المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامسصراع من أجل قضية الإيمان بالله والفكر الديني الصحيح حولها - صراع مع الملاحدة حتى العظم

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

الفصل: ‌الفصل الخامسصراع من أجل قضية الإيمان بالله والفكر الديني الصحيح حولها

‌الفصل الخامس

صراع من أجل قضيّة الإيمان بالله والفكر الدّيني الصّحيح حَوْلها

ص: 87

(1)

تحت عنوان "الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني" أثار الناقد (د. صادق جلال العظم) حول الدين عدة موضوعات سماها "مشكلات" ومن هذه الموضوعات عقيدة الإيمان بالله تعالى.

مع أن الملحدين جميعاً في سالف الدهر وحاضره، لم يستطيعوا مجتمعين ولا متفرقين، أن يقدموا أية حجة منطقية أو واقعية مقبولة عند العقلاء تثبت عدم وجود خالق لهذا الكون.

وقد قرأنا ما كتبه هذا الملحد وما كتبه غيره من أساطين الإلحاد، فلم نجد لديهم دليلاً واحداً صحيحاً ينفي وجود الخالق جل وعلا، رغم الجهود الكبيرة التي بذلوها للإقناع بمذهبهم، بل لم نجد في كل ما كتبوه دليلاً واحداً يقدم ظناً بعدم وجود الخالق، فضلاً عن تقديم حقيقة علمية في هذا الموضوع، جل ما لديهم محاولات للتشكيك بعالم الغيب، والتزام بأن لا يثبتوا إلا ما شاهدوه من مادة بالوسائل العلمية المادية، وهذا الارتباط بحدود المادة التي لم يشهد العلم حتى العصر حاضراً إلا القليل منها إن هو إلا موقف يشبه موقف الأعمى الذي ينكر وجود الألوان لأنه لا يراها، أو موقف الأصم الذي ينكر وجود الأصوات لأنه لا يسمعها، أو موقف الحمقاء حبيسة القصر التي ترى أن الوجود كله هو هذا القصر الذي تعيش فيه، لأنها لم تشاهد في حياتها غيره.

فما حظ هؤلاء من العلم والأمانة العلمية ومطابقة الحقيقة والواقع؟

كذلك الملحدون لاحظ لهم من العلم والأمانة العلمية ومطابقة الحقيقة والواقع، إذ ينكرون الخالق جل وعلا، ويُصرون على إنكاره، وهم لا يملكون دليلاً واحداً على نفي وجوده.

قد يستخدمون عبارات ضخمة، يستغلون فيها أسماء التقدم العلمي

ص: 89

والصناعي وتطور مفاهيم العصر، والبحوث العلمية في المعامل والمختبرات، للتمويه بها، وتضليل الأذهان المراهقة، مع أن التقدم العلمي والصناعي لم يتوصل بعد إلى قياس شيء من عالم الغيب، بل ما زال عاجزاً حتى الآن عن قياس أمور كثيرة داخلة في العالم المادي، الذي هو مجال كل أنواع التقدم العلمي الذي انتهت إليه النهضة العلمية الحديثة.

فالمعامل والمختبرات والأجهزة العلمية المتقدمة جداً ما زالت عاجزة عن أن تقيس أشياء كثيرة في هذا العالم المادي الذي نشاهد ظواهره، بشهادة كبار العلماء الماديين أنفسهم، وبدليل تجدد المعارف والمكتشفات يوماً بعد يوم، ومتى زعم العلم الإنساني أنه اكتشف كل شيء فقد سقط في الجهل، وأجهز على نفسه بنفسه منتحراً.

يضاف إلى ذلك أن العلماء الماديين من بعد كل دراساتهم ومشاهداتهم وملاحظاتهم المادية يحاولون تفسير ما شاهدوه من ظواهر بنظريات استنتاجية، يقررون فيها حقائق غير مرئية وغير مشاهدة، وهي بالنسبة إليهم وبالنسبة إلى أدواتهم ما زالت أموراً غيبية، ومع ذلك فإنهم يضطرون إلى إقرارها والتسليم بها، ويجعلونها قوانين ثابتة يقولون عنها: إنها قوانين طبيعية.

ومن أمثلة ذلك قانون الجاذبية، إنه قانون غدا من الحقائق العلمية الطبيعية لدى العلماء الماديين. فما هي حقيقة هذه الطاقة؟ هل باستطاعة العلماء أن يشاهدوها بأدواتهم وأن يعرفوا كنهها؟ وكيف أثبتوها؟

ألم يثبتوها بالاستنتاج العقلي استناداً إلى ما شاهدوه من ظواهرها وآثارها؟ هذه هي الحقيقة.

فما بال هؤلاء الملاحدة يسلمون بهذه القوانين الخارجة عن نطاق المشاهدات المادية، وهي بالنسبة إلى حواسهم وإلى الأدوات العلمية المتقدمة أمور غيبية، ثم ينكرون وجود الخالق جل وعلا لمجرد كونه خارجاً عن نطاق الإدراك الحسي، ولا يمكن التواصل إلى إدراكه بالأجهزة العلمية المتقدمة؟

ص: 90

مع أن مئات الأدلة العقلية والاستنتاجية تثبت ضرورة وجود خالق عظيم لهذا الكون، بيده مقاليد السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير.

أليس هذا من المفارقات التي لا تستقيم مع البحث العملي والأمانة العلمية؟

إذا لم تصل أدلة الإثبات لديهم إلى مستوى اليقين، ألم ترجح لهم هذه الأدلة احتمال وجود الخالق على عدم وجوده؟ إنها مهما تكن من وجهة نظرهم فهي أقوى حتماً من الاحتمال الآخر الذي هو احتمال النفي، فكيف يأخذون باحتمال النفي دون دليل، ويرفضون احتمال الإثبات ومعه الأدلة الكثيرة، ثم يسعون جاهدين لمحاربة الإيمان بكل ما لديهم من قوة؟

لماذا يعادون من خلقهم كل هذا العداء؟

أهذا جزاء الإنعام والإكرام؟

ألم يتحرك فيهم حس أخلاقي للاعتراف بوجوده؟

ألم ترجف قلوبهم خوفاً من عقابه الذي أعلنه على ألسنة رسله؟

ألم يفترضوا أن يكون الأمر حقاً؟

فبماذا يعتذرون يوم الحساب والجزاء؟

هل يكون عذرهم كافياً ومقبولاً إذا قالوا لربهم يوم الحساب: إنك يا إلهنا وربنا وخالقنا لم ترينا نفسك حتى نؤمن بك؟

ألا تسقط حجتهم هذه حينما يقول الله لهم: ألم أمنحكم عقولاً تستنبطون بها وجودي من آياتي التي بثثتها في كوني وفي أنفسكم؟ ألم أرسل لكم رسلاً مؤيدين بالآيات من عندي فأبلغوكم عني؟ فلماذا كذبتموهم؟ إنني لم أضع في كوني أية حجة تقنع أحداً بعدم وجودي، فلماذا جحدتم وجودي، ولا حجة لكم في ذلك إلا اتباع الهوى، والاستكبار عن الإيمان بي، والرغبة بالتحرر من أوامري ونواهيّ وشريعتي لعبادي؟

عندئذ لا بد أن تسقط حجتهم وينقطعوا، وعندئذ يعلمون علم اليقين أنهم كانوا في الغرور يتقلبون، وفي جهالتهم وضلالتهم يعمهون، وأنهم كانوا يجحدون ربهم من غير أن يكون لهم دليل به يعتذرون.

ص: 91

ويومئذ لا تنفعهم أحزابهم، ولا أئمة الشر الذين كانوا يزينون لهم الكفر بالله وجحود آياته.

لست أدري ما هي الثمرة التي يستفيدونها في حياتهم من إنكارهم لخالقهم، حتى يدفعوا بأنفسهم إلى موقع خطر كبير جسيم، يعرِّضون فيه أنفسهم لشقاء أبدي وعذاب لا ينقطع؟

إن إلحادهم لا يفيدهم شيئاً في حياتهم الدنيا، وما هو إلا مذهب عنادي، فليتحملوا إذن جريرة عنادهم.

(2)

الحجة الشيطانية ودفعها

أخذ (د. العظم) يردد الحجة الشيطانية القديمة التي تقول في آخر سلسلة التساؤل: ومن خلق الله؟ ثم اختار لنفسه سبيل التسليم بقدم المادة وأزليتها.

وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الوسوسة الشيطانية، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ باللهِ ولينته".

وهذه الوسوسة الشيطانية تنطلق على ألسنة الناس بغية التضليل بها، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة أيضاً:

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله ورسله".

أما كلام (د. العظم) حول هذه الحجة الشيطانية القديمة فلا يزيد في مضمونه عن مثل هذا التساؤل، مع الاعتراف بالعجز عن تقديم جواب مقنع حول ادعائه أزلية هذا الكون بالنسبة إلى مادته الأولى، ولا يفوته أن يقذف بلهيب حقده

ص: 92

على خالقه جل وعلا منذ مطلع كلامه، ويغريه بالأمر حلم الله عليه، وعدم وجود سلطة عادل في الأرض تحاسبه.

يقول - عليه من الله ما يستحق - في الصفحة (28) من كتابه:

"إن قولنا باحتضار الله في المجتمعات المتخلفة يشكل تمثيلاً رمزياً لحالة الثورة والفوران، وفقدان الجذور التي تعاينها هذه المجتمعات في محاولاتها الوصول إلى نوع من التعايش المرحلي بين الأفكار العلمية الجديدة وتطبيقاتها العملية والصناعية، وبين تراثها الديني السحيق، دون أن يتنازل كلياً ومرة واحدة عما في ماضيها من قيم غيبية. لذلك نسمع دائماً أصداء صرخة تقول: حتى لو سلمنا كلياً بالنظرة العلمية للأشياء ستبقى أمامنا مشكلة المصدر الأول لهذا الكون. لنفترض مع (رسل) أن الكون بدأ بسديم، ولكن العلم لا يقول لنا: من أين جاء هذا السديم، إنه لا يبين لنا من أين جاءت هذه المادة الأولى التي تطور منها كل شيء؟ فلا بد للعلم إذن من أن يتصل بالدين في نهاية المطاف. ولكن طرح السؤال بهذه الصورة يبين لنا مدى تحكم تربيتنا الدينية وتراثنا الغيبي في كل تكفيرنا. لنفترض أننا سلمنا بأن الله هو مصدر وجود المادة الأولى، هل يحل ذلك المشكلة؟ هل يجيب هذا الافتراض على سؤالنا عن مصدر السديم الأول؟ والجواب هو طبعاً بالنفي. أنت تسأل عن علة وجود السديم الأول وتجيب بأنها الله، وأنا أسألك بدوري وما علة وجود الله؟ وستجيبني بأن الله غير معلول الوجود، وهنا أجيبك، ولماذا لا نفترض أن المادة الأولى غير معلولة الوجود، وبذلك يُحسم النقاش دون اللجوء إلى عالم الغيبيات، وإلى كائنات روحية بحتة لا دليل لنا على وجودها، علماً بأن ميل الفلاسفة القدماء بما فيهم المسلمين كان دائماً نحو هذا الرأي إذ قالوا بقدم العالم، ولكنهم اضطروا للمداورة والمداراة بسبب التعصب الديني ضد هذه النظرة الفلسفية للموضوع (1) . في الواقع علينا أن نعترف بكل

(1) هذا كذب على المسلمين من الفلاسفة. فمن قال من الفلاسفة بقدم العالم فهو ليس من المسلمين.

ص: 93

تواضع بجهلنا حول كل ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون.

وعندما تقول لي: إن الله هو علة وجود المادة الأولى التي يتألف منها الكون، وأسألك بدوري: وما علة وجود الله؟ إن أقصى ما تستطيع الإجابة به: " لا أعرف إلا أن وجود الله غير معلول"(1)، ومن جهة أخرى عندما تسألني: وما علة وجود المادة الأولى فإن أقصى ما أستطيع الإجابة به: " لا أعرف إلا أنها غير معلولة الوجود " في نهاية الأمر اعترف كل منها بجهله حيال المصدر الأول للأشياء. ولكنك اعترفت بذلك بعدي بخطوة واحدة، وأدخلت عناصر غيبية لا لزوم لها لحل المشكلة. والخلاصة، إذا قلنا: عن المادة الأولى قديمة وغير محدثة أو إن الله قديم وغير محدث، نكون قد اعترفنا بأننا لا نعرف ولن نعرف كيف يكون الجواب على مشكلة المصدر الأول للأشياء، فالأفضل إذن أن نعترف بجهلنا صراحة ومباشرة عوضاً عن الاعتراف به بطرق ملتوية وبكلمات وعبارات رنانة. ليس من العيب أن نعترف بجهلنا، لأن الاعتراف الصريح بأننا لا نعرف ما لا نعرفه من أهم مقومات التفكير العلمي، وتعرفون أن العالم ملزم على تعليق الحكم عندما لا تتوافر لديه الأدلة والشواهد والبراهين الكافية لإثبات أو لنفي قضية ما. هذا هو الحد الأدنى من متطلبات الأمانة الفكرية في البحث الجاد عن المعرفة والحقيقة ".

هذا كلام (د. العظم) حرفياً، وعلينا أن نُحَلِّلَه ونكشف للقارئ ما فيه من مغالطات فكرية.

سأترك كبيرته الأولى التي أطلق فيها على الله الخالق العظيم سبحانه عبارة الاحتضار، وسبقها في كلامه إطلاق عبارة الموت اقتداء بالفيلسوف الملحد (نيتشه) لأن مثل هذه العبارات التي ليس فيها إلا تطاول وحماقة وسخرية لا تدخل في أي مجال أو في أي مستوى من مستويات النقاش العلمي أو البحث المنطقي، ولا جواب لها في الحقيقة إلا صاعقة ربانية، أو أيَّةُ قاتلة من قواتل السماء تعطيه الرد العلمي على تطاوله، ولكن الله تبارك وتعالى حليم، يمهل كثيراً، حتى إذا أخذ بالعذاب أخذ أخذاً كبيراً.

(1) هذا ليس صحيحاً، فسنأتي في الرد عليه بما ينقض مغالطته.

ص: 94

وأبدأ بالتركيز على الحجة الشيطانية التي تساءل فيها عن علة وجود المصدر الأول للأشياء، وزعم فيها أن إحالة المؤمنين ذلك على الله تبارك وتعالى يساوي نظرياً وقوف الملحدين عن السديم، الذي اعتبروه المادة الأولى لهذا الكون، وزعم أن كلا الفريقين لا يجد جواباً إلا أن يقول: لا أعرف إلا أن وجود هذا الأصل غير معلول، وزعم أن الملحد اعترف بهذا قبل المؤمن بخطوة واحدة، ثم خادع بأن إعلان الجهل والاعتراف به من متطلبات الأمانة الفكرية حين لا توجد أدلة وشواهد وبراهين كافية.

ولدى البحث المنطقي الهادئ، يتبين لكل ذي فكر صحيح، أن هذه الحجة التي ساقها ليست إلا مغالطة من المغالطات الفكرية، وهذه المغالطة قائمة على التسوية بين أمرين متباينين تبايناً كلياً، ولا يصح التسوية بينهما في الحكم. وفيما يلي تعرية تامة لهذه المغالطة من كل التلبيسات التي جللها بها.

فإذا وضعنا هذه المغالطة بعبارتها الصحيحة كانت كالتالي: ما دام الموجود الأزلي غير معلول الوجود فلم لا يكون الموجود الحادث غير معلول الوجود أيضاً؟

وكل ذي فكر صحيح سليم من الخلل يعلم علم اليقين أنه لا يصح أن يُقاس الحادث على القديم الأزلي الذي لا أول له، فلا يصح أن يشتركا بناء على ذلك في حكم واحد.

وعلى هذه الطريقة من القياس الفاسد من أساسه صنع مغالطته الجدلية. والملحدون حين يصنعون مثل هذا الاستدلال الفاسد يسارعون إلى ستر فساد أدلتهم بعبارات التقدم العلمي، والمناهج العلمية، والتقدم الصناعي، والمناهج العقلية في تقصي المعرفة، والاتجاهات الثورية في المجتمع والاقتصاد، ويخلطون هذه العبارات خلطاً، ويحشرونها في كل مكان ومع كل مناقشة، تمويهاً وتضليلاً، كأن التقدم العلمي والصناعي للإلحاد وحده، وليس للإيمان، مع أن الدنيا جميعها وما فيها من ماديات قد كانت وما زالت ولن تزال حتى تقوم الساعة للمؤمنين والكافرين وغيرهم على سواء، ضمن سنن الله الثابتة التي لا تتغير، وهي مجال

ص: 95

مفتوح لكل الناس، إذ يمتحن الله بها إرادتهم وسلوكهم في الحياة، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.

فإذا قال الملحد: ولِمَ لا تكون المادة الأولى لهذا الكون (كالسديم مثلاً) قديمة أزلية غير حادثة، تنطلق منها التحولات ثم ترجع إليها التحولات؟

فإن جوابه يأخذه من هذا الكون نفسه، وما فيه من صفات وخصائص.

إن هذا الكون يحمل دائماً وباستمرار صفاته حدوثه، تشهد بهذه الحقيقة النظرات العقلية المستندة إلى المشاهدات الحسية، وتشهد بها أيضاً البحوث العلمية المختلفة في كل مجالات من مجالات المعرفة، والقوانين العلمية التي توصَّل إليها العلماء الماديون.

وإذا ثبت أن هذا الكون حادث له بداية وله نهاية كان لا بد له من علة تسبب له هذا الحدوث، لاستحالة تحول العدم نفسه إلى وجود، أما ما لا يحمل في ذاته صفات تدل على حدوثه فوجوده هو الأصل، ولذلك فهو لا يحتاج أصلاً إلى موجد يوجده، وكل تساؤل عن سبب وجوده تساؤل باطل منطقياً، لأنه أزلي واجب الوجود، وليس حادثاً حتى يُسأل عن سبب وجوده.

ولو كانت صفات الكون تقتضي أزليته لقلنا فيه كذلك، لكن صفات الكون المشاهدة والمدروسة تثبت حدوثه.

وهنا تكمن مغالطة الملحد، إذ أراد أن يجعل الكون أزلياً، مع أن البراهين تثبت أنه حادث، وذلك ليتخلص من الضرورة العقلية التي تلزم بالإيمان بوجود خالق لهذا الكون الحادث، لأن الحدوث من العدم المطلق دون سبب موجود سابق عليه مستحيل عقلاً.

أما البرهان على أن هذا الكون حادث وليس بأزلي فتقدمه لنا الأدلة العقلية الفلسفية القديمة، والقوانين العلمية الحديثة.

فالأدلة العقلية الفلسفية تثبت لنا حدوث العالم من ظاهرة التغير الملازمة لكل شيء فيه، وذلك لأن التغير نوع من الحدوث للصورة والهيئة والصفات، وهذا

ص: 96

الحدوث لا بد له من عل، وتسلسلاً مع العلل للمتغيرات الأولى، سنصل حتماً إلى نقطة بدء نقرر فيها أن هذا الكون له بداية، في صفاته وأعراضه، وفي ذاته ومادته الأولى، وحينما نصل إلى هذه الحقيقة لا بد أن نقرر أن خالقاً أزلياً لا يمكن أن يتصف بصفات تقتضي حدوثه، وهذا الخالق هو الذي خلق هذا الكون وأمده بالصفات التي هو عليها.

وحين لا يُسلِّم بمثل هذه الأدلة الفلسفية العقلية طائفة المفتونين بالعلوم الحديثة وقوانينها ومنجزاتها، فإننا نأتيهم بأدلة من هذه العلوم وقوانينها تثبت حدوث هذا الكون.

اكتشف العلم الحديث القانون الثاني للحرارة الديناميكية، وهو القانون يسمون (قانون الطاقة المتاحة) أو يسمونه (ضابط التغير) .

وهذا القانون يثبت أنه لا يمكن أن يكون وجود الكون أزلياً، إذ هو يفيد تناقص عمل الكون يوماً بعد يوم، ولا بد من وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات، وحينئذ لا تبقى أية طاقة مفيدة للحياة والعمل، وتنتهي العمليات الكيميائية والطبيعية، وبذلك تنتهي الحياة.

يذكر هذا التحقيق العلمي عالم أمريكي في علم الحيوان، هو (إدوارد لوثر كيسل) ثم يقول:

"وهكذا أثبتت البحوث العلمية دون قصد أن لهذا الكون بداية، فأثبتت تلقائياً وجود الإله، لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته، ولا بد أن يحتاج إلى المحرك الأولى الخالق الإله".

ونجد مثل هذا في كلام (السير جيمس) إذ يقول في كلام له:

"تؤمن العلوم الحديثة بأن (عملية تغير الحرارة) سوف تستمر حتى تنتهي طاقاتها كلية، ولم تصل هذه العملية حتى الآن إلى آخر درجاتها، لأنه لو حدث شيء مثل هذا لما كنا الآن موجودين على ظهر الأرض حتى نفكر فيها، إن هذه العملية تتقدم بسرعة مع الزمن، ومن ثم لا بد لها من بداية، ولا بد أنه قد حدثت

ص: 97

عملية في الكون يمكن أن نسميها (خلقاً في وقت ما) حيث لا يمكن أن يكون هذا الكون أزلياً".

فحدوث هذا الكون أمر معترف به عند العلماء الماديين، ولكن الملحدين بالله يغالطون في الحقائق، ويتظاهرون بالانتماء إلى قافلة العلم والبحث العلمي زوراً وبهتاناً، ليحتموا بحماها.

ورغم هذه الحقيقة التي ثبت بها حدوث الكون لدى العلماء الماديين نرى الناقد (العظم) يحاول أن يسوّي بين الله والكون المادي في موضوع الأزلية، ليتوصل من ذلك إلى التمويه بأن الكون أزلي أو لا ندري علة وجوده، كما أن المؤمنين بالله يرون أن الله أزلي، أو لايدرون علة وجود الله.

ومن هذا نلاحظ أنه أقام كلامه على المغالطة،

ص: 98

إذ سوّى في الحكم بين الحادث والأزلي، فزعم أن الحادث أزلي وأن الأزلي حادث، مع أن العلم والعقل يكذبانه ويعريان مغالطته.

على أن ادِّعاءه أن المؤمن بالله لا يدري علة وجود الله مغالطة في الحقيقة أيضاً.

فمن أصله الوجود، ووجود أزلي، فإنه لا يحتاج إلى علة لوجوده، إذ السؤال عن هذه العلة أمر مخالف للمنطق السليم، أو عبث من العبث، أو مغالطة قائمة على الإيهام بأنه حادث غير أزلي.

وهنا يطرح الملحدون على عوام المسلمين مغالطة في سوق الدليل على وجود الله، فيقولون لهم: ألستم تقولون: إن كل موجود لا بد له من موجد، وإن هذا الكون موجود فلا بد له من موجد، وذلك هو الله تعالى؟

فيقول له العامي الذي لا يعرف أصول المغالطات: بلى. عندئذ يستدرجه الملحد فيقول له: الله موجود وهو على حسب الدليل لا بد له من موجد، فيجد العامي نفسه قد انقطع إذ لم يستطع جواباً.

لكن الخبير لا يقبل أصلاً صيغة الدليل على هذا الوجه القائم على المغالطة.

وذلك لأن المقدمة (كل موجود لا بد له من موجد) مقدمة كاذبة غير صحيحة، فالخبير لا يسلم بها لفسادها، وإنما يقول بدلها:(كل موجد حادث لم يكن ثم كان لا بد لهم من محدث)، ثم يقول:(وهذا الكون موجود حادث لم يكن ثم كان بشهادة العقل وبشهادة البحوث العلمية) عندئذٍ تتحصل النتيجة على الوجه التالي: (إذن فلا بد لهذا الكون من محدث) ، وهذا المحدث للكون لا بد أن يكون موجوداً أزلياً غير حادث، ولا بد أن يكون منزهاً عن كل الصفات التي يلزم منها حدوثه، حتى لا يحتاج إلى موجد يوجده، بمقتضى الدليل الذي أثبتنا فيه وجود الله.

فمغالطة الملحد في المقدمة التي أوهم بها قائمة على التعميم، إذ وضع (كل موجود) بدل (كل موجود حادث) ، ومعلوم أن عبارة (موجود) تشمل الموجود الأزلي والموجود الحادث.

وهكذا تجري مغالطات الملحدين، ليتصيدوا بها الجهلة والغافلين من المسلمين، بغية استدراجهم وإحراجهم، ونقلهم من مرحلة الإيمان إلى مرحلة التشكك.

فالمؤمن إذن يعلم أن الخالق موجود أزلي ليس له من الصفات ما يلزم منها حدوثه، ووجوده هو الأصل، فلا يسأل عن علة وجوده عند العقلاء أصلاً، والسؤال عن علة وجوده أمر مخالف للحقيقة العلمية المنطقية التي انتهينا إليها.

وكما لا يُسأل عمّا أصله العدم: ما هي علة عدمه؟ لأن مثل هذا السؤال لا يرد إلا على افتراض أن أصله الوجود، وهذا يناقش أن أصله العدم، كذلك ما أصله الوجود لا يُسأل عن علة وجوده ولا يبحث عنها، لأن أي سؤال أو بحث عنها لا يكون إلا على افتراض أن أصله العدم، وبهذه العلة تحول من العدم إلى الوجود، لكن هذا الافتراض مرفوض ابتداءً، باعتبار أن أصله الوجود.

وبهذا يتضح لنا تماماً أنه لا يُسال ولا يبحث عن علة وجود ما الأصل فيه الوجود.

وبهذا أيضاً تسقط المغالطة التي طرحها الملحد في مناقشته، ويظهر فساد

ص: 99

تسويته بين الكون الحادث وبين الخالق الأزلي. وحينما نطالبه بعلة وجود الحادث وهو الكون فليس من حقه المنطقي أن يطالبنا بعلة وجود الله الأزلي.

وليس من حق الملحد أن ينكر الوجود الأزلي كله ما دام الواقع يكذبه، والبراهين العلمية تهزأ به، لأنه لو لم يكن في الوجود موجود أزلي لاستحال أن يوجد شيء في هذا الكون، لأن الافتراض على هذا يقوم على أساس العدم المطلق.

وهل يتحول العدم المطلق بنفسه إلى وجود؟

هذا من المستحيلات البدهية، ولا يقبله عقل فيه مثقال ذرة من تفكير منطقي سليم.

إن هذا الكون الذي نحن جزء منه موجود حادث ذو بداية، وكل ذي بداية لا بد له من علة كانت السبب في وجوده، وإيجاده قد كان عملية من عمليات الخلق، وعملية الخلق إنما تتم بخالق قادر، وهذا الخالق القادر لا بد أن يكون أزلياً، ولا بد أن يكون متحلياً بالكمال المطلق، هذه هي عقيدة المؤمنين بالله.

وهكذا وضحت لنا مغالطات العظم في هذا المجال.

فأين الأمانة الفكرية التي يغار عليها؟

هل هذا هو المنهج العلمي المتقدم؟ أفي المناهج العلمية المتقدمة بناء الأحكام على المغالطات والأكاذيب؟

ولكن ماذا يفعل المبطلون غير هذا لدعم باطلهم؟

(3)

جنّد الناقد (د. العظم) كل ما لديه ولدى سادته من أفكار ومغالطات، ليثبت وجود التناقض بين الدين والعلم، وليعتبر هذا التناقض حقيقة مقررة، بغية التوصل من ذلك إلى إنكار الدين كله، باعتباره مناقضاً للعمل حسب فريته القائمة على المغالطات والتمويهات.

قال في الصفحة (25) من كتابه:

ص: 100

"ولنلمس طبيعة هذا الفارق بين النظرة الدينية القديمة وبين النظرة العلمية التي حلت محلها، سنوجه انتباهنا إلى مثال محدد يبين بجلاء كيف يقودنا البحث العلمي إلى قناعات وتعليلات تتنافى مع المعتقدات والتعليلات الدينية السائدة، مما يضطرنا إلى الاختيار بينهما اختياراً حاسماً ونهائياً".

ثم أتى بالمثال الذي زعم أنه يدعم كلامه فقال:

" لا شك أن القارئ يعرف التعليل الإسلامي التقليدي لطبيعة الكون ونشأته ومصيره:

خلق الله هذا الكون في فترة معينة من الزمن، بقوله: كن فكان، ولا شك أنه يذكر حادثة طرد آدم وحواء من الجنة، تلك الحادثة التي بدأ بها تاريخ الإنسان على هذا الأرض. ومن صلب المعتقدات الدينية أن الله يرعى مخلوقاته بعنايته وهو يسمع صلواتنا وأحياناً يستجيب لدعائنا، ويتدخل من وقت لآخر في نظام الطبيعة فتكون المعجزات، أما الطبيعة فقد حافظت على سماتها الأساسية منذ أن خلقها

ص: 101

الله، أي: إنها تحتوي الآن على نفس الأجرام السماوية وأنواع الحيوانات والنباتات التي كانت موجودة فيها منذ اليوم الأول لخلقها ".

ثم يقول في معارضة ما جاء في الدين:

" أما النظرة العلمية حول الموضوع ذاته فلا تعترف بالخلق من لا شيء، ولا تقر بأن الطبيعة كانت منذ البداية كما هي عليه الآن ".

في هذا الكلام الذي أورده كذب على الدين، ومغالطة في الحقيقة، وتمويهات بذكر بعض أمور هي من الدين، أوردها ليغشي بها على نظر القارئ، فلا يبصر مواطن الافتراءات، ومزالق المغالطات.

لقد أدخل فكرة لا يعترف بها الدين أصلاً، ضمن عرضه لطائفة من المفاهيم والعقائد الدينية الصحيحة، ليضلل القارئ بالإيهام الذي اصطنعه له، وليجعله يعتقد أن هذه الفكرة الدخيلة هي فعلاً من المفاهيم الدينية، ما دامت قد وردت ضمن مجموعة مفاهيم صحيحة يعرفها هو عن الدين.

لقد زعم أن الإسلام يرى أن الطبيعة قد حافظت على سماتها منذ أن خلقها الله، أي: إنها تحتوي الآن على نفس الأجرام السماوية وأنواع الحيوانات والنباتات التي كانت موجودة فيها منذ اليوم الأول لخلقها.

مع أن هذا افتراء صريح على الدين، تكذبه بالنصوص القرآنية، ولست أدري من أين جاء بهذه المفاهيم فألصقها الدين؟

لما تحدث القرآن عن فئة الحيوانات التي خلقها الله لركوب الإنسان، وليتخذها زينة له، ألحقها بقوله تعالى:{ويخلق ما لا تعلمون} بصيغة الفعل المضارع التي تدل على الحال والاستقبال، للدلالة على أن عمليات التجديد في الخلق الرباني للأشياء مستمرة غير منقطعة، قال الله تبارك وتعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .

أليس في هذا إعلاناً صريحاً مخالفاً لما زعم (د. العظم) من أن الدين يقرر أن الطبيعة قد حافظت على سماتها من أن خلقها الله.

وبالنسبة إلى الأجرام السماوية لا نجد في النصوص الإسلامية ما يدل على هذا الذي افتراه (العظم) على المفاهيم الإسلامية، بل في النصوص ما يدل على خلاف ذلك، قال الله تعالى في سورة (الذاريات/51 مصحف/67 نزول) :

{وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} .

فكلمة (موسعون) في الآية تشير إلى أعمال التوسعة المتجددة في السماء، وذلك لأن هذه الكلمة من صيغ اسم الفاعل، صيغة اسم الفاعل بقوة المضارع من جهة الدلالة، هي للتعبير عن الحال أولاً ثم عن الاستقبال.

ص: 102

أفلا نجد أن الأمانة الفكرية التي تظاهر (د. العظم) بالغيرة عليها ذبيحة بسكين غَدرِه، وختلة ومخادعته، ومغالطاته، وافتراءاته؟ ومثله سائر الملحدين.

لقد غدا معروفاً تماماً أنهم يطلقون بعض العبارات الشريفة للتضليل فقط، وهم لا يلتزمون أي مضمون من مضامينها الصحيحة.

أما قوله: إن النظرية العلمية لا تعترف بالخلق من لا شيء.

فهو يُشيرُ بهذا إلى نظرية (لافوازيه) التي تقول: لا يخلق شيء من العدم المطلق ولا يعدم شيء وإنما هي تحولات من مادة لطاقة، أو من طاقة لمادة، أو من مادة لمادة.

وحين ندقق النظر في أصول ما قرره (لافوازيه) نجد أنها تتحدث عن مجال معين ذي أبعاد، وليس في مستطاعها أن تتحدث عن كل الوجود في كل أبعاده من الأزل إلى الأبد، فهذا أمر لا تستطيع تقريره أية نظرية استقرائية مهما بلغ شأنها، إلا أن يكون كلامها رجماً بالغيب، وتكهناً لا سند له، وطرحاً تخيلياً محضاً.

وأبعاد نظرية (لافوازيه) هذه ثلاثة:

الأول: البعد الزمني.

الثاني: البعد المكاني.

الثالث: البعد الإدراكي.

وهنا نتساءل: هل رصد واضعو هذه النظرية العلمية ومقرروها أجزاء الكون في كل الأزمان، بما فيها الأزمان السحيقة في القدم، وعرفوا منها أنه لم يخلق في الأزمان القديمة جداً شيء من العدم؟

والجواب: أنهم لم يفعلوا ذلك لأنه لا يتسنى لهم بحال من الأحوال، وهم أبناء النهضة العلمية الحديثة، على أن الأدلة العلمية التي سبق بيانها قد أثبتت أن لهذا الكون بداية، وهذا يعني أنه لم يكن ثم كان، فهو إذن مخلوق من العدم، بقدرة خالق موجود أزلي.

فهذه النظرية لا تتحدث عن الانطلاقة الأولى للكون، لأن أياً من الأجهزة

ص: 103

العلمية لا تستطيع أن تسترجع الأزمان السحيقة وترصد الكون فيها، وكذلك لا تستطيع النظرات التحليلية الاستنتاجية أن تحكم على ماضي الكون وانطلاقته الأولى، بالقياس على واقعه النظامي الذي نشاهده في الحاضر، لاحتمال الاختلاف البيِّن بين نقطة البدء وبين ما يأتي بعدها من حالات نظامية مستمرة.

فنظرية (لافوازيه) لا تتناول بحال من الأحوال الزمن الأول لبداية الكون، ومجالها يأتي في الأزمان التي يترجح فيها قيام النظام الكوني الذي درسته هذه النظرية، وبهذا يتبين لنا أن التعميم الزمني فيها الشامل لكل أزمان الماضي غير صحيح.

ثم نتساءل ثانياً: هل رصد واضعو هذه النظرية العلمية ومقرروها أجزاء الكون في مستقبل ما يأتي من الأزمان، وثبت لهم من رصدهم أنه لا يمكن أن يخلق شيء من العدم، ولا يمكن أن يعدم شيء موجود؟

ولكن كيف يتسنى لهم رصد المستقبل وهم لا يملكون استقدامه؟ جلُّ ما يملكونه قياس المستقبل على الحاضر والماضي، بشرط استمرار نظام الكون القائم، ولا يستطيعون أن يحكموا على الكون بأنه لا يمكن أن يتغير نظامه الكلي، فتأتيه حالة من الحالات يمسي فيها عدماً، أو تنعدم بعض أجزاء منه، أو تضاف إليه أجزاء لم تكن هيئتها ولا مادتها فيه، فهذا حكم لا سبيل إليه، إنه حكم مجهول، والحكم على المجهول باطل.

فنظرية (لافوازيه) تنطبق على هذا الكون بشرط استمرار نظامه القائم، وهي لا تحكم على المستقبل حكماً قاطعاً باستحالة تغير هذا النظام، ولكن ما دام هذا النظام الكوني قائماً، فإن ضابطه أن جميع ما يجري من مدركات فيه إنما هو من قبيل التحولات، وبهذا يتبين لنا أن التعميم الزمني فيها الشامل لكل أزمان المستقبل غير صحيح.

هذا ما يتعلق بتحديد البعد الزمني للنظرية، أما تحديد البعد المكاني لها فنقول فيه:

هل رصد واضعو هذه النظرية ومقرروها هذا الكون في كل أبعاده المكانية؟

ص: 104

ألا يحتمل وجود مكان سحيق فيه لم يرصدوه ولم يعرفوا ما فيه؟

أفيحكمون عليه إذن حكماً غيابياً قياساً على ما رصدوه منه في الأمكنة التي استطاعت أن تبلغ إلى مداها أجهزتهم وملاحظاتهم؟

إن هذا الحكم الغيابي مع جهالة الخصائص والصفات حكم باطل، وهذا طبعاً لا يعني ضرورة مخالفة الغائب للحاضر، ولكن لا يعني أيضاً لزوم موافقته.

فلا بد إذن من تحديد مكان النظرية بالأبعاد المكانية التي كانت مجال الملاحظة والقياس والأجهزة، مع التجاوز بصحة قياس ما شابهها عليها، مما لم يخضع للملاحظة المباشرة.

وهكذا يظهر لنا تحديد البعد المكاني لهذه النظرية، وهو أمر تقتضيه الدراسة المنطقية الحيادية، وتوجيه الأمانة الفكرية في البحث الجاد عن المعرفة والحقيقة، وهذا هو الأمر الذي يتظاهر (د. العظم) بالتحمس له، وبالغيرة عليه.

أما تحديد البعد الإدراكي للنظرية فيتلخص بأن النظرية قد اعتمدت على ملاحظة عالم الشهادة من الكون المنظور المدرك، أما عالم الغيب الذي لا تصل إليه الإدراكات الإنسانية المباشرة أو عن طريق الأجهزة، فهو عالم خارج بطبيعته عن مجال النظرية، لذلك فإنها لا تستطيع أن تحكم عليه، لأن حكمهما عليه هو من قبيل الحكم على الغائب المجهول في ذاته وفي صفاته. جُلُّ ما تستطيعه النظريات في هذا المجال هي أن تعلق أحكامها تعليقاً كلياً، أو تصدر أحكاماً مشروطة احتمالية غير جازمة، وهذا ما تقتضيه الدراسة العلمية المنطقية الحيادية، وتوجبه الأمانة الفكرية في البحث الجاد عن المعرفة والحقيقة.

وهكذا ظهر لنا أن نظرية (لافوازيه) لم تتناول من الكون إلا مقطعاً محدود الأبعاد الثلاثة: البعد الزماني، والبعد المكاني، والبعد الإدراكي، وهذا المقطع هو مجال ملاحظتها.

يضاف إلى كل ذلك أن وجود الحياة في المادة لم يقترن بأي دليل تجريبي يثبت تحول المادة غير الحية إلى مادة حية، عن طريق التولد الذاتي، رغم كل التجارب العلمية التي قامت في عالم البحث العلمي حتى الآن.

ص: 105

لذلك نلاحظ أن الآراء العلمية في هذا المجال ترجع إلى أصول ثلاثة كبرى (1) :

* الرأي الأول منها:

ما قرره (أغاسيز) في كتابه (تصنيف العضويات) سنة (1858م) إذ قرر أن كل نوع من الأنواع خلق بفعل خاص من أفعال القوة الخالقة، و (باستور) مكتشف جراثيم الأمراض على هذا الرأي.

والقائلون بهذا الرأي قد استقر مذهبهم على "أن كل حي لا بد أن يتولد من حي مثله".

* الرأي الثاني:

الرأي الذي قال به (هيرمان أبير هارد ريختر) إذ رأى أن الفراغ الذي نراه مملوءاً بجراثيم الصورة الحية، كالجواهر الفردة التي تتكون منها المادة الصماء، كلامهما في تجدد مستمر، ولا يتطرق لهما العدم، وبنى قاعدته في أصل الحياة على "أن كل حي أبدي، ولا يتولد إلا من خلية".

وهذا الرأي يتضمن أن تطورات المادة من المادة، وتطورات الحياة من الحياة.

* الرأي الثالث:

هو ما ذهب إليه الماديون من أن الحياة نشأت من المادة بالتولد الذاتي. وليس لهذا الرأي أي شاهد تجريبي، أو مستند عقلي، وقال بهذا الرأي الدكتور (باستيان) في إنكلترا، والأستاذ (هيكِل) في ألمانيا.

بعد هذه النظرات العلمية المنطقية لنظرية (لافوازيه) وما يتعلق بها، يعترضنا سؤال حول النصوص الدينية، إذ نجد فيها استعمال كلمة (الخلق) ومشتقاتها بالنسبة إلى الأحداث والتغيرات التي توجد داخل مجال النظرية المذكورة، وداخل المقطع

(1) عن (إسماعيل مظهر) في مقدمته لكتاب "أصل الأنواع"، تأليف (تشارلز داروين) .

ص: 106

المحدود الأبعاد الثلاثة الذي هو محل تطبيقها، أفلا يعتبر استعمال كلمة (الخلق) ومشتقاتها في مجال تطبيق نظرية (لافوازيه) مناقضاً أو معارضاً لمضمون هذه النظرية؟

وأمام هذا السؤال لا بد من الرجوع إلى استعمال كلمة (الخلق) ومشتقاتها في اللغة العربية وفي نصوص الشريعة الإسلامية.

ولقد رجعنا فوجدنا أن هذه المادة اللغوية لا تعني دائماً الإيجاد من العدم المطلق، بل كثيراً ما تستعمل مراداً منها التحويل في الصفات والعناصر التركيبية من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن هيئة إلى هيئة، ومن خصائص إلى خصائص، دون زيادة شيء على المادة الأولى من العدم المطلق، وفي حدود هذا الاستعمال نجد قول الله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول) :

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ من طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .

ففي كل صور الخلق هذه نشاهد عمليات التحويل من وضع إلى وضع، ومن حال إلى حال، ومن صورة إلى صورة، ومن خصائص إلى خصائص، وقد أطلق على هذه التحويلات أنها خلق، باعتبار أن القدرة الربانية هي المتصرفة في كل هذه التحويلات.

وجاء في القرآن إطلاق الخلق على تغيير هيئة الطين وجعله على صورة طير، نظراً إلى أن الخلق لا يستدعي دائماً أن يكون إيجاداً من العدم، وذلك في قول الله لعيسى عليه السلام كما جاء في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :

{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي

} .

وبما أن كل التغييرات الكونية إنما تجري بإرادة الله وقدرته، فهي ظواهر لأعمال الخلق التي يقوم بها جل وعلا.

ص: 107

فعلى التسليم الكامل بنظرية (لافوازيه) ضمن حدودها، لا نجد تعارضاً بينها وبين المفاهيم الدينية التي دلت عليها النصوص الصحيحة الصريحة.

لكن مثل هذه الحقائق لا تسر الملحدين، لأنهم حريصون جداً على أن يظفروا بتناقض ما بين العلم والدين، حتى يتخذوا ذلك ذريعة لنقض الدين من أساسه.

ولن يظفروا مهما أجهدوا نفوسهم، وستبوء كل مساعيهم بالفشل والخيبة، لأن القرآن حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حميد، عليم بكل شيء، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

(4)

مغالطة بطمس الشهادات المؤمنة للعلماء الماديين

طمس الناقد (د. العظم) كل شهادة مؤمنة قالها عالم من علماء النهضة العلمية الحديثة، ولم يعرض من أقوال هؤلاء على كثرتهم إلا شيئاً مما جاء في مقال الفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس) الذي كتبه تحت عنوان "إرادة الاعتقاد".

وذلك لأن هذا الرجل يرى في مقاله أن البينات العلمية والأدلة العقلية غير كافية بحد ذاتها للبرهان على وجود الله أو عدم وجوده، لذلك يحق للإنسان أن يتخذ موقفاً من هذه المعضلة يتناسب مع عواطفه ومشاعره.

لقد رآه (د. العظم) أضعف المتجهين إلى جانب الإيمان بالله والمستدلين له، فاستشهد بكلامه، ليجعله الممثل الوحيد لفئة المؤمنين، في الحوار المغلق الذي رتب بنفسه فصوله كما راق له، لينصر قضية الإلحاد بالله، وليوهم أن ما قاله (جيمس) هو أقصى ما يحتج به المؤمنون.

وإمعاناً في التضليل يصور للقارئ أن كل ثقل العلم الحديث يخدم قضية الإلحاد، مع أن العلم الحديث كله لا يملك دليلاً صحيحاً واحداً يستطيع أن يثبت عدم وجود خالق مبدع لهذا الكون.

ص: 108

ويستشهد بقطعة أدبية للفيلسوف الإنكليزي (برتراند رسل) تحت عنوان: "عبادة الإنسان الحر"، إذ يصور فيها تفسيرات الملحدين لنشأة الكون وتطوره، ونشأة الحياة وتطورها، وأصل الإنسان ونشأته وتطوره، ونشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها، وينكر الآخرة وما فيها من إقامة العدل الإلهي إذ يصور أن الكون بدأ من السديم وهو إلى السديم يعود.

وفي غضون كلامه يعتبر من الحقائق العلمية المسلَّم بها نظرية (ماركس) في الاقتصاد والتفسير المادي للتاريخ، ونظرية (فرويد) في السلوك الإنساني والتفسير الجنسي، ونظرية (داروين) في أصل الأنواع، ويمجد هؤلاء الثلاثة، وهو يعلم أن ماركس وفرويد يهوديان وأن معظم ما قدماه من أفكار إنما كان لخدمة اليهودية العالمية، ومحاربة الدين، وأن القيادات اليهودية قد دعَّمت الدارونية وعملت على نشرها والدعاية لها لارتباط أهدافها السياسية بنشر الإلحاد، ولقد أسقطت التجارب والعلوم بحمد الله أفكار ماركس، وفرويد، وداروين.

ويعيب على بعض المدافعين عن الدين بأنهم يقدمون أقوالاً تقريرية غير مقترنة بأدلة، ويأتي هو لدعم مذهبه الإلحادي بقصة أدبية كتبها الملحد الإنكليزي (برتراند رسل) ويعتبر هذه القصة هي السند الأمثل للتحقيق العلمي في قصة الخليقة.

وهل أصبحت هذه القطعة الأدبية هي التحقيق العلمي العظيم لقصة الوجود كله، التي بدأت بالسدين وستنتهي إلى السديم، وفق النظرات التي يرجحها أصحابها دون مستندات علمية صحيحة، ودون براهين معتبر وفق المنهج العلمي السليم؟

أنَّى لواضعي هذه النظرية أن يشهدوا بداية الكون؟ وكيف يتسنى لهم مشاهدة نهايته؟

يرى كاتب القصة أن السديم الحار دار عبثاً في الفضاء عصوراً لا تعد ولا تحصى، ثم نشأت عن هذا الدوران هذه الكائنات المنظمة البديعة بطريق المصادفة، وأن اصطداماً كبيراً سيحدث في هذا الكون يعود به كل شيء إلى سديم كما كان أولاً.

ص: 109

ويعلق (د. العظم) على هذه القصة الخيالية التي سماها قطعة أدبية جميلة، فيقول في الصفحة (26) .

" هذا المقطع الذي كتبه (رسل) يلخص لنا بكل بساطة النظرة العلمية الطبيعية للقضايا التالية: نشوء الكون وتطوره، نشوء الحياة وتطورها، أصل الإنسان ونشأته وتطوره، نشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها، وأخيراً يشدد على أن النهاية الحتمية لجميع الأشياء هي الفناء والعدم، ولا أمل لكائن بعدها بشيء، إنه من السديم وإلى السديم يعود".

وهكذا وبكل بساطة يعتبر (العظم) هذه الأمور حقائق مقررة مسلماً بها علمياً، دون أن تقترن بأي إثبات لها، أهذا هو مستوى الأمانة الفكرية عنده؟ أهذا هو المنهج العلمي السليم؟

ما أبعد المناهج العلمية عن القصص التقريرية، التي تنسجها أخيلة الكتاب والأدباء والشعراء، أو أخيلة واضعي النظريات لأغراض معينة!!

ثم استشهد (د. العظم) بكلام آخر قاله (رسل) فقال في الصفحة (27) :

"وفي مناسبة أخرى عندما سئل (رسل) : هل يحيا الإنسان بعد الموت؟ أجاب بالنفي، وشرح جوابه بقوله: عندما ننظر إلى هذا السؤال من زاوية العلم وليس من خلال ضباب العاطفة نجد أنه من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت، فالاعتقاد السائد بأننا نحيا بعد الموت يبدو لي بدون أي مرتكز أو أساس علمي".

أهكذا ترفض الحقيقة التي جاء بيانها بالأخبار الصادقة عن الله، بمجرد الاستبعاد؟

حينما يسمع المؤمن بالإسلام جواب هذا الفيلسوف الإنكليزي عن الحياة بعد الموت، فلا بد أن تسترجع ذاكرته الجواب الجاهلي الذي كان يجيب به كفار العرب البدائيون، إذ قالوا كما حدثنا القرآن عنهم في سورة (ق/50 مصحف/34 نزول) :

ص: 110

{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ}

وجوابهم الآخر الذي جاء في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :

{وَقَالُو?اْ إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}

وهنا يبدو لنا بوضوح إن الإنكار هو الذي لا يرتكز على أساس علمي، إنما يعتمد على مجرد التقرير للنفي، أو استبعاد فكرة البعث بإطلاق عبارات التعجب.

على أن الإيمان بالحياة بعد الموت للحساب والجزاء لا بد أن يعتمد على أساس الإيمان بالله، فإثارة هذه العقيدة دون أساس الإيمان بالله هي من قبيل الاشتغال بالفروع قبل الاتفاق على الأصول، وهذا لا يؤدي إلى نتيجة صحيحة، فإذا تم التسليم بعقيدة الإيمان بالخالق جلَّ وعلا جاء من بعدها عرض أدلة البعث.

وعندئذ يمكن أن تأتي الأدلة العقلية التي نبَّه القرآن عليها، منها قول الله تعالى في سورة (يس/36 مصحف/41 نزول) :

{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي? أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} .

وحين قلت: إن (العظم) في الحوار المغلق الذي صنعه قد جعل الفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس) هو الممثل الوحيد للمؤمنين من علماء النهضة العلمية الحديثة، إذ رأى حجته أضعف حجج المتجهين إلى جانب الإيمان بالله، ليوهم أن ما قاله (جيمس) هو أقصى ما يحتج به المؤمنون، فإنني قلت هذا وفي جعبتي أقوال كثيرة مؤمنة قالها عدد كبير من علماء النهضة العلمية الحديثة، وهي تشتمل على أدلة وقرائن علمية، جعلتهم يؤمنون بالله خالق هذا الكون.

وفيما يلي عرض لطائفة من أقوال هؤلاء العلماء وشهاداتهم العلمية، أكشف بها للمخدوعين من أبناء هذه الأمة وقائع التزوير والمغالطات التي يصطنعها الملحدون الأجراء.

ص: 111

وهذه الشهادات من أقوال علماء النهضة العملية الحديثة تكشف عن الأسباب العلمية التي جعلتهم يؤمنون بالله:

(أ) يقول البروفيسور (إيدوين كونكلين) :

"إن القول بأن الحياة وجدت نتيجة (حادث اتفاقي) شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار يقع في مطبعة على سبيل المصادفة".

أي: لا يمكن للمصادفة أن توجد هذا الكون ذا النظام المتقن الرائع، إذن فلا بد له من خالق خلقه وأتقنه.

(ب) ويقول عالم الطبيعة الأمريكي (جورج إيرل ديفيس) :

"لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الإله، وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الإله) ولكن إلهنا هذا سوف يكون عجيباً، إلهاً غيبياً ومادياً في آن واحد! إنني أفضل أن أؤمن بذلك الإله الذي خلق العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بدلاً من أن تبنى مثل هذه الخزعبلات".

فهذا العالم الأمريكي من علماء الطبيعة يرى أن نظرات الملحدين هي من قبيل الخزعبلات، أو الخرافات التي ليس لها سند علمي ولا سند عقلي، وهذا هو شأن كل عالم منصف محايد.

(ج) ولنسمع إلى رد (كريسي موريسن) الذي كان رئيس أكاديمية العلوم الأمريكية بنيويورك على الملحد (هيكل) إذ قال هذا الملحد متبجحاً: "إيتوني بالهواء وبالماء، وبالأجزاء الكيماوية، وبالوقت، وسأخلق الإنسان".

أي: إن الإنسان كان نتيجة اجتماع عناصر خاصة على كيفية خاصة على سبيل المصادفة فرد عليه (موريسن) بقوله:

"إن هيكل يتجاهل في دعواه الجينات الوراثية، ومسألة الحياة نفسها، فإن أول شيء سيحتاج إليه عند خلق الإنسان هو الذرات التي لا سبيل إلى مشاهدتها،

ص: 112

ثم سيخلق (الجينات) أو حملة الاستعدادات الوراثية، بعد ترتيب هذه الذرات، حتى يعطيها ثوب الحياة، ولكن إمكان الخلق في هذه المحاولة بعد كل هذا لا يعدو واحداً على عدة بلايين، ولو افترضنا أن (هيكل) نجح في محاولته فإنه لن يسميها مصادفة، بل سوف يقررها وبعدها نتيجة لعبقريته".

وهكذا أظهر هذا العالم سخافة أقوال (هيكل) عن طريق الاستدلال العلمي.

فالاستناد إلى فرضية المصادفة في تعليل وجود الكائنات المتقنة المنظمة لون من التخريف الفكري، القائم على إرادة التضليل فحسب، وليس مذهباً فكرياً تحيط به شبهات تزينه في عقول القائلين به، وهذا ما تدل عليه الشهادات العلمية المنصفة المحايدة، منها هذه الأقوال، ومنها أقوال أخرى ستطلع على طائفة منها فيما يأتي:

(د) وقال عالم الأعضاء الأمريكي (مارلين ب. كريدر) :

"إن الإمكان الرياضي في توافر العلل اللازمة للخلق عن طريق المصادفة في نِسَبِها الصحيحة هو ما يقرب من لا شيء".

أي: إن احتمال المصادفة احتمال مرفوض رياضياً في تعليل عمليات الخلق المتقن المنظم.

(هـ) ويقول أحد علماء الطبيعة:

"إن العلم لا يملك أي تفسير للحقائق، والقول بأنها حدثت (اتفاقاً) إنما يعتبر تحدياً وتصادماً مع الرياضيات".

(و) إن تعليلات نشأة الكون وتكامله بنظرية النشوء والارتقاء، إنما يلجأ إليها بعض العلماء الماديين هرباً من الاعتراف بالحقيقة الإلهية الكبرى، ولا يؤمنون بهذه النظرية اعتقاداً منهم بأنها حقيقة ثابتة مؤيدة بالبراهين القاطعة، وإنما يلجؤون إليها لأنه لا يوجد أي بديل لها سوى الإيمان بالله مباشرة.

ويشهد لهذا ما كتبه (سير آرثر كيث)، إذ يقول:

"إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علمياً ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان،

ص: 113

ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو (الإيمان بالخلق الخاص المباشر) وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه".

(ز) ويقول عالم بريطانيا الكبير (سير جيمس جينز) الذي يعتبر أكبر علماء العصر الحديث، في كتابه الشهير "عالم الأسرار":

"إن في عقولنا الجديدة تعصباً يرجح التفسير المادي للحقائق".

(ح) وذكر (ويتكر شامبرز) في كتابه "الشهادة" حادثاً كان من الممكن أن يصبح نقطة تحول في حياته.

ذكر أنه بينما كان ينظر إلى ابنته الصغيرة استلفتت أذناها نظره، فأخذ يفكر في أنه من المستحيل أن يوجد شيء معقد ودقيق كهذه الأُذُن بمحض اتفاق، بل لا بد أنه وجد نتيجة إرادة مدبرة. لن (ويتكر شامبرز) طرد هذه الوسوسة عن قلبه حتى لا يضطر أن يؤمن -منطقياً- بالذات التي أرادت فدبرت، لأن ذهنه لم يكن على استعداد لتقبل هذه الفكرة الأخيرة.

وهو مظهر من مظاهر التعصب المادي.

ويقول الأستاذ الدكتور (تامس ديور باركس) بعد أن ذكر هذا الحادث:

"إنني أعرف عدداً كبيراً من أساتذتي في الجامعة ومن رفقائي العلماء الذين تعرضوا مراراً لمثل هذه المشاعر، وهم يقومون بعمليات كيميائية وطبيعية في المعامل"(1) .

ومن هذا يظهر لنا أن التعصب داء دوي صارف عن الحق، وأخطره وأقبحه ما يحمل صغبة العلم، ويتحلى بأثواب المعرفة.

(ط) وجاء في كتاب "الله يتجلى في عصر العلم" ثلاثون مقالاً لثلاثين من كبار العلماء الأمريكيين، في الاختصاصات العلمية المختلفة من علوم الكون

(1) هذه الأقوال من (أ) إلى (ح) مقتبسة من كتاب "الإسلام يتحدى"، تأليف: وحيد الدين خان، تعريب: ظفر الإسلام خان، مراجعة وتحقيق: دكتور عبد الصبور شاهين.

ص: 114

السائدة في هذا العصر الحديث، وقد أثبت هؤلاء العلماء في مقالاتهم هذه وجود الله جلَّ وعلا، عن طريق ما وَعَوْه من الأدلة الكثيرة المنبثة في مجالات اختصاصاتهم العلمية.

وفي هذا الكتاب يطلع القارئ على نوع من الأدلة العلمية، التي تفرض سلطانهم على العلماء الماديين، من خلال ملاحظاتهم وتجاربهم واختباراتهم العلمية، فتجعلهم يؤمنون بالله، ويجد فيه أيضاً الرد الكافي على مروجي الإلحاد، الذين يزعمون أن العلوم تبعد عن الإيمان بالله، وأن جميع أو معظم العلماء الكونيين ملحدون.

ونلخص فيما يلي أبرز ما في هذه المقالات وأجوده:

1-

المقالة الأولى:

كتبها (فرانك ألن) ، عالم الطبيعة البيولوجية، تحت عنوان:"نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد؟ ".

وقد جاء فيها قوله:

"إذا سلمنا بأن هذا الكون موجود فكيف نفسر وجوده ونشأته؟

هناك احتمالات أربعة للإجابة على هذا السؤال:

1-

فإما أن يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال، وهذا يتعارض مع ما سلمنا به من أنه موجود.

2-

وإما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم، وهذا مرفوض بداهة.

3-

وإما أن يكون هذا الكون أزلي الوجود ليس لنشأته بداية، وهذا الاحتمال يساوي ما يقوله المؤمنون بالله بالنسبة إلى أزلية الخالق، لكن قوانين الكون تدل على أن أصله وأساسه مرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو إذن حدث من الأحداث، ولا يمكن إحالة وجود هذا الحدث المنظم البديع إلى المصادفة عقلاً، ولذلك فهذا الاحتمال باطل أيضاً.

ص: 115

4-

وإما أن يكون لهذا الكون خالق أزلي أبدعه، وهو الاحتمال الذي تقبله العقول دون اعتراض، وليس يرد على إثبات هذا الاحتمال ما يبطله عقلاً، فوجب الاعتماد عليه".

ولا بد أن يلاحظ القارئ أن استدلال هذا العالم القائم على الحصر العقلي هو في غاية القوة، فكيف يورط الملحدون أنفسهم، فينكرون وجود الله بعد أن أقام لهم سبحانه كل هذه الأدلة والشواهد على وجوده سبحانه؟ ألا يضعون في حسابهم احتمال صدق أخبار الرسل، وبها يعرضون أنفسهم للعذاب الخالد، دون أن يجنوا في مقابل ذلك أي ربح؟.

ولكنها مواقف المعاندين، يرون الحقائق، ويرون مواقع العذاب، وتشتد عليهم النذر، ويصرون على مواقف العناد، ويحاولون تبرير موقفهم بالأكاذيب والمخادعات والتضليلات وألوان الزخرف من القول.

2-

المقالة الثانية:

كتبها (روبرت موريس بيدج) ، عالم الطبيعة، وأول من اكتشف الرادار في العالم سنة (1934م)، وقد كتب هذه المقالة تحت عنوان:"اختبار شامل".

وقد جاء فيه قوله:

"وجدنا أناساً موهوبين يحدثوننا عن الغيب، يقولون إنهم رسل الله، وما حدثونا به قسمان:

1-

قسم يقولون فيه: إن لهذا الكون خالقاً واحداً يجب الإيمان به.

2-

وقسم يخبروننا فيه عن بعض أمور الغيب التي ستحدث، أما القسم الثاني فقد وقع كما أخبرونا به بعد مئات السنين، وأبدت الأيام وأثبت التاريخ صدق هذه النبوءات جميعاً، وهي من الأشياء التي عجزت العلوم حتى اليوم أن تجد لها تفسيراً، فدل ذلك على صحة رسالتهم، وصدق أخبارهم، ووجب أن نصدقهم فيما أخبرونا به عن الله تعالى وصفاته، وهو القسم الأول، لأن عقولنا لا تمنع منه، بل عندنا من الشعور الداخلي ما يثبته".

ص: 116

ثم قال: "إن الإيمان بوجود الله من الأمور الخاصة التي تنبت في شعور الإنسان وضميره، وتنمو في دائرة خبرته الشخصية".

فهذا العالم الذي اكتشف الرادار لأول مرة يدفعه إنصافه وحياده وأمانته الفكرية إلى إعلان إيمانه بالله، مع التواضع الكريم المعروف عند العلماء حقاً، وهكذا العلماء المتحلون بالأمانة الفكرية، كلما ازداد علمهم زاد تواضعهم وزادت كمالاتهم الخلقية، فلا يجحدون التوهم، ولا يستكبرون عن الاعتراف بالحقيقة، والإذعان لما يترجح لديهم من احتمالات وفق المنهج العلمي السليم.

أما الجهلة المتبجحون بالعلم فإن الغرور بالنفس يدفع بهم إلى مواقف العجب والكبر، حتى يتطاولوا تطاول الحمقى، فيعلنوا جحودهم بخالقهم ورازقهم، استكباراً عن طاعته، وتطلعاً إلى التحرر من أوامره ونواهيه، تلبية لأهوائهم الجامحة، وشهواتهم الجانحة، أو خدمة لأسيادهم قادة المنظمات الإلحادية في العالم.

3-

المقالة الثالثة:

كتبها (ماريت ستانلي كونجدن) ، وهو عالم طبيعي وفيلسوف، وعضو الجمعية الأمريكية الطبيعية، كتبها تحت عنوان:"درس من شجرة الورد".

وقد جاء فيها ما خلاصته:

1-

إن كثيراً من الأمور التي نسلم بها إنما نعتمد فيها على الاستدلال المنطقي.

2-

من أمثلة ذلك كثير من استنتاجاتنا اليومية في حياتنا العادية، والعلوم الفلكية التي ليس بيننا وبينها اتصال مادي مباشر، وبحوث الذرة، واستخدام قوانين الكتلة والطاقة، في استنباط صفات الذرة وتركيبها وخواصها، مع العلم بأن العلماء لم يروا الذرة حتى الآن بطريقة مباشرة، وقد أيدت القنبلة الذرية الأولى ما وصل إليه العلماء من قوانين ونظريات حول تركيب الذرة غير المنظور ووظائفها.

ومن هذه الأمثلة وجود الله، فإننا نستطيع أن نصل إلى معرفته عن طريق الاستدلال المنطقي، الذي يقوم على تفسير النتائج بنظائرها أو مثيلاتها.

ص: 117

3-

برغم أن العلوم لا تؤيد وجود عالم غير مادي تأييداً كاملاً، لأن الدائرة التي تعمل فيها تقع في حدود المادة، فإنها لا تستطيع أن تنفي بصورة قاطعة وجود عوالم أخرى غير مادية وراء العالم المادي.

4-

نستطيع بطريقة الاستدلال والقياس بقدرة الإنسان وذكائه في عالم يفيض بالأمور العقلية أن نصل إلى وجوب وجود قوة مسيطر مدبرة تسير هذا الكون وتدبر أمره.

ثم ختم مقاله بقوله: "إن جميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه، ويدل على قدرته وعظمته، وعندما نقوم - نحن العلماء - بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية، فإننا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي الله وعظمته".

4-

المقالة الرابعة:

كتبها (جون كليفلاند كوثران) وهو من علماء الكيمياء والرياضيات، ورئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة (دولث)، كتبها تحت عنوان:"النتيجة الحتمية".

بدأ الكاتب مقالته بكلمة (لورد كيلفن) وهو من علماء الطبيعة البارزين في العالم: "إذا فكرت تفكيراً عميقاً فإن العلوم سوف تضطرك إلى الاعتقاد بوجود الله".

ثم جاء فيها ما خلاصته:

1-

تنقسم العوالم إلى ثلاث أقسام:

(أ) العالم المادي.

(ب) العالم الفكري.

(ج) العالم الروحي.

2-

إن التطورات الهامة التي تمت في جميع العلوم الطبيعية خلال السنين المئة الأخيرة، بما في ذلك الكيمياء، قد حدثت بسبب استخدام الطريقة العلمية في دراسة المادة والطاقة، وعند استخدام هذه الطريقة تبذل كل الجهود للتخلص

ص: 118

من كل احتمال من الاحتمالات الممكنة التي تجعل النتيجة التي تصل إلهيا راجعة إلى محض المصادفة.

3-

أسهب الكاتب في الأمثلة العلمية عن طريق الكيمياء، ليكشف أن سلوك أي جزء من أجزاء المادة مهما صغر، لا يمكن أن يكون سلوكاً عشوائياً ناجماً عن المصادفة، بل كل شيء يسير وفق قانون يهيمن على سلوكه.

4-

ثم قال الكاتب: "فهل يتصور عاقل أو يفكر أو يعتقد أن المادة المجردة من العقل والحكمة قد أوجدت نفسها بنفسها بمحض المصادفة؟ أو أنها هي التي أوجدت هذا النظام وتلك القوانين ثم فرضتها على نفسها؟

لا شك أن الجواب سيكون سلبياً.

وتدلنا الكيمياء على أن بعض المواد في سبيل الزوال والفناء، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة، والآخر بسرعة ضئيلة، وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية، ومعنى ذلك أيضاً أنها ليست أزلية، إذ إن لها بداية.

وتدل الشواهد من الكيمياء وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة ولا تدريجية، بل وجدت بصورة فجائية.

وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه المواد، وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لا بد أن يكون مخلوقاً، وهو منذ أن خُلق يخضع لقوانين وسنن كونية محددة، ليس لعنصر المصادفة بينها مكان.

فإذا كان هذا العالم المادي عاجزاً عن أن يخلق نفسه، أو يحدد القوانين التي يخضع لها فلا بد أن يكون الخلق قد تم بقدرة كائن غير مادي، متصف بالعلم والحكمة".

وهكذا العلماء المنصفون، فما أروع العالم حينما يدفعه علمه وحياده وإنصافه إلى الاعتراف بالحقيقة، ولو كانت تخالف هواه وتشهياته، أو تحد من حريته، أو تلزمه بأن يتواضع ولا يستكبر!

وما أبعد الملحدين عن مثل هذا الموقف الكريم!

ص: 119

5-

المقالة الخامسة:

كتبها (إدوارد لوثر كيسيل) ، أستاذ الأحياء ورئيس القسم بجامعة سان فرانسيسكو، وهي بعنوان:"فلننظر إلى الحقائق دون ميل أو تحيز".

وقد جاء في هذه المقالة ما خلاصته:

1-

أضاف البحث العلمي خلال السنوات الأخيرة أدلة جديدة على وجود الله، زيادة على الأدلة الفلسفية التقليدية.

2-

لقد عمت بلادنا في السنوات الأخيرة موجة من العودة إلى الدين، ولم تتخط هذه الموجة معاهد العلم لدينا.

لا شك أن الكشوف العلمية الحديثة التي تشير إلى ضرورة وجود إله لهذا الكون، قد لعبت دوراً كبيراً في هذه العودة إلى رحاب الله والاتجاه إليه.

3-

يرى البعض أن الاعتقاد بأزلية هذا الكون ليس أصعب من الاعتقاد بوجود إله أزلي، ولكن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يثبت خطأ هذا الرأي، فالعلوم تثبت بكل وضوح أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزلياً، ولا يقتصر ما قدمته العلوم على إثبات أن لهذا الكون بداية، فقد أثبتت فوق ذلك أنه بدأ دفعة واحدة منذ خمسة بلايين سنة، والواقع أن الكون لا يزال في عملية انتشار مستمر تبدأ من مركز نشأته.

4-

لو أن المشتغلين بالعلوم نظروا إلى ما تعطيهم العلوم من أدلة على وجود الخالق بنفس روح الأمانة والبعد عن الحيز الذي ينظرون به إلى نتائج بحوثهم، ولو أنهم حرروا عقولهم من سلطان التأثر بعواطفهم وانفعالاتهم، فإنهم يسلمون دون شك بوجود الله، وهذا هو الحل الوحيد الذي يفسر الحقائق، فدراسة العلوم بعقل متفتح سوف تقودنا دون شك إلى إدراك وجود السبب الأول الذي هو الله".

وهكذا أثبت هذا العالم من علماء الأحياء ما توصل إليه بالبحث العلمي المحايد من ضرورة التسليم بوجود الخالق جلَّ وعلا، نظراً في الظواهر الكونية التي ترشد إلى حقائق علمية وراءها، وأثبت أن موجة من العودة إلى الإيمان بالله تعم

ص: 120

معاهد العلم في بلاده.

6-

المقالة السادسة:

كتب هذه المقالة (وولتر أوسكار لندبرج) ، عالم الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية وعميد معهد هورمل منذ سنة (1919م)، والمقالة بعنوان:"استخدام الأسلوب العلمي".

وقد جاء فيها ما خلاصته:

1-

أرجع هذا العالم في مقاله إخفاق بعض العلماء في فهمهم وقبولهم لما تدل عليه المبادئ الأساسية، التي تقوم عليها الطريقة العلمية من وجود الله والإيمان به إلى أسباب لا صلة لها بالبحث العلمي وخص بالذكر منها سببين اثنين:

السبب الأول: ما تتبعه بعض الجماعات أو المنظمات الإلحادية أو الدولة من سياسة معينة ترمي إلى شيوع الإلحاد ومحاربة الإيمان بالله، بسبب تعارض عقيدة الإيمان بالله مع صالح هذه الجماعات أو مبادئها (1) .

السبب الثاني: المعقدات الفاسدة التي تجعل الناس منذ الطفولة يعتقدون بإله على صورة إنسان (2) وعندما تنمو العقول بعد ذلك، وتتدرب على استخدام الطريقة العلمية فإن تلك الصورة التي تعلموها منذ الصغر لا يمكن أن تنسجم مع أسلوبهم في التفكير، أو مع منطق مقبول، وأخيراً عندما تخيب جميع المحاولات في التوفيق بين تلك الأفكار الدينية القديمة، وبين مقتضيات المنطق والتفكير العلمي، نجد هؤلاء المفكرين يتخلصون من الصراع بنبذ فكرة الله كلية، ومن ثم فلا يحبون العودة إلى التفكير في هذه الموضوعات التي تدور حول وجود الله (3) .

(1) يلاحظ الكاتب الدول الإلحادية التي ترى أن مصالحها مرتبطة بدعم قضية الإلحاد.

(2)

وهو ما تمليه بعض الأديان المحرَّفة عن أصولها الصحيحة.

(3)

لكن هذا السبب غير موجود بحمد الله في واقع المعتقدات الإسلامية، إلا أن دعاة الإلحاد يحاولون بكل ما لديهم من خداع وتضليل أن يصوروا العقائد الإسلامية تصويراً يخالف مقتضيات المنطق والتفكير العلمي، إذ يعممون هذا السبب تعميماً تقريرياً دون دليل، أو يحشرون مفاهيم غير إسلامية ضمن بعض مفاهيم إسلامية للتضليل.

ص: 121

2-

ثم وجه كاتب المقال إلى الاعتماد في الإيمان بالله على أساس روحاني، وأوضح أن الإيمان بالله مصدر لسعادة لا تنضب في حياة كثير من البشر.

3-

ثم قال: أما المشتغلون بالعلوم الذين يرجون الله فلديهم متعة كبيرة يحصلون عليها كلما وصلوا إلى كشف جديد في ميدان من الميادين، إذ أن كل كشف جديد يدعم إيمانهم بالله ويزيد من إدراكهم وإبصارهم لأيادي الله في الكون".

7-

المقالة السابعة:

كتبها (بول كليرانس إبرسولد) ، وهو أستاذ الطبيعة الحيوية، ومدير قسم النظائر والطاقة الذرية في معامل (أوج ريدج) وعضو جمعية الأبحاث النووية والطبيعية النووية، وهذه المقالة تحت عنوان:"الأدلة الطبيعية على وجود الله".

وقد جاء فيها ما خلاصته:

1-

بدأ هذا العالم الطبيعي مقالة بكلمة للفيلسوف الإنكليزي (فرانس بيكون) التي قالها منذ أكثر من ثلاثة قرون:

"إن قليلاً من الفلسفة يقرب الإنسان من الإلحاد، أما التعمق في الفلسفة فيرده إلى الدين"، ثم أيد كلمة هذا الفيلسوف بالشرح.

2-

استدل على وجود الله تعالى بدليل اتفاق الناس في الشعور المشترك بوجوده فقال:

وقد لمس الناس عامة -سواء بطريق فلسفية عقلية أو روحانية- أن هناك قوة فكرية هائلة ونظاماً معجزاً في هذا الكون يفوق ما يمكن تفسيره على أساس المصادفة، أو الحوادث العشوائية التي تظهر أحياناً بين الأشياء غير الحية، التي تتحرك أو تسير على غير هدى، ولا شك أن اتجاه الإنسان وتطلعه إلى البحث عن عقل أكبر من عقله وتدبير أحكم من تدبيره وأوسع، لكي يستعين به على تفسير هذا الكون، يعد في ذاته دليلاً على وجود قوة أكبر وتدبير أعظم، هي قوة الله وتدبيره، وبرغم أننا نعجز عن إدراكه إدراكاً كلياً أو وصفه وصفاً مادياً، فهنا ما لا يحصى من الأدلة

ص: 122

المادية على وجوده تعالى، وتدل أياديه في خلقه على أنه العليم الذي لا نهاية لعلمه، الحكيم الذي لا حدود لحكمته، القوي إلى أقصى حدود القوة".

8-

المقالة السادسة عشرة:

كتبها (جورج هربرت بلونت) ، أستاذ الفيزياء التطبيقية، وكبير المهندسين بقسم البحوث الهندسية بجامعة (كاليفورنيا)، وهي مقالة بعنوان:"منطق الإيمان".

وقد جاء فيها ما خلاصته:

1-

قال كاتب المقالة: "إنني أؤمن بالله، بل وأكثر من ذلك، إنني أكل إليه أمري، ففكرة الألوهية بالنسبة لي ليست مجرد قضية فلسفية، بل إن لها في نفسي قيمتها العملية العظمى، وإيماني بالله جزء من صميم حياتي اليومية".

2-

ثم بعد أن قرر مبدأ الأمور البدهية التي نقبل بها قبول تسليم وإيمان، قال:

"وكذلك الحال فيما يتعلق بوجود الله، فوجوده تعالى أمر بدهي من الوجهة الفلسفية، والاستدلال بالأشياء على وجود الله - كما في الإثبات الهندسي- لا يرمي إلى إثبات البدهيات ولكنه يبدأ بها، فإذا كان هناك اتفاق بين هذه البدهية وبين ما نشاهده من حقائق الكون ونظامه فإن ذلك يعد في ذاته دليلاً على صحة البدهية التي اخترناها".

3-

ثم قسم الأدلة إلى أنواع فقال: "والأدلة أنواع: منها الأدلة الكونية، ومنها الأدلة التي تقوم على أساس إدراك الحكمة، ثم الأدلة التي تكشف عنها الدراسات الإنسانية.

فالأدلة الكونية: تقوم على أساس أن الكون متغير، وعلى ذلك فإنه لا يمكن أن يكون أبدياً، ولا بد من البحث عن حقيقة أبدية عليا.

أما الأدلة التي تبنى على إدراك الحكمة: فتقوم على أساس أن هناك غرضاً معيناً أو غاية وراء هذا الكون، ولا بد لذلك من حكيم أو مدبر.

ص: 123

وتكمن الأدلة الإنسانية، وراء طبيعة الإنسان الخلقية، فالشعور الإنساني في نفوس البشر إنما هو اتجاه إلى مشرِّع أعظم".

4-

ثم ناقش الكاتب وضع الملحدين فقال: "ويلاحظ أن للملحدين منطقهم، ولكنه منطق سلبي، فهم يقولون: إن وجود الله يستدل عليه بشواهد معينة وليس ببراهين قاطعة، وهذا من وجهة نظرهم يعني عدم وجود الله تعالى، إنهم يردون على الأدلة الكونية بقولهم: إن المادة والطاقة يتحول كل منهما إلى الآخر، بحيث يمكن أن يكون الكون أزلياً، كما أنهم ينكرون النظام في الكون ويرونه مجرد وهم، وهكذا ينكرون الشعور النفسي بالعدالة والاتجاه نحو موجه أعظم، ومع ذلك لا يستطيعون أن يقيموا دليلاً واحداً على عدم وجود الله، ومن منطقهم أن الأدلة المقدمة لإثبات وجود الله لا تعتبر كافية من وجهة نظرهم، وهناك فئة أخرى من الملحدين لا يعترفون بإله لهذا الكون، لأنهم لا يرونه، ولكنهم لا ينفون وجود إله في كون أو عالم آخر غير هذا الكون، ولا شك أن هذا موقف مائع متضارب لا يستند إلى أساس سليم.

فإذا قارنا بين الشواهد التي يستدل بها المؤمنون على وجود الله وتلك التي يستند إليها الملحدون في إنكار ذاته العلية، لاتضح لنا أن وجهة نظر الملحد تحتاج إلى تسليم أكثر مما تحتاج إليه وجهة نظر المؤمن، وبعبارة أخرى: نجد المؤمن يقيم إيمانه على البصيرة، أما الملحد فيقيم إلحاده على العمى.

وأنا مقتنع أن الإيمان يقوم على العقل، وأن العقل يدعو إلى الإيمان، وإذا كان الإنسان يعجز أحياناً عن مشاهدة الأدلة فقد يكون ذلك راجعاً إلى عدم قدرته على أن يفتح عينيه".

وهكذا مررنا على تلخيص لمقالات ثمان (1) من أصل ثلاثين مقالة لثلاثين عالماً من كبار علماء النهضة العلمية المعاصرة، موجودة في كتاب "الله يتجلى في

(1) اقتباساً من كتاب "العقيدة الإسلامية وأسسها" للمؤلف، وكذلك الأقوال الواردة بعد تلخيص المقالات الثمان: قول (هرشل) ، وما أذاعته وكالة (رويتر) ، وما جاء في كتاب "الله في الطبيعة" للفيلسوف (كميل فلامريون) .

ص: 124

عصر العلم" ورأينا منها أن العلوم المادية تؤيد قضية الإيمان بالله جلَّ وعلا، ولا تؤيد قضية الإلحاد مطلقاً.

(ي) ويقول الفيلسوف (هرشل) :

"إنه كلما اتسع نطاق العلوم تحققت وكثرت الأدلة على وجود حكمة خالقة قادرة مطلقة، وعلماء الأرضيات والهيئة والطبيعيات والرياضيات يهيئون بمساعيهم واكتشافاتهم كل ما يلزم لإنشاء معبد العلوم إعلاء لكلمة الخالق".

(ك) أذاعت وكالة (رويتر) على العالم كله برقية جاء فيها ما يلي:

"نيويورك _ ر _ استفتت مجلة "كوليرز" المعروفة عدداً كبيراً من علماء الذرة والفلك وعلم الأحياء (بيولوجيا) والرياضيات، فأكدوا أن لديهم أدلة وقرائن كثيرة تثبت وجود كائن أعظم، ينظم هذا الوجود ويرعاه بعنايته ورحمته وعلمه الذي لا حدَّ له. ويقول الدكتور (راين) إنه ثبت من أبحاثه في المعامل أن في الجسم البشري روحاً أو جسماً غير منظور. وقال عالم آخر: إنه لا يشك في أن الكائن العظم - وهو ما تسميه الأديان السماوية (الله) - هو الذي يسيطر على الطاقة الذرية وغيرها من الظواهر والقوانين الخارقة في هذا الوجود".

(ل) وجاء في كتاب "الله في الطبيعة" للفيلسوف (كميل فلامريون) ، وهو فيلسوف ينكر اليهودية والنصرانية ولا يعرف الإسلام، ما يلي:

"إذا انتقلنا من ساحة المحسوسات إلى الروحيات، فإن الله يتجلى لنا كروح دائم موجود في كل شيء".

ويقول بحسب نظراته الخاصة التي لم يأخذها من التعاليم الدينية:

"ليس هو (أي الله) سلطاناً يحكم من فوق السماوات، بل هو نظام مستتر مهيمن على كاف الموجودات.

ليس مقيماً في جنة مكتظة بالصلحاء والملائكة، بل إن الفضاء اللانهائي مملوء به، فهو موجود مستقر في كل نقطة من الفضاء، وكل لحظة من الزمان، أو بتعبير أصح: هو قيوم لا نهائي منزه عن الزمان والمكان والتسلسل والتعاقب.

ص: 125

ليس كلامي هذا من جملة عقائد ما وراء الطبيعة المشكوك في صحتها، بل من النتائج القطعية التي استنبطت من القواعد الثابتة للعلم، كنسبية الحركة وقدم القوانين.

إن النظام العام الحاكم في الطبيعة، وآثار الحكمة المشهودة في كل شيء والمنتشرة كنور الفجر وضياء الشفق في الهيئة العامة، لا سيما الوحدة التي تتجلى في قانون التطور الدائم تدل على أن القدرة الإلهية المطلقة هي الحوافظ المستترة للكون، هي النظام الحقيقي، هي المصدر الأصلي لكافة القوانين الطبيعية وأشكالها ومظاهرها".

* التعليق على هذه الأقوال المؤمنة:

وباستعراض هذه الأقوال المؤمنة لطائفة من كبار علماء الكون الماديين - ويوجد أمثالها كثير - يتبين للمنصف بوضوح مدى المغالطات والافتراءات التي بنى عليها الملحد الماركسي العربي (د. العظم) كتابه المتهافت "نقد الفكر الديني" لا سيما حينما زعم أن مزاج حضارة القرن العشرين وثقافته ممتلئة بالتردد والميوعة حيال الدين والمعتقدات الدينية، وذلك في الصفحة (19) من كتابه.

وتجاهل كل الأقوال المؤمنة التي قالها كبار العلماء الماديين من علماء القرن العشرين، وكل الشهادات العلمية الإيمانية.

وتجاهل أيضاً الأعمال التخريبية لأصول الإيمان، وهي الأعمال التي تقوم بها منظمات عالمية، ترى أن نشر الإلحاد ودعم قضيته مما يخدم مصالحها الخاصة أحسن خدمة، إذ يجعل الشعوب الإنسانية على حافة الانهيار، ومتى انهارت تسلمتها أفواه الذئاب والثعابين الواقفة لها بالمرصاد.

وكل من يخدم قضية الإلحاد باندفاع وحماسة فهو جندي من جنود هذه المنظمة العالمية، وكثيراً ما يكون غراً لا يزيد أجره عند قادة المنظمة على أجر قاتل أمه وأبيه، متى قتلهما ألحق بهما، وقد كان من قبل يمنى بالأماني العريضة، وتتحلب أشداقه على المواعيد الحلوة، وذلك لأن من استخدمه حربة لم يستخدمة إلا ليكسره متى استنفد أغراضه منه.

ص: 126

ألم يطلع الملحد (العظم) على كل هذه الأقوال المؤمنة ونظائرها؟ ألم ينظر من أقوال العلماء إلا أقوال (برتراند رسل) لأنه اتجه إلى الإلحاد؟ ألم يقرأ من أقوال العلماء المؤمنين إلا مقالة الفيلسوف (وليم جيمس) إذ رأى استدلاله على وجود الله استدلالاً ضعيفاً؟ وقد جاء بعده علماء كثيرون كانت لهم أقوال ومقالات مشتملة على بيانات وأدلة أقوى مما ساقه (وليم جيمس) .

أليس هذا من طمس الحقائق والتلاعب بها؟ فأين الأمانة العلمية التي يتظاهر بالغيرة عليها؟

ولكن هذا هو شأن المبطلين حينما ينصرون الباطل الذي يتعصبون له بدافع المصالح والمنافع الخاصة لا بدافع نشدان الحقيقة.

لقد رأينا في حشد هذه الأقوال المؤمنة للعلماء الماديين وكثير منهم من علماء القرن العشرين أن موجة من العودة إلى الدين الصحيح الصافي تسود الأوساط العلمية الكبرى.

فما ادعاه (العظم) في الصفحة (28) من "أن النظرة العلمية التي وصل إليها الإنسان عن طبيعة الكون والمجتمع والإنسان خالية عن ذكر الله"، ادعاء كاذب وباطل لا أساس له من الصحة مطلقاً.

ولكن هل للمبطل إذا أراد أن ينصر باطله إلا السفسطة، والمغالطة، والمراوغة عن الحق، وصناعة الأكاذيب، والتمويه بالأقوال المزخرفة.

ولنفرض جدلاً أن العلماء الماديين جميعهم أنكروا وجود الله، أفيؤثر ذلك على حقيقة وجود الله جلَّ وعلا؟ هل ينتظر من العلوم المادية المتقدمة وأجهزتها المتطور أن ترينا الله تبارك وتعالى رؤية حسية. إن أقصى ما تفعله أن ترينا آيات الله في الكون، أما ذات الله تبارك وتعالى فلن تستطيع أن ترينا إياها، وهذا ما بينه الله بقوله في سورة (فصِّلت/41 مصحف/61 نزول) :

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي? أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} .

ص: 127

على أننا نقول: هل تستطيع العلوم المادية المتقدمة، وأجهزتها المتطورة، أن ترينا كثيراً من الطاقات الكونية التي غدت حقائق علمية ثابتة لدى العلماء الماديين عن طريق الاستنتاج من ظواهرها وآثارها، وهذه الحقائق التي أثبتوها ليست إلا تفسيرات نظرية للظواهر؟

إن أقوال العلماء الماديين المؤمنين الذين نشأوا في عصر النهضة العلمية المادية الحديثة لتقدم للمتشككين أدلة كافية على أن العلوم المادية ليست علوماً ملحدة في حقيقتها، لكن الإلحاد ملصق بها بطريقة صناعية مقصودة موجهة، من قبل فئات خاصة لها في نشر الإلحاد مصالح سياسية واقتصادية ضد خيرية البشرية وسعادتها.

ومن هذه الأقوال يتبين لنا بوضوح أنهن لا يوجد تناقض ولا تعارض مطلقاً في نظر جمهور العلماء الماديين بين الدين والعلم حول الأساس الأول من أسس العقيدة الدينية، وهي عقيدة الإيمان بالله جلَّ وعلا، وبهذا تنهار المستندات الإلحادية التي تزعم وجود هذا التناقض بالنسبة إلى هذه النقطة بالذات، باعتبارها مجال بحثنا الآن، وباعتبارها أعظم نقطة في الأيديولوجية الإلحادية، والتي يحاول الملحدون جهدهم أن يوجدوا لها المبررات النظرية، أو المبررات العملية، فلا يجدون إلا افتراء الأكاذيب، وصناعة المغالطات، والاحتماء المزور بالتقدم العملي والصناعي، وسرقة أسلحة العلم التي لا تملك في الحقيقة الدفاع عن الإلحاد، وإنما هي في الأصل أسلحة لقضية الإيمان، يحسن استعمالها العالمون بها، وتكون عند الجاهلين بها أسلحة معطلة، ويسرقها الملحدون فيحملونها أمام الجاهلين، فيتخيل الجاهلون بها أنها فعلاً أسلحة للملحدين، وهي تدعم قضية الإلحاد، مع أن الحقيقة بخلاف ذلك، إنها أسلحة للمؤمنين العالمين بها، الذين يحسنون استعمالها.

ومثل الملحدين في نظري إذ يسرقون أسلحة المؤمنين كمثل وارث كنز عظيم، ولكن هذا الوارث قد نشأ وهو يجهل أين خبأ له مورثه كنزه، وأقبل خبراء البحث عن الكنوز ينقبون ويبحثون، وتسلل من وراء هؤلاء الخبراء لصوص،

ص: 128

تظاهروا بأنهم باحثون خبراء، ولكنهم وقفوا يرصدون ما يعثر عليه الباحثون الحقيقيون، ليسرقوه كله أو ما يستطيعون سرقته منه، وكان مورث الكنز قد كتب اسمه ورسم صورته على أحد وجهي مصكوكاته الذهبية علامة على أنها له، وقد خبأها لوارثه، أما الخبراء المنقبون الأمناء: فإنهم لما ظفروا بما وجوده من الكنز، أعلنوا ما شهدوا من كتابة ورسوم على مصكوكاته، وثبتوا استحقاق الوارث لها، وأخذوا أجرهم على أعمالهم. وآخرون لم تكن لديهم الأمانة الكافية أو كانوا جاهلين بقراءة المكتوبات الأثرية أخذوا ما عثروا عليه، وانتفعوا بالكنز، ولم يعلنوا ما شهدوا من كتابة ورسوم على مصكوكاته، ولم يهتموا بأن يعترفوا باستحقاق الوارث لها. وجاء من وراء الفريقين فئة اللصوص، فسطوا على بعض ما استخرجه الخبراء من الكنز، وطمسوا الوجه المكتوب، وأقبلوا يفاخرون بأن الكنز كله هو ملكهم، وهو ميراثهم، والدليل على ذلك أن بعض قطع مصكوكاته الذهبية في أيديهم، قد عثروا عليها وفيها كتابة تشهد لهم بأن مورِّثهم قد خبأها لهم.

وحينما يُقال لهم: أرونا هذه الكتابة التي تشهد لكم يقولون: فلان قال هذا، وفلان قال هذا، وفلان قال هذا، وكل هؤلاء الذين ذكروهم هم من فئة اللصوص أنفسهم، أو من غيرهم ولكن يكذبون عليهم، ويظلُّون حريصين على أن يبقى الوجه الثاني للمصكوكات الذهبية مطموساً، حتى لا تنكشف لعبتهم القائمة على اللصوصية والتزوير.

(5)

بأسلوب مَهين من الغوغائية الجدلية لمحاربة الدين ومناصرة قضية الإلحاد، قال الناقد (د. العظم) في الصفحة (38) من كتابه:

"جلي أن هذه النظرة الإسلامية للكون هي نظرة غائية، تعتمد في تفسيرها لطبيعة الكون على العلل الغائية، والأهداف السامية، وعلى مفاهيم أخلاقية مثل "الحق والعدل".

هل تنسجم هذه النظرة الغائية إلى الكون والحياة مع النظرة العلمية التي تسود العالم المعاصر وثقافته؟ لو رجعنا إلى التفسيرات العلمية للكون من (نيوتن) إلى (أينشتاين) هل نجد في صلبها مقولات مثل (الأهداف السامية) أو (الحق والعدل) أو (الروح والجمال والخالق) ؟ هل نجد لهذه المفاهيم الأخلاقية الدينية أي ذكر في النظرية النسبية، أو في ميكانيكا الكموم مثلاً؟ سؤال جدير بالتمحيص والإيضاح والمناقشة على أقل تعديل".

هذا كلامه بالحرف الواحد، فياللعجب العجاب!! أعلى هذا المستوى الفكري السخيف تعرض قضية الإلحاد، وتناقش قضية الإيمان بالله؟!

أهكذا يجازف بمنطقه وفلسفته ليصنع حجة مكشوفة السخف والتفاهة؟

ولكن إذا لم يكن لديه حقائق يناقش بها أفلا يطرح أكوام ألفاظ يغالط بها المراهقين، ويوهمهم فيها أنه يصنع جدليات عالية؟

قد يتصور أن مراهقي الأفكار المفتونين بالألفاظ الحديثة إذا لم يفهموا أكوام ألفاظه هذه فإنهم سيظنون أن كاتبها ضليع بدلالاتها، ما دام قد استخدم في غضونها عبارات النظرة العلمية التي

ص: 129

تسود العالم المعاصر وثقافته، والنظرية النسبية، وميكانيكا الكموم، وله أن يحشر معها إذا شاء عبارات (الجداول الرياضية) و (الطاقة الذرية) و (الطاقة الهيدروجينية) و (طائرات الميغ) و (الأقمار الصناعية) و (حضارة القرن العشرين) و (موسكو) و (نهر الراين) و (جبال هيمالايا) ، إلى غير ذلك من ألفاظ وعبارات لا صلة لها بموضوع البحث.

فما صلة النظرية النسبية وميكانيكا الكموم بالحديث الصريح عن الله تعالى، أو التعرض إلى المفاهيم الأخلاقية، حتى يعتبر عدم ذكر اسم الله والمفاهيم الأخلاقية فيها دليلاً على نفي وجود الله، أو على إلغاء المفاهيم الأخلاقية؟!

إن عمله يشبه عمل من ينكر وجود القطب الشمالي لأنه لم يوجد له ذكر في جدول الضرب، ولا في كتاب "تعلمي سيدتي كيف تطبخين"، ولا في بطن "حصان طروادة"، ولا في "السمفونية التاسعة لبيتهوفن".

هذا مع أن العلامة (ألبرت أينشتاين) صاحب النظرية النسبية قد كان مؤمناً

ص: 130

قوي الإيمان بوجود الله، ومن أقواله:"إن أصحاب العبقريات الدينية في جميع العصور قد عرفوا بهذا النوع من الشعور الديني الذي لا ينتمي إلى نحلة، ولا يتمثل الله في أمثلة بشرية، إنني لأرى أن أهم وظيفة من وظائف الفن والعلم هي أن يوقظا هذا الشعور، وأن يستبقياه حياً في الذين تهيأوا له".

أليس عجيباً أن يقول (أينشتاين) مثل هذا الكلام وهو صاحب النظرية النسبية، ثم يأتي (د. العظم) فيورد (النظرية النسبية) مورد الاستشهاد لإنكار وجود الله، ونقض المفاهيم الأخلاقية الدينية، باعتبار أن هذه الأمور لم تذكر فيها؟

كان عليه قبل أن يستشهد بـ (أينشتاين) وبـ (النظرية النسبية) أن يراجع على أقل تقدير ما يعرف الناس عن هذا العالم، وعن أقواله في الدين، حتى لا يورط نفسه بهذا التهافت الذي سقط فيه.

إن (أينشتاين) لو كان يرى أن نظريته النسبية تتنافى مع الدين لدعم بنظريته الإلحاد، ولأعلن بها نقض الدين، لكنه _كما رأينا_ على العكس من ذلك حريص على إيقاظ الشعور الديني، وإبقائه حياً في الذين تهيأوا له.

لكن (د. العظم) حينما أورد اسم (أينشتاين) و (النظرية النسبية) في غضون كلامه، إنما عمد إلى السفسطة والمغالطة، والإيهام، ليصور للقارئ الجاهل أنه يصنع شيئاً لدعم قضية الإلحاد، فهو يذكر الأسماء الكبيرة في مجال العلوم المادية، ليستر بها تضليله وغوغائيته الجدلية.

وكما أوهم أن (أينشتاين) ملحد، أوهم أيضاً أن العالم (لابلاس) من فئة الملحدين، على خلاف ما عليه واقع حال هذا العالم.

قال (العظم) في الصفحة (28) من كتابه:

" عندما نقول مع (نيتشه) : إن الله قد مات أو هو في طريقه إلى الموت (والعياذ بالله من حكاية هذا الكلام الكبير الشنيع) فنحن لا نقصد أن العقائد الدينية قد تلاشت من ضمير الشعوب، وإنما تعني أن النظرة العلمية التي وصل إليها الإنسان عن طبيعة الكون والمجتمع والإنسان خالية من ذكر الله تماماً كما قال (لابلاس) ".

ص: 131

إنه يحشر اسم العالم (لابلاس) هنا ليموه بأنه من أنصار قضية الإلحاد بالنظرة العلمية التي وصل إليها الإنسان عن طبيعة الكون والمجتمع والإنسان، ولا يؤيد قضية الإيمان بالله، مع أن (لابلاس) مؤمن أخذاً منن أقواله، وله في الاستدلال على وجود الله وَرَدِّ أقوال الجاحدين كلام طيب، يلغي فكرة الاعتماد على المصادفات، ويرى أن النظام الكوني الرائع لا بد له من خالق.

لقد شرح (لابلاس) دليل الحركة الكونية، وأبان قوة هذا الدليل في جسم الشبهات التي يثيرها الجاحدون فقال "أما القدرة الفاطرة التي عينت جسامة الأجرام الموجودة في المجموعة الشمسية وكثافتها، وثبتت أقطار مداراتها، ونظمت حركاتها بقوانين بسيطة، ولكنها حكيمة، وعينت مدة دوران السيارات حول الشمس والتوابع حول السيارات بأدق حساب، بحيث إن النظام المستمر إلى ما شاء الله لا يعروه خلل..

هذا النظام المستند إلى حساب يقصر عقل البشر عن إدراكه، والذي يضمن استمرار واستقرار المجموعة إزاء ما لا يعد ولا يحصى من المخاطر المحتملة، لا يمكن أن يحمل على المصادفة إلا باحتمال واحد من أربعة تريوليونات، وما أدراك ما أربعة تريوليونات؟ إنه عدد من كلمتين، ولكن لا يمكن أن يحصيه المحصى إلا إذا لبث خمسين ألف عام يعد الأرقام ليلاً ونهاراً، على أن يعد في كل دقيقة (150) عدداً"

صحيح أن (لابلاس) أعلن قوله:

"إن العالم العظيم الذي سيتمكن من معرفة انتشار الذرات في السحب السديمية الأولية سيكون باستطاعته أن يتنبأ بكل مستقبل الكون وأحداثه"(1) .

ولكن قوله هذا لا يعني إنكاره للخالق، وإنما يدل على شعوره بأن الكون سائر وفق نظام مرسوم خاضع لسلاسل سببية متتابعة، يمكن التنبؤ باللاحق منها لدى معرفة السابق.

(1) من كتاب "الدين في مواجهة العلم"، تأليف وحيد الدين خان.

ص: 132

وأما ما نسبه (د. العظم) إليه من قوله لنابليون: "الله فرضية لا حاجة لي بها في نظامي" فلست أدري مبلغه من الصحة أمام قوله الذي قرأناه مما كتب بنفسه. وبكل أسف لم نجد لدى الناقد أثراً للأمانة الفكرية التي يتظاهر بالغيرة عليها.

يا عجباً لهذا الفريق الملحد من الناس، ترى أحدهم مريضاً بمرض السرطان الفكري الطاغي، ثم يتهم الأعضاء الرئيسية الأساسية في البناء الفكري الصحيح بأنها نمو سرطاني، وقديماً قال العرب في أمثالهم:"رمتني بدائها وانسلت".

(6)

وبعد أن حمل (د. العظم) النظرية النسبية ما لا تحمل، واستغل اسم (أينشتاين) لدعم قضية الإلحاد، متجاهلاً أنه كان مؤمناً بالله، ومؤيداً التفسيرات الغائية للكون، بمثل قوله:"إن الشخص الذي يعتبر حياته وحياة غيره من المخلوقات عديمة المعنى، ليس تعيساً فحسب، ولكنه غير مؤهل للحياة".

بعد هذا التضليل والتمويه والتجاهل الذي صنعه (د. العظم) خطا خطوة رفع فيها لواء تمجيد واضعي النظريات الموجهة خصيصاً لمحاربة المفاهيم الإسلامية، والقائمة أساساً على إنكار وجود الله تبارك وتعالى، من اليهود الذين تحملوا مهمة وضع هذه النظريات المناقضة للمفاهيم الإسلامية باسم العلم، وذلك بدفع من القيادة اليهودية العالمية، فأخذ يمجد بأسماء هؤلاء اليهود (دركهايم) و (فرويد) و (ماركس) فقال في الصفحة (39) من كتابه:

"حين نطرح المسألة بهذه البساطة وبهذا التحديد، يبدو أنه ثمة تناقض واضح بين النظرة الإسلامية الغائية للكون - كما سردها سماحة موسى الصدر - وبين النظرة العلمية، كما تبلورت مع تطور العلم الحديث وتقدمه. من يراجع تاريخ العلم الحديث يكتشف بسرعة أن واضعي دعائمه وفلاسفته شنوا حرباً لا هوادة فيها على إقحام العلل الغائية والمفاهيم الأخلاقية في التفسيرات العلمي لظواهر الطبيعة، ورفضوا النظرة الغائية للكون رفضاً باتاً، لأنهم اعتبروها من إنتاج خيال الإنسان

ص: 133

الأسطوري، ولأنها تعيق تقدم العلم، وانتشار تفسيراته للظواهر الطبيعية مهما كان نوعها، إننا نجد هذا التيار المعادي للنظرة الغائية منذ البداية، عند المفكرين والفلاسفة الذين رسخوا دعائم العلم الحديث، من فرانسيس بيكون، إلى برتراند رسل، مروراً بديكارت، وسبينوزاً، وغاليليو، وداروين، وبافلوف، ودركهايم، وفرويد، وماركس، إلى آخر القائمة الطويلة من الأسماء ".

هكذا، وعلى المستوى من التضليل الغوغائي، أو الحرب (الديماغوجية) وفق تعبيرات الملاحدة الماركسيين، يسير (العظم) في نقده للفكر الديني.

لقد سبق أن برهنا على أن جمهوراً كبيراً من علماء عصر النهضة العلمية الحديثة مؤمنون بالله، ومعترفون بالمفاهيم الأخلاقية التي نبَّه عليها الإسلام أو نادى بها، وذلك منهم انسجام مع النظرة الإسلامية الغائية للكون، ولا يرون في ذلك مخالفة للنظرة العلمية، وإذا استثنينا الملاحدة المعدودين من علماء النهضة العلمية الحديثة، واليهود المدفوعين خصيصاً لوضع النظريات التي تدعم قضية الإلحاد، أمثال دركهايم، وفرويد وماركس فإننا نجد معظم علماء النهضة العلمية الحديثة لا يجحدون الله، ولا ينكرون النظرة الغائية للكون، ولا ينكرون المفاهيم الأخلاقية، بل كثير منهم يؤيد هذه الحقائق ويؤمن بها، ولكن الملحد العميل الذي لا يؤمن بالعلل الغائية ولا بالمفاهيم الأخلاقية، لا يخجل من صناعة التمويه بالأكاذيب والتزويرات والتضليلات الجدلية، التي ليس لها أساس فكري سليم، ولا هي قائمة على احتجاج منطقي مقبول.

إنه يعرض أقواله على طريقة الحقائق المسلم بها، دون أن تقترن بحجج نظرية، أو بشواهد واقعية، ثم يزعم أنها حقائق مسلم بها عند العلماء، ويكتفي بعرض قائمة من أسماء الرجال المشهورين بالعلم والفلسفة، ويحشر في كل مرة أسماء اليهود، الذين وضعوا ما أسموه بنظريات علمية، ولا تزيد في حقيقة حالها على أنها فرضيات صيغت بعناية مقصودة لدعم قضية الإلحاد، ولا يستطيع أن يكتم تمجيدها، وتمجيد كتبهم، وما يسمى نظرياتهم، ولا يخجل وهو عربي العرق أو يبالغ بتأييد المخطط اليهودي العالمي، في هذا العصر الذي تعاني أمته

ص: 134

أقسى المحن وأشهدها من اليهودية العالمية، ومن مخططاتها الرامية إلى الاستيلاء على العالم العربي كله.

إنه لعجب كبير أن تبلغ الخيانة بإنسان ما إلى هذا الدرك الذي ليس من دونه درك أسفل منه.

لو كانت النظرة العلمية الحديثة تناقض أو تعارض النظرة الإسلامية الغائية للكون، لما وجدنا هذا الجمهور الكبير من علماء النهضة العلمية الحديثة مؤمنين بالله، وبتفسيرات النظرة الإسلامية الغائية للكون، وبالمفاهيم الأخلاقية الدينية.

وهذا واحد منهم وهو (أندرو كونواي إيفي) من العلماء الطبيعيين ذوي الشهرة العالمية من سنة (1925م) إلى سنة (1946م) يقول في مقال له تحت عنوان: "وجود الله حقيقة مطلقة":

"ويظهر أن الملحدين أو المنكرين بما لديهم من شك لديهم بقعة عمياء، أو بقعة مخدرة داخل عقولهم، تمنعهم من تصور أن كل هذه العوالم، سواء ما كان ميتاً أو حياً، تصير لا معنى لها بدون الاعتقاد بوجود الله".

ثم استشهد بكلام العلامة (أينشتاين)، إذ قال:

"إن الشخص الذي يعتبر حياته وحياة غيره من المخلوقات عديمة المعنى ليس تعيساً فحسب، ولكنه غير مؤهل للحياة".

أليس هذا التفكير الذي يعلن عنه هذا العالم ومن قبله (أينشتاين) تفكيراً قائماً على النظرة الغائية للكون، وعلى اعتبار القيم الأخلاقية؟

إن هذه النظرة الموافقة للنظرة الإسلامية لم تكن عند أصحابها مناقضة للأسس العلمية الحديثة، ولا للنظرة العلمية كما تبلورت مع تطور العلم الحديث وتقدمه، فمن أين (للعظم) وهذا الادعاء الكاذب؟!

إذا كانت هذه النظرة مناقضة لما يسمى بنظريات اليهود (دُركهايم - فرويد - ماركس) أو النظريات التي روجها اليهود كالنظرية الداروينية فلا بأس، إن هؤلاء أجراء المخطط اليهودي العالمي المعروف، وقد وضعوا مذاهبهم لهدم الأسس

ص: 135

الدينية، لا على أساس قناعات علمية صحيحة، وقد أصبح مخططهم مكشوفاً للعالم، وكتب في كشف مكايدهم محققون من العلماء المتتبعين.

أما ادعاء (العظم) بأن النظرة الغائية للكون والمفاهيم الأخلاقية تعيق تقدم العلم وانتشار تفسيراته للظواهر الطبيعية مهما كان نوعها، فهو ادعاء هراء، غير مستند إلى أي أساس نظري أو واقعي. إن الإيمان بالله لا يتعارض بحال من الأحوال مع أي تقدم علمي يُدرسُ فيه واقع حال هذا الكون، وما فيه من طاقات وقوى مشاهدة وغير مشاهدة، وما فيه من نظم وأسباب ظاهرة أو خفية، كما أن المفاهيم الأخلاقية تساعد على ما تقدم المعرفة من جهة، وعلى سعادة الإنسان من جهة أخرى، وضبط سلوكه فيما يحقق للأفراد وللجماعات أوفر نصيب من الخير العيش الرغيد.

ولكن الملحد يكتفي بإطلاق الادعاءات الكاذبة، دون دليل منطقي أو واقعي.

(7)

يحاول الناقد (العظم) كما رأينا الإقناع بنسف الأسس الأخلاقية من جذورها بينما يتظاهر في موطن آخر من كتابه بغيرته على المبدأ الأساسي لأخلاق الاعتقاد، فتعليقاً على بعض آراء (وليم جيمس) الذي رجح جانب الإيمان بالله استناداً إلى المشاعر الإنسانية الداخلية، التي ترجح جانب الإيمان على جانب الكفر، يقول في الصفحة (75) :

"هنا يثبت (جيمس) حق هذا الإنسان بأن يعتقد بوجود الله، استناداً إلى ما توحيه له طبيعته العاطفية حول هذا الموضوع، أي: بالنسبة لجيمس يحق له أن يحسم الأمر باللجوء إلى عواطفه ومشاعره، ضارباً بعرض الحائط المبدأ الأساسي لأخلاق الاعتقاد".

ويتظاهر بحرصه على مبدأ الأمانة الفكرية، وهو مبدأ أخلاقي، فيقول في الصفحة (21) :

ص: 136

"هل باستطاعتي أن أقبل بكل نزاهة وإخلاص المعتقدات الدينية التي تقبلها آبائي وأجدادي، دون أن أخون مبدأ الأمانة الفكرية؟ "

ويكرر تظاهره بالغيرة على الأمانة الفكرية فيقول في الصفحة (29) :

"هذا هو الحد الأدنى من متطلبات الأمانة الفكرية، في البحث الجاد عن المعرفة والحقيقة".

أليس هذا التهافت في كلامه من أعجب الأمور؟ كيف يسوغ لنفسه أن يقف مثل هذا الموقف الأخلاقي لمناصرة قضية الإلحاد والكفر بالله، وقد ذبح القيم كلها والمبادئ الأخلاقية جميعاً، وأعلن أنها أمور لا يعترف بها العلم - بحسب زعمه - ولا يقيم لها وزناً؟

سبق أن نقلنا كلامه في الصفحة (38) من كتابه، وفيه يقول:

"جلي أن هذه النظرة الإسلامية للكون هي نظرة غائية، تعتمد في تفسيرها لطبيعة الكون على العلل الغائية، والأهداف السامية، وعلى مفاهيم أخلاقية، مثل (الحق والعدل) . هل تنسجم هذه النظرة الغائية إلى الكون والحياة مع النظرة العلمية التي تسود العالم المعاصر وثقافته؟ لو رجعنا إلى التفسيرات العلمية للكون من (نيوتن) إلى (أينشتاين) هل نجد في صلبها مقولات مثل الأهداف السامية، أو الحق والعدل، أو الروح والجمال والخلق، هل نجد لهذه المفاهيم الأخلاقية الدينية أي ذكر في النظرية النسبية أو في ميكانيكا الكموم مثلاً؟ ".

فهو بهذا لا يعترف أصلاً بالمفاهيم الأخلاقية، ولا بالحق والعدل، ولا بالأهداف السامية، ولا بالروح والجمال والخالق، فما له وللدفاع عن الأمانة الفكرية؟ وما له وللغيرة على أخلاق الاعتقاد؟ إن كان يريد مناصرتها حقاً فليكن منسجماً مع نفسه على أقل تقدير، وليبق لنفسه من الأخلاق بقية يخاطب بها الناس.

إذا لم يكن للحق قيمة لديه فأين مكان الأمانة الفكرية إذن؟ أليست الأمانة الفكرية أمانة على الحق في جانب المعرفة؟ أليس إلغاؤه لمبدأ الحق خيانة لمبدأ

ص: 137

الأمانة الفكرية؟ وحينما يلغي مبدأ الحق فماذا يأتي بعده غير الباطل والضلال؟ فهل يطالب الأفكار الحرة بأن تكون أمينة على الباطل؟ وأي باطل هذا الذي يريد أن يحرص عليه؟ ألا يرى هذا تناقضاً شائناً مفضوحاً غير مستور بأي شيء؟ أين أخلاق الاعتقاد في موقفه هذا المتَّسم بالتناقض الصريح؟

ينسف الأخلاق كلها من جذورها، ولا يعتر بحق ولا عدل ولا أهداف سامية، ثم يتباكى على الأمانة الفكرية وأخلاق الاعتقاد، ليزين تباكيه هذا قضية الإلحاد والإباحية المطلقة التي يناصرها، ويبشر بها في المجتمع العربي المسلم، خدمة لأسياده الماركسيين، ومن ورائهم القيادة اليهودية العالمية، ما أعجب هذا من إنسان يحترم كرامة نفسه؟!

مادام قد نسف الأخلاق كلها من جذورها فأية أمانة لديه يعتمد عليها في نقل خبر، أو حكاية قول لإنسان، أو تقرير حقيقة من الحقائق العلمية؟

مادام هذا مذهبه فمن الطبيعي أن لا يوثق بشيء يقوله، لأنه إن صدق في واحدة أو أكثر فذلك ليغطي بها فرية يفتريها على الحقيقة، خبراً كانت أو معرفة علمية، وهذا ما يكتشفه الناظر في أقواله بأدنى تأمل، إنه حينما يبحث في العلم الحديث لا يعرض إلا أقوال الملحدين أمثاله، ويجعلهم الممثلين الوحيدين للركب الحضاري كله، وقد يعرض - كما رأينا - على سبيل التضليل بعض الأعلام الكبرى في ضمن ما يعرض من قائمة أسماء، تمويهاً بأن هؤلاء الأعلام الكبرى من مؤيدي قضية الإلحاد، مع أنهم في الواقع بخلاف ذلك.

وأي ناظر في كتابه يرى أنه جندي مطيع، يجعل من نفسه رأسه حربة في يد الماركسية واليهودية العالمية، لهدم كيان أمته، وتهيئة أرضها وأجيالها لاحتلال العدو احتلالاً شاملاً، يتناول الأفكار والنفوس والقوى المختلفة، والأرض والأموال وسائر الثروات والخيرات.

هذه هي الخطة اليهودية التي درسناها في كتبهم، والتي رأينا جملة كبيرة من تطبيقاتها في العالم.

والملاحدة الماركسيون كتبية من كتائب جنود التنفيذ لهذه الخطة اليهودية

ص: 138

العالمية الكبرى، التي غدت من الحقائق المكشوفة جداً، بعد أن كانت مستورة عن كثير من أعين الجماهير.

إنهم مجندون في صف العدو، ولكنهم مخالطون مداخلون، يحتلون مواقع ضمن الصفوف، وهم يتحينون الفرص للانقضاض على أمتهم خدمة لأسيادهم الشياطين.

إنني لأعجب كل العجب من هذه الحرب المستعرة على فكرة الإيمان بالله تعالى، وعلى المبادئ والقيم الأخلاقية، وعلى الفضائل الإنسانية، وعلى الحق والعدل والأهداف السامية، وعلى الروح والجمال والخالق، وعلى التفسيرات الغائية للكون والحياة، فماذا تضر البشرية هذه الأمور من وجهة نظرهم؟

إن هذه المبادئ التي ينادي بها الدين من شأنها أن تكف يد الجريمة في الناس، وتخفف من شرورهم، وتجلب للإنسانية نفعاً عظيماً، ولكن القيادة المجرمة الخفية في العالم تخسر بنشر هذه المبادئ وتطبيقها جنوداً كثيرين تستطيع أن تجندهم عن طريق الإلحاد والإباحية المطلقة، ولا تستطيع أن تجندهم عن طريق الإيمان والتزام المفاهيم الأخلاقية.

لذلك فإن وسيلتهم الوحيدة لتجنيد جيوشهم المجرمة، هي أن ينشروا الإلحاد والإباحية أولاً، ثم ينتقوا جنودهم من هذا الوسط الإلحادي الإباحي، ليدفعوا بهم إلى ارتكاب الجرائم الإنسانية الكبرى، وبذلك يحقق المجرمون المستورون أهدافهم في السيطرة على العالم.

(8)

نظرت في مناقشته لبحث الفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس) الذي كتبه تحت عنوان: "إرادة الاعتقاد"، فرأيت أن (وليم جيمس) تعرض في بحثه إلى حق الإنسان المفكر بالاعتقاد بوجود الله، ولو لم تكن البينات العلمية والأدلة العقلية كافية بحد ذاتها للبرهان على وجود الله أو عدم وجوده، نظراً إلى أن عواطف

ص: 139

الإنسان ومشاعره ترجح جانب الإثبات، كما أن الإنسان يجد نفسه بين موقفين:

1-

فإذا هو أنكر الله وجحده وكان الواقع بخلاف ذلك فإنه يعرِّض نفسه لخسائر كبرى.

2-

وإذا هو آمن به وكان الواقع بخلاف ذلك فإنه لا يخسر شيئاً.

واستنتج من ذلك أن موقف الإيمان على هذا موقف لا خسارة فيه مطلقاً، مع وجود احتمال اغتنام أرباح كثيرة منه، وأما موقف الإلحاد على هذا أيضاً فهو موقف لا ربح فيه مطلقاً، مع وجود احتمال تكبد خسائر كبرى.

وبمقارنة هذين الموقفين يترجح موقف الإيمان على موقف الإلحاد قطعاً، ويكون من حق الإنسان أن يؤمن في مقياس العقل.

ثم بلغ مني العجب مداه حين رأيت الناقد (د. العظم) يناقش بحث (جيمس) مناقشة مشحونة بالمغالطات التي تأتي ببعض العبارات الفلسفية، وليس فيها من الفلسفة الصحيحة شيء، وتستخدم العبارات العلمية، وليس فيها من العلم الصحيح شيء، جلَّ ما فيها سفسطة، ومغالطات، وخطابيات، وتقريرات، وكلها لا تملك من الأدلة شيئاً حتى أضعفها.

هذا على الرغم من أن (وليم جيمس) لم يقدم لقضية الإيمان إلا أضعف الأدلة، وهو الدليل الذي صاغه الشاعر العربي الفيلسوف بقوله:

قال المنجم والطبيب كلاهما *** لا تُبعث الأجساد، قلت: إليكما

إن صحَّ قولكما فلست بخاسر *** أو صحَّ قولي فالخسار عليكما

وهذا هو الدليل الثاني الذي طرحه مؤمن آل فرعون، في مناقشة لهم حول دعوة موسى عليه السلام، وقد حكى القرآن ذلك عنه بقول الله تعالى في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول) :

{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ

ص: 140

صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * ياقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلَاّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} .

فهذا الرجل المؤمن من آل فرعون عرض عليهم أولاً دليل البينات التي جاء بها موسى، ثم تنازل معهم إلى مستوى آخر لا يستطيعون أن يرفضوه إذا هم رفضوا البينات، فقال لهم {وإن يك كاذباً فعليه كذبه} ، أي: فإنكم لا تخسرون شيئاً إذا تركتم موسى وشأنه فيما لو كان كاذباً {وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم} ، أي: فإنكم تخسرون كثيراً بتكذيبه ومقاومة دعوته فيما لو كان صادقاً، فالمنطق الحق يرجح الأخذ باحتمال صدقه على احتمال كذبه، لأن الأخذ باحتمال الصدق يدفع عنكم احتمالات الخطر دون أن تخسروا شيئاً، أما الأخذ باحتمال الكذب فإنه قد يعرضكم للخطر دون أن تخسروا شيئاً، أما الأخذ باحتمال الكذب فإنه قد يعرضكم للخطر دون أن تجنوا شيئاً من الربح، وهذا منطق عقلي يصح الاستناد إليه والاعتماد عليه، في كل الأمور التي يجد الإنسان نفسه فيها بين موقفين متكافئين نظرياً، إلا أن الأخذ بأحدهما فيه السلامة بصفة قطعية مع احتمال الربح، أما الآخر ففيه احتمال عدم السلامة مع الخسارة، وهذا هو أضعف الأدلة المرجحة.

ويُطرح هذا الدليل عند آخر مرحلة من مراحل النقاش الذي يرفض فيه الملحد أدلة الإيمان الكثيرة، ويعلن تشككه بها، أو يطرح في أول مرحلة من مراحل النقاش، لتوجيه النفس إلى منطقة الإيمان منذ الانطلاقة الفكرية الأولى، ثم تطرح من بعده الأدلة والبينات الأخرى، فهو إما دافع إلى النقلة الأولى التي تتجاوز منطقة الشك المطلق، وإما ممسك بالنفس في منطقة الإيمان قبل أن تنزلق إلى منطقة الشك المطلق.

ولست أدري كيف بلغ (العظم) هذا المستوى الذي نراه في كلامه من ضعف الإدراك لأصل الموضوع، حينما ناقش (جيمس) حول هذا الدليل.

فهو ينقل بعض أقوال (وليم جيمس) ثم يعلق عليها تعليقاً عجيباً، يدلُّ على

ص: 141

ضعف إدراكه للمشكلة، أو استهانته بقارئي كتابه استهانة بالغة، إذ يحاول تضليلهم حتى في البدهيات، انظر هذا المقطع من الصفحتين (76) و (77) من كتابه:

"وهنا يدافع (جيمس) عن نفسه قوله:

1-

لا يمكننا أن نعلق الحكم إلى الأبد في موضوع الاعتقاد بوجود الله لأننا بذلك قد نتجنب الوقوع في الخطأ إذا لم يكن الإله موجوداً، ولكننا سنخسر فائدة كبرى فيما لو كان موجوداً".

ويعلِّق على كلام (جيمس) هذا بقوله:

" في الواقع أن (جيمس) يسيء فهم المشكلة: فالمسألة لا تتعلق بالفائدة الدنيوية أو الأزلية التي قد أجنيها من اعتقادي بالله، وبالخسارة المماثلة التي قد أتكبدها من عدم اعتقادي به إذا كان موجوداً. المشكلة أصلاً لا تمت بصلة إلى حساب الأرباح والخسائر، ولا علاقة لها بعقلية الرهان والمجازفة. المشكلة بكل بساطة هي: هل القضية "الله موجود" قضية صادقة أم كاذبة، أم أن صدقها جائز جواز كذبها، وليس لدينا أدلة أو بينات ترجح أياً من هذين الاحتمالين على الآخر؟ يجب أن ينسجم موقفنا الشخصي من قضية وجود الله انسجاماً تاماً مع جوابنا على هذا السؤال، لا مع حساب الخسائر والأرباح".

يا عجباً له ولهذا المنطق الأعور، من منهما يسيء فهم المشكلة (جيمس) أو (العظم) ؟

كيف لا تتعلق المشكلة بالفائدة الدنيوية أو الأزلية التي قد أجنيها من اعتقادي بالله، وبالخسارة المماثلة التي قد أتكبدها من عدم اعتقادي به إذا كان موجوداً؟

إنها مشكلة وجودي وحياتي وسعادتي ومستقبلي، أفلا أبحث عنها؟ أفلا أضعها في الحساب؟ أفأعرض وجودي كله وسعادتي كلها للخطر، دون أن يكون لي في الموقف الذي أتخذه أي ربح، أو أية فائدة؟

هل أتعامل مع أرقام في مسألة رياضية لا علاقة لي بها؟

إنها قضية حياة، قضية سعادة، قضية مصير، إن اللعب فيها لعب بالنار.

ص: 142

هل يفعل (العظم) مثل هذا في مشكلاته الحياتية المصيرية، من أمور معاشه أو صحته ومرضه أو سلامته وتهلكاته أو تجارته واستمثاراته؟ أو نحو ذلك.

إنه هو الذي يسيء فهم المشكلة، أو هو الذي يفسد تصويرها، لتضليل المراهقين فكرياً ونفسياً.

حينما حاول تحديد المشكلة أخذ يهرف في تصويرها، كأنها قضية لا علاقة للباحث بها من قريب ولا من بعيد، فقال:

"المشكلة بكل بساطة: هل القضية (الله موجود) قضية صادقة أم كاذبة؟ أم أن صدقها جائز جواز كذبها؟ ".

ثم قال:

"يجب أن ينسجم موقفنا الشخصي من قضية وجود الله انسجاماً تاماً مع جوابنا على هذا السؤال، لا مع حساب الأرباح والخسائر".

فمن أين له أن يلقي هذه التقريرات المخالفة للحقيقة وللبديهة العقلية دون أي دليل؟ أهو يبحث عن قضية في مجاهيل الجزر البحرية التي لا علاقة له بها؟ حتى يقرر أن المشكلة أصلاً لا تمت بصلة إلى حساب الخسائر والأرباح.

يبدو أنه قد بلغ من السخف الفكري مداه، حين انتقد (وليم جيمس) في ترجيحه جانب الإيمان على جانب الإلحاد، بمرجِّح احتمال الربح الذي لا يقابله احتمال خسارة، بينما رجح (العظم) جانب الإلحاد بدون مرجح مطلقاً، مع قيام مرجح احتمال الخسارة في جانب الإلحاد، ومرجح احتمال الربح في جانب الإيمان، وكلاهما لصالح قضية الإيمان، إلا أنه ألغاهما من الحساب اعتباطاً وحماقة، وزعم أنه لا علاقة لهما أصلاً بالقضية.

أليس هذا تضليلاً يمكن أن يدركه أي ناظر بالبداهة؟

لقد حاول (العظم) طمس جوانب المنطقية في دليل (جيمس) بالمراوغة والمغالطة، وتصدى لنقد أصوله المقبولة فكرياً بسفسطات مرفوضة بداهة.

ص: 143

لقد كان (جيمس) منسجماً مع المنطقية السليمة، ومع البحث عن سلامته وسعادته ومصيره، على فرض أنه لا توجد إثباتات كافية أو بينات علمية تبرهن على وجود الله أو عدم وجوده، فقد رأى أن الأخذ بجانب الإيمان أرجح، استجابة لنداء الفطرة من جهة، وطلباً للسلامة من جهة أخرى، وذلك لأن تعليق الحكم إلى الأبد في موضوع الاعتقاد بوجود الله جُلُّ ما فيه أنه قد يُجَنِّبُ الوقوع في الخطأ إذا لم يكن الإله موجوداًَ، لكنه يوقع في خسارة عظيمة (هي الشقاء الأبدي) فيما لو كان موجوداً، فهل يجازف العاقل بحياته وسعادته الأزلية دون مقابل، ولمجرد وقوف جامد حائر.

أما اختيار سبيل الإنكار والكفر بالله فإن (جيمس) يراه اختياراً متعنتاً لجانب لا دليل عليه مطلقاً، وليس فيه استجابة لنداء الفطرة، وفيه مخاطرة حمقاء توقع الإنسان في احتمالات خسارة كبرى وشقاء أبدي.

أما (العظم) فمنهجه السوفسطائي الديماغوجي اللامنطقي أن يبيح لنفسه أن يقول ما يشاء، دون ضابط عقلي أو علمي أو أخلاقي.

فالحقيقة الظاهرة يقول عنها دون مبالاة أو اكتراث: إنها غير موجودة.

والأوهام المفتراة يقول عنها بجزم وتأكيد: إنها حقائق ثابتة.

ومنهجه الجدلي أن يبيح لنفسه أن يغالط كما يشاء، وأن يزيف أي شيء يريد تزييفه، وأن يلبس أثواب الزور، فيرتدي أردية البحث العلمي، وكلامه مناقض للبحث العلمي، ويحمل شعار الأمانة الفكرية وأخلاق الاعتقاد، وهو في حرب ضروس ضد الأمانة الفكرية وأخلاق الاعتقاد وسائر الأخلاق والقيم.

انظر هذا المقطع الثاني من نقده لبحث (وليم جيمس) لترى ما حشر فيه من مغالطات، يقول في الصفحة (77) من كتابه:

"2- يقول جيمس في دفاعه عن نفسه: إن الإنسان الذي يعلق الحكم في موضوع وجود الله يرضخ بذلك إلى تخوفه من الوقوع في الخطأ والوهم، بينما كان الأحرى به أن يعتقد بوجوده تمشياً مع أمله في أن يكون اعتقاده صادقاً".

ص: 144

ويعلق العظم على قول (جيمس) هذا بقوله:

"ولكن جيمس مخطئ، لأن خوفنا من الوقوع في الخطأ أهم بدرجات من أملنا في العثور على الحقيقة، أو من رجائنا في أن يكون اعتقادنا صادقاً".

هكذا يقرر (العظم) ثم يأتي بما زعم أنه دليل، ولكنه لو لم يأت به لكان أستر له، إنه يقول في دليله الذي ساقه:

"ذلك لأن عدد الأخطاء التي يمكن أن نقع بها غير متناه، أما الحقيقة فواحدة، وبما أن احتمالات الوقوع في الخطأ أكبر بكثير من احتمالات العثور على الحقيقة، أو احتمال الوقوع على الاعتقاد الصادق، لذلك يضطر الإنسان لأن يضع ضوابط صارمة وحازمة في بحثه عن المعرفة، أملاً منه في أن يخفض احتمالات الخطأ إلى أقل حد ممكن. وبالرغم من ذلك يظل عدد هذه الاحتمالات مخيفاً".

ولا بد أمام هذا الكلام (العظمي) من إلقاء ضحكة سخرية، وذلك لأنه وضع الأشياء التي في غير مواضعها، وذكرني بقصة طالب غبي يحفظ بعض المسائل النحوية والصرفية واللغوية، سأله الممتحن أول ما سأله ما اسمك؟ فقال له: الاسم على أقسام: منه علَمَ، والعلم مرتجل ومنقول، وهو علم شخصي وعلم جنسي، ومنه معارف أخرى غير علم، ومنه نكرة، والنكرة قد تكون اسم جنس، وقد تكون اسم جنس جمعي، وفي باب النداء قد تكون النكرة نكرة مقصودة، وقد تكون نكرة غير مقصودة، ومعاجم اللغة قد جمعت المفردات اللغوية وبينت معانيها، سواء ما كان منها اسماً أو فعلاً، وفيها مئات الألوف من الكلمات، وسار على هذا المنوال في السرد الغبي.

و (العظم) ظن نفسه في مثل صحراء واسعة يبحث فيها عن دينار، واحتمالات الخطأ فيها لا نهاية لها، ونسي أنه في موضوع يتردد بين احتمالين فقط، لا ثالث منهما، أحد هذين الاحتمالين هو أن الله موجود وحق، والاحتمال الثاني هو الاحتمال المناقض له، ولا شيء وراء هذين الاحتمالين، فالقضية كمن جاءنا فقال: في وسطي حزام ناسف، وهنا لا بد أن نكون أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن نرجح احتمال الصدق فنأخذ حذرنا، وإما أن نرجح الاحتمال الآخر فنورط أنفسنا في احتمال الخطر.

ص: 145

و (جيمس) رجح احتمال الإيمان على نقيضه فقط، وليس على احتمالات لا حصر لها.

فمن أين (للعظم) أن يغالط هذه المغالطة المفضوحة؟

من أين جاء بقصة عدد الأخطاء التي لا نهاية لها في موضوع ليس فيه إلا احتمالان متناقضان فقط؟

إنها قصة في البحث العلمي، ولكن ليس هذا مكانها، إنه يضع الأشياء في غير مواضعها، إما على سبيل الجهل واختلال الموازين المنطقية لديه، وإما على سبيل المغالطة واستغفال القارئ والتغرير به، ولكن أي قارئ حصيف قادر على كشف هذا الزيف الذي صنعه.

وبعد هذا التزييف المقصود الذي أراد به السفسطة والمخادعة، ظن أنه ملك ناصية حجة متينة وبلغ ما يريد من تهديم للأبنية الفكرية الإيمانية فقال في الصفحة (77) .

" لا شك إذن أنه - خلافاً لرأي جيمس - من الحكمة أن نخاف من الوقوع في الخطأ أكثر بكثير من أن نتسرع في الانصياع مع أملنا في العثور على الاعتقاد الصحيح والصادق، خصوصاً قبل تصفية احتمالات الخطأ إلى أدنى حد ممكن، عن طريق التفكير العلمي ومنهجه المعروف ".

وهنا نلاحظ أنه قد يكون دارساً لمنهج التفكير العلمي، ولكن لا يعرف مواضع تطبيقه، والأعجب من ذلك أنه يأخذ لنفسه بالاحتمال المقابل، دون أن يناقش نفسه بما ناقش به (جيمس) ، وهذا يدل على أنه يغالط ويراوغ، ويجادل بالباطل.

لقد أثبت هذا الملحد على نفسه وعلى طرائق الملحدين صوراً فيها الكثير مما يضحك العقلاء، إن كان يستهين بمنطق القراء ومدى ثقافاتهم فليعلم أن صغار المثقفين الإسلاميين قادرون على كشف مغالطاته وتزييفاته.

لقد تجاوز في صنيعه قواعد التفكير العلمي ومنهجه المعروف، ومشى في صحرائه التائهة يتغنى بقول الشاعر:

ص: 146

سارت مشرِّقة وسرتُ مغرباً *** شتان بين مشرِّق ومغرِّب

ثم بعد أن ظن أنه قد قرر النتيجة المفحمة قال:

" حتى لو كان الاعتقاد الذي تقبلناه عن طريق العاطفة والميول صادقاً وصحيحاً بمحض المصادفة، فلن يكون له قيمة، لأن شأن هذا الاعتقاد هو كشأن الوصول إلى المال عن طريق السرقة، عوضاً عن طريق العمل الشريف. أي: إننا وصلنا إلى هذا الاعتقاد الصادق بطريق غير مشروعة، ولا يمكننا أن نقيم مبادئ عامة للوصول إلى آراء مدروسة على أساس المصادفة ".

ونحن لا نريد أن نعلق على هذه المناقشة الضعيفة الواهنة كثيراً، لأن موضوعنا لا يهمنا، باعتبار أن قضية الإيمان بالله وتعالى وبما جاءنا عنه، هي بالنسبة إلينا قضية علمية، توصلنا إليها بالمنطق السليم، والحجة الدامغة، والبرهان القاطع، ولا شأن لنا بمن أنكرها أو أغمض بصيرته عنها.

ولكن ننتقد هذه المناقشة من وجهين:

الأول: ما أسماه بالمصادفة التي قد توصل الإنسان إلى الاعتقاد الصحيح الصادق، قد شبهه بكسب المال عن طريق السرقة، عوضاً عن طريق العمل الشريف، وكان منطق التشبيه يقضي عليه بأن يشبهه بالعثور على منجم في جبل، أو لُقَطَةٍ في صحراء، أو كنز لا مالك له.

على أن القضية بالأساس ليست من قبيل المصادفة، إنما هي من وجهة نظر (جيمس) ترجيح قائم على نظر صحيح، يحق للإنسان معه أن يتخذ مذهباً.

يضاف إلى هذا أن الإلحاد الذي تمسَّك به (العظم) وأضرابه، هو الذي يصح أن يوصف بأنه عمل غير مشروع، إلا سند لمذهب الإلحاد مطلقاً، فلا يوجد دليل ولا شبه دليل يدعمه، بل فيه رفض لأدلة الإيمان المثبتة، أو لأدلته المرجَّحة على أدنى المستويات، كالدليل الذي اعتمد عليه (جيمس) .

الثاني: كان الأحرى بالعظم أن يطبق على مذهبه الإلحادي قوله:

"ولا يمكننا أن نقيم مبادئ عامة للوصول إلى آراء مدروسة على أساس المصادفة".

ص: 147

إنه يمنع الأخذ بالمصادفة في مجال البحث النظري للوصول إلى أفكار صحيحة، ويقبل مبدأ وجود الأحداث الكونية وتغيراتها وقوانين الطبيعة كلها والإنسان وعقله الذي يفكر فيه على أساس المصادفة.

هذا مع أننا من وجهة نظرنا الإسلامية لا نقبل أن تكون المصادفة أساساً لإقامة عقائد وآراء ومفاهيم، ولا لقيام أحداث كونية كبرى ذات نظم محكمة، وقوانين ثابتة، ومن عثر مصادفة على رأي صحيح أو اكتشاف علمي، فإننا لا نقبله منه ما لم يدعمه بعد المصادفة بالأدلة الكافية، أو بالتجربة الصحيحة القابلة للإعادة والتكرار.

ثم يختم (العظم) نقده لبحث (وليم جيمس) بقوله:

"في معرض نقدنا لرأي (جيمس) يجب أن نذكر أن المفكر الذي لا يعتقد بوجود الله، أو يعلق الحكم حول الموضوع بأسره، قد لا يفعل ذلك من جراء تكوينه العاطفي، باعتبار أنه ربما كان بطبيعته العاطفة أميل إلى الاعتقاد منه إلى الرفض. إنه يفعل ذلك لأن القناعات الفكرية التي تشكلت لديه على أسس علمية واضحة لا تسمح له بأن يعتقد بوجود الله دون أن يقع في تناقض ذاتي، ودون أن يضحي بوحدة تفكيره ومنطقه".

في كلامه هذا اعتراف ضمني بدليل الفطرة التي تهديه وتنزع به إلى الإيمان (فطرة الله التي فطر الله عليها) ولكنه يكبت فطرته بأوهام الجحود والإنكار، وبما أسماه من قناعات، وهي لا تزيد على أنها مواقف عنادية، مشحونة بالأكاذيب والمغالطات والسفسطات الجدلية. ففي كل أقواله وجدلياته، وفي كل ما ساقه من أقوال لأساتذته، لم نجد ما يولِّد أية قناعة لباحث عن الحقيقة صادق في بحثه.

والسفسطة والمغالطة والكذب لا تشكل له عذراً مقبولاً بين يدي ربه، حينما يأتي ذليلاً حقيراً لا يملك شيئاً.

أما زعمه بأن المؤمن بالله لا تسمح له القناعات الفكرية بأن يعتقد بوجود الله دون أن يقع في تناقض ذاتي، ودون أن يضحي بوحدة تفكيره ومنطقه، فزعم لم يقم عليه دليلاً في كل ما كتب، وإنما ألقاه كلاماً تقريرياً خالياً من أية حجة صحيحة،

ص: 148

وما ساق من جدليات مختلفة لم يحتوِ على شيء مما يدعم بصدق هذا الزعم، أو يقدم لصاحبه عذراً فكرياً مقبولاً عند الله أو عند العقلاء من الناس.

ثم لا يقتصر على الاعتراف الضمني بوجود الفطرة النزاعة إلى الإيمان، بل يرتقي إلى الاعتراف الصريح بوجود الشعور الديني في الفطرة الإنسانية، ولكنه لا يحاول أن يجد طريقاً لتنفيس هذا الشعور وتلبيته بألوان من التعويض الذي لا يسد مسداً صحيحاً، أو بلون من ألوان الوثنية.

يقول في الصفحة (78) من كتابه:

" هذا لا يعني أنني أريد نسخ الشعور الديني في تجارب الإنسان من الوجود ".

أي: ما سبق في كلامه من توجيهه حربه الشعواء على الدين، لا يعني أن الشعور الديني غير موجود بصفة أصيلة في الفطرة الإنسانية بل هذا الشعور موجود، وهو ينزع في داخل النفس الإنسانية نزوع الدوافع الفطرية الأصيلة، التي تتطلب تلبية نفسية وروحية ومادية، وتلبية هذا الشعور يكون بالإيمان والعبادة.

لكن (العظم) يعترف بوجود هذا الشعور الديني، ويحاول عزله عن التلبية الصحيحة، إذ يُغرية بأوهام لا تُلبي دوافعه تلبية صحيحة، فيصرفه عن عبادة الله الحق إلى أوهام عبادات وثنية مختلفة يخترعها له، كعبادة الجمال، أو عبادة البحث عن الحقيقة، أو عبادة الأهواء والشهوات، أو عبادة مطالب الحياة والأعمال المؤدية إليها، ويلحق بذلك عبادة القادة والأسياد، وعبادة الأحزاب، وعبادة الشياطين.

وفي هذا يقول متابعاً كلامه:

"يجب تحرير هذا الشعوب الديني من سجنه، ليزدهر ويعبر عن نفسه بطرق ووسائل مناسبة للأوضاع والأحوال التي نعيشها في حضارة القرن العشرين. لذلك علينا أن نتنازل عن الفكرة التقليدية القائلة بوجود شيء كحقيقة دينية خاصة، وأن نوجه اهتمامنا نحو الشعور الديني المتحرر من هذه الأعباء والأثقال".

إنه بهذا يريد أن يُرجع الناس إلى الجاهلية الأولى، وإلى عبادة الأوثان، وبعد

ص: 149

أن حاول صرف الشعور الديني عن الله جلَّ وعلا، وتوجيهه للوثنيات المادية والخيالية قال:

"وقد يتمثل الشعور الديني بهذا المعنى في موقف الفنان من الجمال، أو في موقف العالم من البحث عن الحقيقة، أو في موقف المناضل من الغابات التي يعمل لتحقيقها، أو في موقف الإنسان العادي من أداء واجباته الحياتية واليومية".

لقد كان بإمكانه أن يعبد الله وحده وهو في هذه المواقف كلها، لأن عبادة الله بمعناها الواسع تتمثل في كل عمل أو تصور أو عاطفة، مما أذن الله به إذا ابتغى به الإنسان مرضاة الله تعالى، لكنه - وكذلك سائر الملحدين - يكرهون الخضوع لمن خلقهم، ويلذ لهم أن يخضعوا لخلقه.

إن الدين ومشاعره والدوافع إليه حقائق مغروزة في الفطرة الإنسانية، لا يملك أي إنسان نسخها من الواقع الإنساني، مهما حاول التضليل في الأمر، وفي حال كبتها يعيش الإنسان ضائعاً قلقاً مضطرب المشاعر، ذا حاجة أصيلة في نفسه، وهذه الحاجة محرومة من التلبية الصحيحة.

في كل إنسان إحساسات فطرية صادقة، تنزع به إلى الإيمان بوجود خالق لهذا الكون كله، ومشاعر فطرية صادقة تتوجه نحو هذا الخالق العظيم بالدعاء، وبطلب المعونة والإمداد الدائم، وتتوجه إليه بالخشوع والإجلال والحب، وحاجات فطرية أصيلة لعبادته والتماس الصلة به، وهذه الإحساسات والمشاعر الفطرية تشترك بالإحساس والشعور بها جميع الخلائق المدركة، على اختلاف نزعاتها، ومستويات ثقافاتها، في البيئات البدائية، وفي المدن المتحضرة، وفي منتديات المثقفين، وفي قاعات العلوم والفنون والمختبرات.

إنها صبغة الله، وفطرته التي فطر الناس عليها، هذه حقيقة بيَّنها الله بقوله في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ}

وبقوله في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) :

ص: 150

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .

ولكن قد نجد هذه الفطرة مغشى عليها في نفوس بعض الملحدين، ولهذا الغشاء سبب، فالفطرة هذه لا تنطمس إلا في نفس من بالغ في الانحراف من الناس، بدافع غير أخلاقي، كالكبر والعناد، أو الرغبة بالفجور، والانطلاق في الأهواء والشهوات، مع التهرب من مشاعر العدالة الإلهية، وملاحقة الضمير الديني للسلوك. أو في نفس مُضلَّلٍ لعبت بأفكاره وعبثت بشهواته شياطين الإنس، من ذوي المصلحة الأساسية في نشر الإلحاد والكفر بالله في الأرض. ولكن المشاعر الفطرية لدى هؤلاء وأولئك تظل مكبوتة محرومة من التلبية وتنفيس الكرب الذي يتولد عن الكبت، ثم تحاول التنفيس بطرق غير طبيعية، وهذا التنفيس يظهر في صورة هيستيريا عصبية انفعالية، مع الفن تارة، ومع الخمر والمخدرات تارة أخرى، ومع الانتحار أحياناً، ومع (الهيِّيَّة) أحياناً أخرى، وفي جنون الحرب، وفي جنون الانعزالية والانطوائية، وفي جنون العظمة وادعاء الربوبية، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

ومع ذلك فإن هذه الفطرة فقد تتيقظ في نفوس أعتى الكفرة والملاحدة المجرمين، وذلك حينما تشتد عليهم مصائب الحياة، ويقعون في مخاطر محدقة بهم، ولا يجدون وسيلة مادية لدفعها، وهذا ما حصل لفرعون حينما أدركه الغرق فقال:"آمنت برب موسى وهارون آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل".

وهذه صورة تتكرر في حياة الإنسان، كلما أحاطت به شدة لا يجد وسيلة مادية لتفريجها، وقد كشف الله عنها بقوله في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :

{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً}

وكشف عنها سبحانه بقوله في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) :

ص: 151

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّو?اْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .

هذا هو واقع الفطرة الدينية في النفوس الإنسانية، إلا أن الملحد (العظم) حاول تحويل هذه الفطرة عن الإيمان بالله وعبادته، إلى الإيمان بالمادة وعبادتها، بتوجيه المشاعر الدينية الفطرية نحوها، فبعد أن قال:

"لا أريد نسخ الشعور الديني في تجارب الإنسان من الوجود".

قال:

"ولكن أرى من الضروري التمييز بين الدين وبين الشعور الديني، ذلك الشعور المسحوق تحت عبء المعتقدات الدينية التقليدية المتحجرة، وتحت ثقل الطقوس والشعائر الجامدة".

يبدو أنه يلقي ما في فكره ونفسه من تحجر وجمود على المعتقدات الإسلامية والشعائر الدينية، حسبه جموداً وتحجراً أنه يرفض الحق المدعم بالأدلة الواضحة، ويكابد ويكدح وراء أوهام وخيالات لا دليل عليها.

يريد أن يجعل بدل الصلاة مثلاً (رقص الباليه) ، وبدل الحج إلى بيت الله الحرام الحج إلى محنط (لينين) ، وبدل ارتياد المساجد ارتياد المواخير والحانات، وبدل عبادة الله عبادة الأوثان والأشخاص، ليتخلص من الشعائر الدينية الجامدة بزعمه.

وإنني غيرة عليه - وعلى كل كافر بالله ملحد - أنصحه بأن يرتدع عن غيه، قبل أن ينزل الله به نقمته، ببلاء لا ينقذه منه أحد إلا الله.

إن ربك لبالمرصاد، وإنه لشديد العقاب، وإنه سبحانه يمهل ليفتح طريق

ص: 152

الرجعة إليه والتوبة والاستغفار، ولا يهمل، إنه يملي للكافرين، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وليسمع قول الله تعالى في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) :

{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} .

وقوله سبحانه في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول) :

{فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} .

*

*

*

ص: 153