الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وأما التأويلات الثلاثة التي ذكرها في الطريق الثالث فالكلام في إبطالها فقط إذ لفظ الحديث مع سائر الأحاديث موافقة لهذا الطريق كما جاء على صورة الرحمن وعلى صورته.
أما التأويل الأول وهو قوله: المراد من الصورة الصفة كما بيناه فيكون المعنى أن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات قادراً على استنباط الحرف والصناعات وهذه صفات شريفة مناسبة لصفات الله من بعض الوجوه فصح قوله: «إن الله خلق آدم على صورته» على هذا التأويل.
فالكلام عليه من وجوه، أحدها أنه تقدم أن لفظ الصفة سواء عني به القول الذي يوصف به الشيء، وما يدخل في ذلك من المثال العلمي الذهني، أو أريد به المعاني القائمة بالموصوف فإن لفظ الصورة لا يجوز أن يقتصر به على ذلك بل لا يكون لفظ الصورة إلا لصورة موجودة في الخارج أو لما يطابقها من العلم والقول وذلك المطابق يسمى صفة ويسمى صورة، وأما الحقيقة الخارجية فلا تسمى صفة كما أن المعاني القائمة بالموصوف لا تسمى وحدها صورة. وإذا كان كذلك فقوله:«على صورته» فلا بد أن يدل على الصورة الموجودة في الخارج القائمة بنفسها التي ليست مجرد المعاني القائمة بها من العلم والقدرة وإن كان لتلك صورة وصفة ذهنية إذ وجود هذه الصورة الذهنية مستلزم لوجود تلك وإلا كان جهلاً لا علما، فسواء عنى بالصورة الصورة الخارجية أو العلمية لا يجوز أن يراد به مجرد المعنى القائم بالذات والمثال العلمي المطابق لذلك.
الوجه الثاني أن قوله: أن آدم امتاز عن سائر الأشخاص
والأجسام بالعلم والقدرة إن أراد به امتيازه عن بنيه فليس كذلك، وان أراد به امتيازه عن الملائكة والجن فهو لم يتميز بنفس العلم والقدرة فإن الملائكة قد تعلم ما لا يعلمه آدم كما أنها تقدر على ما لا يقدر عليه، وان كان هو أيضاً علمه الله ما لم تكن الملائكة تعلمه لاسيما عند جهور الجهمية من المعتزلة والمتفلسفة ونحوهم، الذين يزعمون أن الملائكة أفضل من الأنبياء وهو أحد أقوال المؤسس (1)، وسواء كان الأنبياء أفضل أو الملائكة فلا ريب أنه لم يتميز أحدهما عن الآخر بجنس العلم والقدرة لكن بعلم خاص وقدرة خاصة.
وأيضاً فأهل السنة الذين يقولون الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة لا يقولون إنهم خلقوا على صفة الكمال التي هم بها أفضل من الملائكة، بل يقولون إن الله ينقلهم من حال إلى حال حتى يكونوا في نهايتهم أفضل من الملائكة في نهايتهم، فقد ثبت باتفاق الطوائف أن آدم لم يخلق على صفة من العلم والقدرة وامتاز بها عن سائر الأشخاص والأجسام، بل في الأشخاص والأجسام من كان امتيازه عن آدم بالعلم والقدرة أكثر.
الوجه الثالث أن يقال المشاركة في بعض الصفات واللوازم البعيدة إما أن يصح (2) قول القائل إن الله خلق ذلك الموصوف على صورة الله أو لا يصحح ذلك، فإن لم يصحح ذلك بطل قولك إن خلق آدم على هذه الصفات التي جعلتها بعض اللوازم يصحح قوله:«إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» وإن كانت تلك المشاركة تصحح هذا
(1) المؤسس هو الرازي، يراجع التعليق في حاشية ص69.
(2)
قوله يصح، كذا هو في المخطوطة، ولعله يصحح.
الإطلاق صح أن يقال إن الله خلق كل ملك من الملائكة على صورته. بل خلق كل حي على صورته، بل ما من شيء من الأشياء إلا وهو يشاركه في بعض اللوازم البعيدة ولو أنه بالقيام بالنفس وحمل الصفات، فيصح في كل جسم وجوهر أن الله خلقه على صورته على هذا التقدير.
الوجه الرابع أن لفظ الحديث: «إذا قاتل أحدكم أو ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته» فنهى عن ضرب الوجه لأن الله خلق آدم على صورته، فلو كان المراد مجرد خلقه عالماً قادراً ونحو ذلك لم يكن للوجه بذلك اختصاص بل لا بد أن يريد الصورة التي يدخل فيها الوجه.
الوجه الخامس الحديث الآخر: «لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته» فنهى عن تقبيح الوجه المشبه لوجه آدم لأن الله خلق آدم على صورته. وهذا يقتضي أنه نهى عن ذلك لتناوله لله وأنه أدخل وجه ابن آدم فيما خلقه الله على صورته.
فإن قيل هذا تصريح بأن وجه الله يشبه وجه الإنسان كما ورد «صورة الإنسان على صورة الرحمن» .
فالجواب أن هذا أيضاً لازم للمنازع ولهذا أورده وأجاب عنه فقال: فإن قيل: المشاركة في صفات الكمال تقتضي المشاركة في الإلهية.
قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المشاركة في الإلهية، قال: ولهذا المعنى قال الله تعالى: {ولله المثل الأعلى} وقال: صلى الله عليه وسلم «تخلقوا بأخلاق الله» .
ومن المعلوم أن المشابهة والمشاركة في صفات الكمال التي هي
العلم والقدرة أعظم من المشابهة والمشاركة في مجرد مسمى الوجه - إلى أن قال-: ومعلوم أن هذا الذي جاءت به السنة من ثبوت هذا الشبه من بعض الوجوه، والله هو الذي خلق آدم على صورته هو خير مما ذكره المؤسس (1) فاستشهد عليه بما ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله:«تخلقوا بأخلاق الله» ، فإن هذا من جنس ما يقوله المتفلسفة الصابئون ومن سلك مسلكهم من الإسلاميين من قولهم إن الفلسفة هي التشبه بحسب الطاقة فيثبتون أن العبد يصير شبيهاً بالله تعالى بفعل نفسه ويحتج من اتبعهم على ذلك كأبي حامد وغيره بقوله: تخلقوا بأخلاق الله وهذا اللفظ لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من كتب الحديث ولا هو معروف عن أحد من أهل العلم، بل هو من باب الموضوعات عندهم. وإن كان قد يفسر بمعنى صحيح يوافق الكتاب والسنة، فإن الشارع قد ذكر أنه يجب اتصاف العبد بمعاني أسماء الله تعالى كقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله جميل يحب الجمال» «إنه وتر يحب الوتر» «إنه طيب لا يقبل إلا طيبا» «الراحمون يرحمهم الرحمن» «إنك عفو تحب العفو فاعف عني» «إن الله نظيف يحب النظافة» (2)
لكن المقصود أن هؤلاء مع كونهم أظهر الناس تبرءاً من التشبيه يزعمون أن كمال الفلسفة عندهم أن يفعل الإنسان ما يصير به مشابهاً لله في الجملة، وقد وافقهم عليه بعض المتكلمين وإن كان كثير من المتكلمين يخالفونهم في ذلك ويقول أخبرهم كالمازري ليس لله خلق يتخلق به العبد فلأن يكون الله هو القادر على أن يخلق ما يشبهه من بعض الوجوه أولى وأحرى فيكون هذا ثابتاً بخلق الله تعالى. وأما الأخلاق والأفعال
(1) المؤسس هو أبو عبد الله الرازي تراجع حاشية في صفحة 69.
(2)
رواه الترمذي موقوفاً على سعيد بن المسيب ومرفوعاً عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وفي إسناده خالد بن إلياس. قال ابن معين والبخاري ليس بشيء. وقال أحمد والنسائي متروك وقال ابن حبان يروي الموضوعات عن الثقات وذكر منها هذا الحديث ..
المناسبة المشابهة لمعاني أسمائه التي يحبها فهي مما أمر به، وهو سبحانه له الخلق والأمر.
الوجه السادس أن يقال: المحذور الذي فروا منه لتأويل الحديث على أن الصورة بمعنى الصفة، أو الصورة المعنوية أو الروحانية ونحو ذلك يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه، وإذا كان مثل هذا لازما على التقديرين لم يجز ترك مقتضى الحديث ومفهومه، لأجله، ولم يكن أيضا محذوراً بالاتفاق، وذلك أن كون الإنسان على صورة الله التي هي صفته أو صورته المعنوية أو الروحانية فيه نوع من المشابهة. كما أنه إذا أقر الحديث كما جاء فيه نوع من المشابهة، غايته أن يقال المشابهة هنا أكثر، لكن مسمى نوع من التشبيه لازم على التقديرين، والتشبيه المنفي بالنص والإجماع والأدلة العقلية الصحيحة منتف على التقديرين.
الوجه السابع أن يقال: إذا كان مخلوقاً على صورة الله تعالى المعنوية فلا يخلو إما أن يكون ذلك مقتضيا لكون صفات العبد المعنوية من جنس صفات الله بحيث تكون حقيقتها من جنس حقيقتها أولا يقتضي ذلك بل يقتضي المشابهة فيها مع تباين الحقيقتين، فإن كان مقتضى الحديث الأول فهو تصريح بأن الله له مثل. وهذا باطل، وأيضا فإنه ممتنع في العقل فإن المتماثلين في الحقيقة يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، والمخلوق يجب أن يكون معدوماً محدثاً مفتقراً ممكناً، والخالق يجب أن يكون قديماً واجب الوجود غنياً، فيجب أن يكون الشيء الواحد واجباً ممكناً غنياً فقيرا موجوداً معدوماً، وهذا جمع بين النقيضين فثبت أن الحديث لا يجوز حمله على هذا.
وأيضاً فإنه على هذا التقدير لا يكون في حمله على الصورة الظاهرة
محذور وإن لم يكن ذلك مقتضيا لكون صفات العبد من صفات الرب بحيث تكون الحقيقة من جنس الحقيقة مع كون هذا عالما وهذا عالماً وهذا حيا وهذا حيا وهذا قادرا وهذا قادرا. هذا سميعا بصيرا وهذا سميعا بصيرا، بل هذا موجودا وهذا موجودا مع كون الحقيقتين والعلم والقدرة متشابهات، وكذلك لا يجب إذا كان لهذا وجه وصورة ولهذا وجه وصورة أن تكون الحقيقة من جنس الحقيقة مع تشابه الحقيقتين.
يوضح ذلك أنه على التقديرين لا بد أن يكون بين الذات والذات مشابهة إذا كان على الصفة المعنوية فإن كون هذا عالما قادراً وهذا عالماً قادراً وهذا موجوداً وهذا موجوداً وهذا ذاتاً وهذا ذاتا وهذا ذاتا لها صفات وهذا ذاتا لها صفات لا بد أن يثبت التشابه كما تقدم.
الوجه الثامن: أن الأدلة الشرعية والعقلية التي يثبت بها تلك الصفات يثبت بنظيرها هذه الصورة فإن وجود ذات ليس لها صفات ممتنع في العقل. وثبوت الصفات الكمالية معلوم بالشرع والعقل. كذلك ثبوت ذات لا تشبه الموجودات بوجه من الوجوه ممتنع في العقل. وثبوت المشابهة من بعض الوجوه في الأمور الكمالية معلوم بالشرع والعقل، وكما أنه لا بد لكل موجود من صفات تقوم به فلا بد لكل موجود قائم بنفسه من صورة يكون عليها ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يقوم عليها.
الوجه التاسع: أن هذا المعنى الذي ذكروه وان كان ثابتاً في نفسه ويمكن أن يكون الحديث دالاً عليه باللزوم والتضمن لكن قصر الحديث عليه باطل قطعاً كما تقدم.
الوجه العاشر: ثبوت الوجه والصورة لله قد جاء في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة المتواترة واتفق على ذلك سلف الأمة. وسيأتي إن
شاء الله طائفة من النصوص التي فيها إثبات صورة الله تعالى كقوله: «فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون» ونحو ذلك مما هو من الأحاديث التي اتفق العلماء على صحتها وثبوتها، فأما لفظ الوجه فلا يمكن استقصاء النصوص المثبتة له.
فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال له: اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم واستمع ما يجيبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال: فذهب فقال: السلام عليكم فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن» وهذا الحديث إذا حمل على صورة الله تعالى كان ظاهره أن الله طوله ستون ذراعاً، والله تعالى كما قال ابن خزيمة جل أن يوصف بالذرعان والأشبار، ومعلوم أن هذا التقدير في حق الله باطل على قول من يثبت له حداً ومقداراً من أهل الإثبات، وعلى قول نفاة ذلك، أما النفاة فظاهر. وأما المثبتة فعندهم قدر الله تعالى أعظم، وحده لا يعلمه إلا هو وكرسيه قد وسع السموات والأرض، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى وقد قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس أن الله يقبض السموات والأرض بيديه. قال ابن عباس:«ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهما وما فيهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم» (1) وإذا كان الأمر كذلك كان أكبر وأعظم من أن
(1) رواه ابن جرير في تفسيره بإسناد حسن.
يقدر هذا القدر. وهذا من المعلوم بالضرورة من العقل والدين.
قيل ليس ظاهر الحديث أن الله طوله ستون ذراعاً، ومن زعم أن هذا ظاهره أو حمله عليه فهو مفتر كذاب ملحد، فإن فساد هذا معلوم بالضرورة من العقل والدين كما تقدم. ومعلوم أيضاً عدم ظهوره من الحديث فإن الضمير في قوله طوله عائد إلى آدم الذي قيل فيه:«خلق آدم على صورته» ثم قال: «طول آدم ستون ذراعاً فلما خلقه قال له: اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة، فهذه الضمائر كلها عائدة إلى آدم، وهذا منها أيضاً. فلفظ الطول وقدره ليس داخلا في مسمى الصورة حتى يقال إذا قيل: «خلق الله آدم على صورته» وجب أن يكون على قدره وطوله، بل من المعلوم أن الشيئين المخلوقين قد يكون أحدهما على صورة الآخر مع التفاوت العظيم في جنس ذواتهما وقدر ذواتهما، وقد تظهر السموات والقمر في صورة ماء أو مرآة في غاية الصغر ويقال: هذه صورتها مع العلم بأن حقيقة السموات والأرض أعظم من ذلك بما لا نسبة لأحدهما إلى الآخر. وكذلك المصور الذي يصور صورة السموات والكواكب والشمس والقمر والجبال والبحار بصورة ذلك مع أن الذي يصوره وإن شابه ذلك فإنه أبعد شيء عن حقيقته وعن قدره، والإضافة تتنوع دلالتها بحسب المضاف إليه فلما قال في آخر الحديث:«فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً» هذا يقتضي مشابهة الجنس في القدر لأن صورة المضاف من جنس صورة المضاف إليه وحقيقتهما واحدة. وأما قوله: «خلق آدم على صورته» فإنها تقتضي نوعاً من المشابهة فقط. لا تقتضي تماثلاً لا في حقيقة ولا قدر، وأما الذين ظنوا أن الضمير في قوله:«طوله ستون ذراعاً» لما كان عائداً إلى آدم لم تكن له صورة قبل ذلك يخلق عليها وذكرنا الوجوه المتعددة الدالة على فساد
ذلك، ولهذا كان بعض المحدثين الذين يريدون أن لا يحدثوا بعض الناس بهذا المعنى يقولون خلق آدم طوله ستون ذراعاً، فإن كان هذا في بيان مقدار صورة آدم خلقه الله عليها لا يقال في مثل ذلك خلق آدم على صورة آدم.
بل قد يقال خلق على هذه الصورة على هذه الصفة فإن هذا في اللفظ ليس فيه إضافة تقتضي تقدم الصورة التي خلق عليها بل فيه تخصيص وبيان للصورة التي كان عليها بعد الخلق مع أن هذا لا يصلح أن يقال في هذا اللفظ لأن قول القائل خلق آدم على صورة آدم أو على الصورة التي كانت لآدم إذا أراد به التقدير وهو كونها ستين ذراعاً فإنه يقتضي كون المخاطبين يعرفون ذلك بأقل من هذا الخطاب فإن الخطاب المعرف باللام أو الإضافة يقتضي تقدم معرفة المخاطبين بذلك المعرف، ومعلوم أن المخاطبين لم يكونوا يعلمون طول آدم. وهذا لا يصلح أن يقال في القدر ما ذكر في صورة آدم من كونه لم يمسخ أو كونه خلق ابتداء ونحو ذلك إذ هذا معلوم بخلاف القدر، فعلم أن الحديث أخبر فيه بجملتين. أنه خلق آدم على صورته وأن طوله ستون ذراعاً ليس هذا التقدير تقدير الصورة التي خلق عليها حتى يقال هي صورة آدم.
وأما التأويل الثاني: وهو تأويل ابن خزيمة أنه إضافة خلق كما في ناقة الله وبيت الله وأرض الله وفطرة الله فالكلام عليه من وجوه، أحدها أنه لم يكن قبل خلق آدم صورة مخلوقة خلق آدم عليها، فقول القائل على صورة مخلوقة لله وليس هناك إلا صورة آدم بمنزلة قوله على صورة آدم، وقد تقدم إبطال هذا من وجوه كثيرة.
الثاني: أن إضافة المخلوق جاءت في الأعيان القائمة بنفسها كالناقة والبيت والأرض والفطرة التي هي المفطورة، فأما الصفات القائمة
بغيرها مثل العلم والقدرة والكلام والمشيئة إذا أضيفت كانت إضافة صفة إلى موصوف، وهذا هو الفرق بين البابين وإلا التبست الإضافة التي هي إضافة صفة إلى موصوف والتي هي إضافة مملوك ومخلوق إلى المالك والخالق وذلك هو ظاهر الخطاب في الموضعين لأن الأعيان القائمة بنفسها قد علم المخاطبون أنها لا تكون قائمة بذات الله فيعلمون أنها ليست إضافة صفة، وأما الصفات القائمة بغيرها فيعلمون أنه لا بد لها من موصوف تقوم به وتضاف إليه، فإذا أضيفت علم أنها أضيفت إلى الموصوف التي هي قائمة به، وإذا كان كذلك فالصورة قائمة بالشيء المصور، فصورة الله لوجه الله ويد الله وعلم الله وقدرة الله ومشيئة الله وكلام الله، ويمتنع أن تقوم بغيره.
الوجه الثالث: أن الأعيان المضافة إلى الله لا تضاف إليه لعموم كونها مخلوقة ومملوكة له إذ ذلك يوجب إضافة جميع الأعيان إلى الله تعالى لاشتراكها في الخلق والملك فلو كان قوله في ناقة صالح ناقة الله بمعنى أن الله خلقها وهي ملكه لوجب أن تضاف سائر النوق إلى الله بهذا المعنى فلا يكون حينئذ لها اختصاص بالإضافة، وكذلك قوله طهر بيتي لو كان المراد به خلقي وملكي لوجب إضافة سائر البيوت إلى الله لمشاركتها في هذا المعنى فلا بد أن يكون في العين المضافة معنى يختص بها يستحق بها الإضافة، فبيت الله هو الذي اتخذ لذكر الله تعالى وعبادته وهذه إضافة من جهة كونه معبوداً فيه فهو إضافة إلى إلهيته لا إلى عموم ربوبيته وخلقه كما في لفظ العبد فإن قوله:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]،
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان: 63]، هو إضافة إليهم (1) لأنهم عبدوه لا لعموم كونه عبّدهم بخلقه لهم فإن هذا يشركهم فيه جميع الناس وهو قد خصهم بقوله:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقوله:{يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6]، ونحو ذلك. كذلك الناقة فيها اختصاص بكون الله جعلها آية ففيها معنى الإضافة إلى إلهيته، وأما قوله:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]، وقوله:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]، ففي الإضافة تخصيص للأرض التي هي باقية على ما خلقها الله تعالى فلم يستول عليها الكفار والفجار من عباده ومنعوا باستيلائهم عليها من عبادة الله عليها، ولهذا لم تدخل أرض الحرب في هذا العموم، وقد يقال الإضافة لعموم الخلق لأن الأرض واحدة لم تتعدد الأرض كما تعددت النوق والبيوت والعبيد.
وقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، تضاف إلى الله من الوجهين من جهة أن الله خلقها فتكون إضافة إلى جهة ربوبيته. ومن جهة أنه فطرها على الإسلام الذي هو عبادة الله فيكون في الإضافة معنى الإضافة إلى إلوهيته، وإذا كان كذلك فالصورة المخلوقة هي مشاركة لجميع الصور في كون الله خلقها من جميع الوجوه فما الموجب لتخصيصها بالإضافة إلى الله.
وأيضاً فسائر الأعضاء مشاركة للصورة التي هي الوجه في كون الله خلق ذلك جميعه فينبغي أن تضاف سائر الأعضاء إلى الله بهذا الاعتبار حتى يقال: يد الله ووجه الله وقدمه ونحو ذلك لكون أن الله خلقه.
الوجه الرابع: أن قوله: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته» لو كانت الإضافة إضافة خلق وملك لوجب أن لا
(1) كذا في المخطوطة والصواب إليه.
يضرب شيء من الأعضاء لأن إضافته إلى خلق الله وملكه كإضافة الوجه سواء.
الوجه الخامس: أن هذا الوجه المضروب هو في كونه مخلوقاً مملوكاً بمنزلة الصورة المملوكة لله، فلو كان قد نهي عن ضرب هذا لكونه ذاك لكان هذا التشبيه من باب العيب لأن العلة في المشبه به مثل من يقول لأحد ابنيه إنما أكرمتك لأنك مثل ابني الآخر في معنى البنوة، أو يقول لعبده: إنما أعطيتك لأنك مثل عبدي الأخر في معنى العبودية وهما مشتركان في هذا.
الوجه السادس: أنه من المعلوم أن جميع ما يضرب من الموجودات ويشتم هو من مخلوق الله مملوك وهذا يوجب أن لا يضرب مخلوق ولا يشتم مخلوق.
الوجه السابع أن قوله: «لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فان الله خلق آدم على صورته» يدل على أن المانع هو مشابهة وجهه لصورة الله فلو أريد صورة يخلقها الله لكان كونه هو في نفسه مخلوقاً لله أبلغ من كونه مشبهاً لما خلقه الله فيكون عدولاً عن التعليل بالعلة الكاملة إلى ما يشبهها.
الوجه الثامن أنه لو قال: لا تضرب وجه هذا فإن الله خلقه على صورته كان قد يقال فإن الله خلق هذا على صورة مشرفة مكرمة. بل قال: «إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته» «ولا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته» فخلق المخلوق على صورته هو آدم وهذا من بنيه فمعلوم أن صورته كصورة آدم، فذكر ثلاثة أشياء الصورة المضروبة المشتومة المنهي عن ضربها وشتمها وهي وجوه الآدميين. وآدم الذي خلقه الله،
والصورة التي خلق عليها آدم، فلا بد من إثبات هذه الثلاثة، ولو أريد الصورة المخلوقة لم يكن إلا صورة فقط هي الصورة المضروبة المشتومة، وصورة آدم فقط فيقال خلق هؤلاء أو هذا أو الذرية على صورته.
الوجه التاسع: أن العلم بأن الله خلق آدم هو من أظهر العلوم عند العامة والخاصة فإذا لم يكن في قوله: «على صورته» معنى إلا أنها الصورة التي خلقها وهي ملكه لكان قوله: خلق آدم كافياً إذ خلق آدم وخلق آدم على صورته سواء على هذا التقدير. وإن ادعى أن في الإضافة بمعنى الخلق تخصيصاً فكذلك يكون في لفظ خلق لا فرق بين قول القائل هذا مخلوق الله وبين قوله: «إن الله هو الذي خلق آدم على الصورة التي خلقها الله، أو خلق آدم على الصورة التي خلقها الرحمن» ومثل هذا الكلام لا يضاف إلى أدنى الناس فضلا عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه العاشر أن قوله: «خلق آدم على صورته» أو «على صورة الرحمن» يقتضي انه برأه وصوره على تلك الصورة. فلو أريد الصورة المخلوقة المملوكة التي هي صورة آدم المضافة إليه تشريفاً لكان يقال صورة آدم صورة الله أو صورة الإنسان صورة الله ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على الإضافة المجردة وان كان في ذلك ما فيه، أما إذا قيل خلقه على صورته ولم يرد إلا أن صورته المخلوقة هي الصورة المضافة إلى الله لكونها مخلوقة له فهذا تناقض ظاهر لا يحتمله اللفظ.
وأما التأويل الثالث المذكور عن الغزالي من أن معنى قوله: «خلق آدم على صورته» أن الإنسان ليس بجسم ولا جسماني ولا تعلق له بهذا البدن إلا على سبيل التدبير والتصرف ونسبة ذات آدم إلى هذا البدن كنسبة الباري إلى العالم من حيث أن كلاً منهما غير حالٍ في هذا الجسم