الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
صراع من أجل قضية الإيمان باليوم الآخر والفكر الدّيني الصّحيح حَوْلها
(1)
اعتمد الناقد (د. العظم) في إنكار الآخرة، والبعث بعد الموت للحساب والجزاء على أقوال (برتراند رسل)(1) ، وزعم أن أقواله تلخيص للنظرة العلمية حول هذا الموضوع، مع أن (رسل) لم يقدم في كلامه إلا مجرد النفي الذي لا تدعمه أدلة علمية، ومعلوم أن النفي المجرد عن الأدلة المصححة للنفي يستطيع أن يفعله أي إنسان، إذ يستطيع أن ينفي به أية حقيقة من الحقائق، فهو لا يكلف صاحبه إلا أن يقول:(لا) ، أو يرفع رأسه إلى أعلى إشارة للنفي، لكنه بذلك يخسر أصل إنسانيته التي زانها العقل السليم، والمنطق المحاكم للأمور بميزان مستقيم.
قال (العظم) في الصفحة (27) من كتابه:
"وفي مناسبة أخرى عندما سئل (رسل) : هل يحيى الإنسان بعد الموت؟ أجاب بالنفي، وشرح جوابه بقوله: عندما ننظر إلى هذا السؤال من زاوية العلم وليس من خلال ضباب العاطفة نجد أنه من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت. فالاعتقاد السائد بأننا نحيا بعد الموت - يبدو لي - بدون أي مرتكز أو أساس علمي. ولا أظن أنه يتسنى لمثل هذا الاعتقاد أن ينشأ وأن ينتشر لولا الصدى الانفعالي الذي يحدثه فينا الخوف من الموت. لا شك أن الاعتقاد بأننا سنلقى في العالم الآخر أولئك الذين نكنُّ لهم الحب يعطينا أكبر العزاء عند موتهم، ولكنني لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا، فليس لنا أي حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً لعواطفنا وآمالنا، ولا أحسب أنه من الصواب والحكمة أن نعتنق آراء لا تستند إلى أدلة بينة وعلمية".
(1) سيجد القارئ دراسة لهذا الفيلسوف الملحد في الفصل (السابع) من هذا الكتاب.
لا بد أن نضع هذا الكلام للفيلسوف الإنكليزي الملحد تحت مناظير البحث المنطقي والعلمي، لنرى قيمته من الوجهة العقلية والعلمية.
ليس غريباً على (رسل) بعد أن اختار سبيل الإلحاد بالله، واعتبار الكون ظاهرة مادية بحتة، على خلاف ما قدمته الأدلة العلمية والعقلية في هذا المضمار، أن يصعب عليه - في الإطار المادي البحت - اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت.
وليس غريباً عليه بعد ذلك أيضاً أن لا يجد لعقيدة الحياة بعد الموت، وعقيدة الدار الآخرة للحساب والجزاء، مرتكزاً علمياً يستند إليه.
نعم، إن من ينكر حياة كائن ما بغير دليل يجد من الصعب عليه أن يكتشف المبرر العقلي لوجود إرادة لهذا الكون، لأن إرادته فرع لتصور حياته، وبعد إنكار الأصل يكون إنكار الفرع شيئاً طبيعياً، ومذهباً سهلاً، لكن هذا الإنكار لا يعبر عن الواقع بحال من الأحوال.
إن الإيمان بالحياة بعد الموت للحساب والجزاء في دار غير هذه الدار قضية خبرية، أي: ذات مستند خبري، وليست قضية عقلية بحتة حتى نَبْحث في نطاق العقل عن دليل يدلُّ عليها دون الاستناد إلى الإيمان بالله. فلو أن عالماً من علماء الحيوان تحدث عن وجود حيوان بري غريب رآه بعينيه، وأخذ يصف مشاهداته الحسية له، ثم جاء سمَّاك فقال: لا أجد المبرر العقلي لوجود هذا الحيوان الغريب الذي يتحدث عنه هذا العالم، لما كان كلامه أكثر سقوطاً من ناحية الاستدلال العلمي والعقلي من كلام (رسل) إذ أنكر وجود الحياة بعد الموت، في ظروف غير ظروف هذه الحياة الدنيا، على الرغم من أن هذا الرجل فيلسوف وعالم واسع الاطلاع، إلا أن الهوى قد يحوّل عقل الفيلسوف الكبير إلى عقل السمّاك.
لقد أراد (رسل) أن يخضع الدار الآخرة والحياة الأخرى للمقاييس التجريبية التي تخضع لها ظواهر هذا الكون المادية، في ظروف الحياة الدنيا التي نعيش الآن فيها، مع أن الدار الآخرة والحياة الأخرى لا تخضع بطبيعتها لهذه المقاييس.
إن (رسل) بقياسه هذا يشبه من يزن الضغط الجوي بميزان البقال، أو يزن
الكثافة بميزان الحرارة، أو قيس مقدار الذكاء بمساحة الجمجمة، أو يزن بحور الشعر بالسانتمتر.
ما هو مبلغُ إنكار أي فيلسوف من الصحة إذا هو أنكر قراراً أصدرته دولة كبيرة قادرة، بأنها ستنشئ في برنامج خطتها لربع قرن مدينة نموذجية بديعة جداً، لا تُسكن فيها إلا الطبقة الصالحة الراقية من شبعها، وستنشئ سجوناً إصلاحية أو تأديبية تخصصها للجانحين والخارجين على قوانين الدولة؟!
فإذا قال فيلسوف كبير: لا أجد مبرراً عقلياً أو علمياً يؤكد أن منشأتين من هذا القبيل ستحدثان، أفيكون كلامه مقبولاً عند العقلاء الذين علموا بقرار الدولة؟
من البدهي أن استدلال (رسل) استدلال غير منطقي وغير علمي، وكشف هذا الزيف لا يحتاج إلى فلسفة راقية، وإنما تكفي فيه البديهة العقلية المسلّمة عند جميع العقلاء، وكان الأولى له أن يبني إنكاره لقضية الحياة بعد الموت والدار الآخرة على إنكاره لخالق الكون، فبما أنه جحد الأساس الأول فكل ما يأتي عنه من أنباء وأخبار وقرارات وأحكام مرفوض من وجهة نظره، وعندئذ تكون معالجته من مواقع هذا الأساس، لا مما يتفرع عنه ويبنى عليه.
واعتباره عقيدة اليوم الآخر والدار الآخرة ناشئة عن الصدى الانفعالي الذي يحدثه الخوف من الموت، إنما هو ثمرة من ثمرات جحوده للخالق، وتخيُّله أن هذا الكون كله، وما فيه من نظم رفيعة معقدة جداً، وما ظهر فيه من حياة وفكر، إنما هو نتيجة مصادفات عثرت عليها حركات ذرات الكون العشوائية، فهذه الحركات العشوائية تولَّد عنها هذا النظام البديع، وهذا الوجود كله خال من أي أثر لعقل محرِّك، وحياة ذات إرادة وخلق وتدبير.
فلما كان هذا الكون كله كذلك من وجهة نظره الملحدة الكافرة بالله الخالق المدبر الحكيم، كان طبيعياً أن لا يجد هذا الكون المادي الجاهل الأعمى الخالي من كل تدبير حكيم عليم مهتماً بالآمال والرغبات التي تقوم في نفوس الناس، ولذلك قال:
"ولكنني لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا، فليس لنا أي حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً لعواطفنا وآمالنا".
وحين نمنع النظر في الواقع والحقيقة نجد أن الملحدين هم الذين يريدون أن يكيفوا الكون وفق رغباتهم وأهوائهم، وذلك لأن الإيمان بالدار الآخرة والحياة الآخرة إيمان بمحكمة العدل الرباني، وما تستتبع من جزاء، وفي هذه المحكمة العظمى يحاكم الناس ويحاسبون على أعمالهم، والرغبات الإنسانية لو تركت وشأنها لحلا لها أن تتلخص من قانون الجزاء، حتى تنطلق في تلبية مطالب أهوائها وشهواتها دون أن تقف في طريقها حدود ولا ضوابط، فقضية الإنكار هي القضية التي تحاول إخضاع الواقع الكوني للأهواء والعواطف والرغبات، لا قضية الإيمان باليوم الآخر والحياة الآخرة، وقد كشف القرآن هذه الحقيقة من حقائق نفوس المنكرين، فقال الله تعالى في سورة (القيامة/75 مصحف/31 نزول) :
{بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} .
وبهذا التحليل يتبين لنا أن الأمر على عكس ما ادعاه (رسل) ، إذ إن عقيدة الدار الآخرة عقيدة قائمة على مفهوم الجزاء والعدل، والإنسان ميال بأهوائه وعواطفه إلى أن يصرف عن تصوره قانون العدل الإلهي وما يتصل به، لينطلق في الحياة الدنيا انطلاقاً فاجراً، دون أن تقف في طريقه تصورات قانون العدل، لكن الله غير مستعد لأن يغير من سننه وأحكامه ومقاديره القائمة على أسس من علمه وحكمته وعدله ورحمته وفضله، تلبية لأهواء وشهوات الجانحين الفاجرين.
فما حاول أن يستند إليه (رسل) هو في الحقيقة دليل ضده، وليس دليلاً له، هذا إذا قبلنا بالمنهج الذي سلكه في الاستدلال.
على أن مناقشتنا لمنكري الآخرة تغدو عقيمةً ما داموا مصرين على جحود الخالق، واعتبار أن هذا الكون كله مظهراً لأصل مادي صرف، ونتيجة لحركات عشوائية قامت بها ذرات هذا الأصل المادي، جلُّ ما نستطيع أن نناظرهم به هو إمكان العودة إلى الحياة لا لإثباتها جزماً، وإفساد مذهبهم المادي من أساسه، بإثبات عالم آخر غير هذا العالم المادي الخاضع للتجربة الحسية، والقياس بالأجهزة.
والأفضل من ذلك العودة إلى مناظرتهم حول الأساس الأول، وهو قضية الإيمان بالله تبارك وتعالى.
لكنهم متى قبلوا التسليم الكلي أو الجزئي بعقيدة الإيمان بالله تعالى فإننا حينئذ نستطيع أن نجد سبلاً متعددة لمناقشتهم، ونستطيع أن نقدم لهم المبررات العلمية والعقلية، التي تدعم قضية الإيمان بالحياة الآخرة والدار الآخرة للحساب والجزاء.
إن الحقائق الكبرى في الوجود تبدأ من منطلق واحد، وحين يتعذر الاتفاق على هذا المنطلق فإن الاتفاق على ما يبنى عليه أكثر تعذراً، بل قد يغدو أمراً مستحيلاً.
إن من لا يؤمن أساساً بقانون العدد من الواحد فما فوق من المستحيل منطقياً مناقشته في قواعد الأعمال الحسابية. ومن هو مصاب بعمى الألوان فهو لا يرى أياً منها ويجحدها يستحيل مناقشته في أجمل الألوان وأكثرها إرضاء للذوق. ومن يجحد مبدأ الحق من أساسه يغدو من العبث مناقشته ومناظرته حول حق المال، أو حق الحياة، أو حق العرض والكرامة، أو أي فرع من فروع الحق. ومن يجحد مبدأ الخير والفضيلة من أساسه يستحيل مناظرته حول فروع الخير والفضيلة، ما لم يكن متناقضاً مع نفسه، يسلِّم ببعض الفروع دون أن يسلِّم بالأصول وبالفروع الأخرى، وحينئذ يمكن جذبه عن طريق الإلزام، ونقله من الفروع التي يسلم بها إلى الأصول، وهذا من أساليب المناظرة البارعة.
(2)
أما الذين يسلِّمون تسليماً كلياً أو جزئياً بعقيدة الإيمان بالله تعالى، إلا أنهم ينكرون البعث والحياة الأخرى، أو يشكُّون بذلك، فإننا نستطيع أن نقيم لهم عدداً من الأدلة، ونناقشهم بجملة من المناقشات.
ومفتاح الأدلة النظرية لهذا الموضوع موجود في قول الله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول) :
إن الوجود الإنساني كله عبر تاريخه الطويل يسمى مسرحية من مسرحيات العبث، لو أن حياة الإنسان تنتهي كلها في ظروف هذه الحياة الدنيا، ثم لا شيء وراءها.
أين تحقيق قانون العدل الإلهي في ظروف هذه الحياة الدنيا؟
إنه إذا لم يوجد فيها بصورة مستوفية فلا بد أن يوجد في يوم آخر وحياة أخرى أعدها الله للحساب والجزاء، وإلا كانت عملية خلق الإنسان على هذا الوجه المقرون بحرية الإرادة للإنسان، والتي كان من نتائجها تاريخ مشحون بالجرائم والظلم والعدوان والمصائب الكثيرة، عبثاً من العبث، وقد تعالى الله الملك الحق ذو الحكمة والعدل والكرم عن ذلك علواً كبيراً، لا إله إلا هو رب العرش الكريم.
إن المنطق الحق والضمير النقي ليشعر بداهة - ولو لم تتنزل آيات الوعد والوعيد، وأنباء اليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء - بأن مرحلة حياتية غير هذه المراحل لا بد أن يتم فيها تحقيق العدل الإلهي، ولا بد أن يلاقي الناس فيها جزاء أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولئن كنا نشاهد أن بعض تطبيقات العدل الإلهي جارية في ظروف هذه الحياة الدنيا، ضمن سنن الله الثابتة، فإن الصورة الكاملة للعدل غير مستكملة في هذه الحياة، ولذلك كانت الضرورة الأخلاقية والإيمانية تقضي بأن نفهم أن الله قد أعدَّ ظروف حياة أخرى غير هذه الحياة، لإقامة عدله سبحانه.
وقد تأمل كثير من أهل الفكر والنظر في ظروف هذه الحياة الدنيا دون ملاحظة الآخرة وما فيها من جزاء، فرأوا أن تاريخ الإنسان فيها صور للجرائم والمصائب وتهريج لا جدوى منه، وسجل للجرائم والحماقة وخيبة الأمل، وقصة لا تعني شيئاً، ونحو ذلك.
قال فولتير: "إن التاريخ الإنساني ليس إلا صورة للجرائم والمصائب".
وقال هربرت سبنسر: "إن التاريخ تهريج وكلام فارغ لا جدوى منه".
وقال إدوارد جين: "إن تاريخ الإنسان لا يعدو أن يكون سجلاً للجرائم والحماقة وخيبة الأمل".
وقال نابليون: "إن التاريخ بأكمله عنوان لقصة لا تعني شيئاً".
وقال هيكِل: "إن الدرس الوحيد الذي تعلمته الحكومة والشعب من مطالعة التاريخ هو أنهم لم يتعلموا من التاريخ شيئاً"(1) .
ويعلِّق المفكر الإسلامي (وحيد الدين خان) في كتابه "الإسلام يتحدى" على هذه الأقوال بعد أن أوردها، فيقول:
"وهل قامت مسرحية العالم كلها لتنتهي إلى كارثة أليمة؟ إن فطرتنا تقول: لا.. فدواعي العدالة والإنصاف في الضمير الإنساني تقتضي عدم حدوث هذا الإمكان، لا بد من يوم يميز بين الحق والباطل، ولا بد للظالم والمظلوم أن يجنيا ثمارهما، وهذا مطلب لا يمكن إقصاؤه من مقومات التاريخ، كما لا يمكن إبعاده عن فطرة الإنسان.
إن هذا الفراغ الشاسع الذي يفصل ما بين الواقع والفطرة يقتضي ما يشغله. إن المسافة الهائلة بين ما يحدث وبين ما ينبغي أن يحدث تدل على أن مسرحاً آخر قد أعدَّ للحياة، وأنه لا بدَّ من ظهوره، فهذا الفراغ العظيم يدعو إلى تكميل الحياة
…
إذا لم تكن هناك قيامة فمن ذا الذي سوف يكسر رؤوس هؤلاء الطواغيت الطغاة؟ ".
والواقع أن هذه المشاعر مشاعر فطرية ونظرية لا تنكر، وهي الهادية إلى تصور الحياة الأخرى لإقامة العدل الإلهي الأكمل.
(1) هذه الأقوال مقتبسة من كتاب "الإسلام يتحدى"، للمفكر الإسلامي وحيد الدين خان، ص142-143.
من هذه النظرات تبين لنا أن مفتاح الدليل النظري لقضية الإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء قول الله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول) :
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} .
وقد اهتدينا من هذا المنطلق الفكري الذي نبه عليه مفتاح هذا الدليل النظري إلى أن الإيمان بالآخرة ضرورة أخلاقية، تقتضيها مفاهيم العدل الإلهي والفضل الإلهي.
ومعلوم أن العدل الإلهي والفضل الإلهي من الأسس المرتبطة جذرياً بعقيدة الإيمان بالله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العظمى.
وهذا الدليل النظري القاضي بأن الإيمان باليوم الآخر ضرورة أخلاقية، تقتضيها مفاهيم العدل والفضل الربانيين، قد أعطانا القرآن الكريم عدة مفاتيح إليه، فمن أحسن فهم هذه المفاتيح، وأدرك العلاقة بينها وبين أبوابها النظرية وما ترشد إليه، استطاع أن يجد الدليل العقلي الذي يدلّه على أن من القضايا الحتمية في الوجود قضية اليوم الآخر، لإقامة الجزاء الحق، وتحقيق صفتي العدل والفضل من صفات الله التي قامت عليها براهين العقل.
هذا إنما يظهر في مفاهيم من استطاع أن يتوصل إلى الإيمان بالله وصفاته بالأدلة العقلية والعلمية، وتابع نظره مشوقاً لبلوغ الحقيقة، ولم تقف في نفسه عوائق التعصب أو عوائق الرغبة بالفجور.
ولدى تتبُّع المفاتيح القرآنية لهذا الدليل النظري نستطيع أن نظفر بمجموعة من النصوص منها:
(أ) قول الله تعالى في سورة (القلم/68 مصحف/2 نزول) :
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
(ب) وقول الله تعالى في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول) :
(ج) وقول الله تعالى في سورة (القيامة/75 مصحف/31 نزول) :
أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .
(د) وقول الله تعالى في سورة (ص/38 مصحف/38 نزول) :
(و) قول الله تعالى في سورة (الدخان/44 مصحف/64 نزول) :
فهذه النصوص القرآنية مفاتيح تفتح أمام الفكر الإنساني الذي آمن بالله الخالق أبواب الدليل النظري، الذي يجعل قضية الإيمان باليوم الآخر قضية حتمية في مدركات العقل الصرف بعد الإيمان بالله جلَّ وعلا.
وذلك لأن من آمن بالله الخالق عن طريق النظر الفكري في آثار صنعته في الكون وفي الأنفس، فإنه لا بد أن يهتدي إلى كمال صفاته جلَّ وعلا، ومنها علمه وقدرته وحكمته وعدله، وهذه الصفات لا بد أن تهدي الباحث المؤمن بالله إلى أن الله لم يخلق هذا الكون وما فيه ليكون مسرحية من مسرحيات اللعب أو اللهو والعبث الباطل، وإنما خلقه لغاية، يعرف الإنسان في حدوده من هذه الغاية، أن الله قد خلقه مزوداً بخصائصه ليمتحنه في ظروف هذه الحياة الدنيا، وليبلو إرادته، ولكل امتحان نتيجة وغاية، وإذ لم تظهر هذه النتيجة والغاية في ظروف هذه الحياة الدنيا، فلا بد أن يكون العليم القادر الحكيم العدل قد ادَّخر إظهار هذه النتيجة والغاية وتحقيق مقتضياتهما إلى حياة أخرى، هذا ما توجبه نظرياً مقتضيات العقل السليم والفهم المستقيم.
فلولا ترتيب يوم الدين هذا في هذا الوجود، لكان خلق هذا الكون وفق ظروفه الحالية مظهراً من مظاهر اللعب أو اللهو والعبث الباطل.
لكن الله العليم الحكيم القادر لا بد أن يكون منزهاً عن اللهو واللعب والعبث، إن أعماله كلها هادفة لحكم عظيمة وغايات جليلة، قد ندرك طرفاً منها ويخفى عنا منها الكثير.
ولذلك رأينا في النصوص القرآنية أن الله تبارك وتعالى قد نفى عن أفعاله اللهو واللعب، فذلك لا يليق بكمال صفاته سبحانه.
فحينما يجعل الفيلسوف الملحد (برتراند رسل) هذا الكون كله مسرحية من مسرحيات اللهو والعبث، فإنما يخالف في ذلك مقتضيات المنطق السليم والجدية المهيمنة على هذا الكون، وقد جره إلى ذلك إنكاره وجود الخالق، واعتباره الكون كله ظاهرة للحركة العشوائية التي قامت بها مادة الكون الأولى في سحيق الأزمان، وأنتج ذلك عنده أنه ليس لهذا الكون غاية مرسومة، ولا حكمة مقدَّرة، وأنه عبث من عبث المادة التي لا حياة فيها. ونسي أنه لا شيء في هذا الكون المدروس متسم باللعب واللهو والعبث، وأن كل شيء فيه خاضع لقوانين جادة صارمة، ولسنن ثابتة قاسية.
ألم يخطر في ذهنه أن هذه الجدية الظاهرة في كل شيء من هذا الكون المدروس لا بد أن تلازمه وتصاحبه إلى ما وراء المجال المدروس منه؟
إن هذه الجدية الملاحظة في الكون لا تدع مجالاً لتصوُّر اللعب واللهو والعبث. وفي اللحظة التي تسقط فيها تصوُّرات اللعب واللهو والعبث عن هذا الكون تبدأ التصورات الصحيحة الباحثة عن الغايات التي تهدف إلهيا المقادير العظمى. وهذا هو مفتاح النور لإدراك الحقيقة الدينية التي لم يرد الملحدون أن يدركوها تعنتاً وعناداً واستكباراً ورغبة بالفجور، ولذلك أنكروا الامتحان والجزاء واليوم الآخر، بعد أن جحدوا الخالق جلَّ وعلا، وربما جحدوه لأنهم أرادوا أن يبعدوا عن تصورهم قانون الامتحان والجزاء، لينطلقوا في أعمالهم الفاجرة المجرمة دون خوف من النتائج الوخيمة، والعواقب الوبيلة.
ومن هذا نستطيع أن نتبين السلسلة الفكرية الإيمانية، فهي تسير على الوجه التالي:
1-
دراسة الكون والحياة والإنسان تهدي إلى الإيمان بالخالق العظيم، القادر العليم، العدل الحكيم.
2-
دراسة الغاية من الخلق التي تهدي إليها ملاحظة الكون، وأحداثه الكبرى، وقوانينه الصارمة، وسننه الثابتة، لا تدع مجالاً لتصور اللعب واللهو والعبث في أي حدث من أحداثه، بل كل ما فيه جدّ لا هزل يصاحبه، ولا عبث يخالطه.
3-
دراسة العلاقة الأخلاقية والتكوينية بين الخالق الحكيم والإنسان المدرك المريد، تهدي إلى أن الإنسان خلق في هذه الحياة للامتحان، والامتحان يستلزم الجزاء في جدية قوانين الوجود وسننه الثابتة.
4-
دراسة الظواهر الجزائية في نطاق هذا الكون المدروس المشاهد تدل على أن كمال مقتضيات العدل وكمال مقتضيات الحكمة لم يتحققا فيه، وهذا يهدي - مع ملاحظة صفات الخالق العظيمة التي منها العدل والحكمة ومع ملاحظة قوانينه الصارمة وسننه الثابتة في الكون - إلى أن حياة أخرى قد رتبت في
برنامج الوجود الكبير، لإقامة العدل وكمال الحكمة فيها، وفيها يتم تحقيق الصورة المثالية للجزاء الرباني.
بهذه الدراسة النظرية المتسلسلة على هذا الوجه، والمدعَّمة بالأدلة العقلية، المستندة إلى دراسة ظواهر هذا الكون المشاهد، استطعنا أن نهتدي إلى ضرورة اليوم الآخر، وإلى الإيمان به.
ولكن كيف يكون هذا اليوم الآخر وعلى أية صورة؟
إن الدراسة النظرية لا تسمح لنا بالتحديد، وذلك لأن الاحتمالات النظرية كثيرة جداً، ولا سبيل إلى ترجيح بعضها على بعض، ومن أجل ذلك كان لا بد لنا من أن نلتمس مفاهيم النصوص الدينية الثابتة لتخبرنا بذلك، وليس لنا أن نتخيل صورة من عند أنفسنا أو نضيف صوراً من عند أنفسنا إلى ما جاءت به النصوص الدينية الثابتة في القرآن الكريم وفي أقوال الرسول صلوات الله عليه.
(3)
شرح المفاتيح القرآنية
للدليل النظري الدال على الحياة الأخرى
اكتفيت في الفقرة السابقة بعرض المفاتيح القرآنية للدليل النظري القاضي بضرورة الحياة الأخرى للناس في خطة الوجود، لاستيفاء كمال العدل الإلهي، والجزاء الأمثل، وهو ما تقضي به قواعد الإيمان بالله وكمال صفاته، التي دلت عليها ظواهر هذا الكون المتقن المحكم الهادف إلى تحقيق غاية تناسب حكمة الخالق العظيم.
واعتمدت هناك على عرض المفاهيم العامة المستفادة من هذه المفاتيح، لأفردها في فقرة خاصة أُولِي فيها كل نص منها نظرات تدبُّر وبحث استنباط.
وفيما يلي شرح لهذه النظرات:
(أ) النص الأول:
قول الله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول) :
فهذا النص يكشف لنا أنه لو لم يكن وراء هذه الحياة التي تنتهي بالموت حياة أخرى، تكون فيها الرجعة إلى الله للحساب والجزاء وإقامة محكمة العدل والفضل الإلهية، لكانت عملية هذا الخلق ضرباً من العبث، والله تبارك وتعالى منزَّه عنه، فلا يكون في شيء من أفعاله وأحكامه وأوامره ونواهيه وشرائعه هذا العبث، بل لا بد في كل ذلك من غايات حكيمة تحددها إرادة الخالق المستندة إلى علمه المحيط بكل شيء، والجديةُ الصارمة هي المظهر البارز في كل أحداث الكون وقوانينه وسننه، وإشارة إلى كون الله منزَّهاً عن العبث في عمليات الخلق التي يجريها قال الله تعالى في هذا النص:{فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم}
ولما كان احتمال العبث احتمالاً مرفوضاً عقلياً كان لا بد من وجود حياة أخرى تظهر فيها تطبيقات الغاية من الحياة الأولى، وهذه الحياة لا بد أن تكون مقررة في برنامج المقادير الربانية، إن الله هو الملك الحق الذي لا إله إلا هو، وبهذا نلاحظ أن هذا النص قد أعطى الفكر الإنساني مفتاح البحث النظري لهذه الحقيقة.
(ب) النص الثاني:
قول الله تعالى في سورة (القلم/68 مصحف/2 نزول) :
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
من الواضح أن ظروف هذه الحياة التي نعيشها قد تسمح للمجرمين بأن يعيشوا فيها عيشاً رغداً ناعماً، يصيبون فيه المال والجاه والسلطان واللذات، كما قد تسمح للمسلمين أهل الاستقامة بمثل ذلك، وقد تسمح بأن يتمكن الفاجر من قتل التقي وظلمه وتعذيبه، واستلاب ماله والعدوان عليه في أرضه أو عرضه، وقد لا يلقى الفاجر جزاءً معجلاً على فجوره، بل قد يمهل وتأتيه منيَّته دون أن ينال شيئاً
من جزائه، فلولا أن حياة أخرى غير هذه الحياة قد أعدت في برنامج المقادير الربانية لإقامة الجزاء الذي توجبه حكمة الخالق، لكانت النتيجة الحكم على الخالق بأنه قد رضي بأن يجعل المسلمين كالمجرمين سواء محياهم ومماتهم، وهذا يتنافى مع أصول العدل والحكمة الإلهية، لذلك فهو مرفوض عقلاً، ولما كان هذا الاحتمال مرفوضاً فإن الاحتمال المقابل له - وهو وجود الحياة الأخرى التي يتحقق فيها التمييز بين المسلمين والمجرمين - هو من الأمر الحتمي الذي لا مناص من اللجوء إلى إدراكه عقلاً، والتسليم به عقيدة، وهو طبعاً الاحتمال الذي قررته النصوص الدينية وأخبرت به.
وتفسير العملية كلها يتضح بأن هذه الحياة كلها لا تزيد على أنها مجال مفتوح لامتحان الناس على سواء، كقاعة الامتحان حينما يدخلها الدارسون المجدّون والهازلون الكسالى، والمتلاعبون الظالمون.
من المتحتم أن القصة لا تنتهي بانتهاء المدة الزمنية للامتحان، بل لا بد من زمن آخر تعلن فيه النتائج، وينال فيه كلٌّ على مقدار عمله.
فمن أجل ذلك جاءت الآية بصيغة الاستفهام الإنكاري {أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ مالكم كيف تحكمون؟} دلالة على أن إنكار الحياة الأخرى وما فيها من جزاء يفضي إلى اتهام حكمةِ الخالق بالتسوية بين المسلمين والمجرمين، وهو أمر مرفوض رفضاً قطعياً، وقد تنزه الخالق عنه وتعالى علواً كبيراً.
إن أحدنا لا يقبل أن يُسوّي في أحكامه بين الظالم والمظلوم، أو بين المحسن والمسيء، أو بين المجدّ والكسول، أو بين العالم والجاهل، ولو فعل ذلك واحد منا لكان سِمةَ نقص كبير في أخلاقه. أفنكرِّم أنفسنا عنه ونرضاه للخالق جلَّ وعلا؟
إنه أمر مرفوض بداهة، ورفضه يعني حتمية اليوم الآخر والحياة الأخرى.
(ج) النص الثالث:
قول الله تعالى في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول) :
إن هذا النص القرآني يكشف لنا عن حقيقة فكرية مهمة جداً، وهي أن مقتضيات العدل الإلهي توجب التسليم بأن التسوية في الجزاء بين الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات قضية مرفوضة حتماً، لأنها تتنافى مع صفتي عدل الله وحكمته الثابتتين بالدليل العقلي، والثابتتين أيضاً في ظواهر شتى من واقع حياتنا المدروسة، وإذا كانت هذه التسوية مرفوضة عقلاً فما بالنا نلاحظ في هذه الحياة أن كثيراً من الذين اجترحوا السيئات ينالون منها مثل ما ينال منها الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو أكثر في بعض الأحيان، وأن كثيراً من الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد تتوالى عليهم المصائب والآلام؟ فأين تطبيق قواعد العدل والحكمة الإلهية؟
وهنا يأتي الجواب العقلي الذي لا يحتاج إلى بحث وتأمل كثيرين:
إن هذه الحياة ليست نهاية قصة حياة الإنسان، ولكنها فصل منها، ومرحلة قصيرة أعدت في برنامج الوجود الكبير لغاية الابتلاء، ولا بد حتماً من ظروف حياة أخرى تأتي بعد انتهاء هذه الحياة الدنيا التي أعدت للامتحان، وعندئذٍ تظهر تطبيقات قواعد العدل الألهي، وتظهر مراحل الجزاء، وهنا نبهنا هذا النص القرآني على أن تطبيق قواعد الجزاء يبدأ مع بداية مرحلة الموت، الذي هو عملية انفصال بين الروح المدركة المحسة، وبين الجسد الذي هو ثوب هذه الروح في حياتها الأولى.
ومع بداية هذه المرحلة الجديدة من وجود الإنسان تظهر الفوارق القائمة على العدل والحكمة بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والذين اجترحوا السيئات.
إن ما لم يظهر اليوم في مرحلة الامتحان لا بد أن يظهر غداً في مراحل الجزاء.
فهذه الآية تشير إلى التطبيقات الجزائية التي تكون في مدّة الحياة البرزخية بعد الموت وقبل البعث، وهو ما يطلق عليه نعيم القبر وعذابه.
(د) النص الرابع:
قول الله تعالى في سورة (القيامة/75 مصحف/31 نزول) :
أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .
من الواضح أن هذا النص يشتمل على المفتاح الفكري لاكتشاف الغاية من خلق الإنسان في هذه الحياة: {أيحسب الإنسان أن يترك سُدى؟!}
أي: إنه لم يُخلق في هذه الحياة ليأكل ويشرب، ويتمتع ويظلم، ويطغى ويفسد في الأرض، وينزل الآلام بالآخرين ويكفر بربه، ثم يترك سدى دون جزاء عادل، أو ليستقيم ويعمل الصالحات، ويعدل بين الناس ويحسن إليهم، ويمسح عنهم الآلام ويعبد ربه، ثم يترك سدى دون جزاء كريم.
إن هذا الظن من الإنسان لأمر عجيب، أفيظن ما لا يليق بعدل الخالق وحكمته؟ أفيظنُّ ظناً تقوم براهين العقل ودلائل الواقع على نقيضه؟
إن الإنسان في هذا الوجود لن يترك سدى بعد ظروف هذه الحياة التي يعيشها، والتي لو كانت نهاية قصة حياة الإنسان لكانت حياة لا معنى لها ولا مغزى.
وهل يليق بحكمة الخالق العظيم القادر العليم أن يخلق خلقاً باطلاً لا مغزى له؟ إن هذا ضرب من اللعب واللهو والعبث، والله تبارك وتعالى منزه عن ذلك، إن كل أمره جد لا هزل فيه.
وإذا ثبت بالدليل النظري أن الإنسان لن يترك سدى فلا بد من ظروف حياة غير هذه الحياة يتم فيها تحقيق الغاية من خلق الإنسان، ويتم فيها تطبيق قواعد الجزاء الرباني وفق مقتضيات الحكمة والعدل والكرم.
وحينما يبدأ الجاهل قصير النظر يشكُّ في قدرة الله على إعادة الإنسان إلى الحياة بعد الموت في النشأة الأخرى، فلينظر إلى واقع النشأة الأولى، إنها تعطيه برهاناً تجريبياً يثبت له أن من أنشأ النشأة الأولى قادر على أن ينشئ النشأة الأخرى، نشأة الإعادة، وهي في التحليل النظري أهون من نشأة الابتداء، وقد لفت
النص نظر الإنسان إلى هذا البرهان التجريبي فقال تعالى: {ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان عقلة فخلق فسوَّى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟} بلى وهو الخلاق العليم.
(هـ) النص الخامس:
قول الله تعالى في سورة (ص/38 مصحف/38 نزول) :
فحينما يرفع الجاحدون تصورات الحياة الأخرى من أذهانهم تغدو هذه الحياة في تصورهم عملاً باطلاً لا معنى له، وتغدو مسرحية من مسرحيات اللعب واللهو والعبث.
هذا ما صرح به كبار مفكريهم، وذلك تصور الذين كفروا وظنهم القائم على أساس باطل هو جحود الحق والكفر به، فويل لهم من أحداث هذه الحياة الأخرى حينما يجدونها حقيقة واقعة، ويجدون أنفسهم في النار يعذّبون.
أما المؤمنون فإنهم يدركون الغاية من خلقهم، ويعلمون أنهم في هذه الحياة الدنيا في ظروف امتحان لإرادتهم بين يدي خالقهم، وأن وراء هذه الحياة حياة أخرى خالدة يكون فيها الجزاء الأمثل، وتظهر فيها حكمة الله من الخلق، لذلك فهم لا يرون خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً. ويهديهم إلى هذه الحقيقة أنه من غير الممكن في الاحتمال العقلي أن يجعل الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، وأن يجعل المتقين كالفجار، فتكون نهاية الجميع بالموت، ولا شيء بعد ذلك من حساب ولا جزاء، إن هذا العبث لا يفعله من يقيم دورة مسابقة رياضية، فضلاً عن أن يفعله الخالق القادر العلمي الحكيم العدل ذو الفضل العظيم.
(و) النص السادس:
وقول الله تعالى في سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول) :
جحد المشركون الحساب واليوم الآخر، وجرّهم ذلك إلى إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء فيها من وعد ووعيد، وكان معنى جحودهم هذا أن الحياة الإنسانية ليس لها إلا ظروف هذه الحياة المشاهدة المدروسة للإنسان، وبالموت تنتهي القصة نهاية تامة، ثم لا شيء وراء ذلك، مع أن هذا الفصل المشهود من حياة الإنسان مليء بأحداث الظلم والبغي الإنساني، ومشحون بالجحود والكفر والاستكبار والعناد، والعدوان والفساد، وكثيراً ما تنتهي حياة أصحاب هذه الأحداث دون أن يلقوا في الحياة الدنيا جزاءهم العادل، وحينما يصيب بعضهم بعض جزائه فإن كامل جزائه لا يناله، وفي مقابل ذلك نجد في هذا الفصل المشهود من حياة الإنسان دعاةَ خير مضطهدين، وطبيبين صالحين معذَّبين، ومؤمنين مصلحين غير مكرَّمين، وكثيراً ما تنتهي حياة هؤلاء دون أن يُنصفوا من خصومهم، ودون أن يلقوا ثوابهم أو كامل ثوابهم.
أفيصحّ في ميزان العقل أن يقتصر حكيم قادر عليم على مشاهد هذا الفصل من عملية الخلق التي أنشأناها، دون أن يكون وراءه فصل آخر أو عدة فصول تتحقق فيها النتائج المنطقية للفصل الأول، وتظهر فيها الحكمة المناسبة لمستوى الحكيم الذي رتَّب ظروف الفصل الأول بإتقان تام؟
لو شهدنا مثل هذا الفصل في تمثيلية من وضع الإنسان لقلنا لا بدَّ أن فصلاً أو فصولاً أخرى ستأتي بعده، حتى تنتهي القصة إلى نهاية معقولة تظهر فيها الغاية، ويتحقق فهيا معنى الجزاء، ويبرز فيها المضمون الأخلاقي، في توجيه غير مباشر.
فلو أن كاتب القصة أو مخرج التمثيلية قد اقتصر على الفصل الأول منها، فماذا يقول العقلاء عنه؟
إذا كان هذا الفصل فصلاً فكاهياً فإنهم يقولون عنه: كاتب هزلي، يريد أن يضحك المشاهدين بألعابه ومشاهد اللهو التي رتبها، وإذا لم يكن فصلاً فكاهياً فإن كان فيه شيء من الجرائم والفساد فإنهم يتهمونه بأنه يريد التشجيع على الجرائم والفساد، واستخدام القوى وأنواع الحيلة لنشر الظلم والعدوان في الأرض، إذ لم ينه تمثيليته بمضمون أخلاقي كريم، يتحقق فيه الجزاء الرادع القاسي للمجرمين والمفسدين، والنهاية الطيبة السعيدة للصالحين المستقيمين.
فما بال الذين ينكرون اليوم الآخر يقبلون في تصورهم أن تكون قصة حياة الإنسان تنتهي بنهاية الفصل الأول منها، مع أن هذا الفصل لم تتحقق فيه الغاية، ولم يتحقق فيه الجزاء ، وهو فصل مأسَوِي (درامي) جاد لا أثر للهزل فيه؟
أفيريدون أن يجعلوا الله العليم الحكيم القادر لاعباً بآلام الناس ومشاقِّهم ومتاعبهم في هذه الحياة؟ أو هازلاً بعواطف المؤمنين به المطيعين له الساعين في مرضاته، والباذلين كثيراً مما يشتهونه ويحرصون عليه في سبيله؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
هذه هي النقطة الفكري التي نبه هذا النص القرآني عليه، وناقش منكري اليوم الآخر ومنكري رسالة الرسول على أساسها.
فقد عرضت سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول) :
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}
وقضية الرسول والكتاب، فقال تعالى:
ثم بعد هذا وبعد مناقشات له جاء قول الله تعالى:
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}
أي: لو كانت قصة هذه الحياة تنتهي بحادثة الموت التي يختم بها هذا الفصل لكانت عملية خلق السماء والأرض وما بينهما لعباً من اللعب.
أفيكون العليم الحكيم القادر لاعباً لاهياً هازلاً في كل الأحداث الجادة المشحونة بالمتاعب والآلام في هذا الفصل؟
أم لا بد أن يكون قد رتب فصلاً أو فصول أخرى، ستظهر فيها غاية عمله ومقتضيات حكمته؟
العقل يقضي بأنه لا بد أن يكون في برنامج الوجود فصل أو فصول متعددة وراء هذا الفصل الأول.
وهذا ما جاءت النصوص الدينية تدعو إلى الإيمان به وتكشف بعض ما هو داخل في برنامجه من تفصيلات.
ومن بدائع المناقشة القرآنية لهذا الموضوع قول الله تعالى في هذا النص:
{لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}
فالله في هذا يتنزل إلى مستوى عقول هؤلاء المنكرين لليوم الآخر والمنكرين للرسالة، إذ لزم من مذهبهم أن تكون عملية خلق السماوات والأرض وما بينهما ضرباً من اللعب واللهو والعبث فيقول لهم:{لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا} ، أي: لكنا اتخذنا لهواً بعيداً عن مخلوقات ذات إحساسات وعواطف وانفعالات، وآلام وآمال، وأكدار ومسرات، ولما كان من العدل والرحمة والحكمة أن نعبث هذا العبث بهذه الأحياء المدركة المحسة، فنلهو بآلامها، ونعبث بأكدارها، ونلعب بعواطفها وانفعالاتها، وحبها وذلها عبادتها، لو أردنا لكنا نفعل هذا اللهو بعيداً عنها، ولا نجعلها ساحة عبثنا، هذا إن كنا فاعلين شيئاً من ذلك، لكن اللعب واللهو والعبث ليس من شأننا.
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، إن كل أفعاله سبحانه تشتمل على حِكَم
يريدها، وهذه الحِكَم والغاياتُ جليلة تناسب مستوى علمه وحكمته وقدرته سبحانه.
ولما كان مذهب المنكرين يسلتزم اتهام الخالق سبحانه بالعبث في خلقه كان لا بد من تهديد لهم بالويل على ما يصفون الله به، فقال تعالى لهم:
(ز) النص السابع:
قول الله تعالى في سورة (الدخان/44 مصحف/64 نزول) :
هذا النص يحكي لنا مقالة منكري الآخرة إذ قالوا: {إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين} .
وفي نص آخر حكى القرآن عنهم أنهم قالوا: {إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} .
ففي سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
{وَقَالُو?اْ إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}
وفي سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول) ، قال الله تعالى يحكي لنا مقالة عاد قوم هود لرسولهم، أو مقالة قوم صالح:
وفي سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول) ، قال الله تعالى يحكي لنا مقالة الدهريِّين، وهم ملاحدة القرون الأولى:
ومهما تنوعت أقوال منكري الآخرة فهي تتلخص بأنهم يزعمون أن قصة الحياة واحدة تنتهي بالموت ثم لا شيء وراءه، وليس لهم حجة في الإنكار إلا المطالبة بالمشاهدة الحسية للحياة بعد الموت، فقالوا لرسلهم: أعيدوا لنا آباءنا إلى الحياة حتى نؤمن بما تقولون، وتوقفوا عند المطالبة بالدليل الحسي التجريبي، وحجبوا عقولهم عن إدراك الدليل النظري الذي يجعل قضية الحياة الأخرى قضية ممكنة بحد ذاتها، فإذا نظرنا إليها من زاوية حكمة الخالق الحكيم، ومن زاوية واقع هذه الحياة الدنيا كانت قضية حتمية الوقوع، فهي المرحلة التي يتم فيها بقية برنامجٍ خلق الإنسان وفق الصورة التي أرادها الخالق الحكيم، وإلا كان برنامجاً ناقصاً أشبه ما يكون باللهو والعبث، والله الحكيم العليم القادر منزَّه عن أن يعد برنامجاً ناقصاً لا يليق بكماله سبحانه، أو أن يقتصر على فصل منه يُعَدُّ الاقتصار عليه ضرباً من اللعب.
يدرك هذه الحقيقة كل عاقل درَّاك منصف.
ولما كان إنكار الكافرين لليوم الآخر يتضمن عنصرين:
العنصر الأول: إنكار الجزاء.
العنصر الثاني: إنكار الحياة بعد الموت.
وجدنا أن النص القرآن الذي نتدبره يشتمل على معالجة هذين العنصرين جميعاً.
أما العنصر الأول فقد جاءت معالجته بعرض أمثلة تاريخية تم فيها تحقيق بعض الجزاء المعجل لأمم سافلة، عاقبهم الله في الدنيا على كفرهم وتمرُّدهم على
رسلهم، ومعلوم أن تحقيق نماذج من الجزاء المعجل لا بد أن يلفت الانتباه إلى قانون الجزاء بوجه عام، ولا بد أن ينبه أيضاً على أن ما لم يتحقق منه في ظروف هذه الحياة الدنيا سيتحقق حتماً في ظروف حياة أخرى.
وقد دل على هذا قول الله تعالى في هذا النص من سورة (الدخان) :
أي: كان إهلاك الله لهم على صورة فيها تعذيب عام بسبب أنهم كانوا مجرمين.
وأما العنصر الثاني فقد جاءت معالجته بلفت النظر إلى أن مقتضيات حكمة الخالق تقضي بأنه من غير الممكن أن تكون هذه الحياة الدنيا هي نهاية قصة وجود الإنسان، وذلك لأنه لو كانت حياته هذه هي كامل قصة وجوده ونهايتها لكان خلقه ضرباً من اللعب تنزَّه الخالق عنه، ولما كان هذا أمراً مستحيلاً عقلاً كان لا بد من وجود حياة أخرى تستكمل فيها وقائع قصته، وفق مقتضيات الحكمة العظيمة التي تتناسب مع صفات الخالق العظيم، وهذا ما نبه عليه قول الله تعالى في هذا النص أيضاً:
حينما نتساءل عن هذا الحق يأتينا الجواب القرآني، فيوضح لنا أن الغاية هي ابتلاء الإنسان في الحياة الدنيا، وبعد الامتحان يأتي الجزاء في الحياة الأخرى.
فمن النصوص التي أعلنت هذه الحقيقة قول الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول) :
وبعد الابتلاء لا بد من الجزاء، والجزاء الأمثل قد ادخره الله لحياة أخرى غير هذه الحياة الدنيا.
فالإيمان باليوم الآخر ركن أساسي من أركان الإيمان يأتي في التسلسل الفكري بعد الإيمان بالله تعالى وبكمال صفاته وعظيم حكمته.
(4)
الإيمان بالآخرة مبدأ ضروري
لسعادة الجماعة الإنسانية
إذا نظرنا إلى مشكلة السلوك الإنساني وجدنا أن سعادة الجماعة الإنسانية مرهونة بضوابط سلوك الإنسان، وحينما نبحث عن الضوابط التي يمكن أن تضبط سلوكه نجدها ضوابط ضعيفة وناقصة، إلا ضابطاً واحداً هو مراقبة الله والخوف من عقابه يوم الدين.
وبهذا التحليل تغدو قضية الإيمان باليوم الآخر ضرورة إنسانية لحل مشكلة الجنوح الإنساني، ولمنح المجتمعات الإنسانية أفضل صورة ممكنة من السعادة الجماعية في ظروف هذه الحياة، ولدفع الإنسان إلى فعل الخير والارتقاء في سلم الفضائل الفردية والجماعية.
قد يقول المعارضون: نستعيض عنها بالقانون وسلطة الحكم.
ولكن نقول لهم: فمن يضبط السلطة الحاكمة عن الجنوح وبيدها القوى المادية المسيطرة، التي تمنحها كل الوسائل الصالحة للاستبداد وظلم العباد؟
إذا لم تكن هذه السلطة ملجمة بلجام الخوف من الله وجزائه العادل فإنها تفعل ما تهوى دون ضابط.
على أن الإسلام قد حاصر الجنوح بالإيمان والخوف من عقاب الله، وبالشرائع وسلطة الحكم الإسلامي، إضافة إلى الوسائل التربوية الأخرى.
وقد يقول المعارضون: نستعيض عن قضية الإيمان باليوم الآخر بالضمير الأخلاقي.
ولكن نقول لهم: وما هي وسيلتنا لإيجاد هذا الضمير الأخلاقي وقد دلتنا الملاحظة أن معظم الجماهير التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر لا تستطيع أن تكتسب ضميراً أخلاقياً مقوماً لسلوكها من منبع آخر، لأنها تسيطر عليها حينئذ أنانياتها وشهواتها، ولا يردعها عن الجنوح خوف، ولا يجذبها إلى الاستقامة طمع، وحينما تخشى من العقاب المادي الإنساني فإنها تستقيم استقامة الحذر من العدو، وترصد الانحراف كراصد الصيد، متى وجد الفرصة متاحة له انقضَّ على فريسته.
قد يقولون: إن النظرات الفلسفية، والعاطفة الإنسانية، والتربية الأخلاقية، وحب الخير وفعل الخير، كفيلة بتربية الضمير الأخلاقي.
ولكننا نقول لهم: لئن صلحت هذه الوسائل لتربية ضمير أخلاقي لدى فيلسوف عالي الفطرة، له نظرات تأملية بعيدة عن غمرة الماديات والمطامع والأهواء والشهوات، فإنها لن تصلح لتربية ضمير أخلاقي لدى ألوف مؤلَّفة من البشر، لا يتحلَّون بخصائص ذلك الفيلسوف النادر.
ومعلوم أن الضوابط السلوكية لمنح البشرية أفضل مقدار من سعادة الحياة يجب أن تكون قادرة على ضبط الكثرة الكاثرة من الناس إلا من شذ، لا أن تكون للنماذج النادرة فقط، وتترك الأعداد العظمى من غير ضابط.
هذا بخلاف الضمير الأخلاقي الذي يغرسه في القلوب الإيمان بالله واليوم الآخر، فإنه ضمير أخلاقي تكتسبه بسهولة جميع الجماهير المؤمنة إلا من شذ منها، وهذا الشاذ لا يعدم بذوراً تردعه عن كبريات الجرائم.
أما غير المؤمنين بالله واليوم الآخر فالجرائم الصغرى والكبرى سواء عندهم، متى تعلَّق هوى أحدهم بشيء واستطاع أن يفلت من العقاب المادي على أيدي الناس فإنه يفعله دون أن يجد أي وخز لجرائمه في ضميره، وحينما يفعله يفعله بضراوة وشراسة لا توجدان عند أخبث الحيوانات الضارية الشرسة.
على أن الإسلام لم يهمل جانب تربية الضمير الأخلاقي بكل الوسائل الممكنة إضافة إلى الخوف من الله وعقابه، ووعده ووعيده وما في اليوم الآخر من جزاء.
قد يقول المعارضون: وما علاقة هذه الضرورة الإنسانية لحل مشكلة الجنوح في السلوك بكون الآخرة حقيقة واقعة حتى يجب الإيمان بها عقلاً؟
وجوابنا على هذا السؤال سيكون مع الذين سلموا معنا بالقضية الأولى، وهي قضية الإيمان بالله تعالى، أما الملاحدة الذين لا يؤمنون بالله فإنهم لا يشعرون بموجب لضبط السلوك الإنساني أصلاً، ولا يرون في أي سلوك جنوحاً، ونظرتهم إلى الحياة تقتضي بأن القوة هي التي تحدد مفهوم السلوك، فالقوة تستطيع أن تجعل الفضائل رذائل، والرذائل فضائل، والحق باطلاً، والباطل حقاً، وهكذا لا قيمة عندهم إلا للقوة.
أما كلامنا مع الذين سلموا بالقضية الأولى قضية الإيمان بالله تعالى فيكون على الوجه التالي:
هل يعقل في منطق التنظيم الحكيم أن يخلق الله جلَّ وعلا كائنات مدركة ذات غرائز وشهوات، وذات مطامع ورغبات، وذات أهواء لا حدود لها، وذات لذات وآلام، ويعطيها مع ذلك حرية الإرادة، ويمنحها قدرة ما على تنفيذ ما تريد، ثم يتركها تتخبط وتتقاتل، وتتنافس وتتصارع، وتتحاسد وتتباغض، دون أن يجعل لها ضوابط تضبط سلوكها، ودون أن يشعرها بأن جزاء عادلاً قد أعد لها، ودون أن ينفذ فيها فعلاً جزاءه العادل، ودون أن يشجع محسنيها بالثواب الكريم الذي يكون حقيقة واقعة، لا وعداً كلامياً فقط؟
هذا غير معقول، إن الخالق الحكيم لن يترك كائنات من هذا القبيل تفسد في الأرض دون أن يجعل لها نظاماً يشتمل على عناصر الجزاء الحكيم، وهذا يهدي فعلاً إلى اعتبار اليوم الآخر ضرورة لضبط سلوك الإنسان في الحياة، وهذا النظام لا بد من بيانه للناس حتى يعلموا مسؤوليتهم ويعرفوا مصيرهم، ولذلك أرسل الله لهم الرسل، فبلَّغوا الناس ما يجب عليهم من سلوك، وما ينتظرهم من ثواب وعقاب، بحسب أعمالهم في حياتهم، وأن وراء هذه الحياة الأولى حياة أخرى يرجعون فيها إلى الله، فيحاسبهم ويجازيهم، وقد أعد للثواب جنة خالدة، وأعد للعقاب ناراً حامية وعذاباً أليماً.
(5)
نقض علمي لمذهب الملحدين
الذين ينكرون استمرار وجود الروح
يتساءل بعض الناس: هل نجد نقضاً علمياً للمذهب الإلحادي الذي يرى أن الحياة ظاهرة مادية فقط، وليس وراء هذه الحياة المادية إذا انتهت بالموت استمرار لوجود روحي، أو إمكان لحياة أخرى؟
وجوابنا إيجابي حتماً، فلدينا أدلة علمية توصل إلهيا الباحثون من علماء الطبيعة تثبت الحياة بعد الموت، على المستوى التجريبي والمعملي.
وأقتبس هنا فقرات مما جاء في كتاب (الإسلام يتحدى)(1) :
"أثبتت البحوث الروحية الحياة بعد الموت على المستوى التجريبي والمعملي. إن الأمر الذي يدفعنا إلى إبداء مزيد من الإعجاب بهذه البحوث هو أنها لا تثبت (بقاءً محضاً) لروح ما، بل إنها تثبت أيضاً بقاء الشخصيات التي كنا نعرفها بذاتها قبل أن نموت!!
إن هناك خصائص كثيرة يتمتع بها الإنسان من قديم الأزمان، ولكنا لم نلق الضوء عليها إلا حديثاً، ومن هذه الخصائص (الرؤيا) التي تعد من أقدم مميزات الجنس البشري، والحقائق المثيرة التي كشفها علماءُ النفس عن هذه الميزة لم يكن قدماؤنا على علم بها.
وهناك مظاهر أخرى درسناها أخيراً، وأجرينا بحوثاً وإحصاءات في مختلف أنحاء العالم حولها، وجاءت البحوث بنتائج غاية في الأهمية.
ومن هذه البحوث ما نسميه (بالبحوث الروحية) وهي فرع من علم النفس الحديث، وهدفها محاولة الكشف عن المميزات الإنسانية غير العادية، وقد أقيم أول معهد لإجراء هذا النمط من البحوث عام (1882م) في إنكلترا، وبدأ علماء هذا المعهد عملهم سنة (1889م) بعد أن قاموا بمسح واسع النطاق على (17) ألفاً
(1) تأليف: وحيد الدين خان، تعريب: ظفر الإسلام خان، من صفحة 154 إلى صفحة 159.
من المواطنين، ولا يزال هذا المعهد موجوداً باسم (جمعية البحوث الروحية) وقد انتشرت الآن معاهد كثيرة في مختلف بلدان العالم، وأثبتت هذه المعاهد بعد بحوثها وتجاربها الواسعة النطاق أن الشخصية الإنسانية تواصل بقاءها بعد فناء الجسد المادي في صورة غريبة
…
وقد ألقى (البروفسور دوكاس) هو أستاذ الفلسفة بجامعة براون، ضوءاً على الجوانب النفسية والفلسفية من مسألة الحياة بعد الموت، في الباب السابع عشر من كتابه. والدكتور دوكاس لا يؤمن بالحياة بعد الموت كعقيدة دينية، وإنما وجد - أثناء بحوثه - شواهد كثيرة اضطر - على أثرها - أن يؤمن بالحياة الآخرة، مجردة عن قضايا الدين، وهو يكتب في آخر الباب السابع من كتبه قائلاً:
"لقد قام رهط من أذكى علمائنا وأكثرهم خبرة بمطالعة الشهادات المتعلقة بالمسألة، وفحصوها بنظرة نقد ثاقبة، وقد توصلوا آخر الأمر إلى أن هناك شواهد كثيرة تجعل فكرة "بقاء الروح" نظرية معقولة، وممكنة الحدوث.. وهم يرون أنه لا يمكن تفسير تلك الشواهد إلا على هذا النحو. ومن هؤلاء الكبار الذين قاموا بهذه البحوث نستطيع أن نذكر: الأساتذة (ألفريد راسل واليس) ، و (السير وليام كروكس) ، و (ف. و. هـ. مايرز) ، و (سيزار لومبرازو) ، و (كميل فلاماريون) ، و (السير أوليفر لوج) ، و (الدكتور ريتشارد هوجسن) ، و (المستر هنري سيدويك) ، و (البروفيسور هيسلوب) ".
ويستطرد الدكتور دوكاس قائلاً:
"ويتضح من هذا أن عقيدة بقاء الحياة بعد الموت - التي يؤمن بها الكثيرون منا كعقيدة دينية - ليس من الممكن أن تكون واقعاً فحسب، وإنما لعلها هي الوحيدة من عقائد الدين الكثيرة، التي يمكن إثباتها بالدليل التجريبي. ولو وضح هذا فمن الممكن أيضاً أن نجد معلومات قطعي في هذا الموضوع".
وقد سبق أن استشهدنا حول موضوع الروح بما قاله الدكتور (راين) :
"إنه ثبت من أبحاثه في المعامل: أن في الجسم البشري روحاً أو جسماً غير منظور".
هذه البحوث الروحية تنقض قضية الملحدين الماديين من أساسها، فما أثبته العلم من وجود الروح ومن أن الحياة بعد الموت قضية مؤكدة أو مرجحة، ينقض نظرتهم القائمة على أن الحياة إنما هي مظهر لتركيب المادة بصورة خاصة، ومتى انحل هذا التركيب لم يبق أثر للحياة مطلقاً، بينما يقرر الدين أن الحياة سر روحي ينفخه الله تعالى في الأجساد المادية، فتكون حية بهبة الله تعالى لها سرّ الحياة، وهذا ما بدأت الدراسات العلمية تعترف به.
ولدينا أيضاً أدلة أخرى في هذا المجال مما توصلت إليه البحوث النفسية.
أثبتت الدراسات العلمية حول الإنسان أن خلايا جسده المادي تتجدد باستمرار، وأن هذا الجسد المادي بمثابة نهر جار خاضع لقانون التغير المستمر، خلايا تتلف، وغذاء يتحول إلى خلايا جديدة تحل محل الخلايا التالفة، ويأتي على جسم الإنسان في مدى كل عشر سنوات تجدد كامل لكل خلايا جسمه، أي: إن الجسد الأول يفنى ويأتي بدله جسد جديد، ولكن الإنسان لا يشعر بهذا التغير، ولا يتأثر كيانه الإنساني به، بل يبقى علمه وذاكرته وعاداته وأمانيه وأفكاره وحبه وبغضه وعواطفه كلها كما كانت، فلو أن الإنسان كان مظهر تفاعلات مادية صرفة لكان بفناء الخلايا الأولى من جسده، أو بعبارة أخرى لكان بفناء جسمه السابق الذي حل محله جسم جديد يجب أن تفنى أفكاره السابقة وعواطفه وآماله وأمانيه وكل خصائصه الثابتة التي لا تتغير، لكن هذا لا يحدث رغم تجدد الجسد تجدداً كلياً في كل عشر سنوات.
فلولا أن شيئاً روحياً غير هذا الجسد المادي يظل مستمراً يحمل الخصائص الإنسانية العليا، لما استطاع الإنسان المحافظة على مكتسباته السابقة، بعد فناء جسده السابق، أو بعد تعرضه لمراحل متعددة من الفناء في حياته.
جاء في كتاب "الإسلام يتحدى"(1) :
"لقد أثبت البحث النفسي الذي ذكرنا آنفاً أن جميع أفكار الإنسان -
(1) صفحة 152/153 (البحث النفسي) .
أو بعبارة أخرى: جميع خلايا مُخه - تبقى بصفة دائمة، وهذا الواقع يثبت بصراحة أن عقل الإنسان ليس بجزء من جسمه، فإن جميع خلايا وأنسجة الجسم تتغير تغيراً كاملاً في بضعة أعوام، ولكن سجل اللاشعور لا يقبل أي تغير أو مغالطة أو شبهة على رغم مرور مئات السنين. ولو كان هذا السجل الحافظ كائناً في الجسم فلا أدري أين مكانه منه؟ وفي أي جزء يكمن على وجه الخصوص؟ ولو كان في أحد أجزاء هذا الجسم فلماذا لا يزول عندما تزول هذه الأجزاء بعد سنوات عديدة؟ ما أعجب هذا السجل الذي تتحطم جميع لوحاته تلقائياً، ولكنه لا يفنى ولا يزول؟!
إن هذه البحوث الجديدة في علم النفس تؤكد بصفة قاطعة أن الوجود الإنساني لا تنحصر حقيقته في ذلك الجسم المادي الذي يخضع دوماً لعمليات التحكم والاحتكاك والفناء، بل هو شيء آخر غير هذا كله، وهو لا يفنى، بل يبقى مستقلاً ولا يزول".
فقضية الحياة لا تفسر إلا بالحقيقة التي تقررها المفاهيم الدينية، بالروح التي هي من نفخ الله، وهذه الروح تبقى بعد فناء الجسد، وتبقى بعد الموت، لأن الموت إنما هو انفصال كامل للروح عن الجسد.
(6)
نقض توهمات منكري الحياة الأخرى
لدى البحث عن المستندات الفكرية التي يستند إليها منكرو الحياة الآخرة يتبين لنا أنهم لا يملكون أية مستندات فكرية صحيحة، إنما هم بين العناد والتوهم.
أما العناد فهو مذهب المكابرين الذين لا ينفع معهم الجدل المنطقي، والمناظرة العلمية.
وأما التوهم فهو طريقة كثير من المنكرين الذين يندفعون وراء توهمات يتصورونها أدلة، وليست هي بأدلة.
إن الحياة الأخرى ليست من المستحيلات العقلية حتى يجحدوها الجاحدون
بحجة الاستحالة، ولكنها من الممكنات العقلية، وظهور الحياة الأولى أعظم شاهد تجريبي على إمكان الحياة الأخرى، وبعد إثبات الإمكان الفعلي تبقى لدينا مرجحات إثبات الوقوع، وقد رأينا بالأدلة النظرية أن مرجحات إثبات الوقوع مرجحات قوية، فإذا انضمت هذه الأدلة النظرية إلى التبليغات الربانية التي أخبرنا بها رسل الله الصادقون وجدنا أن الحياة الأخرى قضية حتمية لا مناص للعقلاء من الإيمان بها، والتسليم بما جاء عنها من أخبار صادقات.
وقد رأينا أن طريقة القرآن في محاجَّة منكري الحياة الأخرى من الماديين الملحدين، الذين لا يؤمنون بالله، طريقة تتضمن العودة بهم إلى نقطة الخلاف الأولى الأساسية، وهي الإيمان بالله تعالى، فهو يقيم لهم دليلاً مزدوج الهدف، يلفت النظر إلى حقيقة الإيمان بالله تعالى وبكمال صفاته، ويوجِّه إلى أن الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلق هذا الكون عبثاً، تنتهي حياة الإنسان فيه بنهاية حياته الأولى. ومتى أدرك المتفكر هاتين الحقيقتين تفتحت مغاليق فكره وفؤاده للتسليم بالحياة الأخرى، كما جاءت بها الأخبار الصحيحة الصريحة الصادقة التي أخبر بها الرسول.
أما طريقة القرآن في محاجَّة الآخرين، فهي تشتمل على النظر في توهماتهم التي استندوا إليها فيما ذهبوا إليه من الرفض، والرد عليها بإثبات الحق المناقض لهذه التوهمات، وقد استقصى القرآن الكريم في مواضع مختلفات توهماتهم وردها واحدة فواحدة بالحجج الدامغة.
وفيما يلي تتبع لهذه التوهمات وللرد القرآني عليها:
* التوهم الأول:
توهم ظهر على ألسنة المشركين أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلاصته أن القدرة التي قدرت على ابتداء خلق الإنسان لا تقدر على إعادته.
وقد سلك القرآن في إقامة الحجة على المنخدعين بهذا التوهم طريقين:
* الطريق الأول:
طريق إظهار واقع التساوي بين الإعادة والبدء، وبيان أن شبهة التفاوت شبهة
باطلة، إذ أن قدرة الله التي قدرت على ابتدائهم إبداعاً، قادرة على خلقهم بعد فنائهم إرجاعاً، فالأمران مستويان، بل الإعادة أهون في نظر الناس وحدود قدراتهم من الابتكار والإبداع.
فمن يسلِّم بأن الله قد بدأ الخلق حتم عليه بأن يسلِّم بأنه تعالى قادر على إعادته، بل هو أهون عليه.
وقد رد القرآن على أبيّ بن خلف شبهته هذه، بقول الله تعالى في سورة (يس/36 مصحف/41 نزول) :
وأكد حقيقة التساوي بين الإعادة والابتداء بقوله تعالى في سورة (مريم/19 مصحف/44 نزول) :
وبين الله في نص آخر أن إعادة الخلق أهون من ابتدائه، فإذا ثبت الابتداء بالمشاهدة تثبت الإعادة الموعود بها من باب أولى، فقال تعال في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) :
* الطريق الثاني:
طريق التنبيه على مظاهر قدرة الله في السماوات والأرض، وذلك أنه إذا كابر المنكر بعد إقامة الدليل بإظهار واقع التساوي بين الإعادة والبدء، فقال: الإعادة أشد من البدء مصراً على توهمه هذا، أتاه الجواب القرآني بنقله إلى ما هو أكبر في تصوره من ابتداء خلق الإنسان وإعادته، ألا وهو خلق السماوات والأرض.
إذ من المعلوم بالبداهة الحسية أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، في ابتدائهم أو في إعادتهم، وهذا ما أشارت إليه آية (الروم) السابقة:
{وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
ونلاحظ أن الاستدلال بخلق السماوات والأرض على قدرة الله تعالى على أن يحيي الموتى كثير في آيات القرآن المجيد:
فمنها قول الله تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول) :
ومنها قول الله تعالى في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول) :
فبعد إثبات أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس نبه النص على أنه لا يصح التسوية بين الأعمى والبصير، ولا بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئين، إن حكمة خالق هذا الكون الكبير المتقن البديع تأبى هذه التسوية، وإذا كانت هذه التسوية مرفوضة فإن أمر الجزاء واقع لا محالة، وذلك يكون يوم القيامة، وإذ وصل النص إلى إبراز هذه الحقيقة قرر أن الساعة آتية لا ريب فيها.
أي: فخلق السماوات والأرض شاهد على إمكان إعادة خلق الإنسان بعد فناء جسده، والداعي لهذه الإعادة قانون الجزاء الحكيم.
* التوهم الثاني:
توهم أن خلق السماوات والأرض وخلق الأحياء قد أصاب الخالق بالإعياء تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ولقد رد القرآن هذا التوهم ببساطة ووضوح، وذلك بإثبات أن خلق الله للأشياء كلها إنما يكون بتوجيه الإرادة والأمر، فإذا أراد أن يخلق شيئاً قال له: كن فيكون، ومن كان أمر خلقه كذلك فلا يمكن أن يصيبه الإعياء في القدرة أبداً.
وقد نفى الله أن تصاب قدرته بالإعياء بسبب خلقه للسماوات والأرض وما فيهن، فقال تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول) :
وعدم الإعياء بالخلق هو مقتضى قدرة الرب الخالق، ولذلك قال الله تعالى مستنكراً لو أن تفكيرهم، متسائلاً تساؤل المتهكم بإنكارهم في سورة (ق/50 مصحف/34 نزول) :
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}
أي: بل هم في شك من إمكان خلق جديد لمن سبق له أن خُلق ثم مات وفني جسمه.
وبين الله مدى قدرته العظيمة على ما خلق ما يريد من شيء بمجرد توجيه أمر التكوين له، فقال تعالى في سورة (يس/36 مصحف/41 نزول) :
{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}
على أن نفي الإعياء ومناقشة المنكرين في هذا الأمر، وكذلك مناقشتهم حول بعض التوهمات الأخرى، إنما هو تنزل من الخالق العظيم إلى مستوى تفكير المنكرين وعقولهم الساذجة، لإقامة الحجة عليهم من جميع الوجوه، ومحاصرتهم محاصرة فكرية ملزمة بالحق، على أن في هذه البيانات لفت نظر إلى حقيقة الربوبية، وأن من مقتضى خصائص صفات الربِّ الخالق قدرته الكاملة على الخلق، وهذه القدرة لها صفة البقاء الأزلي الأبدي، فهي لا تتناقص، ولا تختل، ولا تعرض لها عوارض التغير، فلله الخالق الأزلي الأبدي كلُّ صفات الكمال المطلق.
* التوهم الثالث:
توهم المنكرين أن من يموت من الناس يضل رفاته في الأرض، فتذهب صورته وصفاته، فكيف يرجع الله هذه الذوات والصفات، وكيف يجمع هذه الذات المتفتتة من عظامهم؟
وأثر هذا التوهم يظهر في توهمهم أن علم الله غير محيط بكل صغيرة وكبيرة من أعداد الذين يموتون من الناس، وغير محيط بصفاتهم وأوضاعهم وأعمالهم.
وقد ذكر الله مقالتهم التي تدل على هذا التوهم من توهماتهم، بقوله تعالى في سورة (السجدة/32 مصحف/75 نزول) :
أي: بل علة نفوسهم أنهم لا يريدون أن يقبلوا مبدأ لقاء ربهم، حتى لا يحجزهم اعتقاد هذا المبدأ عن الانطلاق في الفجور، وما يوردونه على قضية الآخرة وما فيها من حساب وجزاء ليس إلا تعلَاّت.
وذكر الله مقالتهم هذه أيضاً في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) فقال تعالى:
أي: فهم في عذاب في حياتهم يأتيهم من داخل نفوسهم المجرمة المتمردة على الحق، وهم في الضلال البعيد في عقيدتهم وفي سلوكهم.
ولدفع هذا التوهم من توهماتهم تنزل الله إلى مستوى مداركهم فأثبت لهم إحاطة علمه بكل شيء، ومن ذلك علمه سبحانه الذين يموتون أعداداً وصفات كاملة، وأن من مقتضى كونه تعالى هو الرب الخالق، والموجود الأزلي الأبدي، أن
يتناول علمه كل ما يجري في مخلوقاته، حتى ما توسوس به نفوس الناس من غير أن ينطقوا به، ودون أن يسمعه منهم أحد. وأثبت لهم أيضاً أن الملائكة الكرام الكاتبين والملائكة الذين يقبضون الأرواح ويتوفون الأنفس يسجلون كل واحد من الناس أحياءً وأمواتاً، بذواتهم وصفاتهم وأفعالهم وأقوالهم في كتاب حفيظ.
وفي الرد على هذا التوهم الذي يحتمل أن يكون مصدر تعجبهم إذ قالوا:
"أئذا متنا وكنا تراباً؟ ذلك رجع بعيد" قال تعالى في سورة (ق/50 مصحف/34 نزول) :
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}
وأثبت الله إحاطة علمه بكل صغيرة وكبيرة في مقام عرض إنكارهم للساعة وذلك على سبيل الرد عليهم فقال تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) :
وشاهد هذا الشمول العلمي لله تعالى سير كل شيء في هذا الكون ضمن نظام محكم دقيق لا يعتريه أي خلل، وهذا يسقط توهمهم.
وفي بيان إحاطة علمه تعالى بما توسوس به نفوس الناس دون أن يطلعوا عليه أحداً، قال سبحانه في سورة (ق/50 مصحف/34 نزول) :
وفي بيان مراقبة أقوال الناس وحفظها قال الله تعالى في سورة (ق/50 مصحف/34 نزول) :
وحين يلاحظ المنكرون هذه الحقيقة من حقائق الرب الخالق يسقط هذا التوهم من توهماتهم، ويعرفون أن الله على كل شيء قدير، ويعلمون أن وعد الله حق.
على أنهم لو نظروا فيما انتهت إليه البحوث العلمية لرأوا أنها قد أثبتت هذا السجل الكوني الكبير، الذي تسجل فيه الأعمال كلها، والأقوال، وخواطر الأنفس، ووساوسها، ونياتها.
لقد أثبت العلماء أن كل حرف نقوله وكل عمل يصدر عنا يسجل في الأثير، ويمكن عرضه في أي وقت من الأوقات بكل تفاصيله، متى تهيأت الأجهزة القادرة على كشف ما في هذا السجل الكبير، والتحكم بموجاته، فصور كل كائن من القرون الأولى وأصوات كل كائن مسجلة تسجيلاً كاملاً، منذ وجوده حتى آخر وجوده لحظة بلحظة، لا يضيع منه شيء صغيراً كان أو كبيراً، في النور أو في الظلمات، في السرِّ أو في العلن، وأثبتت التجارب العلمية أن جميع أفكارنا وخواطرنا تحفظ في شكلها الكامل وفق تسلسلها، ولسنا بقادرين على محوها أبداً، وإن نسيناها في عقلنا الظاهر أو في مستوى شعورنا، إنها تظل محفوظة أبداً لدينا فيما يسمى عند علماء النفس (ما تحت الشعور) وما هو محفوظ فيما تحت الشعور هو الجانب الأكبر من مجموع المحفوظات في كياننا الإنساني، فالقضية لا تحتاج يوم القيامة أكثر من كشف الغطاء عن مستوى ما تحت الشعور، وعرض شريط صور (فيلم) حياتنا كلها المسجل في الأثير (1) .
(1) تم اختراع آلات دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تخرج عن أي كائن، وهي تعطي صورة فوتوغرافية للكائن حينما خرجت منه الموجات الحرارية، غير أن هذه الآلات التي تم اختراعها حتى الآن لا تستطيع تصوير الموجات الحرارية إلا خلال ساعات قليلة من وقوع الحادث، أما الموجات القديمة فلا تستطيع تصويرها لضعفها. وتستعمل في هذه الآلات (أشعة انفرارد) التي تصور في الظلام والضوء على حد سواء، ولقد بدأ العلماء في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية استغلال هذا النوع من الآلات في تحقيقاتهم، وذات ليلة حلَّقت طائرة مجهولة في سماء نيويورك، فصوروا الموجات الحرارية لفضاء نيويورك بهذا النوع من الآلات، وأدى ذلك إلى معرفة طراز الطائرة ونوعها، وقد أطلق على هذه الآلة اسم (آلة تصوير الحرارة) .
[من كتاب: الإسلام يتحدى، ص132]
فهذا التوهم القديم الذي لم يكن يتصور مدى هذا التسجيل قد أصبح ساقطاً اليوم بالمكتشفات العلمية، وتحقق قول الله عز وجل في سورة (فصلت/41 مصحف/61 نزول) :
* التوهم الرابع:
توهم أن الأشياء التي لا يشاهدونها بالحس ينبغي أن لا يسلِّموا بها، وأن لا يصدقوها، فما لم يحدث فعلاً أمام أعينهم بشكل متكرر فهو ممتنع الوقوع.
وأصحاب هذا التوهم قد سيطرت حدود حواسهم الظاهرة على قوة التجريد العقلي فيهم، فزعموا عدم إمكان العبث، لأنهم لم يرَوا حياة بعد موت.
وهل باستطاعة أصحاب هذا التوهم أن يلتزموا مذهبهم في كل الحقائق التي يبحثونها أو يمؤنون بها؟
إن معظم النظريات العلمية التي يثبتها العلماء الماديون تشتمل على مضامين لم تشاهد بالحس، وإنما استنتجها العلماء استنتاجاً عن طريق تعليل الظواهر وتفسيرها.
وكثير مما كان يثبته الإنسان القديم وما يزال يثبته الإنسان الحديث لا يعتبر داخلاً في نطاق الأمور التي يمكن إدراكها بالحس، كالعقل والروح، والقوى التي لا تشاهد إلا آثارها وظواهرها.
ولكن رغم أن هذا التوهم مرفوض بداهة قد يكابر به بعض المعاندين، فيزعم بوقاحة أن الأشياء التي لا يشاهد لها أمثلة واقعة هي ممتنعة الوقوع.
ولنا مع أصحاب هذا التوهم محاكمات كثيرة، نلزمهم فيها بإثبات أشياء كثيرة في أنفسهم، وفي الكون من حولهم، يستنتجون هم وجودها استنتاجاً، مع أنها غير مدركة بأية حاسة من حواسهم.
ومع كل هذا فقد تنزَّل القرآن إلى مستوى مداركهم فضرب أمثلة مدركة بالحس دائمة الوقوع في الكون، تُقرِّب إلى تصوراتهم صورة الحياة بعد الموت.
إن جفاف الزرع وانقطاع تغذيته من الأرض، وحصاده وتحطمه، يشبه حالة الموت في الأحياء، ثم إن السنة الكونية الدائمة الظاهرة المشاهدة في عملية انشقاق الحبوب في بطن الأرض، ونباتها بعد ما سبق من حالتها التي تشبه حالة الموت، وعودتها إلى الحياة والنضر كرَّة أخرى، وذلك عند وجودها في البيئة الملائمة من ماء ممتزج بالتراب الصالح، لتعطي تقريراً حسياً مشاهداً باستمرار في الظواهر الكونية لقصة بعث الحياة بعد موت الأجساد الحية، وتفرُّق أجزائها في تراب الأرض ز
وقد نبَّه القرآن على هذا الشاهد الكوني الذي يقرب إلى تصور أصحاب هذا التوهم إمكان الحياة الأخرى، وأنها تشبه عودة الحياة إلى الزروع والنباتات بعد جفافها وما يشبه حالة الموت فيها.
فقال الله تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول) :
وقال أيضاً في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) :
وقال أيضاً في سورة (فصِّلت/41 مصحف/61 نزول) :
يضاف إلى هذا الشاهد المتكرر ما ضربه الله من أمثلة تجريبية واقعية، أجراها في أزمنة ماضية لحياة الإنسان بعد الموت.
فمن ذلك حادثة أهل الكهف وكيف ضرب الله على آذانهم ثلاثة قرون وتزيد، ثم أعثر عليهم ليعلم الناس بشهادة الحس كيف يحيي الله الموتى، وقص الله علينا قصتهم في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) ثم قال تعالى:
ومن ذلك أيضاً قصة (العزيز) الرجل الصالح من بني إسرائيل، إذ مر على قرية أموت فقال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ " فأماته الله مئة عام ثم بعثه وشاهد مشاهدة حسية كيف أحياه الله بعد أن أماته ورأى بنو إسرائيل من أهل قريته هذا الحدث التاريخي العجيب، وقد أخبرنا الله تعالى بهذه القصة في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) فقال:
ومن ذلك أيضاً قصة إماتة الألوف من بني إسرائيل حين أمروا بقتال عدوهم، فخرجوا من ديارهم فارين من مقابلة العدو حذو الموت، ثم بعد هذه الإماتة الجماعية أحياهم الله ليعملوا أن الفرار من القتال لا يحمي من الموت، وليعلموا أن
البعث حق، وقد ذكر الله قصة هؤلاء في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) فقال تعالى:
ومن ذلك أيضاً قصة إحياء قتيل بني إسرائيل، لسؤاله عن القاتل، وهذه القصة قد أخبرنا الله بها في أوائل سورة (البقرة) وقد أوجز المفسرون هذه القصة بأنه كان في بني إسرائيل شيخ موسر له ابن واحد، قتله ابن عمه طمعاً في ميراثه، ثم جاء يطالب بدمه قوماً آخرين، فأنكر المتهمون قتله، وترافع القوم إلى موسى عليه السلام، كل منهم يدرأ التهمة عن نفسه، فقال لهم موسى: إن الله يأمركن أن تذبحوا بقرة، وذلك ليتبين لهم القاتل الحقيقي فقالوا له: أتهزأ بنا؟ فقال موسى: معاذ الله أن أكون من الجاهلين، فسأل بنو إسرائيل موسى عليه السلام عن أوصافها، وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، ثم عثروا عليها وذبحوها وما كادوا يفعلون، ثم ضربوا جسد القتيل ببعض البقرة التي ذبحوها وفق الأمر الإلهي، فأحيا الله القتيل وأخبر عن قاتله.
ومن ذلك أيضاً قصة إحياء الطيور الأربعة لسيدنا إبراهيم عليه السلام، لما سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى.
ومن ذلك أيضاً معجزة عيسى عليه السلام، إذ كان يحيي الموتى بإذن الله، كما هو معلوم من معجزاته وآيات رسالته.
* التوهم الخامس:
توهم المنكرين أن مراد الخالق في إبداع الحياة وخلقها لا يتعدى حدود هذه الحياة الأولى، وأن كل حكمته من الخلق تتم فيها.
وهذا التوهم فيه اتهام لحكمة الخالق بالعبث، وهو ما سبق أن ناقشنا به منكري اليوم الآخر قبل أن نطرح توهماتهم للمناقشة، وذلك لأن منحة العقل،
والإرادة الحرة، وبعض القدرة على التنفيذ تستلزم المسؤولية، وإلا نجم عنها الفساد الذي لا حدود له دون غاية، وهو أمر ينافي الحكمة، والمسؤولية تستلزم المحاسبة والجزاء، وإلا كانت مسؤولية شكلية لا قيمة لها، وهو أمر ينافي الحكمة أيضاً، والجزاء يقتضي العقاب والثواب، وإلا كانت مسؤولية ناقصة تنهى عن الشر ولا تأمر بالخير، أو لا تشجع على الارتقاء في درجات الفضائل، وهو أمر ينافي كمال الحكمة أيضاً، والله تبارك وتعالى قادر حكيم منزَّه عن النقص في ذاته وصفاته وأفعاله، فلا يصدر عنه سبحانه إلا الكمال، ولا تكون أفعاله إلا مطابقة لكمال الحكمة.
وقد سبق أن عرضنا دفع القرآن لهذا التوهم، واستشهدنا بعدة نصوص قرآنية.
منها قول الله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول) :
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}
ونصوص أخرى نفى الله فيها عن نفسه أن يكون قد خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، أو خلقها على سبيل اللهو واللعب، بل خلقها لحكمة، وهذه الحكمة تقتضي مسؤولية الإنسان ومن على شاكلته، والمسؤولية تستلزم الجزاء بالثواب وبالعقاب، وظروف الجزاء الكامل غير موجودة في هذه الحياة الدنيا، فلا بد من حياة أخرى يكون فيها هذا الجزاء.
ولا ننسى أن هذا التوهم قد ورد في مقالات منكري الحياة الآخرة، وقد حكى الله مقالتهم التي تنم عن هذا التوهم من توهماتهم، فقال تعالى في سورة (الدخان/44 مصحف/64 نزول) :
{إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَاّ مَوْتَتُنَا الأُوْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}
وحكاها أيضاً في نصوص أخرى سبق الاستشهاد بها.
*التوهم السادس:
توهم المنكرين عدم إمكان تلقي الرسل الأخبار عن الله تعالى، وعدم
معرفتهم شيئاً من الغيب.
وقد عرض الله مقالة منكري الحياة الأخرى المشتملة على هذا التوهم من توهماتهم، فقال تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) :
وكان مطلبهم أن ينزل الله ملائكة يبلغونهم الأخبار عنه، أو يرون الله ويخاطبهم خطاباً مباشراً، وقد ذكر الله مطلبهم هذا بقوله تعالى في سورة (الفرقان/25 مصحف/42 نزول) :
والرد على أصحاب هذا التوهم يأتي ببساطة، ويتلخص بأن وعد الله بالدار الآخرة والحياة بعد الموت جاء على ألسنة الرسل المؤيدين بالمعجزات الباهرات، والله سبحانه لا يؤيد بمعجزاته من يكذب عليه، وبأن الله يستحيل عليه - سبحانه - الكذب في الأخبار، وقد أخبرنا في كتابه المنزل بذلك.
ولا تعدو مناقشة هؤلاء المناقشة حول الرسل والكتب واستحالة الكذب على الله تعالى، وأن لله أن يصطفي من يشاء من عباده، لتبليغ رسالاته للناس، وأن يتخذ ما يشاء من وسائل لإعلام رسله برسالاتهم، وإعطائهم ما يكون حجة لهم أمام الناس، حتى يصدقوهم ويثقوا بأخبارهم.
هذا إحصاء توهمات منكري الحياة الآخرة، وما فيها من جزاء بالثواب وبالعقاب.
وبعد إسقاط هذه التوهمات ودفعها، وبيان أنها لا تصلح بحال من الأحوال
لأن تكون مستنداً لرفض الإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء، من قبل المعترفين بوجود الخالق العظيم لهذا الكون، وبعد هذا الحصار الفكري للمنكرين حصاراً تاماً، لا يبقى لهم مخرج إلا طريق الإيمان والتسليم، إذا كانوا حريصين على احترام عقولهم، وحذرين من عاقبة إنكارهم. أما إذا لم يكن لديهم هذا الحرص وهذا الحذر فباستطاعتهم أن يظلوا جاحدين بوقاحة، ومنكرين بعناد لا مبرر له، ومورطين أنفسهم بكبرهم في إصرار من ورائه عذاب شديد، وشقاء لا نهاية له، ثم إنهم لا يظفرون بأي كسب مادي أو نفسي لحياتهم الدنيا من جراء هذا الإنكار، إلا أوهام الاستكبار والعناد، والرغبة بالانطلاق في الجرائم والآثام، دون أن ت تحرك قلوبهم بالخوف من مغبة ما يفعلون.
ولقد كشف الله عن هذه الدوافع التي تدفع المنكرين إلى التكذيب بالحياة الأخرى.
أما الكبر الذي جعل قلوبهم تنكر، فنجده في قول الله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :
وأما الرغبة بالانطلاق في الجرائم والآثام، فنجده في قول الله تعالى في سورة (القيامة/75 مصحف/31 نزول) :
{بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}
والفجور: هو التدفق الوقح إلى فعل الشرور والآثام والجرائم، دون رادع، أو ضابط من دين أو ضمير.
(7)
مع العظم واستناده إلى أقوال (برتراند رسل)
بعد أن عرض الناقد (د. العظم) أقوال (برتراند رسل) التي أنكر فيها الحياة الأخرى ووجود الله تبارك وتعالى، وعرض فيها نظرة الماديين الملحدين إلى الكون
والحياة والإنسان، والتي سبق أن نقضناها وكشفنا زيفها فكرياً وعلمياً، قال (د. العظم) بأسلوبه التزييفي في الصفحة (27) :
"لنقارن بين هذه النظرية العلمية المجردة القاسية الباردة، وبين القصة الدينية الإسلامية الجميلة المريحة الدافئة التي تعودنا عليها. نجد أن الغيبيات والملائكة والصلوات والمعجزات والجن تؤلف جزءاً لا يتجزأ من التعليل الديني لنشأة الكون وطبيعته، كذلك الأمر بالنسبة لتاريخ الإنسان ومصيره".
هذا كلامه حرفياً، ولست أدري كيف يسمح لنفسه هذا الإنسان ومن هو على شاكلته من الملحدين أن يبلغوا هذا المستوى التافه السخيف من التدجيل والتزييف، الذي لا يقبله صغار المثقفين، فضلاً عن الذين أخذوا من جوانب المعرفة قدراً مناسباً، وعرفوا مداخل الزيف.
إن ما أسماه بالنظرية العلمية المجردة القاسية الباردة، قد عرفنا بالمناقشات العلمية التي أوردناها فيما سبق أنها فرضيات احتمالية صاغها الملحدون باسم العلم، وليس لها براهين علمية مقبولة، ثم تلقفها المجرمون في الأرض وأخذوا يروِّجون لها، ويلبسونها أثواب الحقائق العلمية، ويعطونها من قوة التثبيت ما لا تملك شيئاً منها.
فكونها نظرية دعوى باطلة، لأنها فرضيات احتمالية لم تدعها أدلة تجعلها في مستوى النظريات.
وكونها علمية هي أيضاً دعوى باطلة، لأن الفرضيات ظنون ضعيفة لا يصح تسميتها علماً، لا سيما إذا كان يوجد ما يخالفها مما تدعمه الأدلة دعماً أقوى من دعمها.
وكونها مجردة قاسية باردة لا أجد له تفسيراً واقعياً إلا أنها مجردة عن المنطق السليم، ومجردة عن أية غاية كريمة، وقاسية على النفوس قسوة الباطل حينما يبهت الحق بتزييفه، وباردة برود الموت الذي لا يستطيع أن يحيا.
وأدهى من ذلك وأمر ما نجده من خلط عجيب لا يفعله إلا وقح شديد
الوقاحة، أو جاهل بالدين شديد الجهل، وذلك إذ يزعم:"أن الغيبيات والملائكة والصلوات والمعجزات والجن تؤلف جزءاً لا يتجزأ من التعليل الديني لنشأة الكون وطبيعته، كذلك الأمر بالنسبة لتاريخ الإنسان ومصيره".
فهل يجد أحد في الدين أن الصلوات كان لها أثر في نشأة الكون وطبيعته؟
هل يجد أحد في الدين أن الجن جزء لا يتجزأ من التعليل الديني لنشأة الكون وخلقه في عقيدة المسلمين؟ هل ساهم الجن في نشأة الكون وخلقه؟
هل يقول مثل هذا أحد من جهلة المسلمين فضلاً عن علمائهم؟
إن الدين يقرر أن الكون قد نشأ بخلق الله له، ضمن نظام الأسباب والمسببات، التي إذا اكتشف الباحثون شيئاً منها سمَّوها قوانين طبيعية.
فما هذا الخلط العجيب المفترى على الدين؟! ما هذا الخلط العجيب الذي لا نجد له مثيلاً إلا في أوكار الحشاشين، أو في مستشفى المجانين؟ أو في أقوال المهرجين؟!
قد يكون عذره أنه لم يقرأ إلا كتب الماركسيين، ودسائس اليهود وأجرائهم، ولم يسمع إلا أقوال هؤلاء وأولئك في التهكم على الدين، فظنها فعلاً مفاهيم إسلامية، فحملها حملاً ببغاوياً وكتبها في مقالاته مقابل أجر معلوم، دون أن يرجع إلى المصادر الإسلامية ويحقق فيها.
ولكن هل هذه طريقة باحث علمي أكاديمي يكتب نقداً وينشره بين جماهير المثقفين، وهو بهذا المستوى الذي لا يليق بصغار أبناء المدارس، فضلاً عن الذين تضعهم الأوراق المختومة بين كبار الدارسين؟!
أو لعله نظر من بعيد فرأى أن المسلمين يصلون لله خالق الكون وفاطره، ويعتقدون بأنه يوجد مخلوقات أخرى غيرهم خلقهم الله كما خلق البشر، إلا أنهم مزودون بخصائص وصفات ليس لدى البشر نظيرها، فمن هذه المخلوقات الملائكة، ومنها الجن. والمسلمون يعتقدون بها تصديقاً لخبر الله، دون أن يعتقدوا بأن لها مشاركة في تعليل نشأة الكون وطبيعته، وإنما لها تاريخ فيه كما للإنسان فيه
تاريخ، ولها وظائف فيه، كما للإنسان فيه وظائف، ثم بنى (العظم) على نظرته هذه التي نظرها من بعيد إلى المسلمين وعقائدهم، فزعم أن كل هذه الأمور جزء لا يتجزأ من التعليل الديني لنشأة الكون وطبيعته وتاريخ الإنسان ومصيره.
إن مثل (د. العظم) في صنيعه هذا كمثل من يراقب مطبخ الجيش المحارب من بعيد، فيرى فيه الكوسا والباذنجان وأكياس البصل وأواني الأطعمة المحفوظة وأدوات الطبخ وأسياخ شي اللحم، فينسى وظائف هذه الأشياء فيقول: إن هذا الجيش المحارب يستخدم في حربه (الكوسا والباذنجان والبصل وعلب الطماطم) ويعدد ما شاهد في مطبخ الجيش، ثم يقول: إن هذه الأشياء تمثل عند عدوناً جزءاً لا يتجزأ من القيادة العامة للجيش.
كان باستطاعته ما دام قد وصل إلى هذا الحد من السخافة الفكرية النقدية أن يضيف أشياء كثيرة لا حصر لها من الدين، ويجعلها جزءاً لا يتجزأ من التعليل الديني لنشأة الكون وطبيعته وتاريخ الإنسان ومصيره، فله أن يضيف مع الصلوات التي ذكرها الزكاة والصوم والحج وتحريم الربا وتحريم الخمر والميسر، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل، وتحريم الغش، وتحريم العدوان والظلم وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأن يضيف مع الملائكة والجن جميع الحيوانات والنباتات التي خلقها الله، والجبال والأوديان والأنهار والسحاب والليل والنهار والسماء والأرض، فكلها مذكورة فعلاً في القرآن، ولكن لكل منها مناسبة، ولكل منها موقعاً، ولا علاقة لها بتعليل نشأة الكون وطبيعته، وإنما هي أجزاء موجودة في الكون تحتاج هي إلى تعليل، وليست جزءاً من التعليل.
فيا لهذا من مغالطة متهافتة جداً، تكشف لأصغر طلاب المدارس زيف كاتبها، إذا كان لديه ولو قدر يسير من المعرفة الدينية.
*
…
*
…
*