الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
الحقيقة بين الدين والعلم
(1)
حاول الناقد (د. العظم) بمغالطاته وافتراءاته الكثيرة - أُسوة بسائر ملحدي هذا العصر - أن يثبت أن الدين مناقض للعلم، ليتوصل من ذلك إلى نقض الدين كله جملة وتفصيلاً، وقد جعل هذه النقطة هي المحور الأساسي الذي دار حوله في محاربته للدين، ونقده المزعوم المزور للفكر الديني، ونقضه المزيف الكاذب لقضية الإيمان بالله من أساسها.
من أجل ذلك عقدت هذا الفصل "الحقيقة بين الدين والعلم" قبل الدخول مع العظم في المعركة الجدالية، حول النقاط التفصيلية التي أثارها في جدلياته غير الشريفة وغير الأمينة، لأكشف فيه مواقع النظر السليم إلى كل من العلم والدين، ولأحدِّد فيه أبعاد كل منهما، ومواطن الشبهات التي قد يقع فيها هؤلاء أو هؤلاء، وبذلك ينكشف للقارئ منهج الحق قبل أن يشهد في هذا الكتاب فصول الصراع الجدلي على النقاط التفصيلية التي أثارها العظم، فمن عرف قواعد الصواب والخطأ في موضوع ما قبل أن يشهد حلبة الصراع فيه استطاع في نفسه أن يكون حكماً، ويعرف المحق من المبطل، ويعرف المستقيم المقسط من المراوغ المخادع.
(2)
تجوزاً في التعبير، ومتابعة لما هو دارج على ألسنة الناس، أضع هذا العنوان (الحقيقة بين الدين والعلم) لهذا الفصل، مع أن الحقيقة أن الدين الحق ليس قسيماً مغايراً للعلم، وإنما هو علم عن طريق الوحي، وما جاءت به طريق الدِّين اليقينية هو من قبيل الحقائق العلمية، وللحقائق العلمية طرق إثبات أخرى هي الوسائل الإنسانية البحتة.
فالمقابلة إذن ليست بين الدِّين والعلم، ولكن بين طرق اكتساب العلم الذي يأتي به الدين، وطرق اكتساب المعرفة الإنسانية البحتة، كطريق الحس المباشر لإدراك المعارف، وهو الإدراك القائم على المشاهدة والتجربة، وكطريق العقل لاستنباط المعارف التي لا تُدرك بالحس المباشر، وهذه الوسائل الإنسانية المختلفة وأدواتها التي تستخدمها، هي منحة من الله لعباده، حتى يستخدموها في اكتساب المعارف والعلوم، ولذلك كان الإنسان مسؤولاً عنها عند الله في مجال اكتساب العلم، فقال الله في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :
وهذه السوائل الإنسانية تقدم بدورها شهادة يقينية بالحقائق التي توصلت إليها، أو شهادة ترجيحية بالمعارف التي ترجحت لديها بغلبة الظن، وكذلك الوحي الجامع لطرق اكتساب العلم الذي يأتي به الدين، هو أيضاً منحة من الله لعباده، وقد جعله الله للناس طريقاً لاكتساب طائفة من العلوم، وهي التي يطق عليها اسم علوم الدين، ونلاحظ أن أهم ما يختص بها العلوم الغيبية التي لا تدركها الحواس الإنسانية، ولا تستطيع العقول بوسائلها إثابتها مستقلة عن أنباء الدين.
أما الحقيقة بالنسبة إلى الأمور الوجودية (غير الاعتبارية وغير النسبية) فهي واحدة، والإدراك الحسي يقدم شهادة بما توصل إليه من نتائج نحو الحقيقة، ويرافق الإدراك الحسي الوسائل المادية التي يستخدمها الحس، كالملاحظة والتجربة مع الأدوات والآلات التي تثبت صحة شهاداتها، كالمقاييس والموازين والكواشف المختلفة، وذوات الإحساس المادي غير الإرادي الكيميائي والفيزيائي، حتى الذري الإلكتروني. والاستنتاج أو الاستدلال العقلي يقدم أيضاً شهادةً بما توصل إليه من نتائج نحو الحقيقة. ولا يمكن أن تتناقض نتائج الإدراك الحسي ونتائج الاستدلال العقلي إلا وأحدهما أو كلاهما مصاب بالخلل، وذلك لأن كلاً منهما منحة ربانية وضعها الخالق بين يدي الإنسان ليعرف بها حقائق الأشياء، كما وضع بين يدي كل منهما وسائل البحث التي تقدم شهاداتها عن مشاهداتها، والطرق
الصحيحة التي تقصد أمراً واحداً لا بد أن توصل إلى غاية واحدة ونتيجة واحدة، أو غير متناقضة على أقل تقدير، إذ تتكامل الحقيقة مما قدمت هذه الطرق من مدركات، أو يعرف بها جزء من الحقيقة، على قدر ما استطاعت أن تكشف منها.
ثم إن الوحي الذي هو منحة من الله لعباده عن طريق النبوَّة هو أيضاً طريق من طرق المعرفة الصحيحة، فهو يقدم شهادة بالحقيقة، ومتى كان الخبر عن الوحي يقينياً مقطوعاً به فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يتناقض مع اليقين الذي تُوصل إليه الوسائل الإنسانية البحتة. ولو أمكن أن تتناقض لكان معنى ذلك أن الفاطر الحكيم لم يضع بين أيدينا الوسائل الصحيحة التي تكسبنا المعارف والعلوم الحقة، أو لم يصدقنا فيما أخبرنا به عن طريق الوحي، وكل من الأمرين مستحيل عقلاً وشرعاً.
فالله تبارك وتعالى جعل وسائل المعرفة فينا مسؤولية في ميدان المعرفة والبحث العلمي، ومسؤوليتها هذه رهن بأنها من الطرق الموصلة إلى الحقيقة، كما جعلنا مسؤولين عن التسليم بما يخبرنا به عن طريق الوحي، لأن برهان العقل قد قام لدينا بأن ما يخبرنا به الرسول عن طريق الوحي صدق وحق، والجامع بين الأمرين هو أن كلاً منهما يقدم شهادة بالحقيقة، وبما أن الحقيقة واحدة فإنه لا يمكن أن تتناقض نتائج الطرق الصحيحة الموصلة إليها، ومتى ظهر التناقض فلا بد أن يكون ذلك لخلل أصابها أو أصاب واحداً منها.
فمن الأمثلة ما يلي: لقد أخبرنا الله أنه لا إله إلا هو، وهذا خبر جاءنا به الوحي فقدم لنا شهادة بحقيقة وحدانية الخالق تبارك وتعالى، والبحث العلمي في هذا المجال لا بد أن يوصل إلى هذه الحقيقة نفسها، ولذلك قال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
فلدينا إذن حول هذه الحقيقة شهادة الله إذ أخبرنا بوحدانيته عن طريق الوحي والرسل، ولدينا أيضاً شهادة أولي العلم الذين توصلوا إلى هذه الحقيقة عن طريق البحث العلمي.
فمن الغفلة الكبيرة والجهل بأصول المعرفة، إقامة الصراع والنزاع بين ما يأتي من المعارف الكونية عن طريق الدين، وما يأتي منها عن طريق الوسائل الإنسانية، مع أن هذه وتلك شواهد إلهية أقامها الله بين يدي الإنسان ليعرف بها الحقيقة، وهل يشهد الله شهادتين متناقضتين أو يضللنا سبحانه فيضع لنا وسيلتين تعطي كل منهما نتيجة مناقضة للأخرى في موضع واحد؟
هذا أمر لا يكون في حال من الأحوال، وحكمة الله العلي العليم الحكيم القدير تأباه.
وواجبنا لدى البحث عن الحقيقة أن نحرر تحريراً دقيقاً ما تأتينا به الوسائل الإنسانية من المعارف، وما يصلنا من أخبار الوحي.
وكل مظهر للتناقض بين ما تشهد به الوسائل الإنسانية للمعرفة وما تشهد به النصوص الدينية لا يعدو أحد الاحتمالات التالية:
1-
إما أن يكون الذي نسب إلى العلم لم يصل إلى مرحلة العلم المقطوع به، كالنظريات التي لم تتأكد بعد، والتي ما زالت رهن البحث والنظر، أو التي لا سبيل إلى إثباتها بأدلة علمية يقينية، وإن اعتقدها العلماء الماديون لعدم وجود ما هو أقوى منها في نظرهم المادي البحت، ولأنه لا اختيار لهم بعد ذلك إلا التسليم بما جاء به الدين، وهم يرفضون نفسياً هذا الأخير.
2-
وإما لأن الذي نسب إلى الدين لم يصل إلى درجة القطع في نقل النص الذي تضمنه.
3-
وإما لأن الفهم الذي فُهم به النص الديني فهم خاطئ، وهذا الفهم لا يتحمل النص الديني وزر خطئه، وغنما يعبر عن رأي من فهمه على هذا الوجه المخالف للحقيقة العلمية، التي توصلت إليها الوسائل الإنسانية، كمسألة كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس.
وهنا نلاحظ أن النصرانية لما سقطت في طائفة من المفاهيم الباطلة الدخيلة على أصل الدين، والمخالفة له، والمناقضة لأصول العقل والعلم الصحيح،
حاولت أن تتلخص من ورطتها هذه بمقالتها المشهورة: "الدين لا يخضع للعقل" وأطلق علماؤهم بين بين أتباعهم كلمتهم المأثورة: "أطفئ مصباح عقلك واعتقد وأنت أعمى" وحرموا التفكير والنظر في مسائل الدين، وفرضوا عليهم التسليم الأعمى بالإله المثلث دون مناقشة ولا نظر، مع أن أصول العقل السليم ترفض هذا رفضاً قطعياً، ولا تسلم به النفوس إلا مع تعطيل منطق العقل، ورافق ذلك أنهم أقفلوا باب العقل والبحث العلمي نهائياً عن كل مسألة تعرضت إليها نصوص دينهم، حتى ما كان منها متعلقاً بواقع الكون الذي تستطيع الوسائل الإنسانية أن تصل إلى معرفته.
ولما جاء الإسلام رفض هذا التثليث الدخيل على دين الله، ونادى بالوحدانية، وقدم على ذلك شهادة من عند الله، نزل بها الوحي على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وشهادة من أولي العلم، فجعل العقل العلمي شاهداً على هذه الحقيقة، وناقض مخالفيها على أساس من العقل والعلم، واعتبر العقل في هذا سنداً يُستفتى ويُستشهد به، ولو كان البحث العلمي الإنساني السليم سيوصل إلى القطع بحقائق لا يوافق عليها الدين لما دعاه الإسلام إلى تقديم شهادته بالحقيقة، ولما أرشد الله العلماء إليه، ووضع في أيديهم وسائله، ودفع بهم إليه دفعاً، فقال الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) :
{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
…
} .
وقال في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول) :
{قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
…
} .
وقال في سورة (الذاريات/51 مصحف/61 نزول) :
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي? أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ..} .
ولما ناقش الناس بدلائله (أي: بدلائل العقل)، ففي إثبات الوحدانية قال الله تعالى في سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول) :
وقال في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول) :
وفي إثبات وجود الله ناقش بالمنطق العقلي البحت فقال الله تعالى في سورة (الطور/52 مصحف/76 نزول) :
{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} .
إلى غير ذلك من شواهد كثيرة (1)
(3)
الغيب ومنطق العقل
حينما يناقش علماء النصارى في مسألة التثليث أو غيرها من المسائل التي يرفضها منطق العقل، يدافعون بأن الدين لا يخضع لمنطق العقل، إذ هو فوق مستوى العقل البشري، ويجب التسليم بكل ما جاء فيه، ولو كان العقل يرفضه رفضاً باتاً لاستحالته.
وظل رؤساء الدين عندهم يهيمنون على أتباعهم بهذه الحجة، حتى قامت الثورة العلمية المادية الحديثة، ففجرت جوانب البحث العلمي في كل مجال من المجالات العلمية التي يستطيع الإنسان أن يتوصل إليها، وأيقظت الفكر النصراني من سباته الذي لازمه قرابة خمسة عشر قرناً، ثم امتد أثره إلى الأمم الأخرى، ومع هذه اليقظة العلمية أخذ المثقفون منهم يفكرون في قضية التثليث، وفي قضايا مشابهة، يقال عنها: إنها من أمور الدين التي هي فوق مستوى العقل، ويجب التسليم بها، ولو كان العقل يرفضها قطعياً ويرى أنها مستحيلة، فلم تهضمها
(1) شرحت طائفة منها في كتابي: "العقيدة الإسلامية وأسسها".
عقولهم، وبدأوا يتشككون في صحة ديانتهم من أساسها، وقام الصراع المعروف بين قوتين:
قوة تقليدية لها مؤسسات ورياسات دينية وأنظمة حكم تدعمها.
وقوة أخرى أخذت سبيلها إلى النهوض المادي عن طريق البحث العلمي، ومناقشة الأمور بالعقل والمنطق وسائر وسائل البحث الإنساني للوصول إلى المعرفة الصحيحة.
وانتهت معركة الصراع بمحاصرة الديانة النصرانية وحجزها داخل جدران الكنيسة، ثم أخذت الأجيال النصرانية سبيلها إلى إنكار ديانتهم، والشك في صحتها من أساسها، وعاشت في فراغ فكري وروحي خطير، وفي هذا الجو النفسي المستعد لملئه بشيء آخر نشط دعاة الإلحاد الماديون يبثون أفكارهم الإلحادية، واستغلت اليهودية العالمية هذا الواقع أو ساهمت في التدبير له، وشحنته بما يلزم من الآراء الإلحادية والنظريات الخادمة لقضية الإلحاد، فأخذ الإلحاد ينتشر في أوروبا انتشار النار في الهشيم، وتبعتها شعوب أخرى، ودار دولاب الانهيار في الغرب والشرق متسارعاً بشكل خطير، مؤذن بدمار قريب تتحقق فيه سنة الله في الأمم.
والمسؤول عن كل ذلك أو معظمه العلماء بالنصرانية ورؤساء الكنيسة، لأنهم لم يصححوا العقائد المزيفة، الدخيلة على أصول ديانتهم، والتي كان اليهود من قبل قد عملوا على إدخالها فيها لإفساد أصول النصرانية، ثم لم يعمل هؤلاء الرؤساء الدينيون لإقناع شبابهم المثقف بالحجة والبرهان.
وهنا يتساءل الشاب المسلم المثقف فيقول: ما هو موقف الإسلام من العقل، ومما تثبته وسائل المعرفة الإنسانية تجاه ما جاء به الدين؟
ومن واجبنا أمام هذا التساؤل أن نحرر الجواب تحريراً شاملاً شافياً:
أولاً: من نعمة الله علينا في الإسلام أن أصوله وأركانه قد سَلِمت من التغيير والتحريف، فلم يصبها شيءٌ، مما أصاب أصول الأديان الأخرى من ذلك، فليس
أمامنا مشكلة دين محرف مخالف للحقيقة، أو مخالف لمنطق فليس أمامنا مشكلة دين محرف مخالف للحقيقة، أو مخالف لمنطق العقل والواقع، حتى نلفّق لدعمه الحجج الخرافية، على أن الإسلام لا يرضى ولا يقبل بحالٍ من الأحوال من المؤمنين به أن يلفقوا الحجج الباطلة، أو يختلقوا الشهادات الكاذبات، ولو كان ذلك لدعم الحق الذي جاء به، لأن قبول هذا الأسلوب سيقضي على الأدلة والحجج الحقة الصادقة، وسيقضي بالتالي على الدين من أساسه، إذ قبل بمبدأ التأييد بالباطل، فالحق لا يقبل التأييد والمناصرة إلا بالحق.
ثانياً: الإسلام دين الحق، والحق لا يمكن أن تقوم الأدلة الصحيحة على إبطاله بحال من الأحوال. ولكن قد تقوم الأدلة الباطلة لإبطاله في تصورات المغرورين المخدوعين صغار العقول، على أن هذه الأدلة الباطلة لا تلبث حتى تنهار، وحسبها ضعفاً وقلة شأن أنها أدلة باطلة في أصلها، مهما طليت بالأصباغ وأنواع الزينة من زخرف القول.
ثالثاً: تنقسم المعارف الدينية إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
تكاليف عملية نفسية وجسدية يطالب الناس بها. ومن نعمة الله علينا في الإسلام أنها مشتملة على ما يصلح أوضاع الناس وأحوالهم، ويرتقي بهم إلى أرفع درجة حضارية إنسانية، سواءٌ أكانت تكاليف عبادات، أو تكاليف أخلاق، أو تكاليف معاملات، أو تكاليف أخرى تدفع الناس إلى الارتقاء المجيد في سلَّم الحضارة الإنسانية المثلى، الخالية من عيوب الانهيار الأخلاقي والنفسي والسلوكي.
وبرهان هذا وتفصيله يتطلب شرحاً طويلاً، عرضت طائفة مناسبة منه في كتابي:"أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها".
على أن الأصل في التكاليف أنها ابتلاء للإرادة، والامتحان لا يشترط فيه بشكل لازم أن يكون موافقاً لمصالح الواقعين تحت الامتحان. لكن فضل الله كان عظيماً، إذ كان امتحانه لنا في تكاليف تضمن أحسن المصالح لنا، وأوفى المنافع، وأكثر الاحتمالات دفعاً للأضرار والمخاطر، وأسلمها حلاً للمشكلات.
القسم الثاني:
أنباء عن واقع كوني باستطاعة الوسائل الإنسانية أن تصل إلى معرفتها على ما هي عليه في الواقع، ولو بعد حين.
وما جاء في الإسلام من هذا القسم لا يمكن أن يكون مخالفاً للواقع والحقيقة، إلا ضمن احتمالين لا ثالث لهما:
الأول: أن يكون فهم النص الإسلامي من قبل بعض المجتهدين أو المؤولين فهماً خاطئاً.
الثاني: أن يكون النص المنسوب إلى الإسلام نصاً غير صحيح النسبة، كأن يكون خبراً كاذباً، أو ضعيفاً لا يصح الاعتماد عليه، أو خبراً غير قطعي الثبوت، فمن الممكن دخول خطأ فيه من نقل الراوي أو فهمه، إذ يحتمل أنه روى المعنى الذي فهمه هو، ولم يرو اللفظ ذاته الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما يكون في أحاديث الآحاد فقط، أي: التي لم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي أو المعنوي.
إما أن يكون الخبر الإسلامي قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ثم يخالف الحقيقة والواقع، فهذا غير موجود حتماً، وليس من الممكن أن يوجد قطعاً.
ولكن هنا قد تقع مغالطة لا بد من التنبيه عليها، وهذه المغالطة تأتي من قبل ما ينسب إلى الحقيقة العلمية، الآتية عن طريق الوسائل الإنسانية البحتة، فكثيراً ما يدعي الماديون أن فرضية من الفرضيات، أو نظرية من النظريات، قد أصبحت حقيقة علمية غير قابلة للنقض أو التعديل، مع أن هذه النظرية لا تملك أدلة إثبات يقينية تجعلها حقيقة نهائية، أو حقيقة مقطوعاً بها ضمن مستواها، وذلك بشهادة العلماء، الذين وضعوا هذه النظرية أو ساهموا في تدعيمها.
ومن أمثلة ذلك الداروينية بالنسبة إلى نشأة الكون وخلق الإنسان، فهي لا تملك أدلة إثبات قاطعة أو شديدة الترجيح، ولكن كثيراً من العلماء الماديين يقبلونها تسليماً اعتقادياً، لا تسليماً علمياً، إذ ليس لديهم اختيار بعدها إلا الإيمان بالخلق الرباني، وهذا أمر لا يجدون أنفسهم الآن مستعدين لقبوله، ما دام منطق الإلحاد هو المسيطر على اعتقادهم في بيئاتهم.
ويأتي كُسور من المثقفين (أنصاف - أرباع - أعشار) من المتأثرين بالنزعات الإلحادية فيدَّعون وجود التناقض بين الدين والحقائق العلمية، استناداً إلى وجود اختلاف بين بعض المعارف الدينية وبعض الفرضيات أو النظريات التي لم تصبح بعدُ حقائق علمية، وهم يزعمون كذباً أو يتصورون خطأ أن هذه الفرضيات أو النظريات قد أصبحت حقائق علمية ثابتة بشكل قطعي غير قابل للنقض، وهنا يقعون في غلط علمي فاحش جداً، ويتبع ذلك سقوطهم في ضلال اعتقادي كبير تجاه الدين وأصوله ومعارفه، علماً بأن طائفة من النظريات التي نسبت إلى العلم قد وُضعت خصيصاً لدعم قضية الإلحاد والكفر بالله، على أيدي يهود أو أجراء يهود، وصيغت لها المقدمات والمبررات التي ليس لها قواعد منطقية علمية صحيحة.
فالواجب إذن يتحتم علينا - أخذاً بطرق البحث العلمي السليم المحرر الذي أمرنا به الإسلام-أن نمعن النظر فيما قدمته شهادة العقل، ووسائل البحث العلمي الإنسانية، وفيما قدمته شهادة النصوص الدينية، وأن نخضع هذه الشهادات للضوابط العلمية الصحيحة، المتفق عليها في أصول العقل، وفي أصول الدين.
وإني لأجزم بكل يقين أننا لن نجد مسألة واحدة يستحكم فيها الخلاف بين شهادة النصوص الدينية اليقينية قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وبين الشهادة القاطعة التي يقدمها العقل، أو الشهادة القاطعة التي يقدمها البحث العلمي الإنساني البحت.
بل اليقيني من كل ذلك لا بد أن يتطابق في شهادته، متى استطاع أن يصل إلى الحقيقة التي هي موضوع البحث.
فإن وصل بعضها وبعضها الآخر لم يصل أعلن كل عن مبلغه من العلم قصَّر في المعرفة أو زاد، وفي هذا لا يوجد تناقض أو خلاف، ولكن يوجد بيان جزئي وبيان أشمل وأكمل، أو بيان جزئي من جهة وبيان جزئي من جهة أخرى، وفق مثال العميان والفيل (1) .
(1) مثل أورده الغزالي وغيره، خلاصته أن عدداً من العميان قُدّم لهم فيل ليصفوه، فوقعت يد كل منهم على جانب منه، ثم أخذ يصف الفيل عن طريق ما تلمسه بيده منه، فوصف أحدهم ملاسة الناب وقسوته، والآخر خشونة الذيل، والثالث ما تلمسه من الخرطوم، والرابع ما تلمسه من رجله
…
وهكذا.
القسم الثالث: أنباء من أنباء الغيب الذي لا تستطيع الوسائل الإنسانية البحتة أن تصل إلى معرفته على ما هو عليه في الواقع.
وهذه الأنباء الدينية الغيبية تخبر عن بعض حقائق الوجود الأكبر، فمنها ما يتعلق بخصائص الخالق جل وعلا، ومنها ما يصف بعض الحقائق الغيبية من واقع هذا الكون المخلوق لله تعالى، كالملائكة والجن والعرش والكرسي، ومنها ما يحكي أحداثاً سبق أن حدثت فيما مضى من الأزمان، وليس باستطاعة الوسائل الإنسانية أن تستعيد صورتها الواقعية، كقصة خلق آدم، ومنها ما يُنبيء عن أحداث ستقع فيما يأتي من الأزمان، ضمن واقع هذا النظام الكوني القائم، كأشراط الساعة، أو سوف تقع في نظام عالم آخر وحياة أخرى، وهو ما جاء عن الآخرة زماناً وداراً وحياة وحساباً ونعيماً وعذاباً.
وموقف العقل ووسائل البحث العلمي الإنسانية بالنسبة إلى ما جاء في هذا القسم يتلخص بما يلي:
1-
تحرير صدق الخبر وصحة دلالته.
2-
رفض ما لم يثبت صدقه ضمن قواعد تحرير صدق الأخبار.
3-
رفض ما خالف أحكام العقل القاطعة، وهو ما يدخل في قسم المستحيلات العقلية، كالجمع بين النقيضين، وكوجود شريك لله الخالق سبحانه وتعالى، فأي نبأ من أنباء الغيب يثبت شيئاً يحكم العقل حكماً قاطعاً باستحالة وجوده هو خبر مرفوض عقلاً وشرعاً، وأي نبأ من أنباء الغيب ينفي شيئاً يحكم العقل حكماً قاطعاً بأنه واجب الوجود هو نبأ مرفوض عقلاً وشرعاًً.
ولما قال الإمام الغزالي في كتابه "المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى" كلمته الحصيفة الرصينة المشتملة على نظر ثاقب عميق:
" ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور قد يظهر فيه ما لا يظهر في العقل ".
عقّب عليه باستدراك خلاصته: إن ما وراء العقل قد يكون بعيداً عن تصور العقل وتوهمه بُعداً بالغ النهاية، لأن العقل محجوب عنه في حدوده التي لا يستطيع أن يتعداها، لكنه لا يمكن أن يكون وراء العقل أشياء يحكم العقل حكماً قاطعاً باستحالتها، فهنالك فرق كبير بين ما لا يدركه العقل فهو لا يتناوله بنفي ولا إثبات، لأنه ليس من الأمور التي يتناولها بأحكامه، وبين ما يحكم العقل حكماً قاطعاً بنفيه أو إثباته.
فمن الأشياء التي لا يمكن أن يكون وضعها فيما وراء العقل على خلاف وضعها في أحكام العقل القاطعة لأنها من المستحيلات العقلية: أن يكون لله تعالى شريك، أو أن يكون في مقدور الخالق جل وعلا أن يخلق مثل ذاته سبحانه، أو أن يجعل الحادث قديماً، أو ما أشبه ذلك.
وقد أوفيت هذا الموضوع بمزيد من الشرح والتفصيل في كتابي: "العقيدة الإسلامية وأسسها".
4-
ما له دلائل وقرائن من العقل تؤيده فإن موقف العقل منه موقف الشاهد المؤيد المسلم.
5-
التسليم التام في كل ما يقول فيه العقل: لا أدري، إذ ليس لدي من الأدلة الظاهرة في مقاييسي ما أستطيع أن أثبت به، كما أنه ليس لدي منها ما أستطيع أن أنفي به.
وهذا التسليم تصديق لشهادة النص الديني الثابت من جهة الرواية، وفق أصول تحقيق المستندات الأخبارية، وتصديق شهادة النص الديني له مستند عقلي قاطع، لأن العقول يقول: ما جربته من أنباء الإسلام الصحيحة النسبة بشكل يقيني لم أجد فيها إلا الحق، وكل ما وجدته فيها مما استطعت الوصول إلى حقيقته الواقعة بنفسي كان حقاً وصدقاً. ويقول العقل أيضاً: إن من يملك تغيير سنن الكون الثابتة بما يجريه من معجزات على أيدي أنبيائه ورسله، ليعلمني بأن الكون كله خاضع
لقدرته وإرادته، وليعلمني بأن أخباره التي يبلغها أنبياؤه ورسله أخبار صادقة، لا يمكن أن تكون أخباره عن الغيوب التي لا أستطيع الوصول إليها بنفسي أخباراً مخالفة لحقيقة الغيب وواقعه.
لكل ذلك فإنه يجب التسليم بها تسليماً قاطعاً لا يداخله ريب.
(4)
منهج الإسلام في المعرفة
الأساس الأول للمعرفة في الفكر الإسلامي يقوم على أن المعرفة الصحيحة هي ما كان مطابقاً للواقع والحقيقة، فما كان مطابقاً لذلك فهو حق، وما لم يكن مطابقاً له فهو باطل، وقد تكون الصورة الذهنية أو القولية مطابقة للواقع والحقيقة من بعض الوجوه، ومخالفة من بعض الوجوه، فيكون فيها من الحق على مقدار المطابقة، ومن الباطل على مقدار المخالفة.
والقاعدة الكلية التي تأتي وراء هذا الأساس هي: أن كل وسيلة صحيحة تعطينا صورة صادقة عن الواقع والحقيقة هي وسيلة يجب الاعتماد عليها والثقة بها في تحصيل المعرفة، والمرجع الأول والأخير دائماً هو الواقع، وبالواقع تقاس النتائج. وعلى هذه القاعدة قام بناء الفكر الإسلامي.
أما وسائل المعرفة التي يجب اعتمادها في الفكر الإسلامي فتتلخص بثلاث وسائل:
الوسيلة الأولى: المعرفة المباشرة، وتكون بالإدراك الحسي، ولو عن طريق الأجهزة والأدوات.
الوسيلة الثانية: الاستدلال العقلي بمختلف طرقه الاستنتاجية والاستنباطية.
الوسيلة الثالثة: الخبر الصادق، ومن الخبر الصادق الوحي، وهنا يعترضنا سؤال وهو: إذا كان الهدف الأول والرئيسي هو أن تكون المعرفة مطابقة للواقع والحقيقة، فماذا نصنع حينما تختلف وسائل المعرفة حول موضوع واحد، أو حول نقطة في موضوع واحد؟
هل نعتمد وسيلة الإدراك الحسي؟
أو وسيلة الاستدلال العقلي؟
أو وسيلة الخبر الصادق؟
أو ماذا نصنع
…
؟
ونجيب على هذا السؤال بما يلي:
حينما يكون دليل وسيلة من هذه الوسائل هو الدليل الأقوى في الموضوع فإنه ينبغي اعتماده وترجيحه، فإذا كان دليل الحس قائماً على مشاهدة صحيحة يقينية خالية من احتمال الخطأ، مؤكدة بتوافق الحواس في إدراكها، كان دليل الحس هو الذي ينبغي اعتماده، ومن ثم يعاد النظر في الاستدلال العقلي إذا كان الخلاف معه أو يعاد النظر في دليل الخبر الصادق إذا كان الخلاف معه، وإعادة النظر في دليل الخبر الصادق قد لا تحتاج أكثر من تصحيح فهم النص، والنظر في تأويله بما يتفق مع النتائج اليقينية التي قدمها دليل الحس، وذلك لأن الغاية من استخدام وسائل المعرفة إنما هو الوصول إلى معرفة مطابقة للواقع، وليس من الممكن أن يتناقض الواقع مع نفسه، وحينما يظهر خلاف أو تناقض في النتائج التي قدمتها الوسائل فلا بد أن خطأ قد دخل حتماً في بعضها أو في كلها، وعندئذ لا مناص من مراجعة الأدلة والتمحيص فيها، وإعادة النظر وزيادة التحري عن الحقيقة لاكتشاف مواقع الخطأ والخلل. وتظل المراجعة مفتوحة حتى يتم اكتشاف المخطئ منها، ثم ما يثبت منها الواقع والحقيقة بصفة يقينية يكون هو الجدير بالاعتماد، ثم يعاد النظر في غيره حتى نصححه وننتهي إلى التوافق التام في النتائج، فمن المستحيل في منطق الوجود أن تتناقض الأدلة اليقينية في معطياتها العلمية، وحينما نجد التناقض في هذه المعطيات فلا بد من وجود خلل أو خطأ في بعض الأدلة أو في كلها.
وتخضع النصوص الدينية لحكم هذا المنهج العلمي، لأن الحقيقة الواقعة في الوجود هي من خلق الله تعالى، والله محيط بكل شيء علماً، وحينما يخبرنا عن شيء منها فلا بد أن يكون خبره مطابقاً لما هي عليه في الواقع، لأنه يستحيل الجهل أو الكذب عليه سبحانه.
والمشكلة قد تأتي - كما سبق أن أوضحت - من الخطأ في فهم النص الديني الثابت، وفهم النص الديني عمل اجتهادي إنساني، وهذا الفهم الإنساني للنص قد يصيب وقد يخطئ، فإذا أخطأ الاجتهاد في الفهم فليس معنى خطئه أن النص هو المخطئ، ولكن المخطئ هو الإنسان غير المعصوم، الذي اجتهد في فهم معنى النص، وفي هذه الحالة علينا أن نراجع فهمنا للنص، ونعيد تدبُّرنا له، حتى نصل إلى المعنى اليقيني الذي تم الوصول إليه بيقين عن طريق الإدراك الحسي أو الاستدلال العقلي.
ولا يكون التعصب للاجتهاد الذي أخطأ فيه صاحبه إلا خدمة للذين يحاولون بكل ما يستطيعون من جهد أن يثبتوا التناقض بين ما يأتي به الدين، وبين الحقائق التي تأتي بها الوسائل الإنسانية للبحث العلمي، لطعن الدين من أساسه، ونسف قواعده القائمة على الحق، وإشاعة الإلحاد والمادية التي لا تؤمن بالله.
وقد تأتي المشكلة أيضاً من كون النص الديني نصاً غير ثابت ثبوتاً قطعياً، لأنه لم تتوافر له الروايات الصحيحة التي تجعله قطعيّ الثبوت، وبدهي في هذه الحالة أن يكون الدليل الحسي اليقيني أو الدليل العقلي اليقيني أقوى من دليل الخبر الظني الذي لم يبلغ مبلغ القطعية، فإن أمكن تأويل النص أقوى من دليل الخبر الظني الذي لم يبلغ مبلغ القطعية، فإن أمكن تأويل النص بما يتفق مع النتائج اليقينية للأدلة الأخرى أولناه، وإلا أخذنا بالنتائج اليقينية حتماً، وتركنا النص ودلالته، ولا يضرنا هذا في الدين، لأن قبولنا له من الأساس قد كان بصفة ترجيحية لا بصفة قطعية.
فإذا سأل سائل فقال: هل لنا أن نؤول النصوص الدينية أو نخصصها بدليل الحس أو بدليل العقل، حتى تكون دلالتها مطابقة للواقع والحقيقة؟
كان جوابنا بالإيجاب حتماً، وبأن هذا العمل من القواعد المقررة في علوم الشريعة الإسلامية، يقول علماء أصول الفقه في أبواب تخصيص العام:"لا خلاف في جواز تخصيص العموم" ويقررون في أبواب تأويل الظاهر: "أنه يجوز التأويل متى كان دليله أرجح من دليل العمل بالظاهر، ويجب التأويل متى كان دليله دليلاً قاطعاً لا يجوز العدول عنه" ويذكرون من أدلة تخصيص العموم: "دليل الحس،
ودليل العقل" ونظير ذلك يكون في تأويل الظاهر، فيتم التأويل بناء على دليل الحس أو دليل العقل.
هذا هو منهجنا الإسلامي فيما يتعلق بالنصوص الدينية ودلالتها على حقائق الأشياء.
ولكن يجب الحذر الشديد لدى تطبيق هذا المنهج، حتى لا يدخل علينا الدس الماكر باسم الحقائق العلمية التي توصلت إليها نتائج البحث العلمي بالوسائل الإنسانية البحتة، فكثير من النتائج التي تُقرَّر على أنها حقائق علمية عند أصحاب البحث العلمي المادي لا تعدو أنها نظريات أو فرضيات قابلة للتعديل أو التغيير أو النقض الكلي، وليست حقائق علمية يقينية عند أصحابها، ولكن أصحاب الأهواء أو صغار المثقفين الذين لا يقدرون المعارف العلمية حق قدرها، وينخدعون بدعايات الترويج التجاري أو السياسي للنظريات أو الفرضيات العلمية، قد يزعمون أنها حقائق ويقينيات علمية، وليست هي في الواقع كذلك، ثم يحملونها حمل الببغاوات أو حمل الأجراء، ثم يقولون: إن بين الحقائق العلمية وبين النصوص الدينية تناقضاً، ويقصدون بالحقائق العلمية هذه النظريات أو الفرضيات التي لم تثبت بعد في نظر واضعيها ثبوتاً يقينياً أو نهائياً، فضلاً عن أن تكون يقينيات في نظر غيرهم من الذين يعارضون فيها.
وأمام هذه النظريات أو الفرضيات لا نجد أنفسنا ملزمين علمياً بتحديد معاني النصوص الدينية التي تتناول الموضوع نفسه تحديداً قاطعاً.
والخطة المثلى أن نطرح الاحتمالات دلالاتها طرحاً غير مقترن بترجيح ولا تثبيت، وحينما نرى أن نرجح فعلينا أن لا نجزم، وأن نترك الجز لمستقبل البحث العلمي، وننتظر إثبات الحقيقة العلمية بوسيلة يقينية، فالمضمون لا يتعلق به حكم شرعي يجب العمل به، لذلك فلا ضير من التريث والأناة، هذا إذا لم يكن النص اليقيني قاطعاً في دلالته.
أما إذا كان قاطعاً في دلالته، أو كان من الأمور المتعقلة بالتشريع والأحكام الدينية، أو من الغيب الاعتقادي الذي لا تملك الوسائل الإنسانية الوصول إلى شيء
منه، فإنه يجب الأخذ بمضمونه وفق أصول الاجتهاد في فهم النصوص، فاليقيني منها نسلم به تسليماً تاماً، وغير اليقيني نضعه في المستوى الذي يقتضيه الترجيح.
(5)
النتيجة
فهل لمضلل ملحد بعد هذا التحليل لموقف العلم والدين من الحقيقة أن يزعم وجود التناقض بين الإسلام والعلم في المنهج الذي يجب اعتماده للوصول إلى معرفة الحقائق، أو في النتائج اليقينية المقطوع بها التي يقررها الدين والأخرى التي تنتهي إليها وسائل البحث العلمي الإنساني؟
إن أي مضلل لا يستطيع إثبات ادعائه وجود هذا التناقض، إلا على أساس من المغالطات والأكاذيب وزخرف من القول وصناعة الجدال بالباطل.
فمن المستحيل وجود التناقض بين الحقائق التي تأتي عن طريق الدين والحقائق التي تأتي عن طريق وسائل المعرفة الإنسانية البحتة.
*
…
*
…
*