، أو إساءة لأحد، أو مخالفة لأمر من أمور الدين، يكفي فيها انفتاح النفس لقبول صحة الخبر، والاقتناع به، دون النظر في حالة المخبر وصفته، لأن موضوعه لا يتطلب أكثر من اتخاذ الاحتياطات والأسباب اللازمة لدفع الخطر أو القرار منه، أو اقتناص المنفعة المرتقبة.

فهل يجد الناقد (د. العظم) أو غيره من أعداء الإسلام في هذا المنهج الذي أبدع فيه الفكر الإسلامي أيما إبداع ثغرة يعلق عليها بانتقاد؟ علماً بأننا لم نرسم في بياننا هذا غير الخطوط العريضة له.

ص: 254

منهج الإسلام عند اختلاف وسائل المعرفة في النتائج

سبق في الفصل الثاني (الحقيقة بين الدين والعلم) ، بيان منهج الإسلام عندما تختلف وسائل المعرفة في النتائج التي يتوصل كل منها إليها، حول موضوع واحد، أو حول نقطة في موضوع واحد، فلا داعي لإعادة تفصيل هذا المنهج.

وخلاصته أن وسائل المعرفة لا تختلف في النتائج التي تتوصل إليها حول موضوع واحد أو حول نقطة في موضوع واحد اختلاف تناقض إلا وبعضها أو جميعها قد دخل إليه الخلل، وعلى الباحثين أن يعيدوا النظر فيما توصلوا إليه من نتائج، واليقيني منها الذي غدا مقطوعاً به نهائياً، وغير قابل للنقض أو التعديل بحال من الأحوال هو الذي يفرض نفسه علمياً، سواء أكان نتيجة إدراك حسي، أو استدلال عقلي، أو نتيجة فهم لنص ديني يقيني الثبوت يقيني الدلالة.

أما النظريات والفرضيات والاجتهادات والإدراكات الحسية، التي لا تقدم يقيناً فهذه قد تختلف فيما بينها وقد تتناقض، وقد يكون الواقع بخلافها جميعاً، والأخذ بالراجح منها أمر تفرضه الضرورة الإنسانية، ولا يكون بعضها حجة على بعض، أو له القداسة المطلقة، لن الحق منها هو ما طابق الواقع والحقيقة، ومادامت نتائجها جميعاً غير يقينية فإن هذه المطابقة تظل مجهولة، أو مشكوكاً بها، أو في مستوى الرجحان فقط، لا في مستوى اليقين المقطوع به.

فليس لأحد أن يأتي بنظرية قابلة للتعديل، أو بفرضية من الفرضيات، ويجعلها علماً مقطوعاً به، ثم يعيب بها ما يفهم من النصوص الدينية، ويزعم بذلك أن الإسلام يخالف العلم، وليس لأحد أن يأتي بفهم اجتهادي في النصوص الدينية، وهو محتمل للخطأ أو التعديل، ثم يجعل هذا الفهم الاجتهادي أمراً مقطوعاً به في الدين، ثم يرد به ما أثبتته الوسائل العلمية الإنسانية إثباتاً نهائياً مقطوعاً به، أو يرد به رداً قطعياً نظريات أو فرضيات من المحتمل أن يكون الواقع مطابقاً لها، فالفهم الاجتهادي في النص الديني أخذ بما ترجح لدى المجتهد من دلالته، مع احتمال أن يكون الواقع بخلافه، والنظرية العلمية فهم اجتهادي في تفسير الظواهر الكونية بما ترجح لدى الباحث من دلالاتها. ويظل العقل في كل

ص: 255

منهما يفرض احتمال أن يكون الواقع بخلاف هذا أو بخلاف هذا، أو بخلافهما جميعاً، فليس أحدهما حجة على الآخر، إلا أن تكون أدلة ترجيحه أقوى، فيتقوى بأدلته دون أن يعطي قطعاً وجزماً بنتائجه.

وتنفرد النصوص الدينية ببياناتها عن أمور الغيب التي تعجز الوسائل الإنسانية عن إدراكها حساً أو استدلالاً.

ولدى اختلاف نتائج وسائل المعرفة حول فكرة واحدة، أو اختلاف نتائج الباحثين في حدود وسيلة واحدة، يجب التوقف عن الجزم والقطع، ويقضي المنهج الأمثل بمتابعة البحث في كل الوسائل الممكنة للظفر باليقين العلمي، ولا يمنع هذا من العمل في تطبيقات الحياة بمقتضى النتائج، ولكل باحث أن يعمل بما ترجح لديه، دون أن يُنحي باللائمة على من خالفه، لاحتمال أن يكون هو المخطئ لا من خالفه فيما توصل إليه، ما لم يظهر فساد الرأي المخالف بيقين، أو برجحان شبيه اليقين، وعند الظفر باليقين العلمي عن طريق أية وسيلة من وسائل المعرفة يتبين فساد كل الآراء المخالفة له، ويحكم عليها عندئذٍ بالمحو من ديوان المعرفة، وبالعزل عن مجالات النظر.

ولهذا أمثلة في الواقع العلمي، لقد سبق في تاريخ المعرفة الإنسانية أن دليل الحس البصري قدم لنا صورة حسية عن شروق الشمس وغروبها، فقرر المشاهدون المبصرون أن الشمس هي التي تتحرك وتسير في السماء من الشرق إلى الغرب، وأن الأرض ثابتة.

ثم انفتحت للإنسان دلائل الاستدلال العقلي اعتماداً على أمارات كثيرة، فغيرت نظرته إلى هذه الحقيقة، وجعلته يفسر مشاهدات الحس تفسيراً آخر، خلاصته أن الأرض هي التي تدور حول نفسها، فتشرق الشمس على قسم منها بهذا الدوران، وتغرب عن قسم آخر، ويتوهم الحس البصري أن الشمس هي التي تسير هذا السير، باعتبار اتحاد النسبة من جهة، وعدم شعور ركاب الأرض بحركتها من جهة أخرى.

وهنا نلاحظ وجود التناقض بين النتيجة التي قدمها الحس البصري

ص: 256

والنتيجة الأخرى التي قدمها الاستدلال العقلي، وقام الجدل بين أنصار شهادة الحس البصري، وأنصار شهادة الاستدلال العقلي.

وكان على الإنسان أمام هذا التناقض في النتائج أن يعيد النظر لاستبانة المخطئ من الوسيلتين للظفر باليقين العلمي، نظراً إلى أن أمارات العقل لم تقدم في حدودها الأولى يقينا ً.

ولدى إعادة النظر تبين للإنسان وجود احتمال كون الحس البصري هو المخطئ، وذلك حين دخل محطة انطلاق قطارات سكة الحديد، وركب في أحدها، وكان في جواره قطار ساكن، ولما انطق القطار الذي هو فيه خدعه حسه البصري فحسب أن القطار المجاور له هو الذي انطلق، وكان هذا من الحس البصري شهادة مخطئة، ثم لما انطلق القطار بعيداً تبين له أن الحقيقة بخلاف ما حسبه من قبل.

وبهذه المراجعة الأولى بدأ الإنسان يشك بشهادة حسه البصري عن الحركة، وبدأ يترجح لديه جانب الاستدلال العقلي في هذا الموضوع، دون أن يستطيع كثير من الباحثين تقديم يقين كامل في أول الأمر يثبت أن الأرض هي التي تدور حول نفسها، وأن الشمس بالنسبة إلى هذه الحركة بالذات ثابتة.

وتابع البحث العملي خطواته، وصعد الإنسان إلى الأجواء العليا، وتحرر من سلطان خداع الحسب البصري على سطح الأرض، وتحقق بالمشاهدة البصرية النتيجة التي قدمها الاستدلال العقلي، وأثبت بيقين علمي أن الأرض هي التي تدور حول نفسها في كل يوم مرة، وبذلك تفسر ظاهرة الليل والنهار، وأنها تدور حول الشمس في كل عام شمسي، وهو السبب في كثير من الظواهر التي تحدث في الأرض.

وهكذا لما برئت شهادة الحس البصري من علة الخطأ التي كانت واقعة فيها اتحدت النتيجة، فكان ما أثبته الحس عين ما أثبته الاستدلال العقلي، ووصل الإنسان إلى معرفة هذه الحقيقة إلى مرتبة اليقين.

ص: 257

أما النصوص الدينية في هذا المجال فلا نجد فيها نصاً ثابتاً قاطع الدلالة على ما يخالف هذه الحقيقة التي أثبتها الاستدلال العقلي، ثم شهدها الحس لما تحرر من منطقة الخداع البصري، بل نجد في النصوص الدينية ما يفهم من عمومها دلالات توافق ما انتهى إليه دليل العقل ثم دليل الحس، وحين نجد بعض العلماء السابقين قد فهموا من هذه النصوص فهماً مخالفاً لهذه الحقيقة فما علينا إلا أن نصحح فهمهم، ونعيد النظر في اجتهادهم، لأن النصوص الدينية المبلغة عن الله بطرق ثابتة يقينية لا يمكن أن تكون دلالاتها الصحيحة مناقضة للحقيقة والواقع، وعملية المراجعة هذه لا تمس النصوص الدينية ذاتها، وإنما تمس المفاهيم الاجتهادية التي فهمها مجتهدون ليسوا بمعصومين عن الخطأ، على أن كثيراً من العلماء المسلمين السابقين قد فهموا من هذه النصوص الدينية مفاهيم تتفق مع النتيجة العلمية التي انتهت إلهيا وسائل الاستدلال العقلي والإدراك الحسي.

والواقع في كل الأحوال هو الحَكَم على كل وسائل الاستدلال.

(5)

بعد أن أوضحت لنا الخطوط الكلية العامة للمنهج العلمي الإسلامي، ظهر لنا تماماً زيف ادعاءات الناقد (د. العظم) إذ صور المنهج الإسلامي كما يشتهي أن يصوره للناس، لتنفيرهم من الإسلام، وأخذ يغالط في الأمور بناءً على ادعاءاته الكاذبة، ثم أخذ يصدر بناء على مغالطاته وأكاذيبه أحكاماً تقريرية من عند نفسه يتهم بها الإسلام ومنهجه للوصول إلى المعرفة.

وما أعتقد أنه يجهل هذه الحقائق كلها أو بعضها عن الإسلام ومنهجه العلمي، ولكن المبطلين كثيراً ما يعرفون الحق إلا أنهم يراوغون عنه، ويحاولون طمس وجهه المشرق الجميل، لأنه يخالف أهواءهم ولا يحقق لهم ما يشتهون، وهذه هي علتهم النفسية.

أما الشاكون الباحثون عن الحقيقة بإخلاص فإنهم لا يغالطون ولا يكذبون ولا يتلاعبون بالحقائق، ومتى وصلوا إلى إدراك الحقيقة بأنفسهم، أو عُرِّفوا بها عن

ص: 258

طريق المناظرة، فإنهم يستمسكون بها كما لو ظفروا بكنز عظيم، ويسهل عليهم الاعتراف والتراجع عن آرائهم السابقة التي كانوا يتصورونها حقاً أو أموراً مرجحة، لأن معرفة الحق هو الأمر العظيم الذي ينشدونه ويبحثون عنه بإخلاص ، ولا يبحثون عن مجرد مبررات يصنعونها بأنفسهم، لتدعيم ما تميل إليه أهواؤهم وشهواتهم، ومصالحهم السياسية أو الحزبية، بخلاف المبطلين في كل ذلك، لا سيما الملاحدة ذوو الأهداف الحزبية السياسية.

لما زعم الناقد (د. العظم) أن المنهج الذي اعتمده الإسلام للوصول إل المعارف والعلوم والقناعات عن الكون وتركيبه وطبيعته، وعن تاريخ الإنسان وأصله وحياته خلال العصور هو الرجوع فقط إلى نصوص دينية معينة تعتبر مقدسة أو منزلة، ورتب فريته كما اشتهى، وخالف فيما ادعاه حقيقة المنهج الإسلامي الذي وضحت لنا خطوطه الكلية العامة، وأدخل في كلامه مغالطات مكشوفة، أورد تعليقة التالي فقال في الصفحة (23) من كتابه:

"إن الروح العلمية بعيدة كل البعد عن هذا المنطق، وهذه النظرة الدينية".

إن أي ناظر في أصول المنهج الإسلامي الذي عرضنا خطوطه الكلية العامة يكتشف بنفسه افتراءات الناقد (د. العظم) وأكاذيبه ومغالطاته، ويرى أنها مرفوضة من أساسها.

إن ما أوضحناه من منهج الإسلام في هذا المجال يقنع - بحمد الله - كل ناظر، ويسكت بالحق كل مناظر، ونضيف هنا شواهد من النصوص القرآنية، تدل على مبلغ الدفع الإسلامي للبحث عن حقائق الكون وحقائق الإنسان، عن طريق النظر في الكون نفسه، وفي الإنسان نفسه، وهذا النظر إنما يتم بوسائل البحث الإنساني، وهي وسائل الإدراك الحسي، ووسائل الاستدلال العقلي.

فمن هذه الشواهد القرآنية ما يلي:

(أ) قول الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) :

{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

} .

ص: 259

ففي هذا النص القرآني دعوة آمرة للبحث العملي في السماوات والأرض عن طريق النظر، لا عن طريق تفسير النصوص.

(ب) وقول الله تعالى في سورة (الذرايات/51 مصحف/67 نزول) :

{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي? أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} .

في هذا النص دعوة إلى البحث العلمي في الأرض وفي النفس الإنسانية للتعرف على آيات الله فيهما، وهذا البحث العلمي لا بد أن يعتمد على وسائل الإدراك الحسي والاستدلال العقلي.

(ج) وقول الله تعالى في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول) :

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

ففي هذا النص دعوة للنظر في ظاهرة التكوين عن طريق البحث العلمي، الذي يعتمد الوسائل الحسية والوسائل العقلية، لا على مجرد تفسير النصوص وفهم دلالاتها، كما زعم الناقد (د. العظم) في ادعاءاته وافتراءاته ومغالطاته.

وقد اندفع المسلمون فعلاً يطبقون منهج النظر العلمي في أنفسهم وفي الكون من حولهم، للوصول إلى معرفة حقائق الأمور، عن الكون والإنسان والحياة، وسر المبدأ ومفاهيم النشأة، وهذا البحث هداهم إلى تطبيق المنهج التجريبي، في العلوم التي تخضع موضوعاتها للملاحظة والتجربة، الأمر الذي دفع العالم الأوروبي المشهور (جب) إلى أن يقول في كتابه "الاتجاهت الحديثة في الإسلام" (1) :

"أعتقد من المتفق عليه أن الملاحظة التفصيلية الدقيقة التي قام بها

(1) نقلاً من كتاب "منهج التربية الإسلامية" للأستاذ محمد قطب.

ص: 260

الباحثون المسلمون قد ساعدت على تقدم المعرفة العلمية مساعدة مادية ملموسة، وأنه عن طريق هذه الملاحظات وصل المنهج التجريبي إلى أوروبا في العصور الوسطى".

فهل بعد هذا تبقى أية قيمة لافتراءات الناقد (د. العظم) ؟

إن أي ناظر منصف يعرف هذه الحقيقة عن الإسلام لا يمكن أن يلتفت إلى افتراءاته وافتراءات أمثاله، أو يتأثر بها، ولا بد أن يعلم أن من الهراء الذي ليس له قيمة فكرية قوله في الصفحة (23) من كتابه:

"أما الدين فبطبيعة عقائده المحددة ثابت ساكن يعيش في الحقائق الأزلية، وينظر إلى الوراء ليستلهم مهده".

يقصد بهذا الكلام أن الدين لا يسمح بالبحث والاكتشاف، وإنما يفرض على المسلمين أن يقفوا في معارفهم عند حدود النصوص الدينية وتفسيراتها، دون أن ينظروا في الكون ويبحثوا فيه بوسائلهم الإنسانية الحسية والعقلية.

إن مثل هذا الافتراء لا يدخل إلى على الجاهلين بالإسلام، والأغرار المضللين، أما من قرأ شيئاً عن الإسلام مما كتبه كتاب مسلمون، أو من المصادر الإسلامية المعتمدة فإنه يستطيع بسرعة أن يكشف زيف هذا الكلام وما فيه من أباطيل.

(6)

يقول الناقد (د. العظم) في الصفحة (24) من كتابه:

"هناك تشابه بين الدين والعلم في أن كليهما يحاول أن يفسر الأحداث، وأن يحدد الأسباب. إن الدين بديل خيالي عن العلم، ولكن تنشأ المشكلة عندما يدعي الدين لنفسه ولمعتقداته نوعاً من الصدق لا يمكن لأي بديل خيالي أن يتصف به".

إن أي ناظر في هذا الكلام (العظمي) لا يرى فيه أي شيء من النقد العلمي، وما زعمه دليلاً فيما كتبه حول هذا الموضوع سبق أن كشفنا زيفه.

ص: 261

إذا كان يريد نقداً علمياً صيحاً فما باله يعطي من عنده تقريراً يلقيه جزافاً من غير أي دليل صحيح، ويتهم فيه الدين بأنه بديل خيالي عن العلم؟

باستطاعة أي جاهل أن يقدم تقريراً لأتباعه من العميان يقول لهم فيه: إن الشمس التي يزعمها المبصرون ليست سوى بديل خيالي عن الشعلات البترولية التي يوقدها الذين اكتشفوا البترول واستخرجوه من أعماق الأرض.

ليس هذا في الحقيقة سوى شتائم باستطاعة أي إنسان محروم من الأخلاق العلمية أن يكيلها، فيسمي الحق باطلاً دون أن يقدم أي برهان، ويتهم الجميل بالقبح، ويصم العالم بالجهل، ويجعل الفضيلة رذيلة، وهكذا بلا ضابط فكري ولا ضابط أخلاقي، ولسنا نريد أن تكون معركتنا مع الملاحدة معركة شتائم، فلنقتسم معهم خطتي رشد وسفاهة، فنأخذ نحن خطة الرشد، ويأخذون هم خطة السفاهة. وخطة الرشد لا بد أن تنتصر في آخر الأمر على خطة السفاهة، لأن للحق قوة وسلطاناً على العقول، ولأن للرشد قوة وسلطاناً على القلوب. وخطة السفاهة ترغي وتزبد ولا حق يدعمها، ولا فضيلة تزينها، أو إلى القلوب تقرِّبها.

إنه لأمر طبيعي في الملاحدة - بعد أن جحدوا وجود الله تبارك وتعالى وهو مصدر الدين والمنزل لتعاليمه- أن يعتبروا ما جاء في الدين من أخبار صادقة أموراً خيالية، وأن يتهموا الدين بأنه بديل خيالي عن العلم، لكن البراهين العلمية نفسها تلزمهم بالإيمان بالله لو كانوا مخلصين حقيقة للعلم، إنهم يهربون من الدين إلى التذرع بالعلم، وحينما تردهم البراهين العلمية إلى الدين يراوغون ويخادعون، فيترددون في منطقة مظلمة لا تشرق عليها أنوار الدين ولا تشرق عليها أنوار العلم، ويعصبون أعينهم عن الحقيقة وينادون بالإنكار، والإنكار موقف سلبي تجاه الحقيقة، لا يكلف صاحبه أكثر من كلمة: لا أعترف، أو أنكر، أو أجحد، أو هذا غير صحيح، أو العلم لا يقبله، أو العقل لا يقبله، أو نحو ذلك، وكلما جئته بدليل عقلي أو علمي قال: لا أسلم، أو هذا دليل غير كافٍ، أو لم يعطني قناعة كافية.

ولكن إذا لم يكلفه الإنكار غير مثل هذه الأقوال عند المناظرة فسيكلفه الكثير الكثير عند الجزاء العادل، وسيكلفه خسارة سعادته الأبدية، وحمل ثقل الشقاء

ص: 262

الخالد مع العذاب الأليم، دون أن يحقق لنفسه أي كسب في الحياة الدنيا من موقفه السلبي الإنكاري.

وإن أقول له ما قال الله في سورة (الزمر/39 مصحف/59 نزول) :

{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُو?اْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ فَاتَّقُونِ} .

لقد كان من الأهون عليه يوم الجزاء لو آمن وعصى، وعرَّض نفسه لعقاب العصيان فقط، وحَمَى نفسه من عقاب الكفر الذي لا نهاية له، هذا إذا كان الدافع له إلى سبيل الكفر رغبته بالفجور، والانطلاق في تلبية أهوائه وشهواته. أما إذا كان العناد والكبر هما الدافع له إلى الإلحاد والكفر فهذا شيء آخر لا دواء له إلا التنازل عن الكبر والعناد، أو ليتحمل نتيجة كبره وعناده.

وحين قال (د. العظم) : "إن الدين بديل خيالي عن العلم، ولكن تنشأ المشكلة عندما يدَّعي الدين لنفسه ولمعتقداته نوعاً من الصدق لا يمن لأي بديل خيالي أن يتصف به".

فقد اعترف ضمناً بأنه لا يمكن لأي بديل خيالي أن يظفر بالثقة التي يظفر بها الدين، بما في ذلك الآراء الإلحادية التي يجهد الملحدون بزخرفتها وتزيينها، ومد الأصبغة والطلاءات عليها.

والسر في ذلك أن الدين حق، ولا يستطيع الباطل أن يظفر بما يظفر به الحق.

وأما كون الدين يدعي لنفسه ولمعتقداته الصدق فهذه قضية خاضعة للقياس البرهاني، إذا كانت المعارف الديِّنة مما تستطيع الوسائل الإنسانية الحسية أو الاستدلالية أو العقلية المجردة التوصل إليها. وهنا نجد التلاقي التام بين الثابت من العلم والثابت من الدين. أما غير الثابت من هذا أو ذاك فليس صالحاً من أساسه لأن يقف موقف اليقين والمعارضة، بل هو احتمال قد يكون راجحاً وقد يكون غير راجح.

ص: 263

وحينما يخبر الدين بأخبار صحيحة ثابتة يقينية عن أمور غيبية لا تستطيع الوسائل الإنسانية التوصل إليها بإثبات أو نفي، فهي أخبار ليس من حق العلم الإنساني أن ينفيها، ولكن لما ثبت أن الدين من عند الله، وثبت ببرهان المعجزات صدق الرسول، ورأينا صدق الأخبار الدينية الثابتة في كل الأمور التي استطاع العلم بوسائله الإنسانية التوصل إليها، كان كل ذلك شهادة بأن الأخبار الأخرى عن أمور الغيب وحق وصدق، ويجب الإيمان والتسليم بها.

ويتابع الناقد (د. العظم) بإصرار دعائي كاذب، فيقول:

"إن محاولة طمس معالم النزاع بين الدين والعلم ليست إلا محاولة يائسة للدفاع عن الدين، يلجأ إليها كلما اضطر الدين أن يتنازل عن موقع من مواقعه التقليدية، أو كلما اضطر لأن ينسحب من مركز كان يشغله في السابق".

ما هذا الكذب العظيم الذي لجأ إليه في هذا الافتراء؟! ألا أخبرنا عن قضية واحدة مما تنازل عنه الدين للعلم؟ وما هي المواقع التي تنازل عنها الدين وانسحب منها أو تراجع فيها؟

هل تراجع الإسلام عن عقيدة من عقائده.

هل تراجع الإسلام عن حقيقة ثابتة بنص يقين؟

إذا كان يريد تصحيح اجتهادات بعض المجتهدين من المسلمين فليست هذه الاجتهادات جزءاً من نصوص الدين، حتى يعتبر الدين مسؤولاً عنها، وحتى يعتبر تصحيحها تراجعاً في الدين. إن الخلافات في فهم النصوص الإسلامية ما زالت ولن تزال قوة حركة علمية بين علماء المسلمين.

فدعواه التراجع وتصويره له بالصورة التي راقت له قضية مفتراة لا أساس لها من الصحة، وليأتنا بواحدة منها حتى نناقشه فيها.

إنه لن يستطيع إلا بالمغالطة والتضليل، بيد أن التراجع مشاهد في النظريات العلمية لصالح الدين، وسنعقد لهذا بحثاً منفصلاً.

ص: 264

(7)

بإصرار مستميت حاول النقد (د. العظم) إثبات ما ادعاه من وجود التناقض بين الدين والعلم، رغبةً بدعم الإلحاد التي يبشر بها في الوطن العربي، خدمة للمنظمة الإلحادية العالمية، ومن ورائها اليهودية العالمية ذات المصالح الخاصة التي تتحقق لها متى انتشر الإلحاد في الأرض وعمَّ الفساد في الشعوب.

ولذلك فهو يصطنع أسساً وهمية لما يريد أن يثبته، ثم يبني عليها أبنية خيالية لا وجود لها إلا في رؤوس أصحابها، أو في رؤوس الذين ينخدعون بأقوالهم، ويسلمون بها دون محاكمة علمية منطقية رصينة.

قال في الصفحة (27) من كتابه:

"فهل من عجب إذن أن نسمع نيتشه يعلن في القرن الماضي أن الله قد مات؟ وهل باستطاعتنا أن ننكر أن الإله الذي مات في أوروبا بدأ يحتضر في كل مكان تحت تأثير المعرفة العلمية، والتقدم الصناعي والمناهج العقلية في تقصي المعرفة، والاتجاهات الثورية في المجتمع والاقتصاد؟....".

ثم قال في الصفحة (28) :

"إن قولنا باحتضار الله في المجتمعات المتخلفة يشكل تمثيلاً رمزياً لحالة الثوران والفوران، وفقدان الجذور التي تعانيها هذه المجتمعات، في محاولاتها الوصول إلى التعايش المرحلي بين الأفكار العلمية الجديدة وتطبيقاتها العملية، وبين تراثها الديني السحيق، دون أن تتنازل كلياً ومرة واحدة عما في ماضيها من قيم غيبية".

يا عجباً، وأية علاقة للتقدم الصناعي بموضوع إثبات الله أو نفيه؟ وأية علاقة أيضاً للاتجاهات الثورية في المجتمع والاقتصاد بهذا الموضوع نفسه؟

لكنه صاحب مذهب معين أعماه التعصب لمذهبه، فصار يحشر كل العبارات التي يرددها رفاقه في كل مكان، ولو لم يكن لها أدنى علاقة بالموضوع، حتى لو رأى العالم الطبيب الجراح في غرفة العمليات يجري عملية خطيرة في القلب

ص: 265

لقال له: ما هذه العملية الرجعية؟ إن الاتجاهات الثورية في المجتمع والاقتصاد تتطلب الرجوع قبل إجراء العملية إلى مفاهيم الحزب الثوري الذي بنى على المعرفة العملية والمناهج الثورية في تقصي المعرفة. ولو رأى الأم ترضع ولدها وتحنو عليه وكان هو لا يرغب بذلك لأطلق العبارات نفسها، فقال لها: ما هذا التخلف؟ إن الاتجاهات الثورية في المجتمع والاقتصاد المبنية على المعرفة العلمية والمناهج الثورية في تقصي المعرفة تتناقض مع هذه العملية الرجعية السحيقة في القدم تناقضاً كليا، فعملية إرضاع الأمهات أطفالهن تطبيق مناقض للعلم والاتجاهات الثورية، وهي قائمة على تصور باطل للكون والحياة والإنسان، لا سيما نظرية التطور، والثورة الفرنسية، والحقائق العلمية التي اشتمل عليها كتاب "أصل الأنواع" لداروين، وكتاب "رأس المال" لكارل ماركس.

فهو كلما رأى شيئاً يخالف مذهبه الباطل أو يخالف هواه جاء بهذه العبارات نفسها فرددها دون وعي لمضمونها، ودون ملاحظة أية مناسبة بينها وبين الموضوع الذي يستعملها فيه.

وقد ذكرني هذا بقصة الثري الغبي وبائع الببغاء، قالوا: مرَّ ثريٌ غبي على بائع الطيور النادرة فوجده يعرض للبيع ببغاء تتكلم كل شيء، حتى إنها تتكلم بمختلف اللغات، فتعلقت نفس الثري الغبي بشرائها، ولكنه أراد أن يستوثق من البائع عن صحة دعواه، فقال له البائع الخبيث سل الببغاء فإنها تجيبك. فقال الثري لها: يا ببغاء أحقاً أنك تتكمين كل اللغات؟ فأجابته الببغاء: وهل أنت في شك من ذلك؟ فقال لها: فهل تتكلمين الفرنسية فقالت له: وهل أنت في شك من ذلك؟ فقال لها: والإنكليزية؟ فقالت له: وهل أنت في شك من ذلك؟ فانخدع بالأمر فاشتراها بثمن عظيم إذ استغل البائع الخبيث غفلته. ولما انصرف إلى بيته دعا أقرانه من الوجهاء والأعيان ليطلعهم على تحفته الجديدة، وأخرجها إليهم وقال لهم: كلموها تجبكم بكل شيء، فجعلوا يكلمونها فلا تجيب إلا بقولها: وهل أنت في شك من ذلك؟ عندئذٍ قال لها الثري: لقد كنتُ غبياً جداً بل حماراً إذ اشتريتك أليس كذلك؟ فقالت له: وهل أنت في شك من ذلك؟

ص: 266

وهذا هو الجواب الوحيد الذي صدقت به، وما كان لها أن تصدق بغيره، لأن بائعها لم يُعلمها غير هذه العبارة.

وكم نشاهد في الحزبين المتعصبين ببغاوات، لا يفقهون إلا عبارات محفوظة يرددونها بمناسبة وبغير مناسبة، حتى ولو كان أحدهم من الطلائع المثقفة التي تحمل شهادات كبيرة، فالتعصب الحزبي المذهبي أخطر عمىً فكري تصاب به المجتمعات الإنسانية.

لذلك فلا عجب أن نجد من نحن في صدده متهافتاً في كلامه، متخبطاً في أفكاره، يلبس بنطاله من يديه، ويلبس معطفه من رجليه، ويجري التبادل المضحك بين ألبسة الرؤوس والأقدام.

ومن تمويهاته التي أراد أن يجعل منها مشكلة خاصة من مشكلات النزاع بين الدين والعلم قوله في الصفحة (29) من كتابه:

"بعد أن عالجنا بشيء من التفصيل مشكلة الثقافة العلمية والاعتقاد الديني، على مستوى النزاع بين الدين والعلم ننتقل الآن إلى معالجة الموضوع على صعيد ما أسميناه بالمشكلة الخاصة. والسؤال الذي سيدور بحثنا حوله يتلخص بما يلي: كيف يكون موقف الإنسان الذي تعرض للثقافة العلمية، وتأثر بها تأثراً جذرياً من المعتقدات الدينية التقليدية والمؤسسات التي تتجسد فيها؟ أيستطيع هذا الإنسان أن يستمر في الاعتقاد بآدم وحواء، وبالجحيم والنعيم، وبأن موسى شق البحر الأحمر وحوّل عصاه حيَّة تسعى؟ كيف يكون موقف الإنسان الذي نشأ نشأة دينية وتقبلها جملة وتفصيلاً من النظرة العلمية الطبيعية للحياة والكون والإنسان؟ من العسير أن نجد بيننا شخصاً يتمتع بشيء من الحس المرهف وبقسط ولو متواضع من الذكاء والثقافة العلمية لم يعانِ التوتر الذي تنطوي عليه هذه الأسئلة، والقلق الذي تثيره في إحدى مراحل حياته ونموِّه".

أكل المشكلة الخاصة التي زعم سيادة الناقد أنها تحدث القلق والتوتر هي أن يعتقد المثقف العصري بآدم وحواء، وبالجحيم والنعيم، أي بقانون الجزاء الرباني،

ص: 267

وبالمعجزات التي يجريها الله على أيدي رسله ليشهد لهم بصدقهم فيما يبلغون عنه؟

ما هو مدى تأثير هذه العقائد على أي تقدم في الصناعة أو في الفيزياء، أو في الكيمياء أو في الطب والزراعة، أو في الفلك والرياضيات أو في التكنولوجيا أو في أي مجال نافع من مجالات الحياة؟

هل إنكار آدم وحواء يمثل قاعدة الارتقاء في المعرفة، فمن آمن بهما توقف ومن أنكرهما وارتقى؟

هل تنحل مشكلة القلق والتوتر إذا هو آمن بجدٍّ من القرود بدل آدم، وبجدة قردة بدل حواء؟

هل الإيمان بالآخرة وقانون الجزاء الرباني لالتزام فعل الخير وترك الشر يعتبر معوقاً من معوقات التقدم العلمي والصناعي؟ وهل الكفر بهما يعطي شحنة دافعة للتقدم العلمي والصناعي؟

ما هذا الكلام الهراء الذي لا يقوله ولا يقبله إلا السخفاء؟

أيها الملحدون ارفعوا عن قرون الجهل الفاضح والحماقة السخيفة الحجرية أقنعة العلمانية، إن العلم الصحيح الثابت لا يخدم قضيتكم الباطلة، إن العلم الصحيح بعيد عن دعوتكم ومذهبكم كبعدكم عن الله الذي تجحدونه، وعن آياته وبياناته التي تنكرونها، وعن أخباره التي تسخرون منها.

إن ما زعمه الناقد (د. العظم) فيما أسماه بالمشكلة الخاصة التي تحدث في نفس المثقف ثقافة علمية توتراً وقلقاً، حينما يحاول التوفيق بين عقائده الدينية ومعارفه العلمية يشبه مشكلة المدينة التي داهمت الجيوش الغازية أسوارها، وأهلها لا يخرجون للدفاع وصد الغزاة؛ لأنهم يعانون توتراً فكرياً وقلقاً خطيراً حول السؤال التالي: هل وجود الدجاجة كان سابقاً لوجود البيضة؟ أم وجود البيضة كان سابقاً لوجود الدجاجة؟

الحقيقة أن الملحدين هم الذين يعانون من القلق والتوتر، ويقعون تحت وطأة

ص: 268

التناقض بين الحقيقة وبين ما اختاروا لأنفسهم من مذهب باطل من جهة، وبين العناد والخوف من المصير من جهة أخرى، وهذا يظهر في حالات العنف الذي يبدو في تصرفاتهم، والاضطراب الشديد الذي تعاني نفوسهم منه، لأن عقولهم الباطنة وجذور ضمائهم لا تستطيع أن تنكر الحقيقة، بينما لا تستطيع نفوسهم المجرمة وشهواتهم العارمة أن تسلِّم بها، فهم بذلك يقعون في حالات الصراع الداخلي العنيف، الذي لا يحلُّه إلا العناد والإمعان في الجريمة، وتجاهل المصير الخطير المؤلم الذي يقذفون بأنفسهم إليه، ويبدو بعد ذلك صفرة كالحة في وجوههم، وحقداً على الناس في معاملاته، ووحشية عجيبة حين يظفرون.

أما المؤمنون فهم - على العكس من كل ذلك- يظلون مطمئنين في كل أحوالهم، ولا يوجد في داخلهم تناقض بين الحقيقة وما يعتقدون، ويشعرون دائماً بالأمن تجاه مصيرهم، لأن الله قد ضمن لهم الجنة بإيمانهم، وحينما يقلقون بعض القلق من المعاصي التي قد يفعلونها تأتي مفاهيم التوبة ورجاء الغفران فتمسح عن نفوسهم القلق، وتعيد لها طمأنينتها ثقة برحمة الله وعفوه، ومشاعرهم نحو الناس تتدفق بالمحبة والرحمة وإرادة الخير والهداية للناس كل الناس. وحينما يجدون خلافاً بين ما يقوله واضعو النظريات العلمية وما يقوله المجتهدون في فهم النصوص الدينية فإنهم يقولون: إن الحقيقة واحدة، لا تتعدد، والدين لا يلزمنا باعتقاد غير الحقيقة. فلا بد أن يكون الخطأ فيما سمي نظرية علمية ونسب إلى الحقيقة العلمية نسبة غير صحيحة، أو فيما نسب إلى الدين وهو في الواقع اجتهاد خاطئ في فهم النصوص، أما ما هو يقيني في الدين وما هو يقيني في العلم فإنه لا يوجد فيه خلاف مطلقاً، ومعظم الأمور الطبيعية الكونية سكت عنها الدين، لأن البحث الإنساني سيصل إليها بنفسه، وكثير من الأمور الغيبية الكبرى لا يستطيع البحث العلمي أن يصل إليها بنفسه، أو أن يحدد صفاتها وخصائصها، لذلك فهو يعتمد فيها على الدين ولا يستطيع أن يحكم عليها بإثبات أو نفي.

وحينما يتجاوز العلم الإنساني حدوده، ويحاول أن يصدر أحكاماً بإثبات أشياء أو نفيها لا تملك وسائله إثباتها أو نفيها، فإن المؤمنين بالدين يقولون للبحث العلمي: قف ولا تتعد حدودك. لذلك فحينما يأتي باحث إنساني فيحكم على

ص: 269

تاريخ الإنسان حكماً يغلي فيه آدم وحواء وقصتهما في نشأة هذه السلالة البشرية فإن المؤمنين بالدين يقولون له: لقد تجاوزت حدود وسائلك التي تكسبك المعارف الصحيحة، ووقعت في التخيلات الذهنية التي ليس باستطاعتها أن تقدم حقائق علمية.

لست أدري ما هي الحقائق العلمية الثابتة القائمة على أدلة يقينية والتي تستطيع أن تلغي فكرة آدم وحواء وقصتهما الواردة في النصوص الدينية؟ أما الافتراضات والتخيلات والاحتمالات الذهنية فليس من شأنها أن تثبت حقائق علمية، ما دام يوجد ما يناظرها ويكافئها في عالم الافتراضات والتخيلات والاحتمالات الذهنية.

الواقع أنه لا توجد حقائق علمية تنفي آدم وحواء وقصتهما، أما الداروينية فإنها فرضية لا تمثل الحقيقة من جهة، ولا تملك أدلة إثبات صحيحة، ولا تستطيع أن تنقض خبراً دينياً، أو تقوى على ما يفهم من ظاهره حتى نلجأ إلى تأويله بما يتفق مع الحقيقة العلمية، لذلك فإن المؤمنين بالدين لا يعانون تناقضاً في هذه المسألة بين عقيدتهم الدينية ومفاهيمهم العلمي، إنهم يقولون للعم: تابع بحثك حتى تصل إلى اليقين العلمي، الذي لا يرتبط بتقدم في المعرفة أو في الصناعة، أو في الاختراع والإبداع، أو في الحضارة وسعادة الإنسان، وليس من شأن الخلاف العلمي فيها أن يحدث قلقاً وتوتراً، حتى يعطيه سيادة الناقد كل هذه الأهمية.

ولكن كيف يجد الملاحدة مشكلات يهزون بها واقع الصدقة المتينة بين الإسلام والعلم؟ إنهم إذا لم يجدوها في الواقع فلا بد أن يصطنعوها بالتزوير والكذب، وبإيجاد النظريات التي ينسبونها إلى العلم، والعلم منها بريء، ويسخِّرون لترويجها عناصر كثيرة يشترونها بوسائلهم المختلفة.

وأما اعتقاد المؤمنين بالجحيم والنعيم فهو موضوع يتصل الإيمان باليوم الآخر، وقد شرحنا هذا الموضوع سابقاً شرحاً كشفنا فيه زيف جحود الملحدين، وأوضحنا فيه أن الملحدين لا يملكون أي دليل عقلي أو علمي يستطيعون أن ينفوا

ص: 270

به الحياة الأخرى وما فيها من جزاء، بيد أن المؤمنين هم الذين يملكون الأدلة لما يؤمنون به.

فلا نزاع بين العلم والدين، ولكن النزاع بين الإيمان العلمي وبين الكفر الجاهل المخادع الذي يلبس أثواب العلم زوراً وبهتاناً.

وأما معجزات الرسل فقضية تتصل بقدرة الله الخالق القادر على تغيير ما يشاء من أنظمة كونه، لإثبات قضية الإيمان لعباده وتصديق رسله فيما يبلغون عنه، وهذه قضية لا تتعارض مع العقل ولا مع العلم الصحيح.

(8)

يتابع الناقد (العظم) إصراره المستميت على ادعاء وجود التناقض بين الإسلام والعلم، فنجده يعرض أقوال بعض الباحثين المسلمين الذين يوضحون أنه لا نزاع ولا تناقض بينهما، ثم يعلق عليها بأنها توفيقات خطابية، أي: لا تعتمد على أدلة علمية، بينما لا يأتي هو بأي دليل علمي أو منطقي يثبت فيه ادعاءاته الباطلة، ويكتفي بالخطابيات والتقريرات، والأكاذيب والمغالطات.

إنه حينما أراد التعليق على كلام جيد للدكتور الشهيد صبحي الصالح لم يجد إلا دليلاً سفسطياً أضعف من الدليل الخطابي بكثير.

يقول في الصفحة (34) من كتابه تعقيباً على ما قاله الدكتور الشيخ صبحي الصالح:

"إذا صح قول الدكتور الصالح بأن الباحث يجد في الإسلام ما يريح قلبه وأعصابه، ويرضي فكره وفلسفته، حول الإنسان وطبيعة الحياة وحرية الإرادة ضمن المشيئة الإلهية، تكون المشكلة قد انحلت أصلاً وسلفاً، ولا داعي لكل هذا الضجيج حول انسجام الإسلام مع العلم الحديث، وكل هذا الهجوم على الإلحاد والملحدين، وكل هذا الاهتمام والجدل والنقاش حول مشاكل الشباب المسلم، أمام تحديات الحياة العصرية والقرن العشرين".

لا يخفى على أي ناظر ما في هذا الكلام من سفسطة واضحة، ومغالطة مكشوفة.

ص: 271

إن الضجيج يأتي من غوغائية الملحدين، الذين يحاولون أن يقيموا الحرب بين الإسلام والعلم، ليفتنوا الشاب المسلم عن دينهم ولا يأتي من قبل الباحثين الإسلاميين ضد العلم الصحيح، ولئن وجد شيء من الضجيج من قبل بعض المسلمين فهو ضد النظريات المدسوسة على العلم، وهي تخالف العقائد والمفاهيم الإسلامية، على أن هذه النظريات لا يتحمل العلم اليقيني وزرها.

ومن هنا تأتي سفسطة (العظم) فبينما يكون البحث في دائرة التحليل للحقائق على مستوى النظرة المجردة، البعيدة عن الحدود الضيقة لآراء الناس، إذا به يستدل بآراء الناس المختلفة، لإثبات ما ادعاه حول طريقين من طرق المعرفة، ومغالطته هنا تقوم على أساس التعميم العجيب بين الدين ومفاهيم المجتهدين على اختلافهم وجماهير المتدينين من جهة، ويجعل كل أولئك حزباً متكافلاً متضامناً، وبين العلم اليقيني والنظريات والفرضيات المنسوبة إلى العلم بغير حق، وجماهير الماديين والملاحدة من جهة أخرى، ويجعل كل هذه حزباً متكافلاً متضامناً.

والنتيجة التي يريد أن يستنتجها بهذه السفسطة هي ما يلي:

إذا حصل خلاف بين جزء من الحزب الأول، وجزء من الحزب الثاني فمعنى ذلك أن كل الحزب الأول مناقض للحزب الثاني.

فهل يقبل هذا الكلام الهراء من لديه مُسكة من عقل سوي؟

إنه رفض الكلام الذي سماه كلاماً خطابياً وقدَّم في استدلاله هذه المغالطة المكشوفة، والسفسطة السخيفة.

مع أن حقائق العلم هي التي تقارن بها حقائق الإسلام، ولا تقارن حقائق الإسلام بالنظريات والفرضيات ومذاهب الماديين غير الثابتة، وأهواء الملاحدة الذين يحاولون أن يتخذوا من العلم دريئة لهم، فلا يقدم لهم غير فرضيات احتمالية لا دليل عليها. هذه ليست بعلم وإن سماها أصحابها علماً، وحينما يوجد بينها وبين حقائق الدين تناقض فهو تناقض يشرف الدين ويرفع من قيمته، ويجعله مزيجاً من حقائق وظنون وأوهام.

ص: 272

وفي مقابل كل هذا فإن حقائق الإسلام هي التي تقارن بها حقائق العلم، ولا تقارن حقائق العلم بظنون المجتهدين، أو بأغلاط المخرفين، على أنها من جوهر الدين، ولا تقارن أيضاً بأهواء أصحاب الضلالات الذين ينتسبون إلى الدين، ويحاولون أن يتخذوا منه دريئة لهم، ليحموا أنفسهم ومصالحهم ويبرروا ضلالاتهم.

إن قضية البحث العلمي ليست بمثل السهولة التي أراد أن يصورها (د. العظم) بها، فيتخذ من التعميم الفاسد أحكاماً وهمية باطلة، إن البحث العلمي يحتاج إلى تحليل عناصر الموضوع المطروح للبحث، وبعد تحليل العناصر يحكم على كل جزء مهما صغر بالحكم الملائم له.

إن العلم لا يحمل أباطيل الملحدين ولا يُعتبر مسؤولاً عنها، ولا يحمل ظنون المخطئين ولا يُعتبر مسؤولاً عنها. وكذلك الدين فإنه لا يحمل أباطيل المخرِّفين، ولا يعتبر مسؤولاً عنها، ولا يحمل أخطاء المجتهدين ولا يعتبر مسؤولاً عنها.

فحينما يقام جدل بين جبهة المتدينين وجبهة غير المتدينين فإنه لا يمثل جدلاً ونزاعاً بين الدين والعلم، وإنما يمثل جدلاً ونزاعاً بين منتسب إلى العلم بالباطل وبين منتسب إلى الدين بغير حق، أو بين منتسب إلى العلم بالباطل وبين الدين الحق، أو بين منتسب إلى الدين بغير الحق وبين العلم الحق. أما الدين الحق والعلم الحق فلا نزاع بينهما ولا جدال في الحقيقة.

وباستطاعتنا أن نؤيد هذا المنهج التحليلي المفصل بالأدلة والبراهين القاطعة.

أما من يلجأ إلى التعميمات السوفسطائية بقصد التضليل والمغالطة، فإننا نلجمه بلجام المنطق السديد، ونقول له: عد إلى رشد المعرفة، وإياك ومراوغة المضلين.

وباستطاعنا أن نقرر القانون التالي:

1-

كل حقيقة من حقائق العلم الثابتة لا يمكن أن تناقض أية حقيقة من الحقائق الثابتة في الدين الصحيح.

ص: 273

2-

كل حقيقة من حقائق الدين الحق لا يمكن أن تناقض أية حقيقة من الحقائق الثابتة في العلم الصحيح.

3-

ما يبدو من تناقص بين ما ينسب إلى الدين وما ينسب إلى العلم، فإنه لا يخلو إما أن ما نسب إلى العلم أمر باطل أو ما نسب إلى الدين أمر باطل أو فهم خاطئ، أو كلٌّ مما نسب إليهما فاسد النسبة غير صحيح، وفي هذه الأحوال يجب متابعة البحث لتصحيح الخطأ فيما نسب إلى العلم أو فيما نسب إلى الدين.

هذه هي قواعد الإيمان، وهذه هي مناهج المؤمنين، أما الملحد فإنه يريد أن يبحث الأمور على المستوى الذي لا تضبطه قاعة عقلية أو علمية، مستوى المغالطات والأكاذيب والافتراءات. على هذا المستوى يسير في جدلياته ومناقشاته، ويتصور أنه بحيله وألاعيبه يستطيع أن يخدع الطلائع المثقفة من أبناء المسلمين، هذا هو وضعه في كل مناقشاته وجدلياته وتقريراته، في الوقت الذي يطالب فيه الباحثين من المسلمين بالتزام قواعد (ديكارت) في منهج البحث السليم!!

أين التزام قواعد ديكارت في جدلياته ومناقشاته؟! بل في أي مقطع من كلامه نجد هذا الالتزام؟!

إنها لمفارقة عجيبة، بل إنها لوقاحة عجيبة!! وهذه الوقاحة سمة كل المبطلين المصرين على باطلهم ولو عرفوا أنه باطل.

يقول في الصفحة (35) وما بعدها ما يلي:

"واضح أن كلام المُوفِّقِين الخطابيين يبقى دوماً (عن سابق إصرار) على مستوى التعميمات الفضفاضة التي لا تزعج أحداً ولا تحرج مواقف إنسان، إذ هل يعقل أن يكون أحد ضد (الحق) و (العلم) و (المعرفة) ؟. إنه منطق المجاملات وجبر الخواطر الذي يرضي جميع الأطراف ولا يزعج أحداً، لذلك يبتعد هؤلاء الموفِّقُون عن بحث أية مشكلة ذات طابع محدد قد تضطرهم إلى الخروج من مجال المفاخرة بمزايا الدين الإسلامي وحسناته العملية للدخول في مجال التحليل الدقيق للمشكلة المطروحة.

ص: 274

"في الواقع يفتقر كلامهم حتى لأكثر أدوات التحليل الفكري بدائية، كما يفتقر إلى أبسط القواعد المنهجية في التمحيص والتفكير العلمي، حتى قواعد (ديكارت) في منهج البحث السليم التي وضعها في القرن السابع عشر وأصبحت أموراً بدائية وفجة جداً في عصرنا لا نجد لها أي أثر في أبحاث الموفقين الخطابيين. من قواعد (ديكارت) الأساسية: طرح المشكلة المراد حلها بالتحديد، ومن ثم تقسيمها بصورة منتظمة إلى عدد من القضايا الجزئية التي تتكون منها، ومن ثم معالجة الأجزاء الأبسط استعداداً للانتقال إلى المسألة الأكثر تعقيداً وتركيباً، إلى آخر القصة الديكارتية المعروفة حتى في المدارس الثانوية".

هذا كلام الناقد (د. العظم) عن المنهج الديكارتي، والذي أصبح في نظره من الأمور البدائية والفجة، وجاء بعده ما هو أدق منه وأكمل.

ولكن ما باله في جدلياته ومناقشاته لا يطبق أدنى مستويات المنهج الديكارتي الذي يعرفه؟!

هل يقبل المنهج الديكارتي هذه التعميمات التي يسلكها؟ وهذه المغالطات التي يصطنعها؟ وهذه المفتريات التي يفتريها على الحقيقة؟

إن مناقشاته لتفتقر إلى أبسط أصول الفكر الإنساني الموجودة عند الشعوب البدائية فضلاً عن الشعوب المتقدمة حضارياً، فضلاً عن معاهد العلم والدراسة، فضلاً عن المستوى الأكاديمي، فأين هو من تطبيق ما يعرف؟.

لكن التعصب للباطل والإصرار عليه يجعلان الإنسان يخرج حتماً عن دائرة المنهج السوي، ويجعلانه متخبطاً في مناقشاته، ساقطاً في مناظراته، متهافتاً في كلامه. إن المنهج السوي لا يقدم لأقواله الباطلة أدلة إثبات، لذلك فهو مضطر إلى أن يلجأ إلى المراوغة والحيلة والكذب، وهذه لا تقع ضمن خريطة المناهج الفكرية السليمة، ولا تستقيم مع أي منطق عقلي. أين التحليل؟ وأين تجزئة المشكلة إلى عدد من القضايا الجزئية التي تتكون منها؟ ما أصدق تطبيق المثل العربي عليه "رمتني بدائها وانسلت"! فما يرتكبه هو من الخروج عن منهجه المعرفة الصحيحة والمناقشة السليمة، يقذفه على أنصار الحق الذين يعلنون مفاهيمهم على الجماهير،

ص: 275

بالأساليب التي تفهمها هذه الجماهير، إذ ليس باستطاعة الجماهير أن تشارك في مناقشة القضايا الجزئية مناقشة البحث العلمي، وإنما تُطلب من الباحثين تقديم نتائج بحوثهم.

لكن العجب كل العجب أن يأتي الناقد (د. العظم) ومن هو على شاكلته فيتصدى للجدل النقدي، ثم لا يجادل إلا من مواقع الانحراف الخطير عن المنهج الذي يدعو خصومه لالتزامه، ينهي خصومه عن مستوى التعميمات الخطابية، ويستخدم تعميمات المغالطة!!! يطالب بالتحليل الدقيق للمشكلة وبتقسيمها إلى عدد من القضايا الجزئية التي تتكون منها، ثم يأتي هو إلى قضايا متعددة في أصلها، فيضمها في قضية واحدة ويصدر عليها حكماً واحداً. يطالب بالتزام قواعد ديكارت التي أصبحت في نطره أموراً بدائية وفجة جداً في عرنا، ثم يرمي في مناقشاته بكل قواعد ديكارت وبكل القواعد المنطقية رمي النواة، فلا يلتزم شيئاً، ولا يأخذ بأي واجب من واجباتها، ويتظاهر مع كل ذلك بالغيرة على الحقيقة والأمانة العلمية، أهذه هي الأمانة العلمية لديه؟ أفلا يكون منسجماً مع نفسه ومع قواعد البحث العلمي السليم، قبل أن يدعو خصومه لالتزام قواعد البحث العلمي السليم، على أنهم في أغلب أحوالهم ملتزمون، وحينما يبصرون بالخطأ يتراجعون.

أيها الملحدون لا تلبسوا أثواب العلم فإن العلم الصحيح لن ينصر إلحادكم وكفركم بخالقكم وإنكاركم لليوم الآخر، وإنكاركم لنشأتكم الأولى، وجحودكم لمصدر وجودكم، واستهانتكم بمسؤولياتكم في حياتكم الدنيا، إن العلم الحق نصير لقضية الإيمان لا لقضية الكفر، وأما الفرضيات التي تعتمدون عليها فأبعدوها عن مستوى الحقائق العلمية، ولا تحشروها فيها كذباً وزوراً وبهتاناً، إن العلم الحق سيطردها من قصره مهما حاولتم إدخالها فيه.

أيها الملحدون لا تصطنعوا الضجيج للإيهام بوجود النزاع بين الإسلام والعلم فالواقع الحق لا يؤيدكم.

ص: 276

(9)

يقول الناقد (د. العظم) في الصفحة (36) من كتابه ما يلي:

"يشدِّد القائلون بالتوافق التام بين الإسلام والعلم على أن الإسلام دين خال من الخرافات والأساطير؛ باعتبار أنه هو والعلم واحد في النهاية. لنمحص هذا الادعاء التوفيقي بشيء من الدقة بإحالته إلى مسألة محددة تماماً. جاء في القرآن مثلاً: أن الله خلق آدم منطين، ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس؛ مما دعا الله إلى طرده من الجنة. هل تشكله هذه القصة أسطورة أم لا؟ نريد جواباً محدداً وحاسماً من الموفقين وليس خطابة. هل يفترض في المسلم أن يعتقد في النصف الثاني من القرن العشرين بأن مثل هذه الحادثة وقعت فعلاً في تاريخ الكون؟ إن كانت هذه القصة القرآنية صادقة صدقاً تماماً وتنطبق على واقع الكون وتاريخه فلا بد من القول: إنها تتناقض تناقضاً صريحاً مع كل معارفنا العلمية، ولا مهرب عندئذٍ من الاستنتاج بأن العلم الحديث على ضلال في هذه القضية، وإن لم تنطبق القصة القرآنية على الواقع فماذا تكون إذن (في نظر الموفقين) إن لم تكن أسطورة جميلة؟ ".

يا عجباً كل العجب، وهل كل معارفه العلمية منحصرة في الفرضية الداروينية، المناقضة للحقيقة الدينية التي قص الله علينا قصتها وفق علمه، حتى يقول: لا بد من القول: بأنها تتناقض تناقضاً صريحاً مع كل معارفنا العلمية؟

لكننا نقول له: إن الحق ما قصهُ الله علينا في كتابه، ولو تناقض مع الفرضية الداروينية، وليس هذا تناقضاً بين الدين والعلم وإنما هو تناقض بين الحق الديني وبين ما نسب إلى العلم، وهذا لا يؤثر في جوهر الموضوع.

فالداروينية ليست حقيقة علمية بشهادة العلماء أنفسهم، لأنها لا تملك أدلة إثبات يقينية فيما يتعلق بتاريخ الإنسان ونشأته الأولى، ولأن العلم لا يملك أدلة تنفي وجود الجن والملائكة.

وباستطاعتنا أن نعكس السؤال عليه فنقول له: هل باستطاعة العلم المادي الحديث أن يقدم لنا أدلة يقينية قاطعة تثبت ما يدعيه حول نشأة الإنسان الأولى

ص: 277

وتاريخه؟ إن ما يقولونه هو مجرد احتمال افتراضي لو لم يقولوا به لما وجدوا أمامهم إلا ما يقرره الدين من قضية الخلق الرباني، وهذا ما يتهرب الماديون الملحدون منه من غير دليل. حتى كتب (سير آرثر كيث) يقول:

"إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علمياً، ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان، ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر، وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه"(1) .

لماذا لا يمكن قبوله من وجهة نظره ولا التفكير فيه؟

لأنه اتخذ لنفسه الإلحاد مذهباً، فهو لا يريد أن ينقض مذهبه، تعصباً له وإنكاراً للحقيقة الإلهية. وهكذا سائر الملحدين.

إذا حققنا في الأمر وجدنا أن الخرافة والأسطورة تتمثل في بعض المواقف من النظرية الداروينية، وهي المواقف التي تتناقض مع صريح ما جاء في القرآن عن خلق آدم، لأن الفرضية الداروينية في هذه المواقف لا تملك أي دليل غير مجرد الاحتمال الافتراضي، وهذا لا يقدم أية حقيقة علمية.

فادعاؤه التناقض بين الدين والحقائق العلمية في هذه القضية الخاصة ادعاء مخالف لكل القواعد المنطقية والأسس العلمية، ألا فليراجع مفاهيمه مراجعة منطقية قبل أن يتصدى لعمليات نقد كبرى.

ثم قال بعد أن عرض هذه المسألة المحددة كما زعم:

"هل يفترض في المسلم في هذا العصر أن يعتقد بوجود كائنات مثل الجن والملائكة وإبليس، وهاروت وماروت، ويأجوج ومأجوج، وجوداً حقيقياً غير مرئي باعتبارها مذكورة كلها في القرآن، أم يحق له أن يعتبرها كائنات أسطورية، مثلها مثل آلهة اليونانية وعروس البحر والغول والعنقاء؟ يا حبذا لو عالج الموفقون بين الإسلام والعلم مثل هذه القضايا المحددة وأعطونا رأيهم فيها بصراحة ووضوح بدلاً من الخطابة حول الانسجام الكامل بين العلم والإسلام".

(1) اقتباساً من كتاب "الإسلام يتحدى".

ص: 278

يا سبحان الله!! يبدو أن الناقد (د. العظم) عالي الثقافة؟! فهولا يفقه معظم هذه الأسماء التي يغري أبناء المسلمين بأن يجحدوها، عن طريق تساؤلاته الاستنكارية، والظاهر أنه أخذها عن مكتوبات الماركسيين غير المسلمين، ونقلها نقلاً ببغاوياً بالترجمة الحرفية، دون أن يرجع إلى المصادر الإسلامية ويعرف دلالاتها منها، ففي إيراده لهاروت وماروت ويأجوج ومأجوج على أنها كائنات غير مرئية كالجن والملائكة وإبليس جهل فاضح جداً، فمن هذا الذي قال: إن هاروت وماروت ويأجوج ومأجوج مخلوقات غير مرئية كالجن والملائكة؟

إن التخبط الفكري عند الملاحدة الذين يتصدون لمعارضة الحقائق الإلهية يجعلهم يرتكسون ارتكاساً فكرياً شائناً جداً، ومن شأن الباطل أن يتخلى عن أنصاره، ويسبب لهم الهزيمة الفكرية الفاضحة، والحق لابد أن يعلو عليهم ويجعلهم هم وباطلهم زاهقين.

نحن نعلم أن يأجوج ومأجوج (1) من القبائل البشرية الجاهلة المفسدة في الأرض، وهم من سكان الشرق الأقصى وراء سد الصين. وكان سكان غرب الصين قد اشتكوا أمر إغارة قبائل يأجوج ومأجوج عليهم لذي القرنين، الفاتح المؤمن العادل، وطلبوا منه أن يقيم بينهم وبين قبائل يأجوج ومأجوج المفسدة في الأرض سداً عظيماً، يحجز عن سكان غرب الصين غارات سكان شرقها، مقابل خَرج يدفعونه له، فوافق ذو القرنين على ذلك، وطلب منهم أن يعينوه على ذلك بقوة رجالهم الكثيرين، وبالمواد الموجودة في بلادهم، وفعلاً أقام ذو القرنين لذلك السد العظيم ، وحجز قبائل يأجوج ومأجوج، وتعذر عليهم الظهور عليه واستئناف غارات الإفساد التي كانوا يغيرونها.

فما علاقة هذه القبائل البشرية التاريخية بالغيبيات وبالكائنات غير المرئية؟.

لو أنه قرأ سورة (الكهف) أو سمعها من المذياع، أو لم يرد التضليل الديماغوجي لما سقط في هذه الفضيحة التي تعبر عن جهل كبير، في موضوع

(1)(يا غوغا ماغوغا) من القبائل المعروفة عند مؤرخي بلاد الصين.

ص: 279

يتصدى لنقده ومهاجمته، بغية التبشير بمذهبه الإلحادي الكافر بكل القيم.

أو لعله استغرب اسمي يأجوج ومأجوج فاعتبرهما كائنات غير مرئية كالجن والملائكة؟ إذا كان الأمر كذلك فالأسماء الغريبة عليه كثيرة في عالم الناس، وفي عالم العلم، فليجعلها كلها أسماء لكائنات غيبية غير مرئية كالجن والملائكة.

ولكن هكذا يخبط خبط عشواء، ويخلط خلط عمياء، دون الرجوع إلى مصادر الدين الإسلامي ومعرفة المراد منها؟

أهذه هي القواعد المنهجية في التمحيص والتفكير العلمي التي يطالب المؤمنين بها؟

إذا كانت هذه هي قواعده فهيهات أن يصل إلى أية حقيقة من الحقائق، وعليه أن يرتطم دائماً في حفر الجهالة والضلالة، وما دام هذا مستواه فلا بد أن يسقط في حبائل المؤسسات الإلحادية في العالم، وهي المؤسسات التي ترعاها وتديرها من وراء الأستار اليهودية العالمية، لغاية في نفوس اليهود يريدون تحقيقها في شعوب الأرض.

ونظير سقوطه في مسألة يأجوج ومأجوج في حفر الجهل الفاضح سقوطه أيضاً في مسألة هاروت وماروت.

إن هاروت وماروت اسمان لشخصين وجدا قديماً في بابل، وكانا على صورة آدمين يخاطبان الناس، ويعلمانهم السحر الذي علمهما الله إياه، ويأمران الناس بأن لا يكفروا بالله عن طريق تعلمهم السحر، وعنهما توارث الناس علم السحر، وقد أخبرنا الله في القرآن أنهما في حقيقة حالهما ملكان ظهرا على صورة آدميين، على أن في كونهما ملكين وفي تعليمهما الناس السحر خلافاً عن المفسرين، ومهما يكن من أمر فليسا كما زعم (العظم) نقلاً عن كتب الماركسيين أنهما من الكائنات غير المرئية، بل كانا شخصيتين مرئيتين، وكانت لهما قصة مشهورة في تاريخ الناس، وتوارث الناس عنهما أو عن غيرهما علماً ما زالت له رواسب معروفة عند بعض المخصصين بعلم السحر، وإذا كان يجهل ذلك فليسأل سحرة اليهود فإنهم يخبرونهم.

ص: 280

وقد تعرض القرآن لقصتهما في معرض الكلام على بني إسرائيل في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : فقال تعالى:

{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}

وهكذا ظهر لنا جهل (د. العظم) الفاضح في المسألة الثانية التي يردد ألفاظها، وهو لا يعلم مضمونها، ثم يتصدى لنقدها وفق تصور خيالي لديه.

أما تساؤلها عن الملائكة والجن وإبليس فهذه فعلاً كائنات غير مرئية بالنسبة إلى مستواك إدراك الناس، والملحد بالله وبالدين وبالأخبار الواردة في الدين الحق ينكر هذه الكائنات لأن العلم الحديث لا يملك حتى الآن أدلة إثبات لها.

ولكن هل استقصى العلم المادي الحديث كل ما في الوجود من كائنات وأسرار، حتى يدعي نفي وجود ما لم يشاهده بوسائله؟

لو كان الأمر كذلك لكان على العلماء الباحثين أن يتوقفوا عن متابعة البحث، الذي يضنون أنفسهم فيه لاكتشاف مجاهيل من الطاقات والكائنات الكونية التي يدركون أنهم ما يزالون يجهلونها، لكنَّ هذا لا يدعيه عالم يقدر العلم ويحترم نفسه.

إن العلوم الحديثة لا تملك حتى الآن أي دليل تستطيع أن تنفي به وجود الجن أو الملائكة، بيد أن كثيراً من التجارب الإنسانية تثبت وجود كائنات خفية روحية غير مدركة بالحس، وغير مدركة بالأجهزة العلمية، على أن إنكار المنكرين

ص: 281

لها لا يؤثر على وجودها شيئاً، كما أن إنكار المنكرين لعالم الجراثيم والميكروبات المرئية وغير المرئية لا يؤثر على وجودها في العالم شيئاً.

إن دليل المؤمنين على وجود الملائكة، ووجود الجن مؤمنيهم وكافريهم وشياطينهم ومردته أخبار صادقة جاءت عن الله، بطريق الوحي، وبلَّغها الرسل الصادقون المؤيدون بالمعجزات، كما شاهدوهم واتصلوا بهم بتجاربهم الخاصة، فالمؤمنون بهم إنما يؤمنون تصديقاً لخبر الله الصادق، ولأخبار الرسل الصادقين، والقضية من أساسها تقع في دائرة الممكنات العقلية لا المستحيلات، فالعمدة فيها الخبر الصادق، على أن للناس تجارب كثيرة من هذا القبيل، ولكن هذه التجارب ليست هي عمدة المؤمنين، لأنها لم تصل إلى مستوى البرهان العلمي.

(10)

يقول الناقد (د. العظم) في الصفحة (39) والتي تليها من كتابه:

"من الآيات القرآنية التي يحب الموفقون ترديدها في معرض كلامهم عن انسجام الإسلام والعلم الحديث: الوصف القرآني التالي لأصل الإنسان وتكوينه: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة * فخلقنا العلقة مضغة * فخلقنا المضغة عظاماً * فكسونا العظام لحماً * ثم أنشأناه خلقاً آخر * فتبارك الله أحسن الخالقين} ".

[سورة المؤمنون: الآيات 12 -14]

ثم قال تعليقاً على هذا النص القرآني ما يلي:

"من الجلي أن عملية نمو الخلية البشرية بالنسبة إلى هذا الوصف القرآني تعتمد على التدخل المباشر والمستمر من قبل الله لنقلها من طور آخر، أي إن نقلها من نطفة إلى علقة يحتاج إلى عملية خلق جديدة، كما أن نقلها من طور العلقة إلى طور المضغة يحتاج كذلك إلى عملية خلق أخرى

إلخ.

وخلاصة القول هو أن نمو الخلية البشرية يشكل معجزة إلهية لا تعليل لها سوى قدرته المطلقة على الخلق، وتدخله المباشر في سير أمور الكون. هل يتفق

ص: 282

هذا الوصف والتعليل مع معارفنا العلمية عن الموضوع، ومع ما يبينه لنا علم الأجنَّة حول تطور الخلية البشرية في مراحلها الأولى؟ الجواب حتماً بالنفي، لأن علم الأجنة لا يدع مجالاً للشك في أن الخلية تنمو بالتطور العضوي من طور إلى آخر، وفقاً لقوانين طبيعية معينة، بحيث تنمو المرحلة المتأخرة من صلب المرحلة السابقة عليها، وعلى أساس معيطاتها الأولية، كل ذلك بصورة تسمح لنا بالتنبؤ بتطور الخلية، وبالمراحل المستقبلة التي ستمر بها، وتمكننا من التحكم بنموها، بحيث نستطيع تأخيره أو إسراعه أو تشويهه (إن شئنا ذلك) بتعريضها لمواد كيماوية معينة، أو لأنواع محددة من الأشعة، وكم كنت أود لو لم يكتفِ الموفقون الدينيون العمليون بمجرد الاستشهاد بالوصف القرآني لنمو الخلية، وتعدوا ذلك لإيضاح رأيهم في كيفية انسجام هذا الوصف، مع معارفنا العلمية الثابتة عن هذه الظاهرة الطبيعية".

يبدو أن سيادة الناقد ومعه سائر الملحدين الماديين محرومون من منطق التطور العلمي الذي يمكن أن يهدم جميع قواعد إلحادهم، ومحرومون أيضاً من المنطق العقلاني المتجرد الباحث عن الحقيقة.

فحينما يكتشف العلماء ارتباط الظواهر الطبيعية بأسبابها الطبيعية التي تحتاج هي أيضاً إلى تفسير، فهل يعني هذا إلغاء حقيقة الخلق الرباني الكامن وراء الأسباب الطبيعية؟ وحينما يقرر القرآن أن لله تبارك وتعالى هو الذي يخلق الأحداث الكونية، فهل معنى ذلك أن عملية الخلق تأتي بشكل مباشر، دون توسط قوانين وعلل وأسباب أوجدها الله في نظام الطبيعة، واختار أن يكون أسلوبه في عملية الخلق كذلك. إن من يرفع الشيء بيده مباشرة يقال عنه: قد رفعه، ومن يرفعه بوساطة حبل يقال: قد رفعه، ومن يرفعه بوساطة سبب غير مرئي كقوة كهربائية أو مغناطيسية يقال: قد رفعه، والخلق يكون بشكل مباشر، ويكون عن طريق القوانين والأسباب والعلل غير الفاعلة بذاتها.

فكلام (العظم) القائم على تصور أن النص القرآني لا يعترف بنظام الأسباب والعلل والقونين الطبيعية كلام فاسد من الوجهة العقلية البحتة، لأن الخلق

ص: 283

لا يقتضي دائماً أن يكون عملية مباشرة، دون أن توجد أسباب اختارها الخالق ليتم عن طريقها أسلوبه في الخلق.

فليكتشف الباحثون ما شاءوا أن يكتشفوه من قوانين وعلل طبيعية وأسباب، فإن هذه كلها لا تملك الفعل الذاتي، وهي بحد ذاتها تحتاج إلى تفسير، والخالق العظيم القادر العليم الحكيم هو القوة الحقيقية الكامنة وراء جميع الأحداث الطبيعية، وإن أراد الملاحدة الماديون الوقوف عند الأسباب، وإقفال عيونهم عما وراء الأسباب التي اكتشفوها، وإن أرادوا جحود الخالق العظيم.

وبهذا يظهر لنا ما في كلامه من مغالطة وتضليل وتفسير غير صحيح للنص القرآني، وهذا من وجهة نظر المنطق العقلاني المجرد.

ثم نقول من ناحية أخرى: لقد توصل العلم الحديث إلى أن القوانين العلمية لا تملك التفسير الكامل للأحداث الكونية، وإنما تكشف عن حلقة من الحلقات السببية لا غير، وهي بحد ذاتها بحاجة إلى تفسير.

يقول العلامة الفلكي الرياضي البريطاني السير (جيمس جينز) كلاماً يعلن فيه هذه الحقيقة، وهذه مقتطفات من أقواله:

"إن الكون كون فكري. الكون لا يقبل التفسير المادي في ضوء علم الطبيعة الجديدة، وسببه - في نظري - أن التفسير المادي قد أصبح الآن فكرة ذهنية.

من الصحيح أن نهر العلم قد تحول إلى مجرى جديد في الأعوام الأخيرة

لقد كنا نظن قبل ثلاثين سنة - ونحن ننظر إلى الكون - أننا أمام حقيقة من النوع الميكانيكي.

إن العلم الجديد يفرض علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن العالم، تلك التي كنا أقمناها على عجل. لقد اكتشفنا أن الكون يشهد بوجود قوة منظمة".

ألا فليعد (العظم) دراسته، وليراجع أفكاره وفق ما تطور إليه العلم الحديث، وحسبه تجديفاً في المستنقعات النتنة القذرة.

ص: 284

أما قوله: "إن نمو الخلية يخضع لقوانين تمكننا من التحكم بنموها، بتأخيره أو إسراعه أو تشويهه" فهو لا يتعارض بحال من الأحوال مع العقيدة الإيمانية، لأننا جميعاً في حياتنا على وجه الأرض لا في عالم الأجنة نخضع لقوانين ربانية تمكننا من التحكم بعض الشيء بنمو أجسادنا أو تشويهها أو إتلافها، نظير تحكمنا بالأجنة، والإنسان القديم يعلم هذا كل العلم، ولا يجد فيه معارضة لنظام الخلق الرباني ولا لقاعدته العامة. فالمؤمن يعلم أن لكل ظاهرة سبباً يخضع لسنَّة الله في كونه، ويعلم أن الخلاق الحقيقي من وراء الأسباب هو الله تعالى، إن القضية في نظره تشبه عملية إدارة زر الكهرباء التي يضيء المصباحُ بسببها، ولكن السبب الحقيقي في الإضاءة هي القوة الكهرباء التي يضيء المصباحُ بسببها، ولكن السبب الحقيقي في الإضاءة هي القوة الكهربائية السارية، ومن ورائها المولد الكهربائي، ومن ورائه صانع هذا المولد ومديره، ولو شاء لقطع التيار الكهربائي من عنده فلم يكن لإدارة الزر الكهربائي الفرعي أي أثر، ولانعدمت بذلك كل الظواهر، ولم يكن للأسباب الوسيطة أية قيمة.

هذا هو منطق المؤمنين، وذلك هو سخف الملحدين.

(11)

من العجيب أن نجد الناقد (د. العظم) ينكر على الباحثين الإسلاميين دعوتهم المسلمين إلى الأخذ بأسباب العلم في كل مجال من مجالات المعرفة، ويرى أن الإسلام يدعو فقط إلى تعلم علوم الدين، أما العلوم الأخرى فإنه لا يهتم بها ولا يشجع عليها، ويرى أن الذين يقولون: إن الإسلام يحث على تعلم كل العلوم النافعة موفقون خطابيون، يحاولون أن يثبتوا الانسجام بين الإسلام والعلم بوسائلهم الخطابية، دون براهين صحيحة، ثم يزعم أن كل النصوص الإسلامية التي دعت إلى العلم والعقل والتفكر موجهة فقط إلى العلوم الدينية والشرعية وما يتعلق بها ويتفرع عنها، لا إلى الفيزياء والكيمياء وغيرهما من العلوم الطبيعية.

يقول في الصفحة (40) والتي بعدها من كتابه:

"من الأقوال التي يرددها الموفقون الخطابيون لإثبات دعواهم الحديث النبوي

ص: 285

القائل: "اطلب العلم ولو في الصين" والآيات القرآنية العديدة التي تحث الإنسان على التعقل والتأمل في الأشياء وطلب العلم والمعرفة، إلى آخره مما هو معروف، كل ذلك ليبينوا مدى اهتمام الإسلام بالعلم والعقل منذ القدم. بطبيعة الحال يعطي هؤلاء المفكرون معنى مطلقاً لهذه العبارات الإسلامية، وكأنها لا تنتمي إلى أي زمان ومكان، منفصلة عن الظروف التاريخية التي قيلت فيها، والمناسبات التي حددت معناها ومغزاها وقتئذٍ. من ضمن هذا الاعتبار يتضح لنا أن العلم الذي حث على طلبه الإسلام هو في جوهره العلوم الدينية والشرعية وما يتعلق بها ويتفرع عنها، وليس الفيزياء والكيمياء مثلاً (راجع كتاب العلم في الجزء الأول من "إحياء علوم الدين") ، والعقل الذي طلب الإسلام من الإنسان استخدامه كان الغرض منه التوصل إلى معرفة الله من تأمل صنعته وخلقته، كما فعل حي بن يقظان في قصة ابن طفيل، وليس الغرض منه صياغة نظرية المادية الجدلية، أو نظرية دوركهايم في الطقوس والعبادات الدينية، أو نظرية الكون المحدب".

لست أدري أي شيء يزعجه إذا كان الإسلام فعلاً يحث على تعلم كل العلوم الدينية والطبيعية والعقلية؟

لكن يبدو أن هذه الحقيقة تؤثر جذرياً على دعوة الإلحاد التي تحاول أن تتخذ من العلم دريئة لها، وتحاول أن تقنع الأجيال بأن الدين والحقائق العلمية على طرفي نقيض، لتصرفهم عن الدين وتضمهم إلى جيوش الملحدين، يضاف إلى ذلك أن الملحدين يخشون أيضاً من دخول الإسلام والمسلمين إلى معاقل العلم الصحيح، لأن هذا الدخول يشكل خطراً حقيقياً على قضية الإلحاد من أساسها، إذ يكشف الباحثون المسلمون عن طريق العلم الصحيح زيف المادية الإلحادية التي تتستر بالعلم، وتزييف ما يستطيع تزييفه لدعم مذهبها الذي ليس له سند صحيح من علم صحيح، ولا من واقع مشهود.

وفي مناقشة كلامه القائم على المغالطة التضليلية نقول:

أما كون الإسلام قد جعل أشرف العلوم ما يصلح حياة الإنسان ويقوِّم سلوكه، ويقصره على طريق الخير مبتعداً عن طريق الشر لاغتنام أعظم قدر

ص: 286

يستطاع اغتنامه من سعادة الحياة الدنيا، وما يُعدُّه أحسن إعداد لسعادة الحياة الأخرى، فهذا حق.

وأما كون الإسلام لم يحث على تعلم العلوم الطبيعية المادية، التي من شأنها أن تحقق المنافع الحسنة للناس، وتخدم قضايا الرفاهية والجمال والقوة والراحة واختصار الزمن وتنظيم الحياة، فهذا باطل.

فمنذ النهضة الفقهية عند علماء المسلمين قرر الفقهاء أنه يجب على جماعة المسلمين تعلم جميع العلوم النافعة للناس، بما في ذلك العلوم الصناعية، فضلاً عن العلوم الضرورية كالطب والزراعة، والعلوم المتصلة بإعداد المستطاع من القوة، وقرروا أن هذا واجب على الكفاية، تقع فيه المسؤولية على جماعة المسلمين عامة، فإذا قام به البعض سقط الطلب عن الباقين، وإذا لم يقوموا به أثموا جميعاً، واستنبطوا حكمهم هذا من مصادر التشريع الإسلامي، ونصوصه الرئيسية، والإمام الغزالي من الذين قالوا بهذا وقرروه على خلاف ما أوحى به (العظم) إذ قال في غضون ما غالط به:(راجع كتاب العلم في الجزء الأول من "إحياء علوم الدين"، للإمام الغزالي) .

فدعوى (العظم) باطلة في نظر فقهاء المسلمين، والإمام الغزالي في الإحياء قد وجه إلى أشرف العلوم، ولم يقل: إن طلب العلم الذي حثَّ عليه الإسلام منحصر في العلوم الدينية والشرعية، والغزالي نفسه تتبع معظم العلوم المعروفة في عصره فدرسها، وكتب في كثير منها، وواقع حال علماء المسلمين في عصورهم الأولى يكذِّب هذه الدعوى التي طرحها، فقد كانوا بحق طلائع النهضة العلمية الحضارية، بشهادة أساطين علماء الحضارة الحديثة، وما أظن (العظم) أكثر فهماً منهم لنصوص الإسلام وما يستنبط منها من أحكام دينية ومفاهيم إسلامية!!.

أما كون دراسة مختلف العلوم الطبيعية هادية لهم إلى معرفة الله وعظيم قدرته وبديع صنعته فهو يمثل النظر البعيد إلى آخر حلقة في سلسلة المعارف الطبيعية، ولكن هذا النظر البعيد يجعلهم يتابعون حلقات السلسلة حتى غايتها، ضمن حدود الاستطاعة الإنسانية التي تتهيأ لهم، وليس من شأنه أن يقف بهم عند الحلقات

ص: 287

الأولى، لأن الإسلام يحثهم على المتابعة والنظر في كل مراحل الطريق، وبذلك يستطيعون استخراج كل ما ينفع من حقائق علمية.

ومعلوم أن الإسلام يحرص دائماً على الربط بين العلم والإيمان، بين العلم والغاية المثلى منه، كما يحرص على الربط بين الدنيا والآخرة، بين العمل وغاية الخير منه، بين اللذة والمنعم بها وغاية الخير من ورائها، وبذلك يظهر كمال الإنسان.

ولست الآن في صدد إيراد النصوص الدينية، التي تثبت أن الإسلام يدفعنا بقوة إلى البحث العلمي في الكون، للتعرف على كل حقيقة علمية، لذلك أكتفي بعرض طائفة يسيرة منها.

(أ) قال الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً

} .

(ب) وقال في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول) :

{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً منْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .

(ج) وقال في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول) :

{وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} .

أليس في هذه النصوص دعوة إلى التعرف على خصائص الأشياء للانتفاع منها؟ وهل يمكن التعرف على خصائصها إلا بالبحث العملي، عن طريق الملاحظة والتجربة والاستنباط وكل الوسائل التي تتيسر للإنسان؟ (1)

ولكن الملحدون يريدون أن يخترعوا للإسلام صورة من عند أنفسهم، لينفروا الناس منه، وليشوهوا جماله وكماله وتقدميته الرائعة، ولن يظفروا.

(1) انظر لاستكمال هذا الموضوع كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها"، للمؤلف.

ص: 288

(12)

حول المعجزات

أثار الناقد (العظم) أكثر من مرة موضوع المعجزات الربانية التي أجراها الله على أيدي رسله وأثبتتها الأديان السماوية، بوصفها حادثات تاريخية جرت في تاريخ الكون، وباعتبارها بعض مظاهر قدرة الله المخالفة بصفة استثنائية لمظاهر قدرته في سننه وقوانينه الدائمة.

وزعم أن الحديث عن هذه المعجزات حديث لا يقبله العلم وأن العلماء الماديين لا يرتاحون من وجهة نظرهم إلى الآيات القرآنية التي تروي كيف شق موسى البحر بعصاه، وكيف تحولت النار فجأة إلى برد وسلام على إبراهيم، ونحو ذلك من معجزات ربانية.

الواقع أن مشكلة (العظم) في هذا ومعه سائر الملحدين الماديين مرتبطة أساساً بقاعدة الإيمان الأولى، وبما أنهم أنكروا الحقيقة الكبرى وهي حقيقة وجود الله فلا بد أن ينكروا كل ما يستند إليها وخرق قوانين الكون وسننه لا يتم إلا بقدرة الخالق الذي وضع هذه السنن والقوانين، وبإراداته التي تقتضيها حكمته، لكن الفرضية التي أقام الملحدون عليها عقيدتهم هي إنكار وجود الخالق، واعتبار هذا الكون عملاً مادياً آلياً أنتجته الصدفة التي لا تفسير لها، ولذلك فهم يرون قصة المعجزات المخالفة لنظام الكون وقوانينه الثابتة من قبيل الأساطير، وليست من قبيل الحقائق التاريخية الثابتة.

لأجل هذا فإن معالجتنا لهم يجب أن تبدأ من مستوى القاعدة الإيمانية الأولى، وهي الإيمان بالله وبكمال صفاته، وبقدرته على خلق ما يشاء، وبقدرته على خرق السنن التي جعلها هو ثابتة في كونه، ولو أنه شاء أن يجعلها على خلاف ذلك لجعلها، ولكن أسلوبه في الخلق كان على هذا الوضع القائم على نظام الترابط السببي بين الأشياء، وبين الأحداث والتغيرات فيها.

وهنا تكمن فضيلة الإيمان بالغيب القائم على الاستدلال العقلي، والانتقال من السبب الذي لا يملك تعليلاً عقلياً، إلى مسبب الأسباب كلها الذي تنحصر فيه

ص: 289

كل التعليلات العقلية الصحيحة، والمفسرة لكل الظواهر الكونية، بعد تجاوز سلسلة الأسباب مهما كثرت حلقاتها.

وهنا أيضاً تكمن رذيلة جحود الحقيقة الغيبية الكبرى، لأن هذا الجحود القائم على طرح الأدلة العقلية الاستدلالية والأدلة الفطرية الوجدانية، والتشبث ببعض حلقات السلسلة السببية، مع أنها لا تملك في الحقيقة أي دليل يصح أن تفسر به الظاهرة الكونية، إلا أن الملاحظة كشفت عن ارتباط الظاهرة الكونية بها، كارتباط رأس الحمار بسلسلة رسنه المعقود بذيل آخر جمل في قافلة طويلة تسير في ليل دامس، والغبي أو الأحمق أو المعاند المكابر هو الذي يقف تفكيره عند رأس الحمار، أو عند بعض حلقات السلسلة التي في رسنه، أو عند ذيل البعير.

فالنقاش المنطقي حول هذه النطقة يدعونا إلى الرجوع إلى قضية الإيمان بالله، وقد سبق أن عالجناها ببيان كاف فإليها نحيل القارئ.

على أننا نقول هنا: إن الملحدين قد جعلوا معجزة الخلق كلها ظاهرة طبيعية، وقطعوا الصلة بينها وبين الخالق، أفيقبلون فكرة خرق قوانين الكون وسننه بفعل الخالق لحكمة يريدها، وقد رفضوا الاعتراف بوجود خالق أصلاً؟

ونقول أيضاً: باستطاعتنا أن نناقش قضية المعجزات مناقشة عقلية وعلمية، لإثبات خطأ الملحدين في رفضها بوصفها ظاهرة من الظواهر التي جرت أحداثها في تاريخ الكون، مهما يكن تفسيرهم للظواهر الكونية خاضعاً لقواعد الفكر المادي.

إن إنكار الأحداث التي جرت فعلاً في تاريخ الكون لا يسوغ من وجهة نظر العلم أو من وجهة نظر العقل لمجرد كونها مخالفة في مفاهيمنا للقوانين التي استخرجناها من مشاهدات الطبيعة وأحداثها، وإنما يجب بعد ثبوتها في الواقع محاولة استنباط تفسير وتعليل لها. أما مجرد الرفض والإنكار فليس عملاً علمياً ولا عقلياً.

إن كل ما نشاهده في الكون من أحداث وظواهر لو دققنا النظر فيه ورفعنا عنه ستار الرؤية المتكررة له لكان في مفاهيم العقلاء معجزة من المعجزات، وعجيبة

ص: 290

من العجائب، ولكن تكرر الرؤية له جعله أمراً معتاداً، واتخذ في مفاهيمنا صفة قوانين طبيعية، وسنن لا غرابة فيها، وذلك لأنه ليس بين معظم الأحداث والظواهر الطبيعية وبين أسبابها وقوانينها روابط عقلية، وحينما ندرس أنظمتها كما هي في الواقع، ولا نستطيع أن نجد في العقل مقتضيات لها، غير أن نظام الكون سار على هذا الأسلوب، وكان من الممكن عقلاً أ، يسير على أسلوب آخر ضمن سُلَّم احتمالات لا نهاية لها، وتخصيص هذا النظام دون غيره ليس أمراً يقتضيه العقل.

ولو كان نظام الكون سائراً في متكرر العادة على أن الصخور متى نضجت في أشهر معينة، وبطرق معينة، تحوَّلت نوقاً وأبقاراً وزرافات وشياهاً بحسب اختلاف أنواع الصخور، لكان ذلك هو السنَّة الثابتة في نظرنا، ولكان خلاف ذلك هو المعجزة.

ولو كان نظام الكون سائراً في متكرر العادة على أن الماء يجري من أسفل الوادي إلى أعلى الجبل بنفسه، من غير أن تكون له حافات تسنده، ولا روافع ترفعه، لكان ذلك هو قانون الماء الثابت في نظرنا، ولكان خلاف ذلك هو المعجزة التي يتشكك بها ويطلب إثابتها بالدليل.

وهذا الإمكان التصوري يدلنا على أن النظام الحالي ليس نظاماً فرضته الضرورة العقلية، والارتباطات الفكرية، ولكن أوجدته السلطات ذات الإرادة المختارة، ومهما يكن من أمر فإن الإمكان العقلي الذي لا يرى مانعاً من قبول نظام آخر لو كان هو السائد في نظام الطبيعة، هو نفسه دليل كافٍ عل أنه ليس بين القوانين الطبيعية وأحداثها الظاهرة ارتباط عقلي يوجبها وحدها، ولا يسمح بمخالفتها، فقبول احتمال التغيير لا يتوقف إلا على ثبات وقوع الحادثة التي كان التغيير فيها، وإلا كان رفضاً للإمكان العقلي بدون سند من العقل، ورفضاً للواقع بدون سند من الواقع.

لو أخذنا منطق الأحياء البحرية لكانت الحياة بنظام غير نظامها معجزة من المعجزات، ولو أخذنا معتاد الحياة الأرضية لكانت الحياة بغير إمداد بالنظام الغذائي المعروف أمراً من المعجزات، مع أنه ليس في أي شيء من ذلك ارتباط عقلي

ص: 291

يوجه العقل، ولكن هذا هو الأسلوب الذي جرى عليه نظام الكون، ولو جرى أسلوب الكون على غير هذا النظام لما وجد العقل مانعاً من ذلك، ولما وجد أنه يتنافى مع أي أصل عقلي منطقي أو رياضي، وهذا البرهان يثبت لنا أن رفض المعجزات بدليل من واقع القوانين والسنن الطبيعية رفض فاسد عقلياً وعلمياً، ولا سند له، وتبقى قضية المعجزات من وجهة نظر العلم والعقل احتمالاً إمكانياً بالإمكان العقلي، ولكنه لا يسلم به واقعياً إلا أن يقترن بأدلة إثبات يقبلها العلم والعقل.

وأدلة الإثبات في هذا المجال منحصرة في الأدلة الحسية والأدلة الخبرية.

وقد توافر للذين عاصروا الرسالات دليل المشاهدة الحسية لمعجزات الرسل، فكان ذلك بالنسبة إليهم برهاناً حسياً، وأما بالنسبة إلى غيرهم فعمدتهم في إثبات المعجزات دليل الأخبار الإنسانية المتواترة عند جميع أمم الأديان السماوية، وهذه الأخبار تقطع بوجود معجزات أو آيات من خوارق العادات قد أجراها الله على أيدي رسله، منها معجزات إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم، وكذلك سائر النبيين، وجحود الأخبار المتواترة الصادقة مع وجود الإمكان العقلي، ومع وجود المبرر العقلي لها، ضرب من العناد الذي لا يفعله باحث عالم يدرس الظواهر ويحاول تفسيرها.

والتفسير العلمي للمعجزات الربانية ظاهر فيما يوضحه للدين، من أنها أدلة ربانية يصدِّق الله بها رسله فيما يبلغون عنه.

ومن العجيب أن الملحدين الماديين يقبلون معجزات الطفرة الوحيدة التي تقول بها الداروينية، ولا سند لها إلا الحدس والخيال، ويرفضون المعجزات الربانية التي يجريها الله على أيدي رسله، وهي معجزات ثابتة تاريخياً بشهادة الأخبار المتواترة المقطوع بها، مضافاً إليها الشواهد العقلية والأثرية المؤيدة لها!!

لكن هذا هو شأن الملحدين، إنهم يتناقضون بين ما يقبلون وبين ما يرفضون، تعصباً لإلحادهم، ومعاندة لخالقهم ومكابرة على الباطل.

ص: 292

(13)

حول الشهب

قال (د. العظم)(52) من كتابه:

"كما أن علماء الفلك (وليس التنجيم) سوف يجدون بعض الصعوبة، لا شك، في التوفيق بين معلوماتهم العلمية عن النيازك والشهب من ناحية وبين الآيات القرآنية التي تعلمنا أن الشهب هي لرجم الشياطين والجن، حين تحاول الصعود إلى السماء واستراق السمع (أي: الاستماع إلى أحاديث الملائكة) من ناحية ثانية. لكن أصحاب الفكر التوفيقي عودونا دوماً على إطلاق الأحكام الشاملة والتعميمات البديعة بدون التدقيق بالمسائل المحددة التي تحرجهم وتحرج دعواهم".

تعليقاً على هذه الفقرة من كلامه نرى أنه من المستبعد جداً أنه لم يطَّلع بعدُ على مكتوبات الباحثين المسلمين المؤمنين بالله وكتابه، الذين لم يقتروا على مجرد إطلاق التعميمات الشاملة البديعة، التي تعلن وجود التوافق التام بين الصحيح الثابت من المفاهيم الإسلامية، وبين الحق الثابت من النظريات العلمية، بل تابعوا معظم المسائل بالدراسة والبحث والمناقشة للموضوعات بشكل موضوعي محدد.

ولكن شأن الآخذين بالمذهب الإلحادي محاولة طمس الحقائق، وطرح المغالطات والمفتريات، واستغلال أقوال بعض أصحاب المقالات، والأقوال العامة التي يطلقها الباحثين المسلمين بصفة عرضية غير مقصودة، وإلقاء الستور على سائر البحوث العلمية الرصينة التي تتناول كل جزئية بالبحث والدرس والتحقيق، بغية إيهام الأجيال الناشئة من أبناء المسلمين أن المسلمين لا يملكون غير إصدار الأحكام التقريرية والتعميمات الخطابية.

أما ما أثاره حول موضوع الشهب فإننا نجد أنفسنا بالنسبة إليه أمام قضيتين:

القضية الأولى: تتناول الجانب المادي المدروس من الشهب.

القضية الثانية: تتناول الجانب الذي لم يصل العلم بعد إلى اكتشافه ودرسه.

وكل من هاتين القضيتين تتطلب نظراً خاصاً.

أما القضية الأولى التي تتناول الجانب المدروس من الشهب

ص: 293

فلا يبدو فيها تناقض بين ما أعلنه أو أشار إليه القرآن، وبين ما توصل إلهي العلم بالبحث المادي والدراسة النظرية، وليتبين لنا هذا الأمر لا بد من عرض النصوص القرآنية في هذا الموضوع، ومقارنة ما جاء فيها بما يقوله العلماء الماديون ذوو الاختصاص في هذا الموضوع أيضاً.

فمن النصوص القرآنية في هذا الموضوع قول الله تعالى في سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول) :

{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُل شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلَاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ}

ومنها قول الله تعالى في سورة (الصافات/37 مصحف/56 نزول) :

{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَاّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ * إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}

ومنها قوله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول) :

{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}

ومنها قوله تعالى في سورة (الجن/72 مصحف/40 نزول) :

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} .

ص: 294

فهذه نصوص قرآنية تحدثت عن الشهب، وفيها من الدلائل المادية التي يمكن للعلم المادي أن يدرسها ويكتشفها ما يلي:

1-

وجود (شهب) ظاهرة تنقض، وحينما تنقض باتجاه الأرض تكون ثاقبة ملتهبة مضيئة.

2-

وجود (رجوم) أي: قطع من الحجارة مصدرها النجوم أو الكواكب، وهذه النجوم والكواكب هي المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا، أما الرجوم (وهي الحجارة) فقد نشرت في السماء مع الحرس الذين ملئت بهم السماء، وهذه الحجارة المختلفة الحجوم تنطلق شهباً مُبِينةً ثاقبة.

3-

إن هذه الرجوم المنبثة في السماء (أي في الفضاء العالي) لم تكن قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم وجدت بعد ذلك.

هذه هي عناصر القضية الأولى، وهي القضية المادية التي يمكن أن تقارن بالعلم المادي وما توصل إليه من معارف في هذا الشأن.

ولدى المقارنة نجد أن العلماء الماديين يقولون ما يلي:

1-

يقولون عن انتشار الكتل الصخرية والحجرية ذات الأحجام المختلفة والتراكيب المختلفة، والتي يسمونها بالمتيورات وبالنيازك، وهي منتشرة في السماء فوق الغلاف الأرض ما يلي:

إن الهواء الجوي يحمينا من أسلحة السماء المخيفة، فأسرع مقذوفاتنا النارية ينطلق خلال الهواء بسرعة أقل من نصف ميل في الثانية، على حين يندفع خلال الفضاء العالي عدد لا حصر له من المتيوارت الحديدية المختلفة الأحجام، من حجم الهباء إلى حجم جبل عظيم، بسرعة هائلة تختلف من عشرين إلى مئة ميل في الثانية.

فمن هذا نلاحظ أن النصوص الدينية قد قررت هذه الحقيقة، قبل أن تكتشفها الوسائل الإنسانية للبحث العلمي، ويوم كان العلم الإنساني جاهلاً بوضع السماء.

ص: 295

2-

يقول العلماء الماديون: إن أصل هذه النيازك من الكواكب والنجوم، وهذا عين ما أشار إليه القرآن.

يقولون: إن النجوم يحدث فيها انفجارات من قوت لآخر، وبقوة هائلة، فيطير منها في كل انفجار مئات الأطنان من التراب الناعم، ثم يتجمع بعضه على بعض فتتكون منه النيازك والمذنبات.

3-

ويقول العلماء الماديون عن حالات حدوث هذه الرجوم في السماء وتكاثرها بين حين وآخر:

"إن مذنب بيلا ظهر منشقاً إلى جزئين في عام (1846م) ثم ظهر هذان الجزءان في عام (1852م) على صورة مذنبين منفصلين، ثم اختفيا بعد ذلك، وظهرت بدلاً منهما جموع حاشدة من متيورات مضيئة صغيرة في جو الأرض".

أليست هذه الرجوم التي مصدرها نجوم السماء وكواكبها، وقد حدثت في فترة نعرفها، وهذا يقرِّب إلى التصور ما حدث في عصر الرسالة المحمدية.

من كل هذا يتبيَّن لنا أن الحقائق العلمية المادية تتفق مع ما جاء في القرآن، وهذا ما يتعلق بالقضية الأولى.

وأما القضية الثانية وهي كون الشهب رجوماً للشياطين تلاحقهم وتحرقهم، فهذه لم يتوصل العلم المادي إليها، لأنها خارجة عن دائرة اختصاصه ومدى وسائله، فهو لا يستطيع من عنده أن يثبتها ولا يستطيع أن ينفيها، ويجب عليه بالنسبة إليها أن يترك الحديث عنها إلى ما يقرره الدين، وما ثبت فيه بالنصوص الصحيحة القاطعة.

فكان الأولى بالعظم حول هذا الموضوع أن يعتصم بالصمت إذا لم يشأ أن يذعن للدين وما جاء فيه.

ص: 296

(14)

حول المعرفة الدينية والمعرفة بمعناها العقلي والعلمي

قال (د. العظم) في الصفحة (72) من كتابه:

"ورد معنا ذكر طائفة من المفكرين يقولون: إن المعرفة الدينية تختلف اختلافاً جذرياً وكلياً عن المعرفة بمعناها العقلي أو العلمي، لذلك نجدها دائماً مناقضة للمنطق ومتنافية مع العقل".

قبل أن أتابع ذكر بقية كلامه حول هذه المقدمة، لا بد من التنبيه على أن هذا الكلام كذب على الإسلام والمسلمين لا أصل له مطلقاً. إنه لا يوجد واحد من علماء المسلمين يقول: إن المعرفة الدينية تختلف اختلافاً جذرياً وكلياً عن المعرفة بمعناها العقلي، ولذلك نجد المعارف الدينية مناقضة للمنطق ومتنافية مع العقل.

فلست أدري من أين جاء بهذه الفرية على الإسلام والمسلمين على المعارف الدينية الإسلامية؟!

إن الذي يقوله جميع علماء المسلمين يقضي بأن جميع ما ثبت في الدين يتفق مع مفاهيم المنطق السليم، والعقل الصحيح، والعلم الثابت.

وقد سبق أن بينَّا أن التناقض أو التنافي لو وجد فهو ليس بين ما ثبت في الدين بشكل قاطع وما ثبت في العلم أو العقل بشكل قاطع، وإنما بين ما نسب إلى الدين وهو ليس منه وبين الحقائق العلمية الثابتة، أو بين ما نسب إلى العلم وهو ليس منه وبين الحقائق الدينية الثابتة، أو بين ما نسب إلى الدين وما نسب إلى العلم وكل منهما لم تصحَّ نسبته إلى صاحبه.

ولكن قد توجد أمور ثبتت في الدين والعقل لا يستطيع مستقلاً أن يثبتها، كما لا يستطيع أن ينفيها، فهي لا تناقض أصول العقل والمنطق ولا تتنافى مع العلم، إنما عجزت الوسائل العلمية عن إدراكها والوصول إلى معرفتها، وعجزت التصورات العقلية عن إدراكها وتحديدها، وهذا شيء يُعزى إلى قصور المعرفة والإدراك، وليس من التناقض ولا من التنافي حتماً. ونظير هذا يحدث في

ص: 297

مجال الدراسات العلمية الإنسانية البحتة. إن العلماء قد استنبطوا من الظواهر المادية كثيراً من القوانين، منها مثلاً قانون الجاذبية، مع أن أية وسيلة علمية لا تستطيع أن تحدد كنه هذه الطاقة التي تظهر آثارها، ولا يستطيع العقل أيضاً أن يتصور صورة مادية لها، ولا أحد يقول مع ذلك: إنها مناقضة للمنطق ومتنافية مع العقل.

وبعد هذه المقدمة التي افتراها على الإسلام والمسلمين، قال في متابعة كلامه:

"يقول أصحاب هذا المذهب: إن العقل الإنساني قاصر عن أن يعرف طبيعة الإله، وعن أن يحيط به ولو إحاطة جزئية. إنه عاجز عن تصوره وعن التعبير عن طبيعته، وعّر البعض عن هذا الرأي بقولهم عن الله:(كل ما يخطر في بالك فهو خلاف ذلك) .

وقبل أن نتابع بقية كلامه نقول: هذا كلام لا علاقة له بالمقدمة التي افتراها، فكون العقل الإنساني قاصراً عن تصور ذات الخالق جلَّ وعلا، وعاجزاً عن معرفة كنه هذه الذات، لا يعني بحال من الأحوال أن ذاته سبحانه مناقضة للمنطق ومتنافية مع العقل. جُلُّ ما في الأمر إثبات العجز للجهاز المدرك، علماً بأن العقل عاجز عن إدراك أو تصور كثير من الحقائق العلمية الثابتة في الكون المادي المدروس، حتى إن العقل لم يستطع إلى يوم الناس هذا أن يدرك كنه ذات نفسه، فهل جهله بذات نفسه ينفي وجوده، باعتبار أن هذا الجهل مناقض للمنطق ومتنافٍ مع العقل بحسب دعوى (د. العظم) ؟

ص: 298

هذا كلام فارغ وسخيف ومتهافت لا يقبله من لديه مثقال ذرة من عقل، وهو في حقيقته يسخر من قائله ولا يخدع قارئه.

ثم إن (د. العظم) بعد أن وضع المقدمة المفتراة، وبنى عليها مسألة غير ذات علاقة بها مطلقاً بقصد المغالطة والتضليل، قال موجهاً اعتراضاته:

"توجد عدة اعتراضات على هذا الموقف. أولاً: هل بإمكاني أن أقيم علاقات جدية بيني وبين هذا الإله، الذي تتجاوز طبيعته تجاوزاً مطلقاً منطقي ومشاعري وأفكاري ومثلي وآمالي؟ هل بإمكاني أن أجد عزاء في إله جُلُّ ما أعرفه عنه أنه مهما خط في بالي من أفكار وصفات فهو يختلف عنها اختلافاً مطلقاً؟ إن وجود مثل هذا الإله وعدم وجوده سيان بالنسبة إليه. إن هذا الإله ليس إلا تجريداً فارغاً من كل معنى ومحتوى، ولا يمكن لإرادة إنسان أن تتعلق بتجريد محض، تجاوز بمراحل التجريد الذي وصفه أرسطو باسم (المحرك الأول) فإذا كان بإمكانك أن توجه ابتهالاً أو دعاء إلى المحرك الأول فمن المؤكد أنك لن تستطيع أن توجه لإله لا يمكنك أن تصفه بشيء على الإطلاق، لأنه بطبيعته مخالف لكل ما يرد في ذهنك من أفكار وكل ما تنطق به من صفات".

هذا هو الاعتراض الأول الذي وجَّهه، وهو بهذا الكلام يضيف إلى افترائه في المقدمة ومغالطته فيما بنى عليها، فيطرح هنا كذباً جديداً ومغالطة في الحقائق ويدَّعي على الفكر الإسلامي تعميماً كاذباً مخالفاً للحقيقة تماماً.

إن أحداً من المسلمين لا يقول: إن العقل قاصر عن أن يعرف شيئاً عن الله الخالق جلَّ وعلا، أو قاصر عن أن يحيط ولو إحاطة جزئية بصفاته، فهذا من الكذب على المفاهيم الإسلامية.

لكن الذي يقوله المسلمون إنما هو منحصر في معرفة كنه ذات الخالق، والذات شيء والصفات ذات الأفعال والآثار شيء آخر، فقول المسلمين:"كل ما خطر في بالك فالله بخلاف ذلك"، قول منحصر في معرفة كنه ذات الخالق، لا في معرفة صفاته، وذلك لأن تصورات الأفكار كلها مقتبسة من صور الكون

ص: 299

الحادث، وهذه الصور المادية لا تليق بكمال الله جلَّ وعلا، إذ ليس كمثله شيء، ولا يتوقف على معرفة كنه ذات الخالق شيء من الإيمان ولا من العلاقة به.

إننا نتعامل مع كثير من طاقات الكون دون أن نعرف كنه ذاتها. عقولنا لا نعرف كنه ذاتها. معظم ما هو داخل في أجسامنا لا نعرف كنه ذاته. أفيؤثر هذا على إيماننا بها وتعاملنا معها؟

ولا بد أن يلاحظ القارئ حشد المغالطات التي صنعها (د. العظم) ويكتشفها ويعرف ما فهيا من زيف لا يحتاج كشفه إلى كد ذهني.

لقد جعل الشيء الذي يعجز العقل عن إدراكه وتصوره شيئاً مناقضاً للمنطق ومنافياً للعقل، وهذا باطل بداهة كما أوضحنا، إن أموراً كثيرة جداً يعجز العقل عن تصورها وتحديد ذاتها وهي واقعة فعلاً، وحينما يدركها العقل لا يرى فيها مناقضة للمنطق ولا منافاة للعقل. الأعمى يعجز عن تصور الألوان، مع أن الألوان لا تناقض المنطق ولا تتنافى مع العقل، لا في مفهوم المبصرين ولا في مفهوم العميان.

ليكن واضحاً لدينا تماماً أن قصور الجهاز المدرك عن إدراك بعض الحقائق لا يعني بحال من الأحوال أن هذه الحقائق مناقضة لمنطق الأشياء. هذه بديهة ولكن (د. العظم) أراد أن يغالط بها، وأراد أن يموِّه بها على السذج من المخدوعين المفتونين بعبارات (أصول البحث العلمي) و (قواعد المنطق الحديث) و (ما توصلت إليه الحقائق العلمية) وأمثالها من العبارات التي غدت شعارات للتمويه والتضليل فقط يستعملها بعض أصحاب المذاهب ذات الأغراض الخاصة، كسائر الشعارات الجميلة، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، إن هذه الشعارات تحمل بريقاً لفظياً يسرُّ السامعين ويعجبهم، ولكن ليس لها عند مستغليها مضمون عملي تطبيقي.

وبعد أن بنى (د. العظم) هذا البناء الوهمي على المقدمة الكاذبة الأولى، وجَّه عدة اعتراضات عليه، وهذه الاعتراضات وجهها على اعتبار أن من نسب إليهم هذا المذهب من المفكرين المسلمين يرون أنه لا يمكن إدراك أي شيء عن ذات الخالق ولا عن صفاته.

ص: 300

وهنا تكمن مغالطته الثانية، وهي مغالطة تعتمد على تعميم تمويهي كاذب لقضية خاصة، وذلك لأن عبارة:"كل ما يخطر في بالك فالله بخلاف ذلك" عبارة خاصة بتصور كنه ذات الله، وليست شاملة لذاته وصفاته، ولكن (د. العظم) عمَّم في دلالتها وفي مفهومها تعميماً باطلاً، ليوجه اعتراضه على منطقة التعميم التي ادعاها زوراً وبهتاناً.

إن صنيعه يشبه صنع من قال: إن الماء صخر جامد، والذين يقولون: إن السفن الشراعية تجري بالهواء لا بد أن يسلموا بأن هذه السفن تجري في الجبال والصخور والرمال، وكلامهم هذا معترض من وجوه:

الأول: أن الماء ليس صخراً جامداً.

الثاني: أن السفن البحرية لا تجري في الجبال والصخور والرمال.

الثالث: أن السفن البحرية قد تجري بالمحركات الآلية.

هذا لون عجيب جداً من المغالطات التي تصطنع الأكاذيب، والتعميمات، وتضع الأشياء في غير مواضعها، ومع ذلك فإن المنطق (العظمي) يقبله، ويقبله مع سائر الملحدين!!

وعلى مثل هذا المنطق يريدون أن يصنعوا جيلاً عربياً تقدمياً.

من الطبيعي بعد أخذ المجال التعميمي الذي ادعاه كذباً على الفكر الإسلامي أن يصل إلى منطقة تجريد مطلق لا يفهم منه شيء، فبينما كان أصل الموضوع منحصراً في كنه ذات الله، إذا به يجعله شاملاً للذات والصفات كلها وسائر المفاهيم، وهذا ما لا يقول به أحد في الوجود، ولما وصل في أكذوبته إلى هذا المستوى وجه اعتراضه كما راق له فقال: "هل بإمكاني أن أقيم أية علاقات جدية بيني وبين هذا الإله

إلى آخر كلامه".

من الطبيعي أن إلهاً لا يفهم عنه شيء من ذات ولا من صفات مطلقاً أن يكون تجريداً فارغاً من كل معنى ومحتوى. لكن أحداً من المؤمنين بالله لا يقول بمثل هذا الكلام الباطل.

ص: 301

إن المؤمنين يثبتون لله صفات كثيرة من صفات الكمال، بل هم يثبتون له كل صفات الكمال، وينفون عنه كل صفات النقصان، ويستطيعون أن يتصوروا من صفاته على مقدار عقولهم، ويطلقون الحدود دون حصر، إنهم يؤمنون بصفة وجوده الواجب سبحانه، ويحسنون تصور هذه الصفة على مقدار عقولهم، ويؤمنون بصفة قدرته الكاملة القادرة على خلق كل ممكن، ويحسنون تصور هذه الصفة على مقدار عقولهم، ويؤمنون بصفة إرادته واختياره التي تختار من الممكنات ما تشاء، ويحسنون تصور هذه الصفة على مقدار عقولهم، ويؤمنون أيضاً بصفات علمه وسمعه وبصره وصفات أفعاله، ويستطيعون أن يتصوروا من هذه الصفات على مقدار عقولهم، وهكذا إلى كثير من صفاته سبحانه.

فهل هذا هو التجريد المطلق الذي ادَّعاه (د. العظم) كذباً وبهتاناً؟!

ألا يسوغ في منطق العقل أن نؤمن بموجد نعلم كل صفاته التي لها آثار متصلة بنا، من خلق ورزق، وإحياء وإماتة، وعدل وجزاء، ورحمة وعقاب، وغير ذلك دون أن نعلم كنه ذاته وطبيعتها الخاصة؟

إن العلماء الماديين يؤمنون بالجاذبية، وهم لا يعلمون من خصائصها إلا أنها قوة تجذب. إنهم يعتقدون بها، ويتعاملون معها، لمجرد معرفة صفة من صفاتها، دلت على آثارها، فكيف بمن علمنا من صفاته أشياء كثيرة متعلقة بنا؟

يا عجباً لمنطق الملحدين!! إنهم يقيمون علاقات جدية مع أوهام إلحادية، وعلاقات جدية مع قوانين طبيعية لا يعرفون كنه ذاتها، وإنما تظهر لهم بعض آثارها التي تدلهم على بعض صفاتها، ثم يستكبرون عن أن يقيموا علاقات جدية مع الله، الذي يظهر لهم من آثاره أنه قادر عليم، عادل حكيم، خالق رازق، محيي مميت، سميع بصير، نافع ضار، يجازي المحسنين والمسيئين.

وإن تعجب فعجب قولهم وعجب منطقهم.

ثم إن (د. العظم) وجَّه اعتراضاً ثانياً على البناء الفاسد نفسه الذي بناه فقال:

"ثانياً: إذا كان الإله لا يوصف ولا يدرك بالنسبة إلى البشر فما معنى قولنا إذاً

ص: 302

بأنه (رحيم وبأنه عادل) . عندما ننعت الله بالرحمة والعدل ماذا نعني بهذه الصفات؟ أليس هناك من شبه على الإطلاق بين الرحمة والعدل عندما نطلقهما على الله، وبين تصورنا الإنساني لهاتين الصفتين؟ إذا كان الجواب بالنفي هل تكون إذن أذهاننا فارغة من كل معنى وتصور؟ عندما ننعت الله بالرحمة والعدل، هل ننسب إليه كلمات لا معنى لها على الإطلاق بالنسبة للبشر؟ في الواقع إننا في موقف حرج حيال هذا الموضوع، فإما أن ننعت الله بالعدالة وفقاً لتصور يشبه إلى حدِّ ما وبصورة غامضة تصورنا الإنساني لهذه الصفة، وإما أن يكون قولنا بعدالته كلاماً فارغاً من كل معنى ومحتوى. أي: إننا مرغمون إما على التشبيه وما يترتب عليه من عواقب، أو على التنزيه التام وما يستتبع من نتائج.

يوجد حل تقليدي لهذه الكتلة من التناقضات والمشكلات، وهو الأخذ بظاهر المعنى والتصديق به مع تفويض معرفة حقيقته إليه تعالى، أي التصديق دون معرفة، والإيمان على طريقة العجائز".

مرة ثالثة يلجأ في هذا الموضوع بالذات إلى المغالطة والتمويه عن طريق التعميم الفاسد.

فبعد المغالطة السابقة التي اعتمد فيها على تعميم العجز البشري في واقعهم الدنيوي عن إدراك ذات الله وكنهها، بالنظر إلى أن الأبصار لا تدركه سبحانه، وبعد أن جعل هذا العجز البشري شاملاً للذات والصفات وهو ما لم يقل به أحد، فقز قفزة جديدة إلى مغالطة جديدة، تعتمد على تعميم خلط فيه جميع ما نسب إلى الله من صفات في النصوص، ليعطيها حكماً واحداً عاماً، باعتبار أن بعضها مما يوهم التشبيه بالمخلوقات قد ثار حوله حوار في فهم المراد منه بين المفكرين من علماء المسلمين.

ويبدو أعن علمية المغالطة القائمة على تعميم الخاص أهم عناصر مغالطاته، كما أنها أهم عناصر مغالطات (فرويد) أحد قادته المثاليين في نظره، إذ كان (فرويد) يأخذ من الحالات الشاذة النادرة أحكاماً عامة مطلقة، مخالفاً بذلك كل منهج علمي.

ص: 303

إن ادعاء (د. العظم) بأننا لا نفهم شيئاً عن صفات الله تعالى وإلا وقعنا في التشبيه ادعاء باطل، ونستطيع بالتحليل العلمي أن نكشف بطلانه.

إن الطاقة الفكرية تستطيع أن تأخذ منطلقاتها في الاتجاه غير المحدود (اللانهائي) مهما كانت الحواس تشدها إلى الواقع المدرك المحدود، فالفكر يشاهد مثلا عن طريق الحواس الموجودات الحادثة، فيأخذ صورة صحيحة إلى تصور معنى الوجود الأزلي، وهو يُحسن أن يتصور من معنى الوجود الأزلي على مقدار وعائه، فيثبته لله تعالى ويطلقه من حدود المدركات بالحس، ويلاحظ الفكر الإنساني القدرات المادية التي ترفع الأرطال والقناطير وما هو بوزن الجبال، والقدرات غير المادية التي تفعل الأفعال العجيبة، فيأخذ صورة تجريدية صحيحة عن معنى القدرة أو الطاقة، ثم ينطلق منها في سلسلة التكامل الارتقائي إلى تصور قدرة فوق قدرة، وطاقة فوق طاقة، حتى يصل إلى تصور قدرة تخلق السماوات والأرض وتفعل كل ممكن، دون أن تعجز أو تضعف، فيثبت هذه القدرة لله، ويطلقها من حدود المدركات بالحس، بمقتضى أحكام سلسلة التكامل، التي لها في العقل أصول يمكن أن تبنى عليها مدركات غير محدودة، والعقل يحسن أن يتصور من معاني القدرة الكاملة على مقدار وعائه، وما زاد عن وعائه يقف دونه عاجزاً مسلماً، فهو بذلك قد فهم وأدرك على مقداره، وكان لوصف الله بأنه قدير معنى صحيح واضح في فكره وتأملاته.

ونقول نظير ذلك في الإرادة، وفي العلم، وفي السمع، وفي البصر، وفي الرحمة وفي العدل وهكذا.

ومغالطة التشبيه التي جاء بها (د. العظم) إنما جاء بها من الصفات الواردة في النصوص مما يوهم ظاهره التشبيه الجسدي، كالصفات التي تثبت لله وجهاً ويداً ونحو ذلك، فهذه هي التي جرى بين علماء المسلمين حول المراد منها، بين الإثبات من غير كيف، والتأويل والتفويض، ولكن هذه لا تؤثر على سائر الصفات التي لا خلاف في فهمها وإدراك معانيها.

ص: 304

وناقدنا (د. العظم) لم يجد سبيلاً إلا أن يغالط عن طريق التعميم الذي أصَّل له.

وحين يتصور (د. العظم) أنه بلغ ما يريد طرح حول الموضوع نفسه مسألة القضاء والقدر، فقال:

"وأفضل مثال على هذا الموقف المشكلة الكلاسيكية التالية: يفترض في المؤمن أن يسلم بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى، وأن يؤمن بالعقاب والثواب، وأن يؤمن أيضاً بالعدالة الإلهية، رغم ما في هذه الموضوعات من تناقضات عقلية وأخلاقية. ويبرر أصحاب هذا الرأي موقفهم بقولهم: إن العقل الإنساني عاجز تماماً عن إدراك طبيعة العدالة الإلهية، وعلاقتها بالحساب والقضاء والقدر، وبما أن هذه المواضيع لا تخضع للمنطق البشري، لذلك تبدو متناقضة ومغايرة لمعاييرنا الأخلاقية وغير منصفة".

يبدو أن الناقد أخذ فكرة القضاء والقدر في الإسلام من أفواه جهلة العامة الجبريين، ولم يقرأها في كتاب علمي معتمد من كتب العقيدة الإسلامية (1) .

وربما يكون قد قرأها في كتاب علمي معتمد إلا أنه طمس مذهب أهل الحق في هذا الموضوع، وأخذ رأي الجبريين الذين كذبهم القرآن فيما ادَّعوه، ورفض مذهبهم جمهور علماء المسلمين، وبعد أن أخذ رأي الجبريين جعله هو الرأي الإسلامي، وأخذ يوجه عليه اعتراضاته لما فيه من تناقض، وغرضه هدم الإسلام كله من خلال رأي فاسد قاومه القرآن، ورفضه علماء المسلمين.

أما تكذيب القرآن لرأي الجبريين فيما ذهبوا إليه، باعتبار معارضاً لمبدأ امتحان الإنسان وتكليفه وجزائه بالعقاب أو بالثواب فنجد في قول الله تعالى في سورة (الأنعم/6 مصحف/55 نزول) :

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم منْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ

(1) لقد أوفيت بحث هذا الموضوع في كتاب "العقيدة الإسلامية وأسسها".

ص: 305

لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلَاّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}

ونجده أيضاً في قول الله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :

{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا? آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}

فهؤلاء مشركون وجبريون يزعمون أن الله قد شاء لهم أن يشركوا، فأعلن الله أنهم يكذبون في دعواهم.

إن قول المشركين: {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا، ولا حرَّمنا من دونه من شيء} ، مستند إلى ادعاء جبري يتضمن أن الله قد شاء لهم الإشراك به، وشاء لهم عبادة غيره، ولذلك كانوا مشركين به في عقيدتهم وفي عبادتهم، ولذلك كذَّبهم الله في هذا الادعاء، وأوعدهم بالعذاب فقال:{كذلك كذَّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} وأمر رسوله بأن يطالبهم بالدليل على ما ادعوه، فقال له:{قل: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} ، أي: هل عندكم من خبر عن الله يثبت مدعاكم هذا؟ فإن كان عندكم شيء من ذلك تحتجون به فأخرجوه لنا، ولكنكم في الحقيقة لا تعتمدون في ادعائكم هذا على أي مستند علمي، وإنما تتبعون الظنون الكاذبة التي هي أوهام بعيدة عن الحقيقة، فما أنتم في الحقيقة إلا تخرصون، أي تكذبون.

ثم علَّم الله رسوله أن يقول لهم: {قل: فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} ، أي: إن الله قد شاء أن يمنحكم الإرادة الحرة، ليمتحنكم في حدود ما وهبكم من استطاعة، ولو شاء غير ذلك، أي لو شاء أن يجعلكم مجبرين لا خيرة لكم فيما تقومون به من أعمال لكانت حكمته تقتضي بأن يهديكم أجمعين، وفي هذا حجة عليهم بالغة صميم الحقيقة، ولله الحجة البالغة.

ص: 306

فالفكر الإسلامي قائم على أن الإنسان مسؤول عن أعماله، ومحاسب علهيا، ويُجازى عليها أيضاً، لأنها داخلة في حدود استطاعته إذ وهبه الله حرية الإرادة، والقدرة الجزئية على تنفيذ إرادته، وأعطاه شروط الامتحان، ووضعه في مجالات الامتحان الأمثل.

هذه خلاصة العقيدة الإسلامية التي أوضحها القرآن حول موضوع القضاء والقدر، وفهمها جمهور علماء المسلمين.

ومن هذا يتبين لنا أن ما لا سلطة للإرادة الإنسانية والقدرات الإنسانية عليه هو الذي يقع مباشرة تحت سلطان القضاء والقدر، وأن الله قد منح بقضائه وقدره الإنسان إرادته الحرة، وعقله الذي يؤهله للتكليف ، وجزءاً من القدرة على التنفيذ، ليمتحنه، ثم ليحاسبه ويجازيه.

فهل في هذا المفهوم الصحيح تناقض أو إشكال في موضوع القضاء والقدر؟.

لكن الملحدين لا يروق لهم البيان الحق عن الدين، إنما يريدون مفاهيم فاسدة تنتشر بين المسلمين ليحاربوا الدين بها.

*

*

*

ص: 307