الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البيعتان في بيعة
وأما البيعتان في بيعة: فالمشهور عن أحمد أنه اشتراط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدا آخر كبيع أو إجارة أو صرف الثمن أو قرض، ونحو ذلك، وعنه البيعتان في بيعة إذا باعه بعشرة نقدا أو عشرين نسيئة، وقال في العمدة: البيعتان في بيعة أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة، أو يقول بعتك هذا على أن تبيعني هذا. انتهى.
فجمع بين الروايتين، وجعل كلا الصورتين داخلا في معنى بيعتين في بيعة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الثانية عشرة: عشرة صلاة المسبوق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(أما بعد) : المسألة الأولى: مسبوق دخل مع الإمام، ولم يعلم هل هو في أول الصلاة فيستفتح، ويقرأ سورة أم في آخرها فيسكت.
(الجواب) : إن أهل العلم اختلفوا في ذلك على قولين هما روايتان عن أحمد: (إحداهما) : أن ما يدركه مع الإمام آخر صلاته، وما يقضيه أولها، قال في الشرح الكبير: هذا هو المشهور في المذهب يروى ذلك عن ابن عمر
ومجاهد وابن سيرين ومالك والثوري، وحكي عن الشافعي، وأبي حنيفة وأبي يوسف، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم:"وما فاتكم فاقضوا" 1 متفق عليه. فالمقضي هو الفائت، فعلى هذا ينبغي أن يستفتح، ويستعيذ، ويقرأ السورة.
(القول الثاني) : أن ما يدركه مع الإمام أول صلاته، والمقضي آخرها، وهو الرواية الثانية عن أحمد قال في الشرح: وبه قال سعيد بن المسيب والحسن، وهو ابن عبد العزيز وإسحاق، وهو قول الشافعي، ورواية عن مالك، واختاره ابن المنذر، لقوله – عليه السلام:"وما فاتكم فأتموا"2. فعلى هذه الرواية لا يستفتح. فأما الاستعاذة، فإن قلنا تسن في كل ركعة استعاذ، وإلا فلا. وأما السورة بعد الفاتحة، فيقرؤها على كل حال، قال شيخنا: لا أعلم خلافا بين الأئمة الأربعة في قراءة الفاتحة وسورة، وهذا مما يقوي الرواية الأولى. انتهى.
وقال في الفروع: وقيل يقرأ السورة مطلقا، ذكر الشيخ أنه لا يعلم فيه خلافا بين الأئمة الأربعة، وذكر ابن أبي موسى المنصوص عليه، وذكره الآجري عن أحمد، وبنى قراءتها على الخلاف، ذكره ابن هبيرة وفاقا، وجزم به جماعة، واختاره صاحب المحرر، وذكر أن أصول الأئمة تقتضي ذلك.
وصرح به منهم جماعة، وأنه ظاهر رواية الأثرم، ويخرج على الروايتين الجهر والقنوت وتكبير العيد وصلاة الجنازة، وعلى الأولى، يعني الرواية الأولى المشهورة أن ما يدركه المسبوق مع الإمام آخر صلاته إن أدرك من رباعية أو مغرب ركعة تشهد عقب قضاء أخرى، وفاقا لأبي حنيفة ومالك في إحدى الروايتين له كالرواية الثانية انتهى.
وفي القواعد الفقهية لما ذكر ما ينبني على الروايتين من الفوائد:
الفائدة الرابعة: مقدار القراءة، وللأصحاب في ذلك طريقان: أحدهما
1 البخاري: الأذان (636) والجمعة (908)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (602)، والترمذي: الصلاة (327)، والنسائي: الإمامة (861)، وأبو داود: الصلاة (572)، وابن ماجه: المساجد والجماعات (775) ، وأحمد (2/237،2/238،2/239،2/270،2/318)، ومالك: النداء للصلاة (152)، والدارمي: الصلاة (1282) .
2 البخاري: الأذان (635)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) ، وأحمد (5/306)، والدارمي: الصلاة (1283) .
أنه إذا أدرك ركعتين من الرباعية، فإنه يقرأ في المقضيتين بالحمد وسورة معها على كلا الروايتين، قال ابن أبي موسى: لا يختلف قوله في ذلك، والطريق الثاني بناؤه على الروايتين، فإن قلنا: ما يقضيه أول صلاته فكذلك، وإلا اقتصر فيه على الفاتحة، وهي طريقة القاضي ومن بعده، وذكره ابن أبي موسى تخريجا، ونص عليه أحمد في رواية الأثرم، وأومأ إليه في رواية حرب. وأنكر صاحب المحرر الرواية الأولى، وقال: لا يتوجه إلا على رأي من يرى قراءة السورة في كل ركعة أو على رأي من يرى قراءة السورة في الأخريين إذا نسيها في الأوليين. انتهى ملخصا، والله أعلم.
والذي يترجح عندنا أن ما أدركه المسبوق أول صلاته، لأن رواية من روى (فأتموا) أكثر، وأصح عند كثير من أهل الحديث مع أن رواية فاقضوا لا تخالف رواية (فأتموا) ؛ لأن القضاء يرد في اللغة بمعنى التمام كما قال – تعالى-:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 1، وقال:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} 2، قال في "الفتح": قوله –صلى الله عليه وسلم: "وما فاتكم فأتموا" 3 أي: أكملوا، هذا هو الصحيح في رواية الزهري، ورواية ابن عيينة بلفظ:(فاقضوا) ، وحكم مسلم عليه بالوهم في هذه اللفظة مع أنه خرج إسناده في صحيحه لكنه لم يسق لفظه قال، والحاصل أن أكثر الروايات، ورد بلفظ فأتموا، وأقلها بلفظ فاقضوا، وإنما تظهر فائدة ذلك إن جعلنا بين القضاء والإتمام مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدا، واختلف في لفظة منه، وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد، كان أولى.
وهنا كذلك، لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا، لكنه يطلق على الأداء أيضا، ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 4
…
الآية، ويرد لمعان أخر، فيحمل قوله هنا:"فاقضوا" على معنى الأداء أو الفراغ، فلا
1 سورة الجمعة آية: 10.
2 سورة البقرة آية: 200.
3 البخاري: الأذان (635)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) ، وأحمد (5/306)، والدارمي: الصلاة (1283) .
4 سورة الجمعة آية: 10.
يغاير قوله: فأتموا، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية:"فاقضوا" على أن ما أدركه المأموم مع الإمام هو آخر صلاته حتى استحب له الجهر في الركعتين الأخريين وقراءة السورة وترك القنوت، بل هو أولها، وإن كان آخر صلاة إمامه، لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدم. وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له؛ لما احتاج إلى إعادة التشهد. انتهى ملخصا.
فظهر لك أن هذا القول هو الراجح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تأخير الصلاة للمسافر عند فقد الماء
(المسألة الثانية) : رجل في سفر، ودخل عليه وقت الزوال، وهو عادم الماء، فأخر صلاة الظهر ناويا التأخير إلى العصر، فوجد الماء في وقت الظهر، ولم يستعمله؛ فلما جاء وقت العصر إذا هو عادم للماء؟
(فالجواب وبالله التوفيق) : أن المشهور عند الحنابلة أن مثل هذا لا إعادة عليه، لأنه يجوز له تأخير صلاة الظهر إلى وقت العصر، إذا كان ناويا للجمع. قال في الشرح الكبير: وإذا كان معه ماء فأراقه قبل الوقت، أو مر بماء قبل الوقت فتجاوزه، وعدم الماء في الوقت، صلى بالتيمم من غير إعادة، وهو قول الشافعي. وقال الأوزاعي: إن ظن أنه يدرك الماء في الوقت كقولنا، وإلا صلى بالتيمم، وعليه الإعادة، لأنه مفرط، ولنا أنه لم يجب عليه استعماله، أشبه ما لو ظن أنه يدرك الماء في الوقت. وفي شرح منصور على "المنتهى": من في الوقت أراقه، أي: الماء، أو مر به وأمكنه الوضوء منه، ولم يفعل وهو يعلم أنه لا يجد غيره، أو باعه، أو وهبه في الوقت لغير من يلزمه بذله له، حرم عليه ذلك، ولم يصح العقد من بيع أو هبة لتعلق حق الله – تعالى-بالمعقود عليه، فلم يصح نقل الملك فيه كأضحية معينة. ثم إن تيمم لعدم غيره،
ولم يقدر على رد المبيع أو الموهوب، وصلى، لم يعد، لأنه عادم للماء حال التيمم، أشبه ما لو فعل ذلك قبل الوقت. انتهى.
فإذا كان لا يعيد إذا مر به في الوقت، ولم ينو الجمع، فكيف إذا كان ناويا للجمع؟ والله – سبحانه وتعالى أعلم.
البينة على من ادعى واليمين على من أنكر
(المسألة الثالثة) : رجل قضى رجلا مثلا جديدة1 والذي عندهم أنها زينة، وأخذت أياما عنده يعبرها وترد عليه، وأخرجها من يده، وربما رفعها عند أهله، ولما لم تعبر جاء بها للذي قضاه، فأنكرها أن تكون جديدته التي دفعها إليه، ولم تكن بينة، فاليمين على من تكون.
(الجواب) : أن الذي يظهر من كلامهم في هذه الصورة أن القول قول الدافع بيمينه، أنها ليست جديدته التي دفعها إذا كانت قد خرجت من يده. وأما إذا لم تخرج من يده ففيها قولان في المذهب: أحدهما وهو المشهور في المذهب: أن القول قول المشتري مع يمينه. قال في الإنصاف: لو باع سلعة بنقد أو غيره معين حال العقد، وقبضه ثم أحضره، وبه عيب وادعى أنه الذي دفعه إليه المشتري، وأنكر المشتري كونه الذي اشتراه به، ولا بينة لواحد منهما، فالقول قول المشتري مع يمينه لأن الأصل براءة ذمته، وعدم وقوع العقد على هذا المعين، ولو كان الثمن في الذمة، ثم نقده المشتري أو قبضه من قرض أو سلم أو غير ذلك مما هو في ذمته، ثم اختلفا كذلك ولا بينة، فالقول قول البائع، وهو القابض مع يمينه على الصحيح، لأن القول في الدعاوي قول من الظاهر معه، والظاهر مع البائع، لأنه
1 الجديدة نقد متداول بنجد، وزينة جيدة، ويعبرها يدفعها إلى الناس، ورفعها عند أهله حفظها عندهم، فحاصل السؤال أن رجلا دفع نقدا جيدا إلى آخر، فتصرف به أخذا وردا، وربما حفظيه عند أهله، ثم في آخر الأمر وقفت، فأنكرها صاحبها، ولم تكن بينة، فعلى من تكون اليمين؟.
ثبت له في ذمة المشتري ما انعقد عليه العقد غير معين، فلم يقبل قوله في ذمته، إلى أن قال: ومحل الخلاف إذا لم يخرج عن يده. انتهى.
ومراده أنه إذا أخرجه البائع من يده كما في الصورة المسؤول عنها، فالقول قول المشتري، وهو الدافع بلا خلاف عندهم، والله أعلم.
اشترط شرطا يخالف حكم الله ورسوله
(المسألة الرابعة) : باع رجل ثمرة بعد بدو صلاحها بشرط القطع لنفي الضمان، لا حقيقة الشرط، هل يصح ذلك؟ وينتفي عنه الضمان أم لا؟
(فالجواب) وبالله التوفيق: إن مثل هذا الشرط الذي لا يقصد المتعاقدان حقيقته، وإنما قصدا إبطال ما أثبته الله ورسوله من وضع الجائحة؛ لأن المقصود في العقود معتبر، والأعمال بالنيات، ومن اشترط شرطا يخالف حكم الله ورسوله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، وكذلك إذا اشترط شرطا لا حقيقة له، وإنما قصده ونيته غير الشرط.
وقد ذكر الشيخ تقي الدين- رحمه الله تعالى-، وتليمذه ابن القيم - رحمه الله تعالى- من ذلك صورا كثيرة في كتاب الإعلام، والله أعلم.
الحلف لنفي عيب السلعة
(المسألة الخامسة) : لو اشترى سلعة، وخرجت من يده، وظهر بها عيب، فهل يمين البائع على البت أو على نفي العلم؟
(فالجواب) : أن هذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد:
(أحدهما) : أن الأيمان كلها على البت في الإثبات والنفي إلا لنفي فعل غيره، أو لنفي الدعوى على الغير، فيحلف على نفي العلم، وهذا هو المشهور في المذهب.
(والقول الثاني) : أنها على نفي العلم مطلقا في النفي والإثبات، وهو الرواية الثانية عن أحمد، واختاره أبو بكر، واحتج بالخبر الذي ذكره أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تضروا الناس في أيمانهم
أن يحلفوا على ما لا يعلمون". وعن أحمد رحمه الله رواية ثالثة: يحلف لنفي عيب السلعة على العلم، وهذا هو المروي عن عثمان رضي الله عنه في قصة العبد الذي باعه ابن عمر رضي الله عنهما ثم ظهر به عيب، فقال له عثمان: أتحلف أنك بعته، وما تعلم به عيبا؟ والله – سبحانه وتعالى أعلم.
اشترى سلعة للسفر فوجد قيها عيبا
(المسألة السادسة) : لو اشترى سلعة؛ ليسافر بها في بلد، ثم وجد بها عيبا، وأشهد على الرد، ولا حاكم يسلمها إليه، والطريق مخوف، ما وجه الحكم؟
(الجواب) : أن الوجه المناسب له في هذه الصورة: أن يشهد من حضر أنه فسخ العقد، فإن أمكنه حفظها معه حتى يأتي صاحبها فعل، وإلا أودعها عند ثقة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
خرج من يد المرتهن إلى الراهن
(المسألة السابعة) : رجل أعار رجلا شيئا؛ ليرهنه، فرهنه عند آخر، فأودعه المرتهن المعير مع علمه، هل يزول اللزوم أم لا؟
(فالجواب) : أن المشهور عند الحنابلة أن المرتهن إذا أخرجه من يده زال اللزوم، وبطل الرهن، لأن استدامة القبض عندهم شرط في لزومه، فمتى أخرجه من يده أو أعاده أو رده إلى مالكه بإعادة أو غيرها، زال لزومه. قال: في الإقناع، وإن آجره أي آجر الراهن الرهن أو أعاره، أي: الرهن لمرتهن أو لغيره بإذنه، فلزومه باق. انتهى.
وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى: أنه يلزم بمجرد العقد قبل القبض في غير المكيل والموزون، وممن أوجب استدامة القبض مالك، وأبو حنيفة، قال في الشرح الكبير: وهذا التفريع على القول الصحيح، فأما من قال: ابتداء القبض ليس بشرط، فأولى أن يقول الاستدامة غير شرط، لأن كل شرط يعتبر في الاستدامة يعتبر في الابتداء، وقد يعتبر في الابتداء ما لا يعتبر في
الاستدامة. وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم يشترط استدامته كالهبة، ولنا قول الله – تعالى-:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1.
ولأنها أحد حالتي الرهن، فكان القبض فيه شرطا كالابتداء، ويفارق الهبة، فإن القبض في ابتدائها يثبت الملك، فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانيا، والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه، واستيفاء الدين من ثمنه، فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه. انتهى.
وذكر في الإنصاف وغيره عن أحمد: أنه إن آجره أو أعاره لغير المرتهن زال لزومه، قال في الإنصاف: نصره القاضي، وقطع به جماعة، واختاره أبو بكر في الخلاف، قال المجد في شرحه: ظاهر كلام أحمد أنه لا يصير مضمونا بحال. انتهى. قال في الإنصاف: فلو استأجره المرتهن عاد اللزوم بمضي المدة، ولو سكنه بأجرته بلا إذنه، فلا رهن، نص عليهما. ونقل ابن منصور: إن كراه بإذن الراهن أو له، فإذا رجع صار رهنا، والكراء للراهن. انتهى.
فظهر بما تقدم أن المشهور في المذهب: أنه إذا أعاره الراهن المرتهن أو غيره، أو آجره للمرتهن أو غيره بإذن المرتهن، أن لزومه باق بحاله.
والقول الثاني: أنه متى خرج من يد المرتهن إلى الراهن أو غيره بإعارة أو إجارة، أو سكن المرتهن الدار بلا إذنه، فإنه يبطل لزومه، وهذا هو الذي ذكره في الإنصاف وغيره، منصوص أحمد، وهو طرد القول الصحيح عندهم، لأنهم ذكروا أنه إذا أعاره المرتهن الراهن أو استأجره زال لزومه، فأي فرق بينه وبين الأجنبي؟ مع أن الإمام أحمد رحمه الله نص على أنه إذا أخرجه من يده إلى الراهن أو غيره زال لزومه، كما تقدم في رواية ابن منصور وغيره. والله أعلم.
1 سورة البقرة آية: 283.
اختلاف المعير والمستعير
(المسألة الثامنة) : أعاره سيفا ليرهنه، وقال: شرطت عليك رهنه عند زيد أو في جنس كذا أو في قدر كذا، فقال: أطلقت الإذن لي، فهل قوله معتبر لاتفاقهما على الإذن واختلافهما في الصفة، أم قول المعير؟
(فالجواب) : أن القول في مثل هذا قول المالك لأنه منكر لما ادعاه خصمه، والقول قول المنكر بيمينه، لقوله عليه الصلاة والسلام:"البينة على المدعي، واليمين على من أنكر"1. قال في الإقناع وشرحه: وإن استعار أو استأجر شيئا ليرهنه، ورهنه بعشرة، ثم قال الراهن لربه: أذنت لي في رهنه بعشرة، فقال ربه: بل أذنت لك في رهنه بخمسة، فالقول قول المالك بيمينه لأنه منكر للإذن في الزيادة، ويكون رهنا بالخمسة فقط.
نبات الغرس الذي في أرض الزرع
(المسألة التاسعة) : رجل استأجر أرضا للزرع، فنبت فيها غرس، لمن يكون الغرس؟
(فالجواب) : أن الذي يظهر من كلامهم في مثل هذه الصورة أن الغراس يكون للمستأجر؛ لأنه نبت على مائه، فإن شاء قلعه وسوى الحفر، وإن شاء تركه لصاحب الأرض بقيمته، والخيرة في ذلك للمستأجر.
المطالبة بالأجرة بعد هلاك الدابة محل الإجارة
(المسألة العاشرة) : إذا استأجر رجلا على رعي دابة، وعلى طلاها على جرب؛ فأخذ يرعاها، ثم ماتت الدابة حتف أنفها، هل يستحق شيئا من الأجرة في مقابلة رعيه وطلاه أم لا؟
(الجواب) وبالله التوفيق: أن هذه المسألة فيها قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد:(إحداهما) لأنه لا يستحق شيئا من الأجرة إلا بتسليم العين، وهذا هو المشهور في المذهب، قال في الإنصاف: ويضمن الأجير المشترك ما جنت يده أو تلف بفعله على الصحيح من المذهب، وقال
1 الترمذي: الأحكام (1341) .
أيضا: وتجب الأجرة بنفس العقد، هذا المذهب، وتستحق كاملة بتسليم العين أو بفراغ العمل الذي بيد المستأجر، كطباخ استؤجر لعمل شيء في بيت المستأجر. انتهى.
قال في المغني: وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل؛ لأنه عوض فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض كالصداق، والثمن في البيع، ولا ضمان عليه أي الأجير المشترك، فيما تلف من حرزه أو بغير فعله إذا لم يتعد، قال في الإنصاف: هذا المذهب. قال الزركشي: هو المنصوص عليه في رواية الجماعة، ثم قال: ولا أجرة له فيما عمل فيه، أي الذي تلف في يده، سواء قلنا: إنه لا يضمن أو عليه الضمان، هذا المذهب مطلقا، وعليه أكثر الأصحاب.
والقول الثاني أنه له أجرة ما عمل في بيت ربه دون غيره، وعنه له أجرة البناء لا غير، نص عليه في رواية ابن منصور، وعنه له أجرة البناء، والمنقول إذا عمله في بيت ربه. وقال ابن عقيل في "الفنون": له الأجرة مطلقا؛ لأن وضعه النفع فيما عينه له كالتسليم إليه كدفعه إلى البائع غرارة، وقال: ضع الطعام فيها، وكاله فيها، كان ذلك قبضا لأنها كيله؛ ولهذا لو ادعيا طعاما في غرارة أحدهما كان له، قال في "الإنصاف": وهو قوي. وقال في "المنتهى" وشرحه: وله أي: الحامل، أجرة حمله إلى محل تلفه، ذكره في التبصرة.
واقتصر عليه في الفروع، لأن ما عمل فيه من عمل بإذن، وعدم تمام العمل ليس من جهته، وهذا القول هو الذي يترجح عندنا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الحلف بالحرام
(المسألة الحادية عشرة) : لو حرم شيئا لا يفعله، هل يكون ظهارا أم لا؟
(فالجواب) وبالله التوفيق: أنه ذكر في الإنصاف وغيره من كتب المذهب أنه لو قال: علي الحرام، أو يلزمني الحرام، أو الحرام يلزمني، فهو
لغو، لا شيء فيه مع الإطلاق، وفيه مع قرينته أو نيته أي الطلاق وجهان، وأطلقهما في المغني والشرح والفروع. قلت: والصواب أنه مع النية والقرينة، كقوله: أنت علي حرام، ثم وجدت ابن رزين قدمه، وقال في الفروع: ويتوجه الوجهان إن نوى به طلاقا، وإن العرف قرينة، ثم قال: قلت: الصواب أنه مع القرينة أو النية، كأنت علي حرام، وهذا كله كلام الإنصاف.
واعلم أن الحلف بالحرام له صيغتان:
(إحداهما) أن يقول: إن فعلت كذا، فأنت علي حرام، أو أنت علي حرام إن فعلت كذا، أو إن فعلت كذا فامرأتي علي حرام، هذا كله صيغة واحدة.
(والصيغة الثانية) : أن يقول: الحرام يلزمني إن فعلت كذا، أو إن فعلت كذا فالحرام لازم، أو علي الحرام لا أفعل كذا، وما أشبه هذا؛فكل هذا حلف بالحرام، وقد اختلف العلماء في ذلك قديما وحديثا حتى ذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى- في كتاب الإعلام أن فيها خمسة عشر قولا، ثم سردها، ثم قال: وفي المسألة مذهب وراء هذا كله، وهو أنه إذا وقع التحريم كان ظهارا، ولو نوى أنه الطلاق، وإن حلف به كان يمينا مكفرة، قال: وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدل النص والقياس. انتهى كلامه.
وهذا هو الراجح عندي في هذه المسألة لأن أكثر الناس يقصدون بها الحلف عن الحض والمنع، فعلى هذا يكون من أيمان المسلمين التي فرض الله فيها الكفارة، كما قال تعالى في أول سورة التحريم:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 1 بعد قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 2، فدل على أن الحلف بالحرام من أيمان المسلمين المكفرة، لكن هل
1 سورة التحريم آية: 2.
2 سورة التحريم آية: 1.
تكون كفارته كفارة يمين مغلظة أو مخفف؟، وممن قال بأنه يكفر كفارة ظهار ابن عباس في إحدى الروايات عنه، وسعيد بن جبير وأبو قلابة ووهب بن منبه وعثمان البتي، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد. وحجة هذا القول أن الله جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهارا، وجعله منكرا من القول وزورا، فالتشبيه بالمحرمة يجعله ظهارا، فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى-: وهذا أقيس الأقوال وأفقهها، ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحليل والتحريم، وإنما ذلك إليه – سبحانه-، وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال التي يترتب عليها التحليل والتحريم، فالسبب إلى العبد وحكمه إلى الله، فإذا قال: أنت علي كظهر أمي، أو قال: أنت علي حرام، فقد قال المنكر من القول والزور، وكذب، فإن الله لم يجعلها كظهر أمه، ولا جعلها عليه حراما، فأوجب عليه هذا القول المنكر والزور أغلظ الكفارتين، وهي كفارة الظهار. انتهى.
وأما من قال: إنه يمين يكفر بما تكفر به اليمين بكل حال، وهو قول أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن عباس، وعائشة، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وجمع من التابعين، فحجة هذا القول ظاهر القرآن، فإن الله – سبحانه- فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن يتناوله يقينا، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان بغير المذكور، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
موت الموقوف عليه قبل الواقف
(المسألة الثانية عشرة) : لو قال: عقاري هذا مسبل يفعل به فلان ما شاء أو أراد، ومات فلان قبله، والحال إن قصده من جهات بر معلومة كصوام أو مؤذن أو إمام، ما الحكم فيه؟
(فالجواب) : أن مثل هذا وقف صحيح، وللواقف أن يعين الجهة، أو يعين رجلا غيره يجعله في أعمال البر، هذا هو الصحيح -إن شاء الله تعالى-. قال في الإقناع وشرحه: وإن قال: وقفت كذا، وسكت، ولم يذكر مصرفه، فالأظهر بطلانه. والذي في الإنصاف وفي الروضة لأن الوقف يقتضي التمليك، فلا بد من ذكر المملك، ولأن جهالة المصرف مبطلة، فعدم ذكره أولى بالإبطال. قال في الإنصاف: الوقف صحيح عند الأصحاب، وقطعوا به، وقال في الرعاية: على الصحيح عندنا، فظاهره أن في الصحة خلافا. انتهى.
ومقتضاه أن صاحب الإنصاف لم يطلع فيه على خلاف للأصحاب، وكذا لم يحك الحارثي في صحته خلافا بين الأصحاب، قال: ولنا أنه إزالة ملك على وجه القربة، فصح مطلقا كالأضحية والوصية. أما صورة المجهول فالفرق بينهما أن الإطلاق يفيد مصرف البر لخلو اللفظ عن المانع منه، وكونه متعارفا فالعرف إليه ظاهر في مطابقة مراده، وكذلك التقييد بالمجهول، فإنه قد يريد به معينا غير ما قلنا من المتعارف، فيكون إذا الصرف إلى المتعارف غير المطابق لمراده، فينتفي الصرف بالكلية، فلم يصح الشرط. انتهى ما ذكره في الإقناع.
وعبارة صاحب الإنصاف: وإن قال: وقفت وسكت، يعني حكمه حكم الوقف المنقطع الانتهاء، والوقف صحيح عند الأصحاب، وقطعوا به. وقال في الروضة: على الصحيح عندنا، فظاهره أن في الصحة خلافا، فعلى المذهب حكمه حكم الوقف المنقطع الانتهاء في مصرفه على الصحيح من المذهب كما قال المصنف هنا، وقطع به القاضي في المجرد، وابن عقيل، واختاره صاحب التلخيص وغيره، وقال القاضي وأصحابه: يصرف في وجوه البر. انتهى كلامه. وصورة
المسألة المسؤول عنها تقرب من هذه الصورة لأنه لم يعين الجهة، وقد تقرر أن الصحيح أن تعيين الجهة ليس بشرط.
وأما إذا جعل النظر والتعيين إلى الرجل بعينه، فمات، فقال في الإقناع وشرحه: فإن لم يشترط الواقف ناظرا أو شرطه لإنسان، فمات المشروط له، فليس للواقف ولاية النصب، أي: نصب ناظر؛ لانتفاء ملكه فلم يملك النصب ولا العزل كل في الأجنبي، ويكون النظر للموقوف عليه إذا كان الموقوف عليه آدميا معينا كزيد، أو جمعا محصورا. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم.
تأجير الوقف
(المسألة الثالثة عشرة) : لو آجر الواقف مستحقه مدة طويلة، وحكم حاكم بلزومها، هل تلزم أم لا إلى أن يأتي محل الحكم، وهو موت المؤجر؟
(فالجواب) : أن الذي قطع به مشايخ المذهب أن المستحق للوقف إذا كان هو الناظر، يجوز له إجارة الوقف مدة، ولم يقيدوها بطول أو قصر، فدل على جوازها وصحتها بالمدة الطويلة، ولم يذكروا في ذلك خلافا إلا تخريجا ذكره الموفق في المغني أنها تبطل. وإنما حكى الخلاف في انفساخها
بموت المؤجر، هل تنفسخ بذلك أم لا؟ قال في المغني: إذا أجر الموقوف عليه مدة، فمات في أثنائها وانتقلت إلى من بعده، ففيه وجهان:(أحدهما) : لا تنفسخ الإجارة لأنه أجر ملكه في زمن ولايته، فلم تبطل بموته كما لو آجر ملكه الطلق. (الثاني) تنفسخ الإجارة فيما بقي من المدة لأنا تبينا أنه آجر ملكه وملك غيره، فصح في ملكه دون ملك غيره كما لو آجر دارين إحداهما له، والأخرى لآخر، وذلك لأن المنافع بعد الموت حق لغيره، فلا ينفذ عقده عليها من غير ملك، ولا ولاية بخلاف الطلق، فإن الوارث من جهة الموروث، فلا يملك إلا ما خلف، وما تصرف فيه في
حياته لا ينتقل إلى الوارث، والمنافع التي آجرها قد خرجت من ملكه بالإجارة، فلا ينتقل إلى الوارث، والبطن الثاني في الوقف يملكون من جهة الواقف، فما حدث منها بعد البطن الأول كان ملكا لهم، فقد صادف تصرف المؤجر ملكهم من غير إذنهم، ولا ولاية له عليهم فلم يصح، ويتخرج أن تبطل الإجارة كلها بناء على تفريق الصفقة، وهذا التفصيل مذهب الشافعي.
فعلى هذا إذا كان المؤجر قبض الأجر كله، وقلنا: تنفسخ الإجارة. فلمن انتقل إليه الوقف أخذه، ويرجع المستأجر على ورثة المؤجر بحصته للباقي من الأجرة، وإن قلنا لا تنفسخ، رجع من انتقل إليه الوقف على التركة بحصته. وقال في الإنصاف: يجوز إجارة الوقف، فإن مات المؤجر، فانتقل إلى من بعده لم تنفسخ الإجارة في أحد الوجهين، (أحدهما) : لا تنفسخ بموت المؤجر، وهو المذهب كناظر الملك، وكملكه الطلق، قاله المصنف وغيره، وصححه جماعة، وقدمه في الفروع وغيره. وقال القاضي في المجرد: هذا قياس المذهب. (والثاني) : تنفسخ، جزم به القاضي في خلافه، واختاره ابن عقيل والشيخ تقي الدين وغيرهم. قال القاضي: هذا ظاهر كلام أحمد في رواية صالح، وقال ابن رجب: وهو المذهب الصحيح، لأن الطبقة الثانية تستحق العين بمنافعها بانقراض الطبقة الأولى، قلت: وهو الصواب، وهو المذهب. وقال في الفائق: ويتخرج الصحة بعد الموت موقوفة لا لازمة، وهو المختار. انتهى.
ومحل الخلاف المتقدم إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه بأصل الاستحقاق، فأما إن كان المؤجر هو الناظر العام أو من شرط له، وكان أجنبيا، لم تنفسخ الإجارة بموته قولا واحدا، قاله الشيخ المصنف والشارح والشيخ تقي الدين وغيرهم. وقال ابن حمدان في رعايته وغيره: ومحل الخلاف إذا آجره مدة
يعيش فيها غالبا، فأما إن آجره مدة لا يعيش فيها غالبا، فإنها تنفسخ قولا واحدا، وما هو ببعيد. فعلى الوجه الأول من أصل المسألة، يستحق البطن الثاني حصتهم من الأجرة من تركة المؤجر إذا كان قبضها، وإن لم يكن قبضها فعلى المستأجر. وعلى الوجه الثاني، يرجع المستأجر على ورثة المؤجر القابض. قال الشيخ تقي الدين: والذي يتوجه أنه لا يجوز تسليف الأجرة للموقوف عليه؛ لأنه لا يستحق المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها، فالتسليف لهم قبض ما لا يستحقونه بخلاف المالك؛ وعلى هذا فللبطن الثاني أن يطالبوا المستأجر بالأجرة؛ لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر، انتهى كلام صاحب الإنصاف، وفيه بعض تلخيص، والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما إذا حكم حاكم ممن يجوز له الحكم لكونه أهلا لذلك في هذا العقد المختلف فيه ونحوه، فإنه لا يجوز له نقضه، والله أعلم.
الخلع على مجهول
(المسألة الرابعة عشرة) : لو خلع زوجته على نفقة ولده منها، وشرطت إن مات فلا رجوع له، هل يصح الخلع والشرط أو يفسد؟
(فالجواب) وبالله التوفيق: أن الذي يظهر من كلام الأصحاب أن مثل هذا الشرط يصح، لأنهم صححوا الخلع على المجهول، كحمل أمتها، وما تحمل شجرتها، وعلى ما في يدها وهو لا يظهر، وأشباه هذا. قال في الإنصاف: إذا خالعها على ما في يدها من الدراهم، أو ما في بيتها من المتاع، فله ما فيهما، فإن لم يكن فيهما شيء، فله ثلاثة دراهم، وأقل ما يسمى متاعا، قال: وظاهر كلامه إن كان في يدها شيء من الدراهم، فهي له لا يستحق غيرها ولو كان دون ثلاثة دراهم، وهو صحيح، وهو المذهب؛ وقيل يستحق ثلاثة دراهم كاملة. قال: وإن خالعها على حمل أمتها، أو ما تحمل شجرتها، فله ذلك؛
فإن لم تحملا فقال أحمد: ترضيه بشيء، وهو المذهب. قال القاضي: لا شيء له، وتأول كلام أحمد: ترضيه بشيء، على الاستحباب. انتهى كلامه.
فدل على صحة الخلع على المجهول، وهذه الصورة المسؤول عنها غايتها أن يكون بعضها مجهولا، وقد ذكروا أنه يجوز لها أن تخالعه على رضاع ولده عامين، قالوا: فإن مات رجع بأجرة الباقي، ومرادهم بذلك إذا لم تشترط أنه لا يرجع عليها إذا مات، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه
(المسألة الخامسة عشرة) : رجل وقف وقفا على اللاعي، وهو الذي يسأل في المساجد، أو عند أبواب المساجد، ومات الموقف، ثم بعد زمان طويل قام ابن الموقف، وقال: لنا قرابة ضعفاء، ويزعم أن مفتيا أفتاه بأنه أحق به، والوقف معين على مسجد الجامع، من تكلم فيه من فقير غريب أو غيره.
(فالجواب) : أن المشهور عند أكثر الفقهاء من الحنابلة وغيرهم أن مثل هذا لا يجوز صرفه إلى غير من ذكر الواقف إذا كان ذلك في جهة بر. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه باختلاف الزمان، كما لو وقف ذلك على الفقهاء والصوفية، فاحتاج الناس إلى الجهاد، صرف إلى الجند. قال في الإنصاف: يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة له على الصحيح من المذهب، ونقله الجماعة، وقطع به أكثرهم، وعليه الأصحاب، ثم ذكر كلام الشيخ المتقدم، والله أعلم.
من يثبت له خيار المجلس
(المسألة السادسة عشرة) : قول منصور في خيار المجلس بوكالة، أو ولاية في بعض أفرادها مع ما في المغني من ذلك.
(فالجواب) : أن مراده بذلك أن الذي يتولى طرفي العقد لا يثبت له خيار المجلس، لأنه هو البائع المشتري كالوكيل على بيع سلعة، وشراها
أو الولي إذا باع ما ولي عليه، فاشتراه من نفسه لنفسه، لأنه يتولى في ذلك طرفي العقد، وعبارة منصور في شرح المنتهى: ويثبت في بيع غير كتابة، فلا خيار فيها تراد للعتق، وغير تولي طرفي عقد في بيع بأن انفرد بالبيع واحد لولاية أو وكالة، فلا خيار له كالشفيع، وغير شراء منه يعتق عليه كرحمة المحرم لعتقه بمجرد انتقال الملك إليه في العقد، أشبه ما لو مات قبل التفرق. قال المنقح: ويعترف بحريته قبل الشراء لأنه استنقاذ لا يشرى حقيقة لاعترافه بحريته، ثم ذكر الصور التي تكون بمعنى البيع ويثبت فيها خيار، كالصلح الذي بمعنى البيع، وكقسمة وهبة بمعنى البيع وإجارة، وما قبضه شرط لصحته كصرف وسلم وربوي بجنسه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
طهارة الماء المتنجس بالنجاسة بتصفيته
(المسألة السابعة عشرة) : الماء المتنجس بالتغيير وهو كثير، إذا حوض وترك حتى صفي، هل يطهر أم لا؟ قياسا على الخمرة إذا انقلبت لقصد التخليل.
(الجواب) : أن الذي ذكره الفقهاء أن الماء المتنجس بالنجاسة سواء تغير طعمه أو لونه أو ريحه، فإنه لا يطهر حتى يزول التغير بنزحه أو مكاثرته بالماء أو بزوال تغيره بنفسه إذا كان كثيرا. والكثير عند الحنابلة وغيرهم ما كان قلتين فأكثر. وأما التراب فالمشهور عندهم أنه لا يطهره؛ لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه، فعن غيره أولى. قال في الفروع: وقيل: بلى، وأطلق في الإيضاح روايتين، وللشافعي قولان. فعلى هذا إذا زال عنه أثر النجاسة بالكلية، ولم يبق فيه لون ولا طعم ولا ريح، فإنه يطهر لزوال النجاسة منه كالخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا، وكذلك النجاسة إذا استحالت، والله – سبحانه وتعالى أعلم.
ائتم مسبوق بمسبوق في الصلاة
(المسألة الثامنة عشرة) : مسبوق ائتم بمثله حالة دخولهما مع الإمام،
وأنه يأتم أحدهما بصاحبه بعد المفارقة أو تكفي بعد السلام؛ لأنه وقت ائتمامه به.
(فالجواب) : إن هذه المسألة فيها وجهان لأصحاب أحمد، وبعضهم حكى فيها روايتين. قال في الإنصاف: وإن سبق اثنان ببعض الصلاة، فائتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما، فعلى وجهين. وحكى بعضهم في الخلاف روايتين، منهم ابن تميم: أحدهما يجوز ذلك، وهو المذهب، قال المصنف والشارح وصاحب الفروع، وغيرهم لما حكوا الخلاف: هذا بناء على الاستخلاف، وتقدم جواز الاستخلاف على الصحيح من المذهب، وجزم بالجواز هنا في الوجيز والإفادات، والمنور، وغيرهم، وصححه في التصحيح والنظم.
(والوجه الثاني) : لا يجوز، قال المجد في شرحه: هذا منصوص أحمد في رواية صالح، وعنه لا يجوز هنا، وإلا جوزنا الاستخلاف، اختاره المجد في شرحه، وفرق بينهما وبين مسألة الاستخلاف من وجهين انتهى، وفيه بعض تلخيص، والذي يترجح عندنا هو الوجه الأول، سواء نويا ذلك في حال دخولهما مع الإمام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تصاف اثنان في الصلاة ثم أتى ثالث ثم ذكر أحدهما أنه كان محدثا
(المسألة التاسعة عشرة) : لو تصاف اثنان ثم أتى ثالث، ثم ذكر أحدهما أنه كان محدثا، وانصرف هل تصح صلاة الأول مع الثاني أم لا تصح صلاة الثلاثة؟
(فالجواب) : أن ظاهر كلام أصحاب أحمد أن مثل هذا تصح صلاته، لأنه حال المصافة قد جهل حدثه، وقد مضوا على أنه إذا لم يعلم حدثه في