الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
النقد الذاتي
حول مفاهيم المسلمين للإسلام
(1)
تحت عنوان "نقد الفكر الديني" تستر الناقد العظم، إذ حاول تقويض أسس الإسلام الكبرى، وقواعده العظمى، التي هي حق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وربما استغل ما لدى بعض المسلمين من مفاهيم خاطئة عن الإسلام، ليطعن الإسلام بذلك، على طريقة إبطال الطب كله لأخطاء بعض الأطباء، وإبطال الهندسة كلها لأخطاء بعض المهندسين، وإبطال ضرورة القضاء لفساد بعض القضاة، وتعميم الأحكام التي هي لبعض الأفراد، وإطلاقها على كل الأفراد، ثم إطلاقها على المبادئ الحقة التي يدعي هؤلاء الأفراد انتسابهم إلهيا، ولو كانوا مخالفين لها في مفاهيمهم أو في سلوكهم، وعلى هذا الجنوح الفكري الخطير، الخارج عن حدود كل منطق عقلي أو علمي سليم، سار العظم في جدلياته ومغالطاته.
ولكي لا يزعم القارئ أنني من الذين يبررون كل خطأ، ما دام يعلن انتسابه إلى الدين زوراً وبهتاناً، أو جهلاً وغفلة، أو خطأ غير مقصود، عقدت هذا الفصل، لأنقد فيه نقداً ذاتياً ما دخل على مفاهيم كثير من المسلمين عن الإسلام، وكوّن لديهم تصوُّراً مشوهاً غير صحيح للإسلام الحق، أو تطبيقاً مشوهاً له ينم عن فساد في التصور، أو انحراف في السلوك.
ووجدت من الواجب علي أن أعقد هذا الفصل قبل أن أدخل مع العظم في المعركة الجدالية، حول النقاط التفصيلية التي أثارها، لألقي فيه الضوء على أن الإسلام الحق الذي هو دين الله للناس، يتميز كل التميز عن المنتسبين إليه، الذين لا يمثلون في مفاهيمهم أو سلوكهم صورة صحيحة عنه، وأرجو بهذا التمييز أن لا تدخل على الأجيال الإسلامية مغالطات وافتراءات أعداء الإسلام، وأعداء المسلمين وتاريخهم المجيد.
(2)
من المعلوم أن الإسلام الذي قدم للإنسانية ما قدمه من مجد حضاري أمثل يوم كانت الأمة الإسلامية في طور شبابها وقوتها صالح باستمرار لأن يأخذ بيد الإنسانية في طريق المجد الحضاري الصاعد، دون تقهقر ولا توقف، لو ظل المسلمون يجددون شبابهم، بالتماس منابع الإسلام الثرَّة، منها يعبون، ومنها ما به يتطهرون.
ففي الإسلام الصافي جميع العناصر اللازمة التي تستطيع الإنسانية بها أن تحافظ على شباب دائم، متدفق بالحياة والعمل البناء والارتقاء، لو أحسنت تدبُّره والاستمساك به والعمل بتعاليمه.
وفي الإسلام الصافي جميع العناصر اللازمة لإسعاد الناس كل الناس، أفراداً وأسراً وجماعات ودولاً، مهما اختلفت بينهم الأعراق والألوان والأجناس، ذلك لأنه دين الإنسانية جميعاً، المنزل وفق خصائصها وصفاتها المشتركة بين جميع شعوبها وقبائلها، وليس ديناً قومياً ولا إقليمياً ولا طبقياً.
بخلاف الشيوعية التي هي مذهب طبقي عنوانه "يا عمال العالم اتحدوا" وبخلاف الرأسمالية التي هي مذهب طبقي أيضاً يخدم مصالح طبقة معينة، وبخلاف اليهودية بحسب مفاهيم اليهودية المحرفة، فهي دين قومي خاص بشعب بني إسرائيل، الذي هو في عقيدتهم شعب الله المختار.
أما الإسلام فهو دين رب الناس اللطيف الخبير للناس أجمعين {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} ، ومن أجل ذلك كانت تعاليم هذا الدين مصلحة ومسعدة للناس كل الناس.
ولست في مجال بيان تفصيلي يوضح هذه الحقيقة عن الإسلام، لأدلل على أن تعاليم الإسلام الصافية من الشوائب الدخيلة كفيلة بتحقيق مجد الإنسان في هذه الحياة، وكفيلة ببناء أفضل المؤسسات الاجتماعية، وبتنظيم أرقى دولة مدنية آخذة بأوفى نصيب خيرٌ من التقدم الحضاري المتطور، البعيد عن الشر ومعصية الله.
ولكن مرضاً خطيراً من الأمراض التي تراكبت على الأمة الإسلامية في القرون المتأخرة هو الذي جعلني أعقد هذا الفصل، ألا وهو الشوائب الدخيلة التي عقلت بالتعاليم الإسلامية في مفاهيم كثير من المسلمين.
(3)
تأملات -ربما تكون غير مستقصية- من تأملات البحث العلمي، وضعت فيها إحدى يدي على الأسس الإسلامية العامة التي وعيتها خلال دراستي الطويلة للعلوم الإسلامية، ووضعت فيها يدي الأخرى على ما خبرته من واقع المسلمين خلال تجربة نيف وثلاثين سنة، جعلتني أتلمس الشوائب التي تسربت إلى مفاهيم المسلمين، فألصقها لجاهلون والغافلون بالتعاليم الإسلامية وهي ليست منها، وكان من وراء الجاهلين والغافلين في كثير من الأحيان ماكرون مختلفو الأصباغ والأقنعة والأغراض، يعملون في الخفاء لهدم الإسلام أسساً وقواعداً وبناءً شامخاً.
ثم تحولت هذه المفاهيم التي هي من قبيل الشوائب لا الأصل النافع المفيد الخيّر، إلى تطبيقات عملية، ومواريث ثقيلة، أحنت ظهور الأجيال التي تحملها، وعرقلت سبيل تقدمها، كما أنها هيأت المُناخ المناسب لفساد الأجيال التي حملت شعار التخلص منها على غير بصيرة وغير هدى، فتخلصت منها ومن الجوهر النافع، الذي هو الأصل السليم، المرافق لها في حشد المفاهيم المختلطة، وذلك إذ لم تستطع هذه الأجيال أن تميز بين الأصل النافع المفيد، وبين الشوائب التي لا خير فيها.
يضاف إلى ذلك أن طائفة من هذه الأجيال وجدت لأنفسها بسبب هذه الشوائب مبررات كثيرة تلبي عن طريقها الرغبة بالانطلاق والتحرر، والانسياق مع الأهواء والشهوات، دونما ضابط أو رادع.
وكان من وراء هذه الطائفة الطائشة شياطين يمدون خراطيمهم في الظلمات من ديار الحرب إلى ديار الإسلام، فيوسوسون لها، ويمنونها، ويكيدون في ذلك ضدها وضد الأمة الإسلامية ما يكيدون من شر عظيم.
أما الطعم في شباك الصيد فإنه يرجع إلى واحد من عدة أصول، ومنها الأصول الخطيرة التالية:
الأول: الإغراء بالمال.
الثاني: الإطماع بالحكم والسلطان.
الثالث: الفتنة بالنساء.
الرابع: الفتنة بالخمر والميسر والمخدرات وأصناف اللهو، وإضعاف القوى الفردية والاجتماعية عن طريقها.
الخامس: الخداع بمظاهر الحضارة المادية الخلابة، وبما تتضمن من قوى حربية فتاكة، وبمستنداتها من العلم المادي. وفي ضمن هذا الخداع تأتي واردات مهلكة لا هي من العلم الثابت، ولا هي من المنجزات الحضارية النافعة، وفي طيات هذه الواردات يكمن الخطر على الفكر، وعلى الخلق، وعلى السلوك، وعلى وحدة المسلمين، وعلى جميع قواهم الحقيقية المادية والمعنوية، ثم على كيانهم كله.
(4)
مصوّر عام لمنهج التعاليم الإسلامية وما طرأ عليه
نظرة عميقة إلى الشوائب التي دخلت أو أدخلت على التعاليم الإسلامية تكشف لنا أن المكان الطبيعي لهذه الشوائب يقع في أحد منحدرين كائنين من دون اليمين أو من دون اليسار، بالنسبة إلى المنهج الإسلامي الوسط، الممتد في القمة الرشيدة السعيدة، والذاهب ارتقاء إلى أعلى ذروات الحضارة المجيدة في دار الابتلاء، دار العمل والبناء، ثم إلى فردوس الخلود السعيد الأكمل في دار الجزاء.
وإنما يحظى بخيرات هذا المنهج القويم السامي السالكون فيه، المتقيدون بحدوده، أفراداً وجماعات، وشعوباً ودولاً، والكل مسؤولون عن سلوك هذا المنهج والتزامه، وعن بناء الصرح الإسلامي الديني والدنيوي معاً.
وهذا المنهج متى انكسرت حدوده أمسى عرضة للاتساع مما وراءه من مزالق
ومتاهات، وعرضة لانزلاق سالكيه والخروج عن جادته، وعرضة لدخول الشوائب فيه.
أما الشوائب الدخيلة على التعاليم الإسلامية، فالحديث عنها يستدعي إلقاء نظرات عميقة إلى مصادرها ومنابع قدومها، ونظرات عميقة أخرى إلى السبل والوسائل التي تسربت بسببها فاختلطت في مفاهيم المسلمين، ضمن حشد التعاليم الأصلية، أو زاحمت بعضها ثم احتلت مكانه.
ويستدعي منا أيضاً أن نلقي نظرات على واقع الصور العامة للتعاليم التي خالطتها الشوائب، أو زاحمت ما زاحمت منها، ثم احتلت مكانه في مختلف البيئات لشعوب المسلمين.
(5)
أما النظرات إلى واقع الصور العامة القاتمة القائمة في مفاهيم كثير من المسلمين، فيمكن تمثيلها بإحدى الصور التالية المصابة بالخلل أو الفساد أو التزوير، وهي خمس صور:
* الصورة الأولى:
وهي الصورة المختلطة المهزوزة في مفاهيم بعض الناس لحقيقة التعاليم الإسلامية، وتكون هذه الصورة باختلاط الحقائق، وعدم إدراك كل منها في مكانه الصحيح.
والشوائب في هذه الصورة ناتجة عن تداخل عناصر الصورة، وتمازج بعضها في بعض، وعدم تمايز حدود كل منها.
ومن أمثلة هذه الصورة في الواقع ما نشاهده عند كثير من المنتسبين إلى الإسلام من المفاهيم المختلطة الغامضة عن التعاليم الإسلامية، كالذين يرون أن أي عطاء مالي يعتبر زكاة كافية للمال، ويكتفون بذلك فلا تحاسبون أنفسهم على كل نصيب زكوي يجب عليهم شرعاً أن يؤدوه، وكالذين يرون أن الديانات السماوية السابقة للإسلام لا تزال بعد بعثة محمد صلوات الله عليه مقبولة عند الله، ومنجية
من عواقب الشرك والكفر بالله، رغم كل التحريفات الواقعة فيها عن الأصل الصحيح الذي أنزله الله على رسله عليهم الصلاة والسلام، ولولا التحريف لرأى هؤلاء في ديانتهم ما يوجب عليهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به، إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة.
وسبب وجود هذه الصورة المهزوزة المختلطة الجهل بالتعاليم الإسلامية الصحيحة، وقلة أجهزة التثقيف الإسلامي العام في مختلف بلاد المسلمين.
وإصلاح هذه الصورة يكون بتنفيذ خطة محكمة للتبصير الحقيقي بالإسلام الصحيح الصافي، ونشر الوعي العام لتعاليمه التي تشمل كل جوانب الحياة الإنسانية أفراداً وأسراً وجماعات وحكومات. ويمكن تلخيص هذه الخطة بما يلي:
1-
وضع ميثاق إسلامي عام يمكن أن يلتقي عليه معظم المسلمين، ومن طبيعة هذا الميثاق أن يكون بعيداً عن النقاط الخلافية.
2-
وضع منهاج للتثقيف الإسلامي العام.
3-
إعداد المصنفات الإسلامية الحديثة الملائمة للغة العصر ولأسلوبه الكلامي، أو انتقاء المناسب منها، وينبغي أن تكون هذه الصفات بعيدة عن إثارة الخلافات المذهبية العنيفة، وأن تكو إيجابية ذات مستويات تتناسب مع مستويات جماهير المسلمين، على أن يتم نشرها بينهم بنسبة كافية، وبلغاتهم القومية.
4-
العمل على إعداد جيش المثقفين ثقافة إسلامية حسنة، مقرونة بوعي والتزام واتزان، وينبغي أن تكون دوائر التثقيف الإسلامي في حالة اتساع مستمر.
5-
توجيه هذا الجيش المتزايد إلى التوعية الإسلامية العامة، بمستويات تتناسب مع حال الجماهير المختلفة.
* الصورة الثانية:
وهي الصورة التي دخل فيها أخطاء لدى رسم المفاهيم الإسلامية الصحيحة، وطبيعي أن تكون هذه الأخطاء غير مطابقة للحقيقة الإسلامية.
ومن الأمثلة لهذه الصورة ما نلاحظه من مفاهيم غير صحيحة منسوبة إلى
الإسلام، وقد يسهل الأمر حينما يقال: هذا هو رأي فلان الذي فهمه عن الأمر الفلاني من الإسلام، ولكن الخطر حينما يقال: هذا هو الحكم الإسلامي قطعاً، وكل رأي مخالف له من الآراء والاجتهادات التي لها وجه من النظر ضلال وكفر.
وأسباب الأخطاء في رسم هذه الصورة كثيرة جداً، ويمكن الإشارة إلى أهم أصولها العامة:
الأصل الأول: الخطأ في الاجتهاد، وللخطأ في الاجتهاد أسباب كثيرة يعرفها علماء أصول الفقه الإسلامي.
الأصل الثاني: الخطأ في تقويم ما توصل إليه الاجتهاد، وذلك باعتباره هو الحق لا غير، رغم أن اليقين القاطع لم يتوافر فيه.
الأصل الثالث: التعصب للرأي أو للمذهب ضد الآراء أو المذاهب الأخرى.
أما الخطأ في الاجتهاد فيعذر فيه المجتهد الكفء بشرط تقيده بالأصول الاجتهادية العامة، التي قامت عليها دلائل الشرع والعقل.
ولكنه ليس للمجتهد الذي توصل إلى مفهوم إسلامي قائم على ما ترجح لديه من ظن غالب أن يعطي ما توصل إليه اجتهاده أكثر من القيمة التي يستحقها، فيفرض على الإسلام رأيه، ويحارب كل رأي مخالف، وكذلك ليس لأنصار هذا المجتهد أن يفعلوا مثل هذا الفعل لاحتمال أن يكون الصواب في جانب رأي المخالف، أو في جانب رأي آخر.
فإذا تعصب المجتهد لرأيه وفرضه على الإسلام فقد يؤدي به الحال إلى أن يلصق بالإسلام ما لا يقول به الإسلام نفسه، فيضيف إلى الصورة الإسلامية خطأ من عنده.
ثم لا يصح للذين أخذوا برأي هذا المجتهد أن يتعصبوا له تعصباً أعمى، لأنهم بعملهم هذا يجسمون ويعظمون بقع الخطأ التي رسمها الاجتهاد الخاطئ في الصورة الإسلامية.
ومن أسباب الخطأ في الاجتهاد عدم التبصر الصحيح الشامل بمختلف المصادر التي تثبت بها المعارف الإنسانية، لمعرفة وجه الصواب، أو لتخفيف نسبة احتمالات الخطأ.
وليس عسيراً على علماء المسلمين أن يصلحوا هذه الصورة التي دخلت فيها الأخطاء، إذا اجتمعوا في مؤتمرات عامة، وعالجوا المشكلات بتجرد صحيح، ونشدان للحقيقة حيث كانت.
ويلحق بهذه الصورة التي دخلت فيها أخطاء لدى رسم المفاهيم الإسلامية الصحيحة المقومة لكل ما في الحياة رغم تطور أساليبها وصورها الحضارية، ما نلاحظه عند طائفة من متأخري طلاب المعرفة الإسلاميين من الإغراق في الاشتغال بالجدليات الكلامية والمماحكات اللفظية، وصرف معظم جهد البحث العلمي في حدود الألفاظ والحروف، والبعد عن تصيد جواهر التعاليم الإسلامية النافعة، وإخراجها منتظمة في عقود فكرية متكاملة متناسقة، تعالج مشكلات الحياة، وتواكب أطوارها الحضارية المتقدمة بإصلاح وتقويم، أو دفع وتدعيم.
ولكن النهضة العلمية الإسلامية الحديثة في طائفة من عواصم بلاد المسلمين قد عدّلت من هذا تعديلاً كثيراً.
* الصورة الثالثة:
الصورة المشوهة من قبل أعداء الإسلام، وهي الصورة التي قبَّح جمالها وإشراقها الماكرون المفسدون بما لطخوا وجهها الصبيح من شبهات، وبما ألصقوا فيها من تهم كاذبة.
وصانعو هذه التشويهات رسامون كثيرون من أعداء الإسلام، أجهدوا أنفسهم في تصيد الشبهات والتشويهات والأكاذيب والتضليلات، لإلصاقها بالتعاليم الإسلامية، وإفساد عقول أبناء المسلمين، ثم أجهدوا أنفسهم فأضافوا إليها أصنافاً مختلفة من الزينات والأصباغ والدهانات الخادعة للنظر.
وحاولوا بهذا التشويه الحقير أن يشككوا المسلمين بدينهم وبتعاليمهم الربانية، واستطاعوا بعد جهد جهيد وزمن مديد أن يتلاعبوا بعقول البعيدين عن
التعاليم الإسلامية وتدبُّر غاياتها والحِكَم التي تتضمنها، والمفتونين ببريق الحضارة المادية الأوروبية الحديثة، لا سيما الذين أنشأتهم المدارس الأجنبية إنشاءً مباشراً، ثم الذين أنشأتهم مخططاتها ومناهجها بشكل غير مباشر.
ومن اليسير على الدعاة المسلمين ذوي البصر النافذ، والعمل المخلص، إزالة هذه الأدران المشوهة للتعاليم الإسلامية، وذلك بالقيام بحملة توعية إسلامية تعتمد على إبراز فضائل هذه التعاليم، وبيان الحكم العظيمة التي تتضمنها، بالاستناد إلى البحوث الفكرية المنصفة الرصينة، والتجارب الواقعية المشاهدة.
وقد تصدى بحمد الله طائفة من كتاب الفكر الإسلامي من ذوي الغَيرة لدفع هذه الشبهات وبيان زيفها، بكتابات كثيرة، ودفاعات محكمة، فأسهموا إسهاماً مباركاً طيباً في غسل الصورة التي أراد لها أعداء الإسلام أن تكون صورة مشوهة في نفوس كثير من أبناء المسلمين.
وينبغي أيضاً أن تستهدف حملة التوعية هذه تبصير الأجيال الإسلامية بمرابض الخطر على مفاهيمها الإسلامية الصحيحة، وأخلاقها الكريمة، وذاتيتها الإسلامية، ذات الكيان المتميز في العالم، يضاف إليه فضح دسائس أعداء الإسلام الفكرية والعملية، وإبراز الصورة الإسلامية المشرقة الحقة، بكل وسيلة من وسائل الإعلام والتنوير العام.
* الصورة الرابعة:
وهي الصورة التي حصل فيها تغيير في النِّسب بين مفردات وأجزاء التعاليم الإسلامية، إذ أخذها بعضها من المساحة الكلية في أفكار ونفوس طائفة من المسلمين أكثر من نصيبه المقدر له في أصل التشريع الإسلامي.
فإذا أردنا أن نمثل هذه الصورة التي تغيرت فيها النِّسب الأصلية وجدناها تشبه ما لو جاء رسَّام (كاريكاتير) فرسم سيارة لركوب الناس، فجعل لها دواليب، قُطْرُ كل منها متران، وجعل لها أبواباً صغيرة لا يستطيع أن يدخل منها الإنسان، ومرتفعة عن الأرض بمقدار قامته، ثم جعل لها من الداخل مقاعد ضيقة جداً، بمقدار راحة اليد، وطويلة جداً بمقدار طول العمالقة الخياليين، وهكذا تلاعب بالنسب
الصحيحة في الأجزاء، ووضع محركاً بمقدار محرك دراجة نارية، ثم كتب على سيارته هذه:(عدد الركاب ثمانون راكباً) .
ربما أكون قد بالغت في التمثيل لغرض التوضيح، إلا أن الحقيقة التي عليها بعض المسلمين في فهمهم للتعاليم الإسلامية فيها تغيير كبير في نسبة كل جزء منها إلى المجموع الكلي.
ومن الأمثلة ما يلي:
(أ) يرى بعض الناس أن أهم ما في الدين هو حسن المعاملة مع الآخرين، فيملأ معظم المساحة الدينية به، ويفضي به هذا الفهم إلى ترك مراقبة الله في الأعمال والأقوال والأفكار والنيات، وإلى ترك فروض العبادات أو إهمالها، وإلى عدم الاكتراث بركن الجهاد في سبيل الله لنشر الدين، ونصرة الحق، وإقامة العدل ونحو ذلك من الأمور الجوهرية التي يقوم عليها الإسلام.
(ب) ويرى بعض الناس أن أهم ما في الدين هو القيام بالعبادات الشخصية، كالصلاة والصيام وكثرة الأوراد والأذكار، فيملأ معظم المساحة الدينية بذلك، ويهمل ما في الدين من واجبات وفروض أخرى، أو يُصغِّر من حجمها ويعطيها أقل اهتمامه.
(ج) ويرى بعض الناس أن أهم ما في الدين هو المحافظة على السيما الظاهرة للمسلم، فيولي ذلك كل اهتمامه وعنايته، ويهمل الأسس الجوهرية التي قام عليها الدين عقيدةً وعملاً، أو يصغر من حجمها ويعطيها أقل اهتمامه.
(د) ويرى بعض الناس أن مسؤوليات الدعوة إلى الله، ونشر دين الله، وإقامة الإسلام في الأرض، من خصائص فئة معينة من المسلمين تفرغت للوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما سائر الناس فمسؤولون فقط عن أنفسهم، فلا هم لهم إلا أمور دنياهم، وتثمير أموالهم، والتمتع بشهوات الحياة الدنيا ولذاتها، والاستغراق في زخرفها، كما يرون أن مسؤوليات الجهاد في سبيل الله من خصائص الجند فقط، المنتظمين في سلك الجيش.
مع أن الإسلام الصافي قد عقد تشابكاً عاماً بين الأفراد والجماعات والقيادات،
وحمَّل كلاً من المسؤولية الشخصية على مقدار ما وهبه الله من خصائص، ومن المسؤولية العامة على قدر موقعه بالنسبة إلى الجماعة وذلك كمسؤولية كل عضو من أعضاء الجسد بالنسبة إلى سائر الأعضاء، ومن البدهي أن مسؤولية الرأس تناسب موقعه من الجسد، ومسؤولية إحدى أصابع اليدين أو الرجلين تناسب أيضاً موقعها من الجسد، والكل يقدم واجبه نحو المسؤولية الجماعية على مقداره.
وسبب التشويه في هذه الصورة فقدان الإدراك السليم الكامل الشامل للمفاهيم الإسلامية بوجه عام، ومقادير كل منها، وكيفية ترابطها وتناسقها في الصورة الإسلامية العامة.
وفقدان هذا الإدراك الشامل يتولد عنه نتائج خطيرة، منها النتائج التالية:
أولاً: فساد النِّسب لأجزاء الصورة الإسلامية العظيمة.
ثانياً: الخللُ في وحدة النظام الكلي للمفاهيم الإسلامية التي يكمِّل بعضها بعضاً.
ثالثاً: تشتت شمل وحدة المسلمين، نظراً إلى أن لكل فريق منهم صورة إسلامية خاصة به، تتميز أجزاؤها بنسب مخالفة للنسب التي تتميز بها أجزاء الصور الأخرى، الأمر الذي يؤدي إلى تعصب كل فريق للصورة التي يحملها، وادعائه أنها هي الإسلام كل الإسلام.
رابعاً: توجيه كل طاقات العمل دفعة واحدة لتحقيق ما احتل معظم الساحة في الصورة ذات النسب الفاسدة، ويصعب الأمر جداً حينما يكون أهون جزيئات التعاليم الإسلامية الصحيحة وأيسرها هو الذي يحتل معظم مساحة الصورة.
ومما يزيد في الألم أن تكون هذه الجزيئات التي تمتص معظم طاقات العمل داخلة في حدود الأشكال والرسوم، لا في حدود الجواهر والمعاني والأرواح والقيم الحقيقية الذاتية.
فبينما تنقض أسس الإسلام حجراً حجراً، وتعمل على اجتثاثها اجتثاثاً كلياً جيوش كثيرة مستخفية ومستعلنة، نجد كتائب كثيرة من المسلمين منشغلة في
جدليات كلامية، ومصارعات عملية، حول أفضل الألوان التي ينبغي أن يُدهن بها الجدار الخارجي لبناء الصرح الإسلامي، مع أن جيوش الهدم لا يُستطاع دفعها إلا باجتماع طاقات حماة هذا الصرح العظيم على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم.
* الصورة الخامسة:
وهي الصورة المزورة للتعاليم الإسلامية تزويراً كلياً أو تزويراً جزئياً، وأمثال هذه الصورة المزورة نجدها عند الفرق المنحرفة الضالة، التي عمل على إنشاء جيوبها أعداءٌ للإسلام، تظاهروا بالانتساب إليه نفاقاً، ليعملوا على هدمه من الداخل، وذلك بتكوين فرق وطوائف تنتسب إلى الإسلام انتساباً اسمياً، وهي تحمل له كل حقد وكيد، وتضع له صوراً مصنوعة من عند أنفسها، مزورة على الإسلام وعلى أحكامه وشرائعه. ولليهود في هذا المكر أكبر نصيب.
وبدهي أن كل صورة مزورة من هذا القبيل ليست من الإسلام في شيء، وإن تسمّت باسمه.
ومن اليسير على جماعة المسلمين أن يكتشفوا هذه الصور المزورة المزيفة، متى قارنوها مقارنة عامة بما هو معلوم من الدين بالبداهة عند جميع المسلمين.
ولكن الأمر الخطير جداً إنما هو إدخال التزويرات الجزئية على بعض المفاهيم والتعاليم الإسلامية الثابتة، وهذا ما اتجهت إليه أجهزة المكر في هذا العصر، وكانت لعبة قُصد بها تحويل المسلمين عن أسس التعاليم الإسلامية باسم الإسلام.
فمن أمثلة ذلك الأسماء الحديثة التي انتشرت في عالمَي الاقتصاد والسياسة (كالاشتراكية والرأسمالية والدكتاتورية والديمقراطية) .
إن من المعلوم أن لهذه الأسماء مفاهيم ومدلولات خاصة عند الآخذين بها.
والذي يُلاحظ أن تشابهاً جزئياً موجود فعلاً بين التعاليم الإسلامية وبين بعض ما تتضمنه هذه الأسماء من دلالات نظرية، أو تطبيقات عملية.
واستغلالاً لهذا التشابه الجزئي يأتي أعداء الإسلام فيستدرجون بعض
المسلمين إلى منزلق الخطر الذي ينتهي في آخره إلى طمس نظام من نظم الإسلام، وإحلال نظام آخر في مكانه، تعلُلاً بوجود التشابه بينهما في ناحية من النواحي.
مع أن مثل الإسلام كمثل المخلوق في أحسن تقويم بصفاته التامة التي لا يصح بحال من الأحوال فصلُ بعضها عن بعض، ومثل الأنظمة الأخرى كمثل غير الإنسان من الأنعام أو الوحش، وليس صعباً على أي ناظر أن يجد تشابهاً جزئياً بين الإنسان وبين هذه الكائنات الحية الأخرى.
ولكن الجنوح الخطير فكرياً أو تطبيقياً أن يحتل ثعلب ماكر، أو ثور مغامر، أو ذئب غادر، مكان الإنسان، أو أن تحتل نظيراتها من الأنظمة الوضعية مكان نظام من أنظمة الإسلام، أو مكان عدد منها.
وقد حاول أنصار كل مذهب من هذه الوضعية أن يجد في الإسلام تأييداً لجانب من جوانبها، ليلبِّس بذلك على المسلمين، ويجعل الإسلام كأنه صاحب هذه المذاهب أو يوافق عليها.
وفي دوَّامة المغالطات والتلبيسات نجد أن أنصار المذاهب الاشتراكية في البلاد الإسلامية يختبئون وراء الإسلام، ليحميهم من هجمات أنصار المذاهب الرأسمالية، ويدرأ عنهم الضربات القاصمة، بحجة أن الإسلام يحتوي على مبادئ اشتراكية، تحقق العدالة الاجتماعية بين الناس، كما نجد أنصار المذاهب الرأسمالية في البلاد الإسلامية يقدمون الإسلام إلى الصف الأول في معركتهم مع أنصار المذاهب الاشتراكية، بحجة أن الإسلام يعترف بالملكية الفردية ويحميها، ويفسح مجال حرية العمل والكسب والتجارة، ولا يسدُّ أبواب المنافسة الشريفة في تحصيل الثروات.
وبين صراع الاشتراكيات والرأسماليات التي يزج كل منهما الإسلام في أتون معركته مع الآخر يتلقى الإسلام في بلاد المسلمين معظم الضربات، مع أن الإسلام بريء من الفريقين المتصارعين، وأي منهما انتصر فالإسلام خاسر.
وإن صح وجود الإسلام في حلبة الصراع هذه فإما أن يكون فريقاً وحده ضد
الفريقين معاً، وإما أن يكون حكماً عدلاً، يسجل على كل فريق منهما خطأه وصوابه، ويعمل على أن يرد كل مخطئ منهما إلى وجه الصواب.
وهنا نقول: إن الإسلام الاشتراكي وفق مفهوم الاشتراكيين صورة مزورة للإسلام، وإن الإسلام الرأسمالي وفق مفهوم الرأسماليين صورة مزورة أيضاً للإسلام، وإن الإسلام الدكتاتوري وفق مفهوم الدكتاتوريين صورة مزورة للإسلام، وإن الإسلام الديمقراطي وفق مفهوم الديمقراطيين صورة مزورة أيضاً للإسلام.
أما الإسلام فهو شيء آخر غيرهذا وغير ذلك، وإن كان بين هذه النظم وبين التعاليم الإسلامية تشابه جزئي.
هذه هي الصور الخمس المنسوبة إلى الإسلام، وهي مشوبة بالشوائب الدخيلة المفسدة لها، وقد يحدث أن تجتمع في بعض مفاهيم الناس مجموعة منها، فيتكاثر الخطأ، ويعظم الانحراف، وتزداد المصيبة، وتشتد الحاجة إلى الإصلاح والتقويم.
(5)
الأسباب وعلاجها
بعض الأسباب التي أدت إلى دخول الشوائب على المفاهيم والتعاليم الإسلامية قد سبقت الإشارة إليها في غضون تتبُّع الشوائب وصورها، وبطريقة تأملية عامة جامعة تنكشف لنا طائفة من هذه الأسباب.
وأعرض فيما يلي أسباباً عشرة مع طرق علاجها فيما ظهر لي:
* السبب الأول - الجهل وفتور الهمة عن تفهم التعاليم الإسلامية الصحيحة:
وعلاج هذا السبب يكون بقيام أهل الرأي وأصحاب الرشد في كل بلد من بلاد المسلمين برسالة التعريف بالإسلام الصافي، وفق الخطة التي سلف الحديث عنها، لا سيما في البلاد التي يوجد فيها منتسبون إلى الإسلام، ولكن ليس لديهم
من يعرّفهم بالإسلام الصحيح، وهم في شوق إلى معرفته، وأمثال هؤلاء يسهل على المضلين أن يفسدوا مفاهيمهم الإسلامية.
ولتحقيق هذا العلاج لا بد من تآزر القوى الفكرية والمالية والإدارية مع الدعاة المعرّفين بالإسلام الحق.
* السبب الثاني - اتباع الهوى:
وهذا السبب يدفع صاحبه أن يُدخل في التعاليم الإسلامية ما ليس منها، إرضاء لهواه.
ولقد تكون جريمته أخف إذا هو أرضى هواه عن طريق المعصية، ولكنه يريد أن تظل سمعته الدينية حسنة بين الناس، فهو يحاول أن يجد لعمله مبرراً، فيدخل في التعاليم الإسلامية الشوائب التي ترضي هواه، ثم يتستر وراءها حذراً من سخط الناس ونقمتهم، وينسى أو يتناسى أن نقمة الله أشد عليه وأقسى من نقمة الناس.
يضاف إلى ذلك أن نقمة الله في التلاعب بالدين أشد كثيراً من نقمته في المعصية التي يقترفُها العاصي، وهو يعترف بها.
وعلاج هذا السبب يكون بإصلاح النفس عن طريق إثارة الخوف من الله، وحسن مراقبته، وملاحظة الأجر العظيم لأهل طاعته، مع تربية دينية رصينة، ورقابة اجتماعية حصينة، ويكون أيضاً بتبصر المتصدين للفتاوى الدينية بالمزالق التي يضعها أهل الأهواء.
* السبب الثالث - الغلو في الدين غير الحق:
وهذا السبب مناقض للذي قبله، فهو يمثل جانب الإفراط، في حين أن الذي قبله يمثل جانب التفريط.
والغلو في الدين يفضي إلى تشددُّات منفِّرة، وتعنُّتات ومبالغات لا يرضاها الدين ولا يقبلها، بل يتنافى معها، فالدين يسر سمح، وهو دين الفطرة، والغلوّ في الدين ينافي سماحته ويسره، وينافي ملاءمته للفطرة الإنسانية، وفي كلام الرسول صلوات الله عليه "هلك المتنطعون" وهم المغالون في الدين.
ومن الغلو في الدين ادعاء أن التفصيلات المبينة في النصوص الإسلامية مشتملة على كل تنظيم ضروري لكل زمن وبيئة، وطبيعي أن يؤدي هذا الغلو إلى التخلف رغم السبق العظيم الذي كان يتمتع به المسلمون في عصورهم الذهبية.
أما أن الأسس الإسلامية تتسع في مفاهيمها العامة لكل التنظيمات الصالحة لكل زمان وبيئة فهذا هو الحق الذي لا غلو فيه.
* السبب الرابع - النظر الضيِّق المحدود، الذي يلازمه النظر إلى جوانب خاصة معينة من الإسلام، واعتبارها هي الإسلام كله:
ومن الطبيعي أن يسيء هذا النظر الضيق المحدود إلى المفاهيم الإسلامية الشاملة إساءة بالغة، ويفضي إلى تعظيم الأمور الصغيرة وتهويل شأنها، وإلى تصغير الأمور الكبيرة وتهوين شأنها.
وعلاج هذا السبب يكون بحركة تبصير كلي شامل عام للتعاليم الإسلامية، وإعطاء كل حكم منها حقه صفة ومقداراً وأهمية بالنسبة إلى سائر التعاليم.
ويضاف إلى ذلك ضرورة بيان الخطر الذي ينجم عن انعدام النظرة الشاملة إلى التعاليم الإسلامية الصحيحة.
* السبب الخامس - الجمود:
والجمود يفضي إلى تقييد التعاليم الإسلامية في حدود تطبيقات زمن معين، وبيئة معينة، جموداً عن ظواهر بعض النصوص أو التطبيقات الزمنية، مع أن أسس التعاليم الإسلامية واسعة على قدر اتساع قضايا الحياة ومشكلاتها، وهي صالحة لكل زمن وبيئة، وملائمة للفطرة الإنسانية.
وفهم هذه الحقيقة يحتاج إلى نسبة طيبة من التبصر والوعي والأناة وسعة الصدر.
* السبب السادس - التحلل:
وهذا السبب يقع في الطرف المباين للسبب السابق وهو مناقض له.
والتحلل يفضي إلى الخروج على التعاليم الإسلامية، أو المروق منها وطرحها
والأخذ بتنظيمات وضعية إنسانية، بدعوى أن بعض التعاليم الإسلامية لم تعُد تصلح للحياة المتطورة.
ومن التحلُّل الجزئي المرونة المفرطة المسرفة التي تتسع في نظر أصحابها اتساعاً يجعل التعاليم الإسلامي ألعوبة في أيدي الماكرين.
وربما يكون كل من الجمود والتحلل رد فعل للآخر، إلا أن المنهج الوسط بينهما هو الحق، ولهذا المنهج الوسط حدود لا يصح تجاوزها ولا تضييقها.
* السبب السابع - الفتنة بكل جديد قبل أن يوضع موضع الاختبار والتجربة، خلال أمد كاف لهما:
وهذا السبب يفضي إلى الانسياق الأرعن وراء كل ناعق مزين شعاراته بالأصباغ والألوان والصور الخادعة للنظر، مع أنها جوفاء من الخير، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قِبَله العذاب.
وعلاج هذا السبب يكون بيقظة حذرة، ودراسة واعية، أو يكون بعد ذلك بصدمة موقظة، أو خيبة أمل مخزية.
* السبب الثامن - التعصب لكل قديم مهما كان شأنه، ولو كان مخالفاً للحقيقة البينة، ولأسس التعاليم الإسلامية الصحيحة الصافية:
وهذا السبب يقابل السبب السابق له، وهو على النقيض منه.
وعلاج هذا السبب يكون بالرجوع إلى أسس التربية الإسلامية التي تأمر بالاعتصام بالحق، والبعد عن كل تعصب ذميم.
* السبب التاسع - الأنانية التي تولّد الإعجاب الشديد بالرأي، وتولِّد التعصب والفردية في الأعمال، وتشتت الشمل، وتفرّق الكلمة:
مع أن الإسلام يدعو إلى وحدة العمل الجماعي، واطِّراح الأنانيات الشخصية والحزبية والإقليمية والعرقية والمذهبية والعنصرية، ويدعو إلى تعاون العاملين الإسلاميين، وإن اختلفت بينهم الآراء الفردية، فمصلحة الإسلام وجماعة المسلمين فوق الجميع.
وتعاونهم يكون بأن يتعاونوا فكرياً على فهم الحقيقة، وبأن يتعاونوا عملياً على مقدار نقاط التلاقي بينهم، وذلك إذا لم يتيسر ما هو خير منه، وهو التعاون الفعلي في كل الأمور على البر والتقوى.
* السبب العاشر - ما يكيده أعداء الإسلام من مكايد، ويدخل تحت هذا السبب صور كثيرة، وهي ظاهرة لا تحتاج إلى بيان وتفصيل:
وحين نلاحظ أن أعداء الإسلام اختاروا لأنفسهم سبيل الكفر بالله خالقهم ورازقهم يتضح لنا أن كل عمل يمارسونه لتشويه الإسلام إنما هو من ذيول الكفر، ولكن على المسلمين أن يكونوا بصيرين بدسائس أعدائهم. وبصيرين بالمرابض التي يترصد فيها هؤلاء الأعداء للانقضاض الظالم الآثم على الإسلام والمسلمين.
هذا إجمال ما ظهر لي من أصول عامة للتشويهات التي دخلت على مفاهيم المسلمين عن الإسلام، وأسبابها الكبرى، والله أسأل أن يلهم أهل الفكر والغيرة في جميع بلاد المسلمين أن يعملوا على تنقية مفاهيم المسلمين للتعاليم الإسلامية من كل الشوائب الدخيلة على الأصل النقي الصافي، حتى تصبح هذه التعاليم الصحيحة قوة دافعة إلى المجد العظيم الذي لن يحتله غير المسلمين الآخذين بالإسلام عقيدة وشريعة، فكراً وعملاً، كما كانت هذه التعاليم في حقبة سالفة من تاريخ المسلمين.
*
…
*
…
*