الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر: 42]، فأخبر أنه يتوفاها وهو قبضها وأخذها واستيفاؤها وأخبر أن ذلك التوفي يكون حال الموت ويكون في المنام وأن المتوفاة في المنام منها ما تمسك وهي التي يقضى عليها بالموت في المنام ومنها ما يرسل فالإمساك لها والإرسال لها وتوفيها كل ذلك يتضمن نقيض ما يذكرونه من عدم اتصافها بجنس هذه الصفات.
الوجه الرابع والعشرون: أن من جعل نسبة الروح وهو آدم عنده إلى البدن كنسبة الباري إلى العالم لزمه أن يجعل الباري روح العالم كما قال بعضهم عن الحق تعالى أنا روح الأشياء أن تحل مني اتخذوها كدارسات الرسوم، وهذا وإن كان قد يقوله بعض الحلولية والاتحادية القائلون بأنه في كل مكان فهؤلاء المتفلسفة وأبو حامد ونحوه لا يقولون هذا بل عندهم قائل هذا من أكفر الناس وهو في ذلك مصيب موافق لجماعة المسلمين. وإن كان هذا القول هو شبيه بما ذكر عن الجهمية أولا حيث قالوا إنه في كل مكان كما تقدم ذكر ذلك عن أحمد، فإن فساد هذا القول من أظهر الأمور، وقد قدمنا من فساده ما فيه كفاية وذلك يقتضي أن يكون الرب نفسه هو الروح التي في الجن والشياطين وفي جهنم وغيرها التي في البدن وأن يكون الرب متنعما راضياً ساخطا فرحا مغتما مسروراً حزيناً بكل ما يوجد من ذلك في أجسام العالم كما أن الروح تكون كذلك بكل ما يوجد في جسدها. والاتحادية الذين يقولون هو الوجود يصفونه بذلك كله ويقولون هو موصوف بكل مدح وكل ذم وكل نعيم وكل عذاب كما قد ذكرنا افتراءهم في غير هذا الموضع، ومعلوم ما في هذا القول من الكفر والضلال والسب لله والجحود له.
فصل
وللناس تأويلات أخر وكلها باطلة مثل تأويل ابن عقيل ومن
وافقه أن المراد صورة الملك والتدبير، بل ومن الاستيلاء على جنس الحيوان حتى طائره وسابحه ما يشبه به استيلاء الرب على العالم بالتدبير والتصريف، بل وعلى سائر الأجسام الجامدة، وهذا وإن كان ابن عقيل يذكره في موضع فإنه في موضع آخر يتأوله على الصورة المخلوقة كما تقدم ذلك، فإن هؤلاء لا يثبت أحدهم على مقام، بل هم كثيرو الاضطراب، وما من شيء يقوله المؤسس (1) وأمثاله إلا وقد يقوله ابن عقيل ونحوه في بعض الأوقات والمصنفات وإن كان قد يرجع عن ذلك كما يرجع غيره، قال في:«كفايته» .
«فصل» في إضافة الصورة إليه تجوُّزاً. وأنه مصور لكل صورة، فأما ذاتا فلا يطلق عليه إلا وتحتها معنى هو عين التخطيط والأشكال، ولعله يقتضيها الحال مثل قولهم حدثني صورة أمرك، يريد به حالك، والذي ينفي حقيقة الصورة عنه هو الذي نفاه المشبه عنه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«خلق آدم على صورته» «ورأيت ربي في أحسن صورة» لا ينطبق على المثال والشكل لنص الكتاب {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فمتى جاء خبر واحد أو تواتر يثبت له صورة تعارض الكتاب والسنة وتناقض الدين - والله قد حماه عن المناقضة وحرسه عن التقابل والتعارض والاختلاف - فلا بد من الجمع بين قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم «خلق آدم على صورته» فيكون نفي المثال نافيا للصورة التي هي التخطيط والشكل، وإضافة الصورة إلى الله نفي شكل آدم إلى الله على سبيل الملك كما قال:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} ولم يرد به روح
(1) المؤسس هو أبو عبد الله الرازي، تراجع صفحة 69.
الذات، وكانت الفائدة في ذلك تشريفها بالإضافة إليه كتشريف بنية الكعبة بتسميته بيتاً له وإن كان لا يسكنه، كذلك تشريف صورة آدم بالإضافة إليه وإن كانت لا تشبهه، قال وقوله:«رأيت ربي في أحسن صورة» يحتمل أن يكون رآه في أحسن صورة، ويحتمل أن يكون في أحسن حال من الإكرام والتبجيل. قال: وإنما دعانا إلى ذلك أن إطلاق الصورة عليه سبحانه تصريح بتكذيب القرآن وكفى بذلك محوجاً إلى التأويل، وليس هذا مما يمكننا أن نقول فيه صورة لا كالصور لأنه عزاها إلى صورة محسوسة هي صورة آدم، فلو كان على صورة الله في نفسه لكان كل آدمي على صورة الله والله سبحانه وتعالى على صورته، وقد أكذب الله من قال ذلك وأطلقه عليه بقوله سبحانه:{ليس كمثله شيء} وآدم شيء فلا يكون مثلاً لله تعالى.
هذا لفظ ابن عقيل وهو مثل كلام المؤسس (1) ونحوه من الجهمية، وقد تقدم الكلام على هذا، وإنما المقصود هنا الكلام على تأويله بصورة الملك والتدبير، وزاد على هذا طائفة من الاتحادية وغيرهم فقالوا هو خليفة الله استخلفه بأن جعل فيه من أسمائه وصفاته ما ضاهى به الحضرة الإلهية، وهؤلاء طائفتان طائفة تثبت الرب وراء العالم وتجعل الإنسان خليفة الله، وطائفة أخرى لا تثبت للرب وجوداً غير العالم بل يجعلونه هو وجود العالم ويجعلون الإنسان نسخة ذلك الوجود ومختصره فهو الخليفة الجامع فيه، وهم في هذا يوافقون من يقول من الفلاسفة وغيرهم أن الإنسان هو العالم الصغير كما أن العالم هو الإنسان الكبير إذ الإنسان قد اجتمع فيه ما تفرق، وهذه المعاني لا يقصد النزاع
(1) يعني الرازي.
فيها ولكن المردود من ذلك قول أحدهم أن قوله: «خلق آدم على صورته» أي على صورة العالم فإن الإنسان على صورة العالم وهي صورة الله. إما الصورة المخلوقة المملوكة كما يقوله من يقر بالرب المتميز عن العالم، وإما أن يجعلوا نفس العالم هو صورة الله ووجوده لا حقيقة له وراء ذلك كما يزعمه الاتحادية مثل صاحب الفصوص ومتبعيه فهذه ثلاث تأويلات.
إحداها: أن يكون مدبراً مالكاً لجنسه وغير جنسه كما أن الرب مدبر للعالم فهو على صورة الملائكة.
الثانية: أن يكون على صورة العالم لأنه نسخته ومختصره. والعالم هو صورة الله المخلوقة أو المملوكة، أو هو صورته الذاتية النفسية، وقد قدمنا في تأويل من حمل ذلك على الصفة والصورة المعنوية أننا لا ننازع في ثبوت المعاني الصحيحة مثل كون الإنسان له من الأسماء والصفات والأفعال ما قد حملوا الحديث عليه وجعلوه بذلك فيه شبه لأسماء الحق وصفاته وأفعاله، ولا لنا حاجة في دلالة الحديث إما بطريق التضمن، وإما بطريق الاستلزام بحيث يقال إنه إذا ثبت أنه على الصورة الذاتية فهو على الصورة الوصفية والاسمية والفعلية أولى وأحرى، أو يقال غير ذلك، وإنما المقصود هنا إبطال كل تأويل فيه تحريف للكلم عن مواضعه وإلحاد فيه ورد لما قصد بالنص، فيرد ما كذبوا به من الحق لا ما صدقوا به من الحق فإن هذا شأن المحرفين لنصوص الصفات إذا حملوا الحديث على ما هو ثابت في نفس الأمر لم ننازع في ذلك المعنى الصحيح ولا في دلالة الحديث عليه إذا احتمل ذلك، وقد لا نكون في هذا المقام ناظرين في دلالة الحديث عليه نفياً وإثباتاً ولكن ننازعهم في تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته وهو ما أبطلوه وعطلوه وكذبوا به من
الحق. فإن خطأ النظار فيما كذبوا به ونفوه أكبر من خطئهم فيما صدقوا به وعلموه.
أما التأويل الأول وهو قولهم على صورة الملك فهو وإن كان فيه نوع شبهة من هذا الوجه فالكلام عليه من وجوه، أحدها أن قوله: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته، لو أريد أنه جعله ملكاً مطاعاً مدبراً كما أن الله ملك مطاع مدبر لم يناسب هذا الأمر باجتناب الوجه إذ لا اختصاص له. ولأن صفة الملك لا تنافي استحقاق العقوبة.
الوجه الثاني قوله: «لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجهاً أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته» ذكر خلق آدم على صورته لقوله: وجهاً أشبه وجهك، وليس في كونه ملكاً ما يقتضي ذلك كما لو قال فإن الله جعل آدم ملكاً من الملوك.
الوجه الثالث: أنه لو أريد ذلك لم يكن فرق بين الوجه وسائر الأعضاء في النهي عن الضرب والنهي عن التقبيح إذ كون آدم مخلوقاً على صفة الملك التي يتميز بها لا يخص عضواً دون عضو.
الوجه الرابع: أن كونه ملكاً لا يوجب رفع العقوبة عنه إذا أذنب إذ لو جاز ذلك لكان ملوك بني آدم ترفع عنهم عقوبة السيئات.
الوجه الخامس: أن كونه مخلوقا على صورة الملك ليس هذا عاماً في جميع بني آدم إذ منهم من يصلح للملك ومنهم من لا يصلح أن يكون إلا مملوكاً، بل منهم من هو أضل من البهائم كما قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وإذا كان كذلك مع أن النهي عن ضرب الوجه
وتقبيحه عام في جميع الآدميين وصفة الملك والسؤدد ليست عامة علم أنها ليست هي المراد بقوله: «على صورته» .
الوجه السادس: أن الملك ليس مختصا بالآدميين، بل في أصناف البهائم الرئيس المطاع والمرءوس المطيع، فما من طائفة من البهائم إلا كذلك.
الوجه السابع: أن الملك صفة من صفات الله وهو يعود إلى القدرة، أو القدرة والعلم والحكمة فيكون ذلك داخلاً في تأويل من تأوله على الصورة المعنوية وهي صفة العلم والقدرة، وقد تقدمت الوجوه المتعددة في إبطال حمله على ذلك، وتلك الوجوه كلها تبطل هذا بطريق الأولى.
الوجه الثامن: أن تسمية ملك الله صورة الله أو تسمية تدبيره وقدرته صورته مما لا يعرف في اللغة أصلاً فحمل الحديث عليه تحريف وتبديل محض.
الوجه التاسع: أن قوله: «خلق آدم على صورته» يقتضي أنه كان مخلوقاً على صورته، ومعلوم أنه لم يخلق حينئذ ملكاً وإنما الملك حادث بعد ذلك.
الوجه العاشر: أن آدم نفسه لم يكن بعد أن خلق ملكاً ولا مطاعاً وبعد أن حدثت له الذرية (1).
الوجه الحادي عشر: قوله: «إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً» إلى قوله: «فجميع من يدخل الجنة على صورة آدم» صريح في أنه أراد صورة جسمه لا قدرته وملكه.
(1) كذا في المخطوطة وفي العبارة غموض ولعله سقط منه شيء.
وأما قول القائل على: صورته التي هي العالم فإن الإنسان مختصر العالم، فلا حاجة إلى المنازعة في كون الإنسان مختصر العالم ونسخة العالم، ولا في كون هذا المعنى قد يكون من لوازم خلقه على صورة الرحمن، كما لا ينازع في كونه عالماً وقادراً وحياً ولكن هذا لا يجوز أن يكون هو مقصود الحديث لوجوه.
أحدها أن قوله: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته يقتضي أن خلقه على صورة الرحمن هو المانع من ضربه، وكونه على صورة العالم لا يمنع ضربه وقتاله فإن العالم بنفسه مشتمل على النعيم والعذاب وعلى ما ينعم ويعذب وعلى البر والفاجر.
الثاني أن قوله: «لا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته» يقتضي أن شبه الوجه بالصورة هو المانع من تقبيح من أشبه الوجه ومعلوم أن العالم نفسه ليس فيه ما يشبه وجه الآدمي مخصوصاً بمنع ذمه وهو وجه يشبه وجهه.
الثالث: أن خلقه على نسخة العالم ليس له اختصاص بالوجه بل هو شامل لروحه وسائر أعضائه كما يبين ذلك من يقوله، وحينئذ فينبغي أن يكون النهي عن الضرب لسائر أعضائه ونفسه، أو لا ينهى عن الضرب لشيء، وكلاها باطل.
الرابع: أنه على هذا التقدير كان النهي عن التقبيح يقتضي أن يكون شاملا لجميع الأعضاء والنفس.
الخامس: أن تسمية العالم صورة الله أمر باطل لا أصل له في اللغة، بل العالم مخلوق الله ومملوكه.
السادس: أن هذا الوجه يتضمن أن إضافة الصورة إليه إضافة
خلق وملك لا إضافة ذاتية، وقد تقدمت الوجوه المبطلة لهذا فهي تبطل هذا التأويل.
السابع: أن كون الإنسان مشابها للعالم ليس بأعظم من مشابهة بعض الناس لبعض كمشابهة الرجل لأبيه، ومعلوم أن مشابهة بعض الآدميين لبعض ليس مقتضياً لذم ولا مدح ولا مانعاً من العقاب، بل هو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
الثامن: أن كون الإنسان مختصرا من العالم أن فيه المحمود والمذموم كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على قدر تلك القبضة منهم الخبيث والطيب وبين ذلك والسهل والحزن وبين ذلك والأسود والأبيض وبين ذلك» وإذا كان كذلك فكونه مختصرا من العالم ومشبها له لا يوجب منع تقبيح شيء منه ولا منع ضرب شيء منه.
التاسع: أن من المعلوم أن أرواح بني آدم أشرف من أجسادهم، ثم إن هذه الأرواح التي يسمونها النفوس الناطقة تنقسم إلى محمود ومذموم كما يقول الملك للنفس المؤمنة «اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي راضية مرضية، فإذا خرجت صلى عليها كل ملك في السماء وكل ملك في الأرض وكل ملك بين السماء والأرض» ويقول للكافرة: «اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ساخطة مسخوطا عليك وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فإذا خرجت لعنها كل ملك في السماء وكل ملك في الأرض وكل ملك بين السماء والأرض» وإذا كانت الروح قد تقبح وتشتم وتلعن وتوصف بالخبث فالجسد أحق بذلك. فلو كان مشابهة أشرف ما في العالم يمنع التقبيح لوجب أن لا تقبح النفس الناطقة قط فلما
جاز تقبيحها ومنع الشارع من تقبيح الوجه لأن الله خلق آدم على صورته، ولا فرق في ذلك بين وجه البر والفاجر علم أن المانع ليس مشابهة العالم.
العاشر: أن قوله: «صورة الإنسان على صورة الرحمن» يخص الصورة كما يخص الوجه في تلك الأحاديث، وهذا يمنع أن يكون المراد جميع أعضاء الإنسان وروحه.
وأما قول طائفة من هؤلاء وغيرهم أن الآدمي خليفة الله استخلفه عن نفسه فجعله يخلفه في تدبير المملكة فهو على صورته من هذا الوجه، فهذا يدخل فيه معنى الملك ومعنى كونه نسخة العالم، لكن فيه من الباطل ما يخصه وهو زعمهم أن الإنسان خليفة عن الله تعالى، وهذا باطل، والله تعالى لا يخلفه شيء أصلاً، وإنما معنى كون آدم وداود والآدميين خلائف أنهم يخلفون غيرهم من المخلوقات لا أنهم يخلفون الخالق كما قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ (14)} [يونس: 13 - 14]، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165]، وقال تعالى في قصة نوح:{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ} [يونس: 73]، وقال تعالى:{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]، وقال تعالى في خطاب هود لقومه:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69]، وفي خطاب صالح قومه:
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} [الأعراف: 74]، وقال في خطاب موسى لقومه:{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من جهز غازياً فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا» وقال: «أو كلما نفرنا في سبيل الله خلف أحدهم» وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف: 169]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً} [فاطر: 39]، وقال تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة: 93]، وقال:{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة: 83]، ولهذا قيل للصديق: يا خليفة الله فقال: لست بخليفة الله ولكن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسبي ذاك، ولكن الله سبحانه يوصف بأنه خليفة وبأنه خلف من غيره كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:«أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الأهل اللهم اصحبنا في سفرنا هذا خيراً واخلفنا في أهلنا» ويقال في الوداع: خليفتي عليك الله، وفي التعزية التي ذكر الشافعي في مسنده أن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا صوت معز عزاهم بها، يا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في الله عزاء من كل
مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت وذلك لأن الخليفة لا يكون إلا مع مغيب المستخلف لا مع شهوده، والله شهيد على عباده لا يغيب عنه شيء، مدبر للجميع فلا يستخلف من يقوم مقامه في ذلك كما يستخلف المخلوق للمخلوق بل هو الخالق لكل شيء المدبر
لكل شيء، فالآدميون يموتون ويغيبون فيكون من يخلفهم، والله حي قيوم لا يغيب فلا يكون له من يخلفه، بل هو سبحانه يخلف من يغيب أو يموت كما يكون خليفة المؤمن في أهله إذا سافر ويكون خليفة له إذا مات، فيكفي أولئك الذين كان المؤمن يكفيهم في هدايتهم ورزقهم ونصرهم، يبين ذلك أن الإنسان إذا آتاه ملكاً أو لم يؤته إما أن يكون عند الله عاملاً بطاعته وطاعة رسله أو لا يكون، فإن كان من القسم الأول كان من عباد الله كالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقال إبليس:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [صّ: 82 - 83]، ونحو ذلك، والعبد العامل بأمر الله هو عابد لربه متوكل عليه. لم يخالف ربه في أمر من الأمور كما أن الملائكة الذين لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
ليسوا مخالفين لله في أمر من الأمور وإن كانوا عاملين بأمره عابدين له مطيعين وهم المدبرات أمراً، والمقسمات أمراً، وإن كان الإنسان غير عامل بطاعة الله ورسوله بل عاص لله ورسوله فهذا أبعد أن يكون عمله ذلك خلافة عن ربه وهو يعمل ما يبغضه الله ويكرهه وينهى عنه، فقد ظهر أنه لا وجه أن يجعل واحد من هذين خليفة عن الله لا من يعبده ويطيعه، ولا من يشرك به ويعصيه، هذا من جهة القضاء والقدر والأمر الكوني فإن الله خالق كل شيء فهو خالق كل حي من الملائكة والإنس والجن والبهائم وخالق قدرهم وإراداتهم وأفعالهم، كما أنه خالق غير الأجسام، وهو وإن كان يخلق الأشياء بعضها ببعض كما يخلق النبات بالمطر ويخلق المطر بالسحاب فليس شيء من ذلك خليفة إذ هو الخالق له ولما يخلقه به فهو رب كل شيء ومليكه ولو جاز ذلك لكان كل مخلوق خليفة عن الله، بل جميع ذلك مسخر
بأمره مصرف بمشيئته مدبر بقدرته منظم بحكمته، والله غني عن جميع ذلك، وكل ذلك فقير إليه، وليس الصغير أفقر إليه من الكبير ولا المسبب بأفقر إليه من السبب، بل الجميع فقراء إليه وهو رب الجميع ومليكه وهو سبحانه ليس كمثله شيء في شيء من تدبيره كما قال سبحانه:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 9 - 11]، يبين ذلك أن كل من خلف غيره في شيء فإنه يكون معيناً له فيما يعجز عنه المخلوف، إما لعدم لعلمه به وإما لعدم قدرته، فالخالف شريك المخلوف وكفؤ له كالأمير
الذي يستخلف في الأمصار خلفاء عنه فهم كلهم فاعلون ما لا يقدر هو وحده أن يفعله وهم مشاركون له مكافئون له وهو وهم متعاونون على جملة التدبير. وكل منهم ينتفع بما يعاونه الآخر عليه، والله تعالى ليس كذلك، بل الغني مطلقاً بنفسه عن الخلق وهو الخالق لكل شيء. ثم إن من رحمته أنه يأمر العبيد بما يصلحهم وينهاهم عما يفسدهم وهو الذي يعينهم على فعل المأمور وترك المحظور ولا يقدرون على فعل ذلك إلا بإعانته بل بخلق ذلك كله قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (23)} [سبأ: 22 - 23]، وقال تعالى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، وإنما يتخيل أنه خليفة عن الله ونائب عنه بمنزلة ما يعهد عن الخلفاء والنواب عن المخلوقين منهم من يكون جباراً منازعاً لله في كبريائه وعظمته كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته» فيكون مختالاً يتخيل في نفسه أنه عظيم كبير وأن أمره ونهيه وفعله بالنسبة إلى الله تعالى من جنس أمر الخليفة النائب عن غيره ومن جنس نهيه وفعله، وهذا شرك وكذب وضلال وكبرياء واختيال، وذلك أن الخليفة عن غيره يأمر وينهى ويفعل أموراً لم يدر بها المستخلف ولم يقدر عليها ولا يكون أمر بها ونهى، بل يكون أمر هذا من جنس أمر الأول كالوكيل مع موكله وكالوصي مع الموصي، وهؤلاء بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ولهذا جاءت الشريعة بذلك فجعل الفقهاء الشركة في التصرف مبنية
على الوكالة وأن الشريك يتصرف لنفسه بحكم الملك ولشريكه بحكم الوكالة والنيابة، وأما الوصي فهو أبلغ من هذا لأنه يتصرف بعد انقطاع أمر الموصي بالموت ولهذا يكون له من الاستقلال ما ليس للوكيل والشريك حتى تنازع الفقهاء في جواز توصيته فأجاز ذلك من منع توكيل الوكيل، وحتى أجازوا له من التصرفات ما لا يجوز للوكيل، وهكذا خلفاء ولاة الأمور مثل خليفة الإمام الكبير ذي الإمامة الكبرى وخليفة الحاكم وخليفة إمام الصلاة وغير ذلك، كل من هؤلاء يفعل من جنس ما يفعله مستخلفه، وكل هذا في حق الله ممتنع، واعتقاد ذلك في حق أحد هو من أعظم الشرك ومن باب اتخاذ البشر أرباباً قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وقال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 79 - 80].
يبين ذلك أن أعظم الخلق منزلة عند الله هم رسله، والرسل إنما
هم مبلغون أمره ونهيه لا يأمرون إلا بما أمر.
ولهذا كان رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وطاعتهم طاعة لله كما قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، لأنهم تلقوا أمر الله إلى عباده، فالمطيع لهم مطيع لأمر الله لأنه فاعل ما أمره الله به، وأين الرسول المبلغ أمر غيره من النائب له الخليفة عنه الذي يتصرف كما يتصرف المستخلف، بينهم فرقان عظيم، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري:«إني والله لا أعطي أحداً ولا أمنع أحداً وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت» فأما من يتصرف في عباد الله بمشيئته وهواه فيعطي من أحب ويمنع من أحب ويوالي من أحب بغير الله ولا إذنه فهذا عدو لله جبار مختال من جنس فرعون الذي علا في الأرض واتخذ أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين، فهل يكون هؤلاء نواباً عن الله أو خلفاء عنه وهم أعداؤه وعصاته كإبليس، وإن كان الله هو الخالق لكل شيء فليس كل ما خلقه الله من الأعيان والأفعال يكون محباً له راضياً به وإن كان بمشيئته فإنه سبحانه خالق إبليس وذويه وهو يبغضهم ويعاقبهم، ومن قال عن نفسه أو غيره إني نائب الله أو خليفة عن الله ولم يكن آمراً بما أمر الله به على لسان رسله فقد كذب على الله واستكبر في الأرض بغير الحق كما يذكر ذلك عن طائفة من الملوك الجاهلين الظالمين بل المنافقين المشركين، وإن كان إنما أمر بما أمر الله به فهو مصيب في إيجاب طاعته إذا أمر بما أمر الله به ومصيب في مخالفة من عصى الله وإكرام من أطاعه.
وقوله: نائب. إن كان بمعنى المبلغ والرسول والمنفذ فصحيح، وإن كان بمعنى أني أنوب عنه ما لا يفعله هو ولا يقدر عليه فهو كذب، وهذا قد يقوله القدري الذي يظن أنه مستقل بفعله وأن الله لم يخلق
فعله، وهو مبطل في ذلك، نعم لو قال نائب رسول الله أو خليفة رسول الله لكان هذا صحيحاً، ولهذا لما قالوا للصديق: يا خليفة الله قال: لست بخليفة الله ولكن خليفة رسول الله وحسبي ذلك. فلا يطلق على أحد أنه نائب عن الله ولا خليفة عنه أصلاً، بخلاف الرسول فإنه قد روي في وصف خلفاء الرسل أنهم الذين يحيون سنتهم ويعلمونها الناس، ولهذا تجب طاعتهم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني» وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما أمر الله به فالمطيع له مطيع لله، وكذلك أميره الذي يستخلفه على بعض أمته كأمراء السرايا الذي أوجب طاعته إنما أوجبها إذا كان يأمر بما أمر الرسول به كما قال صلى الله عليه وسلم:«إنما الطاعة في المعروف» وكما قال: «لا طاعة في معصية الله» فقوله: «من أطاع أميري» قد بين أن معناه طاعة الطاعة وهو ما كان من الأفعال التي يأمر الله ورسوله بها فيكون هذا الأمر منفذاً لذلك الأمر كما كان عمر بن عبد العزيز يقول: أيها الناس. لا كتاب بعد كتابكم ولا نبي بعد نبيكم، كتابكم آخر الكتب ونبيكم آخر الأنبياء وإنما أنا متبع ولست بمبتدع وإنما أنا منفذ ولست بقاض، فقد بيّن أن هذه الدعاوي في الخلافة عن الله ونحو ذلك إنما هي من دعاوي المتكبرين الجبارين المشركين الذين يريدون العلو في الأرض كفرعون وهؤلاء الاتحادية الموافقين لفرعون المدعين أنهم مضاهون لله تعالى وأنه يحتاج إلى عباده كما يحتاج عباده إليه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
يبين هذا أن إيتاء الله للعبد الملك والسلطان والمال لا يقتضي أن ذلك إكرام منه له ومحبة، بل هو ابتلاء منه وفتنة له وامتحان. قال
تعالى: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 16]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس: 13 - 14]، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، فبين أنه جعلهم خلائف ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما يرفع درجة ذي الملك والسلطان ليبلوهم فيما آتاهم، وإذا كان كذلك فمن كان منهم عاملاً بطاعة الله غير عامل بمعصيته كان من أولياء الله وعباده الصالحين، ومن كان منهم عاملاً بمعصية الله مريداً للعلو في الأرض والفساد متخيلاً متكبراً جباراً كان من أعداء الله وممن سخط الله عليه ولعنه، قال بعض السلف أظنه مجاهداً في قوله تعالى:{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130]، قال: هو السوط والسب والغضب في غير طاعة الله (1)،
فمن كان يضرب ويقتل لغير طاعة الله ورسله فإنما هو جبار من الجبارين فإن لم يتب وإلا جاءه بأس الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً، فكيف يستجيز المسلم أن يقول في مثل هذا إنه خليفة عن الله ونائب عنه. وهذا يقتضي أن فرعون والنمرود ونحوهما كانوا خلفاء عن الله نواباً عنه.
ثم إن هؤلاء يجعلون هذا المعنى ثابتاً لكل إنسان أنه خليفة
(1) ذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: البطش العسف قتلاً بالسيف وضرباً بالسوط، وعن مجاهد أيضاً هو ضرب بالسياط، وروى ابن جرير عن ابن جريج قال القتل بالسيف والسياط ..
عن الله لأنه من الجنس المسلطين على غيرهم من أجناس الحيوان وعلى أنواع من التدبير، ولا يفرقون بين من أطاع الله ومن عصاه، بل يجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويجعلون المتقين كالفجار، وهذا كله من الإشراك والجمع لما فرق الله بينه، ولهذا شرع الاتحادية كل شرك في العالم.
ونظير هذا الإشراك الذي يجعل فيه العباد خلفاء عن الله ونواباً عنه تشبيهاً لذلك بالخلافة والنيابة عن الملوك ما يوجد في كثير من الناس من تشبيههم لمسألة الله ودعائه وعبادته بمسألة الملوك، وما يوجد في كثير من الناس أن أحدهم يقول إذا أردت أن تأتي السلطان وتسأله فابدأ بالوسائط التي بينك وبينه كالحجاب والنواب والأعوان فإن قصدك السلطان من الباب قلة معرفة وقلة تعظيم وإكرام وذلك لا يصلح لك فيأمرونه بالتواضع والإشراك بالمخلوقين، وهذا من الأسباب التي بها عبدت الكواكب والملائكة والأنبياء والصالحون وقبورهم، وهذا كله من أعظم الشرك والضلال والقياس الفاسد، فإن الله بكل شيء عليم وهو سميع بصير بكل شيء ليس بمنزلة الملك الذي لا يعلم إلا ما أنهي إليه ولا يسمع ولا يبصر أكثر أمور رعيته.
وأيضاً فإن الله على كل شيء قدير ولا يحتاج أن يستعين بالأعوان على إجابة الداعي كما يحتاج الملك.
وأيضاً فإن الله قريب إلى عباده كما قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وهو رحيم بعباده رءوف بهم مع أنه هو الجبار المتكبر المتعالي بالحق ليس كالملوك الجبارين المتكبرين بالباطل على بني جنسهم ومن هو مثلهم حتى لا يسمعوا كلامه ولا يرحموه وحتى يردوا الضعيف والفقير، فهذا الإشراك في ربوبية الله وإلهيته
والاستكبار والاختيال الموجود في العباد كله مناف لدين الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وكلا النوعين يتضمن من تعظيم الخلق وجعلهم أنداداً لله ومن التفريط في جنب الله وتضييع حقوقه لما هو من أعظم الجهل والظلم.
وأصل هذه المقالات توجد في مقالات المشركين ومن دخل في الشرك من الصابئين وأهل الكتاب وهو في الغالية من هذه الأمة كغالية الرافضة وغالية المتصوفة ونحو هؤلاء، وأما الدقيق منه فهو كثير كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، لاسيما شرك العمل والحال وإن لم يكن العبد مشركاً في مقاله وما يفترون بذلك من الخيلاء والكبر.
وأما قول من يقول إن العالم نفسه هو وجود الله وأن الإنسان هو مظهر ذات الله الأكمل ففيما تقدم كفاية في بطلان قول من حمل الحديث على مجرد كون الإنسان مخلوقاً على صورة الله التي هي العالم وبطلان كونه خليفة عن الله.
وأما ما يختص به هؤلاء من الرد عليهم وبيان كفرهم وضلالهم فهو مذكور في غير هذا الموضع، بل على أصلهم يمتنع أن يكون آدم مخلوقاً على صورة الله، إذ على أصلهم ليس في الوجود شيئان أحدهما خالق والآخر مخلوق، بل الخالق هو المخلوق عندهم.
وأيضاً فإنه قال: «لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته» فنهى عن تقبيح الوجه لكون آدم مخلوقاً على صورة الله، وعندهم أن وجود كل موجود هو عين وجود الرب وكل تقبيح ولعن وشتم وذم في العالم فهو واقع على الرب عندهم كما يقع عليه كل مدح ودعاء، وهو عندهم الداعي والمدعو له والمصلي والمصلى له واللاعن والملعون والشاتم
والمشتوم والقاتل والمقتول والناكح والمنكوح فلا يتصور عندهم أن يختص شيء بعينه بالنهي عن التقبيح لكونه على صورة الله إذ ليس في الوجود مقبح وغير مقبح إلا ما هو من صورة الله عندهم.
وكذلك قوله: «لا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته» جعل مجرد المشابهة لوجه الله مانعاً، وعندهم أن كل ضرب في العالم وقتل واقع على نفس الرب وهو الضارب لنفسه بنفسه وأن العالم كله هو صورة الله الذاتية لا يعنون بها الصورة المخلوقة المملوكة، بل عين وجود العالم هو عين وجود الحق.
ثم إن صاحب الفصوص وهو مع كونه إمامهم فهو أبعدهم عن محض الإلحاد لما يوجد في كلامه من لبس الحق بالباطل، يفرق بين الوجود والثبوت فيقول إن الأشياء ثابتة بأعيانها في القدم ونفس الوجود الفائض عليها هو وجود الحق فيوافق من يقول إن المعدوم شيء في الخارج لكن يجعل وجود الكائنات عين وجود الحق لا يجعل وجوداً متميزاً عن المخلوقين ولهذا يضطرب فيجعله هو هو من وجه وهو غيره من وجه لأن الفرق بين الوجود والثبوت فرق باطل، فجاء بعده من أتباعه مثل القونوي ونحوه من لم يسلك هذا المسلك بل فرق بين الوجود المطلق والمعين فجعل الحق الوجود المطلق الساري في الموجودات، وأما المعين فهو الخلق، ومن المعلوم أنه ليس في الخارج وجود مطلق سوى الموجود المعين، فهو أراد أن يفرق بين الحق والخلق فلم يفرق في الحقيقة، بل اضطرب كما اضطرب أستاذه، فجاء بعد هذا من أصحابه وغير أصحابه كابن سبعين وخادمهم التلمساني فكملوا فساد الفرق بين الرب والعبد فصرحوا بأنه هو الموجودات وليس ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، وحقيقة قولهم: هو قول فرعون الجاحد لرب العالمين كما